شعار الموقع

مصطفى عبد الرازق وتاريخ الفلسفة الإسلامية

زكي الميلاد 2010-11-12
عدد القراءات « 1433 »

ـ 1 ـ
عبد الرازق والمكانة الفلسفية
مثَّل الشيخ مصطفى عبد الرازق تجربة مهمة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الفلسفي خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي التجربة التي توقَّف عندها، ورجع إليها معظم الدارسين والباحثين الذين حاولوا دراسة تاريخ تطور الفلسفة والفكر الفلسفي والدرس الفلسفي في مصر والعالم العربي.
واكتسبت هذه التجربة أهمية بحيث لا يمكن تخطيها وتجاوزها، أو إهمالها وعدم الالتفات إليها، وذلك لشدة تأثيرها، وقوة حضورها، وتمكُّنها من البقاء والامتداد، وظلت موضع ثناء وتقدير الكثيرين من الباحثين والمؤرخين والمشتغلين بالدراسات الفلسفية، من الذين عاصروا صاحب هذه التجربة، ومن الذين جاؤوا بعده، وحتى من الموجودين اليوم.
وعند النظر في هذه التجربة يمكن الكشف عن ثلاثة عوامل متعاضدة، هي التي عززت القيمة الفكرية والفلسفية لتجربة الشيخ عبد الرازق، وهذه العوامل هي:
أولاً: يعد الشيخ عبد الرازق أول أستاذ مصري يُكلَّف بتدريس مادة الفلسفة الإسلامية في التعليم الجامعي المصري، وهذا الأمر له قيمته الرمزية، ويحمل العديد من المعاني والدلالات، ويمثل لحظة تاريخية لا تُمحى من ذاكرة المصريين، وتعني لهم الشيء الكثير، ومنها يؤرخ إلى الدرس الفلسفي الإسلامي الأكاديمي في مصر.
ويذكر في هذا الشأن أن الدكتور طه حسين الذي كان الأستاذ المصري الوحيد من بين أعضاء هيئة التدريس في كلية الآداب آنذاك، أبى إلَّا أن يُدرس الفلسفة الإسلامية أستاذ مصري، فكان الشيخ عبد الرازق الذي عُيِّن أستاذاً مساعداً سنة 1927م في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حاليًّا، فدرس الفلسفة الإسلامية إلى جانب اثنين من أساتذة جامعة السربون الفرنسية، هما إميل برييه أستاذ الفلسفة اليونانية، وأندريه لالاند أستاذ الفلسفة الحديثة.
ومن كلية الآداب كانت الانطلاقة الحقيقية للشيخ عبد الرازق في أن يُعرِّف عن نفسه، وعن معارفه ومواهبه الفكرية، وهي الفرصة التي يبدو أنه كان ينتظرها ويترقبها بعد عودته من فرنسا، فلم يهنأ قلبه حسب قول حسين أحمد أمين، ولا وجد ميدانه الحقيقي إلا حين اختير أستاذاً في كلية الآداب .
ولو لم ينخرط الشيخ عبد الرازق في سلك التعليم الجامعي، وفي تدريس الفلسفة الإسلامية تحديداً، وفي ذلك التاريخ بالذات، لما عرف بالصورة التي أصبح عليها فيما بعد، والمنزلة التي وصل إليها، وبالتأثير والامتداد الذي تركه.
وهذا ما يتأكد إذا عرفنا أن من بين جميع المناصب التي تبوَّأها ووصل إليها الشيخ عبد الرزاق، ومنها مناصب عليا مثل توليه وزارة الأوقاف سنة 1938م، وهو أول شيخ أزهري يتولى وزارة، وظل يُعاد تعيينه في هذه الوزارة عدة مرات إلى سنة 1944م، وتولى منصب شيخ الأزهر سنة 1945م واستمر فيه إلى وفاته سنة 1947م، من بين هذه المناصب وغيرها يُعد التعليم الجامعي هو المنصب الذي عرَّف به، وأكسبه هذه المنزلة الفكرية الفائقة، وجعله أحد الرواد الكبار في مجال الفلسفة والدرس الفلسفي في مصر، وعلى مستوى الفكر الإسلامي الحديث.
ومثلت فترة التدريس في كلية الآداب للشيخ عبد الرزاق أطول فترة أمضاها من بين المناصب التي شغلها، حيث امتدت إلى سنة 1944م، رقي خلالها إلى أستاذ كرسي في أكتوبر 1935م.
ثانياً: التأثير العميق الذي تركه الشيخ عبد الرازق في مجموعة متميزة من طلبته، الذين أصبحوا فيما بعد من صفوة أساتذة الفلسفة والفلسفة الإسلامية في الجامعات المصرية وبعض الجامعات العربية، وعُدُّوا من أبرز المشتغلين بالدراسات الفلسفية تصنيفاً وتحقيقاً وترجمة ونشراً، في مختلف ميادين الفلسفة والفلسفة الإسلامية.
وهذه الملاحظة من أكثر الملاحظات التي استوقفت انتباه الدارسين لسيرة الشيخ عبد الرازق وتجربته، وذلك لشدة وضوحها وظهورها، وتواتر الحديث عنها من القريبين والبعيدين أساتذة وتلامذة.
وليس هناك من اقترب أو تطرق لسيرة الشيخ عبد الرازق، وتجربته الفكرية، ولم يلتفت إلى هذه الملاحظة بصورة من الصور، وبغض النظر عن كيفية فهمها وتفسيرها وتحليلها، وذلك لأنها واحدة من أكثر نجاحات الشيخ عبد الرازق التي عُرِف وتفوق بها على كثير من زملائه وأقرانه ورجالات جيله.
ولهذا يعد الشيخ عبد الرازق أحد أكثر الأساتذة نجاحاً وتفوقاً في مجال التعليم الجامعي، وهذه الملاحظة تلفت النظر إلى طريقته في التعليم، وإلى أسلوبه في التعامل مع طلبته وتلامذته الذين جعلهم يتعلقون به حتى بعد أن أصبحوا أساتذة وأساتذة كبار، ويتذكرون فضله عليهم، وفاءً ومعروفاً له.
وحين يشرح الكاتب المصري حسين أحمد أمين طريقة الشيخ عبد الرازق في التعليم يقول: «كان لهذا الشيخ الأزهري المعمم أسلوب خاص في التعليم الجامعي، لا يكاد ينهجه غيره من الأساتذة في مصر، فالتعليم عنده لم يكن مجرد إلقاء الدرس على الطلاب وتلقينهم إياه، ولكنه عبارة عن صلة عقلية ينشئها بينه وبين طلابه. فهو يشركهم معه في بحث المواضيع واستخراجها من مظانها، وفي مناقشته المسائل وفهم النصوص وتحرير الآراء. وهو في كل ذلك يراجعهم ويراجعونه، ويعينهم ويعينونه. كلهم لكلهم أساتذة، وكلهم لكلهم طلاب! وهكذا يصير درسه عبارة عن مجتمع تتقارب فيه الأرواح وتتآلف النفوس، وتنبت في جنباته عواطف الصدق والإخلاص، وبهذا المنهج الجامعي كان يربي طلبة يحبهم ويحبونه، وينشؤون على ما عودهم إياه من سنن العلماء وآدابهم» .
وعن علاقته بطلبته وتلامذته يقول عنه الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة: «فقد اتسع قلبه لتلاميذه، وشملهم جميعاً برعايته، فكان يلقاهم في درسه وبيته، ويستمع إليهم في العلم وشؤون الحياة، وكانوا يسرون إليه بما يشغلهم، ويعرضون عليه مشاكلهم، ولم يكن يدخر وسعاً في معونتهم والأخذ بيدهم، فكان منهم بمثابة الأب من أبنائه، أو شيخ الطريقة من مريديه، وتلك هي القيادة الروحية التي تنقصنا، وما أحوجنا إليها» .
ومن هذه الجهة يرى الدكتور طه حسين أن هناك ثلاث خصال لازمت الشيخ عبدالرازق طيلة حياته، وهي: «أنه لا يعرف محبًّا لطلب العلم مخلصاً في هذا الحب إلا سعى إليه واتصل به وقرّبه منه وفتح له قلبه وعقله وداره أيضاً، وإذا كان حب العلم وطلابه المخلصين هو الخصلة الأولى من الخصال التي لازمته حياته كلها، فخصلة الوفاء هي الخصلة الثانية من خصاله، والبر بطلاب العلم خاصة وبكل من كان يحتاج إلى البر عامة كان الخصلة الثالثة من خصاله» .
ثالثاً: إن الذين سبقوا الشيخ عبد الرازق في تدريس الفلسفة والفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية كانوا مجموعة من المستشرقين الأجانب، وهم الإيطاليان سانتلانا ونلينو، والإنجليزيان أرنولد توماس ووكر وآرثر آربري، والفرنسيان لويس ماسينيون وبول كراوس، والبلجيكي أرمند آبل.
وهذا يعني أن المستشرقين الأجانب هم الذين كانوا يفرضون سطوتهم وهيمنتهم على الفلسفة والدراسات الفلسفية تدريساً وتوجيهاً، وهم الذين وضعوا مناهجهم في التدريس والتعليم، وبحسب رؤيتهم ووفق رغبتهم.
وكان الشيخ عبد الرازق يعلم أنه أول أستاذ جامعي مصري تناط به مهمة تدريس الفلسفة الإسلامية، ولعله وجد نفسه في محيط لا يخلو من هيبة ورهبة أمام هؤلاء الأساتذة الأجانب الذين انبهر بالثقافة التي ينتمون إليها شريحة كبيرة من المتعلمين والأكاديميين والأدباء والمثقفين في مصر والعالم العربي والإسلامي.
مع ذلك لم يتبع الشيخ عبد الرازق هؤلاء الأساتذة الأجانب، ولم يكن مقلداً لهم في منهجهم ومناهجهم، وإنما جاء بمنهج جديد مبتكر في تدريس الفلسفة الإسلامية مختلف ومغاير في جوهره وروحه لمناهج أولئك الأجانب الذين سبقوه وكانوا ضالعين في الفلسفة والدراسات الفلسفية، ويعتبرون هذا الحقل بالذات يمثل امتيازاً لهم، ويعدونه أصالة وتاريخاً من إشراقاتهم وإبداعاتهم وفتوحاتهم وبدون منازع.
والذين درسوا الفلسفة عند الشيخ عبد الرازق وتتلمذوا عليه، هم الذين وجدوا أنه جاء بمنهج جديد غير مسبوق إليه، واعترف له أيضاً بهذه الفضيلة أساتذة الفلسفة الذين عاصروه، وحتى الذين جاؤوا من بعده في مصر والعالم العربي.
فحين تحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الشيخ عبد الرازق قال عنه: إنه «قد نحا منحى جديداً في دراسة الفلسفة الإسلامية، وأرسى دعائم مدرسة كانت الحياة الفلسفية أحوج ما تكون إليها» .
وعندما أراد الدكتور أنور عبد الملك أن يعدد بعض وجوه الإبداع الفكري الذاتي في مصر، توقف عند الشيخ عبد الرازق واعتبره أنه كان «مبدعاً ورائداً، إذ أعاد منهاجية تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى ضرورة الأخذ بأصولها التاريخية الذاتية، دون الاعتماد على أسطورة أن الفلسفة ما كان لها من دور إلا نقل التراث اليوناني إلى العرب، ومن ثم تسهيل إعادة نقله إلى الغرب في مرحلة النهضة» .
ومن جهته يرى الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني أن تعيين «الشيخ عبد الرازق أستاذاً في الجامعة كان فاتحة عهد جديد لدراسة الفلسفة الإسلامية على أسس منهجية استفادها من عمق دراسته الأزهرية، وتلمذته على الأستاذ الإمام محمد عبده من ناحية، ومن اتصاله بجامعات فرنسا حيث درس بها حيناً من الزمن من ناحية أخرى» .
لهذه العوامل الثلاثة وتعاضدها اكتسبت التجربة الفكرية للشيخ عبد الرازق أهمية فائقة في تاريخ تطور الفكر الإسلامي الفلسفي الحديث.
ـ 2 ـ
كتاب التمهيد.. ومقالات الغربيين
يعتبر كتاب (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) أهم وأبرز مؤلفات الشيخ عبدالرازق، الذي لم يعرف عنه بصورة عامة غزارة الإنتاج، والتفرغ والانكباب في البحث والتأليف والتحقيق كما هو حال شريحة كبيرة من المصريين في جيله وما بعد جيله.
وهذا الكتاب هو الذي عرَّف بالشيخ عبد الرازق وبرؤيته ومنهجه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، ويعد من أكثر مؤلفاته الذي رجع إليه الدارسون والباحثون، ويتكرر ذكره والإشارة إليه في كتاباتهم وأبحاثهم الفكرية والفلسفية، بوصفه مرجعاً مهماً في حقله ومجاله، وبالذات في الدفاع عن أصالة الفلسفة الإسلامية، وتاريخ تطور النظر العقلي في الإسلام.
والكتاب في الأصل -كما شرح المؤلف في المقدمة- عبارة عن دروسه التي ألقاها في الجامعة المصرية أواخر ثلاثينيات القرن العشرين حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وذلك حين كان معنياً بدرس هذه الموضوعات، واستكمال بحثها، فدوَّن حولها صحفاً أثمرت فيما بعد هذا الكتاب الذي صدر سنة 1944م.
صدور هذا الكتاب في وقته جعله من المؤلفات الرائدة في مجال الفلسفة الإسلامية وتاريخها خلال القرن العشرين، وتحديداً خلال النصف الأول منه، حيث أصبح موضع عناية الباحثين والمؤرخين، فقد تحتم على الدكتور ماجد فخري -حسب قوله- التوقف عنده، حين وصل إلى المؤلفات التي أرخت للفلسفة العربية .
وتوقف عنده كذلك الدكتور محمد عابد الجابري واعتبره من المحاولات الرائدة والطموحة في وقته، إلى جانب محاولة الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه (الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، والشيخ عبد الرازق والدكتور مدكور هما في نظر الدكتور الجابري «من الأساتذة الذين ساهموا مساهمة كبيرة في إعادة بعث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث، بعد أن بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط، بل منذ وفاة ابن رشد» .
كما توقف عنده أيضاً الدكتور معن زيادة ووصفه بالكتاب الشهير ، وهكذا آخرون. وبالعودة إلى الكتاب فإن المؤلف قسمه إلى قسمين:
القسم الأول: تحدث عن مقالات المؤلفين الغربيين، ومقالات المؤلفين الإسلاميين وبيان منازعهم ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.
القسم الثاني: تحدث عن منهج المؤلف في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهو منهج مغاير لمناهج أولئك المؤلفين غربيين وإسلاميين، ويلي بيان هذا المنهج تطبيق له، وتوضيح بما هو أشبه بالنموذج والمثال.
وبشأن القسم الأول يرى المؤلف أن الباحث في الفلسفة الإسلامية وتاريخها لابد له من الإلمام بمقالات من سبقوه في هذا المجال، ليكون على بصيرة فيما يتخير، وفيما يتحرى اجتنابه من أسباب الزلل.
وهؤلاء السابقون في النظر إلى الفلسفة الإسلامية فريقان، فريق من الغربيين يقول عنهم المؤلف: كأنهم يقصدون إلى استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة، ليردوها إلى مصدر غير عربي ولا إسلامي، وليكشفوا عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي. وفريق من الإسلاميين يقول عنهم المؤلف: كأنهم يزنون الفلسفة بميزان الدين .
عن فريق الغربيين حاول المؤلف أن يتتبع جملة نظرهم إلى الفلسفة الإسلامية وحكمهم عليها منذ صدر القرن التاسع عشر الذي استقرت فيه معالم النهضة الحديثة لتاريخ الفلسفة، ومن هؤلاء الغربيين الذين تطرق المؤلف لآرائهم ووجهات نظرهم:
أولاً: الباحث الألماني تنيمان المتوفى سنة 1819م، صاحب كتاب (المختصر في تاريخ الفلسفة) الصادر بالألمانية سنة 1812م، في هذا الكتاب يرى تنيمان أن هناك عدة عقبات أعاقت تقدم العرب في مجال الفلسفة، هذه العقبات هي:
1- الكتاب المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر.
2- حزب أهل السنة وهو حزب قوي متمسك بالنصوص.
3- لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطاناً مستبداً على عقولهم.
4- ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام.
ولهذا لم يستطع العرب في نظر تنيمان أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو وتطبيقه على قواعد دينهم، وكثيراً ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه، وبذلك نشأت بينهم فلسفة تشبه فلسفة الأمم المسيحية في القرون الوسطى، تُعنى بالبراهين الجدلية المتعسفة، وتقوم على أساس النصوص الدينية .
ثانياً: الباحث الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى سنة 1847م، الذي ألقى محاضرات حول تاريخ الفلسفة بجامعة باريس، أشار فيها إلى أن المسيحية هي آخر ما ظهر على الأرض من الأديان، وهي أكملها وتمام كل دين سابق، وغاية الثمرات التي تمخضت عنها الحركات الدينية في العالم وبها خُتمت.
ويضيف كوزان ومن أراد دليلاً فلينظر ماذا أخرجت المسيحية للناس، أخرجت الحرية الحديثة والحكومات النيابية، ثم لينظر ما دون المسيحية ماذا أخرجت منذ عشرين قرناً سائر الأديان، ماذا أنتج الدين البرهمي والدين الإسلامي، وسائر الأديان التي ما تزال قائمة فوق ظهر الأرض، أنتج بعضها انحلالاً موغلاً، وبعضها أثمر استبداداً ليس له مدى، أما المسيحية التي بعد أن صانت ذخائر الفنون والآداب والعلوم بعثتها بعثاً قويًّا، وهي أصل الفلسفة الحديثة .
ثالثاً: الباحث الفرنسي أرنست رينان المتوفى سنة 1892م، صاحب كتابي (تاريخ اللغات السامية) و(ابن رشد ومذهبه)، في الكتاب الأول صنَّف رينان البشر إلى صنفين ساميين وآريين، وانحاز إلى الآريين، وقرر تفوقهم الفلسفي على الساميين، معتبراً أن «من الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني، أن نطلق على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ فلسفة عربية، مع أنه لم يظهر لهذه الفلسفة في شبه جزيرة العرب مبادئ ولا مقدمات، فكل ما في الأمر أنها مكتوبة بلغة عربية، ثم هي لم تزدهر إلا في النواحي النائية عن بلاد العرب مثل أسبانيا ومراكش وسمرقند، وكان معظم أهلها من غير الساميين».
وفي كتابه الثاني (ابن رشد ومذهبه)، اعتبر رينان «ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروساً فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلا اقتباساً صرفاً جديباً وتقليداً للفلسفة اليونانية» .
رابعاً: الباحث الفرنسي جوستاف دوجا صاحب كتاب (تاريخ الفلاسفة والمتكلمين المسلمين) الصادر سنة 1889م، في هذا الكتاب خطَّأ دوجا موقف معاصره رينان ومن يتبنى مثل هذا الموقف كالباحث الألماني شمويلدرز في كتابه (المذاهب الفلسفية عند العرب) الصادر سنة 1842م، وحسب رأيه أن أحكام هؤلاء تذهب إلى حد الشطط، ومصدرها سوء التحديد للفلسفة، وجهلنا بما عند العرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو، فهل يظن ظان أن عقلاً كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئاً طريفاً، وأنه لم يكن إلا مقلداً لليونان؟ وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثماراً بديعة أنتجها الجنس العربي؟
ويضيف دوجا ومن أراد أن يحكم في خصائص الفلسفة العربية حكماً سديداً فعليه أن ينظر إليها من ناحية إصلاحها للعقائد، وتلك حقيقة الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة .
خامساً: الباحث الفرنسي الألماني الأصل مونك المتوفى سنة 1867م، الذي يرى أن «الفلسفة لدى العرب لم تتقيد بمذهب المشائين صرفاً، بل هي توشك أن تكون تقلبت في كل الأطوار التي مرت بها في العالم المسيحي، ففيها مذهب أهل السنة الواقفين عند النصوص، ومذهب الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا، ومذهب وحدة الوجود الحديث» .
واستناداً على هذا الرأي يرى الشيخ عبد الرازق أن مونك يدحض ويخالف قول تنيمان في أن كتاب الإسلام المقدس يعوق النظر العقلي الحر، ويثبت أن الإسلام ليس دون المسيحية اتساعاً لنمو الفلسفة وتطورها، وينفي دعوى انحطاط الجنس السامي عن الجنس الآري في البحث الفلسفي.
وهذا يعني في نظر الشيخ عبد الرازق أن الرأي العلمي الذي كان عند الغربيين تجاه الفلسفة العربية في مستهل القرن التاسع عشر، اختلف وتغير في أواخر هذا القرن، فالأحكام التي أطلقها تنيمان وكانت يومئذ من المسلمات لم تعد كذلك في نهاية القرن التاسع عشر.
سادساً: الباحث الفرنسي جوتييه أستاذ تاريخ الفلسفة الإسلامية في الجزائر، وصاحب كتاب (المدخل إلى درس الفلسفة الإسلامية)، الذي جدد فيه الحديث عن الفروقات بين الجنسين السامي والآري، وأشار إلى ذلك بقوله: «في كل مظاهر النشاط الإنساني، من أدناها كمسائل الطعام واللباس إلى أعلاها كالنظم السياسية والاجتماعية، تتجلى في الجنس الآري من ناحية، والجنس السامي -معتبراً في أخلص أنواعه أي النوع العربي- نزعات أصلية متقابلة. العقل السامي يجمع بين الأشياء متناسبة وغير متناسبة، مع تركها منفصلة بلا رباط يصلها، متنقلاً بينها بوثبات مباغتة لا تدرج فيها.
أما العقل الآري فعلى عكس ذلك، يؤلف بين الأشياء بوسائط تدريجية لا يتخطى واحداً منها إلى غيره إلا على سُلَّم متداني الدرج لا يكاد يحس التنقل فيه» .
سابعاً: الباحث الفرنسي برهيه أستاذ تاريخ الفلسفة بجامعة السربون، وصاحب كتاب (تاريخ الفلسفة) الصادر في جزءه الأول سنة 1926م، حيث اعتبره الشيخ عبدالرازق أنه من حزب السامية والآرية، ولكن من دون أن يغرق في ذلك إغراق مواطنه جوتييه.
وحسب رأي برهيه أن «فلاسفة ممن اعتنقوا الإسلام، وكانوا يكتبون آثارهم بالعربية لكن جمهرتهم لم تكن من أصلٍ ساميٍّ بل من أصل آري، لذلك التمسوا موضوعات تفكيرهم في الكتب اليونانية، التي أخذ في ترجمتها إلى السريانية والعربية منذ القرن السادس المسيحيون النسطوريون، والتمسوها أيضاً في الآثار المزدكية الباقية في فارس المختلطة أشد الاختلاط بالآراء الهندية» .
ثامناً: الباحث الألماني هورتن الذي كتب فصلاً في (دائرة المعارف الإسلامية) بعنوان (فلسفة) أشار فيه إلى أن كلمة فلسفة يراد بها «النزعة اليونانية في الحكمة الإسلامية، ويجب أن يعتبر أيضاً إلى جانب ذلك ما بذله المفكرون من جهود عقلية مبنية على ما كان معروفاً في عصورهم من معاني البحث العلمي عن أحوال الوجود على ما هو عليه، أو على الأقل البحث عن مسائل متصلة بإدراك شامل للعالم، فهي بهذا الاعتبار ينبغي أن تعد من الفلسفة، ذلك ينطبق أولاً على علم الكلام النظري الذي يرمي إلى رفع مستوى العقائد الإسلامية المحتوية على تصور للوجود بالغ من السذاجة حد الطفولة، حتى تلتئم مع مطالب العلم في ذلك الزمان» .
هذه هي مقالات الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، التي عرض لها الشيخ عبد الرازق في كتابه التمهيد، وما توصل إليه بعد هذا العرض يجمله في ثلاثة تغيرات أساسية هي:
أولاً: تلاشي القول بأن الفلسفة العربية أو الإسلامية ليست إلا صورة مشوهة من مذهب أرسطو ومفسريه أو كاد يتلاشى، وأصبح في حكم المسلم به أن للفلسفة الإسلامية كياناً خاصًّا يميزها عن مذهب أرسطو ومذاهب مفسريه.
ثانياً: تلاشي القول بأن الإسلام وكتابه المقدس كانا بطبيعتهما سجناً لحرية العقل، وعقبة في سبيل نهوض الفلسفة أو كاد يتلاشى.
ثالثاً: أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملاً -كما بيَّنه الباحث هورتن- لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام، واشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضاً من شعب هذه الفلسفة.
ـ 3 ـ
الفلسفة الإسلامية.. مقالات الإسلاميين
أما فريق الإسلاميين ومقالاتهم حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فقد تحدث عنهم الشيخ عبد الرازق في ثلاثة فصول من كتابه التمهيد، في كل فصل تناول قضية وأشار إلى مقالات عدد من الإسلاميين، ووجد من العسير -حسب قوله- أن يسلك النسق نفسه الذي سلكه في حديثه عن فريق الغربيين من جهة مراعاة الترتيب التاريخي في سرد الآراء وملاحظة تطورها.
في الفصل الأول - الثاني حسب تقسيم الكتاب- تحدث المؤلف عن قضية الفلسفة والعرب قبل الإسلام، والفلسفة ومصادرها في الملة الإسلامية، وأشار في هذا الصدد إلى مقالات عدد من الإسلاميين جاء في مقدمتهم القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي المتوفى سنة 462هـ، صاحب كتاب (طبقات الأمم) الذي تحدث فيه عن حال العلم عند العرب قبل الإسلام، وتطرق إلى الفلسفة قائلاً: «وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله عز شيئاً منه، ولا هيَّأ طباعهم للعناية به، ولا أعلم أحداً من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف بن إسحاق الكندي، وأبا محمد الحسن الهمداني» .
ومن بعده تحدث المؤلف عن الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ صاحب كتاب (الملل والنحل) الذي تحدث فيه عن الفلاسفة في الأمم المختلفة، وأشار إلى العرب بقوله: «ومنهم حكماء العرب، وهم شرذمة قليلة لأن أكثرهم حكمهم فلتات الطبع، وخطرات الفكر، وربما قالوا بالنبوات» .
ومن هؤلاء الإسلاميين أيضاً الجاحظ صاحب كتاب (البيان والتبيين)، وابن خلدون صاحب المقدمة، والمقريزي صاحب الخطط، وابن النديم صاحب الفهرست، ويوسف القفطي صاحب كتاب (إخبار العلماء بأخبار الحكماء)، والتوحيدي صاحب المقابسات، وآخرين.
وفي الفصل الثاني - الثالث حسب الكتاب- تحدث المؤلف عن تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، وأشار إلى أقوال ومقالات الكندي والفارابي وإخوان الصفا، وابن سينا، ثم تحدث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوف وأشار إلى أقوال ومقالات مصطفى بن عبد الله المشهور باسم حاجي خليفة المتوفى سنة 1067هـ، صاحب كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)، وطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962هـ، صاحب كتاب (مفتاح السعادة)، وابن خلدون أيضاً.
وفي الفصل الثالث - الرابع في الكتاب- تحدث المؤلف عن الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين، القضية التي جعلها بعض الغربيين مناط الابتكار في الفلسفة الإسلامية، وجعلها بعضهم الآخر سبباً لانقلاب فلاسفة الإسلام مبشرين بالدين الإسلامي ودعاة له.
وقد قسّم المؤلف أقوال الإسلاميين حول هذه القضية إلى اتجاهين، أطلق على الاتجاه الأول رأي الفلاسفة، وأطلق على الاتجاه الثاني رأي علماء الدين.
عن الاتجاه الأول ورأي الفلاسفة، تطرّق المؤلف إلى أقوال ومقالات ابن حزم المتوفى سنة 456هـ صاحب كتاب (الفصل في الملل والنحل)، وابن رشد المتوفى سنة 595هـ صاحب كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، والشهرستاني صاحب كتاب (الملل والنحل)، والفارابي صاحب كتاب (تحصيل السعادة)، وابن سينا صاحب كتاب (الطبيعيات من عيون الحكمة).
وعن الاتجاه الثاني ورأي علماء الدين، الذين قال عنهم المؤلف: إن لهم منزعاً غير منزع الفلاسفة، وهم في أكثر الأمر خصوم للفلسفة في غير هوادة ولا رفق، لأن هناك من يطعن الفلسفة لكن مع رفق.
ويُحسب على هذا الاتجاه في نظر المؤلف، الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ صاحب كتاب (الذريعة إلى أحكام الشريعة)، وأبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ صاحب كتابي (تهافت الفلاسفة) و(المنقذ من الضلال)، وابن صلاح الشهرزوري المتوفى سنة 643هـ صاحب الفتوى الشهيرة والعنيفة في تحريم الفلسفة والمنطق، وأحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962هـ صاحب كتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة).
ومن بعد هؤلاء التفت المؤلف وأشار إلى أن المتقدمين قبل الغزالي من كانوا حرباً على الفلسفة لا يعرفون هوادة ولا ليناً، وجل هذا الصنف ممن لم يتذوقوا طعم الفلسفة، ولم يتنسموا ريحها، وفي كلامهم من الخلط ما يدل على أنهم لا يتكلمون عن علم فيما عالجوا من أمور الفلسفة .
ومن هؤلاء في نظر المؤلف، جمال الدين أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي المتوفى سنة 383هـ، صاحب كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم).
وأما الفقهاء من علماء الدين المتأخرين، فالظاهر كما يقول عنهم صاحب التمهيد أنهم لا يرون بين الفلسفة والشعوذة والسحر والكهانة فرقاً، ومن هؤلاء في نظره: النووي محيي الدين يحيى أبو زكريا المتوفى سنة 677هـ صاحب كتاب (المجموع شرح المهذب)، وعلاء الدين محمد بن علي الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ، صاحب كتاب (الدر المختار شرح تنوير الأبصار)، وابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ، صاحب كتاب (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة).
ويختم المؤلف حديثه عن هذا القسم الأول من الكتاب بقوله: «كلام الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، مع قصوره عن تكوين منهج تاريخي، هو في غالب الأمر يُعنى ببيان نسبة هذه الفلسفة إلى العلوم الشرعية، وحكم الشرع فيها، ورد ما يعتبر معارضاً للدين منها.
وليس بين العلماء نزاع في أن الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية، ومذاهب الهند، وآراء الفرس.. والعوامل الأجنبية المؤثرة في الفكر الإسلامي وتطوره، مهما يكن من شأنها فهي أحداث طارئة عليه، صادفته شيئاً قائماً بنفسه، فاتصلت به لم تخلقه من عدم، وكان بينهما تمازج أو تدافع، لكنها على كل حال لم تمحُ جوهره محواً» .
ـ 4 ـ
عبد الرازق ومنهجه في دراسة الفلسفة الإسلامية
في القسم الثاني من الكتاب تحدث صاحب التمهيد عن منهجه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، المغاير لمناهج أولئك السابقين غربيين وإسلاميين، ويتوخى هذا المنهج الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى، وتتبع مدارجه في ثنايا العصور، والكشف عن أسرار تطوره، وهو بهذه الطريقة يكون في نظر المؤلف أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية.
وقد قسَّم المؤلف حديثه عن هذا المنهج في ثلاثة فصول، في الفصل الأول تحدث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، الأمر الذي استدعى منه أن يلم بحال الفكر العربي واتجاهاته وقت ظهور الإسلام، وفي رأيه أن العرب عند ظهور الإسلام لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأولى من الناحية الفكرية، ويدل على ذلك ما عرف من أديانهم، وما رُوي من آثارهم الأدبية.
ثم تطرق المؤلف إلى ظاهرة الدين والجدل الديني عند العرب الذين كان فيهم يهود ونصارى وصابئة ومجوس، وكان فيهم أيضاً مشركون، وهذا يعني أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبثون بأنواع من النظر العقلي قريب الشبه من أبحاث الفلسفة العلمية لاتصاله بما وراء الطبيعة من الألوهية وقدم العلم أو حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك.
إلى جانب ذلك وَجَدَ عند العرب نوعاً آخر من التفكير له طابع عملي دعت إليه حاجة الجماعة البشرية، واستند المؤلف في هذا الأمر إلى ما أشار إليه صاعد بن أحمد الأندلسي في كتابه (طبقات الأمم)، بقوله: «وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم» .
كما كان يوجد عند العرب كذلك طائفة مميزة من الناس يسمونهم حكماءهم، وهم علماؤهم الذين كانوا يحكمون بينهم إذا تنافروا في الفضل والحسب وغير ذلك من الأمور التي كانت تقع بينهم.
ومع ظهور الإسلام تطور النظر العقلي عند العرب والمسلمين في الشؤون العملية والعلمية، في الشؤون العملية حيث ورد في الكتاب والسنة الثناء على الحكمة والحكم والتنويه بفضلهما، فمهد ذلك انتعاش النظر العقلي في المجال العملي.
وفي الشؤون العلمية حيث وجدت الحاجة لاستنباط أحكام الوقائع المتجددة التي لم يكن من الممكن أن تحيط بها النصوص الشرعية فنشأ الاجتهاد في التشريع الإسلامي.
وفي نظر المؤلف أن الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم أصول الفقه.
وعلى هذا الأساس فإن الباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية، يجب عليه في نظر صاحب التمهيد أن يدرس أولاً الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نسقاً من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده، وذلك لأن هذه الناحية هي أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية، فهي تمثل لنا هذا التفكير مخلصاً بسيطاً يكاد يكون مسيراً في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم.
هذه الخلاصة التي تمثل لب نظرية صاحب التمهيد قادته لأن يبحث في الفصل الثاني النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، وذلك على خلفية أن البحث في الرأي وأطواره وأثره في تكوين المذاهب الفقهية يستدعي نظرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره وأدواره المختلفة.
وعلى النسق نفسه الذي سار عليه من قبل تطرق صاحب التمهيد إلى رأي المستشرقين الناظرين لهذا الشأن حيث كان لهم منزع معيّن، ثم تطرق إلى رأي علماء المسلمين الذين كان لهم منزع مختلف، والمقارنة بين وجهتي النظر هاتين تفضي في نظر المؤلف إلى تمحيص أوسع مدى، وأدنى إلى السداد.
وعن منزع المستشرقين عرض المؤلف بشكل أساسي وجهتي نظر، الأولى للفرنسي كارا دي فو التي أشار إليها في كتابه (مفكرو الإسلام) الصادر في أجزائه الخمسة ما بين سنة 1921م إلى سنة 1926م. والثانية للمجري جولد زيهر المتوفى سنة 1921م التي أشار إليها في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام)، وفي مقالة له عن الفقه في دائرة المعارف الإسلامية.
وعن منزع علماء المسلمين عرض المؤلف بشكل أساسي إلى وجهتي نظر، الأولى لابن خلدون أشار إليها في مقدمته، والثانية لابن القيم الجوزية أشار إليها في كتبه (إعلام الموقعين عن رب العالمين).
وجاء هذا العرض تمهيداً إلى الفصل الثالث الذي تحدث فيه المؤلف وبشكل مفصل عن نشأة الرأي في الإسلام وأطواره، بدءاً من الرأي في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مروراً بالرأي في عصر الخلفاء الراشدين، ومن ثم الرأي في عهد بني أمية، وصولاً إلى الرأي في عصر الدولة العباسية.
وفي هذا السياق جاء الحديث عن ظاهرة أهل الرأي وأهل الحديث، وعن أئمة المذاهب الإسلامية مع التركيز على الإمام الشافعي بوصفه واضع علم الأصول، ومع العناية بتحليل كتابه (الرسالة)، والكشف عن مظاهر التفكير الفلسفي فيه.
وفي خاتمة الحديث اعتبر المؤلف أن المتكلمين منذ القرن الرابع الهجري وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه، وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء، فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق، واتصل بهما اتصالاً وثيقاً.
وعلى أثر هذه النتيجة ضم المؤلف في نهاية الكتاب بحثاً في علم الكلام وتاريخه، أطلق عليه ضميمة، لكنه في نظره ليس مقطوع الصلة بالكتاب ومنهجه، فهو لا يعدو أن يكون نموذجاً أيضاً من نماذج المنهج الجديد.
وقد وجد العديد من الباحثين الأكاديميين ومنهم الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه التمهيد ومنهجه بأنه يمثل «قيمة تاريخية ومذهبية كبرى بين الكتب التي أُلِّفت في الفلسفة الإسلامية، لأنه يختلف عنها جميعاً في موضوعاته ونتائجه، فهو ليس على النحو المألوف، والنهج المعروف عند المؤلفين الشرقيين والمستشرقين، بل هو منهج جديد في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية مغايراً لهذه المناهج، وفيه تتجلى شخصية الشيخ الفيلسوف» .
ـ 5 ـ
الطابع النصي.. آراء وتحليلات
من الملاحظات التي استوقفت انتباه الدارسين لكتاب التمهيد، كثافة النصوص المطولة، والمقتبسة من المصادر والمراجع القديمة والحديثة، الغربية والإسلامية، الظاهرة التي تجلَّت في جميع فصول الكتاب، وفي كل صفحة من صفحاته تقريباً.
بمعنى أن هذه النصوص قد طغت على الكتاب بصورة تلفت الانتباه بشدة، وتظهره كما لو أنه كتاب في النصوص حول الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وبدون هذه النصوص لا يكاد يمثل الكتاب وزناً كبيراً، ولو رفعناها لاختل توازنه، وتضاءلت قيمته، وتفككت بنيته.
ونادراً ما اطلعت على كتاب بهذه الصورة في التعامل مع النصوص ونقلها، فالنص الواحد يكاد يُغطي عدة صفحات متتالية، وما إن ينتهي النص على طوله، حتى يبدأ نص آخر بعده بالطول نفسه أو أقل أو أكثر منه، وهكذا الحال في كل فصل من فصول الكتاب.
علماً أن هذه الملاحظة لم تكن بعيدة عن إدراك المؤلف الذي كان متفطناً لها، ولعله كان مقتصداً لها أيضاً، حيث أشار إليها في مقدمة الكتاب معتبراً أنها جاءت لكي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة، وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة.
ومنذ أن استوقفتني هذه الملاحظة بعد مطالعة الكتاب، حاولت معرفة كيف نظر لها الآخرون، وفيما إذا كانوا قد توقفوا عندها أم لا، وبعد البحث في المصادر والمراجع وقفت على وجهات النظر التالية:
أولاً: أشار إلى هذه الملاحظة الدكتور زكي نجيب محمود وامتدح هذه الطريقة عند المؤلف، معتبراً أن صاحب التمهيد قد وقف في عرض كتابه، وقفة العالم المحايد الذي يتخفى وراء النصوص .
ثانياً: بخلاف ما يراه الدكتور زكي نجيب محمود، وفي سياق الثناء على المؤلف يرى عباس محمود العقاد أن الشيخ عبد الرازق في مؤلفاته «كان كظم المواجد، والانطواء في حجاب من السمت والوقار سمة الأستاذ الأكبر في حياته العقلية، لأنه كان في مؤلفاته يتجنب إبراز نفسه، ولا يحاول أو يقحم رأيه على قارئه، ويخيل إلى قارئه من التزامه هذه الخطة أن المؤلف يقنع بالنصوص والشواهد ولا يتجاوزها وهو في الواقع غير الحقيقة، لأن أمانته في عرض النصوص والشواهد لم تكن لتحجب العارض، ولا لتخفي منحاه ونتيجة بحثه، بل هو كان لا يُعفي نفسه منه بمحاولة التوفيق بين الروايات المتضاربة، وكان يرى لزاماً أن يختار منها الرواية التي تتوافر لها أدلة الصحة» .
ثالثاً: يرى الدكتور إبراهيم مدكور أن الشيخ عبد الرازق «كانت له عناية خاصة بالنصوص وشرحها، وتلك سنة أزهرية قديمة، ومتبعة إلى اليوم في الجامعات الكبرى بأوروبا وأمريكا، ويظهر أن جامعاتنا في أعدادها الكبيرة وزحمتها الشديدة أصبحت لا تعيرها كل ما تستحق من عناية. واستطاع مصطفى عبد الرازق بطريقته أن يحبب تلاميذ المدارس الثانوية في الكتب الصفراء، وأن يفتح أعينهم على مراجع الثقافة الإسلامية المختلفة، ومنهم من أضحى حجة في بعض أبوابها، وعمدة في فرع من فروعها» .
رابعاً: يتفق الدكتور توفيق الطويل مع الرأي السالف للدكتور إبراهيم مدكور، ويرى من جهته أن الشيخ عبد الرازق كان مولعاً بالنصوص وتفسيرها، وقد تأثر في منهجه هذا بدراساته في جامعتي باريس وليون .
خامساً: في حديثه عن منهجه في تدريس الفلسفة الإسلامية يرى الدكتور سعيد زايد أن الشيخ عبد الرازق «كان له منهج مميز في تدريسها، وهو الاعتماد على النصوص وذكرها في إطار متناسق، بحيث يكون كل نص مقدمة لما بعده، فهو يورد النصوص في تسلسل متسق حتى تتضح الفكرة. ونحن إذا كنا نعرف جميعاً أن خصائص التأليف الحديث هو استخلاص الفكرة من النص وشرحها بأسلوب المؤلف مع الإشارة إلى النص أو ذكره للاستشهاد به إن دعا الأمر، فإن هذا لم يكن ليغيب عن ذهن أستاذنا الأكبر... بهذا المنهج، منهج الاعتماد على النصوص، سار أستاذنا الأكبر في أهم كتاب له، وهو كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» .
سادساً: تطرق إلى هذه الملاحظة بشكل عابر الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذكراته عند حديثه عن السنة الثانية في الجامعة بقسم الفلسفة، حيث درس علم الكلام عند الشيخ عبد الرازق، والذي ضمه فيما بعد في كتاب التمهيد، وعن طريقة عرضه لهذا الدرس يقول بدوي «ورغم أنه عرض مسترسل، فقد أكثر فيه من النصوص والاقتباسات، على عادته دائماً فيما يكتب» .
سابعاً: توقف الدكتور أحمد برقاوي عند هذه الملاحظة وأشار إليها بقوله: «حين كتب مصطفى عبد الرازق تمهيداً لتاريخ الفلسفة الإسلامية سنة 1944م، كانت عودة الفلسفة حديثة العهد إلى العرب، وكان صاحب الكتاب أستاذاً فجعل من كتابه كتاباً تعليميًّا يراعي حاجة الطالب إلى مراجعة النصوص الكثيرة» .
والملاحظ أن جميع وجهات النظر المذكورة، امتدحت طريقة صاحب التمهيد، وتجنبت توجيه النقد لها بأي إشارة من الإشارات، وأما وجهة نظري فسوف أشير إليها لاحقاً في زاوية الملاحظات.
ـ 6 ـ
ما بعد عبد الرازق
ما تركه الشيخ عبد الرازق من تأثير في تلامذته مثَّل عملاً نموذجيًّا يُحتذى به، وهو ما يتمناه كل أستاذ في علاقته بتلاميذه، ويصعب على الكثيرين فعل ذلك، ونادراً ما يترك الأستاذ من تأثير في تلامذته كالذي تركه الشيخ عبد الرازق في تلامذته، ويصلح هذا النموذج أن يكون مثالاً لدراسة تأثير الأستاذ في تلامذته.
وعظمة هذا التأثير تكمن في بقائه ورسوخه وطريقة تمثله عند هؤلاء التلاميذ حتى بعد أن تحولوا إلى أساتذة وأساتذة كبار، حيث ظلوا على وفائهم لأستاذهم لا يغفلون عن تذكر فضله عليهم، ويتحدثون عنه بشكل يتمنى كل أستاذ لو كان عنده مثل هؤلاء التلاميذ النجباء، ونادراً ما يتحدث التلاميذ عن أستاذهم كما تحدث هؤلاء عن أستاذهم الشيخ عبدالرازق.
وقد مثّل هؤلاء التلاميذ فيما بعد مدرسة عرفت بمدرسة الشيخ عبد الرازق الفلسفية، وهذا الوصف له دلالات كبيرة في حقل الدراسات الفكرية والفلسفية، وليس من السهولة إطلاقه أو التسامح في استعماله، وهو يشير إلى أهمية الدور الذي نهض به هؤلاء في الميادين الفكرية والفلسفية في مصر والعالم العربي.
وظل هذا الوصف يتردد في الكتابات التي تحدثت عن الشيخ عبد الرازق وتجربته الفكرية والفلسفية، فقد أشار إليه الدكتور إبراهيم مدكور متحدثاً عن هذه المدرسة بقوله: «مدرسة مصطفى عبد الرازق معروفة برجالها وإنتاجها، وهم جميعاً أوفياء لشيخهم ورئيسهم، ولم تقف رسالتهم عند مصر وحدها، بل امتدت إلى العالم العربي بأسره، فقادوا فيه حركة علمية نشيطة، وأسهموا في تأسيس الجامعات العربية الشابة» .
وأشار إليه الدكتور أحمد محمود صبحي وهو يتحدث عن اتجاهات الفلسفة الإسلامية في المجال العربي، معتبرا مدرسة مصطفى عبد الرازق أحد هذه الاتجاهات البارزة حيث مثل تلاميذه حسب قوله الجيل الأول من أساتذة الفلسفة الإسلامية في الجامعات المصرية .
كما أشار إليه الدكتور إبراهيم أبو ربيع في دراسة له عن الفلسفة الإسلامية المعاصرة في العالم العربي، حيث اتخذ من الشيخ عبد الرازق ومدرسته نقطة بداية للحديث عن التيارات الرئيسية في ساحة الفكر الفلسفي العربي المعاصر .
وأشار إليه كذلك الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني في مقالة له تجلت من عنوانها (مدرسة مصطفى عبد الرازق)، تحدث فيها بقوله: «كان للأستاذ الجليل من تلاميذه في الجامعة مدرسة فكرية متميزة عن غيرها، وكان لها ولا يزال أثر قوي في توجيه حياتنا العلمية والثقافية، ولي ما يقارب من ثلاثين سنة وأنا أرصد أثره في ميدان الفلسفة الإسلامية، ولست مبالغاً إذا قلت: إن هذا الأثر ممتد إلى عصرنا، وأنه سوف يمتد إلى المستقبل» .
وهكذا الدكتور محمد مصطفى حلمي الذي نشر مقالة سنة 1965م بعنوان (مصطفى عبد الرازق رائد المدرسة الإسلامية الحديثة).
وتلامذة الشيخ عبد الرازق هم الذين عرفوا عن أنفسهم والتزامهم بنهجه ومدرسته الفكرية والفلسفية التي يعتزون ويتفاخرون بها، ويعتز ويفخر لهم الآخرون الذين جاؤوا من بعدهم ولم يحضوا بهذا الشرف.
وجميع هؤلاء التلاميذ -الأساتذة فيما بعد- تحدثوا عن ارتباطهم بنهج مدرسة أستاذهم الشيخ عبد الرازق، وفي مقدمة هؤلاء الدكتور علي سامي النشار الذي وصف أستاذه سنة 1947م بسيد الباحثين المعاصرين في الفلسفة الإسلامية، وقال عنه في مقدمة كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام): «إن الأبحاث المستفيضة في تاريخ هذه الفلسفة تتوالى عاماً بعد عام، ومنذ أن أعلن مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية الأول القديم، دعوته إلى دراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الحقيقية، وتلامذته الأقدمون قد نفروا إلى أعنف موضوعاتها، يدرسونها في تؤدة وإتقان، ثم يقدمونها للحياة الإسلامية المعاصرة، وللمسلمين جميعاً في صورة متلألة فاتنة» .
ووصفه تلميذه الدكتور عثمان أمين بالفيلسوف الكامل، وحسب قوله: «إذا كان محمد عبده قد استحق أن يكرّمه تلاميذه ومريدوه فوصفوه بصفة الأستاذ الإمام، فقد استحق مصطفى عبد الرزاق من جميع من عرفوه أن يلقبوه باللقب الذي ارتضاه الفارابي وهو الفيلسوف الكامل» .
وعن تتلمذه عليه يقول الدكتور أمين: «تتلمذت عليه أكثر من عشرين عاماً، فأحببته وشرفني هو بحبه واصطفاني، وكان لي أباً روحيًّا، وكان بي حفيًّا، فما عليَّ الآن إلا أن انظر إلى صورته وسيرته، وهما ماثلتان أمامي دائماً، وما عليَّ الآن إلا أن أستعيد خلاصة أحاديث دراستي بينه وبيني، لأقتبس منها فلسفة كاملة جميلة بذاتها لا تحتاج إلى محسنات» .
ووصفه تلميذه الدكتور توفيق الطويل بالأستاذ الأكبر في الإهداء الذي كتبه في كتابه (قصة الاضطهاد الديني) الصادر سنة 1947م، وعن تبني تلاميذه لمنهجه يقول الدكتور الطويل: «لشيخنا في نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام مذهب أصيل لم يسبق إليه، وقد تبناه تلاميذه من بعده، وأشاعه منهم في جامعات مصر وخارجها أحياناً، من قدر له منهم أن يتولى تدريس الفلسفة الإسلامية. فكان بهذا صاحب اتجاه فكري أصيل مبتكر دعا إليه في وقت شاع فيه الاستخفاف بالفكر الفلسفي الإسلامي بين دارسيه من مستشرقين وعرب.. وتبنى هذه الوجهة من النظر جمهرة تلاميذه من بعده، وأشاعوها في الجامعات وخارجها، ولم يكن غريباً على من كان هذا علمه، وتلك أخلاقياته أن يتفانى تلاميذه في حبه وتقديره» .
ووصفه تلميذه الدكتور محمود الخضيري بالعلامة حين أهداه كتاب (المعاني الأفلاطونية عند المعتزلة) حيث كتب قائلاً: «إلى العلامة الجليل الأستاذ السيد مصطفى عبد الرازق الذي يرجع إليه الفضل في إحياء الفلسفة الإسلامية في مصر وتأسيس دراستها في الجامعة المصرية، أقدم هذا العمل تحية تلميذ يعترف بما لأستاذه عليه من جميل».
ووصفه تلميذه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني بالفيلسوف الحق في كتابه (معاني الفلسفة) الصادر سنة 1947م، وحسب قوله: «وإني لأستلهم في هذا المؤلف روح أستاذي المغفور له الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مصطفى عبد الرازق، عنه أخذت الوضوح في الفكر، والدقة في التعبير، والسعي وراء الحق، وهي خلال جعلت منه الفيلسوف الحق» .
وعن تلمذته عليه تحدث الدكتور الأهواني في كتابه (المدارس الفلسفية) الصادر سنة 1965م، قائلاً: «كاتب هذه السطور يعتز بأنه كان تلميذاً لمصطفى عبد الرازق، ولازمته بعد ذلك طول حياته، وعليه قمت بتحضير رسالتي ثم انتقلت إلى التعليم بالجامعة متبعاً روح المدرسة العقلية الحرة التي بدأها جمال الدين، ثم محمد عبد، ثم مصطفى عبد الرازق» .
ووصفه تلميذه الدكتور عبد الرحمن بدوي بأستاذه العظيم في مذكراته (سيرة حياتي) الصادرة سنة 2000م، التي أثارت في وقتها جدلاً واسعاً، وكان لها وقع الصدمة في الأوساط كافة الثقافية والأدبية والأكاديمية في مصر، وذلك لتهكم الدكتور بدوي واستخفافه بكل الأسماء المصرية التي مر على ذكرها من الشيخ محمد عبده إلى الدكتور زكي نجيب محمود، ولم يسلم منه إلا الشيخ عبد الرازق الذي أظهر له على غير العادة تبجيلاً واحتراماً لأنه وقف إلى جانبه منذ دخوله الجامعة حتى خروجه منها، لكنه اختلف معه في المنهج والمسار وذلك حين تبنى بدوي الفكرة الوجودية وأصبح من أشد المدافعين والمتحمسين لهذه الفكرة في مصر والعالم العربي، واعتبر نفسه مجدداً لها بعد الفيلسوف الألماني هايدجر.
إلى جانب هؤلاء كان هناك أيضاً من تلامذته المعروفين مثل الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، والدكتور محمد يوسف موسى، وعثمان نجاتي، وعباس محمود، وعبد العزيز عزت وآخرين.
هؤلاء التلاميذ حوّلهم الشيخ عبد الرازق إلى أصدقاء له، وهو القائل في التقديم الذي كتبه لتلميذه عباس محمود بعد ترجمته لكتاب الإنجليزي تشارلز آدمز (الإسلام والتجديد في مصر): «إذا لم يكن من تلاميذنا أصدقاء، فليس لنا في الناس من صديق».
وبفضل هذه النخبة المتميزة بقي التراث الفكري والفلسفي للشيخ عبد الرازق حيًّا ومشرقاً بعد غيابه، وظل يتجدد في هؤلاء الأساتذة النجباء، ويتراكم ويتسع بفضلهم وبفضل عطائهم وديناميتهم.
وكم كان الشيخ عبد الرازق محظوظاً بهؤلاء الذين عرَّفوا الأجيال اللاحقة بتراثه وتجربته وشخصيته اللامعة والخلَّاقة، وبتأثير هذه الصفوة نال الشيخ عبد الرازق احتراماً وتقديراً عند هذه الأجيال التالية والمعاصرة وما زال.
وهذا يعني أن مرحلة ما بعد عبد الرازق مثَّلت طوراً جديداً لتراثه الفكري والفلسفي بخلاف الكثيرين الذين مع غيابهم بدأ العد التنازلي لهم نحو التراجع والأفول، في حين أن عبد الرازق سجل حضوراً بعد غيابه لعله يفوق ما كان عليه في حياته.
ـ 7 ـ
اتجاهات النقد
النقد الذي تعرَّض له التراث الفكري والفلسفي للشيخ عبد الرازق، وتحديداً كتابه التمهيد يُعدُّ ضئيلاً ومحدوداً، وعابراً في أكثر الأحيان، عابراً بمعنى أنه لم يكن مقصوداً بذاته، وإنما جاء في سياق متصل بآخرين، أو في سياق الحديث عن الشيخ عبد الرازق نفسه لكنه حديث يغلب عليه الثناء والتبجيل وتضمن نقداً على صورة إشارات عابرة.
وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاث محاولات نقدية، تنتمي إلى ثلاث بيئات عربية، وصدرت من أشخاص يجمعهم التخصص في مجال الفلسفة، وهذه المحاولات هي:
أولاً: نقد ماجد فخري
الدكتور ماجد فخري هو أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، صاحب الدراسات الفلسفية المتخصصة، ويعرفه جيداً الباحثون في ميادين الفلسفة والفلسفة الإسلامية.
أشار الدكتور فخري إلى ملاحظاته النقدية التي تحددت حول كتاب التمهيد، في دراسة له قدمها سنة 1961م لمؤتمر نظمته الجامعة الأمريكية في بيروت حول (الفكر الفلسفي في مائة سنة)، وحملت هذه الدراسة عنوان (الدراسات الفلسفية في مائة عام)، نشرت فيما بعد في كتاب (دراسات في الفكر العربي) أصدره الدكتور فخري سنة 1970م.
في هذه الدراسة تتبع الدكتور فخري الكتابات والآثار الفلسفية حول الفلسفة العربية والإسلامية تصنيفاً وتحقيقاً وترجمةً ونشراً، وتوقفت عند كتاب التمهيد حين وصل إلى المؤلفات التي أرَّخت للفلسفة العربية، وأشار إلى ثلاثة منها، رتَّبها بحسب تاريخ صدورها في المجال العربي.
وكانت للدكتور فخري ثلاث ملاحظات نقدية على كتاب التمهيد، هي على النحو التالي:
أولاً: إن استهلال صاحب التمهيد الحديث عن المستشرقين ومناهجهم، والدخول معهم في أخذ ورد، هذا الاستغراق في المقدمات، وهذه الروح الحجاجية -حسب قول الدكتور فخري- التي غلبت على هذا القسم من الكتاب إن دل على شيء فإنما يدل -في نظره- على ما يمكن دعوته بعقدة الاستشراق، وشأنه في ذلك شأن أكثر المؤرخين في الفلسفة عندنا.
في حين يرى الدكتور فخري أن عوضاً «عن المضي في التأريخ للفلسفة العربية وبسط جوانبها بسطاً موضوعيًّا من خلال دراسة النصوص وتمحيصها وتدبرها، يرى هؤلاء المؤرخون لزاماً عليهم أن يستهلوا أبحاثهم دوماً بالرد على رينان وسواه من العلماء الغربيين الذين رأوا في الفلسفة العربية أو بعض أقطابها رأياً قد نُقِرُّهم عليه أو لا نقرهم، وهم مع ذلك قد شهدوا بما لهذه الفلسفة من منزلة في إقبالهم على تدارسها والكشف عن مخبآتها والتعليق عليها، فلو لم تكن أهلاً لذلك لما تكبدوا مشقة التجرد لدراستها وبسطها ومناقشتها» .
ثانياً: اعتبر الدكتور فخري أن أهم المآخذ على كتاب التمهيد هي أنه لم يعمد المؤلف فيه للتأريخ للفلسفة الإسلامية بتناول مذاهب الفلاسفة العرب حول أمهات المسائل وبسطها والمقارنة بينها على غرار المؤرخين عامة.
ومن يتصفح فهرست الكتاب يتضح له -حسب قول الدكتور فخري- أنه لا يدور حول الفلسفة الإسلامية بالمعنى المتعارف، أي المعنى الذي اصطلح عليه كبار فلاسفة الإسلام من الرازي والكندي حتى ابن طفيل وابن خلدون من القدماء، أو المعنى الذي اصطلح عليه المشتغلون بالفلسفة من المحدثين.
ثالثاً: يرى الدكتور فخري أن كتاب التمهيد ليس كتاباً تمهيديًّا لتاريخ الفلسفة الإسلامية كما يدعوه المؤلف، بل هو في جملته تاريخ لتطور مفهوم الفقه والكلام الإسلاميين بالدرجة الأولى، ولتطور مفهوم الفلسفة عند العرب بالدرجة الثانية.
لهذا من العبث في نظر الدكتور فخري البحث بين دفتي الكتاب عن معارف مادية أو موضوعية جديدة في باب الفلسفة، أو على مخطط منهجي للأسس التي ينبغي لمؤرخ الفلسفة العربية أن يعتمدها .
ثانياً: نقد عاطف العراقي
الدكتور عاطف العراقي هو أستاذ الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة، وله العديد من الكتابات والمؤلفات الفكرية والفلسفية. وأشار إلى ملاحظاته النقدية في كتابه (العقل والتنوير) الذي خصَّص فيه فصلاً عن الشيخ عبد الرازق تحدث فيه عن سيرته الفكرية، كاشفاً عن ريادته في مجال الفلسفة، معززاً هذه الريادة بشهادات تبجيلية لعدد من الأسماء المصرية اللامعة مثل الدكتور طه حسين والدكتور إبراهيم مدكور وآخرين.
ومع أن حديث الدكتور العراقي عن الشيخ عبد الرازق جاء في سياق الثناء والتقدير لدوره الفكري ومكانته الفلسفية، إلا أنه أشار إلى بعض الملاحظات النقدية، وهي الملاحظات التي تغافل عنها، أو فضَّل عدم الإشارة إليها في التقديم الذي صدَّر به الكتاب التذكاري عن الشيخ عبد الرازق الصادر عن لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة بعنوان (الشيخ الأكبر مصطفى عبد الرازق.. مفكراً وأديباً ومصلحاً) المنشور سنة 1997م.
ويمكن إجمال ملاحظات الدكتور العراقي في النقاط التالية:
أولاً: يرى الدكتور العراقي أن كتاب التمهيد يُعد ثريًّا ثراءً لا حد له من جهة المناقشات الفلسفية، إلا أنه في نظره غلب عليه الدفاع الخطابي باستمرار عن الفلسفة العربية، وعدم التنبيه إلى بعض الأخطاء التي يجدها عند بعض فلاسفة العرب، لكن من دون أن يذكر أمثلة على بعض هذه الأخطاء.
ثانياً: بعد أن ذكَّر الدكتور العراقي بمناقشات الشيخ عبد الرازق لآراء بعض المستشرقين الغربيين، واصفاً طريقته في النقاش أنها اتسمت بعمق العالم، وهدوء صاحب الحس الفلسفي، عقب على ذلك بقوله: «ولكن هذا يجب ألَّا يُنسينا مجموعة من الأخطاء وقع فيها مفكرنا مصطفى عبد الرازق، إن أحكامه على المستشرقين لا تخلو من قسوة، وأقول من جانبي: إن العديد من أحكام المستشرقين تعد صائبةً تماماً، وليتنا نفعل مثل ما فعله المستشرقون» .
ثالثاً: من أشد ملاحظات الدكتور العراقي نقداً وحدة، تلك الملاحظة المتعلقة بإدخال الشيخ عبد الرازق علم أصول الفقه ضمن إطار الفلسفة العربية، فهذا الرأي -في نظره- يُعد خاطئاً قلباً وقالباً، وأدّى إلى كثير من الكوارث الفادحة، ونص كلامه: «فإن هذا الرأي من جانبه يُعدُّ خاطئاً قلباً وقالباً، وقد أدَّى رأيه إلى الكثير من الكوارث الفادحة، أي إلى عدم فهمها لحقيقة الفكر الفلسفي، أدَّى إلى إدخال اتجاهات أصولية إرهابية داخل إطار الفلسفة، والفلسفة منها براء. لم يضع الشيخ مصطفى عبد الرازق في اعتباره، أن خصائص الفكر الفلسفي تختلف اختلافاً رئيسيًّا عن خصائص الفكر الديني، لم يضع في اعتباره أن علم أصول الفقه لا صلة له بالفلسفة من قريب أو من بعيد. وقد تكون النشأة الدينية لمصطفى عبد الرازق بالإضافة إلى منصبه الديني، قد أديا إلى هذا الرأي الخاطئ، والذي يقلل من أهمية الرؤية التنويرية عنده. نقول هذا ونحن نضع في اعتبارنا أنه لا تنوير بدون عقل، وإذا قلنا بأن علم أصول الفقه يدخل في إطار فلسفتنا العربية، فمعنى هذا أننا نقول للفلسفة وداعاً، نقول للتنوير وداعاً» .
رابعاً: تخطئة التسمية التي ينتصر لها الشيخ عبد الرازق للفلسفة عند العرب والمسلمين على أنها فلسفة إسلامية، وهذا الأمر يعد في نظر الدكتور العراقي غاية في الخطأ، وحسب قوله: «ففلسفتنا عربية وليست إسلامية، وصدق أحمد لطفي السيد حين سماها فلسفة عربية، وأنا من جانبي لا أتردد في القول بأن فلسفتنا هي فلسفة عربية، وليست فلسفة إسلامية، وهل يوجد علم طب مسيحي، وهندسة مسيحية، وعلم اقتصاد إسلامي، حتى نطلق على فلسفتنا بأنها فلسفة إسلامية» .
ثالثاً: نقد محمد عابد الجابري
أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى ملاحظاته النقدية على كتاب التمهيد في كتابين له، هما كتاب (الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية) الصادر سنة 1982م، وكتاب (التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات) الصادر سنة 1991م.
في كتاب (الخطاب العربي المعاصر) جاءت ملاحظات الدكتور الجابري في سياق الحديث عن الخطاب الفلسفي العربي من جهة علاقته بالخطاب النهضوي، ومن هذه الزاوية اعتبر الجابري أن الشيخ عبد الرازق هو أول مدشن للخطاب الفلسفي النهضوي في الفكر العربي الحديث.
وفي كتاب (التراث والحداثة) جاءت ملاحظاته في سياق الحديث عن الرؤية الاستشراقية للفكر الفلسفي في الإسلام، ومن هذه الزاوية اعتبر الجابري أن محاولة الشيخ عبد الرازق في كتابه التمهيد من المحاولات الرائدة والطموحة.
ويمكن إجمال ملاحظات الدكتور الجابري الواردة في الكتابين المذكورين في النقاط التالية:
أولاً: استعرض الدكتور الجابري تحليل المنهج الذي اعتمده الشيخ عبد الرازق في كتابه التمهيد، واصفاً هذا المنهج بالمنهج التاريخي، وبعد هذا الاستعراض وجد الجابري أن أطروحة صاحب التمهيد تضع منهجه في مأزق، وحسب شرحه «إن الانطلاق من الجراثيم الأولى للتفكير العقلي في الإسلام الاجتهاد بالرأي، وبالتالي أصول الفقه، لا يؤدي بنا حتماً إلى الفلسفة الإسلامية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فلسفة الكندي والفارابي، بل يسير بنا في خط موازٍ لها تماماً، هو خط الفقهاء والمتكلمين المعادين للفلسفة. إن القضية الأساسية التي تطرح نفسها هنا قد سكت عنها صاحب التمهيد، ويمكن التعبير عنها كما يلي: هل كان هناك اتصال بين الاجتهاد بالرأي في مجال الشريعة والعقيدة من جهة، وبين الفلسفة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فلسفة الكندي والفارابي من جهة ثانية، بالشكل الذي يسمح بالقول: إن الفلسفة بهذا المعنى كانت نتيجة لتطور النظر العقلي في الإسلام، بالمعنى الذي حدده صاحبنا؟ إن تاريخ الثقافة العربية الإسلامية يؤكد أن الطرفين قد تطورا، كلًّا منهما بمعزل عن الآخر، وحتى علم الكلام الذي هو أقرب العلوم العربية الإسلامية إلى الفلسفة، فلا شيء يسمح بالقول عنه: إنه كان الأساس الذي قامت عليه الفلسفة أو إن هذه كانت تتويجاً لتطوره، بل بالعكس لقد ظل علم الكلام مستقلاً بنفسه، وخصماً للفلسفة، والفلسفة خصماً له، أما المنطق فلم يبدأ في التأثير في مباحث الفقه والكلام بشكل جدي إلا حينما أخذ نجم الفلسفة في الأفول... هكذا ينتهي المنهج التاريخي لصاحب التمهيد إلى عكس ما أراده منه، إلى تأكيد لا أصالة الفلسفة الإسلامية» .
ثانياً: يرى الدكتور الجابري أن تلميذ الشيخ عبد الرازق الدكتور علي سامي النشار استخلص من منهج أستاذه نتائج تعاكس على طول الخط ما هدف إليه الشيخ عبد الرازق، وحسب قوله فقد «كان الأستاذ يريد إقامة جسور بين الماضي والحاضر والمصالحة بينهما نوعاً من المصالحة، أما التلميذ فلا يعترف للحاضر بهوية أخرى غير تلك التي أورثها له الماضي... لقد انطلق الأستاذ من الرد على المستشرقين ساعياً إلى إثبات أصالة الفلسفة الإسلامية بالرجوع إلى الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي، وها هو التلميذ ينطلق من هذه الجراثيم الأولى نفسها ليؤكد صحة دعوى المستشرقين بل ليقرر بأقوى مما فعلوا» .
ثالثاً: في كتاب (التراث والحداثة)، وفي سياق الحديث عن الرؤية الاستشراقية توقف الدكتور الجابري عند الملاحظة التي أشار إليها من قبل الدكتور ماجد فخري حين اعتبر أن استهلال الشيخ عبد الرازق الحديث عن المستشرقين يَنُمُّ عما أسماه بعقدة الاستشراق، هذه الملاحظة لا يقر بها الجابري ويرى أن ما كان يحرك الشيخ عبد الرازق ليس عقدة الاستشراق، بل عقدة الأصالة، مبرهناً على ذلك في أن الشيخ عبد الرازق لم يقف موقفاً سلبياً من المستشرقين عامة، بل بالعكس لقد نوَّه بهم تنويهاً كبيراً.
رابعاً: في نظر الدكتور الجابري أن الشيخ عبد الرازق «لم يكن يعي تمام الوعي طبيعة الرؤية الاستشراقية ودوافعها ومكوناتها وتوجهاتها، بل لعل مفهوم الاستشراق كما يتحدد مضمونه اليوم في الفكر العربي المعاصر لم يكن حاضراً في ذهنه، فهو لا يستعمل هذا المفهوم، ولم يستعمل كلمة المستشرقين هكذا معرفة محددة، بل استعمل بدلاً منها عبارة المؤلفين الغربيين أو الباحثين الغربيين، ولم ترد كلمة مستشرقين لديه إلا في العبارة التالية: فريق الغربيين من مستشرقين ومشتغلين بتاريخ الفلسفة، الشيء الذي يوحي بأنه كان يفصل في ذهنه بين المستشرقين الذين تخصصوا في شؤون الشرق ثقافته وتاريخه... إلخ، وبين المشتغلين بتاريخ الفلسفة الذين لا يهمهم من التراث العربي الإسلامي إلا نصيب الفلسفة الإسلامية من التراث الفلسفي في العالم. وما يؤاخذه على هؤلاء هو بالضبط عدم اعترافهم بهذا النصيب أو التقليل من أهميته إلى أقصى حد» .
خامساً: إن ما يقترحه صاحب التمهيد في نظر الدكتور الجابري هو في واقع الأمر ليس أكثر من تطبيق منهج الأوروبيين في التأريخ للفلسفة الأوروبية على التفكير العقلي في الإسلام، فالأمر إذاً -حسب قوله- يتعلق باستنساخ منهج وليس بتقديم بديل.
وبتحديد أكثر يرى الجابري أن المنهج الذي اقترحه الشيخ عبد الرازق هو المنهج الذي تعرف عليه بواسطة كتاب إميل برهيه، والذي يقوم في بناء تاريخ الفلسفة على الوحدة والاطراد.
سادساً: تساءل الدكتور الجابري هل نجح الشيخ عبد الرازق في تطبيق منهجه السالف الذكر؟ وهل استطاع إقامة مركزية عربية إسلامية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بصورة تحقق له ما حققه الأوروبيون في تاريخ الفلسفة لديهم من وحدة واطراد؟
وأجاب بقوله: إنه لا يعتقد، وذلك لأن صاحب التمهيد في نظره لم يستطع أن يربط بين المسار التاريخي المستقل لتاريخ التفكير العقلي في الإسلام، وبين المسار الذي تمثله الفلسفة الإسلامية بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فلسفة الكندي والفارابي... إلخ، وذلك على الرغم من إضفائه الطابع الفلسفي على أصول الفقه .
سابعاً: يعتقد الدكتور الجابري أن الشيخ عبد الرازق لم يستطع أو على الأقل لم يحاول الربط بين علم أصول الفقه وبين علم الكلام على الرغم من أن هذا الأخير قد نشأ هو الآخر ضمن مسار إسلامي مستقل عن مسار الفلسفة، هو ذات المسار الذي نشأ فيه علم أصول الفقه، بل اكتفى بإضافة ضميمة في علم الكلام وتاريخه كملحق للكتاب.
ويضيف الجابري «أما الفلسفة الإسلامية فلسفة الكندي والفارابي... إلخ، وما يرتبط بها من تصوف إشراقي فهو لم يتعرض لها إلا ضمن عرضه لمقالات المؤلفين الإسلاميين في الفلسفة الإسلامية» .
وبالتالي فإننا حسب قول الجابري نجد أنفسنا في نهاية الأمر أمام ميادين ثلاثة من النظر العقلي في الإسلام (أصول الفقه، علم الكلام، الفلسفة والتصوف) ميادين، بل قطاعات أو جزر فكرية لا تربط بينها رابطة لا على المستوى الأفقي البنيوي، ولا على المستوى العمودي التاريخي، وبالتالي فلا وحدة ولا اطراد .
ـ 8 ـ
ملاحظات ونقد
بعد هذه الجولة الاستطلاعية والنقاشية، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية المتممة، وهي:
أولاً: ذكر الشيخ عبد الرازق في مقدمة كتابه التمهيد أنه منذ أيام اشتغاله بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخها في الجامعة المصرية، دوّن فيها صحفاً ثم طواها على غرها بعد أن ترك الجامعة سنة 1939م، وصرفته الشواغل عنها، ورجع إليها سنة 1944م لينشرها كما هي بصورتها يوم كتبت من دون تنقيح ولا تعديل، وفي صياغتها التعليمية.
يفهم من منطوق هذا الكلام أن الشيخ عبد الرازق لم يكن في الأصل بصدد تأليف كتاب تمهيدي لتاريخ الفلسفة الإسلامية، بما يتطلبه عمل التأليف من شروط ومقتضيات. والذي يراجع الكتاب ويطالعه لا يتعرّف على كتاب تأليفي بالمعنى المهني لعمل التأليف. فالشيخ عبد الرازق يتحدث عن صحف دوَّنها ثم طواها على غرها، فهي أشبه ما تكون بملازم للتعليم على طريقة ما يضعه ويدونه الأساتذة والمدرسون أثناء الدراسة والتعليم، وهذا هو المقصود بصياغتها التعليمية، بمعنى أنها كتبت للتعليم وليس للنشر، وتراعي حاجة الطلبة في مرحلة التعلم والتعليم.
وهذا يعني أن كتاب التمهيد هو كتاب تعليمي في الأساس، وللطلبة بصورة خاصة كما أوضح المؤلف نفسه، مع رجاء منه أن يكون فيه عون لباحث، أو فائدة لقارئ.
ثانياً: هذه الطبيعة التعليمية للكتاب هي التي تفسر كثرة النصوص والاقتباسات المطولة التي طغت على الكتاب وشكَّلت بنيته الأساسية. فكون أن الكتاب جاء تعليميًّا ولغايات تعليمية، ودُوِّن في الأصل على صورة ملازم تعليمية، لهذا احتوى على كل هذه النصوص والاقتباسات المطولة في جميع فصول الكتاب، فهو يراعي -حسب قول المؤلف- حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة.
ولو كان الكتاب منذ البداية مشروعاً للتأليف والنشر، لما كانت هناك حاجة إلى كل هذه النصوص الموجودة في الكتاب، أو بهذا الشكل المطول والمسهب.
مع ذلك فإن المؤلف حين قرر نشر هذه الصحف في كتاب وبعد سنوات على تدوينها، ما كان عليه -في تقديري- نشرها كما هي، وبصورتها يوم كتبت من دون تنقيح ولا تعديل، وفي صياغتها التعليمية، بل كانت بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، وإلى تنقيح وتعديل لإخراجها من كونها صحفاً مدونة، وملازم تعليمية، إلى جعلها مادة تراعي حاجة النشر والتأليف.
ثالثاً: أشار صاحب التمهيد إلى إمكانية ضم أصول الفقه إلى شعب الفلسفة، وحسب ظنه أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شعبها.
هذه الفكرة التي عدها بعض الباحثين المصريين أنها تمثل أحد أهم إبداعات التجديد عند الشيخ عبد الرازق، وتطرق إليها العديد من الذين تحدثوا عن كتاب التمهيد، هذه الفكرة على أهميتها وقيمتها لم يتحدث عنها صاحب التمهيد بشكل مركز، وبطريقة متماسكة، ولم يفرد لها فصلاً أو محوراً مستقلاً لبلورتها وتنضيجها، خصوصاً أنها عُدَّت واحدة من ركائز أطروحة الكتاب.
والقدر الذي تحدث عنه المؤلف حول هذه الفكرة جاء متناثراً ومتفرقاً بين أجزاء وفصول الكتاب، في حين أن فكرة بهذه الأهمية كانت بحاجة إلى التوقف مليًّا عندها، والبرهنة عليها، وتكثيف الحديث عنها لتوثيقها وتأكيدها وتقعيدها.
رابعاً: في الفصل الثالث من القسم الثاني للكتاب تحدث المؤلف عن الرأي وأطواره فأسهب وتوسع كثيراً، وفاقت صفحاته أكثر من مائة صفحة، أي بما يزيد على ثلث صفحات الكتاب، هذا التوسع والإسهاب بالشكل الذي سار عليه صاحب التمهيد أفقد الكتاب قدراً من التركيز والتماسك، وكأنه انصرف من الحديث عن تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى الحديث عن تاريخ الفقه الإسلامي.
بمعنى أن المؤلف ما كان بحاجة إلى كل هذا الإسهاب والتوسع في الحديث عن الرأي وأطواره، حتى بالاستناد إلى نظريته التي يرى فيها أن الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وأنه أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثراً بالعناصر الأجنبية.
وسبق أن أشار الدكتور ماجد فخري إلى مثل هذه الملاحظة وكيف أنها أثرت في تغيير هوية وطبيعة الكتاب، واعتبره أنه لم يعد تمهيداً لتاريخ الفلسفة بل أصبح في جملته تاريخاً لتطور مفهوم الفقه والكلام الإسلاميين بالدرجة الأولى، ولتطور مفهوم الفلسفة عند العرب بالدرجة الثانية.
خامساً: أشار الدكتور ماجد فخري في ملاحظاته إلى أن استهلال الشيخ عبد الرازق الحديث عن المستشرقين ومحاججة آرائهم ينمو في نظره عما يمكن تسميته بعقدة الاستشراق، هذا الكلام سواء كان حكماً أو انطباعاً لا ينبغي أن يقال بحق الشيخ عبد الرازق فهو أرفع من أن يقال عنه مثل هذا الكلام، ولا صدقية له بتاتاً من الناحية الفعلية لا من قريب ولا من بعيد، لا حسًّا ولا حدساً.
وبحسب المنهج الذي انتهجه الشيخ عبد الرازق كان لابد له من أن يبدأ حديثه عن المستشرقين، أي أن الضرورات المنهجية وحتى المعرفية هي التي اقتضت ذلك، فمن جهة أن جميع الذين سبقوا صاحب التمهيد في تدريس الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية كانوا غربيين ومستشرقين، ومن جهة أخرى أن إثبات أصالة الفلسفة الإسلامية وأصالة التفكير الفلسفي الإسلامي كان يقتضي نقد ونقض مقالات المستشرقين الغربيين الذين أسرفوا وتعمدوا نفي هذه الأصالة عن الفلسفة الإسلامية، واشتهرت مقالاتهم وتعممت في مجال الدراسات الفلسفية وتاريخ الفلسفة عند المسلمين تحديداً، وهذا ما التفت إليه الشيخ عبدالرازق، ويلتفت إليه كل من يُعنى بدراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية.
سادساً: اعتبر الدكتور ماجد فخري أن أهم مآخذه على كتاب التمهيد أنه لم يعمد للتأريخ للفلسفة الإسلامية بتناول الحديث عن مذاهب الفلاسفة العرب حول أمهات المسائل وبسطها والمقارنة بينها على غرار ما قام به المؤرخون عامة، وبالتالي فإن الكتاب لا يدور -في نظر الدكتور فخري- حول الفلسفة الإسلامية بالمعنى المتعارف عليه.
وهذا صحيح لكن الشيخ عبد الرازق لم يرد ذلك أساساً، ولو كان كتاب التمهيد على صورة ما أراده الدكتور فخري لكان كتاباً عاديًّا لا يختلف بالضرورة عن غيره من المؤلفات الأخرى في هذا الشأن، ولما كان له كل هذا الذكر، وهذا الصيت والاهتمام.
ولا أظن أن الشيخ عبد الرازق كانت تخفى عليه هذه الملاحظة، وهو المتابع والمطلع على كتابات المستشرقين ومؤلفاتهم في هذا الحقل، وهي المؤلفات التي عرَّفت بالمنهج والطريقة التي أشار إليها الدكتور فخري.
وما أراده الشيخ عبد الرازق هو بخلاف ذلك المنهج، لأنه أراد أن يبتكر منهجاً جديداً يكون مغايراً تماماً لمناهج المستشرقين في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وابتكار مثل هذا المنهج هو الذي جعل كتاب التمهيد يحضى بكل هذه الأهمية والاهتمام.
سابعاً: بالنسبة إلى ملاحظات الدكتور عاطف العراقي لم أجد فيها من جهة تلك الدقة المفترضة، ومن جهة أخرى وجدت أنها اتسمت بالتهويل والمبالغة، فقد أشار الدكتور العراقي إلى أن الشيخ عبد الرازق وقع في مجموعة من الأخطاء في كتابه التمهيد دون الإشارة إلى خطأ واحد من هذه الأخطاء.
ثم إن الدكتور العراقي اعتبر أن أحكام الشيخ عبد الرازق على المستشرقين لا تخلو من قسوة، ولم يذكر مثالاً واحداً يبرهن فيه على هذه القسوة، في حين أن آخر ما يمكن قوله بحق صاحب التمهيد أن أحكامه لا تخلو من قسوة، وهو الذي عرف عنه وعن مناقشاته الهدوء والاعتدال والتسامح، وقال عنه الدكتور الجابري: إنه لم يقف موقفاً سلبيًّا من المستشرقين عامة، بل بالعكس لقد نوه بهم تنويهاً كبيراً .
ومن أكثر ما يعترض كلام الدكتور العراقي ما ختم به الشيخ عبد الرازق الفصل الذي تحدث فيه عن مقالات الغربيين عند قوله: «أما بعد، فإن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم، وإذا كنا ألمعنا إلى نزوات من الضعف الإنساني تشوب أحياناً جهودهم في خدمة العلم، فإنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر وانسياقها إلى دعوة السلم العام، والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بين الناس جميعاً على خدمة العلم باعتباره نوراً لا ينبغي أن يخالط صفاءه كدر» .
وحين خطَّأ الدكتور العراقي الشيخ عبد الرازق إدخال أصول الفقه ضمن إطار الفلسفة العربية هوَّل وبالغ كثيراً في تصوير هذا الخطأ حسب رأيه، وأدهشني كلامه للغاية حين صور أن هذا الخطأ أدى في نظره إلى كثير من الكوارث الفادحة، وإلى إدخال اتجاهات أصولية إرهابية داخل إطار الفلسفة، ومعنى هذا عنده أننا نقول للفلسفة وداعاً، وللتنوير وداعاً.
وأقل ما يمكن أن يقال تجاه هذا الكلام أنه بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، لأن من الكارثة أن يقال مثل هذا الكلام بحق الشيخ عبد الرازق.
ثامناً: في نقده على منهج الشيخ عبد الرازق وجد الدكتور محمد عابد الجابري أن هذا المنهج سيصل إلى مأزق ينتهي بصاحب التمهيد إلى عكس ما أراده في إثبات أصالة الفلسفة الإسلامية.
لعل منشأ هذه الملاحظة هو عدم إيمان الدكتور الجابري بمنهج الشيخ عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وهو منهج جديد ومبتكر في نظر البعض، في حين يلتزم الجابري بالمنهج التقليدي السائد في حقل دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.
فالاختلاف إذاً هو اختلاف في المنهج، والمأزق الذي يراه الجابري هو مأزق بحسب المنهج الذي يراه، لكنه ليس مأزقاً بحسب منهج عبد الرازق، وبالتالي فإن اعتبار الجابري أن صاحب التمهيد سينتهي إلى عكس ما أراده إنما هو بحسب منهجه، لكن بحسب منهج عبد الرازق فإنه سينتهي إلى إثبات ما أراده في تأكيد أصالة الفلسفة الإسلامية.
تاسعاً: وصل الدكتور الجابري إلى نتيجة هو الوحيد على ما أظن الذي وصل إلى مثل هذه النتيجة، ولعلها نتيجة مستغربة عند الكثيرين، وذلك حين اعتبر أن الدكتور علي سامي النشار استخلص من منهج أستاذه الشيخ عبد الرازق نتائج تعاكس تماماً وعلى طول الخط ما هدف إليه صاحب التمهيد.
ولعل أول من يعترض على هذا الكلام هو الدكتور النشار نفسه الذي لا يرى أنه استخلص من منهج أستاذه نتائج تعاكسه تماماً وعلى طول الخط.
والذين يعرفون العلاقة بين الدكتور النشار وأستاذه لا يتفقون كليًّا مع ما ذهب إليه الدكتور الجابري، والشهادات على ذلك كثيرة لكنني سأكتفي بشهادتين، الشهادة الأولى للدكتور أحمد محمود صبحي أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وهو نفس تخصص الدكتور النشار، ونفس الكلية والجامعة التي درس فيها، يرى الدكتور صبحي أن أبرز استجابة لدعوة الشيخ عبد الرازق، وأصدق تعبير عن منهجه تمثلت في مؤلفات المرحوم الدكتور علي سامي النشار .
الشهادة الثانية لأحد تلاميذ الدكتور النشار هو الدكتور عبده الراجحي أستاذ العلوم اللغوية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، الذي يرى في تصدير الطبعة الثالثة لكتاب الدكتور النشار (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)، أن الدكتور النشار أخذ منهجه من أستاذه الشيخ عبد الرازق، والمتمثل في المنهج الإسلامي الحق الذي ينبغي تلمسه في علمين أصيلين هما علم أصول الفقه وعلوم الكلام، ومن ثم يعقب الدكتور الراجحي بقوله: لكن الدكتور النشار هو الذي طور هذا المنهج وجعله نظرية متماسكة بما توفر لديه من أدوات لم تكن متاحة لأستاذه الشيخ .
والذي يمكن قوله أن الدكتور النشار مثَّل طوراً جديداً في تحديث وتطوير منهج أستاذه الشيخ عبد الرازق، وليس في الخروج عليه، أو التناقض معه كما ظن الدكتور الجابري.