* تمهيد
قال مؤرخ العلم المشهور جورج سارتون: «عندما أصبح الغرب مستعداً استعداداً كافياً للشعور بالحاجة إلى معرفة أعمق، وعندما أراد في آخر الأمر أن يجدد صلاته بالفكر القديم، التفت أول ما التفت لا إلى المصادر الإغريقية ولكن إلى المصادر العربية»، ويدخل ضمن المصادر العربية كل ما أنتجه العرب والمسلمون من تراث علمي في شتى حقول المعرفة، حيث لم يقف المسلمون في بحوثهم العلمية عند بعض المباحث العلمية، بل امتد بحثهم إلى علوم الدين والتاريخ والفلك والموسيقى، وقد أظهر العقل الإسلامي أنه قادر على الإبداع وعلى وضع النظريات العلمية المبنية على البحث المنهجي القائم على الأسس العلمية الصحيحة، لقد اجتهد في هذا الإطار العالم الفيزيائي مؤسس نظرية الضوء في القرن الرابع الهجري، الحسن بن الهيثم اجتهاداً كثيراً من أجل وضع منهج علمي أسس من خلاله علم المناظر بحيث وضع مجموعة من المبادئ والمفاهيم أسس من خلالها ما يعرف بالمنهج التجريبي. فما هي خصائص هذا المنهج الذي دُرس بواسطة نظرية الإبصار.
* المنهج العلمي عند الحسن بن الهيثم
تميز المنهج العلمي عند ابن الهيثم بمجموعة من الخصائص نبرزها في العناصر الآتية:
1- مفهوم الاعتبار
في المقالة الثالثة من كتاب المناظر ومن خلال الفصل الثاني في تقديم ما يجب تقديمه لتبيين الكلام في أغلاط البصر كشف لنا ابن الهيثم أن مفهوم الاعتبار يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم اليقين، حيث يقول: «فأما كيف تعتبر جميع هذه المعاني اعتباراً يقع معه اليقين فإن ذلك يكون كما نصف» والوصف عند ابن الهيثم هو تقديم مجموعة من الاعتبارات أثبت من خلالها أغلاط البصر بواسطة التحليل الهندسي.
شرح مفهوم الاعتبار:
بالنظر إلى الاستعمال المكثف لمفهوم الاعتبار في نظرية المعرفة عند ابن الهيثم حيث ركز عليه في معظم شروحاته وكتاباته، وحيث إنه ربط مفهوم الاعتبار بمفهوم اليقين، فإن هذا المفهوم من الناحية المنهجية يستدعي منا تفسيراً وشرحاً، وذلك بالرجوع إلى أهم الدراسات التي أُجريت حول هذا المفهوم، منها دراسة رشيدي راشد، فنقول: تتوافق المعاجم العربية جميعها مع أدب ما قبل الإسلام ومع الاستعمال القرآني على أن الجذر «عبر» يدل على الانتقال من شيء ما إلى غيره، كما يحتوي الفعل اعتبر من بين معانيه العديدة على تفحص شيء أو تفحص عمل لكي نستنج خلاصة ما أو نستدل على معنى مجهول أساساً. وجاء في معجم أبي البقاء الموسوم بـ«الكليات» أن «اعتبار» هو تفحص الأشياء ودلالاتها لاستقراء الكامن من المنظور، ويقول: إن الاعتبار له معنى الامتحان.
أما التهناوي في كتابه «كشّاف اصطلاحات الفنون» فيقدم معاني كثيرة لكلمة اعتبار واستعمالات شتى في الفلسفة وفي القضاء وفي السيرة النبوية الشريفة .
إن بعض هذه المعاني عند التهناوي يقترب ولو من بعيد من معنى الاستنتاج عن طريق الملاحظات أو عن طريق الأحكام الصادرة سابقاً. ومصطلح الاعتبار قد استعمله ابن سهل بمفهوم التجربة والاختبار في البصريات، ولكي يحدد ابن سهل قرينة الانكسار استعمل فعل اعتبر عندما تحدث عن العدسة المستوية المحدبة، وأيضاً عندما تحدث عن العدسة محدبة الوجهين، ويفرض كل مرة أن تكون العدسة المستعملة منحوتة من المادة نفسها التي استعملت أثناء التجربة المخصصة لتحديد قرينة الانكسار، حيث قال ابن سهل: «من نفس الجوهر الذي اعتبرنا به»، وفعل اعتبر هنا استعمله بمعنى جرب أو اختبر .
أما ابن الهيثم فقد استعمل هذا الفعل، وأحياناً بصيغة اسم الفاعل، عدة مرات في مقالاته. وقد أشار مصطفى نظيف إلى أن الفعل اعتبر مع مشتقاته المختلفة تنتمي في الواقع إلى مصطلح البصريات التقني لابن الهيثم ونفس الملاحظة أبداها فيدمان wiedemann وبشكل مستقل.
يقول مصطفى نظيف حول مفهوم الاعتبار ما يلي: «تجب الإشارة إلى أن ابن الهيثم استعمل تفسيراً خاصًّا عبّر فيه عن معنى التجربة حسب المصطلح الحديث، لقد أشار إليها بكلمة الاعتبار، وسمَّى الشخص الذي يُجري التجربة المعتبر، وقال عن الشيء المطابق للحقيقة والصادر عن التجربة الإثبات بالاعتبار كي يميزه عن الإثبات بالقياس، إضافة إلى ذلك فإنه قد تبيّن أنّ للاعتبار مهمتين أساسيتين في البحث العلمي، الأولى هي استقراء القواعد والقوانين العامة، والثانية هي التحقق من أن النتائج المستنتجة هي صحيحة» .
ويبدو من خلال هذه الفقرة أن مصطلح الاعتبار هو مصطلح علمي ارتبط كثيراً بابن الهيثم، وحتى كمال الدين الفارسي -وهو الذي شرح كتاب المناظر لابن الهيثم- استعمل بكثافة مصطلح الاعتبار وطوّع معناه التقني باستعمال منهجي . ويتغير مفهوم الاعتبار عند ابن الهيثم بتغيير موضوع الدراسة والبحث، ففي البصريات الهندسية فإن الاعتبار عبارة عن تركيب تجريبي معقد نوعاً ما، أما في مجال البصريات الفيزيائية التي يعتريها الغموض والتباس دلالة الألفاظ للمفاهيم فنرى أن ابن الهيثم يعني بالتجربة إرجاع هذه المفاهيم الناقصة والمشوهة بواسطة الهندسة إلى الحقل التجريبي الذي يشكل وحده مكان وجودها» »
إذن ابن الهيثم استعمل مفهوم الاعتبار في عدة مواضيع علمية متعلقة بفلسفة الطبيعة واختلف مفهوم الاعتبار من موضوع لآخر. وهذا الاختلاف في نظرنا مرتبط بطبيعة الموضوع المدروس، أما من جانب اللغة فلا يوجد هناك اختلاف؛ لأن الفهم الفيلولوجي يرى في دوام الاصطلاحات رسوخاً واستمراراً للمعنى، فيجب إذن تجاوز هذا المجال اللغوي .
وكما سبق وأن أشرنا فإن ابن سهل استعمل مصطلح اعتبار غير أنه لم يستعمله بمعناه التقني الذي وظفه ابن الهيثم، وإذا حاولنا الرجوع إلى تاريخ علم المناظر قبل ابن الهيثم وابن سهل فإننا لن نجد مصطلح اعتبار، فبالرجوع إلى كتاب ثاليون الإسكندري (تنقيح المناظر) فقد أورد فقرة جاء فيها «تلاحظ جميع هذه الأحداث بالشكل الأكثر وضوحاً في الظروف الاصطناعية»، والاحداث هي الظلال أو التي جرت عليها التجربة كالضوء الساقط من خلال شق. وهنا (ثايون) لم يذكر أي اصطلاح خاص يعبر عن هذه التجربة .
وقد أشار ابن الهيثم في كتابه (الشكوك على بطليموس) إلى الفعل اعتبر، بمعنى أن بطليموس هو الذي استعمله، وفيما يلي الفقرة: «ثم يقول في آخر المقالة الخامسة تعمل ثلاث أوانٍ من زجاج نقي صافٍ، ويجعل أحدهما على شكل مكعب والآخر منها أسطوانيًّا محدباً والثالث يجعل فيه سطحاً اسطوانيًّا مقعراً»، ثم يقول: «وتملأ ماء وتدخل فيها مساطر وتعتبر خيالاتها» .
2- الأخذ بالعناصر الحسية والمعنوية
عندما شرح ابن الهيثم طريقة بحثه، وبيّن الطرق والوسائل التي يصل بها إلى إدراك الحق، فقد ركَّز على الجوانب الحسيّة والعقلية حيث قال: «فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجاً ولا إلى الرأي اليقيني مسلكاً مجدداً، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلَّا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسيّة وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد لذلك إلا فيما قرَّره أرسطو من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها» . وأيضاً وجد ابن الهيثم عنصر هذه الآراء في الرياضيات وفي «الفيزياء التي بواسطتها أبدع في أعماله الأصلية في علم المناظر» .
في نظر ابن الهيثم فإن الذي قرّره أرسطو هو أن العنصر الأول في اكتساب المعرفة هي الأمور الحسيّة، ومن خلال ذلك بدأت تتجلى النزعة الحسيّة عند ابن الهيثم، وهي الطريق والمنهج الأول إلى النزعة التجريبية.
إن ما يمكن استنتاجه من خلال الأفكار السابقة هو أن ابن الهيثم قرّر الأخذ بمنهج الاستقراء والقياس، والاعتماد على المشاهدة والاعتبار، وهو في ذلك أدرك ما لم يدركه (فرنيسكو بيكون) ، وهو أن للطريقة الصحيحة في البحث العلمي عناصر أخرى غير الاستقراء ، ومن خلال الملاحظة الأولية البسيطة المدعمة بالتحليل الهندسي كان ابن الهيثم شديد الاعتداد بالتطبيق العملي لمعارفه الرياضية الهندسية، حتى أنه فكّر بقدرته على تنظيم المياه الناتجة عن فيضان النيل . لقد كان ابن الهيثم يدعو إلى اتِّباع المنطق الاستقرائي في البحث إلى جانب المشاهدة والملاحظة والاعتبار، وكان ينقد منطق أرسطو خاصة الجانب الميتافيزيقي منه والذي لا يمكن أن يكون أساساً للمعرفة العلمية التجريبية. وعند هذه النقطة وجدت أوجه شبه كثيرة بين ابن الهيثم وابن خلدون، حيث أن كليهما كان يدعو إلى اتِّباع المنطق الاستقرائي المادي في البحث وينقد المنطق الاستنباطي الصوري .
إن ابن الهيثم آمن بأن ظواهر الطبيعة تجري على نظام ويتكرر حدوثها على نهج واحد، فيقول مثلاً: إننا إذا وجدنا الأضواء التي يتيسر الاعتبار بها تمتد أو تنعكس أو تنعطف على هيئة خاصة فيجب أن نرتقب أن تكون الأضواء جميعها كذلك هنا وهناك وفي كل مكان والآن والمستقبل وفي كل زمان . إن هذه النتيجة توصل إليها ابن الهيثم بعد الاعتبارات التي أجراها و المدعمة بالتحليل الهندسي.
3- الموضوعية والبعد عن الهوى
يعتبر مفهوم الموضوعية أحد أبرز الأسس لمنهجية البحث العلمي، وحيث إن موضوعية العلم وتجرده من الجوانب الذاتية يأتيان من مادة البحث في الظواهر الطبيعية، أي أن نتائج العلم وطبيعة البحث في فرضياته لا تأتي وفقاً لمزاج العالم أو رغباته الذاتية أو اتجاهه الفكري، بل هي أمر يتعلق بطبيعة المادة نفسها وإمكان تشكلها أو دخولها في تفاعلات مع مواد أخرى لتشكل مركبات جديدة ؛ فإن هذه الضرورة العلمية أدركها ابن الهيثم في معالجته لكتاب بطليموس. لقد ظهرت بعض ملامح المنهج العلمي عند ابن الهيثم في كتابه الشكوك على بطليموس، حيث اعتبر أن أهم ركائز هذا المنهج هو الموضوعية التي تحقق أقصى درجات اليقين، ففي نظره فإن «الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب والطريق إليه وعر والحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس، فالناظر في كتب العلماء إذا استرسل مع طبعه وجعل غرضه فهم ما ذكروه وغاية ما أوردوه حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها والغايات التي أشاروا إليها. فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين المسترسل مع طلبهم في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم المتوقف فيما يفهمه عنهم المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان مخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسامح فيه، فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشُّبَه» .
إن هذه الموضوعية التي اعتمدتها ابن الهيثم في تحقيقه وفي قراءته لمنهج بطليموس جعلته يكشف بعض النقائص حول كتاب بطليموس، ومن خلال اكتشافه لهذه النقائص وضع مجموعة من النظريات حول طبيعة نظرية الإبصار، وحول الأغلاط التي يقع فيها البصر. وربط ابن الهيثم الموضوعية بضرورة إبعاد العنصر الذاتي خلال عملية البحث عن معرفة حقائق الأشياء، أي بمعنى التجرد من الهوى، حيث يكشف لنا أن نجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتِّباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء .
إن وجود مفهومي الميل والهوى في هذه الفقرة يستدعي منا شرحاً وتفسيراً، فالميل هو العدول إلى الشيء والإقبال عليه، وإذا مال الشخص الباحث مع آراء لم يتفحصها فإنه لم يستعمل عنصر الشك في هذه الآراء وعليه أصبح عنصر الشك في هذه الآراء عنصراً أساسيًّا من عناصر الموضوعية، فالميل هو عدم الشك وقيل: ميّلوا أي لم يشكوا، وقيل أيضاً: إن الميل هو أن تترك الطريق وتحيد عنه.
أما الهوى فهو سيلان النفس إلى ما تستنده من الشهوات لكل أنواعها سواء النفسية أو الفكرية . ورد لفظ الهوى في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} .
وقال تعالى أيضاً: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}
والملاحظ على هذه الآيات أن لفظ الهوى اقترن بنقيضه وهو اتِّباع الحجة والبينّة، بمعنى أن الحكم الذي يقوم على البيّنة يكون بمأمن عن الهوى. إن ارتباط لفظ الهوى بالجوانب السيكولوجية الذاتية للفرد، جعل ابن الهيثم يرفض رفضاً مطلقاً استعمال ولو ذرة من الهوى في عنصر الاستقراء، وتصفح الظواهر الطبيعية المرتبطة بنظرية الإبصار وما يرتبط بها من عناصر الإدراك الأخرى. إن رفض استعمال الهوى هو باللغة المعاصرة رفض إدراج عنصر الذاتية في استقراء الظواهر. ويؤكد لنا ابن الهيثم أن عدم اتِّباع الهوى، وعدم الميل مع الآراء؛ يؤدي بنا إلى اكتشاف حقيقة الظواهر المدروسة، وتلك الحقيقة يقع معها اليقين، يقول في هذا المجال: «فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصل بالتدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين» .
ومن شروط تحقق الموضوعية في المنهج العلمي هو حضور عنصر النقد بعد ملاحظة الظواهر وبعد استقرائها، حيث غياب النقد لا يساعد على وضع قاعدة قانونية تحكم سير الظواهر الطبيعية، فحول هذه المسألة يؤكد ابن الهيثم على ضرورة حضور عنصر النقد، والتحفظ حول النتائج لا يكون إلا بالنقد، يقول ابن الهيثم: «وتظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات» .
ورغم هذا القدر الكبير من الموضوعية التي يتميز بها منهج ابن الهيثم إلا أنه يعترف بأن هذه الموضوعية قد يعتريها بعض النقص الذي مرجعه طبيعة تكوين النفس البشرية، ومن هذا الجانب، وفي نظر ابن الهيثم، قد يقع الباحث في الخطأ أو في السّهو، يقول في هذا المعنى: «وما نحن من جميع ذلك بُرَآء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية» .
4- الاستقراء عند ابن الهيثم
اعتمد ابن الهيثم على الاستقراء بمثابة منهج يقيني يهدف إلى البحث عن حقيقة الأشياء المتعلقة بالإبصار بصفة خاصة، وبمجالات العلوم الأخرى. إن النصوص التي وضعها ابن الهيثم والمتعلقة بطريقته في البحث تبيّن وبوضوح لجوءه إلى الاستقراء، وذلك بتتبع خواص الجزئيات، حيث يشير إلى هذا المعنى بقوله: «ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات»، وتمييز خواصها من بين الأسس الأولى لمنهج الاستقراء. إن تمييزه خواص الجزئيات هو محاولة الربط بينهما من خلال الكشف عن العلاقات الموجودة بين هذه الجزئيات، وتحويل تلك العلاقات بعد الملاحظة إلى قوانين عامة تخضع لها كل الظواهر التي هي من النوع نفسه.
إن المنهج التجريبي يعتمد على هذا النوع من الاستقراء الذي ينتقل فيه الذهن من المعرفة الجزئية إلى لمعرفة الكلية، وهو دراسة لحالات جزئية مختلفة، ثم القيام بتحليلها وقياسها، ثم تحويلها إلى بيانات رياضية من أجل الوصول إلى القانون العام الذي ينطبق على جميع الحالات المشابهة. إن هذا المنهج الذي اعتمد عليه ابن الهيثم أكَّد عليه برتراند راسل Bertrand Russel بقوله: «إن العلم يبدأ بدراسة الحقائق الجزئية» ، وهذا ما أشار إليه ابن الهيثم بقوله: «تمييز خواص الجزئيات»، ثم أضاف: «ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس» . وهو هنا يؤكد على مفهوم الاستقراء بمثابة الوسيلة والمبدأ كوسيلة ومبدأ في منهجية بحثه العلمي. إن تأكيد ابن الهيثم على منهج الاستقراء جاء رفضاً لمنهج القياس خاصة في مجال إدراك أغلاط البصر، حيث يكشف لنا أن أكثر أغلاط البصر في المعاني الجزئية وصور المبصرات إنما يكون غلطاً في القياس ، بمعنى أن الغلط كان في المنهجية التي اتبعت في دراسة الظواهر الجزئية، وهي منهجية الأخذ بعنصر القياس الذي اعتمد عليه أرسطو في منهجية بحثه العلمي.
إن المنهج المبني على المنطق وعلى الاستنتاج بصفة خاصة لا يؤدي دائماً وحتماً إلى نتائج يقينية، خاصة إذا تعلق الأمر بالأمور الحسيّة وفي العلوم الطبيعية بصفة خاصة كالفيزياء مثلاً وحتى علوم الطب، فمثلاً (ابن النفيس) رفض قبول نظرية (جالينوس) الخاطئة في الدور الذي تلعبه الرئتان في نقل الدم من تجويفة القلب إلى الأخرى، لم يكن هذا الرفض قائماً على أسس تجريبية؛ وذلك لأن نقد ابن النّفيس لجالينوس كان نتيجة تفكير منطقي لا نتيجة تجربة علمية؛ ولذلك لم يترك اكتشاف ابن النفيس أثراً في علم الطب الإسلامي .
ويتبنى ابن الهيثم بطريقة منهجية واضحة كيفية الغلط في القياس، الأمر الذي جعله يرفض القياس، ويثبت بصيغة المنهج في دراسته المعاني الجزئية أي الظواهر الجزئية، فيقول: إن الغلط في القياس يكون في المقدمات، حيث يكون على ثلاثة أوجه: أحدهما أن يأخذ التمييز مقدمة كاذبة ويظنها صادقة، والثاني أن يأخذ مقدمة جزئية ويظنها كلية، والثالث هو «الغلط في اكتساب المقدمات» ، أي الغلط المرتبط بالإدراك الحسيّ في حالة وجود ظاهرة لا يشتبه من كيفية الإحساس» .
ويزيد ابن الهيثم الأمر توضيحاً في الغلط في اكتساب المقدمات الذي يكون في الإبصار إذا كان في المبصر معاني ظاهرة ومعاني خفية، وقد يمكن أن تظهر عند استقصاء التأمل، وإذا لم يتأمل تأملاً محققاً فإن ذلك يكون إما عن طريق السهو وضعف التمييز، وإما لأنه لا يتمكن في الحال من تأمله . إن السهو وضعف التمييز مرتبط بالإدراك الحسّي ونتيجة للغلط في القياس والغلط في اكتساب المقدمات عن طريق الإدراك الحسيّ. يؤكد ابن الهيثم على طريق الاستقراء الذي هو المنهج القويم الذي يُجنِّب العقل الوقوع في الغلط، وبالتالي يتحقق الباحث من نتائجه. وفي هذا المعنى يقول ابن الهيثم: «وإذا لم يستقرئ البصر جميع المعاني التي في المبصر، والتي يمكن أن يدركها البصر، واعتمد المعاني الظاهرة التي في المبصر وحكم بنتائجها وقطع بنتائجها فهو غالط فيما يدركه من نتائج تلك المعاني» . إن هذا الرأي فيه يقين على استعمال الاستقراء للوصول إلى نتائج يقينية وإلى الغاية التي عندها يقع اليقين.
ولجأ ابن الهيثم إلى مفهوم «السبر» وهو أحد المفاهيم الأساسية في منهجه العلمي، وأيضاً في المنهج العلمي المعاصر. والسبر هو إيراد أوصاف الأصل أي المقيس عليه وإبطال بعضها ليتعيّن الباقي للعلية، وهو حصر الأوصاف في الأصل وإلغاء بعض التعيين الباقي للمعلول .
وقد أشار ابن الهيثم لمفهوم السبر وذلك عندما اعتقد بأن «امتداد الضوء في الأجسام المشفة هو خاصة طبيعية لجميع الأضواء»، وبرهن من خلال عملية السبر على عدم صلاحية الرأي القائل بأن امتداد الضوء في الأجسام المشفة على سموت الخطوط المستقيمة هو خاصة -أي متعلق- بالأجسام المشفة فقط. وفي نظره فإنها لا تؤدي الضوء إلا على سموت الخطوط المستقيمة، وهذا المعنى يفسد -في نظر ابن الهيثم- عند عملية السبر والاعتبار
إن التحقق من نتائج المعاني الجزئية -في نظر ابن الهيثم- لا يكون إلَّا بعنصر الاستقراء وتمييز خواصها، وإن الغلط والنتائج غير اليقينية في تتبع المعاني الجزئية، إنما يكون غلطاً في مجرد الحس أو في المعرفة أو في القياس، في حين أن الاستقراء هو الوسيلة التي تؤدِّي بالباحث إلى الغاية التي عندها يقع اليقين. ويكشف لنا ابن الهيثم ذلك حين يقول: إن جميع الأغلاط في المعاني الجزئية إنما يكون غلطاً في مجرد الحس، أو غلطاً في المعرفة، أو غلطاً في القياس، أو غلطاً في مجموع هذه الثلاثة، أو غلطاً في نوعين منها باجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في المعاني الجزئية يخرج عن هذه الأقسام .
ويؤكد ابن الهيثم أن هذه الأغلاط مرتبطة فقط بالمعاني الجزئية التي تدرك بالاستقراء حيث يقول: «إن جميع الأغلاط في الأنواع الثلاثة التي ذكرناها ليس يكون إلَّا من أجل غلط البصر في المعاني الجزئية التي في صور المبصرات» .