مؤتمر:
«العنف في النصوص المقدسة»
نظمت كلية اللاهوتية والدراسات الرعائية في الجامعة الأنطونية في بيروت مؤتمراً تحت عنوان: «العنف في النصوص المقدسة» وذلك بين 26 - 27 حزيران 2009م.
هدف المؤتمر إلى صوغ مقاربة متكاملة لظاهرة ممارسة العنف ضد الآخر المختلف دينيًّا وعرقيًّا، في النصوص الدينية لدى الديانات التوحيدية.. وقد حاولت الأوراق المقدمة إلى المؤتمر مناقشة هذه الإشكالية من خلال:
1- الإضاءة على دلالات العنف في النص الديني في الديانات السماوية بشكل عام.
2- التعريف بأبرز النظريات التي تفسر ارتباط ظاهرة التقديس بالعنف.
3- إغناء ونقد هذه النظريات على ضوء تجربة شعوب البحر المتوسط والتجربة اللبنانية بشكل خاص.
أما المشاركون في المؤتمر فهم رجال دين ولاهوتيين وأساتذة جامعة وبعض رجال السياسة ممن لديهم اهتمام بالموضوع...
الجلسة الافتتاحية
في الجلسة الافتتاحية تحدث كل من الأباتي بولس تنوري رئيس عام الرهبانية الأنطونية، والأب جوزيف بورعد عميد كلية العلوم اللاهوتية والدراسلات الرعائية، كما ألقى د. موسى وهبة محاضرة عن العنف والعنف المقدس: بحث في الدلالات.
في البداية اعتبر الأباتي بولس تنوري أن معالجة العنف في النصوص المقدسة ليست بالأمر السهل، نظراً لما قد تتسبب فيه من حساسية، عند الذين لا يقبلون أن يتعرض أي نص من نصوصهم الدينية المقدسة إلى نقد أو تفسير مغاير لما يعتقدون أنه حقيقة مطلقة.. لكن -كما يقول الأباتي بولس- فالدين باعتباره رسالة سماوية، قد يتعرض للاجتزاء والتعلق ببعض العبارات التي تؤدي إلى التعصب والأصولية، ما يقود إلى ارتكاب أبشع الحماقات الاجتماعية والحملات الإرهابية، لكن هل المشكلة في النصوص المقدسة أم في طريقة فهمها وتفسيرها؟
يرى الأباتي بولس أن أساس المشكل هو في اعتبار ما ليس بمقدس مقدساً، مؤكداً أن رسالة الدين لا يمكن أن تدعو إلى التفرقة بين الناس، بل هي دعوة إلى الأخوة والمساواة والعدالة. كما أن وجود بعض النصوص المقدسة التي تدعو إلى العنف لا يبرر القيام بالعنف والحروب والإبادات وكأنها أعمال بأمر الله. وفي الأخير أكد الأباتي بولس تنوري أن علينا أن نعرف حقًّا ما هو مقدس لنحافظ عليه وما ليس بمقدس لنحرر المقدس منه....
الأب جوزف بورعد تحدث في كلمته عن مسوغات اختيار موضوع المؤتمر، وحاجة المؤمن المعاصر لفهم بعض النصوص المقدسة التي تتنافى مع سمو الدين وسماحته، وكذلك مواجهة التحدي الذي أطلقته بعض الحركات المتطرفة التي تستند إلى هذه النصوص لممارسة العنف تجاه الآخر، ما جعل البعض ينظر إلى الأديان باعتبارها مصدراً من مصادر العنف الذي يجتاح العالم المعاصر، داعياً في الأخير إلى: السير قدماً بشجاعة الحقيقة وبخطى ثابتة في منطق الحوار والتفاهم من خلال الإضاءة على ما يجمع الأديان السماوية على مستوى القيم والمعتقدات والنصوص...
في هذه الجلسة كذلك قدّم د. موسى وهبه محاضرة بعنوان: «العنف والعنف المقدس» حاول فيها في البداية تقديم مقاربة تعريفية لمفهومي العنف والمقدس، أكد فيها أن تعريف المقدس لا يقل غموضاً وإشكالية عن تعريف العنف... ويتضاعف الإرباك ما إن نطرح السؤال عن العلاقة بين العنف والمقدس، هل هي علاقة تضاد أم تكامل أم احتواء؟
وبعد استعراضه لعدد من النصوص المقدسة التي تدعو لممارسة العنف تجاه الآخر، أكد د. وهبة أن العنف يسكن في قلب المقدس لا على أساس أنه مطلوب لذاته بل لهدف أسمى منه هو القضاء على العنف، أي إراقة الدم لحقن الدماء أو بلغة مدنية: عنف مشروع ومطلوب بإزاء عنف لا مشروع. ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو: ما الفيصل بين العنف المقدس والعنف المدنس؟
قد استطاعت البشرية والحضارة المعاصرة أن تقنن العنف، في محاولة لاحتكار العنف من طرف الدول، لكن ذلك لم يحل المشكل وإن استطاع أن ينقل في بعض المجالات العنف من مجاله الفعلي إلى مجاله الرمزي. ومع ذلك لا يزال السؤال مطروحاً على البشرية، إذ كيف يمكن العيش بسلام دائم؟ وعلى أي أساس نبني ما يجب أن يكون؟
الجلسة الأولى
الجلسة الأولى أدارها د. جوزيف معلوف، وتحدث فيها كل من: د. شوقي الدويهي ود. عدنان حب الله ود. مشير عون...
في كلمته أكد د. جوزيف معلوف أن مسألة العنف في النصوص الدينية هي مسألة ترتبط بالحقيقة، فخطة التحصن الديني المستندة إلى امتلاك الحقيقة المطلقة في الديانات السماوية الثلاث، هي أساس كل عنف، تغذيها مصالح الإقطاع الديني والسياسي للمحافظة على مكتسباته الاجتماعية والاقتصادية، لذلك طالب د. معلوف بضرورة قراءة هذه النصوص ضمن رؤية أنثروبولوجية وتحليلية لتفكيك هذه الأوهام، وإعطاء البعد الإنساني الأولوية، لجعل النص الديني في خدمة الإنسانية....
ثم قدم بعده د. عدنان حب الله ورقة بعنوان: «العنف المقدس» حيث تحدث عن جذور العنف في الطقوس الدينية حيث نجد الضحايا تذبح باسم المقدس المعتمد من قبل المحاربين، مؤكداً أننا لم نتمكن في العصر الراهن من فصل المقدس الديني عن العنف، وأن دوافع العنف على ضوء التحليل النفسي انتقلت من الوعي المنطقي إلى اللاوعي المتحكم، فبدلاً من التضحية بأحب الناس أو بفرد من أفراد العشيرة، استبدل ذلك بالتضحية بالأعداء والأسرى لاسيما إذا كفروا بمقدساتنا.
وفي الأخير أكد د. حب الله أن الخطاب العلمي في الحضارة المعاصرة احتل مكان الخطاب الديني، وأصبحت الضحايا تذبح على مذبح المعبد العلمي، وخلافاً للخطاب الديني، فالخطاب العلمي يمتاز بإلغاء الذات الإنسانية، كما أصبحت الضحايا بفضل التقدم العلمي، بالآلاف، بل بالملايين...
أما د. مشير عون (أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية) فقد قدم ورقة بعنوان: «العنف في لاهوت التوحيد والتماهي» أشار فيها في البداية إلى أن القضية التي سيناقشها هي: النظر في انفطار الأديان التوحيدية على قسط عظيم من العنف، وذلك من جراء إلتجائها إلى مقولتي التوحيد والتماهي في بناء العمارة الفكرية الدينية، والمثال الذي تناوله البحث هو مثال الأنظومة الدينية المسيحية في جذورها اليهودية، في محاولة للمساءلة عن طاقات العنف التي تستنبطها في قطاعين، الأول المجال اللاهوتي الذي فيه ينسب الله إلى ذاته شيئاً من العنف في كلامه الذي ينطوي عليه... والقطاع الثاني هو المجال اللاهوتي الذي فيه ينسب المؤمنون إلى الله تصوراً للذات الإلهية يفضي بهم إلى تبرير العنف الديني الخلاصي المنقذ من الضلال...
وبعد مناقشة هذين القطاعين، يخلص الباحث إلى أن نظرة الأديان التوحيدية إلى الوحدة الإلهية وادّعائها امتلاك الحق الإلهي أو الانسلاك في سبيله الأوحد، هما السببان اللذان يجعلان الأديان حاملة للعنف في تصورها لجوهر دعوتها.
أما بخصوص مقتضيات تحرر الأديان من تجربة العنف، فيرى الباحث أن على أهل الأديان الاتفاق على جملة مبادئ أولها: أن الحقيقة ليست قولاً ثقافيًّا واحداً يطابق الواقع مطابقة كاملة. المبدأ الثاني أن الأصل الإلهي لا يستتبع وحدة الاختبار الإيماني. والمبدأ الثالث أن الصدق في الإيمان الذاتي لا يعطّل الصدق في إيمان الآخرين. فإذا اعتصم أهل الأديان -يقول الباحث- بهذه المبادئ الهادية، استطاعوا أن يتجاوزوا محنة العنف الديني، وبلغوا إلى نضج إنساني ومعرفي وروحي يخولهم أن يميزوا في عماراتهم الدينية بين دوائر ثلاث من الاختبار الإنساني والاختبار الروحي اللاهوتي...
الجلسة الثانية
وتحت عنوان: «العنف في نصوص اليهودية: دراسة مناهج»، عقدت الجلسة الثانية، وقد أدارها الخوري جان عزام، وتحدث فيها في البداية: د. نقولا أبو مراد عن: «العنف في الشريعة» حيث حصر الباحث حديثه في المقاطع التي تتحدث عن القتل ضمن الجماعة اليهودية في الجزء الأول من العهد القديم، وخصوصاً في أسفار الخروج واللاويين والعدد، ومن خلال هذه النصوص يتبين أن سبب الدعوة إلى قتل آخرين من الجماعة وتهديد الله بالقتل أو الإفناء والعنف اللفظي، يكاد ينحصر بالابتعاد عن شريعة الله وخيانته الأمانة، كما وقع لبني إسرائيل عندما عبدوا العجل لما أبطأ عنهم النبي موسى C، فلما عاد أمرهم الرب بقتل أنفسهم ليتطهروا من هذا الذنب. وغيرها من النصوص الأخرى.
وقد عمل الباحث على تتبع مفهوم العنف في هذه النصوص وتطوره وكيف تغيبت الذبائح لتستبدل بالكلمات، ليصل في نهاية البحث إلى التأكيد على أن العنف في نصوص الشريعة هو صورة رمزية وبُعد روائي، سيناريو ليخرج الفاسقون من القصة، ليبقى المشهد مشهد طهر المحبة، دعوتنا جميعاً... ومن يستطيع الإنسان أن يقتله هو الغريب الذي فيه، هذا الكاره المبغض الظالم ليحيا آخر محبوب ومحب إلى منتهى الدهر...
أما الخوري جوزيف نفاع فقد قدّم ورقة تحت عنوان: «إشكالية العنف في الأسفار التاريخية» أشار فيها في البداية إلى أننا عندما نقول العنف في الأسفار التاريخية نقول: «العنف في كتاب العنف»، وخصوصاً سفر يشوع الذي هو سفر احتلال الأرض والحروب المقدسة والإبادات الجماعية للوثنيين دفاعاً عن نقاوة دين الله وبأمر منه مباشرة: وفيه يأمر الرب بني إسرائيل إذا ما دخلوا الأرض التي أمرهم بالدخول إليها أن يحرموا أهلها تحريماً، أي قتل جميع أهلها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وأحياناً حتى البهائم والمزروعات وإحراق المدينة وكل ما فيها، جاء في سفر يشوع: «فصعد الشعب إلى المدينة (أريحا)، حرموا كل ما في المدينة من الرجل حتى المرأة، ومن الشاب حتى الشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، فقتلوهم بحد السيف..».
وهنا تقع الإشكالية يقول الباحث: الله المحارب، المنتقم يأمر بالقتل، ويعاقب على عدم الإفناء، هكذا إله، لا يمكن نعته بالمحب ولا نرى فيه وجه من يريد خلاص كل البشرية، إنه بالأحرى إله دموي محرض على الحرب، هذا الإله ليس حتى إلهاً عادلاً، إذ ينتزع شعباً من أرضه ليزرع مكانه شعباً آخر، اختاره هو لنفسه.
لكن الباحث أشار إلى أن هذه النصوص المقدسة تحتاج منا إلى قراءة جديدة لفهم المقصود منها وقراءتها في سياقاتها التاريخية ودلالات الكلمات فيها التي تتطور وتتغير، كما أن الدراسات التاريخية تؤكد أن «التحريم» لم ينفذ مطلقاً في التاريخ الإسرائيلي. وهكذا يخلص الكاتب إلى أن ما تقوله الأسفار التاريخية عن صراعات مع الوثنيين وتحريم وإبادة، لا يتعدى كونه زجراً تربويًّا من قبل الكاتب الملهم للجماعة التي هو مسؤول عن إيمانها وعن نموها الروحي.
لكن الكاتب نسي أن بني إسرائيل اليوم يمارسون هذا التحريم (القتل) في أقسى أنواعه وبأفتك الأسلحة المحرمة دوليًّا على الشعب الفلسطيني الأعزل، وبذلك لم يعد التحريم في الأسفار التاريخية مجرد زجر تربوي للجماعة اليهودية وإنما ممارسة يومية الآن على الساحة الفلسطينية..؟!
الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدمها الأب إميل عقيقي بعنوان: «العنف في التوراة الشفهية» وقد أشار الكاتب في البداية إلى أن التوراة الشفهية ترتبط وثيقاً بالتوراة الكتابية، لأنها بمثابة تفسير وتأويل لها، كما أكد عدم وجود تحديد واضح للعنف ولا دراسة مفصلة في التوراة الشفهية، ولا نصوص مسهبة داعية إليه، وكل ما نجده هو بعض المواقف الفردية والسلبية. وما قام به واضعو التوراة الشفهية خلال تفسيرهم للتوراة الكتابية، هو التخفيف من حدة المشاهد العنفية الحاملة سمات البدائية والهمجية، البارزة في النصوص الكتابية، التي قد تشوّه صورة من هم شعب الله المختار، لا بل صورة الله نفسه...
ثم شرع الكاتب في معالجة موضوع العنف من خلال مسألتين: جذور العنف الإنساني كما فهمها شُرّاح التوراة، ومسألة قراءة التوراة الشفهية لنصوص عنفية في التوراة الكتابية. بالنسبة للمسألة الأولى أشار الباحث إلى أن مظاهر العنف تملأ صفحات كثيرة في التوراة الكتابية، تجعل القارئ وكأنه أمام أرشفة لتاريخ العنف في الشرق، وهذا ما دفع الشراح إلى تفسيرها في محاولة منهم التخفيف من وطأتها أو تبريرها، أما ما توصلت إليه هذه الشروحات فهو التأكيد على أن أصل الشر والعنف في الإنسان هو وجود ميلين يتنازعان في باطن الإنسان، ميل شرير يدفعه إلى تدمير ذاته والآخرين، وميل آخر خير يدفعه إلى التفاني في عمل هذه الإرادة، ويسعى إلى تحقيق إنسانيته في ظلها، وقد خلق الله في الإنسان رغبة بالتخلص من الميل الشرير، وجعل له التوراة دواء ناجعاً، فكل من يدرس التوراء ويعيش بموجب وصاياها ينتصر على ميله الشرير....
أما بالنسبة لقراءة التوراة الشفهية للنصوص العنفية في التوراة الكتابية، فقد تحدث الكاتب عنه من خلال المحاور العنفية الثلاثة في التوراة الكتابية:
- عنف بين الإخوة (قابيل وهابيل)
- عنف تشريعي (كيل بكيل)
- عنف في العلاقة بين إسرائيل والأمم.
وبعد الحديث عن معطيات التوراة الكتابية بخصوص المحورين الأول والثاني، خلص الباحث في المحور الثالث، إلى أن من يتصفح العهد القديم يرى نفسه أمام مسلسل مستمر من المواقف العنفية بين إسرائيل والأمم المحيط به، في أرض كنعان، وبينه وبين الأمم الكبيرة في الجنوب (مصر) وفي الشمال. وتبرير هذا العنف هو الدفاع عن الأرض - الميراث، وعلى وحدانية الله تجاه تعدد الآلهة الغريبة، وعلى الهوية الاستثنائية لإسرائيل. وهذا الحرص والدفاع عن هذه الأهداف، هو الذي جعل إسرائيل مضطراً (؟!) لتحريم (إبادة) الأمم التي تعيش على هذه الأرض بحد السيف.. كما يقول الكاتب.
وهنا يتوقف الكاتب مليًّا لمناقشة الاعتقاد اليهودي بالشعب المختار، وكيف أن هذا الاعتقاد أثّر كثيراً في العلاقة بين بني إسرائيل والأمم الأخرى، فهذا الاعتقاد هو وراء كراهية الأمم والشعوب والتفكير في القضاء عليها وإبادتها.. ومع أن بعض حكماء بني إسرائيل حاولوا التخفيف من حدة هذه النصوص والمواقف، إلا أن من يراقب التاريخ اليهودي -كما يقول الكاتب- يجد أنه إذا حكم اليهود، كان العنف من جانبهم، وربما من واجبهم... لنقف أمام العنف الذي نشهده منذ أكثر من ستين عاماً في فلسطين بين اليهود والعرب، مشهد يرجع لنا صدى الأيام البيبلية....
الجلسة الثالثة
الجلسة الثالثة عقدت لمناقشة: «العنف في نصوص المسيحية: دراسة نماذج» وقد تحدث فيها في البداية الأب جوزيف بورعد عن: «الحرب المقدسة في التقليد النبوي» حيث أشار في البداية إلى أن الأدب النبوي تميز دون سواه من آداب العهد القديم بصفة (المسيحية) وأن مصطلح «الحرب المقدسة» غريب عن فكر العهد الجديد وأدبه.
وبعد أن أكد أن لمسألة العنف في نصوص أنبياء العهد القديم أوجهاً عديدة، منها الوجه الاجتماعي للعنف، والعنف الذي يسود بين شعب الله المختار والأمم، بالإضافة إلى العنف الذي هو -كما يقول الباحث- مكون أساسي لدور النبي وملازم لدوره وموقعه كنقطة وصل وتواصل بين الرب وشعبه...
خصص الكاتب حديثه لمناقشة العنف المرتبط بمواجهات شعب الرب مع الأمم، وظاهرة تقديس الحرب ورصد استعمال عبارات التقديس التي تطلق على الحرب في النصوص النبوية، ليخلص إلى أن الشائع في الكتاب المقدس وكتب الأنبياء هو تقديس الحرب وليس الحرب المقدسة، وأنه يصعب تحديد المعنى الدقيق لعبارة «قدسوا الحرب»، هل المقصود منها إعلان حرب عادي، أم التشديد على البعد القدسي للحرب؟ والخلاصة التي يتوصل إليها الأب بورعد هي: أن عبارة تقديس الحرب تشكل باستعمالها في نصوص الأنبياء شاهداً على تطور الفكر اللاهوتي في العهد القديم، وعلى الانتقال من صورة الله المحارب والمنحاز دوماً إلى شعبه.. إلى صورة الإله المنحاز إلى الحق والعدالة.....
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت بعنوان: «صور العنف في الأناجيل» وقدمها الأب هادي محفوظ، الذي تحدث في البداية عن أهمية الموضوع، مشيراً إلى إمكان أن يتغذى العنف من مقاربات لنصوص مقدسة وفق إيمان كل واحد، ثم شرع في الحديث عن ماهية نظرة الإنجيليين إلى المسيح وزمنه عموماً، وإلى تعاليمه عن السلام والعنف.
بالنسبة للمسيح والسلام هو عنوان الزمن الذي افتتحه، وجاءت تعاليمه للتبشير باعتناق السلام والعيش بمحبة وغفران ونبذ كل أشكال العنف حتى الكلامية منها، لكننا نصطدم -يقول الباحث- بأخبار عنف تؤكد أن نشوة السلام المطلق هي نهاية الإسكاتولوجيا التي بدأت وتمت، ولكنها تأخذ شكلها الكامل والنهائي في نهاية الأزمنة...
لذلك لفهم أعمق لمعنى السلام والعنف في هذه النصوص، طالب الباحث بالتعرف على سيادة الله المطلقة وتصميمه الخلاصي، حيث خلص إلى أن الله يتدخل بعنف تجاه أناس علامة يعطيها لهم لكي يفهموا السر، أو حافزاً يشكله من أجل التوبة أو قصاصاً ينزله بهم أو تدبيراً يعيقهم من خلاله عن تشكيل عائق في مسيرة الخلاص.
ويسوع تلفظ بكلمات قاسية تجاه مرتكبي الظلم، كل ذلك في سبيل خلاصهم وحثهم على التوبة، ومع أن يسوع جاء من أجل السلام لكن هناك من سيرفضه، لذلك فهو سبب شقاق لذلك يقول: «ما جئت لأزرع سلاماً، بل شقاقاً». ومع هذه المقاربة التي قد تكشف تناقضاً بين الدعوة إلى المحبة وتبرير العنف، فإن الباحث يرى أن النظرة الشاملة إلى الموضوع تكشف أن موضوع العنف والسلام ينضوي في حقيقة لاهوتية كبيرة ودائمة، وهي أن كل ما يصدر عن الله هو تجلٍّ للمحبة وفي عنف الله سلام يحققه لكل ضعيف...
الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدمتها الأخت باسمة الخوري بعنوان: «عنف أم حزم في رسائل بولس» حيث تحدثت عن بولس الرسول وموقفه من العنف سواء ما ورد في نصوص العهد القديم، أو في ممارسته هو لبعض أشكال العنف أثناء دعوته وفي رسائله ومواقفه، باعتباره كان مضطراً لاستعمال هذه القسوة اللفظية في دفاعه عن نفسه، وفي مواجهة من كان يعتبرهم مضللين ومحرفي الإنجيل.
الجلسة الرابعة
الجلسة الرابعة خصصت لمناقشة العنف في نصوص الإسلام: دراسة نماذج، وأدارتها د. نايلة أبي نادر، وقد تحدث فيها في البداية الشيخ أحمد اللدن عن «العنف والدعوة: الإذن بالقتال» حيث استعرض مجموعة من النصوص القرآنية التي احتضنت مفردات التراحم والسلام والرحمة، كما استعرض بعض النماذج القرآنية التي تدين العنف، وتكشف أن العنف هو دائماً اعتداء يمارسه الكفار على المؤمنين -«وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه»- كما استعرض بعض أشكال ومظاهر العنف التي يمارسها بعض أتباع الفرق والأيديولوجيات الوضعية، على غرار ما يفعله المتطرفون الهندوس وما اقترفه الشيوعيون من مجازر في أكثر من مكان في العالم.
ثم قدم د. سعود المولى ورقة بعنوان «العنف والإرهاب والمقاومة: بحث في فقه الإمام شمس الدين» في البداية أشار الكاتب إلى أن العنف لم يظهر كمسألة أو إشكالية إلا في العصور الأخيرة ومنذ القرن (19م) تحديداً، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأنه قبل ذلك لم يكن منبوذاً أو مرذولاً..
أما بخصوص موقف الإمام شمس الدين من الحرب والعنف والمقاومة، فقد أكد الكاتب أن الإمام اهتم ومنذ مرحلة مبكرة من اجتهاده الفقهي بهذه القضايا، حيث نجده ينحاز إلى معنى السلم في حياة البشر لقناعته بأن «فكرة الإسلام المبدئية والأساسية في العلاقات بين البشر هي فكرة السلم والتعاون على البر والتقوى في النطاق الاجتماعي وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى الجماعة الإنسانية كلها...
وبالتالي فبناء السلم في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وفي علاقته بالطبيعة والكون وكل مظاهر الحياة، يعني تحقيق إرادة الله في الانسجام والتوازن إذ هما العدل.. أما الحرب في الإسلام فهي لم تشرع إلا دفاعاً عن النفس ومحكومة بضرورة السياسة الإيمانية.. كما اهتم شمس الدين اهتماماً بالغاً بسؤال العنف والدين والحرب والدين.
وقد تحدث الكاتب مفصلاً عن رؤية شمس الدين للحرب الابتدائية والدفاعية وآرائه الجريئة في هذا المجال، فقد خالف الإمام المشهور وذهب إلى «أن أدلة الوجوب المستقاة من آيات الكتاب تدل على أن الطبيعة العامة والراسخة والوحيدة لمهمة الرسول هي البلاغ، وعلى عدم معقولية الإكراه في الدين، كما أن الآيات المدعى الاستدلال بها على وجوب الجهاد الابتدائي إما غير دالة من حيث عدم الإطلاق فيها أو هي مقيدة على فرض إطلاقها...
والخلاصة التي يستنتجها الإمام شمس الدين هي: «أن الجهاد في حقيقته ليس إلا الدفاعي ولا مشروعية لغيره».
أما بخصوص شرعية استعمال العنف وسيلةً في العمل السياسي، فقد أكد الكاتب أن الشيخ شمس الدين وبعد أن درس جميع الأشكال المحتملة للعنف السياسي في الإسلام، سواء أكانت باسم الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستنتج «عدم مشروعية العنف وعدم جواز استخدامه وسيلة للوصول إلى السلطة أو لبناء موقع سياسي أو للتعامل في الحياة السياسية؛ ولذلك أفتى بحرمة العنف السياسي المسلح بكل أشكاله، باستثناء مقاومة العدو والغاصب للأرض والمعتدي والظالم»، فإن الشيخ لم يكن مقاوماً فقط بل أفتى بأن «المقاومة واجب شرعي وأخلاقي»، والمقاومة في نظره تتجاوز العمل المسلح إلى المقاومة المدنية الشاملة...
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. وليد الخوري وجاءت بعنوان «أحكام الردة والفكر المختلف» تحدث فيها الكاتب في البداية عن أسباب الاختلاف بين المسلمين، وكيف تداخل الديني بالسياسي في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام توظيف الأحكام القرآنية والأحاديث النبوية واستثمارها في الصراعات الدائرة على الجبهات كلها، الاعتقادية والسياسية والمعرفية. وهنا تم إقحام أحكام الردة من طرف جميع الفرق بدعوى حماية الإسلام والدفاع عن العقيدة، وهذا ما جعل -في نظر الكاتب- أحكام الردة تسهم إلى حد كبير في بناء ثقافة معادية لحق الاختلاف في الفكر والرأي. بعدها تحدث الكاتب مطولاً عن مواقف بعض الفقهاء القدامى من الفلسفة والتفكير الحر وكيف أثّرت فتاوى التكفير والارتداد على مسيرة الفكر والإبداع في التاريخ الإسلامي، لينتقل بعدها إلى فتاوى التكفير والارتداد التي تطلقها بعض الحركات الإسلامية وعدد من علماء الدين، انطلاقاً من تطبيقهم لنصوص دينية، بحيث أضحى معها -كما يقول المؤلف- كل مختلف عن ثوابث هذه الثقافة، في فهمه للدين أو قراءته لركن من أركانه، أو في تأويل لحكم من أحكامه، أو في نظره المخصوص إلى قيمة من قيمه، بمنزلة التارك للدين والمفارق للجماعة...
وفي الأخير نبه الكاتب إلى الآثار المدمرة التي قد تحدثها ثقافة الردة في مجتمع متعدد الديانات والمذاهب والثقافات، عندما تستغل في خطابها التكفيري معاني العنف والعقاب التي تحملها بعض الآيات والأحاديث، وتقدمها على آيات وأحاديث أخرى تدعو إلى الحوار والتسامح.
الجلسة الخامسة
الجلسة الخامسة أدارها د. جيروم شاهين، خصصت لمناقشة «العنف المقدس بين الأمس واليوم»، وقد تحدث فيها كل من الوزير السابق أ. ميشال إده والوزير طارق متري والشيخ شفيق جرادي.
قدم الأستاذ ميشال إده ورقة بعنوان: «الصهيونية الدينية وقراءتها للنصوص البيبلية» أشار فيها في البداية إلى أن مقولة الصهيونية الدينية هي أقرب لأن تكون بدعة، لأن هرتزل منظر المشروع الصهيوني لم يتمسك يوماً ما بفلسطين أرضاً لإقامة دولة لليهود، بل ساوى في كتابه «دولة اليهود» بين فلسطين والأرجنتين، وأن اقحام العامل الديني وجعله جوهر الصراع بين اليهود والعرب، جاء متأخراً لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وتصوير الصراع بكونه نزاعاً دينيًّا يشن فيه الإسلام حرباً دينية مباشرة على الديانة اليهودية، وهنا تحديداً -يقول الكاتب- يتموضع الاستنفار «الديني اليهودي» الذي لجأ الصهاينة إلى اعتماده، وأوجد تيارات الصهيونية الدينية، التي بدأت تروج مصطلحات: أرض الميعاد، أرض إسرائيل، ويهودا والسامرة، وهيكل سليمان.. لكن هذا الافتعال لترسيخ الطابع الديني والرمزي اليهودي للكيان الصهيوني، تفضحه الدراسات التاريخية التي قام بها مؤرخون يهود وأمريكيون وعلماء آثار، والذين أكدوا أن ما تدعيه الصهيونية الدينية ليس سوى أساطير وخرافات تجميلية، وأن الهدف من اختلاقها سياسي تمليه مصلحة المتطرفين الإسرائيليين.
بعد ذلك أشار إلى مجموعة من النصوص التوراتية التي تبرر استخدام العنف من أجل الاستحواذ على الأرض، مؤكداً أن النص المركزي الذي يصح اعتباره أصل العنف الأشد، والذي يستند إليه التطرف الصهيوني الديني، هو النص الذي يصف الإسرائيليين بأنهم شعب الله المختار، لأنه وفقاً لذلك يصبح اليهود أسمى من كل خلق الله أجمعين.
وفي الأخير أشار الباحث إلى قضية مهمة وتتعلق بالقراءة الانتقائية والحرفية للنصوص التوراتية في الوقت الذي توجد فيه نصوص توراتية أخرى مخالفة لما يتمسك به المتطرفون الصهاينة، ولا تقدس العنف، ووجود متدينين يهود يعادون الصهيونية ويعارضون وجود دولة يهودية قبل المسيح، لأن ذلك في نظرهم مناقض لما تعلموه من التوراة، ويعيق مجيء المسيح، بل يؤخر الخلاص؛ لذلك لكي يمكن للمسيح أن يظهر في النهاية يجب على إسرائيل أن تزول....؟
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها وزيرالإعلام اللبناني طارق متري بعنوان: «الصهيونية في صفوف الحركات المسيحية المتطرفة» تحدث فيها عن علاقة الإنجيليين المحافظين بإسرائيل، وسبب دعمهم لها، وذلك لأنهم يقرؤون الكتاب المقدس بأنه مجموعة نبوءات متقاطعة مركزها الأراضي الفلسطينية (إسرائيل!)، كما أن قراءة نبوءات الكتاب المقدس جعلتهم يعتقدون بأن التاريخ البشري يتبع مخططاً إلهيًّا، لإسرائيل دور كبير فيه، وأن عودة اليهود إلى فلسطين تعتبر مقدمة وتمهيداً لمجيء المسيح الثاني واستعجالاً لتحقيق الخطة النبوية (كما في نبوءات دانيال) حسب الحقباتيين.
والمشكلة في نظر الكاتب: هي أن العلاقة المباشرة بالنص الدين من دون توسطات التفسير والقراءات التاريخية وفهم السياقات الثقافية والسياسية، تحوّل النص على يد الذين يتوسلونه وثناً، وكلنا يعلم أن الأوثان عطشى للدم...