مُفتتح
شهدت «مكتبة الإسكندرية» وعلى مدار ثلاثة أيام (19-21/ يناير 2009م) مؤتمرًا تفاكريًّا موسعًا؛ بعنوان «اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث». مُتتبعًا بذلك وبصورة موضوعية لأهم مشروعات التجديد والإصلاح في العالم الإسلامي -خلال القرنين الأخيرين- وفق رؤى أصحابها وفكرهم حسب السياقين الزمني والمكاني، بعيدًا عن كل مؤثرات الأدلجة أو عصرنة الاتجاهات. وكان قد شارك في المؤتمر نخبة من المفكرين والعلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي؛ الذين بذلوا ما في وسعهم وفي عملية استقصائية معمقة لاستظهار مشروعات رواد التجديد والإصلاح طيلة قرنين ماضيين من الزمن، إذ يتبدى الهدف المقصود جراء ذلك ليس في التتبع الاستقصائي فحسب بقدر ما يكون المآل إلى نسج علاقة وشيجة ما بين الماضي والحاضر عبر عناوين متجددة وعصرية. أي الوصول إلى رؤية شاملة تتجاوز زمن رواد التجديد والإصلاح إلى العصر الراهن للتعرف على أسئلة ما برحت تتجدد وتتطور. الأمر الذي استرعى الإضاءة على بيئات متعددة مثل مصر، الشام وبلاد الرافدين، شبه القارة الهندية، إيران، البلقان، المغرب العربي، السودان وأفريقيا جنوب الصحراء، شبه الجزيرة العربية، تركيا والقوقاز، الملايو وأندونيسيا.
ولا شك في أن فكرة المؤتمر هذه قد طرقت أبوابًا أشبه ما تكون مغلقة؛ لم تكن تقف عند الرقعة الجغرافية الموسعة بل كان لها الأثر من استيعاب أكبر قدر ممكن من الانتماءات الفكرية والبيئة بدءًا بمصر القابعة في الخاصرة الأفريقية وانتهاءً بأندونيسيا الدولة التي تتمتع بأكبر قاعدة إسلامية من بين الدول العربية والإسلامية. وقد شاركت في المؤتمر قامات معرفية لامعة لها حضورها ومشاركتها الفعالة في العديد من المؤتمرات والفعاليات الفكرية والثقافية، وقد بدأ الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية كلمته الافتتاحية إيذانًا لبدء المؤتمر، ثم تلاه الدكتور أحمد الطيب، رئيس جامعة الأزهر في ورقة افتتاحية أخرى، فقد كانت كلمة ختامية للجلسة الافتتاحية، وكانت نقطة الشروع للبدء في الجلسات المتتالية والتي توزعت على مدار ثلاثة أيام التي هي عمر المؤتمر بالتحديد. فضلاً عن تناولها لمحاور رئيسة سيتم الإشارة إليها لاحقاً.
ومن جملة من شارك في هذا المؤتمر علاوة على المنظمين له والمباشرين في افتتاحه كالدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية، والدكتور أحمد الطيب، رئيس جامعة الأزهر، أيضاً هناك العديد من الأسماء اللامعة من مفكرين وباحثين وأكاديميين ممن تتوزع هوياتهم على مساحات جغرافية عربية وإسلامية عرضاً وطولاً، وقد لا يسع هذه القراءة تناول الشخصيات كافة بالتفصيل لكن هذا لا يعفينا من ذكر بعضهم، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، منهم: احميده النيفر، أستاذ كلية أصول الدين في جامعة الزيتونة/ تونس. وعنوان ورقته: «في الفكر الإصلاحي المغاربي: القضايا، الأعلام، المنهج». والدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة/ مصر. وموضوع بحثه عن «مدارس التجديد والإصلاح - الرواد والأفكار: كبوة الإصلاح». والدكتور خالد عزب، مدير إدارة الإعلام ونائب مدير مركز الخطوط، مكتبة الإسكندرية، وعنوان ورقته «سؤال التقدم المتعثر: العالم الإسلامي والتقدم العلمي». والدكتور عبد الرحمن السالمي، رئيس تحرير مجلة التسامح، مسقط/ عمان، ويدور بحثه حول: «اتجاهات الإصلاح والتجديد الديني المعاصر في الجزيرة العربية». والدكتور عبد الجبار الرفاعي، مدير مركز دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ومحور ورقته عبارة عن رصد مقتضب ومفيد لمسار التحديث في إيران، وهي تحت عنوان: «لمحة سريعة من مسار التحديث في إيران 1800 - 1979م». والدكتورة مريم آيت أحمد علي، رئيس قسم العقائد والأديان، ورئيس مجموعة بحث الحوار بين الثقافات والحضارات، جامعة ابن الطفيل، الرباط / المغرب، وعنوان البحث لديها يدور حول «التجديد والإصلاح بين الحاضر والمستقبل: قراءات في الخطاب الإسلامي المعاصر حول مسائل العلاقة مع الآخر -الغرب-». والدكتور نوزاد صواش، رئيس القسم العربي في أكاديمية العلوم والبحوث، إسطنبول/ تركيا، وموضوع ورقته حول: «مدارس التجديد والإصلاح في تركيا الحديثة». كذلك يشارك المؤتمر الباحث والكاتب زكي الميلاد، رئيس تحرير مجلة الكلمة / السعودية، والذي خصَّ دراسته بـ«الإسلام والمدنية: تقدم وتراجع فكرة المدنية في مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر». وعلى الرغم من أن جدول أعمال المؤتمر تضمن اسم المفكر الإسلامي محمد عمارة وعنوان ورقته «المرجعية عند رواد الإصلاح بين الغرب والإسلام» إلا أنه كان الملفت غيابه عن المؤتمر!.
* الافتتاحية: الفكرة والأهداف
أهم ما نستطيع حصره من أهداف للمؤتمر واعتبار ذلك حصيلة مناسبة لحوار فكري هائل، وعصف ذهني مكثف، يكمن في أفكار عدة، ولعل من أبرزها:
1- خصّ شريحة الشباب المتعلم والواعي في حمل مشعل التجديد والإصلاح في الأمة.
2- نشر ثقافة التجديد المنتجة لقراءات مكثفة لأهم وأبرز أفكار وأعمال رواد الإصلاح والتجديد.
3- محاولة تعقّب ما تعكسه كافة المشروعات الإصلاحية والتجديدية وانعكاس آثارها على التيارات والأنظمة والتشريعات المعاصرة.
4- تكثيف الجهود الفكرية وتوحيدها من أجل بلورة مشروع تجديد إصلاحي معاصر.
5- التأكيد على لازمة القناعة بالتجديد المستمر للعقل الإسلامي المعاصر.
وبطبيعة الحال حرص المشتركون سواء من خلال أطروحاتهم المكتوبة أو الشفوية على أن تبقى القراءة لمشروعات التجديد والإصلاح في إطارها الموضوعي والعلمي، وبعيدةً كل البعد عمّا يشوه مخرجاتها وحصيلتها، في عدم الارتهان للمؤدلجات أو عصرنة أي اتجاهات تجديدية أو إصلاحية.
وعلى الرغم من ضرورة البحث التي تعود بالذاكرة المتصاعدة إلى مئتي عام على وجه التقريب، إلا أن البحوث التي قُدمت في هذا المؤتمر كان مسارها واضحاً تجاه بسط ثقافة التساؤلات الجوهرية والمكثفة واستحواذها على الكثير من الوقت للمناقشة، وما ذلك إلا للوصول إلى منهجية فكرية متفقة لا تغادر الثوابت وتقدر الصلة الوثيقة بكل إمكانات الواقع المعاصر. لذا آلى المشتركون على أنفسهم قدر المستطاع أن يعملوا على مثل هذه المنهجية، لا لشيء سوى أنهم أدركوا الأهمية والدور لتلك المشروعات التجديدية والإصلاحية وما تتركه من آثار وتبعات، فقد صار من المبرر العمل على مثل هذه الرؤية والمنهجية، على أمل التأسيس إلى مشروع إصلاحي معاصر، من جهة يكون قادراً على مواجهة التحديات المحدقة بالأمة، ومتطلعًا لاستشراف المستقبل.
إذ ليس من الغريب أن يتدافع المشاركون نحو الوصول إلى نظرة كلية شاملة، ومنهجية متطلعة، يرتهن حراكها وتطورها الفكري بالكثافة من الأسئلة، ويتعزز دورها عبر الأهداف العامة للمؤتمر، وهذا ما تسابقت بحوث الحوار عليه، فضلاً عن المناقشات العديدة التي افتعلتها جلسات المؤتمر المتنوعة، ليأتي التأكيد على ضرورة التفكير المتجدد وما يفرضه الواقع من حقائق، وفق مشترطات الحرية والعدالة والمساواة، وكافة القيم الحضارية الأخرى لكل مظاهر الاستبداد وآثاره، إلا أن «الغاية من رواء هذه النظرة الكلية الشاملة أن تكون منطلقًا لاستشراف آفاق المستقبل بفكر جديد يعايش الحاضر بكل تطوراته ووثباته ومشكلاته، ويرتبط بماضيه مؤكدًا على مساهمة قدمتها الحضارة الإسلامية في كل المجالات للحضارة الإنسانية الراهنة، مساهمة لا ينكرها إلا غير منصف» وهذه إشارة مهمة تطرق إليها مدير مكتبة الإسكندرية ورئيس المؤتمر الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين في كلمته الافتتاحية.
وفي سياق متصل أكد رئيس المؤتمر أيضاً أهمية الدور الذي بالإمكان أن تلعبه مثل هذه المساهمات الفكرية المتنوعة التي وصفها بالمتميزة على حد قوله، بالتالي يصبح المؤتمر «هو بداية حركة عقلية جديدة تؤسس لنهضة مرتقبة واعدة لا تنفصل عن جذورها الفكرية والثقافية، وتتفاعل بقوة مع عالمنا الجديد بكل تياراته، فالماضي والحاضر والمستقبل ثلاثية ترسم من خلالها خرائط الاجتهاد والتجديد»، وهذه لفتة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها مما ورد في كلمته الافتتاحية، فهو -الأستاذ الدكتور سراج الدين- في الوقت الذي قد رسم الخطوط العريضة للآمال المعقودة على مثل هذه المناقشات، أيضاً بذل ما في وسعه وإلى حد كبير في وضع النقاط التفصيلية لمسار المناقشة والحوار، مدعمًا حديثه بالآمال والتطلعات، فالمؤتمر «يأتي في قلب خرائط معرفية متنوعة، نبدأُ في سياقها مشروعنا؛ بإعادة إصدار أمهات كتب الفكر الإسلامي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين) بمنهج جديد ومقدمات عن المشروع الفكري لكل رائد في إطار ثقافته وعصره».
وقد راهن رئيس المؤتمر في ورقته الافتتاحية على شريحة الشباب في تحمل مسؤولية التجديد والإصلاح، وأن أية صيغة يخرج عليها هذا المشروع لا بد أن يستهدف بالدرجة الأولى طلاب الجامعات في العالمين العربي والإسلامي كمحاولة لتصحيح المفاهيم التي يتعرض إليها هذا الجيل من الشباب عبر وسائل مختلفة ومتعددة، وذلك دعمًا للمسار الإصلاحي في الأمة والذي بات مهدداً من تحديات كبيرة داخلية وخارجية. ولشدة حرصه ختم كلمته بأشبه ما يكون بتوصية للمشتركين: «إنني أعتبر أن عملنا هذا إنما هو إسهام منا في تسليح أجيالنا الصاعدة بذخيرة الفكر والعلم حتى يتمكنوا من الإسهام في تجديد فكرنا وتقويم أوضاعنا وصناعة ثقافة هذا القرن الجديد للإنسانية جمعاء».
وقبل أن يختتم كلمته الافتتاحية دعا سراج الدين «الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم، دولاً وشعوبًا، إلى رفع لواء الدفاع عن العدالة في كل مكان على وجه الأرض وفي مقدمتها أرض فلسطين» بعد أن وصف «ما يتعرض له أهلها من عدوان همجي ووحشي بالحديد والنار».
ومن الجدير بالذكر ما تطرق إليه رئيس جامعة الأزهر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، وفي كلمته الافتتاحية عندما نعت المؤتمر بـ«المؤتمر الشجاع» باعتباره اتخذ من التجديد والإصلاح عناوين لجدول أعماله وأنشطته وفعالياته، في الوقت الذي ما تزال بعض الأقلام تقوم بدور الرادع لكل من يحاول أن يفتح كوة في جدار الثوابت حسب الاعتبار!.
كما أشار الطيب إلى قضية «التجديد» في الإسلام باعتبارها إحدى مقوماته الذاتية، ولم يكتفِ بذلك، بل راهن عليها كقضية «إذا ما تحققت؛ تحقق الإسلام نظامًا فاعلاً في دنيا الناس، وإن تجمدت؛ تجمد وانسحب من مسرح الحياة، واختزل في طقوس تؤدى في المساجد أو المقابر، وتمارس على استحياء في بعض المناسبات».
واستنكر الطيب أن يكون التعامل مع مصطلح التجديد محفوفاً بالمخاطر والمحاذير، بسبب الاتهامات التي تكال جزافاً لكل من يحاول فتح هذا الملف الملغوم، وللأسف البالغ لا تزال بعض الكتابات المعاصرة تضع كل دعاة التجديد في سلة واحدة!.
ومن اللافت ما تطرق إليه عندما ذكر «سير سيد أحمد خان» باعتباره رائدًا من رواد الإصلاحيين في تمسكه بالأساس العلمي في تفسير النصوص الدينية، مهيئاً الدور للعمل الإصلاحي في الأمة، ومجابهة كل ما من شأنه أن يرسخ قواعد التشدد الديني، واختطاف الحقيقة!. ومن جهة أخرى ألفت الدكتور الطيب إلى مسألة تعددية الأدوار الإصلاحية مرهون بتعدد أساليب الرواد، ولا يمكن أن يكون «خان» رائداً أوحدَ في هذا المجال، أو أن يتمثل رؤية واحدة لا يشوبها أدنى خلل!.
وتساءل بدوره فيما لو كانت رسالة الإسلام ورد صياغتها على شكل بنود أو مواد ثابتة لا تقبل التجديد!؟، فيقول: «لما كان لعموم الرسالة وديمومتها أي معنى محصل!» فلا مندوحة أن يكون التجديد هو جوهر التراث «العقلي والنقلي» وهذا ما أبرزه في ورقته بل جعله عنوانًا فرعيًّا من العناوين المهمة الأخرى، بعد أن أخذ على عاتقه مهمة التفصيل والاستفاضة؛ مستندًا إلى العديد من الآيات الكريمة، فضلاً عن إشاراته المتنوعة إزاء ذلك عند ذكر مقولات قدامى اليونان وتأصيلات الفلاسفة الغربيين لمثل هذا الأمر، بل خاض في مناقشة ما كان محل جدل بالنسبة للأشاعرة أو المعتزلة. وقد عاضد أقواله بالتجديد ما تطرق إليه الفلاسفة في (الصيرورة) والتي حسب تقديره تعني: التجدد الدائم، مدعمًا هذا القول بما ورد في «الأسفار الأربعة» عن صدر المتألهين الشيرازي من: «أن أعيان العالم متبدلة، وتعيناتها المترادفة متزايلة!؛ خلقًا بعد خلق، وطورًا بعد طور..».
وبالعودة إلى تأصيل التجديد من منظور ديني؛ لم يكتفِ بالتدليل القرآني لاسيما وثمة العديد من الآيات ما توقف عندها، لكنه أمعن في كل ما يدعو للتغيير والتجدد، من خلال النصوص القرآنية إلا أنه وجد في آية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}[2]، كذلك الحديث الشريف: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يُجدد لها دينها» دلالةً على الأخذ بالتغيير والتجديد المستمرين، وقد جاء بهذه النتيجة بعد تساؤلات مكثفة، قد أجاب عن بعضها، في حين ترك بعضها الآخر للقارئ والمستمع على حد سواء!.
ولعلّ من أبرز ما وصل إليه من نتائج إزاء التجديد كونه ليس ضرورة دينية أو فكرية فحسب بل أيضاً هو ضرورة فلسفية معاصرة، وهذا ما دفعه إلى تتبع سيرة الإصلاحيين على الامتدادين الزماني والمكاني، بعد أن أشار للدور الذي قام به كل من (جمال الدين الأفغاني 1897م) و(محمد عبده 1849م) ومن سار على دربهما من المجددين والإصلاحيين في كافة أنحاء العالمين العربي والإسلامي.
وقد ألمح الدكتور الطيب إلى أزمات الصراع الثقافي بين الشعوب، والتي أصبحت في العقود الأخيرة من أعنف وأشرس مما كانت عليه في الماضي، خاصة وأن الانتشار الثقافي أخذ أدوارًا حداثوية تصعيدية بين أطراف الصراع، سواء كان داخليًّا أو خارجيًّا، إذ يكاد لا يخلو مجتمع في سلوكاته متطبعًا أو متشربًا من ثقافة دخيلة، أدى ذلك إلى الانكفاء على الداخل، وبات المجتمع الشرقي يعيش العزلة مع أمرين اثنين: تجمده في التراث، وتكريس هواجسه إزاء الواقع المعاصر بكل تركيباته المعقدة!. لكنه -إشارة للدكتور الطيب- ورغم إقراره بمقولة (الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا) إلا أنه شدد على تحمل المسؤولية في المحاولة تلو الأخرى لجسر الفجوة بين الفكر الإسلامي وحضارات العصر المختلفة.
وعودًا على بدء، وردًّا على «بعض ما يردده بعض الفقهاء من غلق باب الاجتهاد بعد القرن الخامس الهجري بأنها مقولة مرفوضة خاصة، وأنه لا يوجد ما يبرر الجمود». وقال أيضاً: إن مثل هذا الكلام يساعد على إحداث «أزمة مركبة» مشيراً إلى عدم انسجامهم مع الواقع بوصفهم يحملون ثقافة مغايرة!.
وختم ورقته مشددًا على تحمل الأمانة ومسؤولية التجديد والإصلاح في الأمة والتي ينبغي أن يتحملها «التيار الإصلاحي الوسطي». الذي يجد فيه الجدارة والتأهيل لذلك، إلا أنه عاد من جديد ليمارس الدور في طرحه للأسئلة إزاء قناعاته بضرورة التجديد..
من نحن!؟
ومن الآخر!؟
وكيف تكون طبيعة الحوار بين (نحن) و (الآخر)!؟
تاركًا المجال للإجابة عنها للمشتركين في المؤتمر، وكأنه يحاول أن يُحفز الوجدان والذاكرة للقناعة بالتغيير والتجدد والإبداع، وعدم الارتكان للجمود والتكلس والدعة!.
* مدارس التجديد والإصلاح: الرُّوَّاد والأفكار
تحت هذا المحور استعرض المشاركون، وأسالوا الحبر لأجل ما بالإمكان وصفه؛ بالاستقصاء والترصد للمجمل العام من الحراك التجديدي والإصلاحي طيلة القرنين الأخيرين -التاسع عشر والعشرين-، فضلاً عن بذلهم المستطاع للكشف عمّا يترتب من آثار تنعكس على كافة الاتجاهات التجديدية والإصلاحية، وغير متغافلين -في الوقت نفسه- عن الرواد الإصلاحيين على امتداد الخريطة الجغرافية للعالم الإسلامي.
الجلسة الأولى: ( المغرب - السودان وأفريقيا - مصر )
وفي اليوم الأول من المؤتمر عُقدت (الجلسة الأولى) وقد خُصت بمدارس الإصلاح والتجديد في «المغرب - السودان وأفريقيا - مصر» والتطرق لأبرز الرواد في هذا المجال.
وإن أبرز ما ورد في ورقة الأستاذ الدكتور احميده النيفر هو أن جعل محور توليد الأفكار واشتقاقها بكل تفاصيلها الحياتية من خلال أبرز أعلام الإصلاح المغاربي، وهم: (محمد الظاهر بن عاشور 1973م - عبد الحميد بن باديس 1940م - وعلاّل الفاسي 1974م)، بل إنه ذهب ليرصد الرؤى المختلفة والمؤتلفة الصادرة عنهم تجاه الأبعاد الثقافية سواء التي هي قابعة في عمق التراث وما زلت محل جدل، أو ما هو محل نقاش معاصر يفرضه الواقع المعاش. وقد ساعده على ذلك الاستعانة بالأسئلة التي ولا شك ساهمت في وضع النقاط على الحروف إزاء أهم وأبزر التحديات التي واجهت المشروع الإصلاحي في المغرب العربي طيلة القرنين الماضيين، وكيفية تصدي الرواد الثلاثة لمثل تلك التحديات، فضلاً عن تطلعاتهم المستقبلية لذلك.
وقد أفرد لذلك ثلاثة عناوين، أولاً: ثنائية السلفية والغرب، وثانياً: الآخر والنظرة إلى الذات. وثالثاً: السياسة والشريعة.. المد والجزر. حيث من المؤكد أن البحث كان مفعمًا بالثراء الفكري ولا يسع المقام للتطرق إليه بالتفصيل، لكننا نحاول قدر المستطاع تسليط الضوء على أبرز الإضاءات منه. وبالإشارة إلى «الثنائية السلفية والغرب» وعزوه إليها بوصفها محوراً للتجاذب -الإيجابي والسلبي- الإصلاحي في البلاد المغربية، وقد خلص إلى نتيجة ربما هي محل تكرار في أكثر من بيئة، إن لم تكن الجملة التي لا تحمل الذاكرة الدينية من حل سواها، وهي: الحل يكمن في العودة إلى الإسلام!. وهذه حقيقة أولى استخلصها الدكتور النيفر، وقد أشار أيضاً إلى حقيقة أخرى تكاد تكون غائبة وهي: أن المنطقة المغاربية تتمتع بخصوصية مختلفة عن المناطق العربية الأخرى من حيث ارتباطها بالصراع مع الاستعمار الأوروبي في صيغته (الفرنسية)، وهنا الإشارة لأوجه الاختلاف ما بين البيئة المغربية مثلاً والجزائرية أو التونسية!. وبذلك وبعد استعراض مستفيض لأدق التفاصيل الكامنة جراء العلاقة ما بين (السلفية) و (الغرب) ومدى تأثيرها في الواقع؛ يأتي الدكتور النيفر ليضع الطرق والأساليب التي اتبعها الإصلاحيون الثلاثة في معالجة الأزمة بغض النظر عن اتفاقهم أو اختلافهم؛ مستخلصاً بذلك القاسم المشترك بين ذلك ليضعه بين يدي القارئ والمستمع على حد سواء. وقد يكون من المهم الإشارة إلى ما يندرج تحت عنوان السلفية وحصر حراكها في ثلاث جهات «الوهابية / السنوسية/ المهدية» على الرغم من قناعاته بأوجه الاختلاف في البنى المعرفية ما بينها.
أيضاً وجد النيفر من المفيد أن يطرح السؤال التقليدي الوارد عن «شكيب أرسلان».. لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم !؟ وجعله مرآةً عاكسة للبحث في العلاقة ما بين المسلمين والغرب، أي المبادئ التي ينبغي أن يتخلق بها المسلمون في علاقتهم مع الآخر، وكما هي العادة تكمن في استنطاق الإصلاحيين الثلاثة (ابن باديس، الفاسي، ابن عاشور). ومن الملفت ما تطرق إليه الدكتور النيفر في معرض حديثه عن العلاقة مع الآخر، عبارة «الإصلاح» من ناحية البناء اللغوي ومقاصد فهمها المختلفة.
وقبل الختام حاول وفي المحور الأخير في مناطق التنازع بين السياسة من جهة، والشريعة من الجهة الأخرى، مكرراً ومستعرضاً الرؤى التي اتبعها الإصلاحيون المغاربيون في حلحلة أهم المشكلات التي تواجه الفضاء الاجتماعي على وجه الخصوص، وإن شئت القول: بالتحديات التي هي في صراع مع الوعي الإصلاحي، الأمر الذي استدعى منه الكشف عن مجمل القضايا المعيقة التي أثبتها كإرهاصات تراكمت وتراكمت حتى «تمكن الفكر الإصلاحي بفضل معايشته للأحداث من التعبير عن مطالب سياسية مُنهياً العزلة التي كانت تعيشها القيادة الفكرية والدينية بعيداً عن القيادة السياسية».
مختتمًا البحث بالمميز الأبرز للفكر الإصلاحي المغاربي، و«هو أنه كلما ازداد حرصاً على العودة إلى الأصول، وجد نفسه متموقعًا في العصر وقيمه ومؤسساته».
ولم يكن أسلوب أستاذ الدراسات الأفريقية حسن مكي أحمد مختلفاً عن أسلوب سابقه عندما استعرض الجوانب المضيئة والمشعة بالتجديد والإصلاح في السودان وجنوب أفريقيا، إلا أن الفارق عنه ربما يتجلى في التطرق لكل رائد من رواد الإصلاح بوصفه يتمتع بخصوصية عن أقرانه عندما يتعرض إلى سيرورة تجاربهم الإصلاحية.
تأتي هذه الخلاصة المعرّفة لمكانيكية الطرح لدى الأستاذ حسن مكي أحمد بعد أن انطلق من التفريق بين أفريقيا الشمالية: المطلة على المتوسط والمتأثرة بثالوث ثقافي؛ ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وثقافة البحر الأحمر، وثقافة الصحراء. وثمة أفريقيا جنوبية: أي ما وراء الصحراء، والتي تكيفت مع مطلوبات الغابة والثقافة الرعوية والاكتفاء الذاتي بمطلوبات العشيرة والقبيلة.
الجدير بالذكر ما أكده من قول إزاء وصف بلاد السودان باعتبارها همزة الوصل بين الأفريقيتين؛ الشمالية والجنوبية، أفريقيا المثلث الثقافي وأفريقيا الغابة حسب وصفه، ومن هذا المنطلق أمعن حسن مكي أحمد النظر في التجربة لأفريقيا الشمالية حيث بسط الحديث عنها مطولاً، لا لشيء سوى أنها هي تجربة محل ثراء بالنسبة للحراك الإصلاحي الثقافي، لا سيما والسودان ونظراً لما تتمتع به من مكانة استراتيجية أصبحت مركزًا للإشعاع الثقافي للمثلث الثقافي، خاصة بعد أن توافد عليها العلماء من كافة الأقطار العربية، المغاربة والمصريون والحجازيون أيضاً. حتى «دخلت بلاد السودان عن جدارة واستحقاق في نادي الثقافية الإسلامية»، وكان لديها ما يؤهلها لذلك من خلال بروز علماء لها من المنجزات الثقافية الشيء الكثير، وهنا يشير حسن مكي أحمد لأبزر أولئك كـ«عبد الكريم المغيلي، وأحمد بابا 1556م عالم (تمبكتو) الكبير وله من المؤلفات ما يربو عن خمسين مؤلفًا.. ومحمود كعت 1468م، وعبد الرحمن السعدي 1596م، محمد النور بن ضيف الله 1727م.
وهذا على العكس مما حدث في أفريقيا الجنوبية الغربية التي أشار إليها الدكتور في بحثه وخشيته على المسار الثقافي المتنور بعد أن تداخلت هذه الثقافة مع طقوس الخرافة والأساطير ومعاقرة السحر، مع تأكيده أن مثل هذه لا يمكن أن تنسحب بشكل كلي وشامل على سائر المناطق ولو كان قد أحتسبها على المنطقة الجنوبية من أفريقيا، إذ يقول: «إن بلاد السودان الغربي لم تعرف مثل هذه التعقيدات وظلت على بساطة الثنائية ما بين الإسلام والوثنية الأفريقية والإسلام والتخليط. وتقبل أهل السودان الغربي التصوف بتسامحه وطقوسه وشيوخه..». وهنا تجدر الإشارة إلى الشيخ «سيدي المختار الكبير الوفي الكنتي 1729م، الذي كان أحد أعمدة التأسيس لتيار التصوف في السودان الغربي، بل إنه المسؤول عن الطريقة القادرية التي لاقت نجاحاً كبيراً في الوجدان الشعبي في فترة لا بأس بها من عمر بعض جنبات أفريقيا.
ولا غرو أن يؤدي الفعل التاريخي وتراكم تجربة الحراك الإسلامي في السودان إلى بروز شخصيات عديدة ليست على قناعة بالتجديد والإصلاح فحسب، بل ساهمت بشكل كبير في التأسيس للعمل الميداني في هذا المضمار، ولعل الشيخ «عثمان دان فودي» نتاج طبيعي للتراكم التاريخي ذلك، واعتباره رائدًا من رواد الإصلاح والتجديد في السودان إن لم يكن على رأسهم، باعتباره قد نجح في التنظير والتنزيل، بمعنى أنه وضع الأساس الروحي والفكري لدعوته عبر مؤلفاته وأشعاره، بل إنه ساهم إلى حد كبير في تنشئة الجماعة النواة التي باتت مقتنعة بأطروحاته وأفكاره، والانتقال بهم من مرحلة التكوين إلى مرحلة التمكين، أي إلى تأسيس الدولة. على العكس مما كان يحمله أهل السودان الشرقي من طموحات في إقامة «دولة خلافة» مشابهة إلى ما حدث في السودان الغربي.
ما كان له أن يختم ورقته إلا بعد أن أفرد الدكتور حسن مكي أحمد مساحات خصّها في مآثر ومناقب رواد الإصلاح والتجديد، وأهم سماتهم المناهجية في المضمار ذاته، فقد وقف عند السيرة العلمية والعملية للشيخ «أحمد بن إدريس الفاسي» الذي أصّل إلى مفهوم (الجماعة) والتي هيأت الفرصة للتواصل مع الآخر بصورة رحبة، وبالرغم من كل ذلك إلا أنه كان موقفه من الحكام والملوك موقفاً يجمع بين الصرامة من جهة، والأخذ بفن الممكن من جهة أخرى، فقد كان يبتغي ويتحرى العدالة ولو جاءت من كافر!. إضافة لذلك ما اتسم به منهجه في العمل الذي لا يعترف بالبيئة فقد كان أمميًّا وعالميًّا، وكفى بسيرته شاهدًا حيًّا على ذلك.
وتوالى الدكتور حسن مكي أحمد في التطرق إلى شخصيات أخرى ساهمت بشكل كبير في الارتقاء بالفكر التجديدي الإصلاحي في السودان برمته، مثل الشيخ «أحمد الطيب البشير 1825» الصوفي السوداني الذي أصبح مؤسساً لأكبر مؤسسة صوفية في تاريخ السودان، والشيخ «الميرغني الكبير 1823م»، و«السيد أحمد التجاني 1815م». وعلى الرغم من اختلاف مشاربهم وبيئاتهم؛ فقد شكّل هؤلاء الثلاثة بالإضافة إلى ابن إدريس الفاسي النواة الحقيقة للحراك التجديدي والإصلاحي في بلاد السودان بقسميه الشمالي والجنوبي.
وأنهى ورقته بأشبه ما يكون بمجموعة من المستخلصات الناجمة عن سيرة الإصلاح في بلاد السودان على مدار القرنين الماضيين، ولو أنها أخذت منحىً توجيهيًّا أكثر منها خلاصة عمل، لكننا لا نستطيع أن نخرجها من مضمونها المفيد، وكأنه أراد أن يختم حديثه بتوصيات وفقاً لمسار البحث الذي يضطره لذلك.
ومن خلال البحث الذي خصه بـ(مصر) يرى أستاذ التاريخ بجامعة المنصورة «زكريا سليمان بيومي» أن البعد السياسي قد ساهم إلى حد كبير في استمرار ظهور الأفكار والرواد الإصلاحيين، رابطًا ذلك بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر أواخر القرن الثامن عشر، بوصفها بداية لمرحلة تاريخية جديدة يبدأ بها التاريخ المصري الحديث، بغض النظر عما كانت تحمل من محاسن أو مساوئ على حد سواء، فقد انقسم الطيف الثقافي آنذاك إلى قسمين: بعضهم يراها فتحاً عظيماً على الحضارة بكل أدواتها التفصيلة، وبعضهم عزاها للإسفاف والتفرنج واختراق للعادات والتقاليد؛ وبالتالي جعلها في خانة الشر المطلق!.
وإنه ليس بمستغرب أن يتدثر معظم رواد التجديد والإصلاح بدثار السرية في العمل تحت غطاء نظام الجمعيات «بدءًا بالشيخ العطار ومحمد علي، ومروراً بالطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم». إلا أنه أي -الأستاذ بيومي- لم يخرج التحرك الإصلاحي في تلك الآونة عن ثلاثة محاور رئيسة: أولهم/ المتمسك بالتراث؛ مثل «جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ عبدالعزيز جاويش، والسيد رشيد رضا، ومصطفى صادق الرافعي، والإمام حسن البنا، والشيخ سيد قطب وغيرهم. وثاني المحاور/ الثائرون على الماضي والمستفيدون من الآخر سياسيًّا وعلميًّا، ويتصدر القائمة هذه تلامذة الشيخ محمد عبده، مثل «لطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين، والشيخ علي عبد الرزاق». وثالث هذه المحاور/ التمرد والتجاسر على الموروث الثقافي وكافة أساليب التعليم التقليدية، والدعوة لإصلاح التعليم كأساس للإصلاح والتجديد، ومن أبرز هذا التيار أيضاً، الشيخ «حسن العطار، والشيخ رفاعة الطهطاوي، وعبدالله النديم، ومحمد عبده، وطه حسين، وحسن البنا».
وتأسيساً على هذا ذهب الدكتور بيومي مفصلاً لهذه المحاور عبر صور ومشاهد حية، لم تكن مستوحاة من أفكارهم ورؤاهم بل أيضاً من مسارهم ومنهجهم العملي في الميدان، والضرورة البحثية تضطره إلى الأخذ بالمسار السياسي لكل من هذه المحاور خاصة، والبيئة وكما يبدو تتطلب هذا الأمر، فقد خاض أبرز الأخلاقيات الحركية والأدبيات العملية ليس على صعيد الأشخاص فحسب، بل أيضاً لم يستثنِ دور الحركات الإسلامية ورؤيتهم السياسية تجاه الدولة وما إلى ذلك من تبعات.
وعلى الرغم من المسار السياسي الذي اتسم به البحث إلا أن هذا الأمر لم يمنع الباحث من التطرق لأهم الكتب الرئيسة التي ألفها رواد الإصلاح في مصر بغض النظر عن اختلافهم الفكري، مثل كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين، الذي أصبح صداه يملأ الأرجاء، وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرزاق والذي لا يقل أهمية عن سابقه، وكذلك كتاب (اليوم الغد) لسلامة موسى والذي دعا فيه للتخلص بحزم من الثقافة الشرقية، والالتحاق بالغرب، معرباً عن كراهيته للثقافة الشرقية. بالإضافة لكتاب (تحرير المرأة) لأهم الرواد الإصلاحيين في الميدان الاجتماعي قاسم أمين، وهناك العديد من المؤلفات التي ساهمت في نسج خيوط التجديد والإصلاح في بلاد مصر ولو جاء مسارها الفكري مغايرًا ولربما مصطدمًا مع بعضها الآخر!.
واختتم الدكتور بيومي ورقته بملاحظات خصها بالأفكار والرواد، معلقاً على التجربة الإصلاحية والتجديدية في بلاد مصر، وقد ذكر سبع ملاحظات في هذا الصدد، ولعل من أهمها إشارته إلى البعد السياسي وما ترتب عليه من آثار ساهمت في تدافع التجديد فضلاً عن توالد رواده المتميزين. أيضاً ما تناوله من قواعد دينية تأسس عليها معظم الرواد ولو جاءت مخرجاتهم وتوجهاتهم مغايرة لذلك. والمتمعن في الأمر يستطيع أن يشهد حالة من التداخل في مسار التحرك التجديدي للبعض من هؤلاء الرواد، فقد يكون بعضهم يأخذ أكثر من مسار في آن واحد، فلا غرو أن تجد اسمه لامعاً في أكثر من ميدان وأكثر من جهة. كذلك لم يعفِ الغرب من تدخلاته المباشرة التي ولاشك تركت أثراً كبيراً سواء في التجربة ذاتها أو على المنحى المنهجي لبعض الرواد بذاتهم.
وكلمة الختام كانت لورقة أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة حسن حنفي والتي أخذت مساراً مختلفاً عن ورقة الدكتور بيومي على الرغم من توافقهما معاً في العديد من الجوانب والأبعاد لتجربة التجديد والإصلاح في بلاد مصر، إلا أن ما يميز ورقة حنفي عنها هو إشارته إلى (كبوة الإصلاح) جاعلاً إياها في الصدارة على صيغة تساؤلات، جاءت حصيلة تتبعه لمسار التجديد في مصر على وجه التحديد، لكنه قد (نعى) هذا المشروع والمسار بعد أن وصل إلى (الجيل الخامس) على اعتبار أن النهضة الحديثة أُرّخت مع مطلع القرن الماضي باصطلاح المؤرخين، وكأن نبوءة «ابن خلدون» قد تحققت في تاريخنا المعاصر، وهي أن الدورة التاريخية للنهضة تمتد دائماً لأربعة أجيال فقط!.
وبالعودة لتقسيماته للتيارات المجددة في مصر اتفاقاً مع الدكتور بيومي فقد قسّمها أيضاً إلى ثلاثة تيارات، ورغم توافقه هذا إلا أنه أكسبها عناوين أخرى أخذت منحى مختلفاً إلى حد ما، التيار الأول/ الإصلاح الديني. والثاني/ تيار الفكر العلمي. والثالث/ تيار الفكر السياسي الليبرالي. وقد أخذ يُشكل الرواد على حسب هذه التيارات من خلال توجهاتهم ومساراتهم الميدانية، والتي شهدت الكثير من التقلبات إثر عوامل عديدة ويكون عامل السياسة يتسنم صدارتها.
اللافت في الأمر تفسيره الموضوعي للأزمة والتي أسماها بـ(كبوة الإصلاح)، فقد عزا ذلك لأسباب عدة، أولها: عمرها القصير، فقد «انتهت بمجرد أن بدأت، وسقطت بمجرد أن قامت، وكأن الصاروخ لم يستطع أن يخترق حجب الفضاء وعاد إلى الأرض بمجرد الانطلاق وانتهاء قوة الدفع الأولى». إضافة لذلك وهو السبب الثاني: أن مسار هذه النهضة لم يأخذ شكل خط مستقيم بل كان متعرجًا، مما أفقدها القدرة على التراكم المنهجي للتجربة، فهي مرتهنة بالقوة حال تصاعد مؤشرها، وبالضعف لانخفاضه!. بالتالي حدثت القطيعة القهرية ما بين الأجيال، «ولم ينشأ حوار بين القدماء والمحدثين إلا في أضيق الحدود وفي مجالات الأدب دون الفكر والتأريخ!. ولم ينشأ حوار بين الأموات والأحياء، بل أعيد حوار الأموات فيما بينهم في المناقضات الأدبية أو حوار الأحياء فيما بينهم «.. بالتالي أصبح الوعي السياسي بلا رؤية ولا منظور، مما أدى قصر هذا الحراك على النخبة من المثقفين تحت أطر ضيقة كـ«صالونات فكرية أو منتديات ثقافية دون أن تكون حركة جماهيرية أو ثقافية شعبية»!.
أيضاً امتد في تفسيره لـ(الكبوة)، ولعل ذلك يكون السبب الثالث: عندما ذكر الحملات المتكررة والمجهضة لأي نشاط إبداعي مما يضطر المجتمع أن يعود لنقطة الصفر ويبدأ من جديد، مستشهداً بدولة محمد علي التي ما إن بدأت حتى انتهت، لينقلب المشروع الإصلاحي عن مقاصده الرامية للوحدة والاستقلال والنهضة، إلى الاحتلال والتقويض والتجزئة!.
وانطلاقًا من تقسيمات الدكتور حنفي للتيارات الفكرية في مصر: الإصلاح الديني، والتيار العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي، واصفاً إياها بـ(روافد النهضة الحديثة)، و«في حقيقة الأمر إن هذه الروافد الثلاث إنما تمثل موقفًا حضاريًّا واحدًا ذا شُعب ثلاث -والقول لحنفي نفسه-: الموقف من القديم، والموقف من الغرب، والموقع من الواقع. فالحركة الإصلاحية إحياء للقديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر العلمي العلماني ثورة على القديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر السياسي الليبرالي تمثل للقديم وتمثل للغرب من أجل بناء الواقع. الإصلاح الديني -لحنفي دائماً- هو رد فعل على القديم بالإحياء، والفكر العلمي العماني رد فعل على الغرب بالتمثل، والفكر السياسي الليبرالي هو رد فعل على الواقع ذاته بإعادة بنائه». لذا يكون من البدهي أن تتقارب هذه الروافد الثلاثة أكثر مما تتباعد، وتجتمع أكثر من أن تتفرق، وتتفق فيما بينها أكثر مما تختلف!.
وقد يكون في التحدي الأساسي للجيل المعاصر هو عدم تمكنه من مواجهة قضايا العصر الرئيسية، ولعلنا نضيف هذا العنصر لقائمة الأسباب ليكون سبباً رابعاً من أسباب الكبوة، لاسيما وهو كجيل ما يزال يراوح مكانه ويكرر المواقف بكل سذاجة، مما يجعله دائماً في موقع الدفاع، بالتالي يكون الموقف الحضاري له عاجزاً عن تخطي هذه الأزمة من تموضعه الدفاعي إلى النقدي، وتطبعه بالحماسة على العلمية، وتغليبه للإنشاء أكثر منه عن الخبر، وبالخطابة عن التحليل، ويختم بحثه بـ«ليس كبوة الإصلاح عيباً في الإصلاح، بل عيب في عدم تطوير الجيل الخامس له، وإعادة صياغة مشروع الإصلاح طبقاً لظروف كل جيل»!.
الجلسة الثانية: (شبه الجزيرة العربية – سوريا «الشام» – شبه القارة الهندية)
من الطبيعي أن يأخذ الحوار حالة من الرتابة طالما بقي عنوان الجلسة الثانية يفرض حالة الاستعراض لأهم مشروعات الإصلاح والتجديد، إلا أن ما يخرق هذه الصورة الواحدة هو تعدد التجربة الإصلاحية من بيئة إلى أخرى، وقد أتت هذه الجلسة لتعكس المسار الإصلاحي والتجديدي على حد سواء في البلدان التالية (شبة الجزيرة العربية - سوريا «الشام» - وشبه القارة الهندية).
وفي هذه الجلسة تناول الدكتور السالمي في ورقته التي خصها بالحراك الإصلاحي في شبه الجزيرة العربية أهم المشاهد التاريخية والمحصورة في القرنين الأخيرين، مشيراً للجوانب المضيئة والتي بالإمكان التأسيس عليها لأجل أن تؤدي دوراً مضافاً ساهم في تراكم تجربة التجديد والإصلاح، وقد عمد السالمي لتقسيم المشاهد التاريخية لثلاثة أقسام، بحث لم يغب عنه أبرز رجال التجديد والإصلاح لكل من المشاهد المذكورة.
المشهد الأول: عندما بدأت أنظمة مستجدة في الظهور في الجزيرة العربية وهنا الإشارة إلى النظام الملكي السعودي واحتوائه أقاليم متعددة داخل الجزيرة، وفي المقابل ظهور السلطنة في عمان، ويكتمل المشهد في النظام الجمهوري في اليمن. وقد سلط الضوء على مدى الأثر الذي تركته هذه الأنظمة في علاقة الدين بالدولة، والأنظمة السياسية الحاكمة بالنظام التعليمي الديني على وجه الخصوص.
الأمر الذي استدعى منه استعراض التفاصيل الدينية والسياسية معًا حسب المسار التاريخي لكل بيئة من البيئات المعنية ( السعودية - اليمن - عمان )، وحقيقة لا نعلم لِمَ حصر الدكتور التجربة في هذه البلدان مع وجود تجارب سياسية لا تقل أهمية عمَّا تطرق إليه كما في البلدان الخليجية الأخرى!. وبالعودة لمحور الموضوع نجد أن البحث تناول المذاهب الدينية التي ظهرت في هذه البلدان آنذاك ومدى أثرها في الحراك الإصلاحي، خاصة وثمة تفاوت ليس بالبسيط بين هذه المذاهب في رؤيتها للأمور، مشيراً لـ(الزيدية) و(الشافعية) و(التصوف) في اليمن، و(الأباضية) و (الشافعية) في عمان، و(الحنابلة) على التخوم الصحراوية في السعودية بالتحديد.
المشهد الثاني: فكان جلّ الموضوع يتركز على عملية نهضة الإصلاح الديني في الجزيرة العربية والتي تزامنت مع النهضة الحديثة، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى الحركة السلفية التي تصدّى إليها الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» مستظلة بأفكار ورؤى الشيخ ابن تيمية، فقد تعاظم شأنها في الجزيرة العربية في الوقت الذي شهد اليمن انكسارًا للفكر الزيدي، لتأتي الدعوة السلفية وتكتسح الجغرافيا بعد أن بات من المقبول ما قدمته من دعوات يجعلها في صدارة الحراك الإحيائي لا سيما دعوتها للعودة للجذور الإسلامية وفق المفهوم السلفي!.
المشهد الثالث والأخير: التدخل الخارجي من بريطانيا بالتحديد في المنطقة وإعادة رسم شكلية حدود الجزيرة العربية بصورتها المعاصرة، بدأ ذلك بعد انحسار الدولة العثمانية، وأعقب ذلك الاكتشافات النفطية، إلى أن تبدلت صورة الشرق الأوسط. وصياغة أنظمة خليجية جديدة مستقلة، تستأثرها العائلات الحاكمة. وعلى الرغم من هذا التحول الدراماتيكي؛ انعكس على التوزيع المذهبي في المنطقة برمتها، الحنبلية، الشافعية، المالكية، وكذلك الشيعة. وإلا أن العائلات الحاكمة كانت على المذهب السني وبقيت إلى عهدنا المعاصر.
أراد الدكتور السالمي بذلك أن يحدد بوضوح منهجه في البحث في دراسة التباينات الفقهية والمذهبية على الصعيد الشعبي والتركيبة السكانية لهذه المنطقة على الرغم من توحدها في المذهب السني بالنسبة لأنظمتها السياسية، لا لشيء سوى أنه أراد أن يواشج ما بين (الدين والدولة) أو (السياسية والدين ) وأثر ذلك في الإصلاح في هذه المنطقة، ومن جهة أخرى أيضاً يلفت نظرنا إلى ارتباط الإصلاح بذاته مع التعليم الديني، وهنا يفرّق ما بين الإصلاح والتجديد في بعدهما الموضوعي.
بهذا يشير الدكتور السالمي إلى أن الإصلاح بدأ دينيًّا وليس سياسيًّا، ناهيك عن التفاعل الديني مع موجة الإصلاح أكثر منها في البعد السياسي؛ لذا لا وجه للاستغراب إذ ما تحوّلت الوجهة الإصلاحية إلى بلاد العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، وكأنه يريد القول: إن الباحث عليه ألَّا تغيب عنه هذه الرؤية فيما لو أراد العمل بالبحث العلمي والموضوعي.
وبعد أن سلّط الضوء على البيئة في شبه الجزيرة العربية ومن أبعاد مختلفة سياسية كانت أو دينية أو تعليمية أو ثقافية، جاء ليوضح ما يراه مهمًّا على صعيد الإنجازات التي تستظهر الإصلاح والتجديد في العالم الإسلام بصورته المحددة في الجزيرة العربية، وقد اختزل ذلك في أمرين:
أولاً: المنظمات الدولية، وهنا يعود لأهمية الدول السياسي على الصعيد الخارجي وما ينعكس على ذلك في الصعيد الداخلي.
وثانياً: البنوك والمصارف الإسلامية. وهذه النقطة تجعل من هذه الدول على مسافة واحدة بين التراث كتأصيل، وبين المعاصرة كحراك لا بد من التناغم إياه.
واختتم بحثه بما أسماه بإشكاليات تواجه الإصلاح الديني:
- إشكالية الانسجام بين الدين والدولة.
- إشكالية المواطنة والإصلاح الديني.
- إشكالية التعليم الديني.