يُذكرنا الدرس الفلسفي للحوارات السقراطية السفسطائية والأكاديمية الأفلاطونية ومدرسة المشائية الأرسطية وعبارات «المعلم الأول» و«المعلم الثاني» وغيرها من العبارات ذات الدلالة التعليمية، يذكرنا هذا الدرس أن الفلسفة فكرٌ قابل للتعليم والتعلم، وأن الرابطة «معلم / تلميذ» هي رابطة جوهرية في سيرورة الخطاب الفلسفي وهذا يعكس خصوصية الفلسفة في محبة الحكمة وامتلاكها، وهو ما يعني أن الحكيم لا يظهر إلا في صورة المعلم ولا تظهر حكمته إلا في قدرته على التوجيه المعرفي لوعي التلميذ، وهذا ما يبرزه بوضوح نموذج أرسطو وتلميذه الإسكندر المقدوني، غير أن التباعد الجغرافي والزمني بين الحكيم الفيلسوف والتلميذ المتلقي يفرض وجود طريقة أخرى لنقل التجربة الفلسفية هي طريق الكتابة من خلال جهازها اللغوي المنتِج وهو «النص».
إن مقاربة ديداكتيك النص الفلسفي، من خلال علاقة النص الفلسفي بالعملية التعليمية التعلّمية للفلسفة وجعل التفلسف أو تعلم الفلسفة هدفين مستحيلين ديداكتيكيًّا خارج مجال الاشتغال على النص، هو في الحقيقة رهان له متطلباته وفرضياته وأطره الحجاجية والفلسفية التي تجعل من النص مفتاحاً لتجديد الخطاب الفلسفي والعلوم الإنسانية بعامة.
غير أن لهذا الرهان أيضاً مطبّاته وأوهامه، ولحظات عجز وعتمة والتباس، وهنا يجب التساؤل عن خصوصيات الخطاب الفلسفي التي تجعله غير قابل للمرور بكليته عبر جهاز النص ومحتفظاً لنفسه بعتبات لغوية لا تقال بشكل كامل في مراحل القراءة، وهو ما يعني وجود عتبات للتعلم بعضها يشكل عوائق ديداكتيكية مستعصية.
فما هي خصوصيات النص الفلسفي الجوهرية؟ وهل يعني تعلم الفلسفة حصول جدارة التفلسف؟
إن بعض هذه الخصوصيات نابع من طبيعة النص في عموميته، إذ وعلى الرغم من أنه يمكننا تقديم منهجية لمقاربة النص الفلسفي، إلا أن النص يُعرض في كليته المخصوصة بوصفه مقاماً للحقيقة يظهر ويبرز من خلال عتبة لغوية غير قابلة للاستنساخ عبر قواعد التعبير وأشكال الأسلوب وضروب السياقات والنماذج الدلالية. ولهذا نقول مع رولان بارت: «إن النص جمْعٌ، وهذا لا يعني فقط أن النص يحتوي على عدد من المعاني، ولكنه يعني أنه يُنجز جمع المعنى نفسه، إنه جمعٌ لا يُختزل (وليس فقط جمعاً مقبولاً). والنص ليس مشاركة وجودية للمعاني ولكنه ممر وانتقال. وإذا كان هو كذلك، فإنه لا يستطيع إذن أن يصدر عن تأويل واحد وإن كان ليبراليًّا، ولكنه يصدر عن انفجار وانتثار. وهذا ما يجعل أي علم يقوم على الاستنباط والاستدلال النصوصي وَهماً، ليس ثمة «قواعد» للنص»[2]، يعني أنه لا توجد خطة معلنة في مشروع كتابة النص ولا يمكن استعادتها في لحظة القراءة.
وعندما يُجعَل من أسلوب الاستدلال خصوصية كليانية للنص الفلسفي، فإن ذلك يجعل من النص الفلسفي مجرد طريق للبرهنة والإقناع ينتهي عندما يحصل التأثير والاستيعاب والفهم، وبذلك يرهن الحقيقة في إثبات المعنى وحصول الاقتناع، وقد تكون الحقيقة أبعد من ذلك أو هي في سير التفلسف نفسه، «فالفيلسوف لا يبرهن ليقنع الآخرين فقط، بل ليمارس عليهم فضائل الإقناع، وبهدف الاهتداء إلى التحليل والانخراط في مسار الحقيقة كذلك»[3]، وهذا يجعل من الخطاب الفلسفي يمتلك وضعاً بلاغيًّا يزاوج بين التأثير الأسلوبي والاستدلالي والتأثير الذاتي الذي يختبئ في عاطفة تشكل روح النص المستعصية على الفهم المباشر وجوهره المغلف باللعبة البلاغية للغة، ولذلك «لا يكون نصٌّ نصًّا إنْ لم يُخفِ على النظرة الأولى، وعلى القادم الأول، قانون تأليفه وقاعدة لعبه، ثمّ إن نصًّا ليظل يُمعن في الخفاء أبداً، وليس يعني هذا أن قاعدته وقانونه يحتميان في السر المطوي، بل إنهما، وببساطة لا يسلمان أبداً نفسيهما في الحاضر لأي شيء مما يمكن دعوته بكامل الدقة إدراكاً»[4]، ومنه فإن خصوصية النص الفلسفي تكمن بالأساس في لعبة الاختفاء والتواري خلف الظهور النصوصي نفسه، إذ لا يكون بذلك النص مِبرازاً ومِظهاراً لعالمه بقدر ما هو قناع للتمثيل الدلالي لسرّ النص ولباس للتخفي والتواري.
فإذا كان طابع النص الفلسفي وخصوصيته يكمنان في لعبة الاختفاء والظهور، فإن قراءة نموذجية، تعتمد على مسار الإنشاء الفلسفي ولحظتيْ القراءة والكتابة، هي قراءة تقفز فوق طبيعة النص الفلسفي وعتباته المعتمة والظاهرة، ولعل أهم هذه العتبات هي العتبة الشفهية كمرحلة للنقاش والتداول وحركة للأسئلة والأجوبة ولعبة للحذف والإضافة وبناء المقاصد والتمهيد للحظة قذف النص وتفجيره وفتقه، وهو ما يعني إغفال لحظة بلاغية مهمة هي لحظة البداية، أي كيف يبتدئ النص وبأي طريقة؟
فالانطلاق من النص والعودة إليه من خلال الكتابة يعني، فيما يعنيه، اختزال التفلسف إلى حلقة تهيمن عليها سلطة الكتابة، لأنه حتى وإن كانت الكتابة تنفذ اللغة في كليتها إلا أنها لا تنجز الفكر في شموليته، ونحن في تعليم الفلسفة نهدف إلى تعليم إنجاز الفكر الفلسفي عبر جهاز النص وليس إنجاز اللغة الفلسفية عبر خاصية التفلسف، وإلَّا صار الأمر إلى استنساخ النصوص وتقليدها أو محاكاة لغة الفلاسفة دون الوصول إلى معانٍ يُستفاد منها في «استثمار النص الفلسفي»، فهل الهدف إذن هو تعليم الفلسفة ومعرفة خبايا النصوص الفلسفية وطرق انبنائها، ومن ثمة محاكاة هذه الطرق والسير وفقها، أم الهدف هو تعليم التفلسف، هذا التفكير بأنفسنا، وطرق انبناء الفكرة قبل أن تتحول إلى مفهوم أو نظرية أو مذهب..؟
وبهذا فإن للنص الفلسفي خصوصياته الجوهرية التي تتركز بالأساس في سرّ التفكير بما هو تأويل ذاتي يقوم على لعبة السؤال والجواب ذات الطابع البلاغي، ولذلك لا يكمن تعليم التفكير -وفق السياق الفلسفي- أو تعلمه بالنصوص مباشرة، بل وجب الدخول في اللعبة البلاغية لتشكيل عالم الخطاب وبداية النص، لأنه وكما لاحظ هيدغر «أن نُبدي اهتمامنا بالفلسفة، فإن هذا لن يكون شاهداً على أننا مستعدون للقيام بالتفكير، بل حتى وإن عملنا على أن نكون مجدين لسنوات طويلة في دراسة أعمال وكتابات كبار المفكرين لا يضمن لنا بأننا نفكر، ولا أننا مستعدون لتعلّم التفكير، إن الانشغال بالفلسفة يمكنه على العكس من ذلك، وبالطريقة الأكثر فظاعة، أن يجلب لنا الوهم بأننا نفكر لأننا (نتفلسف)»[5]، ولذلك فإن تعليم الفلسفة بواسطة النصوص يجلب لنا وهم تعليم «التفلسف» الذي يعني، في جوهره، إنتاجاً مخصوصاً للتفكير وتفكيراً مخصوصاً حول قضايا العالم والوجود والحقيقة..، وليس النص الفلسفي سوى مقام من مقامات بلورة هذا التفكير وهذا ما يفسر تعدد النصوص الفلسفية وتجددها التاريخي ومحافظة الفلسفة على خصائصها الجوهرية وتمايزها الخطابي.
إن إمكانية التفلسف في مرحلة ما قبل الجامعة هي مسألة بيداغوجية مهمة، وعلى الرغم من أن التفلسف على طريقة الكوجيتو الديكارتي، أي انطلاقاً من «أنا مفكر» يبقى أمراً استثنائيًّا وطفرة معرفية بالنسبة إلى مسار التعليم لدى الطالب، إلا أنه وإذا استبعدنا المسوغات النفسية والبيولوجية لمثل هذا الطرح، فإنه يمكن مناقشته من وجهة نظر فلسفية، من خلال تاريخ الفلسفة نفسه، الذي يذكرنا بأن الفلسفة كانت قد بدأت في المجتمع اليوناني في ظل الجدل السفسطائي والحوارات السقراطية كممارسة ما قبل نصية للتفلسف وهي تعبّر عن مرحلة سابقة على المؤسسة الفلسفية (الأكاديمية الأفلاطونية والمدرسة الأرسطية) وهي مرحلة شبابٍ مأخوذٍ بإغواء الأسئلة السقراطية وجماليات اللغة السفسطائية ونشاط اللعب الخطابي المتحرر من مثال الفكر ونموذج المنطق، وهو بالضبط عالم الشباب أو الطفولة المملوء بالنصوص اللعبية التي تمهد لدهشة السؤال وقوة الذات والجرأة على الاقتحام والمغامرة والمشاغبة وهذه كلها مداخل النص الفلسفي وبدايات حقيقية للخطاب وإنجاز اللغة والفكر معاً.
وعلى هذا الأساس فإن تعليم الفلسفة ملزم بالمرور بمرحلة التربية الفلسفية أي بخلق الذات وتكوينها وإعدادها لاقتحام النصوص وقراءتها وتأويلها، لأنه من غير المنطقي، بيداغوجيًّا على الأقل، أن نغامر بدفع طالب الفلسفة إلى النص دون تجهيزه بمقدرة فلسفية مسبقة، ذلك أن القراءة هي فلسفة كذلك، حيث تقوم هذه المقدرة على إتقان لعبة المساءلة وكذا فتح الذات على عالم النص والانخراط فيه وهو ما يؤكده غادمير بقوله: «إن فهم نصٍّ ما، هو تطبيقه على أنفسنا، ومعرفة أن هذا النص، حتى لو وجب فهمه دائماً بشكل مغاير، يبقى مع ذلك، هو النص نفسه الذي يظهر لنا، في كل مرة بطريقة مختلفة»[6]، وهذا يعني أن التفلسف يجب أن يصدر عن ملَكة ذاتية للطالب، يكون دور العملية التعليمية البيداغوجية ومناهجها المختلفة هو تنمية هذه الملَكة وتطويرها وفتحها على النصوص والآراء، بعد اكتشافها وتربيتها من خلال طريق بلاغية سفسطائية أكثر منها طريق منطقية أرسطية لأن ذلك يتناسب مع مسار النمو التاريخي للفلسفة.
إن تاريخ الفلسفة شاهدٌ على العلاقة الذاتية بين الفلاسفة والفلسفة، فالفيلسوف ظاهرة بحدّ ذاته، لأنه يمثل قارئاً نموذجيًّا وطالباً متفرداً للفلسفة من مرحلة الطفولة إلى الشيخوخة[7]، ولكنه يمثل أيضاً علاقة الفلسفة بالذات في مرحلة ما قبل نصية، ذلك أن «الفلسفة لا تبدأ أبداً، لأن كثافة اللغة تسبقها وهي تبدأ من الذات لأنها هي التي تشيّد مسألة المعنى وأساسه»[8]، فالذات تتوفر بنفسها على بذور التفلسف التي تتجلى في كفاءة القراءة وملَكة الفهم والقدرة على الكتابة وإنشاء النصوص وإنجاز المعاني، وهو بالتأكيد ما يؤيد مسألة الالتحام بين تعليم الفلسفة (تعليم القراءة والكتابة) وتعليم التفلسف (تعليم خصوصيات التفكير الفلسفي وبلاغة التفكير نفسه)، لأن تعليم الفلسفة بواسطة النصوص يؤدي إلى إعادة إنتاج النصوص نفسها باختلاف منهجيات القراءة والتأويل وهو أمر لا يساهم في بناء خطاب فلسفي، وهذا ما يفسر الفرق العام -كما لدى الطلاب- بين قراءة جيدة وفهم عميق للنصوص وبين كتابة ضعيفة وعجز أسلوبي وهشاشة فكرية في إنجاز ما يفهم داخل نصٍّ نريده أن يكون نصًّا فلسفيًّا، ولهذا فإنه من الواجب أن يكون «ما يُؤوَّل في النص هو مشروع عالم مقترح أستطيع سكنه وعرض إمكانياتي الأكثر خصوصية فيه»[9]، أي بأن تكون الذات القارئة للنصوص مؤهلة -فلسفيًّا- لمصاحبة المعاني إلى ما بعد النص ومقاصده، أي إلى العالم الذي يفتحه ويكتشفه، كما لها القدرة قبل ذلك على ملازمة لحظة المخاض الفلسفي الذي يسبق ولادة النص وبروز الخطاب في لحظات السؤال والهاجس والاختبار.
إن تعليم التفلسف هو تربية الذات المتفلسفة وليس تلقينها طرق القراءة والكتابة الفلسفية فقط عبر تقنية النص، فالتربية هنا تعني تنمية ملكة الحدس الذاتي للطالب وتجهيزه لتناول النصوص واختراقها والدخول معها في حوارات ومناظرات ومشاغبات بلاغية، وهذه بالذات وصيّة هوسرل عندما يقرر «أن الفلسفة بقدر ما ترجع إلى أصولها النهائية، فإنها تتعلق بماهيتها وهي أن عملها العلمي إنما يتحرك داخل مناطق الحدس المباشر، وعلى هذا، فإن أكبر خطوة يجب على عصرنا الحاضر أن يقوم بها أن يتعرف أنه عن طريق الحدس الفلسفي، بالمعنى الصحيح، أي بمعنى الإدراك الظاهراتي للماهيات، ينفتح ميدان لا حد له للعمل، ويقوم علم يكتسب بغير استعانة بكل المناهج الرمزية والرياضية غير المباشرة -وبغير استعانة بأجهزة المقدمات والنتائج- يكتسب كثرة من أدق المعارف وأكثرها حسماً، لكل فلسفة مقبلة»[10]، ونعرف أن هذا الإدراك الظاهراتي يتولد فطريًّا لدى الإنسان ويلعب التعليم الفلسفي دور الموجّه لهذا الإدراك نحو تحويل المدركات إلى نصوص مخصوصة، ومنه فإن التفلسف هو التفكير في كيفية الالتحام الظاهراتي بين الذات المدركة وعالم الماهيات المحجوب بعالم الظواهر، وهو ما ينبغي تعليمه وتعلمه ضمن منهج تربوي بلاغي للفلسفة.
[1] جامعة مستغانم.
[2] رولان بارت، هسهسة اللغة، ترجمة : منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط1، 1999، ص :90.
[3] Christine Noille Clauzade, « La Rhétorique et l’étude des textes », éd. Marketing s. a. Paris, 1999.P :71.
[4] جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998، ص : 13.
[5] هيدغر، التقنية - الحقيقة - الوجود ، ترجمة محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1995، ص : 189.
[6] Gadamer Hans George, « Vérité et Méthode, les grandes lignes d’une herméneutique philosophique » , trad. Pierre Fruchon, Seuil , Paris, 1996, P : 420.
[7] يقدم تاريخ الفلسفة نماذج عن انفصال التفلسف عن لحظة الكتابة ومجال النصوص مثل سقراط الذي لم يخلف آثاراً مكتوبة، وارتبطت محاوراته بالجدالات السفسطائية وإثارة الأسئلة وتنمية السؤال إلى قضية، لكأنما هي تربية فلسفية للمفاهيم والقضايا، ولذلك سيُعنْون أفلاطون، في شيء من هذا المعنى، إحدى مؤلفاته بـ: «في السفسطائيين والتربية» .
[8] Ricœur, « De l’interprétation , essai sur Freud » , Seuil, Paris, 1965, P : 48.
[9] Ricœur, « Réflexion faite, Autobiographie intellectuelle », éd. Esprit, Paris, 1995, P:57.
[10] - هوسرل إدموند، الفلسفة علما دقيقا، ترجمة محمود رجب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002، ص 104.