*
بعد أن أثبت النموذج الغربي للاجتماع المدني القائم على مبدأ المواطنة فعاليته على المستوى الواقعي، وصارت المواطنة نموذجاً يفرض على الآخرين الاقتداء بقيمها؛ اختلف تفاعل الفكر العربي مع هذا الوضع وذهب محمد عابد الجابري أنه ليس في مخزون العرب، اللغوي وبالتالي الفكري والوجداني، ما يفيد ما نُعنونه اليوم باللفظين: «المواطنة» و«المواطن». وشاركه في هذا الرأي عدد من المفكرين التقوا مع ما ذهب إليه برنار لويس من أن مفهوم المواطنة في الفكر العربي مفهوم غير أصيل إن لم يكن غريباً مؤكداً أن سبب غياب كلمة مواطن في اللغة العربية واللغات الأخرى الفارسية والتركية «يرجع إلى غياب فكرة المواطن كشريك وفكرة المواطنة كعملية مشاركة»[1].
في حين خالف آخرون هذا الرأي وذهبوا إلى القول بأن جذور استعمال المفهوم ومعانيه تعود إلى فترة الإصلاحية الإسلامية الحديثة حيث غلبت الإشكالية السياسية على غيرها من الإشكاليات، وبالتحديد مع: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» للطهطاوي في مطلع الربع الثاني من القرن التاسع عشر إلى «الخلافة أو الإمامة العظمى» لرشيد رضا في نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الباحث في إنتاجات مفكري الإصلاحية الإسلامية لا يعدم الوقوف على جملة من المبادئ والإشارات الفكرية ذات الدلالة السياسية الدائرة في حقل المصطلح المقصود رغم أنه يعسر عليه العثور على مصطلح المواطنة بلفظه المتداول في الزمن المعاصر أو بمعناه. وبهذا المعنى «كان طغيان المسألة السياسية في وعي الإصلاحيين استجابة تلقائية لتحدَّ هو في جوهره سياسي فهم إذ عزوا تقدم أوروبا وتفوقها إلى قوة نظامها السياسي عزوا تخلف مجتمعاتهم -بالمقابل- إلى تخلف النظام السياسي التقليدي»[2]. فكان هناك أولاً موقف الطهطاوي الذي يعطي الأولوية للسياسة الليبرالية ويؤكد ضرورة إصلاح النظام السياسي، وليس أدل على ذلك من ترجمته لمواد الدستور الفرنسي كاملة في كتابه تلخيص الإبريز متوقفاً أمام المواد الخمس عشرة الأولى منها بالشرح والتفسير مطابقاً في الوقت ذاته بين مفهوم الحرية عند الغرب ومفهوم العدل الإسلامي، «وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة»[3].
والدعوة إلى المساواة أمام القانون معناه إعادة النظر في علاقة الحاكم بالمحكومين «على نحو يجري فيه الحد من سلطات الأولين وإجراء أحكام التقييد الضرورية عليها وتمتيع الآخرين بسلطات كانت في النظام القديم من مشمولات أملاك الحاكم»[4]، وهو ما أثار انتباه الطهطاوي حين كتب «أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنسية هي قانون مقيد»[5].
أما خير الدين التونسي فقد دفع بالمسألة إلى أبعد من ذلك من منطلق أن «التمدن الأوروبي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع»[6]؛ لذلك على العالم الإسلامي أن يدرك سر هذا التقدم ويتبعه وهو في المجال السياسي راجع إلى «التنظيمات المؤسسة على العدل السياسي...»[7].
ولهذا السبب «لا يسوغ أبداً أن يسلم أمر المملكة لإنسان واحد بحيث تكون سعادتها وشقاؤها بيده ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلاً وأوسعهم علماً»[8].
وهذا هو جوهر فكرة العقد الاجتماعي لم ير «التونسي» حرجاً في التأكيد عليها وتجاوز مسألة مقارنتها بالشريعة لأن «الشريعة لا تنافي تأسيس التنظيمات السياسية المقوية لأسباب التمدن والعمران»[9].
لكن ما يثيره المعترضون على هذا الرأي لا يخلو من وجاهة تستدعي الوقوف عندها والبحث في إشكالاتها، إذ يرى المعترضون أن اشتراك مفكري الإصلاحية الإسلامية جميعاً في النهل من التجربة الأوروبية والاقتباس من الأدوات والآليات التي تخص هذه التجربة لم يحد بهم قطعاً عن اعتبار «دعوتهم للإصلاح والتنظيمات والعدل والدولة الحديثة هي من صميم الإسلام ومن تفاصيل أحكامه بل هي من مقتضيات العمل بقاعدة أصولية فيه هي الاجتهاد»[10]. وهو ما يفتح المجال لتعميق البحث أكثر في سؤال المواطنة في المدونة الإسلامية فكراً وفقهاً وسؤال ما إذا كان من الممكن أن يتطور المجتمع الإسلامي نحو نموذج المواطنة؟ وهو سؤال غني بمباحث فرعية تتعلق بنقد أصل المفهوم ودراسة خصائص المجتمع الإسلامي وغيرها...
تبدو هذه الإشارات مهمة من جهة تأكيدها أهمية مبحث المواطنة في الفكر العربي الإسلامي برغم أن هذا الفكر ما يزال يعاني نقصاً كبيراً فيما يتعلق بثقافة المواطنة وأن الموضوع جديد بالنسبة إليه.. كما تزداد الحاجة إلى إثارة حوار حول المفهوم وأبعاده وغاياته وسياقاته بعد التقدم الذي حصل في هذا الميدان في الفكر الأوروبي موطن ظهور المفهوم وتطوره، خاصة أن هذا التطور أوقفنا على حقيقة هامة هي أن المشكلة لا تكمن في حصرية المواطنة «وإنما في دلالتها المختلفة من مرحلة إلى أخرى مع احتفاظ المفهوم ببعض هذه المعاني القديمة في طبقاته الأركيولوجية»[11]. فمثلا تذهب دومنيك شنابر Dominique schnapper إلى أن النجاح الذي عرفه تصنيف توماس مارشال (1893 ـ 1983) لمراحل تطور المواطنة (القرن 18 كان قرن الحقوق المدنية والقرن 19 قرن المشاركة السياسية، أما القرن العشرون فهو قرن النضال من أجل الحقوق الاجتماعية) «ينطبق خاصة على التاريخ الإنجليزي، فبيسمارك مثلاً نظّم مؤسسات المواطنة الاجتماعية قبل أن تقام المواطنة السياسية في الرايخ الألماني»[12]. وهو موقف يحيل إلى المرونة الفكرية التي تسم تعامل مفكري الغرب مع منجزاتهم الفكرية والواقعية بحثاً عن الأفضل، وهي مرونة نلمسها أكثر عند يورغن هابرماس –فيما يتعلق بمفهوم المواطنة- الذي يدعو إلى إعادة دراسة الإشكاليات التي تطرحها المواطنة اليوم على الفكر السياسي في أوروبا بعد ظهور مفهوم «الاتحاد الأوروبي» الذي يقوم بديلاً عن مفهوم المواطن والمواطنة كمنجز من منجزات الدولة/ الأمة، التي ضعف دورها مقارنة بتاريخها وهو ما أثار سؤال المحافظة على الحقوق الثقافية لمجموعة ما دون وضع قيم الحرية والمساواة، التي هي أصل المواطنة، موضع سؤال. أي اختبار قدرة المواطنة السياسية مع وجود المجتمعات الأكثر انفتاحاً وتعدداً من المجتمعات القديمة. كما أن التفاعلات السياسية الطارئة حاليًّا مع وجود أقليات مسلمة في العالم الغربي، أخذت تظهر مطالب جديدة تكتسي طابعاً حقوقيًّا ودينيًّا في الآن نفسه، تتمحور أساساً حول قضية اندماج الأقليات الثقافية والدينية ضمن المجتمعات المؤسسة على أساس المواطنة دون انتقاص من حقوقهم الثقافية. وهو ما يطرح أمام الفكر السياسي المعاصر سؤال إمكانية الارتكاز على مفهوم المواطنة كنظام للعلاقات الإنسانية؛ إذ إن غياب المرجعية المتجانسة يؤدي بالتأكيد إلى الرجوع إلى الخصوصيات، مما يعني بدوره عدم شمول كلمة «المواطنة» مجموع البشر في ظلال كيان دولاني محدد؟
ويبدو لنا من خلال متابعة ما يكتب حول هذا الموضوع أن هذه المرونة الفكرية تحتاج إلى مزيد من التطوير فلا يخلو مجتمع من المجتمعات مهما بلغت درجة حداثته من قوى محافظة تتمسك بالمنجز وترفض إخضاعه للنقد. أما ما يخص الفكر العربي والإسلامي فيبدو أن ريح هذه المرونة أصابت بعض مفكريها وكتابها فطرحوا ما يمكن أن يعد خطوة هامة في مسار الخروج من حالة «المحافظة المميتة للفعل والإبداع» بصرف النظر عما قد تفرزه الطروحات الجديدة. ولعل أبرز ما يستدعي الوقوف عنده في هذا الإطار تبني بعض مفكري التيار الإسلامي من المتحزبين وخاصة من غير المتحزبين لمقولات المواطنة وقيمها، مع اختلاف في درجة الانفتاح، وكان لافتاً ما أثارته الفتوى الشهيرة الصادرة عن مجلس الإفتاء الأوروبي من جدل في الساحة الفكرية الإسلامية فقد أعطت الفتوى الأولية للمواطنة على حساب العقيدة حين جوزت للجندي الأمريكي المسلم المشاركة في الحروب التي يخوضها الجيش الأمريكي حتى وإن كانت ضد المسلمين.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن الجدل المثار حول هذه الفتوى يحيل إلى أن كثيراً من القضايا المتعلقة بمبدأ المواطنة لم تحسم بعد داخل الفكر الإسلامي، وما زال هناك من يقف منها موقف المحترز لمبررات نتفهمها في هذا الإطار باعتبار أنه ليس من الهيّن حسم الإشكالات الجوهرية والمعقدة التي يفرضها هذا الموضوع كقضية المرجعية التي تجعلها المواطنة للدولة بينما يمثل النص المرجعية العليا في الفكر الإسلامي، لذلك فإن القبول الجزئي للمواطنة من لدن المفكرين المتحمسين لنشر قيمها مثير للسؤال أكثر مما هو مدعاة «للفرح»: هل نحن فعلاً إزاء مراجعات جوهرية استطاعت أن تحسم القضايا الخلافية على أسس فكرية متماسكة؟ لماذا لا يكون المحترزون أقوى حجة وأكثر تماسكاً في موقفهم بناء على أن لكل مجتمع نموذجه الخاص في الاجتماع المدني وهو ما تثبته المراجعات المستمرة لمفهوم المواطنة في بلد المنشأ؟
أسئلة تختزل شدة التعقيد داخل هذا الموضوع بصرف النظر إلى أي الصفين نميل. وطرافتها أنها تحفز العقل على خوض غمار البحث فيها واعدة بعناء شديد لكنه محبذ للباحث الموضوعي.
ليس «الفرح والاستعجال» من سمات الباحث الرصين مهما كان تعاطفه مع «الرأي الجديد» لأنهما يُذهبان بصيرة الناقد لديه فلا يرى فيما فرح به نقاطاً غامضة يسائل أصحابها حتى يدفع بها إلى مزيد من التطوير والتعميق، وإذا كان موقف مفكري التيار الإسلامي من قضية المواطنة يطرح من الأسئلة أكثر مما يجيب فإن المعضلة التي تحتاج إلى تفكيك تخص الفكر العربي عموماً (إسلاميًّا كان أو علمانيًّا) هي ما يمكن أن نسميه بمعضلة «التزيين المتطرف» لكل تطور قد يحصل، بما يحوّل هذا التطور إلى متن في ذاته تكثر حوله الحواشي شأن الموقف من المواطنة في الفكر العربي الذي ما زال كل فريق فيه يتحصن بما أنجز، وهو ما من شأنه أن يعمّق الهوة بينه وبين الفكر الإنساني عموماً.
[1]* باحث جامعي - تونس.
عبد الوهاب الأفندي، مقال «إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام مسلم أم مواطن»، في كتاب المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط1، 2001، ص 55.
[2] عبد الإله بلقزيز: الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2002، ص، 25.
[3] رفاعة رافع الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز: الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، دراسة وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1977، ج 2، ص 102.
[4] عبد الإله بلقزيز: الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص، 31.
[5] رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز...، مرجع سابق، ص ،95.
[6] خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، مطبعة الدولة لحاضرة تونس المحمية 1284هـ، ط1، ص 50.
[7] المرجع السابق، ص، 10.
[8] المرجع السابق، ص، 16.
[9]4 المرجع السابق، ص، 165
[10] عبد الإله بلقزيز: الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص 39 .
[11] عزمي بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، ص، 154
[12] Dominique schnapper ; ibd ; p108