شعار الموقع

التربية وإشكالية التنمية والتحديث

د. حسن علوض 2009-11-25
عدد القراءات « 1070 »


في الخطاب السوسيولوجي العربي المعاصر

مقاربة تحليلية أولية لبعض الأعمال الفكرية والتربوية
للباحث الاجتماعي: مصطفى محسن*

**

* تقديم

يعيش المجتمع المغربي حاليًّا حركة وعي فكري عميق، في اتجاه ضبط وتوضيح معالم مشروع مجتمع حداثي ديموقراطي. هذا الاختيار التحديثي أصبح ضرورة حتمية قصد التخلص من رواسب ثقافة الانحطاط، وتطوير عقليات التنوير، وضرورة الانخراط في العصر وزمن العولمة بنظامها العالمي الجديد، وكذلك ثقافتها الكونية الجديدة، شريطة أن تكون هذه الحداثة مبدعة تشتق مقولاتها من شرطها التاريخي، وتعيد صياغة الأفكار الكونية وفقاً لخصوصياتها الذاتية. لكن يبقى للحداثة دلالات ومفاهيم متعددة رغم ما يداهمها من الالتباسات اللغوية والزمنية والفكرية والمعرفية، فمحمد سبيلا يعرِّفها على أنها «نظرة جديدة متجددة للعالم وللكون والأشياء، وهي من ثم ثورة معرفية وإبستمولوجية قوية على كل الإبستيمات وتصورات العالم السابقة عليها»[1]. في حين ينظر إليها ألان تورين بوصفها تغييراً صرفاً ومتتاليًّا للأحداث. أما رولان بارت فيعتبر الحداثة «عبارة عن تجميع الرؤى العالمية المستمدة من تطور الفئات، والتكنولوجيا، وأساليب الاتصال الجديدة التي كانت تؤلِّف مجتمعة قوَّةَ الدفع في منتصف القرن التاسع عشر»[2]. لذلك فإن المجتمعات التي اختارت التحديث والتجديد مطالبة ببلورة دينامية للتغيير تعيد النظر في القيم والمواقف والسلوكات القائمة برؤى معقلنة، أي عقلنة الفكر وعقلنة الاقتصاد والإدارة... لتحقيق ما يسمى بالتنمية التي هي في الوقت الراهن مطمح البلدان الثالثية حكومات وشعوباً لتجاوز تخلَّفها والاستفادة من العلم والتكنولوجيا لتحقيق ارتفاع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة. لكن هل ثمة فرق بين الحداثة والتحديث؟ كلا المفهومين مكمل للآخر.

فالحداثة مفهوم نوعي شمولي يشير إلى ما هو مشترك، أي إلى الخصائص والقيم والمبادئ والأسس المشتركة الشاملة بين كافة المستويات، أي إعطاء الأولوية للمعرفة والعقل والعلم والتقنية... في حين يشير مصطلح التحديث إلى الوجه العلمي الممارسي السيروري والصيروري للحداثة[3]. لقد ارتبطت الحداثة في مفهومها الفكري، بالحرية ضمن مجتمع حداثي ديموقراطي يضمن للأفراد حقوقاً ويفرض عليهم واجبات، حيث تضطلع النخب داخل المجتمع بدور كبير في قيادة التغيير، وخاصة النخب المثقفة والنخب السياسية، أي الفكر والسلطة، فالمجتمع يُقاد ويُقتاد عبر نخبه. إن النخب ببلادنا تعيش حاليًّا مخاض التحول الانتقالي من نظام تقليدي عتيق، إلى نظام عصري تحديثي. فالحداثة أصبحت شرطاً لازماً للانخراط في سياق العصر، ثقافة ومعرفة وبنيات ومؤسسات وهياكل سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية حديثة، هذا المنظور النقدي نلمسه جليًّا في الإسهامات الفكرية للباحث والمفكر المغربي مصطفى محسن، والتي فتحت أبواباً للتأمل والمطارحة المعرفية والنقدية لمواصلة التفكير والتساؤل حول قضايا وإشكالات عامة، أهمها المسألة التربوية التي أصبحت عندنا مشكلة المشاكل ومثاراً لجدل فكري وسياسي واجتماعي، الأمر الذي يجعل منها أحد المكونات المركزية لـ«المسألة الاجتماعية» في شروط المجتمع المغربي والعربي المعاصر: مسألة العدالة والديموقراطية، وحقوق الإنسان، وترشيد الحكم، وعقلنة توزيع السلطة والثروة والمعرفة، وتحقيق مهام الانتقال والتحول إلى مجتمع التقدم والتنمية والحداثة المتفاعلة مع سياقها الكوني الجديد، ومع مرجعيتها الخاصة الذاتية وطنيًّا وقوميًّا. فإلى أي حدٍّ ساهم المشروع الفكري العام للباحث مصطفى محسن -من خلال دراساته السوسيولوجية والتربوية والفكرية القيمة- في مطارحة قضية «التربية والثقافة» في علاقتها مع إشكالية التنمية والديموقراطية والتحديث؟ علماً بأن هناك جدلية بين كل هذه المكونات في بناء المشروع المجتمعي الحضاري المنشود.

- 1-
لا تربية دون تنمية ولا تنمية دون حداثة

إن المؤسسات الاجتماعية المختلفة تلعب أدواراً محددة لكل منها في خلق ورفد العملية المجتمعية الواعية الموجهة لأحداث التنمية بمؤشراتها ومعاييرها المادية والمعنوية. وتحظى مؤسسات التربية من بين تلك المؤسسات بدور متميز في إحداث التنمية، وضمان استمراريتها. علماً بأن التربية ذاتها تُعدّ مؤشراً من مؤشرات التنمية لكونها إحدى الحاجات الأساسية التي تحققها التنمية. لقد ظلت التربية جزءاً من استراتيجية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، وبالتالي الدفع بالمجتمع نحو التحديث والديموقراطية. إن للتربية علاقة تفاعل مع التنمية، فكما أن التربية إذا أُحسن استخدامها وتوجيهها تساهم بفعالية في تتحقق التنمية واستمراريتها. ولذا «فإن تطوير التربية وتمكينها من أداء دورها المأمول يتحقق بيسر بقدر ما يتوافر للمجتمع من تحقيق متوازن للتنمية في جوانبها المختلفة. فالوعي السياسي، والتنظيم السياسي المناسب يسهم في توجيه التربية ومراقبة تطويرها. والنمو الاقتصادي، فوق توفيره للأموال اللازمة للعمل التربوي، يفرض أيضاً متطلباته بتوجيه التربية وتحديد نوعية مخرجاتها. والتطور الاجتماعي في العلاقات ونظام القيم يمكن التربية من أن تحارب على جبهات واضحة في التوجيه والتنشئة المرغوب فيها بدلاً من التنازع بين ما يعلم ويمارس في المجتمع، ووضوح المرجعية والتوجه الثقافي وإيجابية الإعلام، تعزز دور التربية في تحقيق أهدافها التنموية»[4]. أما د. مصطفى محسن فتبقى التربية في نظره -بمفهومها العام- مرجعية للحداثة بحكم ارتباطها عضويًّا ببنية المجتمع الذي تنتمي إليه، غير أن المقارنة الشمولية لأبعاد ومدلولات شبكة العلاقات بين التربية والتنمية والحداثة والديموقراطية تُعَدُّ «مطلباً معرفيًّا واجتماعيًّا، لأن ذلك حسب الباحث يستلزم -بحكم تشعب وتنوع وتداخل مكونات ومضامين وتجليات الإشكال المطروح- تعدد وتكامل مختلف أنماط الرؤى، والمنظومات، والنظريات، وزوايا التخصص، ونماذج التحليل، والمرجعيات الفكرية والممارسية والمنهجية المعتمدة والموجهة لمختلف آنات النظر والبحث»[5].

لقد ناقش د. مصطفى محسن المشهد التربوي والوضع الديموقراطي ببلادنا من خلال العلاقة المتأزمة بينهما، وذلك بطرح سؤال جوهري ومحوري مزدوج وهو: إلى أي حدٍّ تعكس نظم التربية والتكوين في مجتمعنا المغربي بشكل عام، توجهات إيجابية على مسار تحقيق الديموقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وضمان التكافؤ المتوازن للفرص والحظوظ التربوية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية...؟ وإلى أي حدٍّ تعكس مقومات وشروط النظام المجتمعي المعنيّ القائم تكريساً لديموقراطية التربية وتوزيع الثقافة والمعرفة وكافة أشكال الرأسمال المادي والرمزي في المجتمع...؟[6]

إن التربية، في علاقتها مع بناء المشروع الديموقراطي، لا يجب أن يقتصر دورها في دمقرطة الإفادة من خدمات التربية والتعليم والتكوين أو تأهيل رأس المال البشري، وإنما ينبغي أن تعد «السند المحوري لتشييد المشروع الديموقراطي، بل وحتى الاجتماعي برمته. إنها ليست  فقط آلية من ضمن الآليات التي يشتغل بها النظام الاجتماعي القائم، يحقق بها غاياته وأغراضه ويقيم بفضلها بعض الترتيبات والتوازنات التي تستلزمها بعض المصالح والشرطيات الاجتماعية المتغيرة ضمن مستجدات وظرفيات الزمان والمكان. بل هي لبُّ ذلك المشروع المجتمعي ونواته[7].

إن الديموقراطية ثقافة قيم داعمة لتأصيل حقوق الإنسان والتسامح وتقبل الآخر المتعدد والمختلف بنوع من الانفتاح، ضمن سيرورة ذاتية وكونية، ولعل أنسب طريقة لتأسيس «ثقافة الديموقراطية» هي التربية، لكن حسب د. مصطفى محسن «ليست فقط كما تمارس داخل المؤسسات التربوية النظامية أو غير النظامية المختصة، وإنما كما يفترض أن تمارس -في مضمونها الاجتماعي الشمولي- في إطار مختلف مؤسسات المجتمع، بدءاً من الأسرة إلى مضمونها الاجتماعي الشمولي، في إطار مختلف مؤسسات المجتمع، بدءاً من الأسرة إلى المدرسة ثم الجمعية، والنادي، والحزب، والنقابة، والمؤسسة الإنتاجية... إلخ، بل في إطار مختلف العلاقات والتبادلات، والممارسات الاجتماعية، المادية منها والرمزية»[8]. ويبقى الهدف هو خلق الإنسان/ المواطن الواضح المعالم الذي نسعى إلى بنائه... وذلك في الوقت الذي أصبح فيه «العنصر البشري هو أساس كل مسار تنموي، وأصبح نظام التربية والتعليم والتكوين، استتباعاً، وعلى اعتبار أنه أنجع ميدان لاستثمار الرأسمال البشري، دعامة مفصلية للتنمية البشرية الشاملة وكفالتها»[9]. إن المجتمعات المتقدمة، وفي إطار استثمار وتنمية الموارد البشرية، اعتمدت في تلك على قيم العقلانية والتنظيم والديموقراطية، عكس مجتمعاتنا المختلفة التي أصبحت معالمها تتميز بسيادة الرداءة و«نمو التخلف» كواقع معاش. وذلك لأسباب من بينها: التصور الانتقاصي لدور المدرسة في تكوين رأس المال البشري، «وتبخيس قيم العلم والتعليم والمعرفة والثقافة والفن، وكل أشكال الابتكار والإبداع... إلخ، واستبدالها بقيم مناقضة، منحطة في مجملها، وتؤكد تصدّر قيم المال والوجاهة الاجتماعية وامتداداتها وما يترتب على كل ذلك من تدعيم لقيم ومسلكيات تحيل إلى أشكال متخلفة من التفكير والفعل مثل: المحسوبية، والرشوة، والوصولية، والزبونية، وتثمين علاقات القرابة والولاءات المختلفة، والاتجار المبتذل بالعديد من المبادئ والقيم الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية النبيلة»[10].

- 2-
المسألة التربوية وخطاب التنمية والتحديث

يعتبر الأستاذ مصطفى محسن أزمة النظام التربوي ببلادنا عموماً -مغربيًّا وعربيًّا- هي «أزمة انطلاقة، وأزمة اشتغال سيرورة، وأزمة مال»[11]. إنها جزأ من كل، من وضع اجتماعي وسياسي وثقافي عام. إن أزمة النظام التربوي في المغرب والعالم العربي وفي العالم الثالث بشكل عام، هي أزمة شمولية متعددة العناصر والأبعاد. وهي أيضاً، على مستوى علاقتها بالبناء الاجتماعي المتنفد، جزء من وضع اجتماعي مأزوم أعم وأشمل... «إنها أزمة بنيات وهياكل، وتوجهات تنموية، واختيارات سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية شمولية ناظمة للكل المجتمعي بتعدد مجالاته وقطاعاته الإنتاجية والاجتماعية العامة»[12]. انطلاقاً من هذه الرؤية النقدية البعيدة عن المنظور التقنوي والاختزالي الضيق، حاول الأستاذ مصطفى محسن عبر كتاباته الفكرية القيِّمة، طرح العديد من الملاحظات والتساؤلات حول أبرز مشاريع وخطابات التحديث التربوي في الفكر المغربي الحديث والمعاصر، والتي «راهنت على وضع مجتمعنا على المسار السليم والمطابق، مسار الانتقال التحولي الرشيد إلى الزمن الحداثي، زمن الديموقراطية العقلانية... المأمولة، ثم زمن «العولمة» بـ«نظامها العالمي الجديد»، وكذلك «ثقافتها الكونية الجديدة»[13]. فركَّز خاصة على المسألة التربوية التي احتلت حيِّزاً كبيراً في معظم كتاباته بحكم أنها أحد المكونات المركزية لـ«المسألة الاجتماعية»، فناقشها من خلال رصد الكيفية التي بها من طرف الخطاب الرسمي في المغرب ما بعد سنة 1956 وحتى الآن، ليطرح سؤالا جوهريًّا: ما هي أهم السمات والخصائص والمضامين الفكرية والاجتماعية/ الإيديولوجية المميزة للخطاب التربوي التنموي التحديثي السائد في المغرب حاليًّا؟ للإجابة عن هذا السؤال قام الأستاذ بمحاولة لتفكيك بنية هذا الخطاب التربوي إلى مركباتها الأساسية، في ظل وضع عرف فيه قطاع التعليم إخفاقات متتالية منذ الاستقلال إلى الآن إلى ظهور مشاكل متعددة: كارتفاع الهدر، وانفصال التعليم عن المحيط، وضعف وتيرة تعميم التمدرس، وبطالة الخريجين... إلخ. كما أصبح الخطاب التربوي يتمحور حول إشكاليتين مركزيتين هما التراث والتنمية، وكيف تتقاطع المسألة التعليمية مع هذا الإشكال المزدوج: (الأصالة والمعاصرة)، وفي هذا الصدد يشير د. مصطفى محسن إلى «أن المنظور التحديثي - التنموي... لا يلبت أن ينزلق إلى إنتاج تصور مضطرب، حين يطرح إلى جانب البعد الثحديثي - التنموي للتربية بعدها التراثي أيضاً، فيسقط، بذلك، في الثنائية المعروفة «الأصالة والمعاصرة» كما تجلَّت في صورتها المأزومة في الوعي العربي الحديث والمعاصر»[14]. إن مسألة الأصالة والمعاصرة ترتبط، في بعدها العرفي، بإشكالية الخصوصية والكونية. هنا يرى الباحث أن التناول العقلاني لهذه الإشكالية -وسواء تعلَّق الأمر بالتنمية الاجتماعية الشمولية أو تنمية وتحديث القطاع التعليمي- يجب أن يتأسس على المنظور التالي: «إن الخصوصية بقدر ما تعني -في دلالالتها الواقعية- تميُّز مجتمع ما بسمات وخصائص نوعية هي أسُّ هويته الذاتية، فهي لا تعني أن ذلك المجتمع يتمتع بفرادة مطلقة وكأنه لا يحتل أي مكان كوني في التاريخ. أما الكونية، فهي في الوقت الذي تؤكد فيه وجود قواسم مشتركة ثقافية وحضارية وقيمية... تربط بين المجتمعات البشرية كلها، فهي تلغي وجود الاختلاف والتمايز»[15]. إن الخطاب التنموي في بلادنا العربية وهو يلحُّ على ثنائية الذات والآخر، ويؤكد ضرورة الاهتمام بالمسألة الاجتماعية في المجال التعليمي (دمقرطة التعليم والثقافة)، يظل يشكو من خلل منهجي: حيث لا نعثر في هذا الخطاب على أي تحديد أو تعيين للمعايير التي يجب الإجماع عليها لتحقيق تعليم يلائم ويجمع ما بين «الأصالة والمعاصرة». وهكذا يبقى الحديث عن التراث والحداثة وديموقراطية التربية والثقافية حديثاً متَّسماً بالكثير من التعميم دون تحديد إجرائي للمفاهيم المستعملة (حسب الباحث) وبالتالي يفقد هذا الخطاب دلالته السوسيولوجية[16].

إن التحليل السوسيولوجي لنظامنا التربوي حاليًّا يبرز أن مختلف التجارب التي حاولت إصلاحه وتحديثه لم تعطِ الجديد، إذ ما زال هذا النظام متَّسماً بتواجد أنماط تعليمية متباينة (عصري، معرَّب، تعليم البعثات...)، ولا تزال الثقافة المدرسية، في المغرب وجُلِّ المجتمعات العربية ثقافة متفككة هجينة متمزقة بين مرجعيتين: تحديثية وتراثية، تفتقر إلى فلسفة تربوية متماسكة، إلى جانب عدم تطابق نظام التعليم والتكوين مع متطلبات المحيط وسوق الشغل. إن النظام التعليمي في بلادنا العربية يمكن أن يكون أساساً ناجعاً لتنمية الفرد والمجتمع، لكن شريطة حدوث توافق بين مضامين التربية والتعليم والتكوين والحقل الثقافي والاجتماعي العام، وهذا ما لا نلمسه على أرض الواقع حيث القطيعة بين الثقافة المدرسية والواقع السوسيو-اقتصادي، لأن هذه الثقافة -حسب الأستاذ مصطفى محسن- تظل بعيدة عن أن تساهم في بناء «الإنسان» أو «المواطن» إذ إنها كثيراً ما تعمل على إنتاج أمشاج وخلائط متناقضة من أنماط التصور والتفكير والفعل، تعبِّر في مدلولها السوسيولوجي والسيكولوجي والتربوي عن نمط وعي شقي»[17].

إن نظامنا التربوي يعرف تباعداً بين النظرية والتطبيق، حيث إن كثيراً من النظريات والمفاهيم والنماذيج التحليلية المفيدة -حسب الأستاذ مصطفى محسن- والتي قد تساهم في تحديث وعقلنة الممارسة التربوية لا يتم الاستئناس بها بشكل عقلاني ممنهج إلى الآخر: (مشروع المؤسسة، والشراكة، نموذج التدريس الهادف...). إن الثقافة المدرسية لم ترقَ إلى المستوى الذي يجعل منها ثقافة حداثية معممة وشاملة. لقد أدركت الجهات الوصية على قطاع التربية والتعليم فبلادنا -متأخرة- وجوب انفتاح المؤسسة التربوية (المدرسة، الجامعة، وكل مؤسسات التعليم والتكوين) على محيطها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي العام. وفي هذا المجال يسجل د. مصطفى محسن ملاحظة مهمة وهي: «أن الخطاب التربوي الانفتاحي الآنف غالباً ما يقدم المؤسسة التربوية كما لو كانت هي المدانة، علما بأنَّ لا المدرسة ولا الجامعة ولا المحيط الاقتصادي والسوسيو-ثقافي تمتلك شروط ومقومات الانفتاح بعضها على بعض، بسبب هيمنة ما يدعوه الباحث بـ«مضادات الحداثة» عندنا فكراً وثقافةً وممارسةً. والتراجع عن أهداف ومقتضيات المبادئ الأربعة لمذهبية التعليم، والتي كان ينتظر منها تحقيق «مشروع المدرسة الوطنية»[18]. إن المغرب كغيره من مجتمعات العالم الثالث يعرف مجموعة من التحولات الهيكلية التي طالت مجالات اجتماعية متعددة، من بينها مجال التربية والتكوين. وهي تغيُّرات مسَّت، في إطار هذا الحقل الاجتماعي العام، منظومة العلاقات والقيم والتبادلات والأدوار والمواقع وأجيال وأنماط الفاعلين الاجتماعيين. ومختلف الهيئات والأطر والمؤسسات والمجالات الاجتماعية... لكن هذه التحولات -مع الأسف- لم تفضِ لا إلى تنمية شمولية ولا إلى حداثة حقيقية ناظمة للفكر والممارسة، بقدر ما أفضت إلى إفراز بيانات وممارسات ومؤسسات وعلاقات وتبادلات مادية ورمزية غريبة مشوهة (على مستوى الأسرة، والمدرسة، وقطاع الاقتصاد، وبنية الدولة، والمؤسسة الحزبية، والتمثيل النيابي، والسلوك السياسي، والسوق الانتخابية، والعمل النقابي... إلخ).

ويتجلى ذلك في كون هذه المكونات، في الوقت الذي تتمظهر فيه بقيم ومواصفات التنمية والديموقراطية والحداثة، في الوقت الذي يشتغل فيه مضمونها بآليات لا عقلانية ما تزال تكرس، في زمن العولمة، العديد من قيم ومسلكيات العلاقات القرابية والزبونية والقبلية...[19]

-3-
رؤى تحديث الحقل التربوي

لقد دعا الأستاذ مصطفى محسن في معظم كتاباته ومطارحاته الفكرية، إلى ضرورة التفكير جديًّا وبطريقة شمولية في مسألة التحديث، ولاسيما في الحقل التربوي، من خلال ضرورة بلورة رؤية منهجية وفكرية للتحديث، تمتلك مفهوماً شموليًّا ونسقيًّا للظاهرة. وقد أبرز الباحث عناصر هذه الرؤية فيما يلي:

* يجب تحديث المؤسسة التربوية عن طريق تحديث وتجديد وتحسين مضامين التربية والتعليم والتكوين، وهو تحد معرفي وحضاري أمام التحولات الهائلة في وسائل المعرفة، كانتشار الوسائط الإعلامية المختلفة (الحاسوب، التلفزيون - الإنترنت...) أو ما يسمى بثقافة الصورة، وبالتالي كل مستجدات ومتغيرات ما أصبح يسمى بـ«مجتمع المعرفة».

* تحديث وعقلنة وترشيد اشتغال المؤسسة التربوية من شروط وآليات وعقليات وقيم...

إضافة إلى استعمال التقنيات الحديثة في التسيير والتنظيم، وتحويلها، بالمعنى السوسيولوجي، إلى ثقافة مجتمعية ومهنية للممارسة.

* إن تحديث المؤسسة التربوية، حسب الباحث، لا يتم إلا في إطار مشروع تحديثي شمولي متكامل، يستحضر اعتماد استراتيجية متكاملة الأهداف والمكونات لتحديث وتطوير كافة المجالات والقطاعات الاجتماعية، وتأسيس وعي حداثي ينتقل بمكونات مجتمعنا من «مظاهر أو خطاب أو شعارات... الحداثة» إلى ثقافة مؤصلة للحداثة قائمة على نموذج إرشادي (براديغم) موجَّه للفكر والعمل، ولتجديد العقليات داخل المجتمع. ولتحقيق هذا المشروع لا بد من بلورة فلسفة اجتماعية شاملة تقوم عليها سياسة تربوية تكوينية، فلسفة تتمحور على تحديد رؤية واضحة للإنسان/ المواطن/ الفرد الذي نريد تكوينه، وفق ثقافة أو معرفة مؤسسية معينة مستندة في مرجعيتها على فلسفة تربوية واجتماعية حداثية مواكبة للعصر...

ثقافة تجعل من هذا «المواطن» مؤهلاً للتفاعل الإيجابي مع ثقافة لحظته الحضارية، وللتبادل المنتج مع المستجدات المعرفية والقيمية لانعطافات التغير والتحول على صعد ومستويات متعددة ومتباينة[20].

* إذا كانت كل عملية التحديث تستهدف الإنسان، فإن ذلك يمر عبر قنوات تفرضها حاجيات وتحديات هذا الإنسان، كقناة التربية والتكوين، التي يفترض أن تتوافر فيها شروط بوصفها مقاييس أو معايير لوضع ولتقييم تخطيط تربوي واجتماعي فعال، يصنع إنساناً حواريًّا ذا وعي مكثف ومطابق. إن كل تخطيط تربوي، بل واجتماعي عام، يطمح إلى أن يكون عقلانيًّا يجب عليه أولاً وقبل كل شيء تحديد أولوياته وأسبقياته التي تفرضها حاجيات وتحديات موضوعية. «وإن التخطيط الهادف هو الذي يضع أمامه كفلسفة موجهة، وكهدف أسمى بناء الإنسان بكل أبعاده المادية والمعنوية»[21]. هذه العملية كما يراها الباحث هي، مسؤولية الجميع، تشترك فيها كل الأطراف والجهات المسؤولة والمعنية، بل والمجتمع برمته.

* للمراهنة على الارتقاء بتعليم وتكوين الطاقات النسائية في مجتمعاتنا، عربيًّا وثالثيًّا، «عن طريق مجابهة ما تعانيه المرأة في بلداننا من قهر وفقر وإقصاء وغياب شبه تام للفرص المتكافئة في مختلف المجالات، كما هو الأمر بالنسبة للحقل التربوي، وذلك، بهدف تغيير النظرة السلبية المتكلسة إلى الطاقات النسائية، ورفض عَدِّها ركاماً بشريًّا منفعلاً لا يتمتع سوى بخاصيات بضاعية واستهلاكية، وبمكانة دونية أو ثانوية في تراتبية العلاقات والمهام والمواقع والأدوار... في المجتمع، وتجاوز ذلك إلى عَدِّ هذه الطاقات رأس مالٍ بشريٍّ عالي القيمة، وأن الاستثمار في رأس المال هذا، بلا تمييز بين الجنسين، قد أصبح، ضمن قيم السوق -بمعناها الأوسع- وفي إطار الثقافة السياسية الكونية الجديدة، منظوراً إليه على أنه أرفع وأثمن أنماط الاستثمار»[22].

-4-
«الميثاق الوطني للتربية والتكوين»:
وثيقة الإصلاح الإرشادي

يَعُدُّ الأستاذ مصطفى محسن، في جُلِّ كتاباته، «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» مرجعية فكرية واجتماعية أساسية وإطاراً إرشاديًّا للنهوض بمنظومتنا التربوية. ذلك أن هذا الإصلاح قد جاء في ظل تأزم نظامنا التربوي وتوعكه، وخاصة مع تفاقم مشكل البطالة بين خريجي هذا النظام، بسبب عدم تطابقه مع متطلبات المحيط وسوق الشغل. وللتذكير، فقد انخرط المغرب، منذ القرن الماضي، في تدابير إصلاحية منها مخطط التقويم الهيكلي (مرحلة مستهل الثمانينات)، التي كان لها تأثير سلبي في قطاعات متعددة منها قطاع التشغيل المرتبط أساساً بالتربية والتكوين. علماً بأن المغرب كبقية المجتمعات العربية ودول العالم الثالث، يعاني من هشاشة النظام التعليمي بسبب غياب رؤية تربوية وحضارية واضحة موجهة للخطاب الإصلاحي التعليمي، ولخطاب التنمية بصفة عامة، وعدم عقلانية التشخيص العلمي لأزمة نظام التعليم. وبالتالي ظلت العديد من التشخيصات مقصورة على الجانب التقني (البنيات والتجهيزات التحتية...). وتم التغاضي عن أن الأزمة هي بنية شمولية وليست وليدة لحظة معينة، ولكنها مرتبطة بفترة ما قبل استقلال المغرب (أزمة مركبة ومعقدة). وبالتالي نحن أمام ضرورة اجتماعية وهي الإصلاح الذي أثمر ميلاد «الميثاق الوطني للتربية والتكوين». هذه الوثيقة يَعُدُّها الأستاذ مصطفى محسن «أرضية توافقية بين مختلف الفرقاء والأطراف المعنية، منطلقاً لوضع الدعائم الفكرية والتربوية والاجتماعية الأساسية، القمينة بتطوير وتجديد وإصلاح وتحديث نظام التربية والتكوين بالمغرب، وجعله في مستوى مهام المرحلة وأسئلتها ورهاناتها وتحدياتها الكبرى»[23]. كما أنه دعا إلى بلورة رؤى للتعامل مع هذه الوثيقة المهمة والاستفادة منها، رغم أنها ليست تامة وشاملة، بل هي وثيقة ظلت فيها بعض القضايا معلقة، تركت لمسألة الأجرأة: كقضية التعريب وقضية الأمازيغية، وقضية المجانية، وقضية التكوين المهني إضافة إلى بعض المشاكل ذات الطابع التنظيمي العام، ويتعلق الأمر هنا بالإدارات الوصية على التعليم، وعلى قطاع التكوين المهني، والتكوين بشكل عام، والبحث العلمي، وبعض القضايا التدبيرية الأخرى المتعلقة بسياسة اللامركزية والجهوية التي ما تزال محتاجة إلى الكثير من التدقيق والتوضيح، والتي لم يقع الفصل فيها وفي آفاق التعامل معها بشكل واضح ودقيق[24]. ورغم ذلك يبقى الميثاق أهم وثيقة توافقية ورجعية حول التربية والتكوين بالمعرفة منذ حصوله على الاستقلال، بحكم أنها أصبحت لها سلطة متبناة من طرف جميع الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين»... مع العلم بأن كل توافق من هذا النوع يظل -بحكم طبيعته هذه- موسوماً بالنسبية، وبخضوعه لأهداف إقامة بعض التصالحات أو التوازنات بين عدة أطراف وقوى وأفكار ومواقف غالباً ما تكون متباينة، أو حتى متناقضة أحياناً»[25].

لقد اقترح الأستاذ مصطفى محسن مقترحات عديدة للتعامل مع وثيقة الإصلاح هذه من بينها نذكر على سبيل المثال:

* لا يجب اعتبار الإصلاح عملية تامة، وكاملة تتم دفعة واحدة، بل هو مشروع سيرورة ومواصلة لا تنتهي، وذلك حسب طبيعة المستجدات الاجتماعية (لأن المجتمع ليس ساكناً بل متفاعلاً مع محيطه).

* كما أن أجرأة الميثاق ليست بالعملية السهلة، بل هي عملية تتصارع فيها مجموعة من الرؤى والأفكار والمصالح والتوجيهات، وموازين القوى السياسية والاجتماعية وغيرها.

* يجب التعامل مع الميثاق باعتماد المقاربة التشاركية القائمة على إدماج جميع الفرقاء داخل المجتمع.

* تهيئة الشروط والإمكانات المادية والمعنوية الضرورية الداعمة لإنجاح الإصلاح، وخاصة في العالم القروي (إصلاح موازٍ للبنيات والهياكل والأوضاع القروية...).

* يجب التمييز بين الميثاق، بوصفه مرجعية فكرية وحضارية، والسياسة التعليمية، أي الجوانب العملية والبرنامجية... الكفيلة بتطبيقها.

* الربط بين إصلاح ميدان التربية والتعليم والإصلاح الاجتماعي العام (اقتصاديًّا، سياسيًّا واجتماعيًّا، وتربويًّا...)[26].

-5-
التربية ورهانات الحاضر والمستقبل

إن ما يميز اللحظة العالمية، هو هيمنة العولمة بوصفها واقعة تاريخية وسيرورة في اتجاه أن تصير نظاماً قارًّا متكاملاً، أي نسقاً شموليًّا يحاول تنميط العالم، وبالتالي يهدد الدولة الوطنية، ونهاية المدرسة الوطنية... في هذا المناخ الكوني المعولم المبشِّر بوعود وقيم ومآلات جديدة، أصبح التساؤل مطروحاً حول مسار ومصير الكثير من القطاعات والمجالات والمؤسسات، التي من أهمها المؤسسة التربوية بمفهومها العام. وهكذا فبالنسبة للمسألة التربوية في خطاب النهايات يطرح الأستاذ مصطفى محسن في إحدى دراساته سؤالاً جوهريًّا: ما هو مستقبل التربية في مناخ هذا العصر المعولم؟ إن ما يميز اللحظات التاريخية المعاصرة حسب مفكرنا القدير، هو تكسير الحدود بين الدول بسبب العولمة الاقتصادية لآليات وقيم وثقافة السوق الكونية، وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، وتأثيرها في اقتصاديات الدول (ظاهرة الخوصصة). ثقافة السوق الكونية الجديدة هذه انعكس تأثيرها في مجال التربية، معتبرة هذه الأخيرة حقلاً مقاولاتيًّا ينظر إلى القوى البشرية لا في أبعادها ومقوماتها الإنسانية والقيمة والفكرية الوطنية أو الكونية، وإنما بوصفها موارد اقتصادية، أو موارد خام يمكن تشكيلها وتبضيعها وتسويقها وفق الطلب. إن الانفجار المعرفي والإعلامي، الذي يعرفه العالم حاليًّا، جعل مهام التربية تتركز على تأهيل الإنسان للاندماج في هذا المجتمع التكنولوجي، حيث إن الصراع مستقبلاً لن يكون صراعاً ماديًّا، بل صراعاً حول امتلاك المعرفة والتقانة الجديدة التي هي السبيل نحو السلطة والهيمنة. هذه الثورة المعرفية خلقت هوة معرفة وتقنية بين المجتمعات العالمية؛ ولأجل تحقيق ذلك يؤكد الأستاذ مصطفى محسن ضرورة خلق نمط من التربية يتلاءم مع التحولات الكونية. وذلك بإنهاء مفهوم التربية التقليدية، والتفكير في منظومة تربوية جديدة منفتحة تسمح للفرد والمجتمع معاً بالاندماج داخل النسق العالي العام، وتحقيق المواطنة المنشودة، الواعية والمتفاعلة مع شروط وجودها المحلية والكونية الجديدة[27]. إن معظم الأبحاث والدراسات التي قاربت المؤسسة التربوية وأوضاع التربية والتكوين في بلادنا العربية أو البلدان الثالثية، تتفق على أن هذه المؤسسة أصبحت متوعكة ومتخلفة، حيث أمست الآن أمام مجموعة من التحديات والرهانات، التي يجب كسبها في ظل العولمة، ليطرح السؤال التالي: ما هو نمط التربية والتكوين الذي يجب التفكير في تأسيسه؟ ولتحقيق هذا الهدف وإنجاحه، هناك مجموعة من التوجهات والتدابير يجب الوقوف عندها والتفكير فيها بجدية، وهي:

* التفكير في مرجعية فلسفية وفكرية لتطوير تعليمنا، وخاصة في رؤيتها للإنسان المستهدف من هذه العملية، أنريده منتوجاً للسوق المحلية، أم نريده مواطناً مؤهلاً للاندماج في السياق الكوني؟ أم ذا هوية يتناغم فيها الخصوصي والكوني في آن...؟

* المراجعة النقدية الشاملة والجريئة لنظمنا التربوية خاصة المضامين: (المناهج، القيم، السلوكات...).

* إعادة تأهيل المؤسسة التربوية على أسس جديدة منسجمة مع ثقافة العصر، وذلك عن طريق:

* التدبير الجيد للمؤسسات التربوية إداريًّا وبشريًّا وماليًّا وبيداغوجيًّا... إلخ.

* ترشيد وعقلنة ودمقرطة المناخ التربوي والاجتماعي لهذه المؤسسات، والتي أصبحت تعرف تصحُّراً فكريًّا وتواصليًّا أو ما يسمى بواقع اللامأسسة: (غياب منظومة قيمية تربوية ومهنية وموجهة...).

* تحديث آليات الاشتغال بالاعتماد على وسائل متطورة كالانفتاح على التكنولوجيا المعاصرة: (كومبيوتر، إنترنت...).

* ضرورة انفتاح المؤسسة التربوية على محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العام، أيضاً على تأهيل هذا المحيط لاستقبال مخرجات ميدان التربية والتكوين وإدماجها بشكل فاعل منتج...

* تقويم وتقدير آثار العولمة بطريقة عقلانية والتمييز فيها بين السلبي والإيجابي: (تجاوز عَدّها شرًّا مطلقاً أو فردوساً موعوداً) كما يقول الباحث.

* الوعي بأن الانخراط في العولمة قد أصبح ضروريًّا وحتميًّا ولم يعد اختياراً. ولكن كيف؟ وبأي طريقة سننخرط؟ أي ضرورة التفكير في تدبير عقلاني لهذا الانخراط.

* الوعي بأن التربية والتعليم والتكوين هي أساس هذا الانخراط في زمن العولمة. وذلك بوصفها مجالاً لتأهيل الإنسان، الدعامة المحورية لهذا الرهان.

* النظر إلى حديث النهايات بطريقة عقلانية وممنهجة، خاصة في مجال التربية: (لم تنتهِ التربية وإنما طرحت العولمة تحديات وإكراهات وآفاقاً جديدة للتفكير في ضرورة تحديث وإصلاح وتطوير أنظمة التربية والتعليم والتكوين، مواكبة لمستجدات ومتغيرات اللحظة الحضارية الراهنة).

* إعطاء المثقف دوراً مهمًّا في زمن العولمة، وتحديداً المثقف العضوي الحامل للمشروع، والمدافع عن قضايا فكرية وسياسية وطنية أو قومية أو إنسانية حداثية منفتحة...[28]

* خلاصة تقيمية عامة

من خلال هذه المساهمة الفكرية حول «التربية وإشكالية التنمية والتحديث لدى المفكر المغربي الكبير الأستاذ مصطفى محسن، لم أكن أقصد سوى فتح حوار علمي هادف حول فكر هذا الباحث السوسيولوجي، الذي أغنانا بتساؤلاته وطروحاته وملاحظاته التي قدمها -عبر أعماله الفكرية والتربوية القيِّمة- حول الخطابات المرتبطة بإشكاليات التحديث التربوي في المغرب والوطن العربي. حيث رأى التربية السند المحوري لتشييد المشروع الديموقراطي الحداثي التنموي والاجتماعي، والأداة الأنسب لتأسيس «ثقافة الديموقراطية» في مضمونها الاجتماعي الشمولي، فأكد جدلية التربية والديموقراطية في بناء المشروع المجتمعي باتجاه تحقيق التنمية والحداثة. إن المغرب كباقي الدول العربية والثالثية يعيش وضعاً متوعِّكاً على صعيد قطاع التربية والتكوين، وذلك بسبب فضل المخططات التربوية والاجتماعية التي ساهمت في نمو التخلف، وبالتالي أصبح خطاب التنمية والتحديث المرتبط بالمسألة التربوية يهتم أكثر بعلاقة التربية والتعليم والتكوين بالتنمية، وقطاعات الاقتصاد والاجتماع. لقد دعا الأستاذ مصطفى محسن من خلال إسهاماته الفكرية، إلى الاهتمام بالمسألة التربوية لارتباطها الوثيق بالمسألة الاجتماعية وذلك بالتأكيد على ضرورة تأسيس «مدرسة وطنية»، تستجيب لحاجيات المجتمع المغربي والعربي المعاصر، حيث إن هذا المطلب كان في صلب المبادئ الأساسية الأربعة التي قام عليها التعليم بالمغرب بعد الاستقلال، ضمن رؤية واضحة لـ«الإنسان/ المواطن/ الفرد» الذي نراهن على تكوينه وإعداده عبر أقنية التربية والتعليم والتكوين والتنشئة المعتمدة. وذلك بتهيئة الشروط المادية والمؤسساتية قصد تأسيس «وعي حداثي» ينقل مكونات مجتمعنا من مرحلة خطابات وشعارات الحداثة إلى «ثقافة مؤهلة للحداثة». إن تحقيق هذه الشروط هو رهين ببلورة فلسفة اجتماعية شاملة تقوم عليها سياسة تربوية تكوينية. وكل هذا في إطار مشروع حضاري متشبث بالهوية العقدية والسوسيو-حضارية الإسلامية العربية، ومتفاعل مع الوضع الكوني الجديد (العولمة)، من خلال التكيف الإيجابي مع مناخه الفكري والاقتصادي والسياسي و>ثقافته الكونية الجديدة».

وإذا كان هناك إقرار بالقيمة التنموية والحضارية لنظم التربية والتعليم والتكوين، بوصفها دعامة مفصلية للتنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية المتكاملة، فإن الالتفاف حول التفكير في حل مشاكل التعليم وتحديثه ببلادنا يتطلب تضافر جهود الفعاليات المجتمعية، لأن المجتمع معنيّ بالمسألة التعليمية، ومدعو، وفق موقع تخصصه وتأثيره، للمساهمة في تركيز التأمل في هذا المجال، بغرض الخروج برؤى وتصورات ناجعة تكون كفيلة بتوجيه التعليم نحو مجالات التنمية والتقدم. إن فكر الأستاذ مصطفى محسن يدخل ضمن الرؤى الملتزمة التي راهنت على الدور المحوري لقطاع التربية والتعليم والتكوين، والمنخرطة في قضاياه بكل صدق وجدية، ضمن التحفيز على الانخراط الواعي في مناقشة مجموعة من الأسئلة المعرفية والسوسيولوجية حول إشكال التحديث التربوي بالمجتمع المغربي والعربي المعاصر، وذلك من خلال طرحها ومناقشتها، بأسلوب عقلاني واعٍ محتضن للتعدد واحترام الاختلاف الفكري والعقدي والسوسيو-حضاري بجميع أبعاده ومدلولاته... وبمنظور نقدي تعدد الأبعاد، يعتمد على نقذ الذات، ونقد الآخر، ونقد اللحظة التاريخية التي تتفاعل فيها الذات مع الآخر معرفيًّا واجتماعيًّا.

في ختام هذه المساهمة الفكرية أحب أن أسوق هذه المقاربة/ الرؤية الجميلة لدور المثقف الجماعي الملتزم، والتي تنطبق جليًّا على شخصية مفكرنا الكبير الأستاذ مصطفى محسن، وهي لأحد كبار علماء الاجتماع في القرن العشرين «بيير بورديو» حيث يقول: «توجد في ذهنية أغلبية المثقفين، خاصة في مجال العلم الاجتماعي، ثنائية تبدو لي خطيرة جدًّا: ثنائية بين من يتفرغون للعمل العلمي المبنى وفق مناهج علمية لجلب الفائدة لعلماء آخرين، ومن يلتزمون ويحملون معرفته إلى الخارج. إن التعارض هنا مصطنع، لأنه في الواقع ينبغي أن يكون العالم عالماً مستقلاً حسب قواعد العمل الأكاديمي حتى يتمكن من إنتاج معرفة ملتزمة، بمعنى المزاوجة بين العمل الأكاديمي والعمل الملتزم. وحتى يكون العالم عالماً ملتزماً بالفعل وبصفة مشروعة، يتعيَّن عليه أن يدفع بمعرفته نحو دائرة الالتزام، وهي معرفة لا تكتسب إلا عبر عمل خاضع لقواعد الجماعة العالمة»[29].

ولعمري، فلقد كان الهم الشاغل لمفكرنا مصطفى محسن ورهانه الأكبر هو أن يُكامل في شخصه -فكراً ووممارسةً مهنيةً واجتماعيةً- بين اهتمامات العالم الملتزم بقواعد وشروط وقيم وأعراف وتقاليد وأخلاقيات الممارسة العلمية الجادة المسؤولة، من جهة، والمثقف المواطن الحامل «لقضية» والمربي والباحث المناضل، المهموم، من جهة أخرى، بقضايا وأوضاع الوطن والأمة، محاولاً مقاربتها وفهمها والتوعية بها، مدافعاً عبر ذلك كله، عن مشروع بناء «مجتمع جديد»، وتأسيس «ثقافة جديدة مؤصّلة» مكرّسة لقيم المواطنة الحق، وللخير والجمال والحق واحترام حقوق الإنسان، وللتسامح والحوار والتبادل وتقبُّل التعدد والاختلاف والتنوع... ولمجتمع الجدارة والاستحقاقية والتقدم... ولكل ما من شأنه أن يساهم في تأهيل مجتمعنا -وطنيًّا وقوميًّا- للانخراط، بكفاءة وفعالية، في كل استحقاقات وتحديات ورهانات التنمية والديموقراطية والحداثة[30].

 

 

 



[1]* د. مصطفى محسن، أستاذ باحث في علم اجتماع التربية والثقافة والشغل والتنمية البشرية/ مركز التوجيه والتخطيط التربوي/ الرباط/ المغرب.

** د.حسن عوض: مستشار في التوجيه التربوي بالمغرب/ مهتم بالبحث في قضايا التربية والتكوين.

 د. محمد سبيلا: دفاعاً عن العقل والحداثة (حوار)، منشورات الزمن، كتاب الجيب العدد 39، 2003، ص: 42.

[2] محمد مكسي: تحديث التفتيش التربوي (مقاول)، مجلة عالم التربية، العدد 13، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 247.

 

[3] د. محمد سبيلا: مرجع سابق، ص 59.

 

[4] د. عبد العزيز جلال: تربية اليسر وتخلف التربية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 91، يوليوز 1985، ص 15-16.

 

[5] د. مصطفى محسن: التربية والديموقراطية وتحديات التنمية والتحديث في الوطن العربي، (مقال)، مجلة عالم التربية، العدد 13، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 58.

 

[6] المرجع السابق: ص 58.

 

[7] المرجع السابق: ص 59.

 

[8] المرجع السابق: ص 60.

 

[9] د. مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري، رؤية سوسيولوجية نقدية، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص22.

 

[10] المرجع السابق: ص 47

 

[11] المرجع السابق: ص 20.

 

[12] المرجع السابق: ص 23-24.

 

[13] د. مصطفى محسن: أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب (الأصول والامتداد)، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص 9.

 

[14] د. مصطفى محسن: في مسألة التربوية نحو منظور سوسيولوجي منفتح، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الثانية، 2002، ص 60.

 

[15] المرجع السابق ص 61-62.

 

[16] أسئلة التحديث، مرجع سابق، ص 82.

 

[17] الخطاب الإصلاحي التربوي، مرجع سابق، ص 28.

 

[18] د. حسن علوض: نحو مقاربة سوسيو-تارخية نقدية لخطاب التحديث التربوي بالمغرب، (قراءة لكتاب د. مصطفى محسن، أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب)، مجلة الكلمة، بيروت، العدد 36، السنة التاسعة، 2002، ص 15.

 

[19] د. مصطفى محسن: تحولات المجال السياسي الوطني بين الإصلاح والتجديد وإعادة البناء، ج الأول (مقال)، أسبوعية الأيام، العدد 111، 4/ 9/ 2003.

 

[20] أسئلة التحديث، مرجع سابق، ص 111.

 

[21] المسألة التربوية، مرجع سابق، ص 65.

 

[22] د. مصطفى محسن: قضية المرأة وتحديات التعليم والتنمية البشرية، منشورات رمسيس الرباط، سلسلة المعرفة للجميع، رقم 15، أغسطس 2000، ص 35-36.

 

[23] د. مصطفى محسن: التربية وتحولات عصر العولمة، (مداخل للنقد والاستشراق)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 91.

 

[24] المرجع السابق، ص 117.

 

[25] المرجع السابق، ص 108.

 

[26] حسن علوض: الأسس الإصلاحية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، تقرير حول محاضرة للأستاذ مصطفى محسن بنادي الكتاب بالمركز التربوي الجهوي بالرباط (2004)، مجلة الحياة المدرسية، عدد مزدوج الثالث والرابع، نوفمبر وديسمبر 2004.

 

[27] حسن علوض: التربية وتحديات التنمية في زمن العولمة، تقرير حول محاضرة للأستاذ مصطفى محسن، بالمركز التربوي الجهوي بالرشيدية (9/ 1/ 2004)، أسبوعية اليسار الموحد، العدد 40، (19-25) مارس 2004.

 

[28] المرجع السابق.

 

[29] محمد شكري سلام: من أجل معرفة ملتزمة، مقال بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 7846، 4 فبراير 2005.

 

[30] مصطفى محسن: نحن والتنوير: عن الفلسفة والمؤسسة ورهانات التنمية والتحديث وتكوين الإنسان في أفق الألفية الثالثة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2006.