من التأسيس والتوحّد إلى الإحراج والمساءلة التدميرية
«إن الإنتاج الاستشراقي في كلا نوعيه المادح والمنتقد كان شرًّا على المجتمع الإسلامي، لأنه ركّب في تطوره العقلي عقدة حرمان، سواء في صورة المديح والإطراء التي حوّلت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيّرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار، مجتمع ما بعد الموحدين».
مالك بن نبي القضايا الكبرى
* فاتحة
قبل مباشرة أي فعل تحليلي وتفكيكي للعلاقة التي تكوّنت بين (الـ)فلسفة والخطاب الاستشراقي تأسيساً ومساءلة لهذا التأسيس يحق للقارئ أن يوظف قلق التساؤل حول الصلة المنطقية والمعرفية الواردة بين مفردات أو حدود العنوان، تساؤل مشروع يبتدئ بفك الارتباط بين مثلث: (الـ)فلسفة، الاستشراق، التمركز.
إننا نتعامل بحذر شديد مع مقولة الفلسفة بالمعنى الكلي الشمولي، التي لا تختص بلغة أو بمعرفة أو بحضارة معينة، فهذا الشكل من أشكال التفلسف على النحو الذي تقرؤه شبكات التأويل المعاصرة قد فقد الكثير من دلالته ومفاعيله في الفهم والتأويل، بخاصة مع تراجع مقولات الأنوار وفلسفات المركزية الإنسانية والمفاهيم المتشعبة عنها كالحرية والعقلانية والذاتية، وأفرزت هذه القراءة خلاصة وجود فلسفات وليست فلسفة بالمعنى الكلي، وأقرت بتكوّن عقول كثيرة تتمايز بتمايز الظروف والإرادات وليس عقلاً له نواته المنطقية والجوهرية، وطالما أن المعنى هكذا، فإننا سنعمل على تعزيز فرضية تأطير لغة الخطاب الاستشراقي ضمن منظورية فلسفية مخصوصة تشكّلت بواكيرها المنهجية والموضوعية مع مولد فلسفة الذاتية وإفرازاتها الحداثية بمسلماتها المنظورية، أي أن الخطاب الاستشراقي الذي بنى متخيلاً مخصوصاً عن الحضارة الإسلامية والمسلمين -بشكل خاص- إنما يجد أصوله في نسق فلسفي متمركز حول ذاته، شاعر بتميزه وبتعلق الآخرين بمنتوجه المعرفي، وبإقامة فواصل معرفية وأخلاقية مع الآخر المختلف والمغاير، هذا ما أسميناه «ميتافيزيقا التمركز»، إنها ميتافيزيقا لأنها تتناسى أصولها وتحجب تاريخيتها وتجذرها في تشكيل معرفي وحضاري مخصوص، ومن هذه اليقينية الفلسفية تكوّن الخطاب الاستشراقي الذي يستند إلى منظومة قيم تكرّس هيمنة ذات الباحث وهيمنة منظوره الحضاري والعرقي.
غير أن التحولات الكبرى التي عرفتها الفلسفة والثورات المنهجية في العلوم الإنسانية بخاصة في التاريخ والأنثربولوجيا قد بدّلت آلية القراءة ومنهج الفهم في نظرتنا إلى الاستشراق، ومنذ أعلن ل. ستروس Lévi-Strauss أن الثقافة هي التي تصنع العرق وليس العرق هو الذي يصنع الثقافة تزحزحت إشكالية الاستشراق من موضعها وغادرت الأبحاث الفلسفية مناخ إشكاليته، أي صارت تتناوله كإشكال أبستمولوجي معرفي ينخرط ضمن فلسفة الذات وميتافيزيقا التمركز التي أصبحت تهمة معرفية في الدرس الفلسفي المعاصر، وبما أن لغة الخطاب الاستشراقي تكوّنت في هذه الدائرة فإن إمكانية الثورة عليه وعلى مستتبعاته موجودة في براديغم نقد الذات وتفكيك التمركز وكسر منطق الهوية والتطابق والانفتاح على أشكال اللامعقول التي تسم الخطاب الفلسفي المعاصر.
- 1-
فلسفة الذاتية باعتبارها أساساً لميتافيزيقا التمركز:
الاستشراق كلحظة تمظهر
إن المنعرج الذي أحدثه ديكارت في تاريخ الفلسفة يمتد تأثيره إلى فروع أخرى من المعرفة كالاجتماع والسياسة والاقتصاد وتدبير العلاقة مع الآخر، لذلك فالضرورة المنهجية تقتضي تخصيص الملمح الجوهري لفلسفة ديكارت وهو ملمح الذاتية بالتوصيف والتحليل، لأن مولد الذاتية بما هو مولد غربي بشكل خاص، كان قد أسهم في إنتاج ميتافيزيقا التمركز الثقافي والفصل الحضاري بتمظهراتها المتعددة.
من هنا يحق لنا أن نتساءل: كيف نفهم الديكارتية بوصفها المقوم الفلسفي المكثف لثقافة التمركز ومسوغها الأساسي؟
يذهب هيدجر إلى أن الفلسفة الديكارتية فلسفة للوعي أو للذاتية، وهي كذلك لأنها تريد تحديد كل شيء برده إلى الذات، كما قرأ ذلك هيدجر Heidegger، فمع بداية الفلسفة الحديثة تصادفنا عبارة ديكارت «أنا أفكر، إذن أنا موجود» فكل وعي بالأشياء وبالموجود في كليته، يسترد إلى الوعي الذي تكونه الذات عن نفسها باعتبارها الأساس الثابت لكل يقين.
وبهذا العمل الديكارتي تكون الذات، لأول مرة في تاريخ الميتافيزيقا قد طرحت بوصفها أنا مفكرة لها الثقة العمياء في قدراتها الطبيعية التي تمكنها من التعامل مع الأشياء باعتبارها موضوعات قابلة لأن تتمثل من حيث هي موضوعات، فظهرت بذلك تلك العلاقة التي تقابل بين الذات والموضوع، وهي علاقة متأصلة في الفكر الغربي الحديث بكليته لتتخذ أساساً لكل موضوعية أو لموضعة الظواهر[2].
«والذاتية بهذا المعنى ذات دلالة واسعة: الإنسان فرداً ونوعاً كأساس وأصل، النزعة الفردية كانعكاس لاستقلالية الفرد واختياره لمجموعة من الحقوق الأساسية، الحق في ممارسة وإعمال العقل بتشريح وتحليل كل ما يعرض على الفرد، وانتقاده بغية تقييمه أو تبريره، ومسؤولية الفرد عما يفعل لأن له إرادة مستقلة وفاعلة وحرة»[3].
ومقولة الذاتية كأساس لخطاب الحداثة تجد ضماناتها من ذاتها وليس فيضاً عن غيرها كما قرأ ذلك هيجل، لأن الحداثة لا يمكنها ولا هي تريد استلاف معياريتها من عصر آخر أو ثقافة أخرى، إنها مجبرة على أن تستمد معياريتها من ذاتها، وعندما يحلل هابرماس Habermas مبدأ الذاتية كمركب بوصفه محدداً جوهريًّا من محددات الحداثة، فإنه ينحل في رأيه إلى العناصر الآتية:
1- الفردية: وهي في العلم الحديث التفرد الخاص بشكل نهائي.
2- حق النقد: إن مبدأ العصر الحديث يطالب كل فرد بألَّا يقبل إلا ما يبدو له أمراً مبرراً أو معقولاً.
3- استقلال العمل: من خصائص العصور الحديثة إرادتها لضمان ما تقوم به.
4- الفلسفة المثالية نفسها: فمن خصائص العصور الحديثة أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تختار وعياً بذاتها، أما الأحداث التاريخية التي فرضت ولادة مبدأ الذاتية فإن هيجل يترصدها في: الإصلاح الديني الذي انتزع سلطة تأويل النص المقدس من هيمنة الرقابة الكاثوليكية، وصار الإصلاح البروتستنتي يعتبر أن قضية الإيمان قضية شخصية وليست إلزامية وإكراهية، بمعنى أن الإصلاح قام على سيادة الذات، وإبراز قدرتها على التمييز والاختيار»[4].
هذا، ويمكن النظر إلى اللحظة الكانطية باعتبارها تعبيراً هي الأخرى عن مبدأ الذاتية من خلال المشروع النقدي الذي هو إدراك للذات في صورة وعي مطلق بذاتها، تشريح لملكات الفهم وتعرّف دقيق على الذات العارفة للتمييز بين القيم المعرفية المزعومة والقيم الحقيقية، وصارت تبعاً للقراءة الكانطية دوائر الثقافة متمايزة:
- دائرة العلم: أو خلاصة التحليل المعرفي في كتاب: نقد العقل المحض: Critique de la raison Pure
- دائرة الأخلاق: أو خلاصة التحليل الأخلاقي في كتاب: نقد العقل العملي: Critique de la raison Pratique
- دائرة الفن: أو خلاصة التحليل الجمالي لملكة الذوق: Critique de la faculté de Juger
وكلها تستمد مشروعيتها من الذات الناقدة التي جعل كانط شعارها: اجرأ على استخدام فهمك الخاص، لأن هذه الجرأة هي التمثل الكانطي للتنوير بما هو خروج الإنسان عن حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها، والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر خارج قيادة الآخرين، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست غياب الفكر، وإنما انعدام القدرة على اتخاذ القرار، وفقدان الشجاعة على ممارسته دون قيادة الآخرين، لتكن لك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك، ذلك هو شعار التنوير»[5].
وإنه ليبدو على ضوء منطوق العبارات أن هذه الأوصاف المحددة لمبدأ الذاتية بدءاً باللحظة الديكارتية وصولاً إلى النسق الفلسفي الهيجلي، لا تختص بإنسان دون آخر، إنما هي مبادئ تنطبق على كل الموجودات من جهة كونها كائنات عاقلة، غير أن لحظة الانزياح من تأويل العقلانية وريثة فلسفة الذاتية باعتبارها هوية منطقية أو نواة إنسانية كلية ومشتركة، بدت أعراضها تتبدى في إرادة التأصيل لهذه العقلانية بخصوصية حضارية والبحث في التاريخ والقفز على الحقبة التاريخية السابقة، أي حقبة القرون الوسطى، ولم تجد هذه الإرادة في التأصيل سوى التراث اليوناني الذي يشع عقلانية ومنطقية وينبذ كافة أشكال التفكير اللامعقولة، والحق أن المتصفح للفكر اليوناني في منحاه الفلسفي يعثر على بعض النصوص التي تهيمن فيها لغة التراتب والتفاضل بين مصادر المعرفة وبين الإنسان والإنسان نفسه، واعتبار أن بعض أشكال الوعي زائفة على نحو نسقي، لذلك فإن البحث عن ماضٍ عريق لتأصيل التمركز في التراث اليوناني قد تماثل مع بنية الفكر والثقافة اليونانية التي تتأسس على إثبات الاختلاف وتبرير التفاضل، نعثر على هذه الحقيقة في نصوص الفلاسفة أنفسهم وبحجم أفلاطون وأرسطو، فالخطيب الأثيني «إيسوكراتيس»، يقول: «إن مدينتنا (أثينا)، سبقت حتى الآن، بقية الجنس البشري في الفكر والكلمة، بحيث أصبح تلاميذها معلمين لبقية العالم، أما أفلاطون الذي قسّم قوى النفس إلى ثلاثة أقسام: عاقلة، وغضبية، وشهوانية، فإنه استنتج منها ثلاثة أصناف من الشعوب، شعوب تمتاز بسيطرة القوة العاقلة على بقية القوى، وخص هذه الفضيلة بالشعب اليوناني، وشعوب تمتاز بسيطرة القوة الغضبية وهم الشماليون الأوروبيون، وشعوب تمتاز بسيادة القوة الشهوية وهم الفينيقيون والمصريون»[6].
إن هذه المعانقة بين الحضارة الإغريقية القديمة وحضارة الحداثة الأوروبية بالقفز من فوق العصور الوسطى -لأن هذه الأخيرة تقدم الذات كمخلوق لاهوتي- تجد لها مكوناً جوهريًّا من مكونات ثقافة التمركز، وبذوراً جنينية للتصنيف الميتافيزيقي وإحلال الثنائيات المتضادة بين الأنا والآخر، المعقول واللامعقول، الأعلى والأسفل، الحضور والغياب، النور والظلمة، وتشكيل متخيل حضاري عن المختلف والمغاير، لذلك فإن هذه الروافد الدينية والفلسفية والعرقية مؤسسات رصينة لثقافة التمركز، بما هو «نسق ثقافي محمّل بمعانٍ ثقافية (دينية، فكرية، عرقية)، تكوّنت تحت شروط تاريخية معينة، إلا أن ذلك النسق سرعان ما تعالى على بعده التاريخي، فاختزل أصوله ومقوماته، إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، ويمكن اعتبار التمركز تكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلبة، التي تنتج الذات المفكرة، ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل استناداً إلى معنى محدد للهوية، قوامه: الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل سواء باستكشاف أبعاد نفسها أو بمعرفة الآخر»[7]، وهذا التمركز ليس شكلاً واحداً وعديم المنهجية والاشتغال، إنما يتمظهر في أشكال ويتغذى على مناهج هي وليدة هذه الثقافة المتعالية ومسوغها المنهجي، ويتبدى هذا التمركز في تمركزات أخرى يمكن إحصاؤها في:
- التمركز اللاهوتي: الذي يتأسس على امتزاج الفعل الإنساني بالفعل الإلهي، ويعد البذور الأولى للتمركز على الذات.
- التمركز العقلاني أو تمركز اللوغوس Logos أي العقل الكلي، الذاتي والمؤسس، الذي ترد إليه كل معرفة ولا يمكن له هو أن يرد إلى غيره، وقد تمادى فلاسفة العقلانية منذ اللحظة الديكارتية إلى الهيجلية في بناء الأطر الميتافيزيقية لهذا التمركز العقلي.
- التمركز الصوتي: أي ذلك الذي يمنح الكلام المباشر والفكر والمدلول أسبقية على الكتابة.
- التمركز الضوئي أو الشمسي: يقوم على استعارة الضوء والظل (الظهور والخفاء)، ويقدم تاريخ الميتافيزيقا على أنه رسالة أو دراسة في الضوء، ويقدم الحقيقة على أنها شمس ساطعة.
نحن إذن إزاء تمركزات تنشد البحث عن نقطة واحدة ثابتة لا زمنية، عن أصل الحقيقة والنقاء فيما وراء التغير والصيرورة، وتُستعاد الثنائية الديكارتية التي تجري تقسيماً صلباً بين الذات والموضوع، لكن ليس في مستواها المعرفي، إنما في مستوى العلاقة بالآخر الحضاري أو الشرقي، لأن تشطير هذه العلاقة وإقامة فواصل بين الأنا والآخر يستتبع حتماً إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب التاريخية، وفي المقابل تركيب صورة في المخيال حول الآخر مشوهة.
وبخصوص الوسائل المنهجية التي جرى تطويعها لتكريس عقيدة النقاء والطهرانية والثبات، فيمكن رصد اثنين منها كان لهما بالغ الأثر في الثقافة المتمركزة على ذاتها والأخرى المتخيلة، منهج الوحدة والاستمرارية، الاطراد والمبدأ الغائي، المنهج الفيلولوجي، وهذه المناهج تستبطن همًّا حضاريًّا واحداً هو هم التأصيل لثقافة التمركز يسيِّره منطق البحث عن الشبيه والمماثل.
إن منهج الوحدة والاستمرارية يبدو لنا أنه في علاقة عضوية مع المنهج التاريخي، وبُناه التي تتأسس على الاطراد والمبدأ الغائي، ويقوم هذا المنهج على ضرورة استنباط الأنساق الداخلية التي تتحكم في الفكر وتقليص التناقضات ثم إعادة صياغته صياغة متدرجة في نظام زمني ذي غاية، و«قد ظهر هذا المنهج في فترة كان الغرب يمارس فيها، فعلين متداخلين يشكلان جوهر هويته الذاتية، أولهما: إعادة إنتاج غائية لتاريخه، بالبحث عن مقومات ثقافية ودينية وعرقية تؤصله بوصفه كياناً موحداً ومستمراً في التاريخ الإنساني، وثانيهما: اختزال العالم بالفتح والاحتلال إلى تابع ساكن وفاقد للحيوية تقتضي الضرورة التاريخية أن يخترقه الغرب ليبث فيه غاية الحياة المحكومة بسير متصل ومحتوم نحو هدف سام»[8].
هذا، ويعد هيجل من الذين طوّروا مفهوماً غائيًّا للتاريخ، يحكمه منطق خاص، تنتظم داخله الأحداث برباط واحد، تميط اللثام عن خيط خفي يتحرك في مسارها، إنه الفكرة أو الروح في الاصطلاح الهيجلي، وملمح الاختلاف عند هيجل هو إدخال تاريخ العصور الوسطى وبشكل خاص الديانة المسيحية في نسقه الفلسفي بخلاف فولتير الذي أبصر في الديانة المسيحية حليفاً قويًّا للتوحش والهمجية والتخلف، عصر جمود وظلام، إن هيجل يرى أن للدين ماهيته الخاصة التي تجد وضعها في الروح، «فالدين في عموميته يجب أن يدرك كلحظة من لحظات الروح وكتعبير، في تجلياته الخاصة، عن الثقافة التي تصل شيئاً فشيئاً إلى الوعي بذاتها، فهو من نظام الروح، وليس شيئاً طارئاً أو نافلاً أو جائزاً أو خارجاً عن نظامه، وحقائق الدين المتمثلة في القول بوجود الله، حقائق مباشرة ومقدمة لكل فلسفة دين، والإدلاء بالحجج في هذا الموضوع أمر مضحك»[9].
وبناء على هذه القراءة الجدلية التي تحكم منظومة هيجل الفلسفية، يتم إجراء تماثل بين التاريخي والمنطقي، ويصير التاريخ تبعاً لهذا معبّراً عن مسار الروح أو لحظات تمظهر العقل: في الدين رمزيًّا، وفي الفن حسيًّا، وفي الفلسفة مفهوميًّا، ويهدف هذا المسار الجدلي إلى الوعي بالحرية، ثم إن هذا الفيلسوف منح اللوغوس الغربي شكلاً نسقيًّا تشكّلت بواكيره الأولى مع الإغريق ومع الفلسفة والمدينة القديمتين وصولاً إلى الدولة الحديثة، التي هي التحقق الفلسفي للمطلق، والتجسيد الحي للمعقولية والفكرة، فكل الأفكار والثقافات -الغربية- تجد لنفسها مشروعية في هذه المخاطرة الكبرى التي ركبها هيجل، وفي مستوى الفلسفة لا توجد هناك فلسفة فندت، إن الذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل مرتبة ثانوية في فلسفة لاحقة، ويصبح مجرد لحظة من لحظاتها، وهكذا لم يضع أي مبدأ فلسفي، بل احتفظ في الفلسفة اللاحقة بكل المبادئ السابقة: ولم تتغير إلا المكانة التي تشغلها هذه المبادئ في الفلسفة اللاحقة.
نحن إذن إزاء بناء لثقافة التمركز وتأصيلها فلسفيًّا، بخاصة لحظة توظيف المنهج التاريخي لربط السابق باللاحق، ووصل الماضي بالحاضر وصلاً تفاضليًّا وغائيًّا، ومنه فإن المقولات المركزية التي طورها النسق الهيجلي كما يقول: هنري لوفيفر:
أ - التناهي: (Finitude)، أي أن السيرورة معينة ومحددة، حدود ملازمة لشروط ما يولد في داخل الحركة.
ب- الغائية: أي الاتجاه، والمعنى (مزدوج: موضوعي و/ أو ذاتي)، وجهة أو مصير يعلن عنه، صيرورة يمكن التنبؤ بها ومع ذلك مفاجئة، باختصار معقولية وراء المصادفات السطحية.
ج- إنجاز: كمال وفقاً لنموذج الفن، (إنجاز وكمال يتطابقان مع الطبيعة، أو مع ماهية الشيء، وإذن أشكال متطابقة مع مضمونها.
من ناحية أخرى، فإن منطوق العبارة الهيجلية، يسعى إلى الانفتاح على المختلف والمغاير توسلاً بالجدل، لأن التفكير غير الجدلي هو الذي سيظل يقيم التعارض بين ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني، في حين تتأسس القراءة الجدلية على تحريك العقل تجاه ما هو غريب عن كيانه، نحو الآخر، إلا أن هذه المقدمة تتناقض مع نتيجتها لأن الآخر يتم إرجاعه إلى المماثل (Le même)، ويعني من جهة أخرى اختراق مناطق من الوجود لم تكن الفلسفة ترتادها بحسب تأويلية كوجيف، وهي: الخبث السياسي، فضائل الإبادات وأشكال العنف، وبصورة موجزة الأصل اللاعقلاني لما هو عقلاني.ولا تعلّق لها بالآخر الحضاري والشرقي منه بشكل خاص.
ويمكن رصد نموذجين من النماذج التي كانت تتأسس على هذا المنظور، أي منظور التمركز الثقافي، باستلهام الخصوصية الثقافية وإرادة التأصيل العقلاني، ووصم الثقافة الإسلامية في شكلها الفلسفي بالتقليد ومنافاة الروح الفلسفية، أكثر من هذا أن الروح الإسلامية لم تقدر حتى على فهم الثقافة اليونانية فهماً عميقاً، ولم يكن عند واحد من المشتغلين بالفلسفة اليونانية من المسلمين روح فلسفية بالمعنى الصحيح، وإلا لهضموا هذه الفلسفة وتمثلوها واندفعوا إلى الإنتاج الفلسفي فيها، وأوجدوا فلسفة جديدة، شاؤوا ذلك أو لم يشاؤوا مثلما قرّر ذلك عبد الرحمن بدوي، هذان النموذجان هما: أرنست رينان، وتنمان Tennemann [10]. لأنهما من المشتغلين في حقل الفلسفة الإسلامية، والمهتمين بها دراسةً وتحقيقاً.
بالنسبة إلى أرنست رينان Ernest renen ونزعته الفكرية العقلانية والوضعية، فإنه يجمع روافد فكرية متشعبة، «فلقد تأثر بفيكتور كوزان، الداعي إلى الانتقاء بين المذاهب المختلفة، وبهردر فيما يتصل بتطور الإنسانية، وبهيجل في ديالكتيكه الجامع بين الآراء المتعارضة في المشكلة الواحدة، ونزعة الشك الكاره لكل تقرير جازم دوجماطيقي، مما جعله يكثر من الفروض المتعارضة لتفسير الأمر الواحد[11].
وإنه ليبدو أن نقد رينان للمسيحية وتأثره الواضح بالقراءات النقدية التي قام بها الفلاسفة الألمان، منهم فويرباخ، وديفيد شتراوس في كتابه «حياة المسيح»، التي خلصوا فيها إلى إنسانية المسيح وأنسنة النصوص الدينية، قد جعلته يقرأ التراث الفلسفي العربي الإسلامي بنظاراته السابقة، فتحت هيمنة ثقافة التمركز العقلي والتعصب العرقي قسّم رينان البشر إلى ساميين وآريين، وقرر في الوقت نفسه تفوّق الجنس الآري بخاصة في مجال الفلسفة كما في مجالات أخرى، يقول رينان: «ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس الآري دروساً فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها، لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباساً صرفاً جديباً وتقليديًّا للفلسفة اليونانية»، ومن هنا يؤكد «أنه من الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني أن نطلق على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ «فلسفة عربية»، مع أنه لم يظهر لهذه الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مقدمات، فكل ما في الأمر أنها مكتوبة بحروف عربية، ثم هي لم تزدهر إلا في النواحي النائية عن بلاد العرب، مثل أسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم أهلها من غير الساميين»[12].
وطالما أن الأصالة والفرادة والإبداع تختص بها الأجناس الآرية فإنه لا حظ للفلسفة الإسلامية من هذا الإبداع، لأن الجنس السامي له تركيبة عقلية ونفسية مخصوصة لا تقوى على التأمل والتفكير العميق، أو أنها فكر تجزيئي وذرّي، يدرك الأشياء في تشتتها دون تحصيل القدرة على تركيبها أو إعادة بنائها.
وينخرط في هذا السياق التقييمي للإنتاج الفلسفي الإسلامي أيضاً، المستشرق الألماني تنمان Tennemann، المتوفى في سنة 1819، فقد أبصر هو الآخر عدة عقبات أعاقت التأمل الفلسفي عند العرب:
- كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر.
- حزب أهل السنة وهو حزب مستمسك بالنصوص.
- أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطاناً مستبداً على عقولهم.
- ما في طبيعتهم القومية من ميل طبيعي إلى التأثر بالأوهام[13].
وكما هو ملاحظ من هذه الأحكام، أنها لا تختلف كثيراً عن سابقتها، أي تلك التي قال بها رينان، فكلاهما يقف على أرض واحدة هي أرض النموذج المعرفي بمعناه العقلاني، الذي لا يقر إلا بسلطان العقل في الحكم على الأشياء، نافياً الدين إلى دائرة اللامعقول. والحقيقة أن هذه التحليلات هي ملمح جوهري من ملامح ميتافيزيقا التمركز وسماته الملازمة.
والأمر لا يختلف كثيراً، إذا ما عرّجنا على المنظورات التي قرأت التراث الفلسفي في المغرب الإسلامي، أو بعبارة سالم يفوت: الاستشراق الإسباني، الذي لا نقاربه من زاوية الحقد أو الانتقام التاريخي، أو الحط من قيمة العقل الفلسفي المغربي الذي أنتج ابن رشد وابن مسرة وابن حزم وابن باجة، إنما نقاربه من خلال دورانه في إطار ثقافة التمركز وميتافيزيقا التفاضل، لكن خصوصية هذا الخطاب الاستشراقي الإسباني هو أنه استعار نظريات البيولوجيا بخاصة أفكار اختلاف الطبائع وتباين الأمزجة.
تبتدئ المقاربة الإسبانية في نظرتها إلى الوجود الإسلامي في إسبانيا على أنه وجود مباغت ومعطل للصيرورة الغربية نحو التحضر، أخرجتها من دائرة التاريخ وقتياً، ورغم هذا الوجود في الأندلس إلا أنه لم يغيّر من الخصائص الثقافية، ولم يمارس أي تأثير ثقافي أو عرقي. واعتماداً على نظرية الطبائع في التاريخ وتأسيس الفكر على العرق، رأى عالم التاريخ الإسباني والأندلسي في العصر الوسيط، كلوديو سانشيت ألبرنت (المولود سنة 1898)، أن ملامح الجدة والنبوغ التي طبعت فكر بعض المسلمين في الأندلس، «مصدرها انتساب هؤلاء الأخيرين إلى السلالة الإسبانية، التي تحمل من الخصائص ما جعل المنحدرين منها، يظهرون عن عبقرية لا نظير لها، فمفكروا الأندلس قاطبة «قمم إسبانية» بلغوا تلك المرتبة لأنهم كانوا إسبانيين، وتاريخ إسبانيا حتى في العهد العربي، تاريخ قد صنعه أبناؤها، نظراً لقلة عدد الفاتحين العرب أو البربر، وهي قلة كان من المتعذر عليها أن تغيّر من الشعب الأبيري وتركيبه الاجتماعي والدموي»[14].
يبدو لنا إذن الهدف الذي يراد الوصول إليه واضحاً: التأكيد على إسبانية مفكري الأندلس، وسريان الدم الإسباني في عروقهم. وتتعاضد مع هذه الخلاصة ما صرّح به أهل الأندلس أنفسهم ومن فضلها عليهم، والاعتزاز بالانتساب إليها، فابن حزم الأندلسي له رسالة تحمل كلمة الأندلس عنواناً: «فضل الأندلس وذكر رجالها»، لذلك وجد هذا الخطاب مبرراً لقراءته من داخل الدائرة الثقافية الإسلامية الأندلسية.
ومن العيِّنات والشواهد المعرفية التي يسوقها الخطاب الاستشراقي الإسباني للتدليل على أحكامه مثلاً، أن كتاب ابن حزم الأندلسي «طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف» يعكس حقيقة الحب العذري والعاطفة الرقيقة التي تختص بها الثقافة الأوروبية، بعيداً عن تمجيد الجمال المحسوس والمثير الذي يطبع لغة العاطفة العربية، فابن حزم هو في منظور دوزي -الذي اكتشف المخطوط- في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا، هو أكثر عفة بل أكثر مسيحية، وأنه لم يفقد طريقة التفكير لجنسه والشعور الذاتي بذلك.
نحن إذن إزاء خطاب استشراقي إسباني يستعيد الأطروحة ذاتها التي بدأت مع ظاهرة الاستشراق نفسه والقائمة على تفسير التاريخ والملامح الفكرية بالعقليات والأمزجة والطبائع، قسّمت البشر إلى ثنائية مختلفة ومتفاضلة من حيث القيمة وفق نظم تراتبية وأنساق فكرية وعقلية نتجت عنها معايير إقصائية للآخر وثقافته.
وما نخلص إليه من هذا كله أن لغة الخطاب الاستشراقي هي وريثة الثقافة النظرية التي تأسس عليها خطاب التمركز أكثر من خضوعها لإرادة الباحثين ورغبتهم واختياراتهم الأيديولوجية المبيتة، لذلك فإن الاستشراق ليس وليد ظروف تاريخية محددة، ولم يكن إفرازاً لحاجات ومصالح غربية متصاعدة وضاغطة بقدر» ما كان إفرازاً... طبيعيًّا لعقل ميتافيزيقي متمركز على ذاته، همه الأساس إنتاج الآخر وفق صور رغبوية ومتخيلة، تعتريها تشوهات الإحالة والفصل والمعايير الميتافيزيقية التي وسمت مجمل تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية الغربية»[15].
هكذا نقرأ في ميتافيزيقا الاستشراق علامة على الحضور المكثف والعريض لفلسفة الذاتية التي طوّرها ديكارت، لذلك فالفلسفة التي بدأت بواكيرها الأولى مع ديكارت انتهاء بهيجل هي في مقاصدها تأصيل لثقافة التمركز التي تداخل فيها هم التحرر بهم السيطرة، وإبراز الذات الغربية في قوتها وسطوتها ورسم صورة مشوهة لثقافة الآخر الشرقي واحتقار ثقافته ولغته وديانته ووجوده، ومن منظورنا فإننا نبصر في هذا التراث الثقافي الذي نما وتشوّه في رحم الديكارتية أنه امتداد تحليلي للمعادلة التي صاغها ديكارت على النحو التالي:
أن تفهم أو أن تعرف: أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه، لكن من أجل السيطرة عليه فإنه ينبغي البدء بالمعرفة أولاً، لكن لن تستطيع أن تعرف أو تفهم الشيء إلا بشرط أساسي هو أن تتأهب من أجل السيطرة عليه.
- 2 -
انزياحات الهوية المركزية:
أو الفلسفة ولحظة المساءلة المضادة
إن انبثاق شبكات جديدة في القراءة بخاصة قراءة التراث المعرفي الغربي وما طوّره من متخيل حول الآخر، استتبع معه تراجع مقولات الوعي والذات، والاستشراق الذي بدا وكأنه نتاج لهذه الثقافة المتمركزة حول ذاتها أكثر من انبنائه على الموضوعية وإرادة المعرفة ونشدان المطابقة.
لقد تزعزعت الثقة بأسس الاستشراق ومعاييره التي جرى تشخيصها سابقاً، وأصبح ينظر إليه على أنه نتاج فلسفة الذات الحديثة التي أصبحت الثقافة المابعدحداثية ملمحاً جوهريًّا على نقضها وتفكيكها، ومن أخص أوصاف المسالك الجديدة في التفكير والتنظير «فقدان الثقة بالنظريات الكلية والأنساق المغلقة، والأنظمة الصارمة، إنها رفض للمنطق الكلاسيكي القائم على أحادية المعنى وإمبريالية التصور، وهيمنة الوعي وسيادة الذات، وسلطة الأصل، من أجل النظر إلى الحقيقة من منظار نسبيتها وجزئيتها واحتماليتها ومن أجل فتح المعنى على كل ما هو مختلف وضد وهامشي ومنفي»[16]، وفتح المعنى على الآخر والهامشي والضد قد أوقع الخطاب الاستشراقي بما هو خطاب متمظهر لثقافة أوسع منه هي ثقافة التمركز في إحراج بالمعنى الأخلاقي والمعرفي، يشبه إلى حد بعيد الإحراج الذي شخّصه إدوارد سعيد في مقاربته المشهورة حول الخطاب الاستشراقي، والكشف عن سلطته وألاعيبه في إخفاء ذاته ومنظوريته، «لأن الاستشراق من حيث الموضوع ليس سوى إحدى نتائج فلسفة الذات الحديثة، وأن إمكانية التمرد عليه ونقده متوفرة في تقليد براديغم الذات... والإحراج الثاني الذي شخّصه إ. سعيد أن المعرفة بالإنسان بعامة وبالإنسان «الآخر» بخاصة، هي إرادة سلطة وليست رغبة في الموضوعية»[17]، أي أن معرفة الآخر في نهاية الأمر وفي التحليل الآخر إرادة سلطة وليست رغبة في الموضوعية.
وقد مهّد الأرضية لنشأة هذا الخطاب المضاد لثقافة التمركز خطاب آخر ينذر بفشل مشروع الحداثة وبتصدع وانهيار جميع القيم التي يقوم عليها، وفي مقدمة ذلك الإنسان صاحب الوعي والتحرر، العقل والعقلانية المتحررة، التاريخ والتقدم والإمكانات الواعية للتحرر، ويمكن رصد جملة من المحددات التي فكّكت خطاب التمركز وأفضلية بشرية مخصوصة، أو تفوّق ثقافة محددة. الأمر الذي ألقى بتأثيره على لغة الخطاب الاستشراقي، وفضح -بالمعنى الفلسفي- ألاعيبه في إخفاء ذاته وسلطته، ومن ثمة تصدع الضمانات التي كانت تعطي أولوية للذات العارفة في مقابل موضوع المعرفة.
- 3 -
الممهدات المعرفية لتكوّن المساءلة المضادة حول خطاب الاستشراق
(1-3) القراءة الجينيالوجية للقيم الثقافية الغربية
تتأسس المقاربة الجينيالوجية في منظورها العام على رصد مختلف الظواهر الثقافية من زاوية التتبع التاريخي والعرض المتسلسل لظهورها ونشأتها وتطورها، والغاية من كل هذا هي إما الرغبة في تبريرها وإضفاء طابع المعقولية والمشروعية عليها، وإما انتقادها وإبراز ظرفيتها وطبيعتها النسبية بغاية الحط من القيمة المعطاة لها، أما المنظور الأول فقد أصبح كلاسيكيًّا في حين أن الثاني هو ما صار يسم المنظورات الحديثة في الفهم والتأويل، ويعد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Nietzsche المطوّر الفعلي لطريقة من المساءلة يتداخل فيها عنصران معرفيان: هما التاريخ وفلسفة القيم، فالتاريخ يوقفنا على منابع المعنى والتأويل والقيم تحكم على أصول الأشياء من زاوية نبلها وخساستها، إثباتها أم نفيها، والباقي يتفرّع من هذا. لقد توجّهت مطارق النقد النيتشوي إلى قيم الثقافة الغربية التي يحشرها نيتشه تحت مسمى واحد هو: ثقافة الانحطاط، الفلسفة بما هي انحطاط، الأخلاق بما هي انحطاط، الدين بما هو انحطاط، الفن بما هو انحطاط السياسة بما هي انحطاط، أي أن الثقافة الغربية في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير ثقافة انحطاط. وتعد اللحظة النيتشوية في مساءلة الحداثة وقيمها لحظة منعرج نوعي وخطير، فهو نوعي لأن أداة الهدم هي القيم وليس العقل الذي جرى تمجيده وتقديسه، وخطير لأنه يرى أن أسس الثقافة الغربية التي جرى التعالي بالانتماء إليها أسسها واهية ويدعو إلى البداية من الصفر، إنها نوع من الإحساس المبكر بعدمية القيم، فالثقافة الغربية هي ثقافة متاهة، يستوجب النظر إلى قيمها لا بما تريد قوله أو تفصح عنه، بل تشخيصها كأعراض تحيل على مرض أصاب الحداثة، وعلى شيخوخة وفقر روحي صار يسم الإنسان الأخير، «إن اسم هذا الفيلسوف مرتبط بنقد جذري للدين والفلسفة والعلم والأخلاق، لقد قام هيجل بمحاولة جبارة لفهم تاريخ الروح برمته على شكل تطور أعيد التفكير في جميع مراحله، وينبغي أن تقدر كلًّا حسب قانونها الخاص، وقد ظن أنه يستطيع الإجابة في اتجاه إيجابي من تاريخ الإنسانية الأوروبية. أما نيتشه فإنه يواجه الماضي، على العكس، برفض قاطع لا تهاون فيه، فهو يرفض كل نقل ويدعو إلى ارتداد جذري، إن الإنسان الأوروبي يصل مع نيتشه إلى مفترق طرق.... والتاريخ الذي جرى تمجيده هو في نظر نيتشه لا يعدو كونه تاريخ ضلال دام طويلاً وهو يشن عليه حرباً عنيفة في هوى لا يعرف حدًّا»[18].
إن نيتشه يبصر خلف عناصر الثقافة الغربية إرادة قوة وليس رغبة في المعرفة، والوجود هو إرادة قوة، وأن ليس ثمة حقائق؛ هناك تأويلات فحسب، وبخصوص العقلانية التي طالما وظَّفها الخطاب الاستشراقي لوصف الشرق باللاعقلانية فهي من منظور نيتشه أكبر أكذوبة روّج لها الفلاسفة، فالمفاهيم الفلسفية التي ركّبها الفلاسفة من عقولهم هي علامة على فقر الحياة، والهرب من الصيرورة، والغائب الأكبر هو الحس التاريخي؛ يقول نيتشه: «ستسألونني عن كل ما يتعلق لدى الفلاسفة بالمزاج. إنه مثلاً غياب الحس التاريخي لديهم، حقدهم على فكرة الصيرورة نفسها. «مصريتهم»... كل ما دبّره الفلاسفة منذ ألفيات لم يكن سوى موميات أفكار، لا شيء حقيقي خرج حيًّا من بين أيديهم... تتأسس نظرتهم على أن ما هو كائن لا يصير، ما يصير غير كائن، ومع ذلك يؤمنون جميعاً وبقوة اليأس بالكينونة»[19].
لذلك وصف نيتشه الثقافة الغربية بأنها ثقافة قمعية، تقمع حيوية الغرائز وتدفقها ولا عقلانيتها، وعمل على إحياء أسطورة الإله الغائب ديونيسيوس، فالثقافة الغربية تغط في ليل غياب الآلهة منذ أن اتخذت الميتافيزيقا نموذجاً في التفكير في العالم والأشياء، ومستسلماً للسيطرة العدمية التي يمارسها العقل المتمركز على الذات، وبخصوص قراءته لأزمة الإنسان الغربي الحديث الذي طوّر الخطاب الاستشراقي حوله صورة خيالية. يرى نيتشه أن عيب كل الفلاسفة المحدثين، هو كونهم ينطلقون من الإنسان الحالي، ويتخيّلون أنهم قد بلغوا الهدف من خلال تحليلهم له؛ بشكل غامض يتخيّلون الإنسان دون أن يقصدوا ذلك، وكأنه حقيقة خالدة، يتخيلونه واقعاً ثابتاً وسط دوامة الكل. لكن الحقيقة ليست بمثل هذا الاعتقاد، لأن ما يذكره الفلاسفة عن الإنسان ليس سوى شهادة حول إنسان فترة زمنية جدُّ محدودة.
فهناك عند الفلاسفة إذن ما يمكن تسميته «وراثة تفسيرية»، فالنماذج التي من خلالها ينطلقون لتشييد صرح الإنسان هي من الناحية الزمنية تنتمي إلى إنسان الأربعة آلاف سنة الأخيرة، أي بما معناه نتاج ظروف تاريخية، وعوامل سياسية، وعادات وأديان، هذه هي الحقيقة التي لا يريد الفلاسفة أن يفهموها، أن الإنسان نتاج صيرورة، وخطيئة هذه الوراثة التفسيرية كما تناولها الفلاسفة سببها الرئيس: هو غياب الحس التاريخي «le Sense historique» إن خطيئة الفلاسفة هي غياب الحس التاريخي، ذلك أن كثيرين منهم ودون أن ينتبهوا لذلك، يعتبرون صورة الإنسان الأخيرة، مثلما شكّلتها تأثيرات بعض الديانات، بل بعض الأحداث السياسية هي الشكل الثابت الذي منه ينبغي أن يكون المنطلق.
وما ينتج عن هذا التصور، كإطار نظري هو إعادة النظر حول واقع الإنسان كما هو موجود، وما إثارة نيتشه للتساؤلات حول إنسان الفترة الزمنية المتأخرة، سوى لرغبته في تغييره، والكشف عن العناصر الفاعلة في بنائه وتكوينه، من هذا المنطلق فالإنسان الذي يريده نيتشه ليس الإنسان كما هو موجود في التاريخ، إنما هو نمط آخر من الإنسان يتجه من خلاله إلى المستقبل. وتبلغ الثورة النيتشوية أوجها على قيم الثقافة الغربية حينما يتم إجراء مقابلة بين الثقافة الغربية بمكوناتها الثلاثة: الثقافة اليونانية الحاقدة على الغريزة، الثقافة اليهودية الحاقدة هي الأخرى على قيم النبل والتميز، الثقافة المسيحية النافية لرحابة الحياة وجمالية الجسد، وبين الثقافة اليونانية السابقة على سقراط والثقافة الإسلامية، وسنركز بشكل خاص على الثقافة الإسلامية التي وصفها رينان بالعقم الفكري والتبلد الذهني، إن المقابلة النيتشوية للديانة المسيحية بالديانة الإسلامية واضح وجلي وفي نصوص صريحة، يقول نيتشه: «إن الإسلام لدى احتقاره المسيحية يملك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك، إذ الإسلام يتطلب الرجال.
لقد حرمتنا المسيحية من مجاني الحضارة القديمة وفيما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام.
العالم الغرائبي لحضارة العرب في إسبانيا، والذي هو في الأساس أكثر قرباً إلينا من روما واليونان، والذي يتناسب أكثر مع ذوقنا وشعورنا، لقد غُمر ولست أقول بأية أقدام، لماذا؟ لأنه صدر، لأنه دان بمولده لغرائز الرجولة، لأنه أكد الحياة بما فيه من الغنى النادر والمهذب للحياة الأندلسية. الصليبيون حاربوا في زمن آخر ضد أمر كان عليهم أن يرتموا أمامه فوق التراب. حضارة تجاهلها حتى قرننا التاسع عشر، يبدو بالغ الفقر، بالغ التأخر. طبعاً الصليبيون تطلعوا للقيام بتمرد والشرق كان غنياً»[20].
وقد بيَّن هابرماس Habermas في كتابه «الخطاب الفلسفي للحداثة» Le discours philosophique de la modernité، كيف أن النص النيتشوي يحتوي على إمكانات النقد الجذري لمعقولية الأنوار، والمقولات الملازمة له من قبيل العقلانية التأملية، والنزعة الإنسانية، والممارسة السياسية، «حيث تواصل النقد النيتشوي في اتجاهين: الباحث المتشكك الذي يسعى إلى الكشف عن انحراف إرادة القوة، وثورة القوى الارتكاسية، وتكوين العقل المتمركز على الذات، بتوظيف مناهج الأنثربولوجيا وعلم النفس والتاريخ، ذلك ما نجده لدى باطاي ولاكان وفوكو، ومن جهة أخرى الناقد المتمرس بالميتافيزيقا الذي يدعي معرفة خاصة ويتتبع مسار فلسفة الذات حتى أصولها ما قبل السقراطية، ونجد في هذا الخط أمثال هيدجر ودريدا»[21].
(2-3) المقاربة الأركيولوجية للعلوم الإنسانية
يعد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو M. Foucoult واحداً من بين الذين خرجوا من تحت عباءة نيتشه، ومن الذين أنجبهم النسل الفلسفي النيتشوي، يظهر لنا ذلك من ناحيتين:
- من ناحية المناخ الإشكالي الذي دشّن فيه فوكو فضاءً تأويليًّا جديداً، أين تم إدخال العقل إلى مناطق جديدة للتفكير كانت مرذولة أو مهمشة من قبل، فالمتصفح لهذه المناطق بعمق وربط يدرك أنها المواضيع التي سبق لنيتشه وأن اقترح التأريخ لها: كالحب والشهوة، والوعي، والشفقة، والقساوة وتاريخ مقارن للعقوبة، وتاريخ العقوبات.
- من ناحية الجهاز المفاهيمي وأدوات التحليل: فلقد أدرك فوكو الأصل كميلاد ومنبع، ولحظة تقفز بها القوى فوق المسرح، بفجواتها ومراتبها، وبعضها فوق بعض، فجينيالوجيا نيتشه تتواصل في شكل أركيولوجيا تقيم قطيعة حاسمة مع سمات الانفصالية والجوهرانية، التي طبعت التاريخ الكلاسيكي، فهي تقويض لكل الصور الجميلة التي رسختها الميتافيزيقا عن سيادة الذات الواعية، وعن مثل الخير كالثبات والتجرد.
وبالتالي فالدرس الأساسي الذي استخلصه فوكو من جينيالوجيا نيتشه، هو الربط بين تاريخية المفاهيم وتاريخية العقل بتاريخ الجسد، أي الكشف عن الجذور المعيارية، للمقولات العقلية، والدوافع النفعية والحيوية حتى أكثرها إيغالاً في الصورية والتجريد أو بعبارة جامعة: إنشاء تاريخ للجسد في مقابل فينمونولوجيا للعقل.
فمقولات سيادة الذات الواعية وحريتها، وموضوعية الحقيقة ونقاء المعرفة، ورصد الوحدات الثابتة للتاريخ، هي من منظورات المقاربة الأركيولوجية أمنيات جميلة تسلّت بها ثقافة العقلانية ردحاً من الزمن، إن الحركة المضادة هي كتابة التواريخ المهمشة، والكشف عن الخلفيات القبلية التي أسهمت في إنتاج المعرفة ومنحتها مشروعيتها، يقول فوكو: «إن مثل هذا التحليل... لا ينهض من تاريخ الأفكار والعلوم، فهو بالأحرى دراسة تسعى لتكشف ما هو المنطلق الذي جعل المعارف والنظريات ممكنة، ووفقاً لأي حيّز تنظيمي تكوّنت المعرفة، وعلى أية قبلية تاريخية... ظهرت أفكار وتكوّنت علوم وظهرت وتآلفت تجارب،... لا تلبث حتى تنحل وتتلاشى ربما في وقت قريب». إن خطورة هذا النص تكمن في وصل الأنظمة المعرفية بحيز الممارسة وبالتساوق مع الرغبة والإرادة، ومصطلح القبلي الوارد في النص قد تبدلت دلالته الأصلية أي تلك التي ابتكرها فيها كانط، لأن القبلي الكانطي موصول بالنشاط المعرفي للذات المفكرة ولا علاقة له بالواقع الحسي، فهو يبرهن ويشرّع ويقرّر، ويعكس بذلك تعاليه transcendance وشموليته universalité وضروريته nécessité، غير أن دلالة فوكو البديلة هي القيام بعكس المعادلة الكانطية ليرتد القبلي إلى نظام الواقع وسيرورة الحركة المعاشة ليباشر بحثاً تاريخيًّا هدفه تقويض أسطورة التقدم والتطور الخطي للوعي الغربي، إن فوكو يعوّض مفهوم الاتصال الدال على سيرورة الأحداث وتواصلها وترابطها بمفهوم الانفصال الذي هو وحدة تحليل فعّالة لوصف تشتت الأحداث وتبعثرها، «فالتاريخ من هذا المنظور، لا يرتد إلى جملة الأحداث المتصلة والمتواصلة نحو هدف أو غاية معينة ويحمل في طياته بوادر التطور وتقدم الوعي البشري، وإنما يصبح نشاطاً عمليًّا يهدف إلى تحليل السلاسل الزمنية ووصف الخطابات في صورتها المبعثرة والمنفصلة،... وهذا القبلي لا ينفلت عن التاريخية، فهو لا يؤسس وراء الأحداث بنية زمنية وإنما يتحدد على أساس أنه جملة من القواعد التي تميز ممارسة خطابية»[22].
لذلك، فإن بناء النظريات وتشكيل المفاهيم، وصياغة الموضوعات تخضع كلها لنظام الممارسة الخطابية، التي لاترد إلى نقطة خارجها أو إلى نظام متعالٍ، إنما هي محايثة للمجال والمواقع التي يشغلها الأفراد للتعبير عن منطوق معين، أما القواعد التي تميّز الخطاب كممارسة فيمكن رصدها في:
- تشكّل الموضوعات، تشكّل المنطوقات، تشكّل المفاهيم، تشكّل الاستراتيجيات، والوصف الحفري أو المنهج الأركيولوجي وظيفته وصف قواعد تشكّل الخطاب في فترة تاريخية مخصوصة، وخلف كل تشكيلة خطابية ترقد منظومة معرفية هي الإبستيمي pistéméé، «والمنظومة المعرفية هي أرضية فكرية وبنية عقلية تحتيتين تؤسسان كل أشكال المعرفة (حول الإنسان) في فترة زمنية معينة وجدول مفهومي يشكّل القبلي التاريخي كشكل تأريخي للقوالب النظرية الكانطية»[23].
إن هذه المنظومة المعرفية أشبه بالجبرية التي تمارس هيمنتها في فترة تاريخية معينة وبشبكة من العلاقات بين المعارف والعلوم، وتحدد طريقة إدراك الأشياء وتأويل الظواهر، كما أن الانتقال من منظومة معرفية إلى أخرى لا تحكمها علاقة منطقية سببية، فهي أشبه بالطفرات البيولوجية التي تظهر فجأة وتختفي فجأة أخرى، والمعرفة التي تسود هي نتاج للمنظومة المعرفية المهيمنة ولا تمتلك الصدق في ذاتها أبداً.
وإلى جانب سطوة أنظمة المعرفة في المنظورية إلى العالم هناك عامل آخر يسميه فوكو «إكراه اللغة»، فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي أولاً وقبل كل شيء نظام عام ومستقل يتكلم من خلاله الأفراد ويحدد تصوراتهم ورؤاهم للأشياء والعالم بشكل غير واعٍ. ويشدد فوكو على مدى الترابط الحاصل بين المعرفة بمعناها المجرد والسلطة، وأن لعبة الإرادات والصراع هي المحددة للمعنى وليس العقل أو التاريخ، فالإصغاء للتاريخ بدل الثقة في الميتافيزيقا ينتهي حتماً إلى تقويض أولوية الأصول والحقائق الثابتة، إنه يسعى إلى القضاء على مذاهب التطور والتقدم، ولحظة ما يلغي المعاني المثالية والحقائق الأزلية يلاحظ لعبة الإرادات، ففي كل مكان ينظر إليه لا يرى سوى خضوع وهيمنة وصراعات، والباحث الأركيولوجي ينظر إلى الأحداث كموازين قوى تظهر على سطح الأحداث والتيارات التاريخية والتاريخ. يقول فوكو: «لا تحاولوا أن تمتلكوا حقيقة ثابتة أو السلطة عينها،كما لوكانت هذه أو تلك نتيجة حوافز سيكولوجية، إنما تفحصونها بالأحرى كاستراتيجية وسترون آثار الهيمنة الناجمة عن السلطة،... سترون أننا نكشف فيها عن شبكة علاقات متوترة باستمرار وناشطة باستمرار أكثر منه عن امتياز يمكن امتلاكه».
وفي كتاباته التأسيسية الأولى التي يعد كتاب (تاريخ الجنون) مدشناً لها، يشخّص فوكو الوجه الآخر للعقل أي الجنون الذي جرى تهميشه ونفيه، هذا التهميش والنفي الداخلي هو البوابة التي أدّت بالثقافة الأوروبية إلى نفي وتهميش الآخر الشرقي.
إن حفريات فوكو تكشف عن مدى النفي الذي مارسته الذات الأوروبية على نفسها باستبعادها المريض والمستضعف، والمنحرف والمجنون، وهذا النفي الموجّه صوب الداخل هو وجه متمم لنفي موجه صوب الخارج، ونعني به نفي الغير، أي نفي كل ما ليس بغربي، نفي الوحشي والزنجي، والشرقي وغير الشرقي.
وقياساً على هذه المقولات فإن خطاب الاستشراق ينخرط أولاً في إبستيمي عصره الذي لديه سطوته المعرفية الخاصة، وموضوعه ومنطوقه ومفاهيمه واستراتيجيته الخاصة أيضاً، أي قواعد خطابه التي يتشكل منها وشروط إمكانه وقبليته التاريخية ونهايته التي قد وصل إليها، هذا فضلاً عن أنه إرادة سلطة وليس رغبة في الموضوعية.
ومن أهم النتائج التي أفرزها وصل سطوة المنظومة المعرفية على الثقافة الغربية:
- النظر إلى التاريخ العلمي ليس انطلاقاً من اعتباره تاريخاً لنمو الحقيقة أو تطور قيم معينة كالموضوعية والتقدم، بل النظر إلى تاريخ المعرفة كأنماط تتعاقب على بعضها دون رابط معقول ودون قصد أو غائية، فتاريخ الأنظمة المعرفية هو تاريخ الانقطاعات والانزياحات والانفصالات التي تستبطن صدف الصراع وإرادات القوى.
- رفض التمييز بين مقولات العلم واللاعلم أو الحقيقة واللاحقيقة، واعتبار أن ذلك متوقف على مراجعة المعارف وتنقيحها وتعديلها، وتصحيحها بقدر ما تتعلق بتنظيم معين للخطابات المعرفية في فترة تاريخية معينة بواسطة اللغة. وستتغير استراتيجية التفكير إذا ما استفرغ إبستيمي ما حمولته واستنفذ وسائل نظره.
إن الاستشراق بناء على ما سبق «خطاب أو إنشاء لكنه خطاب لا يعكس حقائق أو وقائع، بل يصور تمثلات أو ألوان من التمثل حيث تتخفى القوة والمصلحة والمؤسسة، إنه خلق جديد للآخر أو إعادة إنتاج له، على صعيد التصور والتمثيل...إن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستزول بزوال منظومتها المعرفية، إنها -أي المعرفة الاستشراقية- قوة أو سلطة أو إرادة، قوة بالمعنى النيتشوي من بين مراميها طمس الموضوع الواقع، وإعادة إنتاجه إنتاجاً تثوي فيه السلطة وتتخفى فيه المؤسسة»[24].
ثم إن كل معرفة بالآخر هي معرفة تقييمية تمارس هيمنتها على الباحث، وتستند إلى منظومة قيم معينة توجّه خياراته البحثية ومفاهيمه وفرضياته في كيفية تأويل الظاهرة وفهمها.
نحن إذن إزاء مقاربة مهّدت الأرضية لإيقاع الخطاب الاستشراقي في فخ الإحراج النفسي والمعرفي معاً، تجعلنا نبصر فيه عرضاً على مرض في الثقافة الحديثة تعيشت زمناً طويلاً على أوهام الهوية الميتافيزيقية وميتافيزيقا الفصل الحضاري والنقاء العرقي وغيرها من المفاهيم التي نثرتها ثقافة التمركز، ونحن بهذا لن نعيد قولة فوكو: «إن الإنسان الحديث هو اختراع حديث العهد وهو يقترب من نهايته»، بل نضيف إليها أنه قد انتهى فعلاً وصار يُنظر إليه على أنه من نفايات مصنع التمركز.
(3 - 3) العطاءات الجديدة للعلوم الإنسانية والاجتماعية: أو الثورة المنهجية في شراك ضد لغة الاستشراق
لقد تعرّضت الذات الأوروبية إلى هجومات شديدة وإلى تفكيك لأنظمة معرفتها حول الأشياء والإنسان، بدأت هذه المساءلة مع نيتشه الذي خلص في تحليلاته الجينيالوجية إلى أن الذات ليست سوى وهم لغوي، فالأنا أو الوحدة الذاتية للإحساسات والانفعالات النفسية ليست سوى قاعدة نحوية، Grammaticale، تقر بأن الفعل يقتضي الفاعل، أي أننا نحن الذين نضفي الوحدة على حالاتنا النفسية وننسب لها الكيان الموحد، ليربك هذه الوحدة الموهومة من خلال إبراز العنصر اللاواعي على حساب العنصر الواعي، وإدخال قسمة ثنائية جديدة بين أبولون رمز العقل والهدوء والتأمل، وديونيزيوس رمز اللاعقل والعفوية والتلقائية. وتعرف هذه النظرة أوجهاً مع التحليل النفسي بما هو التعبير المعرفي والمنهجي المكثف لسلطة اللاوعي على حساب الوعي، والأنا ليس سيّداً حتى داخل بيته، لأنه خاضع بصورة غير واعية لمحددات لا شعورية ذات طبيعة بيولوجية حيوية، فقيمة الإنسان من منظور فرويد Freud ليست في كونه كائناً واعياً أو عاقلاً، ولا في كونه ذاتاً واعيةً، أو قاصدةً متحكمةً في موضوعاتها الخارجية بالمعنى الديكارتي، إنما هي على النقيض من ذلك تنتظمها حتمية نفسية داخلية تنفي عنها شعور الإرادة بحريتها وتنكر عليها فاعليتها، وأن الوعي والقصد هو من مخلفات الوهم الفلسفي لا غير، أما النتائج التي ترتبت على هذه المقاربة وأهمية هذا المنظور فهو كما يقول ألتوسير: إنه اكتشاف لقارة معرفية جديدة، تمثّلت في إعادة النظر حول مفهوم الإنسان وعن علاقته بالآخرين، وعن مفهوم الثقافة والتربية والحضارة، وإن وعي الإنسان «الشفاف» قد فقد ذلك الامتياز الذي كان يتصدره في الخطاب الفلسفي الكلاسيكي بخاصة مع ديكارت، وأصبح تبعاً لهذه القراءة أن القسم الأكبر من حياتنا النفسية ينفلت من سيطرتنا كليًّا، وإننا في مشاعرنا وأفكارنا وأحكامنا لسنا مالكين لوعينا وأن فكرة المطابقة بين النفس والوعي التي طوّرتها فلسفات الثبات والذات قد فقدت بداهتها وثباتها ويقينيتها.
ويصبح الخطاب الاستشراقي الموصوف بالعقلانية والذاتية أعراضاً على محددات أخرى لا عقلانية، هي مجمل الدوافع السيكولوجية والمحددات العرقية والانتماءات الضيقة، ومن النماذج التي استعارت مفهوم اللاشعور نموذج الفيلسوف الفرنسي المعاصر ريجييس دوبري R. dobri الذي أخذ به إلى عالم المطمورات السياسية في كتابه «نقد العقل السياسي»، أين سيؤدي اللاشعور السياسي وظيفة التشريح للمؤسسات والشعارات السياسية المرفوعة، فالمطلب الأساسي هو الحفر في طبقات الفعل السياسي لتعرية هذه المناطق وإجلائها وكشف المغيّب منها، لأن الفعل السياسي ليس في حقيقته وليد الوعي والإرادة والطموح، ومثلما أنه لا توجد مطابقة بين الشعور والحياة النفسية في التحليل النفسي، فإن المؤسسات والتصورات والطموحات السياسية لم تعد هي المحدد لجوهر الحياة السياسية، وقد أشار دوبريه في دراسته «نقد العقل السياسي» إلى أن مفهوم اللاشعور السياسي الذي يقترحه ليس من طبيعة نفسية أو روحية، بل هو بنية من العلاقات المادية التي تمارس على تصورات وسلوكات وردود فعل الأفراد والجماعات تأثيراً قويًّا، من قبيل العلاقات الطائفية والجهوية والمذهبية والعرقية والقبلية والقومية والعشائرية، أي بقايا التنظيم الاجتماعي السابق في الذهنيات والنفوس والسلوكات، وتعد التجربة الاشتراكية النموذج التطبيقي على هذه الحقيقة، «فبعد ما يقارب القرن من الزمن من المناداة بضرورة تأسيس محددات الفعل السياسي على العقلانية التحديثية وأيديولوجيا المساواة، والتضييق على استمرار البنيات العرقية والقومية والدينية الجديدة، إذ بهذه الآلهة تستيقظ من قبورها من جديد لتطفو على السطح كمحددات أساسية للفعل السياسي، وكأن تجربة التحديث والعقلنة لم تكن سوى محاولة لبناء الحيطان على الماء، ومنه فإن التحليل السياسي بالمعنى الأحدث يجب أن يراعي وأن يتفتح على المجالات التي لم يكن التحليل التقليدي يطالعها أو يفكر فيها، وألَّا ينساق مع الشعارات السياسية والمضامين الثورية الحاملة لهذه الشعارات»[25]، بل القراءة المنتجة هي التي تحفر في وعي ولا وعي الذات الحاملة لهذا الخطاب، بحثاً عن الدوافع اللاواعية الكامنة وأحياناً عن الاستثمارات الواعية واللاواعية للمثل التي يزخر بها الخطاب السياسي.
غير أن القراءة التي اختصت بها الأنثربولوجيا البنيوية مع شيخ البنيويين كلود ليفي ستروس، تعدّ علامة فارقة على فرادة القراءة وتراجع مقولات النزعة الإنسانية ونقضها وتفكيك مقوماتها، إن أبحاث عالم الأنثروبولوجيا البنيوي كلود ليفي ستروس الذي أكّد أن الأنثروبولوجيا هي ذروة النزعة الإنسانية الغربية، والأنثروبولوجي الغربي في دراسته للآخر المختلف والمغاير ليست بهدف معرفته بما هو كذلك، بل بهدف إعادة إنتاج الذات المتمركزة حول ذاتها، وتهميش الآخر المختلف والمغاير البدائي والطفولي.
يقول كلود ليفي ستروس منتقداً التصور الاختزالي للآخر «إننا «أي الغربيون»، نعتبر أن كل ثقافة تتطور في اتجاه مواز لثقافتنا «الغربية»، ثقافة تجميعية، أي تلك التي يكون تطورها بالنسبة لنا ذا معنى، في حين تبدو لنا سائر الثقافات سكونية، ليس بالضرورة لأنها كذلك، ولكن لأن خط تطورها لا يعني شيئاً بالنسبة لنا، أي أنه غير قابل للقياس في حدود نظام المرجع الذي نستعمل... في كل مرة نكون مضطرين لوصف ثقافة إنسانية بأنها جامدة أو سكونية، علينا أن نتساءل عما إذا كان هذا الجمود الظاهر ليس ناتجاً عن الجهل الذي نحن فيه بالنسبة لمنافعها الحقيقية»[26].
لتخلص القراءة البنيوية إلى أن الثقافة هي التي تصنع العرق وليس العرق هو الذي يصنع الثقافة، وأن الذات ليست هي الفاعل، بل هي حصيلة مفاعيل، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية، والاجتماعية، واللسانية والرمزية، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب، لقد أدت هذه الثورات المعرفية الكبرى التي حصلت (الثورة اللغوية، الثورة الإبستمولوجية، الثورة البنيوية، الثورة التاريخية) إلى فصل المعنى عن الوعي، والمعرفة عن اليقين، والمعنى عن التمثّل، مبينة أن المعاني لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترنسدنتالية، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية.
هذا، وتظهر لنا ملامح الثورة البنيوية التي صارت أدواتها التحليلية محل ترحيب واستثمار من لدن فروع المعرفة المتعددة تظهر ملامحها كما لخصها محمد سبيلا في:
- المنزع الحتمي: إذا كانت ثقافة الوعي وسيادة الذات المنحدرة من ديكارت وكانط تؤسس تفرقة واضحة بين مملكة الحرية أو العالم الإنساني ومملكة الطبيعة، فإن البنيوية تؤكد أن الإنسان خاضع لحتميات لا يستطيع منها فكاكاً، تتصدر هذه الحتميات الحتمية الكوسمولوجية والفيزيائية، إلى الحتمية الكيميائية والبيولوجية، إلى الحتمية السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية، إن الأنثربولوجيا أبرزت أن الإنسان ليس حرًّا حتى في خياله وأحلامه.
- المنزع اللاإنساني: ليس الإنسان فرداً كان أم جماعة، الكائن الفاعل في التاريخ والمتحكم في مساره، بل هو كائن مفعول في وعيه وسلوكه، وعنصر ضمن لا وعي جماعي أقوى منه ومن رغبته، وصورة التاريخ التي تقرّها البنيوية هي صراع البنيات دون ذات أو فاعل.
_ المنزع الإيلي: إن الأنثربولوجيا تعارض ما هو تاريخي ومتصل، وتعارض معها مقولة التقدم، والتتالي وتحل محلها الانحدار وعدم التلاؤم وأحياناً الفوضى.
إن هذه المقاربات الجديدة التي أفرزها الدرس الأنثربولوجي البنيوي قد قوّضت النزعة الإنسانية ومقولات الوعي والإرادة والحرية، «بل تبلورت في الساحة الفلسفية فكرة مفادها أن هذه النزعة الإنسانية الكلاسيكية القائمة على الوعي والحرية والإرادة والفعل إنما هي أيديولوجية رافقت النهضة الأوروبية (البعض يقول البورجوازية الأوروبية)، متصورة الإنسان كائناً مستقلاً ومركزيًّا في الكون. وأن هذه النزعة الإنسانية التي أنتجت الحضارة وطوّرت العقل، قد آن الأوان لتفكيكها وإظهار زيفها، وهو ما قامت به العلوم الاجتماعية البنيوية من جهة والاجتهادات الفلسفية المعاصرة (هيدجر، فوكو، دريدا) من جهة أخرى»[27].
وفضلاً عن هذا كله، فإن خطاب الاستشراق إذا ما تم مقاربته من منظور علم اجتماع المعرفة والنظرية الأيديولوجية، فإنه يبدو في حرج أكبر مما جرى تشخيصه سابقاً، لأن كلاهما يؤكد (أي علم اجتماع المعرفة والنظرية الايديولوجية)، على العلاقة الوثيقة بين الموضوع والذات العارفة اللذين يتحول ترابطهما إلى موضوع جديد، فتحليل الأنساق الفكرية يكشف لنا مدى العلاقة الحاصلة بين أنساق الفكر والوقائع الاجتماعية، لذلك عرّف معجم فونتانا الحديث علم اجتماع المعرفة، بأنه دراسة علاقة أساليب التعبير وأشكال الأفكار بالسياقات الاجتماعية المختلفة، وبالتالي فالمعرفة الاستشراقية المتشكلة حول الآخر تضرب بجذورها في وضعها الاجتماعي ونسقها المصلحي المنتج لها، أي أنها في التحليل الأخير أيديولوجيا، ولعل السمة المشتركة بين كل تعريفات الأيديولوجيا هي «أن التصورات المطروحة ترى أن ثمة علاقة بين الأيديولوجيا والأفكار من جهة، والواقع من جهة أخرى، فالأديولوجيا لا تعكس الواقع وحسب، وإنما تصوره من خلال رؤية الإنسان له، أي من خلال خريطته الإدراكية، والواقع ليس مجرد واقع اجتماعي مادي، وإنما هو واقع اجتماعي نفسي روحي، بل إنه ليس واقع فحسب، وإنما هو أيضاً تطلعات وآمال»[28].
وتنضاف إلى هذه الإحراجات، إحراجات الأدوات البحثية الجديدة التي طوّرتها اللسانيات التداولية في جهازها المعرفي، فهي تخلخل تماسك الخطاب الاستشراقي وثقته في رؤاه، فالمقولات المركزية التي توظفها وتقرأ بها الظواهر اللغوية قد أثمرت نتائج معرفية وعملية بديلة، أماطت القناع عن سبب غموض الدلالات وأغراض المتكلمين، وأصبحت للتداولية حيّزاً مركزيًّا في العلوم الإنسانية، لأنها تهتم بالعلاقة بين العلامات ومستخدميها، وتتأسس على أن دلالة أي شيء (مصطلح، موقف من الآخر، رمز،...)، تتحدد بالسياق الذي تم التلفظ به فيه واستعمالاته، ومن ضمن جهازها المقولاتي: مفهوم الفعل؛ معناه أن اللغة لا يجب حصرها فقط في تمثيل العالم أو تصويره، ولا في التركيب والبيان، لأن الكلام هو أن نفعل، ففعل القول هو فعل ينجز قولاً. والمفهوم الثاني هو مفهوم السياق، الذي يتحدد بوصفه الوضعية الملموسة التي توضع وتنطق من خلالها مقاصد تخص المكان والزمان وهوية المتكلمين، ودون السياق فإن مقاصد المتكلم ستكون مبهمة وغامضة، وعديمة القيمة. أما المفهوم الثالث فهو مفهوم الإنجاز، ويقصد به إنجاز الفعل في السياق، إما بمحايثة لقدرات المتكلمين، وإما بتوظيف اللغة من أجل إتقان الفعل التواصلي، أي الخروج من الكفاية اللغوية إلى تحقيق الكفاية التواصلية.
وبناءً على كل ما سبق تحليله، من ممهدات معرفية وثورات منهجية أوقعت الخطاب الاستشراقي في حرج معرفي ومنهجي، فإن الجامع بين هذه القراءات جميعاً هو رؤيتها المخصوصة لمفهوم النقد وكيفية ممارسته، فلم يعد من المجدي ربط الخطاب الاستشراقي بالاستعمار أو الدوافع اللامعرفية نحو الآخر بما هو مختلف ومغاير، ولو أنه في صلة مع هذه المحددات التاريخية والنفسية، لقد صار الأجدى والأقوى هو ممارسة النقد بالمعنى الأحدث خاصة كما طوّره المعجم الفلسفي المعاصر، أي «رسم حدود قوة معرفية، وبيان مصدر وهمها ووجوه استعمالها، وتعرية وعيها الزائف بنفسها وتدمير أصنامها وهدم يقينيات تاريخها وكشف أصول تكوّنها وتفكيك مسبقاتها، والتنقيب عما تسكت عنه وما تقصيه بوصفه آخرَ، وتحديد خطوط التماس أو الفصل التي ترسمها إزاء ما تحطم عليه بوصفه خارجاً أو خطأً أو شرًّا أو انحطاطاً[29].
وقراءة إدوارد سعيد المشهورة للاستشراق هي النموذج العملي الذي استثمر فتوحات المعرفة الإنسانية المعاصرة لنقد الخطاب الاستشراقي وبيان محدوديته وقصور آليات تأويله، لأن الرهان الأكبر الذي راهن عليه إدوارد سعيد هو التالي: كيف نفكك المعرفة المعاصرة لنا بوصفها لا تعدو أن تكون اختراعاً أوروبيًّا للشرق، وتمثيلاً أوروبيًّا للشرق؟ بمعنى: بأي وجه ليست تلك المعرفة غير نمط من الخطاب يتم تحت وقع إرادة سلطة تظل في أغلب الأحيان متخفية ومنتشرة في الوقت نفسه؟ كيف نتحرر من صورة الآخر التي صنعها تلقٍّ غربي معين لتاريخنا (الآخر كتمثيل واختراع وتجربة ومنافس وأداة تعريف، وصورة وفكرة، وشخصية، وشيء مقابل) وحوّلها إلى بنية نموذجية للحكم على هوية شطر غير يسير من الإنسانية بوصفه كياناً دونيًّا؟
وإدوارد سعيد في سعيه لفهم هذه الإشكالية وخلخلة مسلماتها، ونقد المتخيل الغربي عن الشرق يؤسس مقاربته ليس على أساس نظري أو إبستمولوجي، إنما ينخرط في المساءلة على أساس من التحديات المعرفية والمنهجية الأساسية، ويجب الاعتراف -كما يقول فتحي المسكيني- بأن تأسيس الحقيقة على التحدي هو موقف إيطيقي وليس إجراءً برهانيًّا، أي أنه موقف حيوي بالدرجة الأولى، إن إدوارد سعيد في موقفه الحيوي هذا إنما يجد أصوله في تصور فلسفي محدد يتأسس على أن ما هو نظري إنما يتأسس على مصادرات عملية، والنظريات في الفكر مهما بلغت المستويات العليا من التجريد تستبطن دوافع حيوية وإرادة متخفية، والمعرفة تجد غاياتها في تبرير المؤسسات القائمة، هذا ما جعل من الأرضية الإبستمولوجية للاستشراق هشّة، ولا تصمد للنقد، أما الخلاصات التي كشف عنها إدوارد سعيد في تشخيصه للاستشراق والصورة النموذجية التي كوّنها حول الشرق «المشرقيين» هي:
- أن الآخر المدروس هو اختراع هووي وليس كائناً فعليًّا.
- أن المعرفة بالإنسان بعامة والإنسان الآخر بخاصة هي إرادة سلطة وليست رغبة في الموضوعية.
- أن الهوية الأوروبية ليست تمثّلاً ذاتيًّا محضاً، بل هي متقوّمة بنمط محدد من الهيمنة تجد تبريرها في دونية الآخر»[30].
هذا، ويؤمن إدوارد سعيد بأن القدر الكافي من العمل في العلوم الإنسانية سيزود الباحث بنظرات نافذة، ومناهج «وأفكار بميسورها أن تتخلص من النماذج المنمطة العرقية، والعقائدية والإمبريالية من النوع الذي قدّمه الاستشراق أثناء ارتقائه التاريخي، وأنا أعتبر -يقول إ. سعيد- إخفاق الاستشراق إخفاقاً إنسانيًّا بقدر ما هو إخفاق فكري، ذلك أن الاستشراق، إذا كان عليه أن يتخذ موقف تضاد لا يمكن تخفيفه بإزاء منطقة من العالم اعتبرها أجنبية غريبة عن عالمه الخاص، أخفق في توحيد هويته بالتجربة الإنسانية، وأخفق أيضاً في رؤيتها كتجربة إنسانية»[31]. ويراهن إ. سعيد على مستوى من الوعي السياسي والتاريخي الذي إذا بلغته العديد من شعوب الأرض فسيحصل تحدي التسلط العالمي للاستشراق ولكل ما يمثله.
- 4 ـ
نحو إعادة قراءة الخطاب الاستشراقي اجتماعيًّا:
أو تجديد الفعالية في زمن الصراع الفكري
مرادنا في هذا العنصر الأخير الوقوف على قراءة تسترشد برؤية مغايرة وتتفرد بالتنبيه على منطقة هي لا مفكر فيها إذا ما تمت مقارنتها بأعراف وتقاليد المقاربات المتداولة حول الخطابات الاستشراقية، أقصد بذلك استكشاف البعد الاجتماعي للخطاب الاستشراقي. أي: بأي معنى يمكن تخريج دلالة الاستشراق سواء في شقه المنتقد للحضارة الإسلامية أم في شقه المادح لقيمها، الممجد لإنتاجاتها، باعتباره خطاباً يتجاوز المستوى الإبستمولوجي ليؤثر في طبقات الوعي الاجتماعي المترسبة والراهنة، ثم تأويله من الزاوية الاجتماعية بخاصة في مستوى منطق الفعالية والحيوية أو منطق الحرمان والارتكاس.
تجدر الإشارة أولاً إلى أن هذه القراءة التي تستكشف القيمة الاجتماعية للاستشراق كان قد طوّرها فيلسوف الحضارة الجزائري مالك بن نبي (1905 - 1973)، في كتيّب كان قد ضمنه تلامذته في كتاب سمي بـ«القضايا الكبرى»، إنها كبرى بوصفها تتعرض إلى المحددات الجوهرية والفاعلة في البناء الحضاري الحديث وآلية تشكله، وهي أيضاً لا زالت مشكلات، بما أنها لم تسترشد بالمسلك المنهجي الحقيقي الذي يعيدها إلى التاريخ ويبعث فيها الإرادة الحضارية التي تلد إمكانها الحضاري من ذاتها وليس فيضاً عن غيرها؛ هذه المشكلات هي: مشكلة الحضارة، مشكلة الثقافة، مشكلة المفهومية، وفصل آخر هو مدار تحليلنا عنوانه «إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث».
يبتدئ هذا الكتاب بوضع تعريف اصطلاحي لمفردة «المستشرقين»؛ «إننا نعني بالمستشرقين الكتَّاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية، ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه ما يسمى (طبقات) على صنفين:
أ - من حيث الزمن: طبقة القدماء، مثل، جربر دوريياك والقديس توما الإكويني، وطبقة المحدثين مثل: كاره دوفو وجولد تسيهر.
ب- من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتاباتهم: فهناك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية، وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها»[32].
إن مالك بن نبي في هذا التصنيف الطريف، بخاصة التقسيم الذي وضعه للاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين يرى أن مدار تحليله سيركز على طبقة المادحين، لا طبقة المنتقدين التي كان لها بعض الأثر في توجيه الأقلام، وإنشاء مركب النقص الذي أيقظ عاطفة الدفاع عن الكيان الثقافي للأمة، بخلاف طبقة المادحين التي لم تجد في نفوسنا أي استعداد لرد الفعل، وكأن مبرر الدفاع فقد جدواه، وأصبح لهذا السبب معطلاً في نفوسنا.
إن لغة المدح التي اختص بها هذا الخطاب تجد منبتها فيما كتبه هؤلاء المستشرقون عن المسلمين والحضارة الإسلامية، مثل رينو الذي ترجم جغرافية أبي الفداء في أواسط القرن الماضي، ومثل دوزي الذي بعث قلمه قرون الأنوار في إسبانيا، ومثل أتين بلاثيوس الذي كشف عن المصادر العربية للكوميديا الإلهية.
إن مالك بن نبي سيقرؤها من الزاوية السوسيوبسيكولوجية، وفي مستوى أثرها في تطور أفكارنا وثقافتنا، وما كان لها من أثر مرضي في هذا التطور.
فإذا كانت أوروبا قد اكتشفت الفكر الإسلامي في لقائها الأول مع توما الإكويني من أجل إغناء ثقافتها، فإنها في الفترة الحديثة أعادت اكتشافه ليس من أجل تعديل ثقافي أو إثراء معرفي يسهم في التغيير كما كان في الخطاطة الأولى، إنما كان من أجل هدف سياسي وإرادة استعمارية، اقتضتها ضرورة وضع الخطط ومعرفة التركيبة الاجتماعية لهذه الثقافات، أي أن المعرفة هنا لا تقول الحقيقة طالما هي متحالفة مع إرادة القوة.
وفي ظل هذه العلاقات المتوترة بين العالمين: الإسلامي والغربي، نشأت مركبات نفسية أرادت مواجهة هذا المركب من ناحية، وأرادت التغلب عليه من ناحية أخرى.
فئة يرى مالك بن نبي أنها بحثت عن نجاتها في التزيِّ بالزي الغربي وانتحال أذواقه وسلوكه حتى ولو كانت ليست إلا مظهراً لا شيء وراءه حقيقيًّا من القيم الحضارية الغربية الفاعلة والحقيقية. أي تلك التي أسهمت في النهضة الأوروبية.
و«أما التيار الثاني -وهو موضوع حديثنا لاتصاله بإنتاج المستشرقين- فإنه وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر والتمجيد، الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر على أثر ما نشر علماء مستشرقون، أمثال دوزي عن الحضارة الإسلامية»[33].
إن مالك بن نبي لا يبخس القيمة العلمية لهؤلاء المستشرقين ودقة بحثهم وشغفهم بالحضارة الإسلامية، وهو نفسه على مستوى دائرته الشخصية قرأ أمجاد الحضارة الإسلامية كمقدمة ابن خلدون في ترجمة دوسلان.
لكن، وعلى ضوء تجربة الحياة الخاصة لابن نبي وبعد تجاوزه الستين تبدّل نظام التقدير تجاه هذا الإنتاج، لأن الوجهة هنا قد تغيرت على مستوى الإرادة الحضارية والإمكان الحضاري للمجتمع الإسلامي، فإدراك أثر الاستشراق لم يعد على المستوى الشخصي، إنما في النطاق الشامل للمجتمع الإسلامي وصيرورته التاريخية، فمساوئ هذه الطريقة بدت أكثر من حسناتها، أما مبررات هذا الموقف، فإن مالك بن نبي يقدمها إلينا في صورة بيداغوجية طريفة:
«إننا عندما نتحدث إلى فقير، لا يجد ما يسد به الرمق في يومه، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها، إننا قطعاً لا نشفيها، فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه، ولا شك أن أولئك الماهرين في فن القصص قد قصّوا للأجيال المسلمة في عهد ما بعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة، وتركوا بذلك أثر كل سمر، نشوة تخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلق أجفانهم على صورة ساحرة لماضٍ مترف»[34]
إن مالك بن نبي يوظف آلية التحليل النفسي لفك الارتباط بين وهن الإرادة وخورها، وبين الإسهام الاستشراقي في إضفاء الوهم المعرفي على هذا الوهن والارتكاس، فالقطع هنا هو أن تمجيد الماضي سيكون على حساب الحاضر والمستقبل، لأن هذه الجماهير التي نامت تسليًّا بأمجاد صانعي ماضيها، سوف تستيقظ لتفتح أبصارها من جديد على مشهد الواقع القاسي الذي تتكلمه لغة الحياة وتتبدى فيه مظاهر الأزمة الحضارية.
غير أن هذه القراءة الكاشفة لقناع الطبقة الممجدة للماضي بما هي طبقة تصرفنا عن الحاضر، نجدها (أي قراءة مالك بن نبي)، تمضي إلى ما هو أبعد من هذا؛ فإلى جانب أنها صبّت في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب، ولم تطبعها بما يطابق العصر من فعالية وإنجاز، فهي منخرطة في لعبة الصراع الفكري من وجهتين:
- من وجهة كونها أدركت حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها.
- من وجهة إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات تلك الجماهير عن حاضرها.
لتنتهي القراءة البنابوية الكاشفة عن القيمة الاجتماعية السلبية للخطاب الاستشراقي إلى أن الإنتاج الاستشراقي في كلا نوعيه المادح والمنتقد «كان شرًّا على المجتمع الإسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيّرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار، مجتمع ما بعد الموحدين، بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة...»[35].
إن أساس نقد الاستشراق والانتهاء إلى هذه النتيجة لا يجد مبرراته في موقف معرفي أو تأسيس إبستمولوجي سواء في تشخيص الخطاب الاستشراقي المادح أو نقيضه المنتقد والمفند، بل يجده في تحد إيطيقي حيوي لأنه يريد تحرير الإرادة من هيمنة الآخر والخروج من منطق الاستجابة العفوية عما يقوله الغربي عن متخيله إلى منطق الفعالية وتجديد الإرادة والإبصار الدقيق بآليات الصراع الفكري وألاعيبه في إخفاء ذاته وسلطته، ثم الشروع في تأسيس الثقافة على المقومات الذاتية والأصالة الفكرية، لذلك فإن مالك بن نبي رغم أنه لم ينخرط مع الاستشراق من منظور المقاربة الإبستمولوجية نقداً وتفكيكاً كما قلنا، إلا أن نتائج هذه القراءة تتفق مع فتوحات المعرفة الإنسانية المعاصرة بخاصة أنثربولوجيا الثقافة، واللسانيات التداولية وذلك «من جهة أن نظام قيم ما لا يتمتع بأية قيمة من وجهة نظر المبادئ النظرية المجردة، ولا يمكن أن يفهم إلا من داخل النسق الاجتماعي الذي يعطيه أو يمنحه معناه ووظيفته»[36].
هكذا إذن، يتبدى لنا الخطاب الاستشراقي من منظور هذه القراءات أنه نص متعدد التأويل، فهو وليد فلسفة الذات التي أعطته المشروعية المعرفية، وأسهمت في تمركزه وانثنائه على ذاته، لكن هذه الرؤية لم تستمر لأنه كان انتظار النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتعيد الفلسفة النظر فيما تراكم إليها من إفرازات مصنع الذاتية، ولكي تقول من جديد القول في أسس الثقافة، ويقينيات التفكير الفلسفي وثوابته المطلقة كالعقلانية والتقدم والثبات والجوهرانية... وكافة تمظهراته المتعددة، إلا أن المساءلة الفلسفية هنا تبدلت وتحولت وجهتها إلى حركة مضادة توزع الشكوك وتنثر الاتهامات، وتثور على أسسها التي أضحت لغة ميتافيزيقية وأعراض على مرض الثقافة، وتفكك الأنساق الثقافية الكبرى بما هي أنساق جرى ترسيخها في الوعي والذاكرة والممارسة، وتنفتح على المختلف والمهمش والمرذول واللامفكر فيه، وصارت تبصر في لغة هذا التمركز وثقافة الطهرانية أشكال من الأوهام الكاذبة التي تعيّش العقل الغربي عليها كثيراً، وبتفكيك هذه الأسس الفلسفية القائمة على التمركز ووهم التفاضل والتراتب ينهار البناء الاستشراقي وليد هذه الفلسفة من أساسه ويفسح المجال لخطاب تأويلي آخر يتأسس على إتقان لغة الاختلاف وسياسة الاعتراف، وإضفاء المشروعية على التنوّع الثقافي وأشكال التعبير الرمزية أو على رموز المعنى ومنابع التأويل.
وإذا كانت لنا من كلمة في هذه الخلاصة فإننا نقول: إن الأجدى والأقوى لنا هو امتلاك ناصية الثورة المنهجية التي أحدثتها العلوم الإنسانية المعاصرة، ثم تعميق الوعي بالعلوم التراثية وآليات تركيبها وتكاملها للانخراط في اكتساب خبرتنا وتحديد موضوعات تأملنا، وبهذا نستعيد أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى يتحقق بذلك الإسهام الإبداعي في النظام المعرفي الكوني. والعامل النفسي الآخر الذي يجب ترسيخه في الوعي هو تجديد إرادة البناء بتخليص هذه الإرادة من الوهن والخور والارتكاس والإعجاب بالآخر، للخروج من منطق هيمنة عالم الأشياء وعالم الأشخاص على منظورنا الثقافي إلى وصل العلاقة بعالم الأفكار بهدف إتقان لغة الخلق والإبداع والامتداد.
[1] أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة فرحات عباس، سطيف الجزائر.
Abderrezak 19@yahoo.fr
[2] بتصرف: محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2000، ص 127.
[3] محمد سبيلا: في الشرط الفلسفي المعاصر، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2007، ص 16.
[4] انظر: يوغن هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 1995،ص 7 - 20.
[5] Voir: Emmanuel Kant, Qu’est ce les lumières ; in Critique de la faculté de Juger, Gall, 1985,p 497
[6] عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة،ج1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص180.
[7] عبد الله إبراهيم: المركزية الغربية، إشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص1.
[8] المرجع السابق: ص37.
[9] أورده سالم يفوت: الزمان التاريخي من التاريخ الكلي إلى التواريخ الفعلية، دار الطليعة، ط1، 1991، ص26.
[10] تجدر الإشارة في هذا السياق إلى مجموع الأبحاث والدراسات التي كتبها كبار المستشرقين، ترجمها عبد الرحمن بدوي وأودعها في كتاب: التراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية: دراسات لكبار المستشرقين، وكالة المطبوعات، الكويت.
[11] عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، ج1، مرجع سابق، ص 549.
[12] أوردها: محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،ط1، 1991، ص65.
[13] المرجع السابق: ص 65.
[14] سالم يفوت: حفريات الاستشراق، (في نقد العقل الاستشراقي)، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1989، ص32.
[15] عمر كوش: أقلمة المفاهيم (تحولات المفهوم في ارتحاله)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2002، ص 144
[16] علي حرب: أسئلة الحقيقة رهانات الفكر، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1994، ص61.
[17] فتحي المسكيني: الفيلسوف والإمبراطورية، (في تنوير الإنسان الأخير)، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص 127.
[18] انظر: أويغن فينك، فلسفة نيتشه، ترجمة إلياس يديوي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1974، ص4 ومابعدها.
[19] فريدريك نيتشه: أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، أفريقيا الشرق، ط1، 1996، ص 25.
[20] Nietzsche:l>antéchrist, tard Par, Henri Albert, mercvre de France, Paris,1941 §60, p334.
أو الترجمة العربية للكتاب من الإسبانية التي قام بها ميخائيل ديب، الصادرة عن دار الحوار عنوانها: عدو المسيح.
[21] Voir : jurgen Habermas : Le discours philosophique de la modernité, Edition Gallimard,Paris 1988, P. 118 - 119.
[22] محمد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2002، ص135.
[23] المرجع السابق: ص 142.
[24] سالم يفوت: حفريات الاستشراق، مرجع سابق، ص 8.
[25] عبد الرزاق بلعقروز: جينيالوجيا المصطلح: منظور فلسفي، أبحاث المنتدى المصطلحي الدولي، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا. التكنولوجيا، تونس، 2008، ص 81.
[26] كلود ليفي ستروس: العرق والتاريخ، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1981، ص 23.
[27] محمد سبيلا: في الشرط الفلسفي المعاصر، مرجع سابق، ص 32.
[28] عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، دار الشروق، مصر، ط1، 2006، ص 33.
[29] فتحي المسكيني: الفيلسوف والإمبراطورية،مرجع سابق، ص121.
[30] انظر: المرجع السابق، من ص125، إلى 135.
[31] إدوارد سعيد: الاستشراق، المعرفة -السلطة - الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط 6، 2003 ص 324.
[32] مالك بن نبي : القضايا الكبرى، دار الفكر، سوريا، ط 6، 2008، ص 167.
[33] مالك بن نبي: المرجع السابق ص 171.
[34] المرجع السابق: ص 172.
[35] المرجع السابق، ص 181.
[36] انظر : عبد الإله بلقزيز: في البدء كانت الثقافة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء المغرب، 1998، ص 113، وما بعدها.