*
إن طبيعة الإنسان في نبذ التوحد والتفرد وطلب التجمع والتعايش هي التي جعلته ينتقل من أشكال الفرقة والاختلاف إلى مستويات الحشد، والوحدة والتفاهم، فبعد أن كان التجمع الإنساني مقتصراً على عشائر متناثرة ومتباعدة راح يتدرج إلى أعلى وينمو أكثر فأكثر، إذ تحوّلت العشائر إلى بطون ومن البطون ارتقى التجمهر إلى العمائر فالقبائل[1] ومنها انبنت علاقات أوثق أنجبت المدن[2]، ومن ثمة الدول والشعوب، التي وبحكم نزعة «رجوع الكثرة من الأفراد على تعددهم العرقي والقبلي إلى وحدة متعاونة على ما يكون به قوام الحياة الجماعية»[3]، أنتجت أمماً وحضارات مختلفة وعديدة تعاقبت على مسرح التاريخ مشكّلة تكتلات بشرية يسودها التلاقي وتلاقح الثقافات والخبرات حيناً، ويشوبها النزاع والصدامات أحياناً أخرى في أبلغ صورة عن اتصال الأفراد وتبادل التأثر والتأثير بينهم.
ومن الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار في هذا السياق أن الأمة الواحدة منظور إليها كجسم تسوده الوحدة والانسجام، تعرف إلى جانب الاتحاد والتواصل بين أفرادها، تعرف بين الفينة والأخرى تصادمات طائفية وانقسامات مذهبية مردها إلى تباين اتجاهات أفرادها وتمايزهم في وجهات النظر والتصورات، فضلاً عن اختلاف غاياتهم وآمالهم في الانكباب على التواجد والنظرة إلى الدين، والمستقبل والسياسة[4]، حيث إن كل فرد ومن منطلق أن «السياسة هي أولاً وأخيراً، هي بعض جوهر الإنسان مذ غدا فرداً في جماعة يرتبط بها بآلاف العلائق والروابط وينسج معها حياة مشتركة، ويتقاسم معها السراء والضراء، الألم والأمل والحاضر والمستقبل، ولأنه فرد، فهو ذات، أنا، Ego، ولأنه كذلك طامح، طامع، نهم ولا يقف عند حد، ولكن الذات هذه تصطدم بكل ذوات الآخرين، تتقاطع مصلحتها مع مصالحهم، تتوافق حيناً وتتعارض أحياناً، فتشترك معهم في علاقات تبدأ بالحرب وتنتهي بالمفاوضة أو تبدأ بالمفاوضة وتنتهي بالحرب»[5]، ونتيجة ذلك كله مصالح بشرية متضاربة وعلاقات اجتماعية معقدة يسودها الاضطراب وتعمها الفوضى.
وهذا التصلب والتصادم في العلاقات إنما يبلغ قمة نوعية وذروة قصوى عندما يتعلق الأمر بالأمم والحضارات في نظرتها إلى الآخر، ذلك أنها تضرب لنا مثالاً واضحاً وصورة دقيقة عن المركزية[6] والخصوصية، حيث إن كل أمة وكل حضارة ومن منطلق تحقيق الغلبة والتميز تجتهد قدر إمكانها من أجل تبيان تفوقها والمحافظة على ذاتيتها، وهذا هو الذي يمكّنها أن تبقى قوة حية، متطورة متغيرة بحسب الظروف، لا في ذاتيتها وفي ماهيتها وفي آنيتها، بل فيما تأكل وتنهب من القوى حولها»[7].
هذا، وإنها تحاول فرض سيطرتها على غيرها من الأمم، وكثيراً ما تنجر عن هذه المواقف صراعات وصدامات يكون فيها السلم والتعايش مغيَّبان بين الأمم والحضارات، «إننا نستطيع أن نعتبر تاريخ الإنسان وكأنه حوار أو تنافس بين أنظمة مختلفة أو أشكال من التنظيم الاجتماعي، وتتناقض المجتمعات مع بعضها فينتصر الواحد على الآخر ويستقر الواحد في الحياة بمعزل عن الآخر أحياناً بالغزو العسكري»[8] الذي يتخذ من الاستغلال والاستعمار والغزو والاحتكار أساليب وطرقاً لاضطهاد الشعوب وبسط هيمنته عليها، وكذا طمس هويتها الثقافية والحضارية، ممثلاً بخاصةٍ في الحركة الاستعمارية التي لم تكتفِ بالنهب والسيطرة، بل راحت تبرر[9] مشروعية مخططاتها التوسعية[10]، وفي أحايين كثيرة تكون المركزية الدافع الأول والرئيس لإذكاء فتيل الصراعات وإعلاء نزعة الغلبة والنزاعات.
إن هذه النظرة إلى الآخر، والتي تشير إلى تضخم عقدة التمركز الحضاري، إنما تكشف أيضاً عن تشنج واحتقان كبير في جسم العلاقات الحضارية، ذلك أنها تؤدي ومن مسالك كثيرة وعديدة إلى تعميق التفاوت وترسيخ النزاع بين الحضارات والثقافات المختلفة وذلك طبعاً يجعل من الترقب المستمر والاحتراز الدائم خطوطاً دفاعية اضطرارية تسعى كل الدول والأمم، تقريباً، إلى إقامتها لاسيما في الوقت الراهن الذي تمارس فيه الدول العظمى وصانعة القرار ضغوطات ثقيلة على الدول الضعيفة والبعيدة عن الركب الحضاري من مبدأ أنها تسوس العالم وتدبر أموره، وانطلاقاً من أخطبوط العولمة[11] الذي تتخذه مطية لبسط نفوذها وفرض استيلائها وسيطرتها.
وإذا كانت هذه التحديات الحضارية تكشف عن تناظر وتواجه خطيرين بين الأمم والحضارات، فإننا سنحاول تحري موقف الأمة الإسلامية من صدام الحضارات وصراعها، لكننا نرى أنه من الضروري، قبل الولوج إلى حيثيات هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان، الوقوف عند مفهومي الأمة والحضارة على اعتبار أنهما من المحددات الرئيسية لضبط علاقة الأنا مع الآخر.
* بين الأمة والدولة: ارتباكات المفهوم والتباسات المعنى
نتيجة تعقد المجتمع البشري، وتوقف الفرد عند مرحلة لم يستطع فيها أن يكمل مشوار حياته بالعفوية فقط، ظهرت الحاجة الماسة إلى إقامة تنظيم لحياة الأفراد يصون حقوقهم وواجباتهم، فتبلور هذا التنظيم فيما يسمى الآن بالدولة والأمة، فهل الأمة تختلف عن الدولة من حيث المبدأ والغاية؟ بمعنى آخر: هل يمكن للأمة أن تُبنى على الأسس السياسية نفسها التي تُبنى عليها الدولة؟
عادة ما يتداول مفهوم الأمة مقترناً بمفهوم الدولة، وكثيراً ما يخلط بين المفهومين على اعتبار أن أحدهما يحيل إلى الآخر، بل هناك من يعدهما مفهوماً واحداً يحمل المعنى نفسه، لكن في واقع الأمر ثمة اختلاف وتمايز لا مراء فيه بين المفهومين تؤكده جملة الفروقات الموجودة بينهما.
بخلاف الأمة فإن الدولة[12] كيان مادي يقوم على السلطة، فهي مهما اتسعت تبقى أقل شمولية من الأمة، وذلك لأنها تطلق عموماً على شعب معين يقطن رقعة جغرافية محددة ويتمتع بالسيادة والاستقلالية، فعادة ما «يتفق فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية حول عناصر ثلاثة للدولة: الشعب، الأرض، السيادة، ويضيف بعضهم «الاعتراف» كعنصر رابع يعنون به اعتراف دول أخرى بقيام «الدولة» موضع الاعتراف، ويختلفون فيما إذا كان عنصر الاعتراف لازماً لوجود الدولة أم للإقرار بوجودها أم للأمرين»[13]، أما الأمة فهي كيان معنوي قوامه شعور الأفراد بالوحدة والانسجام، ذلك أنها تضم عدداً كبيراً من الأفراد يشعرون كلهم بالانتماء إليها بالرغم من التباعد الجغرافي الذي قد يكون بينهم، فقد نجد الأمة الواحدة تتكون من مجموعة من الدول مثل ما هو الشأن بالنسبة للأمة الإسلامية مثلاً. ومن هنا يتضح لنا أن مفهوم الأمة أوسع وأشمل من مفهوم الدولة.
وبالرجوع إلى الصلة العميقة والرابطة القوية التي تجمع أفراد الأمة نجد أن المفهومين مختلفين أيما اختلاف، فاستعمالهما في سياقات أيديولوجية متوازية يكشف من وجه آخر عن تباين كبير في المعنى والمضمون، فالشعور بالانتماء وتآزر الروابط واتحاد العلاقات سمات رئيسة للأمة، في حين يطغى على مفهوم الدولة مبدأ تحكيم القوة من أجل تحقيق المصلحة العامة دون اكتراث لمشاعر الانتماء أو اعتبار لعرى الالتقاء «وهكذا يرتسم تحت وطأة الدولة مجتمع بدون كثافة، تخترقه الدولة بقراراتها بدون مقاومة، بالمحصلة، يخف لحم الجسد كلما ألححنا على قدرة الرأس.. لذلك فإن كل ما يفلت في المجتمع من هذا الاختلاف «الدولي» سيتم التقاطه ظاهراً كخصوصية سيئة»[14]. ولهذه الاعتبارات كانت «الدولة منظور إليها كنقطة تكثيف للنفوذ أكثر منها كجهاز أو كشبكة متشعبة»[15] وكأداة قسر[16] وإكراه تعكس سيطرة طبقة أو طبقات اجتماعية على سائر الطبقات الأخرى أكثر منها كجهاز أو سلطة عامة منظمة في المجتمع.
وعلى النقيض من ذلك فإن الأمة هي إطار عام للحياة يقوم على المشاعر والآمال والعادات المشتركة التي تربط أفرادها، إذ يغدو التلاحم والانصهار تحت لوائها كياناً واحداً وأعم من الملامح الأهم في تكوينها. فالأمة الواحدة تضم أقواماً عديدة وأجناساً متعددة ومن أصول مختلفة تجمع شملهم مقومات مشتركة كثيرة قد تقف عند حدود الدين وقد تتعداه إلى روابط أخرى كاللغة مثلاً، وهي خصائص تخوّل لها التحرر من عامل الانحسار في رقعة أو مساحة بعينها بعكس الدولة التي مهما توسعت نتيجة للاستعمار الذي تستولي من خلاله على دولة مجاورة أو حتى بعيدة، فإنها تبقى ضيقة أو أقل سعة من الأمة على الأقل على المستوى الروحي والمعنوي، أي ما يتعلق بشعور أفرادها بالانتماء فمما لا ريب فيه أن الأفراد الذين سلبتهم حريتهم والذين انضووا تحت لوائها مكرهين لن يشعروا أبداً بالانتماء إليها، وسيعمدون ما استطاعوا إلى الانقلاب والثوران عليها كنتيجة حتمية للقهر والإذلال الذي مارسته عليهم.
وهذا لا ينطبق فقط على العهود الاستعمارية بل يتعداه إلى دول ما بعد الاستعمار، فحتى «عندما خاض المجتمع نضالاً من أجل الاستقلال والتحرر الوطني..، تم الانتقال (نقل) مؤسسات القهر من العهد الاستعماري إلى عهد الاستقلال تقريباً من دون تغيير يذكر. وهذا ما أدّى ببعض الباحثين إلى تسمية هذا النمط من الدول بالدول ما بعد الاستعمارية، والدولة في هذا النموذج لا تعبّر عن خصوصية ثقافية ولا عن تطور تاريخي طبيعي ولا عن خصائص المجتمع وتكويناته الاجتماعية والحضارية»[17] وإنما هي أداة هادمة تتخذ من عالمية الثقافة والحضارة مسوغات منطقية لتبرير التوسع والاستيطان وخير دليل على ذلك تغريب[18] العالم «الذي عمم فيه الغرب نموذجه بالعنف أحياناً وبخنق الخيارات البديلة... ومثلما كان في القرون السابقة قد قسم العالم لـ«متروبولات ومستعمرات»ومناطق نفوذ، فإنه ألحق اليوم شعوب العالم به بالقول إنه هو المركز وهي الأطراف»[19] بعيداً عن أي تفاعل أو حوار يفضيان إلى التسليم بتساوي جميع الشعوب والأجناس ويقضيان باحترام كل الخصوصيات الثقافية والحضارية.
وتختلف الدول أيضاً عن الأمم في كونها «إبداعات سياسية متعمدة»[20] تسن القوانين المختلفة عن طريق مؤسساتها التشريعية وبالإلزام السياسي والاجتماعي تطلب من مواطنيها الخضوع لهذه القوانين[21]، على ألَّا نفهم أن هذا الخضوع هو خضوع إكراهي قسري، وإنما هو خضوع طوعي ينبثق عن تفاهم واتفاق ورضا بين أفراد المجتمع الطبيعي، ذلك أنه «لما كان الناس جميعاً أحراراً ومتساوين بالطبيعة، فلا يمكن انتزاع أي شخص من حالته هذه وإخضاعه للسلطة السياسية لشخص آخر إلا برضاه»[22]، وبهذا المعنى كانت الدولة نتاجاً لاتِّفاق وتبادل متساوٍ بين مواطنيها.
وإذا كان «مجال الدول هو مجال السياسي»[23] فإن مجال الأمم هو مجال معنوي روحي[24]، فلقد أثبتت التجربة التاريخية أن انبعاث الأمة واستمراريتها مرتبطان بمقومات روحية لا يتحقق الشعور بالانتماء الذي يعد أحد أهم مرتكزاتها إلا وفقها وهي: اللغة، الدين، الأرض، التاريخ والمصير المشترك.
وتتجلى فاعلية هذه المقومات في توحيد أفراد الأمة وأيضاً ضمان دوامها واستمرارها فالمقوم الديني مثلاً يُحدث تواصلاً كبيراً بين الأفراد والجماعات، ويمحو خطوط الانقسام والتفرقة التي قد تزرع بؤر الفتنة والنعرات بينهم، فهو «لا يحفز الناس بحوافز إضافية للسلوك الحسن أو جمع شملهم في جماعة مؤمنة أو يعزز تضامنهم عند المعاناة، ولكن يزودهم أيضاً بتصور عن مكانتهم في العالم»[25] باعتباره مفعلاً قويًّا للعلاقات والنشاطات الاجتماعية، فالأمة الإسلامية انبنت على سبيل المثال في التاريخ على أسس دينية مصدرها الدين الإسلامي الذي وحَّد أفرادها وجمع شملهم.
والدين لا يقوّي شبكة العلاقات بين أفراد الأمة من الجيل نفسه بل وينمّي أيضاً نسيجاً متيناً من الروابط التي تربط هؤلاء الأفراد بأسلافهم، فبالنسبة «للعلاقة مع الأفراد من الجيل نفسه فنجد أن الدين يتحول إلى مجموعة انتماء لأن الاشتراك في العقيدة ذاتها بالنسبة لمجموعة دينية ما، يسمح بتحديد حدود هذه المجموعة ومعايير الانتماء التي ترتبط بها»[26]، أما فيما يخص التواصل بين الأجيال فالدين «يربط الأفراد مع الأسلاف ومع شهود ومؤسسين للماضي، إنه يرسم «سلالات مؤمنة» ويخلق تضامنات طائفية تربط أناساً مع بعضهم من خلال ممارسة الطقوس وتقاسم الروايات والاشتراك في المرجعية إلى الشخصيات المؤسسة»[27] والتي من شأنها تقوية الوازع الديني، فالأمة الواحدة تتكون من أناس يختلفون في اللون والعرق والنسب ومع ذلك تعمل وحدة الدين كقوة روحية على توحيدهم، فالإسلام مثلاً وحَّد بين الأمم العربية وغير العربية وجعلها أمة واحدة.
وقدرة الدين على تقوية العلاقات بين الأفراد والجماعات بديمومة واستمرارية لا نظير لها، إنما ترجع بالدرجة الأولى إلى الحضور القوي والمكثف للبعد العقائدي في نفوس البشر حيث إن «التجربة الإنسانية على امتداد آلاف السنين من تطور فكر الإنسان وهي تظهرنا على أن فكرة الله ملازمة للطبيعة الإنسانية»[28]، والتي من شأنها تقوية الوازع الإيماني الذي يفضي إلى صهر أفراد الأمة في وحدة واحدة متماسكة وهكذا يبقى الدين» الرابط القوي القادر على وصل الأفراد بالجماعات، والحامل الرمزي للشرعية الهوياتية المؤسسة على الوحدة»[29].
وإضافة إلى الدين يعد التاريخ أيضاً مقوماً أساسيًّا في تكوين الأمة، إذ «لا يمكن لأية أمة أو ثقافة، أن تعيش بلا ماضٍ وبلا تاريخ، لأن التاريخ يشكّل بالنسبة لجميع الثقافات المخزون الرمزي والعقدي والنظام الفكري لتلك الثقافات»[30]، حيث إن لكل أمة إرثاً تاريخيًّا وحضاريًّا يميزها من غيرها من الأمم بما يتسم به من انتصارات ومآسٍ، وشعور أفراد الأمة بهذا التاريخ المشترك هو الذي ينمّي رابطة الشعور بالانتماء بينهم، إذ يذّكرهم بالأيام المشرقة نفسها التي عاشوها معاً، ويذكرهم أيضاً بالزلات والعثرات نفسها ليأخذوا العبرة في المستقبل، مما يجعل اهتماماتهم مشتركة في التعاون الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وكما للأمة ماضٍ زاخر بألوان الثقافة وأصناف المعرفة، وحافل بالأمجاد والبطولات لها أيضاً مستقبل مشترك يستشرفه أفرادها ويتطلعون إليه ويتحدون من أجل جعله مشرقاً.
وللغة أيضاً دور مهم فهي كوسيلة اتصال مشتركة تؤدي دوراً فاعلاً في تثبيت الوحدة الروحية للأمة، إنها اللسان الذي يوحّد طرق التخاطب والتفاهم بين أفراد الأمة، والوعاء الذي يوحّد الأفكار والآراء[31] ويحمل بين طياته تراث الأمة وحضارتها، فمن خلال اللسان اللغوي الواحد تتأسس أرضية صلبة وقاعدة قوية للفهم المشترك.
وإذا تحدثنا عن الأرض[32] نجدها مقوماً ضروريًّا لا غنى عنه، حيث إن الأمة بحاجة دائمة إلى إقليم جغرافي يوحّد شعور أبنائها ويسمح لهم بممارسة طرائق المعيشة والحياة ويعبّد أمامهم مسالك بلوغ الازدهار والرقي الحضاري، فحضارة الأمة «لا تُبنى في الفضاء المجرد، وإنما هي بحاجة دائماً إلى حيّز جغرافي تبني عليه الإرادة الإنسانية كل متطلبات الحضارة والتقدم الإنساني»[33] من منطلق أن وحدة الأرض تضمن الاتصال الدائم بين أفرادها عبر الأنشطة المختلفة التي يقومون بها والعلاقات المستمرة التي تجمعهم في تلك الرقعة الجغرافية، فضلاً عن أن وحدة الأرض إنما تعني وحدة النظم الاجتماعية والاقتصادية التي توجد بين الناس نوعاً من القرابة والتكاثف.
وتأسيساً على ما سبق نجد أن الأمة تستند في تشكيلها إلى مقومات روحية أكثر منها مادية، وما هو روحي هو الذي يمتّن العلاقات بين أفرادها ويجعلهم يشعرون بالانتماء والوحدة، وقصارى القول: إن الدولة تنظيم سياسي مقصود وكيان مادي سلطوي، في حين أن الأمة تنظيم ثقافي وكيان معنوي نزعته إنسانية وأغراضه روحية.
* بين الثقافة والحضارة: المحددات والفروق
يعتبر مفهوم الحضارة من المفاهيم المركزية التي يتداولها الفكر البشري بكثافة، حيث إننا نصادفه بقوة في حديثنا عن الاقتصاد، السياسة، بل في ميادين العلم المختلفة، كما يعظم تداوله أكثر كلما عرّجنا على الثقافة والتثاقف وما تعلّق بهما، وهذه الاستعمالات المختلفة المتكررة جعلته يتداخل في المعنى مع غيره من المفاهيم كالثقافة، المدنية، الحداثة، التطور وكذا التقدم، وسنتطرق فيما يلي إلى الكشف عن أهم خصوصيات هذا المفهوم من خلال محاولة نبين فيها الدور القوي والتميز الكبير اللذين يتسم بهما.
يُتداول في السنوات الأخيرة وبحدة استخدام كلمة حضارة جنباً إلى جنب مع كلمة ثقافة سواء في النقاشات السياسية أو السجالات الفكرية لاسيما بعد الهالة التي أحدثتها مقالة صامويل هنتنغتون «صدام الحضارات»، وإذا كان البعض يعتبر أن الكلمتين مترادفتين إذ تحملان المعنى نفسه، فإن البعض الآخر يرفض أن تكون إحداهما جزءاً لصيقاً من الأخرى، ويقر بأن لكل منهما معنى محدداً.
وفي محاولة لرصد أهم المعاني الثاوية وراء لفظ الحضارة في اللغة العربية نجد أن المفهوم العربي لهذه اللفظة يختلف كثيراً عن المعاني الغربية، إذ تحمل معنى الرقي والسمو وهي بذلك مخالفة للبداوة[34]، ومصاحبة للتطور الذي يعد مرحلة عالية من مراحل الإبداع الإنساني.
والحضارة في الأنثروبولوجيا هي هذا البناء الأناسي الموحد بعوامل اللغة، الدين، العرق. فالروح الهيلينية المشكلة للحضارة اليونانية مثلاً مبنية على التناسق الشعوري بالعرق واللغة والدين.
وهي في علم السياسة «مجموع البنيات السياسية»[35] المشكِّلة للدول. وتمثلها الدولة المنظمة، وغياب هذه الدولة Etat Phare كما هو الحال بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية اليوم، وهو ما يسبب تفكك الحضارة بالصراعات الداخلية والخارجية[36].
وبالرجوع إلى المدلول الغربي لكلمة حضارة نجد تمايزاً ملحوظاً بين المعنى الذي تفرضه الدلالة العربية وما يقابله في اللغات الأجنبية، التي تتفق في أغلبها على أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الحضارة والثقافة وكذا المدنية، فكلمة حضارة مشتقة من اللفظة اليونانية civilosse بمعنى المدينة، ولعل ارتباطها بمفهوم الثقافة culture هو لأن هذه الأخيرة تعني في اللاتينية إصلاح الشيء وإعداده بالاستعمال، وأول ما استعملت عند اكتشاف الزراعة Agriculture وتعني إصلاح الأرض وإعدادها للزراعة وبالتالي التجمع البشري والتحضر، فهي عكس البربرية، كما تعني مجموع المؤسسات المادية والتقنية والعقائدية[37]، انطلاقاً من أنها كيان ثقافي يتحدد بجملة العناصر الموضوعية المشتركة كاللغة والدين والتاريخ والعادات[38]، والذي يشمل كل ما يبدعه الإنسان وينتجه من معارف فكرية وإنتاجات علمية.
وبذا كانت الحضارة والثقافة متطابقتين في كثير من التعاريف الإنجليزية والفرنسية، فهما معاً النتاج المادي والمعنوي على حد سواء، وما من داعٍ للتمييز بينهما؛ لأن الجانب الروحي والمادي متلازمان في كل نشاط إنساني، وبالتالي هما موجودان في كل ثقافة إنسانية. وعليه لا يعقل أن نُجزّئ أنشطة الإنسان. وعلى هذا كانت الحضارة أو الثقافة «ذلك الكيان وجميع القدرات، والتقاليد الأخرى، التي يكسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع»[39]. وفي السياق ذاته تتعدد استعمالات لفظة الحضارة بمعنى المدنية على أساس أن الاشتقاق اللفظي للحضارة يعود في أجلى صوره، كما أشرنا سابقاً، إلى لفظة civilosse والتي تعني «مدنية».
وإذا كانت هذه التعاريف تشير إلى ضرورة الجمع بين العناصر المادية والمكونات الروحية في صنع وإنتاج الحضارة فإن ثمة اتجاهاً مغايراً يدعو إلى ضرورة التمييز بين الحضارة والثقافة للتباين والاختلاف الكبير الموجود بينهما فتظل الثقافة تعبيراً عن الجانب الروحي في حين تتعلق الحضارة بالجوانب المادية، «فالثقافة هي المعارف والعلوم والآداب والفنون، يتعلمها الناس ويتثقفون بها وقد تحتويها الكتب.. أما الحضارة فمادة محسوسة في آلة تُخترَع وبناء يُقام ونظام حكم محسوس يمارس، ودين له شعائر ومناسك وعادات ومؤسسات، فالحضارة مادية وأما الثقافة فذهنية»[40]، وتأخذ الحضارة الطابع المادي لتعلقها بالأنشطة العلمية والتكنولوجية في حين تنفرد الثقافة بالطابع المعنوي لأن لها مدلولاً فكريًّا يتجلى بصفة خاصة في الفلسفة والدين.
ومهما يكن من أمر الاختلاف أو التطابق الموجود بين الكلمتين فإن لفظة الحضارة تستعمل دائماً في إطار أعم وأشمل مؤداه أنهما النتاج الفكري والفلسفي والمادي والعلمي الذي أبدعته جماعة بشرية معينة عبر التاريخ لتندرج كلمة الثقافة بين ثناياه، فإذا كانت الحضارة «أعلى تجمع ثقافي للناس وأوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب»[41] فإن الثقافة في الأخير هي المحصلة الخالصة لجميع أشكال التحضر بل هي المرحلة العالية للحضارة.
* صدام الحضارات: أيديولوجيا النظرية
خلف أسوار الماضي العتيد وبين ثنايا بروج صرح الإنسانية العتيق، تقف حضارة يمتد عمق أصالتها إلى أغوار الماضي السحيق، حضارة كانت ولا تزال ببريق مجدها الأخَّاذ، وبكل ما تتضمنه من معاني الكبرياء والشموخ مطمعاً كونيًّا لكل الدول والشعوب، فالمجتمعات والأمم على اختلاف أصولها أنجبت حضارات مختلفة، وهذه الحضارات هي التي تشكّل -مجتمعة وعلى مر التاريخ- الحضارة الإنسانية بمعناها الواسع.
هذا، ويعود الفضل في خروج الحضارة إلى حلبة الوجود وحركة التاريخ إلى الإنسان إذ «لا يمكن أن تكون حضارة، بدون وجود بشري، وإنما دائماً الوجود البشري يسبق الحضارة لأن الحضارة ما هي إلا تجسيد حي ومتقدم لمجموع الإرادات والمبادرات التي قام بها الإنسان في هذا السبيل»[42]، ذلك أن الإنسان راح يخطو ومنذ القدم خطوات عملاقة من أجل الانعتاق من حياة البؤس والانحطاط بغية الوصول إلى حياة أفضل يسودها التطور والحضارة، فالمعارف الإنسانية والإنجازات الحضارية الكبرى كلها من إبداع العقل الإنساني المفكر الذي أخذ على عاتقه مهمة تحرير البشرية من الذل والهوان والمضي قدماً نحو بناء الأطر المعرفية والقوالب الفكرية التي تشيد الدوائر الحضارية.
إن التحديات الكبرى التي فرضتها الطبيعة في مواجهتها وفي صراعها للإنسان كانت الدافع الأكبر والحافز القوي الذي جعله يبدع، هذا فضلاً عن الفضول الفكري الذي يصاحبه على الدوام، وعبر إبداعه الفكري تراكمت التجارب العلمية والخبرات الإنسانية، وما الحضارة سوى نتاج لهذا التراكم المعرفي.
ولما كانت الحضارة منجزاً إنسانيًّا تعاونت كل الأقوام والمجتمعات في إبداعه وساهمت كل الأمم والشعوب في إنتاجه، كان حريًّا بالحضارة أن تأخذ صبغة الإنسانية وتتلون بلون العالمية انطلاقاً من أنه «لكل أمة أو شعب نصيبه من الحضارة قلَّ أم كثر طالما أنه يمارس أسلوب حياة ارتقى به عن حياة الحيوان»[43]، فالحضارات التي تعاقبت على مسرح التاريخ كثيرة، والحواضر التي ولجت إلى الوجود متعددة، وهي تشكل برمتها إرثاً حضاريًّا متميزاً تدين فيه الإنسانية بأكملها للعقل البشري المفكر بالكثير.
وعليه ينبغي أن ننظر للحضارات على اختلافها نظرة واحدة من دون استبعاد أو إقصاء، وبعيداً عن أي استصغار أو دونية لأنها «كانت وما تزال وسوف تظل متعاصرة، الواحدة مع الأخرى، فهي جميعاً بنت الأسرة ذاتها والفروق الزمنية تتناهى في الصغر إذا ما قُورنت بالعهد الطويل الذي عاشت خلاله الأسرة الإنسانية التي وجدت قبل مولد أي حضارة»[44]، وتكبدت عديد المشاكل والعوائق كيما تصل إلى التحضر. صحيح أن الحضارات ليست واحدة «حيث إن كل الأمم لم تكن بنفس القدر من الغنى والبراعة والدقة»[45]؛ إذ تتباين وتختلف في المستوى تبعاً للإنجازات التي حققها أفرادها ودرجات الرقي والتطور التي وصلت إليها، ومع ذلك تبقى الحضارة دائماً وأبداً نتاجاً لاجتهادات الإنسان الذي كان وسيظل ينشد دوماً الأفضل والأفضلية.
وعلى وجه التحديد فإن مكمن الاختلاف بين الحضارات راجع بالدرجة الأولى إلى المنتوج الثقافي الذي يبني صرح كل حضارة بشاكلة محددة. فالثقافة تختلف من حضارة إلى أخرى، وهذا ما يثبته الدرس التاريخي الذي يؤكد أن الدعامة الفكرية التي تقف وراء ازدهار الثقافة وتطور المكاسب المعرفية لكل شعب ليست واحدة مما ينتج فاصلاً فارقاً في التوجهات العلمية والمشاريع الفلسفية التي تعد الاستراتيجية الكبرى التي يتوقف عليها البناء الحضاري لكل أمة.
إن الثقافة هي التي تقود الأمة إلى أبواب الحضارة والمدنية[46] وتضعها في مصاف الأمم المتطورة والمتحضرة، وغيابها هو ما يجعلها تتأخر عن الركب الحضاري، وهي متفاوتة، حيث إن نصيب كل مجتمع منها يختلف عن الآخر، فضلاً عن اختلاف هذا القدر من الثقافة في الدينامية والفاعلية التي من شأنها خلق حيوية الفكر وإنتاج دينامية الوعي، وهكذا يغدو التمدن ثمرة متجددة للحراك الثقافي الذي يُفضي إلى إرساء الأسس والقواعد الرصينة للبناء الحضاري.
ويمكننا القول إجمالاً: إن الحضارة «تعبر عن حركية ووتيرة تقدم الكسب الإنساني العام، المادي والتقني والأدبي، فهي بذلك عالمية وجوهرها تخزين الخبرة الإنسانية.. أما الثقافة فهي فاعلية اجتماعية وفردية نشيطة تتعلق بأسلوب رؤية الجماعات لنفسها وتاريخها وواقعها وتعاملها معه»[47]. وبذا كانت الثقافة مطلباً جوهريًّا ومسعى ضروريًّا تتخذه الذوات الفاعلة نقطةَ ارتكاز لإعمال الفكر وإنعاشه، وكانت المدينة أحد أهم تمظهرات هذا الإحياء، وفي تقاطعهما كانت الدوائر الحضارية التي تشع إبداعاً وتفنناً وتعج عبقريةً وتميزاً نتاجاً خالصاً للاثنين.
ولئن كانت الحضارات مختلفة والفروق بينها «ليست فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم الدين[48]، فإن هذا الاختلاف الناجم عن عدم تجانس الثقافات التي أنجبتها لا ينبغي أن يكون مجالاً للصراع وحيزاً للنزاع، وإنما الأجدى احترام خصوصية كل حضارة حتى ولو دنت وتناهى حجمها في الصغر، لأن الحضارة تبقى «أوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب»[49]، إنها الإبداع الخاص لكل مجتمع ومن اللازم أن تحظى بالاحترام والتقدير بعيداً عن الحسابات الإثنية الضيقة والمعايير التي تحجب فاعلية الهويات الثقافية المحلية، وتقزّم من مستوى الأدوار الفاعلة التي تؤديها الحضارات الصغرى.
لكن على النقيض من ذلك نلحظ وباستمرار تصاعداً حادًّا في موجة الصدام العدائي مع الآخر الحضاري، فعوض أن تتفاعل الحضارات بعضها مع بعض وتتبادل فيما بينها ملامح الثقافة المختلفة وضروب التفكير المتنوعة يقوى الصدام والصراع بين الحضارات، صدام تغذيه الأحكام القيمية التعسفية والتوجهات السلطوية الجائرة التي تفضل حضارة على أخرى وتضرب ثقافة بأخرى، بل وتمحو حضارات بأكملها من خارطة هذا الوجود.
ربما قد يبدو للوهلة الأولى أن فكرة الاستبعاد الحضاري هاته فكرة حديثة العهد، غير أنها في واقع الأمر فكرة قديمة تجد أصولها في عمق الحضارة الهيلينية فثمة حقيقة تاريخية تؤكد أن الهيلينيين ينظرون إلى الحضارات المنافسة أو السامية نظرة مقت وازدراء بل ويصفون أهلها بالبرابرة[50]، هذا وثمة قناعة أيضاً لدى الإغريق مفادها «أن المدن والأمم والإمبراطوريات كتبت لها الإرادة الإلهية أن تزول، وتذكر أن هذا مصير (إليون Ilion) التي كانت مدينة مزدهرة في عصرها، وأن هذا كان مصير الإمبراطوريات الآشورية والميدية والفارسية وكانت كل إمبراطورية منها أعظم إمبراطورية في العالم في دورها»[51]. ومن شأن هذه المقالة التي تحمل بين طياتها بذور التوجس والاحتراز أن تشيع جوًّا من التخوّف والترقّب بين الحضارات المختلفة، يكون فيه الانتصار والغلبة للأقوى، انطلاقاً من أن كل حضارة تقاوم ضد الهزيمة والزوال.
ويسود شعور تاريخي قديم في الغرب ينطلق من مسلّمة مفادها أن الحضارة الغربية حضارة متفردة بامتياز «فلقد نهض الغرب برمته إلى دراجات أعلى من التعبير الذاتي.. وأقام صروحاً لا تفنى تشهد على وجوده خيراً كان ذاك أو شرًّا»[52]، وبناء على ذلك «الحضارة الغربية، من أوروبية وأمريكية، بلغت زمننا على هذا الكوكب (وفقاً للاعتقاد الغربي)، هذه الحضارة التي بلغت في واقع الأمر مرحلة الاكتمال والنضج»[53]، الحضارة الأكثر عظمة وتفوقاً ولا مجال لأي مقارنة بينها وبين غيرها من الحضارات.
إن استقراء التاريخ يوضح من ناحية أخرى أن أية حضارة إنما نشأت وأخذت معنى الوجود الحضاري في فضاء تاريخي خالٍ من حضارات منافسة، وهذا الحضور المتفرد بين ثنايا التاريخ إنما صنعته باستبعاد الآخر الحضاري، فالحضارة الإسلامية لم تأخذ معنى التميز الحضاري بين الأمم والحضارات، ولم تثبت وجودها الفاعل في سجل التاريخ إلا بعد أن استبعدت حضارتي الفرس والروم. وبالتداول نفسه داخل الحركة التاريخية لم يتحقق الوجود الفعلي للحضارة الغربية إلا بعد أن استبعدت بدورها الآخر الحضاري ممثلاً في الحضارة الإسلامية والصينية.
ثم إننا نجد أيضاً حضوراً قويًّا للفكرة نفسها أي الاستبعاد الحضاري في نظرية التمركز الغربي وهيمنة التوسع الاستعماري الذي ما لبث يوماً بعد يوم يشن ومن منطلقات أيديولوجية محضة حملات استعمارية شرسة تستهدف بالأساس الشعوب الصغيرة والحضارات الضعيفة، فمنذ عهود مضت «بدأت أوروبا في وضع جرد للعالم: لثقافاته وحضاراته»[54] وعلى أساس هذا الجرد تم تصنيف الحضارات والتمييز بينها وكذا تسويغ طرق الاستيلاء والسيطرة عليها.
هذا ولقد زاد من تأجيج وتصعيد التمييز بين الحضارات الدعاوى الفلسفية التي ما فتئ يطلقها بين الحين والآخر حشد من الفلاسفة والمفكرين الذين صنفوا الحضارة الإنسانية إلى حضارات جزئية، أقصوا بعضها وأبقوا بعضاً، كما وسموا البعض الآخر بالغلبة والتفوق ومن هؤلاء فلاسفة الحضارة: أوزوالد شبنغلر وأرنولد توينبي اللذان -وإن اختلفا[55] في كثير من الأفكار والتصورات- اتفقا على تقسيم التاريخ الإنساني وفق تواريخ مختلف الشعوب، حيث يظهر تاريخ حضارة كل شعب وكأنه خاضع لبعض قوانين النمو والانحطاط المتماثلة[56]، وهما يتفقان أيضاً على تبني التمثيل البيولوجي لحياة الحضارات الذي ينص على أن كل حضارة تنبعث ردحاً من الزمن تقوى (مرحلة الشباب) وما تلبث أن تنحط وتموت.
وبحسب شبنغلر، ومن منطلق تشاؤمي، الحضارات لا تحظى بنفس الأولوية والاعتبار، ذلك أنه قدر في كتابه «انحطاط الغرب المنشور سنة 1918 بأن الوحدات التاريخية المناسبة هي الثقافات الحضارات، وعدد منها ثمانية أصول تاريخية، المصرية وبلاد الرافدين أو ما بين النهرين، والهندية والصينية، والإغريقية الرومانية القديمة والمكسيكية والعربية والغربية»[57]، ورأى أن كل حضارة من هذه الحضارات «لها قانونها الخاص الذي تسير عليه، وهي في هذا السير مستقلة تمام الاستقلال عن الحضارة التالية عليها أو الموجودة معها أو السابقة عليها ومعنى هذا أن الحضارة اليونانية مثلاً مستقلة كل الاستقلال من حيث أن لها خصائص معينة لا توجد في الحضارة الأوروبية بل ثمة تعارضاً شديداً بين كلتا الحضارتين»[58]. ومن الطبيعي أن يفضي هذا الخطاب والخطابات التي تماثله في الرؤى، بما يحمله من تأسيس وتأصيل للتفاوت الحضاري، إلى تصعيد في النزاعات القبلية وتضخيم في القناعات الإثنية.
هذا ولقد تزايدت حدة التنظير للصراع مع الآخر خلال الحرب الباردة، إذ تنافس الفلاسفة وعلماء السياسة على وجه التحديد في إصدار الدراسات الاستشرافية حول ما سيكون عليه الوضع في المستقبل؟ وهل سيؤول إلى حرب عالمية ثالثة؟ ثم هل سيؤدي إلى تصادم وتنازع بين الشرق والغرب؟ إلى غير ذلك من الاستفهامات العالقة التي أضافت إليها الدعوة إلى نهاية التاريخ التي أطلقها فرانسيس فوكوياما قلقاً وتشاؤماً كبيرين لتليها مقالة هنتنغتون: صدام الحضارات (The clasch of civilisation) التي أصدرها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وما أثارته من جدل وردود.
يناقش هنتنغتون مسألة «صدام الحضارات» منطلقاً من فرضية أساسية تجزم بأن «المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدراً أيديولوجيًّا أو اقتصاديًّا في المحل الأول، فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدراً ثقافيًّا، وستظل الدول، الأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستكون بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة»[59]، فالحضارات متمايزة والتفاعل بينها -والذي ستزداد حدته في المستقبل- سيتم بين سبع أو ثماني حضارات كبيرة تشمل الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية وربما الإفريقية[60]، على أن يكون الخطر الأعظم قادماً من الحضارة الإسلامية، إذ إن «للإسلام حدوداً دموية»[61]، لا سيما في تحالفها مع الحضارة الكونفوشيوسية.
والحقيقة أن مفهوم «صدام الحضارات» أو « صراع الحضارات» بدأ يستشري في عمق الجدل السياسي قبل المقالة التي أصدرها هنتنغتون وقوي تداوله بعدها، وهذا المفهوم شأن مفهوم «نهاية التاريخ» مفاهيم ابتدعتها الفلسفة السياسية الغربية لغايات مختلفة لعل أهمها توجيه الرأي العام العالمي وحشد الرؤى الفلسفية والمساعي السياسية لتبرير السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بخاصة ودول الغرب بعامة، لكن إلى أي مدى يعتبر الاعتقاد الغربي القائل بأن للإسلام حدوداً دموية وهو لم ينتشر إلا بحد السيف صحيحاً؟
* الصراع الحضاري في تاريخ الأمة الإسلامية
لم يعرف العرب المسلمون الاستقرار، السيادة والوحدة إلا في إطار الأمة الإسلامية التي أرهص لميلادها الرسول (ص). وما إن وطئ هذا الدين الجديد ثرى الأرض العربية حتى «قدّم الإسلام مفهومه الجديد للحضارة: الحضارة بمعنى العمل من أجل بناء المجتمع الرباني على مفاهيم التوحيد والإيمان وإقامة الميزان بإحلال الحلال وتحريم الحرام والإيمان بالمسؤولية الفردية والجزاء الأخروي والسعي في الأرض وعبادة الله في حسن معاملة خلقه»[62]. وما من شك في أن هذا النموذج الحضاري -الذي وصل تأثيره إلى بقاع عديدة من العالم- لم يولد من العدم، وإنما ثمة كمّ هائل من المرتكزات والمقومات التي أرست لبنات انوجاده، وهذا ما تؤكده النظرة النقدية المتفحصة للتاريخ، والتي تكشف عن أن الأمة الإسلامية في تطورها التاريخي قطعت أشواطاً جدُّ مهمة كيما تصل إلى مستواها الحضاري، فبعد أن كان العرب قديماً عبارة عن قبائل متفرقة يسودها التناحر والصدام استطاع الإسلام ككيان روحي حضاري أن يجمع شملهم ويوحّد صفوفهم.
بيد أن الأوضاع التي كانت تتخبط فيها شبه الجزيرة العربية، نتيجة الأطماع التوسعية الموجهة إليها من قبل الأمم والحضارات المجاورة لها والمتباينة معها في المقاصد والتوجهات لا سيما الحضارتين الرومانية والفارسية سرعان ما جعلت الأمة الإسلامية تنقذف في سيل من العوائق والتحديات، كما أملت عليها جملة من القواعد والشروط لا مناص من توفيرها إن هي أرادت التقدم وكان لهم من الأدوات الفكرية والأجهزة القيمية والمؤسسات العسكرية، السياسية والاقتصادية ما يحقق لهم الإمكانات الحضارية. لكن كيف كانت علاقة المسلمين بالآخر الحضاري؟ هل احترم الإسلام الحضارات الأخرى واعترف بها أم دخل في كل أنواع الصدام والصراع معها؟ ثم إلى أي مدى يمكن الحديث عن الصدام في تاريخ الأمة الإسلامية؟
1- الإسلام والتمايز الحضاري
في إطار التوحيد الذي يعد الجوهر الحقيقي للرسالة المحمدية حملت الأمة الإسلامية على عاتقها مهمة حمل الحضارات الأخرى على الدخول في الإسلام، تدفعها إلى ذلك قناعات محددة ودقيقة تنطلق من أننا «كمسلمين مسكونون بقيادة العالم والشهادة على الأمم، وفي هذه الظروف لا يمكننا أن نحقق قيمة الشهادة والقيادة من دون التفاعل»[63] الذي يعد أمراً حتميًّا لا مندوحة عنه لنشر الإسلام وتوحيد المسلمين وكذا الوثوب بالعلاقات الحضارية.
وإذا كان الهدف الأساسي من هذه الدعوة التبليغ للدين الإسلامي، فمن الضروري الإشارة إلى أن الرؤية الحضارية الإسلامية لم تقضِ على الآخر، ولم تلغِ الخصوصيات الحضارية للحضارات الأخرى، وإنما أقرت التمايز الحضاري واعترفت بأن الحضارات متباينة ومختلفة {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[64]. وهذه «الفروق بين الحضارات ليست فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية.. وهذه الفروق نتاج قرون ولن تختفي سريعاً»[65]، هذا وإن الإسلام لا يفرّق بين الكيانات الحضارية من منطلقات عنصرية عرقية كانت أو دينية، وإنما على أساس احترام الهويات الثقافية والعقدية الخاصة بكل أمة، ذلك أنه وفي إطار نشره للرسالة المحمدية كرسالة كونية وعالمية أساسها التوحيد لم يعتدِ على مقومات وثوابت الآخر الحضاري سواء كانت دينية أو ثقافية. بل وقام على النقيض من ذلك بالاعتراف بالآخر والذي يظهر على المستوى الديني من خلال الاعتراف بالتعددية الثقافية، فالحضارة الإسلامية لم تقضِ على الثقافات الموجودة في شبه الجزيرة العربية، اليهودية والنصرانية والحنيفية والوثنية، بل حاورتها ووصفت تطورها التاريخي ومذاهبها وانحراف بعضها، ناهيك عن اعتراف النموذج الحضاري الإسلامي بموروثات الفكر الشرقية ( الفارسية والهندية) وكذا اليونانية القادمة إليه من الحضارات.
ولما كان الاختلاف سنة من سنن الله الكونية فإن العقيدة الإسلامية لم تتوقف عند حدود الاعتراف بتمايز واختلاف الآخر، بل وراحت تؤكد وجوب التعامل والتفاعل معه، وكترشيد لما ينبغي أن يكون عليه هذا التفاعل يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[66]. وهذه الآية إذ ترسي مسلمات الاعتراف بوجود الحضارات الأخرى تؤسس من وجه آخر لضروب التعامل مع هذه الحضارات جوهرها التعارف[67] والتفاعل بديلاً عن الصدام، فالتعارف «هو أحد أرقى المفاهيم وأكثرها قيمة وفاعلية ومن أشد وأهم ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوة لأن تكشف وتتعرف كل أمة وكل حضارة على الأمم والحضارات بلا سيطرة أو هيمنة أو إقصاء أو تدمير، والتعارف هو الذي يحقق وجود الآخر ولا يلغيه ويؤسس العلاقة والشراكة والتواصل معه»[68]، ولو شاء الله لاستخدم ألفاظاً أخرى غير التعارف كالحوار، التبادل، لكنه استعمل، وبقصد، لفظة التعارف للمعاني والدلالات التي تحملها، والتي تفضي إلى ضرورة اكتشاف الآخر ومعرفته ومن ثمة إقامة علاقات حضارية راقية معه بدلاً من التصارع والتصادم، ولو شاء الله لجعل البشر أمة واحدة، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[69]، لكنه أبى إلا أن يجعلها أمماً متمايزة لحكمة إلهية مؤداها التسابق في تدارك الخيرات والتنافس في إعمار هذه الأرض. لكن هل تنفي ضرورة التعارف هذه نهائيًّا مظاهر الصراع والتصادم مع الآخر؟
2- مظاهر الصراع الحضاري مع الآخر
إن صياغة الأمة الإسلامية لنموذج «تعارف الحضارات» و«حوارات الثقافات» في مقابل نموذج «صراع الحضارات» الذي تبناه الغرب ولا يزال[70]، لا تنكر أبداً مفهوم الصراع الذي تخلل بشكل أو بآخر الحياة السياسية والعقلية للمسلمين؛ «فالرسول (ص) دخل في كل أنواع الصراع السياسي.. في صراعه مع قريش ثم حين انتقل إلى المدينة وفي علاقاته بأبناء المدينة وباليهود في منطقة المدينة»[71]، وأثناء الفتح الإسلامي استطاعت الأمة الإسلامية كقوة عسكرية وسياسية تنامى وتعاظم دورها أن تتبوأ الصدارة بين الأمم، وأن تُحدث توجيهاً حاسماً لمجريات الأحداث في المنطقة كان من أهم مظاهر الصدام فيه المواجهة بينها وبين الحضارتين الفارسية والرومانية، وفي مرحلة متقدمة مع الحضارة الغربية من خلال الحروب الصليبية، التي «تشكل الذروة في مسعى الغرب لحد من عالمية الإسلام وانتشاره»[72]. وقد يتراءى للبعض على هذا الأساس أن الإسلام إنما انتشر بحد السيف والقوة، بيد أن الأمور تنجلي والاتهامات تقوّض بمجرد إدراك نظرة المسلمين الحضارية للصراعات السياسية والتي كان لها بعدان:
البعد الأول: داخلي وتحدده دار الإسلام (الأنا)، ويتعلق بكل من ينتمي إلى دائرة الإسلام والتوحيد بغض النظر عن أصوله العرقية أو انتماءاته الدينية، ومن أهم قراراته عدم اللجوء إلى أي قوة أو عنف ومعالجة الأمور بالطرق السلمية؛ لأن «الداخل هو الرحم والذي يمكن استثارته لمصلحة المعتدى عليه، ففئات المجتمع إذا أخذت تضرب في بعضها يشل المجتمع»[73]، ويتسرب إليه الضعف والوهن، وهو ما قاومه المجتمع الإسلامي الذي كان بحاجة إلى التماسك والوحدة لتبليغ دعوته.
البعد الثاني: خارجي وتحدده دار الحرب (الآخر): ويضم كل من يقع خارج دائرة الإسلام، وكان الرسول (ص) يحتكم فيه إلى السلم والتفاوض أولاً ليلجأ في مرحلة ثانية إلى القوة والحرب كأقصى حل، «وحين اللجوء إلى الحرب نجد أن هناك قاعدتين أساسيتين هما: رد العدوان وعدم الإسراف في استخدام القوة»[74]، أي أن الاحتكام إلى خيار الحرب لا يكون مشروعاً إلا في حالة الدفاع عن النفس {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ... فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أو لاسترجاع الحقوق المسلوبة، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}.
وهكذا تراوحت علاقات الأنا بالآخر في الاستراتيجية السياسية الإسلامية بين خيار الحوار والاحتكام إلى التفاوض من جهة وبين خيار القوة واللجوء إلى الحرب من جهة أخرى، فإذا أصر الخصوم على الصدام قوبلوا بالصدام[75] على أن يبقى الحوار الحل الأمثل دائماً.
3- منطق الحوار الحضاري
إن منطق الحوار هو منطق الفطرة البشرية إذ إن الإنسان خُلق وهو يطلب الاجتماع والتعاطي مع غيره، ومن ثمة كان إرساء لغة الانفتاح والحوار جدُّ ضروري في الحضارة الواحدة وداخل كل مجتمع لمد جسور الاتصال والتواصل بين الثقافات والحضارات واجتثاث عوامل التوتر والصدام. والأمة الإسلامية في انفتاحها على غيرها من الحضارات إنما تؤكد انتصارها لمنطق الحوار، فهي وعلى مر التاريخ أثبتت مرونتها وليونتها في التعامل مع الآخر؛ إذ استقت واستمدت من الحضارات والثقافات الأخرى ما كان مغيّباً في حضارتها، حيث إنها في التقائها مع مصادر ومنابع الآخر تجسّد أهم صور التعايش السلمي وتشيد أكبر معالم الحوار الحضاري.
ومهما يكن من أمر فإن التفاعل والحوار ظل المنهاج العملي الحقيقي الذي اعتمده النموذج الحضاري الإسلامي في رؤاه للعلاقات الحضارية، من منطلق أن الحوار المُجدي بين الحضارات والثقافات خطوة ضرورية لتجذير عرى المحبة والتعاون بين الشعوب على اختلاف ألوانها، ومحواً لاعتبارات الإثنية التي تقف أمام رسالة التعاون والسلام.
[1]* أستاذة باحثة، جامعة مستغانم، الجزائر.
محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، المؤسسة الوطنية للكتاب والدار التونسية للنشر، الجزائر - تونس، 1984، ص259.
[2] لقي مصطلح المدينة الدولة Etat-Polis اهتماماً واسعاً لدى فلاسفة الإغريق الذين تدارسوه بفيض من العناية والدقة لاسيما أرسطو الذي يعتبر الفرد جزءاً لا يتجزأ من وحدة أعم هي الجماعة والتي تشكل بدورها نسيجاً أعمق هو المدينة.
[3] عبد المجيد نجار، الاستخلاف في فقه التحضر، ضمن مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، العدد الأول، السنة الأولى، 1997، ص103.
[4] نؤكد هنا على أهمية العامل السياسي دون غيره من العوامل لما له من أهمية قصوى في صنع قرارات وتوجهات البشر ومعالجة مشاكلهم وكذا تسوية علائق أمورهم، ومصطلح السياسة Politics، مصطلح إغريقي الأصل، مشتق من لفظة المدينة بمعنى أنها ترتبط بشؤون المدينة لاسيما ما تعلق منها بتنظيم شؤون أفرادها وترتيب أمور مصالحهم .
[5] محمد شفيق شيا، الحاكم الفيلسوف عند أفلاطون والفارابي، ضمن دراسات عربية، دار الطليعة، بيروت، العدد 8، السنة الحادية والعشرون، 1985، ص 34.
[6] وجهت للطرح المركزي وبالأخص للمركزية الأوربية Eurocentrisme انتقادات حادة كانت أهم نتائجها رفض نمط التطور الأحادي انطلاقاً من أن لكل حضارة مفاهيمها ومعطياتها وكذا طريقتها الخاصة في التطور الاجتماعي، لمزيد من التفاصيل راجع: بسام الطيبي، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 1987، ص73.
[7] ماجد السامرائي، حوار مع محمود المسعدي، مجلة دراسات عربية، مرجع سابق، ص89.
[8] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مركز الإنماء القومي، بيروت، بدون طبعة، 1993، ص145.
[9] كثيرة هي نظريات التبرير التي صيغت من أجل دعم حركة الاستعمار الغربي، ومنها ما يسمى بالنظرية البيولوجية السياسية، ومضمونها أن للدول الكبرى حقًّا في التهام الدول الصغرى التي يجب أن تموت وتفنى أمام الدول الكبيرة، وتتلخص هذه النظرية أساساً فيما أكده رينان بقوله: «إن الأوروبي خلق للقيادة كما خلق الصيني للعمل في ورشة العبيد، وكلٌّ ميسر لما خلق له». ولمزيد من التفاصيل انظر: محمد محفوظ، الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1998، ص13.
[10] المرجع نفسه، ص ص 13، 15.
[11] عمدت الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وبإيعاز من مخطط العولمة الواسع إلى تعميم النموذج الغربي في الاقتصاد والسياسة والثقافة وحتى في معاملات الحياة اليومية، وذلك بغية إعادة تشكيل النظام العالمي وفق ما يتماشى مع برامجها الفكرية والمذهبية المسيطرة بغرض فرض هيمنتها على العالم أجمع. راجع: أحمد محمود صبحي، صفاء عبد السلام جعفر، في فلسفة الحضارة اليونانية، الإسلامية، الغربية، دار المعرفة الجامعية، بدون طبعة، 2003، ص321.
[12] الطرح الهيغلي بخصوص الدولة طرح مهم جدًّا أثار جدلاً واسعاً في أوساط الفلاسفة والمفكرين فهيغل لا يعني بالدولة شكلاً من أشكال النظام، تنظيماً بين التنظيمات الاجتماعية بالأساس، بل يعني بها مفهوماً منطقيًّا يركبه من خلاصة التاريخ ككل، دون الاكتفاء بنمط واحد من أنماط التجمعات السياسية الموجودة في الوقائع. انظر: عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 5، 1993، ص ص 24، 25.
[13] عصمت سيف الدولة، الإسلام والعروبة، م. د. و. ع، ط1، بيروت، 1986، ص226.
[14] بيار فرانسوا مورو، المجتمع الأهلي والحضارة، تر: سهيل القش، ضمن مجلة دراسات عربية، العدد 7، مرجع سابق، ص114.
[15] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[16] الدولة في الطرح الماركسي تعبير عن سيطرة طبقة أو طبقات اجتماعية على سائر الطبقات الأخرى، فهي تعبير عن الصراع الطبقي في المجتمع ومحصلته، نشأت في التاريخ نتيجة للانقسام الطبقي الذي طرأ على المجتمع، وهي بهذا المعنى أداة قسر وإكراه تعكس مصالح الطبقة، أو الطبقات المسيطرة في مرحلة تاريخية معينة . انظر: علي الدين هلال، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص44 وما بعدها.
[17] علي الدين هلال، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص48.
[18] لم تقف المركزية الغربية عند تقديم رؤية للعالم، بل تقدمت بمشروع سياسي على صعيد العالم، هو مشروع تجانس الإنسانية المستقبلي من خلال تعميم النموذج الغربي الذي يدعو أساساً إلى التوسع الغربي واحتلال العالم وإبادة الحضارات، راجع: عبدالله إبراهيم، المركزية الغربية (إشكالية التكون والتمركز حول الذات)، المركز الثقافي الغربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1997، ص33.
[19] المرجع نفسه، ص35.
[20] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مرجع سابق، ص208.
[21] عادل طاهر، حول الفلسفة والسياسة في فكر سعادة، الفلسفة العربية المعاصرة، مواقف ودراسات مؤتمر ف.ع.2، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، الأردن، 1988، ص278.
[22] هذا الاعتقاد هو أساس فلسفة جون لوك في الديمقراطية وهو موافق لحد كبير لرأي هوبز، ودائماً وفي السياق ذاته يؤسس روسو للديمقراطية بقوله: «إنه لا بقاء للحرية بدون المساواة». وعلى هذا الأساس المشترك أقام كل منهما (لوك وروسو) نظرية العقد الاجتماعي، وافترضا أنه انعقد بين أفراد متساوين في إرادة إنشاء المجتمع المدني. (انظر: عصمت سيف الدولة، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص57، وما بعدها. وراجع أيضاً: فرانسيس فوكوياما، مرجع سابق، ص 195).
[23] فرانسيس فوكوياما، المرجع نفسه، ص 208.
[24] أحمد عروة، الإسلام في مفترق الطرق، ترجمة عثمان أمين، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص109.
[25] صالح فيلالي، الدين والأيدولوجيا في العالم العربي والإسلامي، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة قسنطينة، عدد 8، 1997، ص103.
[26] طيبي غماري، الهوية بين الافتراضي والحقيقي تأسيساً على نموذج دوبار: هوية الأمة والهويات المحلية، ضمن مجلة كتابات معاصرة، لبنان، العدد الستون، المجلد الخامس عشر، 2006، ص77.
[27] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[28] أحمد عروة، الإسلام في مفترق الطرق، مرجع سابق، ص30.
[29] طيبي غماري، المرجع السابق، ص 77.
[30] محمد محفوظ، مرجع سابق، ص 194.
[31] أحمد عروة، مرجع سابق، ص 107.
[32] يعتبر ابن خلدون من الأوائل الذين تنبهوا إلى أهمية العامل الجغرافي على الإنسان؛ إذ يرى أن الطبيعة الجغرافية تؤثر في لونه وأحواله وأخلاقه، بل وعلى اختلاف أحوال العمران في الخصب والزرع، والتي لها بدورها آثار بالغة على أبدان البشر وأخلاقهم.
[33] محمد محفوظ، المواطنة وقضايا الانتماء الوطني، ضمن: مجلة «الكلمة»، لبنان، العدد 41، السنة العاشرة، 2003، ص148.
[34] الحضارة من حضر يحضر حضوراً حاضرة، والحضور نقيض المغيب والغيبة، وهي عكس البداوة، وهي حضور الأمصار ومساكن الديار، أي المدن العامرة. راجع: ابن منظور، لسان العرب المحيط، لبنان، دار الجيل، ط 1، 1988، ص658.
[35] Huntington Samuel , Le choc des civilisations, trad., jean Luc Fidel,Odile jacobe, Paris, 1997, P :146.
[36] Ibid, P :194.
[37] Nouveau dictionnaire pratique, Quillet, Paris, 1974, p568.
[38] صامويل هنتنغتون، الصدام بين الحضارات، ضمن صدام الحضارات، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، ط 1، 1995، ص ص 18، 19.
[39] قسطنطين زريق، في معركة الحضارة، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، ص 34.
[40] سلامة موسى، الثقافة والحضارة، ضمن مجلة الهلال، القاهرة، 1927، ص 171.
[41] صامويل هنتنغتون، الصدام بين الحضارات، ضمن صدام الحضارات، شؤون الأوسط، مرجع سابق، ص 18.
[42] محمد محفوظ، مرجع سابق، ص 138.
[43] المرجع نفسه، ص130.
[44] أرنولد توينبي، الفكر التاريخي عند الإغريق، ترجمة: لمعي المطيعي، مكتبة الأنجلومصرية، مصر، 1966، ص 17.
[45] بيار فرانسوا مورو، مرجع سابق، ص 119.
[46] يرى شبنغلر «أن الحضارات بمعناها العام تنقسم إلى قسم أول وهو الحضارة وثاني هو المدينة، ففي دور الحضارة يسود علم ما بعد الطبيعة، وفي دور المدينة يسود علم الأخلاق.. وفي الطور الأول طور الحضارة تنكشف الحياة بينما الطور الثاني -أي طور المدينة- تصبح الحياة موضوعاً..»، انظر: عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ج 1، ط1، 1984، ص 420.
[47] محمد محفوظ، مرجع سابق، ص 131.
[48] صامويل هنتنغتون، المرجع السابق، ص 20.
[49] المرجع نفسه، ص18.
[50] لقد استخدم الهلينيون كلمة برابرة لنعت الحضارات المنافسة ويتضح ذلك من خلال ترجمة الكلمة اليونانية «برابرة» والتي تعني غير الهلينيين، والتي غالباً ما تشير إلى عناصر من حضارات منافسة أو سامية. في حين قد يؤدي استخدام كلمة برابرة في الإنجليزية إلى خطأ بين إذا ما استبدلت بكلمة الشرقيين . انظر: أرنولد توينبي، مرجع سابق، ص27.
[51] المرجع نفسه، ص 140.
[52] المرجع نفسه، ص19.
[53] أوزوالد اشبنغلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة، أحمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، بيروت، ج1، 1964، ص39.
[54] جون كلود - روانو بوربلان، هل يمكن الحديث اليوم عن الحضارات، ترجمة إلياس بلكا، ضمن مجلة: «الكلمة»، مرجع سابق، ص 153.
[55] الاختلاف الجوهري بين اشبنغلر وتوينبي يتركز أساساً في نظرتهما المختلفة للتاريخ الإنساني، فالأول يرى أنه ليس للتاريخ اتجاه معين ينتهي بنشأة الحضارة، أما الثاني فيرى على النقيض من ذلك أن التاريخ يتجه إلى الأمام وبالضبط نحو التقدم والازدهار الحضاري ، المرجع نفسه، ص ص 154، 155.
[56] فوكوياما، المرجع السابق، ص ص 90، 91.
[57] جون كلود - روانو بوربلان، هل يمكن الحديث اليوم عن الحضارات، المرجع السابق، ص 153، 154.
[58] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ص 420.
[59] صامويل هنتنغتون، مرجع سابق، ص 17.
[60] المرجع نفسه، ص 19.
[61] المرجع نفسه، ص 28.
[62] أنور الجندي، الإسلام تاريخ وحضارة، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، تونس، 1984، ص 4.
[63] محمد محفوظ، مرجع سابق، ص 81.
[64] هود، الآية 118.
[65] صامويل هنتنغتون، مرجع سابق، ص 20.
[66] الحجرات، الآية 13.
[67] التعارف هو أحد الأسس التي ترتكز إليها الرؤية الحضارية الإسلامية في علاقتها بالآخر، وقد حدده القرآن منذ أزيد من 14 قرناً، أما صدام الحضارات فطرح غربي محض.
[68] زكي الميلاد، المسألة الحضارية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999، ص 336.
[69] المائدة، الآية 48.
[70] حسن حنفي، تقييم تجارب حوار الحضارات، ضمن خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات، مرجع سابق، ص 64.
[71] عبد الحميد أبو سليمان، قضية العنف رؤية إسلامية، ضمن المرجع نفسه، ص ص 178، 179.
[72] محمد محفوظ، مرجع سابق، ص 12.
[73] عبد الحميد أبو سليمان، مرجع سابق، ص 180.
[74] - المرجع نفسه، ص 183.
[75]- المرجع نفسه، ص 192.