ـ 1 ـ
التقاء العلم والثقافة
في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر هناك اتجاه فكري عبّر عنه بعض العلماء المسلمين، الذين ينتمون إلى حقل العلوم الطبيعية كالفيزياء والأحياء والرياضيات وغيرها، وذلك بعد أن وصل هؤلاء العلماء إلى مستويات رفيعة في هذه التخصصات، وعُرفوا عند الآخرين بهذه المنزلة العلمية المتفوقة.
وإلى جانب هذه التخصصات العلمية كان لهؤلاء العلماء إسهامات فكرية هي التي عرّفت بهم في ساحة الفكر الإسلامي، ولولا هذه الإسهامات الفكرية لكانت شهرة هؤلاء لا تتعدى النطاق العلمي، ونطاق التخصص الذي ينتمون إليه بشكل خاص.
ولكون هذه الإسهامات الفكرية عكست خبرة ومعارف العلوم الطبيعية التي تجلّت فيها، وتشرّبت منها، لهذا جاز القول: إنها تعبّر عن اتجاه فكري له سماته وملامحه التي يتميز بها عن غيره من الاتجاهات الفكرية الأخرى في ساحة الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه الملامح الجمع بين الثقافة والعلم، بحيث ظهر فيه أصحاب هذا المسلك بأنهم مثقفون من جهة، وعلماء من جهة أخرى.
وبفضل هذا التميز اكتسبت هذه الإسهامات الفكرية أهمية في ساحة الفكر الإسلامي، والمعرفة الإسلامية بصورة عامة؛ لأنها سدّت فراغاً في بنية الثقافة الإسلامية، وبلورت مساراً للتواصل والتفاعل مع حركة العلم، وهذا ما كان ينقص فعلاً المعرفة الإسلامية عند المسلمين المعاصرين، ويشكّل علامة ضعف وقصور فيها.
وغالباً ما كان لمثل هؤلاء الذين يجمعون بتميز بين العلم والثقافة، لمسات مميزة، وتأثيرات خاصة في مسلكيات الثقافات التي ينتمون إليها؛ لأن العلم تكون له تموجات مختلفة حين يتصل بالثقافة، وهكذا الثقافة تكون لها تموجات مختلفة حين تتصل بالعلم.
وفي تاريخ الثقافة الإسلامية، وجدنا مثل هذه اللمسات المميزة عند أولئك العلماء الذين اشتغلوا بالفلسفة والمنطق والفقه وباقي العلوم والمعارف الإسلامية الأخرى، ويبرز من هؤلاء الذين ما زال العالم يتذكرهم إلى هذا اليوم، الكندي الذي جمع بين الرياضيات والفلسفة، وابن سينا الذي جمع بين الطب والفلسفة، وابن رشد الذي جمع بين الطب والفلسفة والفقه، والخوارزمي الذي جمع بين الرياضيات والفقه، والبيروني الذي جمع بين الرياضيات والجغرافيا ومقارنة الأديان، إلى جانب آخرين أيضاً عرفتهم الثقافة الإسلامية في عصور ازدهارها.
كما وجدنا مثل هذه اللمسات المميزة في تاريخ الثقافة الأوروبية، وفي عصورها المتعاقبة، من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، الذي جمع بين الرياضيات والفلسفة، إلى الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في القرن العشرين، الذي جمع كذلك بين الرياضيات والفلسفة، وهناك قائمة كبيرة من أمثال هؤلاء في تاريخ الثقافة الأوروبية.
ولو تتبعنا هذه الظاهرة لوجدنا أثرها يمتد في معظم إن لم يكن في جميع تاريخ الثقافات الإنسانية القديمة والحديثة، في الشرق والغرب، وذلك لفاعلية التقاء الثقافة والعلم.
ولعل الحدث الذي عرف بهذا المنحى الفكري لأول مرة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، هو المؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي الذي عُقد في مكة المكرمة سنة 1977م، وحضره جمع هم من أبرز رواد هذا المنحى الذين مازالوا معروفين إلى اليوم بهذا المسلك، أمثال الدكتور زغلول النجار عالم الجيولوجيا المصري، والدكتور حسين نصر العالم الإيراني ورئيس جامعة آربا مهار التكنولوجية في طهران آنذاك، والدكتور سيد وقار أحمد حسيني العالم الهندي إلى جانب آخرين أيضاً.
ويكفي دلالة على أهمية حدث انعقاد هذا المؤتمر، الإشارات المتكررة إليه في العديد من الكتابات الموافقة والمخالفة، لهذا المنحى الفكري، والتي اتخذت من هذا المؤتمر بداية للحديث عن قضية أسلمة المعرفة. بمعنى أن هذه الكتابات لم تتطرق إلى حدث فكري قبل هذا المؤتمر له طبيعة جماعية، ويكشف عن الهاجس الفكري المشترك الذي عبّر عنه المجتمعون.
فحين أراد الباحث الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش، الدخول لموضوع أسلمة العلم من بوابة التاريخ حسب قوله -وهو من المخالفين لهذا المنحنى- وجد أن ما هو معلوم لديه أن أول من أطلق تسمية أسلمة العلم هو الدكتور إسماعيل الفاروقي سنة 1982م، لكنه يرى أنه قد بُحث قبل هذا التاريخ في هذا الموضوع، في مؤتمر مكة المكرمة سنة 1977م[2].
وأشار إلى هذا المؤتمر أيضاً، الدكتور مهدي كلشني في كتابه (من العلم العلماني إلى العلم الديني)، واصفاً البيان الختامي لهذا المؤتمر أنه يمثل نموذجاً للتعبير عمَّا يسعى لتحقيقه جميع من دعا إلى أسلمة العلم في البلدان الإسلامية[3].
ومن يراجع البيان الختامي لهذا المؤتمر تتأكد لديه ملاحظة الدكتور كلشني، كما يمكن عد هذا البيان أول محاولة تكشف عن الخطاب الفكري لأصحاب هذا المنحى وتُعرِّف به، وكان بإمكانه أن يُحدث دويًّا أو صحوةً معرفيةً في مجال العلاقة بين العلوم والثقافة الإسلامية، وذلك لما تميّز به هذا البيان من رغبات مفعمة بالطموح، وتطلعات متوثبة للتغيير، عبرت عنها عقليات علمية جادة، تنتمي إلى بيئات عربية وإسلامية متنوعة.
لكنها الصحوة المعرفية التي لم تحدث، وما كان من السهولة حدوث مثل هذه الصحوة، وما زال الطريق إليها شاقًّا وطويلاً، وبحاجة إلى صحوات متعاقبة تمتد من ميادين السياسة والاقتصاد، إلى ميادين العلم والثقافة.
مع ذلك يبقى لهذا المؤتمر أنه مثّل لحظة تاريخية مهمة، بقي حاضراً في ذاكرة المهتمين بهذا الشأن، والمؤرخين لهذا المنحى، وظلّت تتذكره الندوات والمؤتمرات التي جاءت بعده، المتصلة به وحتى المنفصلة، وكان يُشار إليه في هذه الندوات والمؤتمرات بعناية خاصة، لأنه مثّل فاتحة لهذا المنحى في التكامل المعرفي.
ـ 2 ـ
علماء الطبيعيات والثقافة الإسلامية
لا شك في أن ارتباط رواد هذا المنحى بالدين والثقافة الإسلامية، هو الذي دفع بهؤلاء إلى تبني هذا المسلك، والالتزام به، والدفاع عنه. ولم يُخفِ هؤلاء حقيقة هذا الارتباط بالدين والثقافة الإسلامية، ولم يجدوا في ذلك حرجاً يؤثر في منزلتهم العلمية، أو خشية من تشكل انطباعات غير موضوعية، وغير محبذة عند الآخرين نحوهم، في ظل أجواء تنفر من هذه العلاقة، ولا تحبذها في ساحة العلم.
وهذا ما يعرفه من يلتحقون بهذه الميادين العلمية، ويظل مثل هذا الشعور يصاحبهم، ويتواتر إلى خواطرهم، وتمر على ذاكرتهم العديد من المواقف الدالة على ذلك، التي حصلت وتحصل في مراكز الغرب بشكل خاص، والذي يمثل اليوم أهم ساحة لتحصيل هذه العلوم.
وقد توقف عند هذه القضية الدكتور مهدي كلشني في كتابه (من العلم العلماني إلى العلم الديني)، وأشار إلى العديد من الأمثلة في هذا الصدد، ومن أبرزها دلالةً ما حصل مع عالم الفيزياء الفرنسي بيير دويم الذي أصدر مطلع القرن العشرين كتاباً مهمًّا يؤرخ فيه للعلم بعنوان (نظام العالم) يقع في عشرة أجزاء، صدرت الأجزاء الخمسة الأولى منه في حياته، في الفترة ما بين سنة 1913 - 1917م، وبعد وفاته سنة 1916م أوصت أكاديمية العلوم الفرنسية بطبع الأجزاء الأخرى من الكتاب، فتأخر طبعها أربعين عاماً حيث صدرت ما بين سنة 1954 - 1959م، وعند صدور الجزء السابع كتب مؤرخ العلم الكسندر كويري شارحاً السبب وراء هذا التأخير الطويل بقوله: «إن دويم قدم إنجازاً مهمًّا إلى الحد الذي يصعب العثور على نظير له، فلماذا تأخر صدور أجزاء الكتاب الخمسة المتبقية كل هذه الفترة، مع أن أكاديمية العلوم الفرنسية أوصت بطباعته؟. إن السبب الذي يكمن وراء ذلك هو سعي المؤلف إلى التدليل على أن جذور العلم الحديث توجد في إلهيات القرون الوسطى، مما دعا الجهات العلمية ذات النفوذ إلى منع صدوره بشكل خفي»[4].
في حين أن رواد هذا المنحى وجدوا في الثقافة الإسلامية ما يعزز علاقتهم بالعلم، وما يضيف لبواعثهم في ترسيخ هذه العلاقة وتماسكها، وفي تخلقها بجمالية القيم، ونبل الغايات والمقاصد، منطلقين من ذاكرة تاريخية خلّاقة ترجع إلى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، وكيف أن الثقافة الإسلامية أنجبت تلك العقول المتفوّقة في جميع ميادين العلم، وهي التي حفظت التراث الإنساني القديم من الضياع والتلاشي، ورفدت الفكر الإنساني في العصر الوسيط بالعلوم والمعارف الجديدة، وتعلمت منها الثقافات التي جاءت بعدها، وما زالت المجتمعات البشرية تتذكرهم بتبجيل لدورهم وفضلهم الذي لا يمحى على الإنسانية والتقدم الإنساني.
ورواد هذا المنحى هم أفضل من يتحدث عن هذه الذاكرة التاريخية، والتي يعرفون عنها الشيء الكثير، وتحفل كتاباتهم بالإشارة إليها، باهتمام كبير، لكونها وثيقة الصلة بالخلفيات التي ينطلقون منها، وبالمقاصد التي يسعون إليها، وبالرؤية الكلية التي تمثل فلسفة لهم في هذا الدرب.
وللتعرف على هذا المنحى فلسفته وحكمته، سوف نرجع إلى كتابات اثنين من وراده البارزين، فبإمكان كتاباتهما أن تقدّم صورة واضحة عن ملامح وسمات هذا المنحى: عناصره ومكوناته، مقاصده وغاياته، وهما الدكتور مهدي كلشني من إيران، والدكتور سيد وقار أحمد حسيني من الهند، وهما يعرفان بعضهما، وسبق أن اشتركا معاً في الندوة العالمية الثالثة للفكر الإسلامي التي عُقدت في العاصمة الماليزية كوالالمبور سنة 1984م، وجاءت في سياق الندوات التي عالجت قضية أسلمة المعرفة والتكامل المعرفي بين العلوم.
وسوف نبدأ بكتابات الدكتور كلشني لأنها تشرح الأبعاد النظرية لهذه القضية، في حين ركزت كتابات الدكتور حسيني على السياسات العامة المتصلة بهذه القضية.
ـ 3 ـ
مفهوم العلم الإسلامي، وأسلمة العلم
يحمل الدكتور مهدي كلشني دكتوراه في الفيزياء من جامعة بركلي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أستاذ الفيزياء بجامعة شريف التقنية بطهران، ورئيس قسم فلسفة العلم في الجامعة نفسها، ويرأس حاليًّا مركز دراسات العلوم الإنسانية والأبحاث الثقافية، حصل على جائزة تمبلتون في مجال دراسات العلم والدين.
شرح الدكتور كلشني رؤيته لمفهوم العلم الإسلامي، وأسلمة العلم في ثلاثة مؤلفات أساسية، هي كتاب (القرآن ومعرفة الطبيعة)، نال عليه جائزة تقديرية في إيران، وكتاب (من العلم العلماني إلى العلم الديني) الصادر سنة 1998، وكتاب (النظريات الفلسفية للفيزيائيين المعاصرين).
والكتاب الذي سوف نعتمد عليه بشكل أساسي في شرح هذه المحاولة، هو كتاب (من العلم العلماني إلى العلم الديني).
الإشكالية التي ينطلق منها الدكتور كلشني في معالجته لمفهوم العلم الإسلامي وأسلمة العلم، وكيف نشأت هذه الإشكالية عند المسلمين في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، يمكن تحديدها في أربعة أمور، هي:
أولاً: تأثيرات التقدم العلمي الذي أحرزه الغرب في القرنين الماضيين، مما أدى إلى هيمنته على المجتمعات الإسلامية، التي راحت بدورها تنقل علومه إلى برامج مؤسساتها التعليمية، مع ما لهذه العلوم من أساس فلسفي.
ثانياً: ما حصل عند الطلبة والباحثين في العالم الإسلامي الذين توافدوا على دراسة وتحصيل العلوم في معاهد وجامعات الغرب، مع نقص اطِّلاعهم على المعارف الدينية، واعتقاد معظم هؤلاء الدارسين أن هذين النمطين من المعارف لا رابط ولا تأثير متبادل بينهما.
ثالثاً: ما تعرّض له مفهوم الدين من تقلّص وتحجيم في الحياة المعاصرة، إلى جانب إغفال واقع محدودية العلم، وإضفاء طابع قطعي على كل ما يطرح باسم العلم.
رابعاً: نتيجة وجهة النظر السائدة التي تصور أن العلم ليست له هوية محددة شرقية أو غربية، إسلامية أو غير إسلامية، وعلى أساس أن العلم له منهجه الخاص المرتكز على التجربة، والمقارنة بين نتائج التجربة ومعطيات النظرية. ووجهة النظر هذه ليست سائدة عند الذين يحملون موقفاً تجاه الدين فحسب، وإنما هي سائدة حتى عند بعض الملتزمين بالدين، الأمر الذي يترتب عليه الاعتقاد بأن موضوع أسلمة العلم أو أسلمة العلوم هو حديث لا طائل منه.
أمام هذه الإشكالية حاول الدكتور كلشني التصدي لها، وتفكيكها في اتجاهين مترابطين، الأول يتعلق بنقد ما يسمى الطابع التجريدي والحيادي للعلم، والثاني يتعلق بالكشف عن طبيعة رؤية الإسلام التكاملية إلى العلم.
الاتجاه الأول: حاول الدكتور كلشني التأكيد والإصرار والذي لا ريب فيه عنده، وهو الخبير بهذا الشأن {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[5]، على أن العلم الحديث ليست له هوية متجردة وحيادية بالمطلق وبشكل تام، وإنما هو يتأثر بالعصبيات والتحيزات الفلسفية والدينية، وبالأنساق القيمية، وفرضيات الميتافيزيقيا.
وتواتر هذا الموقف في كتاب الدكتور كلشني من بدايته حتى نهايته، وظل يعبّر عنه ويشير إليه بصور مختلفة، وبالاستناد إلى العديد من المواقف والوقائع القديمة والحديثة، ويعتبر أن الذين لا يقرون بهذه الحقيقة فإنهم لا يمتلكون خبرة واطِّلاعاً كافيين على شؤون العلم، وقد فات هؤلاء -حسب قوله- ما تتركه الأيديولوجيا والاتجاهات الفلسفية من آثار في نظريات العلم ومعطيات التجربة، وكيف أن جهود كبار العلماء إنما تستهدف تقديم تفسيرات لعالم الطبيعة، وتعميم المعطيات العلمية لتكوين نظريات شمولية حول العلم[6].
أما أخذ العلم دون الالتفات إلى ما ينطوي عليه من حمولات قيمية وفلسفية، فلن يتمخض في نظر الدكتور كلشني إلا نموذجاً مماثلاً لما حصل في الغرب، قد يحقق المجتمع من خلاله نجاحات في الجوانب العلمية، لكنه سيواجه في المقابل مشكلات متزايدة في الجوانب الأخلاقية والنفسية والاجتماعية نظير ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم من أزمات[7].
الاتجاه الثاني: حاول الدكتور كلشني الكشف عن طبيعة رؤية الإسلام إلى العلم، وكيف أن هذه الرؤية لا تفصل بين الدين والعلم، وبين الأخلاق والعلم، وتربط بين مختلف العلوم بطريقة تكاملية تستند إلى رؤية كونية توحيدية إلى العالم.
هذا الموقف في رؤية الدكتور كلشني يمكن تحديده في العناصر التالية:
أولاً: سعة مفهوم العلم في الإسلام
في كتابه (القرآن ومعرفة الطبيعة) تساءل الدكتور كلشني عن: ما العلم الذي يدعو إليه الإسلام؟ وهل هناك علم أو علوم معينة؟ أم لا توجد أية حدود للعلم في نظر الإسلام؟
والحق عنده أن الإسلام لو كان يهتم بعلم خاص لكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صرّح بذلك، وما يستفاد من القرآن والسنة أن العلم الذي يعنيه الإسلام واسع لا حد له، ولا يضع الإسلام حدوداً للعلم، لكنه يدعو المسلمين إلى البحث عن العلوم المفيدة والنافعة فقط.
وقد استشهد الدكتور كلشني على كلامه بحديث للإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مخاطباً الفضل بن عمر، يؤكد فيه سعة العلم وشموليته في منظور الإسلام، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «فكّر يا فضل، فيما أُعطي الإنسان علمه وما مُنع، فإنه أُعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه ودنياه. فما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة، وبر الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل الخلة، وأشباه ذلك مما قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة.
وكذلك أُعطي علم ما فيه صلاح دنياه، كالزراعة، والغراس، واستخراج الأرضين، واقتناء الأغنام والأنعام، واستنباط المياه، ومعرفة العقاقير التي يُستشفى بها من ضروب الأسقام، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن، والغوص في البحر، وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان، والتصرف في الصناعات، ووجوه المتاجر والمكاسب، وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده، مما فيه صلاح أمره في هذه الدار، فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه، ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم، كعلم الغيب، وما هو كائن وبعض ما قد كان... فانظر كيف أُعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه، وحجب عنه ما سوى ذلك، ليعرف قدره ونقصه، وكلا الأمرين فيهما صلاحه»[8].
ثانياً: تخطئة تقسيم العلوم إلى دينية وغير دينية
يرى الدكتور كلشني أن المنهج المعرفي الإسلامي يمتاز برؤية شمولية، فهو لا يفصل بين المعرفتين العلمية والدينية، فسائر العلوم التي تنطوي على منافع وفوائد معتدٍّ بها يمكن اعتبارها معارف دينية، وبالتالي فإن تقسيم العلوم والمعارف إلى دينية وغير دينية لا يستند إلى أساس سليم.
وهذا التقسيم يعكس في نظر الدكتور كلشني ضيقاً شديداً في الأفق، ولا ينسجم مع موقف القرآن الكريم والسنة الشريفة، مستشهداً على ذلك بكلام للشيخ مرتضى المطهري أشار إليه في محاضرة ألقاها سنة 1961م، يقول فيه: «إن تقسيم العلوم إلى دينية وغير دينية لا يمتلك أساساً متيناً، -فهل- يتخيل البعض أن العلوم التي لا تسمى اصطلاحاً بالدينية تمثل مجالات غير ذات علاقة بالإسلام؟. وتقتضي خاتمية الإسلام وشموليته أن يستوعب مفهوم العلم الديني كل ما كان مفيداً ونافعاً للأمة الإسلامية، وضروريًّا لها»[9].
ثالثاً: الربط بين مختلف العلوم
يعتقد الدكتور كلشني أن علماء المسلمين كان سعيهم دائماً إلى الربط بين مختلف العلوم، وذلك لتقديم مفهوم منسجم عن الطبيعة، ناقلاً في هذا الصدد ملاحظة روجيه دوباسكيه الذي قارن بين طبيعة اهتمام من أسماهم بالعلماء الجدد في الغرب، وعلماء المسلمين قديماً، قائلاً: «على العكس من العلماء الجدد في الغرب الذين يغلب على بحوثهم الطابع التحليلي، والاهتمام بالجانب الكمي، وملاحقة الموضوعات الثانوية، كان العلماء المسلمون يحاولون تكوين نموذج معرفي يمتاز بطابع تركيبي أفضل، ويطمح إلى تقديم رؤية أكثر شمولية للكون، وقد ساهم ذلك في اقتران علومهم بلون من الحكمة حالت دون ظهور ما نراه في عصرنا من اتخاذ العلم وسيلة لتحديد الموضوعات القيمية، ومنحه قدرة خارقة ذات طابع إلهي، الأمر الذي يؤدي إلى خروج العلم عن نطاق السيطرة، وتحوّله إلى خطر يشهر سيفه بوجه الإنسان»[10].
والنتيجة التي يريد أن يصل إليها الدكتور كلشني هي أحقية ما يسميه العلم الديني، ويقصد به العلم الإسلامي، للبرهنة بالتالي على إمكانية أسلمة العلوم.
وحين يتساءل الدكتور كلشني: ما هو المراد تحديداً من مفهوم العلم الديني؟
يجيب بقوله: ليس المقصود بالعلم الديني وبكل تأكيد إلغاء طريقة البحث العلمي الحديث، أو اتخاذ الكتاب والسنة مرجعيةً مباشرةً لأبحاث الفيزياء والكيمياء، أو التركيز على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ولا العودة إلى استخدام أدوات البحث العلمي التي راجت قبل ألف عام، كما لا يعني كذلك رفض المختبر العلمي، ونظريات الفيزياء، أو ابتداع منهج جديد للبحث العلمي، وإنما العلم الديني الإسلامي هو غير ذلك كليًّا.
وعند العودة إلى المجال الإسلامي، يرى الدكتور كلشني أن هناك تصورات واتجاهات مختلفة في تحديد مفهوم العلم الديني الإسلامي، فهناك من يرى أن المراد بهذا العلم هو العلم الذي يتشكل ويتكامل في إطار الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية. وهناك من يرى أنه مجموعة العلوم التي تُعنى بتفسير الكتاب والسنة، كالفقه والأصول والتفسير والفلسفة والكلام، إلى جانب مقدمات هذه العلوم. وهناك من يرى أن طبيعة منشأ العلم لا تشكل أمراً مهمًّا، إذا ما تمت معالجة القضايا العلمية في إطار إسلامي.
والرأي الذي يرتضيه الدكتور كلشني يعبّر عنه بقوله: هو الحقل الذي يكون مؤثراً ونافعاً في مجال معرفة الله، وتلبية الحاجات المشروعة للمسلمين على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وتخضع فيه سائر القضايا لإطار ميتافيزيقي ديني، لا تختزل عالم الوجود في المادة، ورفض ما يجرد الكون عن هدفيته، والإيمان بوجود نظام أخلاقي[11].
وبتحديد أكثر: إن العلم الإسلامي هو دراسة الطبيعة والمجتمع والإنسان في إطار الرؤية الكونية الإسلامية، أما إذا تمت هذه الدراسة بمعزل عن إطار الرؤية الكونية الإسلامية، فإنها تمثل نمطاً علمانيًّا من المعرفة[12].
وعلى هذا الأساس يعتقد الدكتور كلشني أن العلم الديني الإسلامي ينطوي على مضامين ومعطيات أكثر غنى وثراءً مما يقدمه العلم في سياقه العلماني؛ لأنه لا يؤمِّن احتياجات الإنسان المادية والمعنوية فحسب، وإنما يقدّم له كذلك مفهوماً غنيًّا عن الكون.
هذه هي خلاصة منظمة لرؤية الدكتور كلشني لمفهوم العلم الإسلامي، وأسلمة العلم.
ـ 4 ـ
سياسات عامة في أسلمة العلوم
السيد وقار أحمد حسيني حائز على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية من جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971م، مؤسس ورئيس معهد العلوم والتقنية والتنمية في كاليفورنيا بأمريكا، عمل أستاذاً زائراً بجامعة هارفارد سنة 1964م، وأستاذاً زائراً بجامعة ستانفورد سنة 1975م، كما عمل مستشاراً دوليًّا لبرنامج الأمم المتحدة لحماية البيئة، ومستشاراً في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو، ومركز الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا والتطوير، وكان مقرراً للمؤتمر العالمي للتعليم الإسلامي في دوراته الثلاث المنعقدة في مكة المكرمة وإسلام أباد ودكا، بالإضافة إلى الندوة العالمية الثالثة للفكر الإسلامي بكوالالمبور، إلى جانب نشاطات ومهام أخرى.
شرح الدكتور حسيني رؤيته لمفهوم أسلمة العلوم في جميع مؤلفاته تقريباً، والتي أصدرها باللغة الإنجليزية، ومنها كتاب (هندسة الأنظمة البيئية الإسلامية) صدر سنة 1980م، وكتاب (تدريس الهندسة والعلوم الإسلامية) صدر سنة 1985م، وكتاب (السياسات الثقافية والعلوم الإسلامية) صدر سنة 1986م، وكتاب (القرآن الكريم والعلوم الفلكية) صدر سنة 1996م، وهكذا كتاب (الفكر الإسلامي ونهضة الثقافة التقنية الإسلامية) صدر سنة 1997م، إلى جانب مؤلفات وكتابات أخرى.
ومن بين هذه المؤلفات سوف نعتمد على كتاب (السياسات الثقافية والعلوم الإسلامية)، فهو الأكثر وضوحاً في التعبير عن رؤية الدكتور حسيني حول هذه القضية، ولكونه يبحث عن السياسات العامة المتصلة بهذه القضية.
في هذه الكتاب أوضح الدكتور حسيني كيف أنه كرّس حياته لأسلمة المعرفة، وهي القضية التي آمن بها بقوة، وسعى لتحقيقها خلال مشواره العلمي الطويل، ومثلّت له -حسب وصفه- حلماً في حياته، وتعامل معها باعتبارها واجباً فرديًّا وفرضاً عينيًّا، وبوصفها جزءاً من تحقيق ذايته الإسلامية.
وبحكم خبرته ومتابعته وتمسكه بهذه القضية، حاول الدكتور حسيني أن يبلور بعض السياسات العامة المتصلة بأسلمة العلم، لاستخدامها كمعايير لتطوير التوجهات الفكرية والتعليمية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
لهذا لن نتوقف كثيراً في هذا النطاق عند التحليلات النظرية التي أشرنا إلى ما يماثلها عند الحديث عن رؤية الدكتور كلشني، وسوف نولي شطر تلك السياسات التي تحدّث عنها الدكتور حسيني، وإن كانت لا تخلو من مكونات نظرية، وهذه السياسات العامة هي:
أولاً: إعادة صياغة وتشكيل المعرفة الإسلامية، والتخلص من النظامين التعليميين المنفصلين: النظام العلمي والنظام الشرعي، وضرورة التركيز على دمج العلوم والتكنولوجيا مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وولادتهما من جديد تحت مسمى العلوم والتكنولوجيا الإسلامية.
الأمر الذي يتطلب معالجة النظرة الخاطئة التي حصلت عند المسلمين حول العلوم والتكنولوجيا، وذلك حين اعتبرت هذه العلوم أقل درجة من العلوم الشرعية، والتعامل معها بوصفها علوماً لا دينية.
ويعتقد الدكتور حسيني أن أشد التطورات خطورة على المعرفة والتعليم الإسلامي وبالتالي على جميع الأنظمة الثقافية والاجتماعية، هو تقسيم المعرفة إلى قسمين منفصلين هما المعرفة الشرعية من جهة، والمعرفة العقلية التي تشمل العلوم الطبيعية والتكنولوجية من جهة أخرى.
هذا التقسيم أدى في نظر الدكتور حسيني إلى ازدواجية المعرفة وتعارضها، في حين أن نظرية المعرفة الإسلامية، وفلسفة الإسلام العامة ترفض مثل هذا التقسيم، وتصر على توحيد المعرفة، وتكامل أقسامها المختلفة، وتأكيد أن العلوم العقلية هي أيضاً علوم شرعية، وليس بينهما أي تنافر فكري أو عملي أو مؤسسي[13].
ثانياً: إن الشرعية الدستورية ونظام الحكم القانوني هي شروط حيوية لولادة وتقدم العلوم والتكنولوجيا الإسلامية الحديثة، في المقابل إن كل أشكال الحكم الاستبدادي فإنها تدمر أسس وقواعد التقدم والنهوض، وتسبب هجرة العقول.
وفي هذا النطاق يؤكد الدكتور حسيني على وقف التمييز بين المواطنين على أساس الاختلاف الديني أو العرقي أو اللغوي، أو على أساس الاختلاف في الاعتقادات والأهداف السياسية، وضمان الحريات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وإعطاء العلماء والمفكرين حق الحرية، وإتاحة الفرص التي تمكنهم من ممارسة حق الاجتهاد.
ثالثاً: التعاون المحلي والعالمي بين المسلمين، وعلى كافة المستويات الحكومية وغير الحكومية، والتعاون كذلك مع حكومات الدول غير الإسلامية ومؤسساتها، لنقل وتحصيل التكنولوجيا في إطار ضوابط العلوم والتكنولوجيا الإسلامية.
رابعاً: الاهتمام بإنشاء مراكز إبداع متميزة في العالم الإسلامي تهدف إلى اجتذاب وتخريج وتوظيف طاقات الأفراد الموهوبين، والسعي للتعرف على مثل هؤلاء الأفراد الموهوبين، ودعمهم اجتماعيًّا، وتأمين كافة الخدمات الأساسية لهم، إلى جانب حمايتهم والدفاع عنهم.
خامساً: السعي لاستعادة العقول المهاجرة بكافة الطرق، وعبر استراتيجية واضحة، سواء كانت هذه العقول مستوطنة في تلك الدول أو مهاجرة إليها، مسلمة كانت أو غير مسلمة. وفي الجانب الآخر العمل على إزالة العوامل والأرضيات التي تسبب هجرة العقول، أو التي تساهم في عدم الاستفادة بالشكل الصحيح من المواهب والطاقات العلمية والتكنولوجية.
سادساً: الالتفات إلى مسؤولية النابغين المسلمين، وهي مسؤولية ضخمة وكبيرة، مع التذكير بالدور البارز الذي نهض به النابغون المسلمون في العصور الوسطى، الذين وفدوا من أقصى أطراف العالم الإسلامي، وكيف ساهم هؤلاء في ابتكار العلوم الإسلامية وتطويرها.
سابعاً: العناية باللغة العربية وتطويرها واعتمادها وسيلةَ تخاطب بين المسلمين من أجل استيعاب المبادئ الإسلامية، إلى جانب عدم إغفال تعلم لغة عالمية أخرى كالإنجليزية، والاهتمام بترجمة العلوم المكتوبة باللغات العالمية الأخرى.
هذه هي خلاصة رؤية الدكتور حسيني في بلورة بعض السياسات العامة لأسلمة العلم.
ـ 5 ـ
أسلمة العلم.. وجهات نظر معارضة
في مقابل المنحى الذي يدافع عن فكرة أسلمة العلم، هناك منحى آخر يعلن رفضه لهذه الفكرة، وكما أن الدفاع جاء من علماء ينتمون إلى حقول العلوم الطبيعية، فإن الرفض جاء من علماء ينتمون إلى هذه الحقول أيضاً.
وقد دخلت هذه الفكرة دائرة الجدل في ساحة علماء الطبيعيات منذ الإعلان عنها، وما زال الجدل يحتدم حولها، وسيظل الانقسام بين هؤلاء العلماء حول هذه الفكرة مستمراً، وهكذا سيستمر الجدل كذلك.
ولم يكن من السهولة أساساً الاقتناع بهذه الفكرة وتقبلها في وسط علماء الطبيعيات، ولم تكن قريبة من أذهانهم، أو تخطر على عقولهم، وهم الذين اكتسبوا هذه العلوم في جامعات الغرب، ويدينون لهذه الجامعات ويعترفون لها بالفضل في تحصيل هذه العلوم، وفي ذاكرتهم ذلك النزاع المرير والقاسي بين العلم والدين في أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى، النزاع الذي أصبح جزءاً من تاريخ العلم هناك، وبقيت المتاحف والكنائس والرسومات تذكّر به، وتعيد الذاكرة إليه.
وأحد أشد الناقدين لهذا المنحى، الدكتور الباكستاني برويز بيود أستاذ الفيزياء في جامعة القائد عزام بإسلام آباد، الذي شغل وظيفة عالم أبحاث زائر في معهد ماسا شوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومنه حصل من قبل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية.
وكشف الدكتور بيود عن موقفه المعارض في كتاب نشره بالإنجليزية سنة 1991م، بعنوان (الإسلام والعلم.. الأصولية الدينية ومعركة العقل)، وصدرت ترجمته العربية سنة 2005م، وقدّم له الدكتور محمد عبد السلام العالم الباكستاني الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979م، بالاشتراك مع ستيفن فاينبرج وشليدون جراشو.
في هذا الكتاب الموسّع فتح الدكتور بيود معركة عنيفة، ووجّه نقداً لاذعاً لفكرة أسلمة العلم، وسوف نعتمد على هذا الكتاب للتعرف إلى وجهة النظر المغايرة لهذه الفكرة.
وعن علاقته بهذا الموضوع يقول الدكتور بيود في مقدمة كتابه: إنه جاء نتيجة لظروف وملابسات مرّ بها، وأثارته ودفعته للإقدام على هذه الخطوة، ولم يستقر عزمه في الكتابة عن هذا الموضوع بسهولة، ولم يكن راغباً أصلاً في الكتابة عنه، وساوره الكثير من الخوف والتردد لكون الموضوع بعيداً تماماً عن مجال تخصصه العلمي الدقيق في الفيزياء النووية، وتمنى أن يتولى هذه المهمة واحد غيره من أهل الكفاءة والاختصاص، لكنه وجد من غير المنطقي الانتظار.
ونقطة البداية عند الدكتور بيود من الاقتراب نحو هذا الموضوع، كانت مع محاضرة ألقاها حول الإسلام والعلم سنة 1984م، بدعوة من جمعية لاهور للتعليم، وجاء اختيار هذا الموضوع نتيجة ما يصفه الدكتور بيود بالظروف العصيبة التي مرّت على بلده باكستان، وأثرت بشدة في حقل العلوم الأكاديمية، وذلك في أعقاب الانقلاب العسكري سنة 1977م، ووصول الجنرال ضياء الحق إلى الحكم الذي فتح الباب أمام مشروع الأسلمة، بما في ذلك أسلمة العلوم.
وأقام الدكتور بيود أطروحة كتابه على نقد ومحاججة ورفض فكرة أسلمة العلم، واضعاً هذه القضية في سياق فكري وتاريخي يتأطر في النزاع القديم والمستمر بين ما يسميه الأصولية الدينية والعقلانية، وهي التسمية التي أبرزها متعمداً في عنوان كتابه، راجعاً فيها إلى التاريخ المسيحي في أوروبا العصور الوسطى، والتاريخ الإسلامي في عصوره الأولى، وصولاً إلى العصر الراهن، وحال العلم اليوم في المجتمعات الإسلامية.
وبعد ستة فصول تحدّث فيها عن الإسلام والعلم هل هما متوافقان، وعن العلم طبيعته ومنابعه، والصراع بين العلم والمسيحية في القرون الوسطى، إلى حال العلم في البلاد الإسلامية، بعد هذه الفصول تساءل الدكتور بيود في عنوان الفصل السابع: هل يمكن أن يوجد علم إسلامي؟
وأجاب قاطعاً جازماً وببساطة شديدة: لا يمكن أن يوجد علم إسلامي للعالم المادي الذي نعيش فيه، وأية محاولة في نظره لخلق مثل هذا العلم تمثل إهداراً للجهود، وليس في ذلك أي مساس بالإسلام، وستنتهي إلى عقم وفشل، وذلك لأسباب يشرحها الدكتور بيود على النحو التالي:
أولاً: لا يوجد في نظره علم إسلامي الآن، وأن جميع المحاولات لصنع علم إسلامي مُنيت بالفشل حتى الآن، وذلك بالرغم من الأصوات المتحمسة التي تكررت كثيراً خلال العقود الماضية، والمطالبة بإيجاد مثل هذا العلم، ومع العديد من الندوات والمؤتمرات المحلية والدولية التي عُقدت لهذا الغرض، إلا أن جميع هذه الجهود فشلت.
الأمر الذي يشير بشدة في نظر الدكتور بيود، إلى هشاشة محتوى كل هذه الأطروحات، وعلى حدّ علمه فلم يفلح العلم الإسلامي حتى الآن في إنتاج آلة واحدة، أو جهاز واحد، ولم ينتج مادة كيميائية واحدة، أو دواءً واحداً، ولم يقدم تصميماً لأية تجربة جديدة، أو اكتشاف حقيقة فيزيائية لم تكن معلومة من قبل ويمكن اختبارها.
وعلى العكس من ذلك، يرى الدكتور بيود أن العاملين بالعلوم الإسلامية قاموا بتوجيه نشاطهم نحو مسائل تقع خارج نطاق العلم المعتاد، وتضمنت اهتماماتهم أشياء لا يمكن اختبارها مثل درجة حرارة جهنم، والتركيب الكيميائي للجن، وتفسيرات للإسراء والمعراج مبنية على أساس النظرية النسبية وغير ذلك[14].
ثانياً: إن تحديد مجموعة من الأخلاقيات والقواعد الدينية مهما بلغت لا يتيح للفرد بناء علم جديد من لا شيء. وتأتي هذه الاستحالة في نظر الدكتور بيود من حقيقة وجود منطق خاص داخلي للعلم لا يمكن التلاعب به من خارجه، وحتى العالم نفسه لا يملك الاختيار، ومثاله على ذلك ما توصل إليه محمد عبد السلام وستيفن فاينبرج اللذان تقاسما جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1979م لنظريتهما عن توحيد القوى الضعيفة والقوى الكهرومغناطيسية الموجودة في الطبيعة، مع أنهما يفترقان عقائديًّا وجغرافيًّا، فالأول معروف بإسلامه، والثاني معروف بإلحاده، مع ذلك فإنهما توصلا للنظرية نفسها[15].
ثالثاً: لم يوجد أبداً لا في الماضي ولا في الحاضر تعريف للعلم الإسلامي تقبّله جميع المسلمين، بل كان هناك جدل شديد بين المسلمين حول مضمون العلم الشرعي قبل ظهور العلم الحديث بزمن طويل. ومن المستحيل في ظل الأوضاع الحالية الوصول إلى اتِّفاق على مفهوم موحد للعلم الإسلامي، فالخلافات المذهبية ما زالت بالشدة التي كانت عليها في السابق[16].
هذه هي أبرز ملاحظات الدكتور بيود في نقد ومحاججة ورفض فكرة أسلمة العلم، ويحتوي كتابه على كم كبير من الهموم والهواجس الأخرى.
واتَّفق مع هذا الرأي الدكتور محمد عبد السلام، وقال كلاماً في تقديمه لكتاب الدكتور بيود كان قاسياً بعض الشيء، واعتبر أن هناك علماً واحداً عالميًّا، مشاكله وأشكاله عالمية، ولا يوجد ما يسمى بالعلم الإسلامي، كما لا يوجد علم هندي، ولا علم يهودي أو مسيحي أو كونفوشيوسي، والذين بشّروا بهذا العلم عليهم -في نظره- أن يخجلوا مما كتبوا باسم هذا العلم[17].
وفي وقت لاحق أشار لهذا الكتاب الدكتور عبد الكريم سروش منوهاً به، وناصحاً بالرجوع إليه، والاستفادة منه، وذلك في سياق حديثه عن نقد أسلمة العلوم الاجتماعية أو ما يعرف في إيران بديننة العلم[18].
أمام وجهة النظر هذه للدكتور بيود، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أولاً: ينطلق الدكتور بيود بشكل أساسي في تكوين وجهات نظره حول هذه القضية، من واقع التجربة الباكستانية التي كانت حاضرة في معظم فصول الكتاب، وشكّلت باعثاً أساسيًّا في الاقتراب من هذه القضية والاهتمام بها، وفي تأليف الكتاب نفسه.
وهذه التجربة ليست بالضرورة هي أهم أو أفضل التجارب في هذا المجال، وقد تكون من أكثر التجارب تعثراً وضعفاً، وهناك تجارب أخرى مختلفة ومتمايزة عن هذه التجربة، ومنها التجربة الإيرانية التي امتدحها وأشاد بها بقوة الدكتور محمد عبدالسلام في تقديمه لكتاب الدكتور بيود نفسه، بقوله: «أصبحت إيران بعد انتهاء الحرب مع العراق، في موقف جيد لاستعادة تميّزها وتسيّدها التاريخي للمسيرة العلمية في العالم الإسلامي، وقد زرت إيران مؤخراً، ورأيت تعطّشاً لدى شبابها»[19].
ثانياً: هناك قدر من عدم وضوح في الرؤية عند الدكتور بيود حول أساس العلاقة بين الإسلام والعلم، فهو يرى أن هدف الدين تحسين الأخلاقيات لا تحديد الحقائق العلمية. وحين تطرق في الفصل الأول من الكتاب إلى مسألة الإسلام والعلم فإنه وضع هذه المسألة في سياق سؤال ملتبس وخاطئ، لا يؤدي إلا إلى نتيجة خاطئة أو مضطربة، حيث تساءل: هل يوجد توافق بين المعتقد الإسلامي وعلوم العالم الطبيعية؟ أم أن هناك تنافر وتعارض غير قابل للتوفيق بين نظام غيبي مبني على الإيمان، وبين متطلبات المنطق والتساؤلات الموضوعية؟
أمام هذا السؤال لم يقدم الدكتور بيود إجابة واضحة، أو إجابة تكشف عن وضوح الرؤية عنده، وظل متوقفاً ومعتبراً أن هذا السؤال مثل إشكالية قديمة ما زالت قائمة في عصرنا الراهن، وبالتالي فليس هناك إمكانية لإيجاد مخرج سهل -حسب قوله- يسمح بحل هذه المعضلة نتيجة الانقسام حولها من الماضي إلى اليوم[20].
ثالثاً: منذ البداية ظهر الدكتور بيود في هذا الكتاب بذهنية ونفسية غير متقبلة سلفاً لفكرة أسلمة العلم، التي أثارته ودفعته دفعاً للاقتراب من هذا الموضوع الذي لا يرى فيه نفسه، ولم يكن معنياً به من قبل، ولا يشكل همًّا أو اهتماماً عنده، وإنما كان مضطراً للاشتغال به، متأثراً بظروف سياسية ضاغطة عليه، غاضباً منها، وناقماً عليها، وقد شرح جزءاً من هواجسه هذه في مقدمة كتابه بقوله: في «أعقاب الانقلاب المزدوج عسكريًّا وعقائديًّا في عام 1977، أصبح الاختلاف في الرأي مع الخط الرسمي للدولة غير محتمل، وقد استقبلت السجون العديد من العلماء وأساتذة الجامعة، ومنهم بعض زملائي من جامعة القائد عزام، وتم تعذيبهم بسبب التعبير عن آرائهم التي لم تكن على هوى الحكام.
وفي تلك الأثناء، كثر عدد الدجالين والمتملقين، ممَّن استجابوا لخطاب الحكومة بالأسلمة، وأمسكوا بزمام الأمور، وأخذوا على عاتقهم أسلمة كل شيء من حولهم، بما في ذلك العلوم. وتسابق العديد من أعضاء المؤسسة العلمية الباكستانية لمساندة هذا التيار وقيادته، وفي سبيل تسلقهم للوصول إلى مراتب مرموقة، فقد أغفلوا وداسوا، ليس فقط على متطلبات العقل والمنطق، ولكن أيضاً على كل رؤية مستنيرة في العقيدة الإسلامية ذاتها، وزعموا توصلهم إلى اكتشافات عجيبة وشاذة في غرابتها»[21].
لهذا أقام الدكتور بيود أطروحة كتابه من البداية إلى النهاية على رفض فكرة أسلمة العلوم، وانتقى من الوقائع والمقولات ما يصب في تعزيز هذا الموقف، وناظراً إلى هذه الفكرة من زاوية الصراع بين الأصولية الدينية والعقلانية، وهي زاوية خاطئة وملتبسة بطبعها وسياقها الفكري والتاريخي.
ـ 6 ـ
المجال الغربي والتكامل المعرفي
هناك اتجاه جديد في المجال الغربي بدأ بتبني فكرة التكامل المعرفي في ساحة العلم، ولا أعلم على وجه التحديد مدى الجدل والنقاش الذي أثاره هذا الاتجاه في ساحة العلم هناك، وكيف تم استقباله والتعامل معه، لكنه اتجاه جدير بأن يُعرف وتُسلط عليه الأضواء لأهمية وقيمة النقد، والأفق الذي يمكن أن يضيفه في ميادين العلم.
وفي هذا النطاق يمكن الحديث عن محاولتين بارزتين، هما:
المحاولة الأولى: شرحها كتاب (العلم في منظوره الجديد) الصادر بالإنجليزية سنة 1984م، لمؤلفيه الدكتور روبرت أغروس أستاذ الفلسفة بجامعة سانت آنسيلم، والدكتور جورج ستانسيو رئيس قسمي العلوم والرياضيات في جامعة ماجدلين كوليج، وعملا معاً بصفة خبيرين استشاريين في مجال فلسفة العلم، ولهما العديد من المقالات والمؤلفات العلمية المشتركة بينهما.
والتصور العام الذي يؤطر هذه المحاولة عبّر عنه المؤلفان بقولهما: إن «الحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة، تخضع لسلطان العلم التجريبي، بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين، الأمر الذي يُفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين. وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات توماس بري فالقضية كلها قضية نظرة، ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة، فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم، ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة»[22].
وعن نيتهما التي يسعيان لتحقيقها في هذا الكتاب يقول المؤلفان: «في نيتنا أن نبرز التضاد بين النظرة القديمة والنظرة الجديدة لا في تفاصيلهما التقنية، بل باعتبارهما نظرتين إلى العالم، مع التركيز على آثارهما الفلسفية العامة على الإنسان وعلى الكون»[23].
وعند النظر في هذه المحاولة يمكن الكشف عن ملامحها وأبعادها في العناصر التالية:
أولاً: تتسم النظرة العلمية القديمة بضيق الأفق، ولا سبيل فيها إلى معرفة أي شيء ما خلا المادة وخواصها، وتواجه هذه النظرة عناء في التوفيق بينها وبين القيم الأخلاقية والجمالية والفكرية، وتأكيداً لهذا الرأي يقول روجر سبري: إن «الوعي وحرية الإرادة والقيم، ثلاث شوكات قديمة العهد في جنب العلم، وقد أثبت العلم المادي عجزه في معالجتها حتى بصورة مبدئية لا لمجرّد كونها عسيرة المركب فحسب، بل لأنها تتعارض تعارضاً مباشراً مع النماذج الأساسية. ولقد اضطر العلم إلى التخلي عنها، بل إلى إنكار وجودها، أو إلى القول: إنها تقع خارج نطاقه. وهذه العناصر الثلاثة تشكّل عند السواد الأعظم من الناس بالطبع، بعض أهم الأشياء في الحياة، وعندما ينكر العلم أهميتها، بل وجودها، أو يقول إنها خارج نطاقه، فلابد للمرء من أن يتساءل عن جدوى العلم»[24].
ثانياً: لا تفلح النظرة العلمية القديمة أبداً في التوحيد بين العلوم، وتخلق قطيعة بين العلوم والفنون، وترى أن العلوم هي مجال الحقيقة، لكنها حقيقة مجردة من كل القيم، وتعتبر الفنون مجالاً للقيم الفردية، ولا أساس لها من الحقيقة.
وتولد هذه النظرة العلمية القديمة خصومة بين العلم والدين، وتضع خبرة العلوم المتخصصة والخبرة العامة على طرفي نقيض، ولا ترى كذلك استمرارية بين العلم الحديث والفكر القديم. وفي نهاية الأمر فإن هذه النظرة العلمية القديمة تقوّض أسس العلم ذاته، وهي بهذا المعنى لا تتفق حتى مع نفسها، ومن العسير تصور افتقار إلى الوحدة يفوق هذا الافتقار[25].
ثالثاً: تضفي النظرة العلمية الجديدة وحدة مذهلة على العلوم، وحدة عميقة وبعيدة المدى في آن معاً. ففي القرن العشرين تلتقي الفيزياء ومبحث الأعصاب وعلم النفس الإنساني عند المبدأ نفسه، مبدأ عدم قابلية إرجاع العقل إلى مادة. وأولية العقل تربط نظرية النسبية بميكانيكا الكم، وبحوث الدماغ بالانفجار العظيم، وشدة القوى النووية بحجم الكون.
والنظرة الجديدة، فضلاً عن توحيدها للعلوم، توحد من جديد بين العلم والفن لأن كلا منهما يدرس الجمال وينشده بطرائق مختلفة. كذلك فالنظرة الجديدة تتيح التوفيق بين العلم والدين، وتبيّن كيف أن الخبرة العامة تشكّل أساس فروع المعرفة، بما فيها العلم نفسه.
وأخيراً فالنظرة الجديدة تعود بالعلم الحديث ثانية إلى المأثور من حكمة القدماء، وقد تجلّى ذلك فيما استشهدنا به من آراء المفكرين في عصر ما قبل العلم الذين استطاعوا أن يفهموا، سائرين في ذلك على هَدْي الخبرة العامة، المبادئ الأساسية التي تشكل في رأينا النظرة الجديدة، فوحدة النظرة الجديدة أمر لافت للنظر[26].
رابعاً: تتأرجح الثقافة الغربية في الوقت الراهن بين النظرة القديمة والنظرة الجديدة، فهناك فروع من المعرفة ما تزال خاضعة إلى حدٍّ بعيدٍ لنفوذ النظرة القديمة، وبعض العلماء يناصر النظرة الجديدة بوضوح وثبات، وهؤلاء كان أول من تخطى النظرة القديمة لأن كشوفاتهم العلمية الكبرى قادتهم إلى التخلي عن المادية. ومن المفكرين المعاصرين من يواصل عمله بشكل يكون كليًّا ضمن إطار النظرة القديمة. كما أن هناك آخرين يعترفون ببعض عناصر النظرة الجديدة، ولكنهم يحاولون الاحتفاظ بالإطار العام لمنحى النظرة القديمة. على أن الترابط القائم داخل النظرة القديمة من جهة، وداخل النظرة الجديدة من جهة أخرى، يجعل قيام تسوية لا تناقض فيها بين النظرتين أمراً بعيد الاحتمال[27].
خامساً: ما يتعلق بالمستقبل ما تزال هناك أشياء كثيرة عن المادة ينبغي اكتشافها، ولكن المادية ذاتها تبدو كأنها أصيبت بالإرهاق، صحيح أنها تستطيع البقاء، ولكنها لن تبقى إلا على حساب تحولها لتصبح تدريجيًّا أكثر ضيقاً، وأشد تعصّباً وظلامية.
أما النظرة العلمية الجديدة، من جهة أخرى، فينتظر لها مستقبل مرموق، وقد رأينا كيف غيّرت بالفعل طبيعة الفيزياء المعاصرة. ومن المنتظر أن تتجه حقول المعرفة التي قولبت نفسها على غرار الفيزياء القديمة إلى التكيّف في نهاية الأمر مع الفيزياء الجديدة، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج، فأولية العقل تعطي لكافة العلوم منظوراً جديداً ونوراً جديداً. والنظرة الجديدة تبشر بتحرير وإنارة كل حقل من حقول المعرفة، ميّسرة بذلك قيام نهضة حقيقية في عصرنا[28].
سادساً: ما يتعلق بالدين، فالظاهر أن مستقبل النظرة الجديدة يوحي بالعودة بثقافتنا إلى الإيمان بوجود الله الواحد، وبإعادة التأكيد على الجانب الروحي من طبيعة الإنسان. وعلى صعيد الفنون، تزيل النظرة الجديدة من علم النفس وعلم الكونيات أسباب النفور والعبثية، مستعيضة عنهما بالغائية والله والجمال والعناصر الروحية وكرامة الإنسان. وهكذا نجد للفنون مرة أخرى ما يستحق أن تمجّده، وللشاعر ما هو جدير بأنشودته: إن الكون هو المكان الطبيعي للإنسان[29].
المحاولة الثانية: هذه المحاولة شرحها العالم الأمريكي المعاصر إدوارد ويلسون في دراسة تتجلى من عنوانها وجاءت بعنوان (وحدة وتناسق المعرفة)، نشرها في مارس 1998م، وترجمتها إلى العربية مجلة الثقافة العالمية في سبتمبر من العام نفسه.
هذه الدراسة هي من الدراسات القيّمة والجادة في حقلها، وتؤكد جديّة منحى التكامل المعرفي في المجال الغربي، وعند شريحة من العلماء الغربيين.
ويبدو أن هذه الدراسة على أهميتها وقيمتها ما زالت مجهولة عند المهتمين والمعنيين بهذا الموضوع في المجال العربي، ويدل على ذلك أنني لم أجد بمقدار متابعتي لهذا الموضوع من تطرق إلى هذه الدراسة، وأتي على ذكرها في الكتابات العربية التي تناولت هذا الشأن.
علماً أن إدوارد ويلسون صاحب هذه الدراسة ليس عالماً عاديًّا، فحين جاء على ذكره الدكتور مهدي كلشني في كتابه (من العلم العلماني إلى العلم الديني) وصفه بعالم الأحياء الأمريكي الشهير، واعتبره مترجم دراسته هذه إلى العربية حسين بيومي أحد أكثر علماء القرن العشرين أهمية.
وعند النظر في هذه الدراسة، يمكن تحديد أبرز مكوناتها في العناصر التالية:
أولاً: إن السعي الأعظم للعقل كان وسيظل دائماً محاولة ربط العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية، فالتشظي المتواصل للمعرفة، والتشوش الحاصل في الفلسفة ليسا انعكاساً للعالم الحقيقي، ولكنهما ناتجان من صنع الإنسان في طلبه للعلم[30].
ثانياً: إن مفتاح توحيد المعرفة هو التناسق، وهذه الكلمة عند الدكتور ويلسون هي أفضل من كلمة التماسك؛ لأن ندرتها حافظت على دقتها، في حين أن التماسك له معانٍ محتملة وعديدة.
ثالثاً: إن الاعتقاد في إمكانية التناسق وراء نطاق العلم وعبر الفروع الهائلة للمعرفة هو نظرة ميتافيزيقية للعالم، وهي نظرة أقلية يتقاسمها بعض العلماء والفلاسفة. فالتناسق لا يمكن إثباته بالمنطق من المبادئ الأولية، أو تأسيسه بأية مجموعة محددة من الاختبارات التجريبية، وعلى أقل تقدير لن تعبر عنه أية مجموعة. وسنده الأفضل ليس أكثر من تقدير استقرائي مستمد من النجاح السابق الثابت للعلوم الطبيعية. واختباره الأشد تأكيداً سيغدو فعاليته في العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، والجاذبية الأقوى للتناسق تظهر في التوقع المتعلق بالمجازفة الفكرية، وفي فهم أفضل للشرط الإنساني حتى لو أحرز نجاحاً بسيطاً فقط.
رابعاً: إن الإيمان بالتناسق هو أساس العلوم الطبيعية، وبالنسبة للعالم المادي على الأقل يكون الدافع وبصورة طاغية من أجل انسجام المفاهيم. إن الحدود المعرفية داخل نطاق العلوم الطبيعية تتلاشى باستمرار لصالح تحول فروع معرفية هجين يكون التناسق فيها وطيداً. وهي تنتشر عبر مستويات تعقد متعددة مثل الفيزياء الكيميائية، والكيمياء الفيزيائية، والوراثة الجزيئية، والإيكولوجيا الكيميائية، والوراثة الإيكولوجية.
ولا يعد أيٌّ من التخصصات الجديدة أكثر من بؤرة بحث، إن كلا منها هو سعي دؤوب من أجل الأقطار الجديدة والتكنولوجيا المتقدمة[31].
خامساً: إن حلم وحدة الفكر كان نتاج التنوير، وهو تحليق فائق الطموح للعقل استمر طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكرؤية للمعرفة الدنيوية من أجل خدمة حقوق الإنسان والتقدم الإنساني كان إسهام الغرب الأعظم في الحضارة، لقد استهل العصر الحديث بالنسبة للعالم كله، ونحن جميعاً ورثته ولكنه فشل بعدئذٍ. مع التسليم بتوقع التلاقي المتجدد للفروع المعرفية، فإنه من الأهمية فهم كل من الجوهر الأساسي للتنوير والضعف الذي بخسه. ففرنسيس بيكون كتب ببلاغة عن إيمانه بالوحدة الضمنية للمعرفة، ورفض التقسيم الحاد للفروع المعرفية السائد منذ أرسطو.
ومن جهته أدرك الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الكون منطقي وموحد على السواء في كل مكان بفعل السبب والنتيجة، وأعتقد أن هذا المفهوم يمكن تطبيقه أينما كان من الفيزياء إلى الطب، ومن ثم البيولوجيا، كما يمكن تطبيقه حتى على التعليل الأخلاقي. وفي هذا الشأن وضع الأساس من أجل الإيمان بوحدة المعرفة الذي كان سيؤثر في فكر التنوير بشدة في القرن الثامن عشر[32].
سادساً: إن الإصلاح الحقيقي سيهدف إلى تناسق العلم مع العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية في التعليم والتدريس، وإن كل طالب كلية ينبغي أن يكون قادراً على الإجابة عن سؤال: ما العلاقة بين العلم والعلوم الإنسانية، ولماذا تغدو هذه العلاقة مهمة بالنسبة لخير البشرية؟ وكل قائد عسكري أو سياسي ينبغي أن يكون قادراً هو أيضاً على الإجابة عن هذا السؤال.
سابعاً: إن معظم القضايا التي تكدر البشرية بصورة يومية كالصدام العرقي، الزيادة السكانية، الإجهاض، تدمير البيئة، الفقر وغيرها يمكن أن تحل فقط بدمج المعرفة المستمدة من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. مع هذا فالغالبية العظمى من قادتنا السياسيين ثُقفوا بصورة عامة أو خاصة في العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، وتلقوا القليل أو لا شيء من العلوم الطبيعية. والأمر نفسه ينطبق على جمهور المثقفين وكتّاب الأعمدة والمحاورين في وسائل الإعلام وخبراء الفكر العسكري. إن أفضل تحليلاتهم مقتصدة وموثوق بها وأحياناً تكون صحيحة، ولكن الأساس الجوهري لمعرفتهم متشظٍ وغير متناغم.
ثامناً: إن المنظور المتوازن لا يمكن اكتسابه بدراسة الفروع المعرفية مجزأة، فالتناسق بينها يجب أن يلاحق، وفكريًّا فهو يدوي بصدق، ويشبع الدوافع التي تنشأ من الجانب البديع في الطبيعة البشرية. وقياساً إلى مدى تضييق الفجوات بين الفروع الهائلة للتعلم فسوف يزداد عمق وتنوع المعرفة. وسيحدث هذا على النحو المشار إليه، رغم الاستخفاف به، بسبب الالتحام الضمني المدرك. والمشروع مهم جدًّا لسبب آخر فضلاً عن ذلك: إنه يجعل للفكر هدفاً، ويعد بأن النظام لا الخواء يكمن فيما وراء الأفق. وأعتقد أننا، حتماً، سوف نقبل المغامرة، ونمضي إلى هناك ونعثر على ما نحتاج أن نعرفه[33].
بهذه العناصر والمكونات تتكشف حاجة الكتابات العربية والإسلامية، في التواصل والانفتاح مع هاتين المحاولتين وغيرهما في المجال الغربي، لتعميق منحى التكامل المعرفي في المجال العربي والإسلامي.
ـ 7 ـ
ملاحظات ونقد
بعد هذه المواقف والأفكار المدافعة والرافضة لفكرة التكامل المعرفي بين العلوم، أود أن أسجل الملاحظات التالية:
أولاً: لا شك في أن من الصعب معالجة قضية علمية بهذا المستوى من التكامل بين العلوم، أو الإقناع بهذه القضية في ظل تراجع وتدهور حركة العلم في جامعاتنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية، التراجع والتدهور الذي لا يختلف عليه أحد، وليس خافياً على أحد في داخل هذه الجامعات والمجتمعات.
وما لم نتقدم علميًّا لن نتمكن من إحراز تقدم حقيقي في هذه القضية، ولن نتعرف على السبيل الفعال إلى هذا التقدم.
ومن المؤكد أن صورة هذه القضية في ظل تقدم حركة العلم، هي غير صورتها تماماً في ظل تراجع حركة العلم، وبالتالي فإن جوهر المشكلة يكمن في القدرة على إنجاز التقدم العلمي الذي يمهد السبيل للسير في طريق التكامل المعرفي.
ثانياً: في هذه القضية تحديداً نحن بحاجة إلى استحضار وجهات النظر المغايرة، وطلبها والتمسك بها، والتعامل معها بوصفها تمثل جزءاً من عملية النظر والتفكير في هذه القضية. وذلك لأن بإمكان وجهات النظر المغايرة الكشف عن ثغرات ونواقص، أو أبعاد وجوانب قد لا يلتفت إليها، ويقترب منها المدافعون عن هذه القضية، خصوصاً وأن وجهات النظر المغايرة تأتي من علماء وخبراء ينتمون إلى هذه الحقول العلمية، ويعلم هؤلاء أكثر من غيرهم كيف ساهمت مثل وجهات النظر المغايرة هذه في فتح آفاق جديدة في حركة العلوم.
وهذا يعني ألَّا نضيق ذرعاً بوجهات النظر المغايرة مهما كانت صورتها ونوعيتها.
ثالثاً: لا يكفي في هذه القضية الاكتفاء بالأبعاد والتحليلات النظرية على أهميتها وقيمتها، والعناية بشرح موقف الإسلام من العلم، ورؤيته إلى العالم، وليس كافياً كذلك الاستناد والعودة إلى ما أنجزه المسلمون قديماً في عصور الازدهار الحضاري، وكيف أنهم ساهموا في نهضة وتقدم العلوم والصناعات، وهذه الأبعاد النظرية ليست كافية كذلك على الإقناع بهذه القضية، والبرهنة عليها. وما نحتاجه في هذا الشأن هو تلك الأبعاد التجريبية والتطبيقية الكاشفة والمبرهنة على هذه القضية، بالشكل الذي شرحه وبيّنه كتاب (العلم في منظوره الجديد).
رابعاً: لم يتطرق أصحاب هذا المنحى الذين رجعتُ لأفكارهم وكتاباتهم إلى تحليل وتقويم التجارب والنماذج المتصلة بهذه القضية، والتي غابت عن هذه الكتابات، وأحدثت فيها نقصاً وفراغاً.
فقد تحدث أصحاب هذه الكتابات عن أفكار ورغبات شديدة السمو والطموح، لكنهم لم يتحدثوا عن تجارب ونماذج سواء كانت ناجحة ومتفوقة، أو فاشلة ومتعثرة، مع معرفة هؤلاء بمثل هذه التجارب والنماذج بغض النظر عن تقدمها وتراجعها، ومع معرفة هؤلاء كذلك بالإشارات المتكررة في كتابات المعارضين لهذا المنحى والمطالبة بمثل هذه التجارب والنماذج وجوداً ونجاحاً.
هذه كانت محاولة لتكوين المعرفة برؤية علماء الطبيعيات المسلمين المعاصرين، لمسألة التكامل المعرفي بين العلوم.
[1] ورقة مقدمة لندوة نحو نسق فكري إسلامي، عقدت في الخرطوم في الفترة ما بين 7 ـ 9 أكتوبر 2009م.
[2] مجموعة كتّاب. الدين والعلم.. مطارحات في ديننة العلم، ترجمة: محمد حسن زراقط، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2008م، ص234.
[3] مهدي كلشني. من العلم العلماني إلى العلم الديني، ترجمة: سرمد الطائي، بيروت: دار الهادي، 2003م، ص156.
[4] مهدي كلشني. المصدر نفسه، ص36.
[5] سورة فاطر، الآية 14.
[6] مهدي كلشني. من العلم العلماني إلى العلم الديني، ص6.
[7] مهدي كلشني. المصدر نفسه، ص16.
[8] مهدي كلشني. القرآن ومعرفة الطبيعة، ترجمة: الشيخ محمد علي التسخيري، طهران: منظمة الإعلام الإسلامي، 1985م، ص34.
[9] مهدي كلشني. من العلم العلماني إلى العلم الديني، ص159.
[10] مهدي كلشني. المصدر نفسه، ص168.
[11] مهدي كلشني، المصدر نفسه، ص159 - 156 - 7.
[12] مهدي كلشني. المصدر نفسه، ص15.
[13] سيد وقار أحمد حسيني. السياسات الثقافية والعلوم الإسلامية، ترجمة: عبد الباسط إبراهيم، حلب: فصّلت للدراسات والترجمة والنشر، ص35.
[14] برويز بيود. الإسلام والعلم.. الأصولية الدينية ومعركة العقلانية، ترجمة: محمود خيال، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005م، ص173.
[15] برويز بيود. المصدر نفسه، ص174.
[16] برويز بيود. المصدر نفسه، ص177.
[17] برويز بيود. المصدر نفسه، ص14.
[18] مجموعة كتّاب. الدين والعلم.. مطارحات في ديننة العلم، مصدر سابق، ص248.
[19] برويز بيود. الإسلام والعلم، ص15.
[20] برويز بيود. المصدر نفسه، ص28 - 29.
[21] برويز بيود. المصدر نفسه، ص21.
[22] روبرت أغروس وجورج ستانسيو. العلم في منظوره الجديد، ترجمة: كمال خلايلي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة، 1989م، ص15.
[23] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص17.
[24] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص133.
[25] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص136.
[26] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص136 - 137.
[27] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص146.
[28] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص146 - 147.
[29] روبرت أغروس. المصدر نفسه، ص147.
[30] إدوارد ويلسون. وحدة وتناسق المعرفة، ترجمة: حسين بيومي، مجلة الثقافة العالمية، الكويت، العدد 90، سبتمبر 1998م، ص6.
[31] إدوارد ويلسون. المصدر نفسه، ص9.
[32] إدوارد ويلسون. المصدر نفسه، ص16.
[33] إدوارد ويلسون. المصدر نفسه، ص29.