شعار الموقع

أمراض النفس وعلاجهافي التراث الإسلامي (الغزالي أنموذجاً)

الدكتور ميلود حميدات 2010-11-12
عدد القراءات « 4373 »

* ملخص المقال
لقد اهتم الفلاسفة المسلمون بالنفس وأمراضها، وبرزوا في تشخيص أحوالها، ووصف علاجها، واشتهر منهم الكثير في ذلك. ومن الذين تميزوا بالأصالة في الموضوع والمنهج، الشيخ أبو حامد الغزالي. الذي تميزت نظرته إلى النفس عن فلاسفة اليونان، ومن تبعهم من فلاسفة الإسلام.
وقد ظهر ذلك التميز في أنه يستمد أسس فلسفته النفسية من الإسلام، ومن تجربته الذاتية في التصوف، مع العلم أن التصوف ذو علاقة وطيدة بعلم النفس، و(الغزالي) من ناحية أخرى باحث في النفس، وفي التصوف مادة نفسية غزيرة، وحيَّة تستوقف كل باحث، وتنشد اهتمام كل دارس. لقد كان لتلك التجربة النفسية العميقة أعمق الأثر في إبداع الغزالي في موضوعات النفس وتحليل عللها، وإدراك الدوافع والانفعالات، ومعرفة العواطف والانحرافات، وبالتالي تشخيص الحالات، ووصف العلاجات.
لذلك ارتأينا في هذا المقال أن نتتبع تحليل الغزالي لبعض موضوعات النفس، مثل طبيعة الانفعالات وضبطها، وأمراض النفس وأسبابها وكيفية علاجها. كل ذلك في إطار مقاربة مع النظريات الحديثة، مبرزين في كل ذلك منهج الغزالي في التحليل الذي يقترب من المناهج الحديثة، خاصة الانطلاق من سبر أغوار النفس بالتأمل والاستبطان، والاستعانة بما تثبته الوقائع من خلال الملاحظة والتجربة، عن الحالات التي خبرها وعايشها الغزالي بنفسه.
ويبدو لنا أننا في هذا القليل من الكثير الذي يتميز به الغزالي قد أثبتنا أصالة وتميز العلاج النفسي الذي قدّمه الغزالي، وسبْقه لكثير من المدارس الحديثة في طرْق موضوعات النفس وأحوالها، وأمراضها.
* ماهية أمراض النفس عند الغزالي
يعتبر أبو حامد الغزالي (450 - 505ه/ 1056 - 1111م) من أبرز مفكري الإسلام الذين أولوا أهمية بالغة للنفس البشرية، من جميع جوانبها، حيث وقف على الكثير من الآليات التي تحكمها، كما شخّص العديد من عللها وأمراضها، واجتهد في وصف علاجاتها. كما يمكن الوقوف على آراء كثيرة سبق (الغزالي) من خلالها المدارس النفسية المعاصرة، لعلّ من أبرزها ما جاءت به مدرسة التحليل النفسي، بزعامة مؤسسها (سيغموند فرويد Sigmund Freud 1856 - 1939م).
ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن للغزالي ملامح نظرية في تحليل النفس، تستمد أصولها من الإسلام، وسنتطرق إلى أهم معالم هذه النظرية في نظرة الغزالي إلى النفس، وإلى الغريزة والانفعالات، وتأثيرهما على النشاط النفسي، وأمراض النفس وأسبابها ثم كيفية علاجها، ومنه تكتمل الصورة لدينا لما قدمه الغزالي من آراء سبق بها عصره. وهذا ما نحاول تسليط بعض الضوء عليه في مقالنا هذا.
يتكلم الغزالي عن أمراض النفس التي يطلق عليها أمراض القلب، وذلك لأنه يعطي للنفس والقلب والروح نفس المعنى أحيانا، وتنشأ هذه الأمراض عادة من اختلال التوازن بين أقسام النفس البشرية، وغلبة طرف على الأطراف الأخرى من جهة، وعدم قدرة العقل على التحكم والسيطرة من جهة أخرى، فنصبح أمام حالات من انحراف السلوك، وطاعة الرغبات والشهوات، التي تسيطر على صاحبها، فَتُسيّره.
لقد تكلم (الغزالي) عن أمراض النفس التي لم يتطرق إليها علم النفس، وإن فعل ذلك فلم يحدد تلك الأمراض بالضبط، أو اعتبرها لم تصل إلى درجة الشدة التي تتطلب علاجاً، إلَّا أن ذلك نعتبره سبقاً علميًّا للغزالي في تناول تلك الأمراض ووصف العلاج لها، وإن استفاد الغزالي كما هو واضح من الدين في كشف واستخراج تلك الأمراض، إلا أننا نحسب له السبق في قدرته على تحديدها وضبطها ووصفها وتبيين أسبابها ثم العمل على وصف علاجها، ويتضح هنا منهج دراسة حالة في التعامل مع هذه الأمراض، ولذلك يحسب للغزالي الإبداع في الموضوع وفي اكتشاف المنهج معاً، وللتدليل على ذلك نذكر بعض هذه الأمراض(التكبر، الغرور، الحسد، الكذب، البخل، الرياء، إلخ) كما نمثل ببعض النماذج لتعامله مع تلك الأمراض لإثبات ما ذكرناه.
* أسباب الأمراض النفسية
لعلّ من المُسلَّم به أن الأسباب الأساسية في الأمراض النفسية، أو أمراض القلوب كما يسميها الغزالي هو الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، بين العقل والغريزة، بين الرغبة في الإشباع وطلب اللذة، وبين الاستقامة والرضا. وفي الوقت نفسه الشعور بالندم والإحساس بالذنب في حالة طاعة مطالب الجسد، وعصيان أوامر العقل، ومنه ينتج القلق والتوتر، والغضب والعدوان، والخوف والانتقام، وسرعان ما يضطرب السلوك بظهور تلك الانفعالات، ومع تكرارها تسيطر على النفس وتصبح عادة تدفع إلى سلوكات أخرى أكثر تأثيراً في النفس.
كما يُرجِع الغزالي انتشار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان إلى ثلاثة أسباب وهي:
1- لا يدري المريض أنه مريض.
2- أن أعراضه وعاقبته غير مشاهدة في هذا العالم، بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهد وعاقبته الذنوب وموت القلب، وهو غير مشاهد.
3- فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا.. وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم .
انفعال الغضب وعلاجه كمثال
تحليل النفس وعلاج الرذائل والأمراض النفسية التي يتكلم عنها الغزالي فيها كثير من العمق، والسبق، والمنهج التأملي والإقناع في العلاج النفسي، إذ ينطلق مثلاً من تقديم قاعدة العلاج وهي معرفة أسباب المشكل أو المرض، ويتم بعد ذلك مواجهة الأعراض بأضدادها، «قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها، وإزالة أسبابها فلابد من إزالة هذه الأسباب» .
فمثلاً بالنسبة للغضب، يقدم الغزالي وصفاً دقيقاً، لا يقل دقة وتحليلاً عمًّا قاله أصحاب المدرسة الفيزيولوجية، في وصفهم للمظاهر الجسمية، كما يوضح في تحليله العلاقة الوثيقة بين الجسد والنفس في حدوث الانفعالات، مبرزاً أن الجسد مرآة وصورة لما يحدث في الداخل من تغيرات، إذ يقول في ذلك: «من آثار الغضب في الظاهر تغير اللّون وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام، واضطراب الحركة حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته، واستحالة خلقته، وقبح باطنه، أعظم من قبح ظاهره، فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً، ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن، فقس الثمرة بالمثمرة، فهذا أثره في الجسد.» .
بعد هذا الوصف الدقيق للمظاهر الجسمية، وعلاقة ذلك بما يحدث في النفس، يواصل (الغزالي) تحليل نتائج الانفعال والأفعال التي تصاحبه، وما يمكن أن يصاحب الغضب الشديد من انحراف في السلوك، حيث يقول: «أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام، الذي يستحي منه ذو عقل، ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم، واضطراب اللّفظ. وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم، والتمزيق والقتل، والجرح عند التمكن، من غير مبالاة. فإن هرب منه المغضوب عليه بسبب أو عجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويلطم نفسه. وقد يضرب بيده على الأرض، ويعدو عدو الواله السكران، والمدهوش المتحير. وربما يسقط (سريعاً)، لا يطيق العدو والنهوض، بسبب شدة الغضب، ويعتريه مثل الغشية. وربما يضرب الجمادات والحيوانات، فيضرب القصعة مثلاً على الأرض، وقد يكسر المائدة، إذا غضب عليها. ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها. ويقول على متى منك هذا يا كيت وكيت، وكأنه يخاطب عاقلاً، حتى ربما رفسته دابة، فيرفس الدابة، ويقابلها بذلك. وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد، والحسد وإضمار السوء، والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور، وهتك الستر والاستهزاء، وغير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط» .
بعد هذا الوصف العلمي الدقيق الذي يبرز لنا ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف في هذا الانفعال من عدوانية وعنف، وإلحاق الأذى بالذات وبالغير، وغيابٍ للإرادة والعقل، ولذلك يأتي دور الحلول، والعلاج ليتحكم الإنسان في الغضب كانفعال، وقس على ذلك في كل الانفعالات والعواطف الأخرى. وبداية يرى الغزالي ضرورة أن يسعى الإنسان إلى الوسطية والاعتدال في كل أفعاله النفسية، فمثلاً في الغضب «خير الأمور أوساطها فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس، في احتمال الذل والضيم في غير محله، فينبغي أن يعالج نفسه، حتى يقوى غضبه [قد نفهم من ذلك حتى يحفظ بقاءه، وهيبته واحترامه]، ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور، واقتحام الفواحش، فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين» .
أما في حالات اشتداد الغضب فيقدم الغزالي علاجاً لذلك، مُذكِّرا ًدائماً بأن الوقاية خير من العلاج، أي يتوقي الغضب من الأول بتربية النفس من البداية على الاعتدال، والصبر، والحلم، «حتى لا يهيج، فإذا جرى سبب هياجه، فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم. وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل» .
ولا يخرج هذا عن العلاج المعرفي والعلاج السلوكي كما يُعرف حديثاً، وسيثبت ذلك بعد التحليل.
أما العلم فهو ستة أمور:
- أن يتفكر في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم، والاحتمال فيرغب في ثوابه.
- تخويف نفسه من عقاب الله إذا ظلم غيره، فإن كان أقوى من خصمه فالله أقوى منه.
- الحذر وتخويف النفس من عواقب الغضب عليه في الدنيا.
- أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب، وتشبيه الغاضب بالحيوان الضاري.
- أن يتفكر في السبب الذي يحمله على الغضب والانتقام.
- يعلم أن غضب الله عليه أعظم من غضبه، فيغلّب مراد الله لا مراده.
وأما العمل فهو:
- التعوذ من الشيطان، والاستغفار من الله، والدعاء.
- الجلوس إن كان الشخص واقفاً، والاضطجاع إن كان جالساً.
- التوضؤ بالماء، أو الاغتسال لإطفاء نار الغضب .
نستنتج من هذا أن الغزالي يبني العلاج النفسي على أمرين، الأول نظري (العلم كما يسميه)، والثاني تطبيقي (عملي)، وهذا الكلام لا يختلف كثيراً عمَّا يُطرح حديثاً، من استخدام للعلاج المعرفي المبني على الاقتناع، والوعي والمعرفة بالمرض، ثم الإرادة والتصميم على التخلص منه. وبعدها يأتي العلاج العملي أو السلوكي مكملاً لذلك، متمثلاً في الجهد الإرادي للعمل على التخلص من المرض، بالممارسة، والجهد الذاتي المبذول.
وهو سبق معرفي ومنهجي يحسب للغزالي دون شك. ويمكن تطبيق هذا العلاج عن طريق جهد ذاتي داخلي. يقوم به الشخص نفسه. ويمكن الاستعانة بجهد خارجي، يقوم به معالج أو مرشد، خبير بداء القلوب، أو النفوس كما يقول الغزالي.
* أساليب علاج أمراض النفس عند الغزالي
1- العبادات
العبادات في الإسلام ليست طقوساً مبهمة مُغرِقة في الرمزية، لا غاية دنيوية لها، وإنما هي أعمال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصحة النفسية والجسدية للفرد من جهة، ولها علاقة وثيقة باستقرار المجتمع أخلاقيًّا واجتماعيًّا. لهذا أدرك الغزالي مثل غيره من فلاسفة الإسلام، أن العبادات لها وظيفة كبيرة في علاج المشاكل والانحرافات لدى الفرد والمجتمع. فتأمل ما تحققه الصلاة من طمأنينة، وشعور بالأمن والاستقرار النفسي، زيادة على ما فيها من نظافة للنفس والجسد، وما يحققه الصيام من صحة للجسد، زيادة على ما تؤدي إليه الزكاة من تعاون وتكافل اجتماعي. ومع تكافل هذه العبادات وما تدعو إليه من معاملات بين الأفراد يكون السعي نحو مجتمع فاضل، عادل تنتفي فيه، أو تقل الآفات الاجتماعية، لأن صلاح الأفراد من صلاح المجتمع. والمتأمل لكثير من الآيات والأحاديث يتأكد من ذلك، حيث يقول تعالى: ?وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ? .
?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا? .
وقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «من لم يدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدَع طعامه وشرابه» .
ولو تتبعنا نموذجاً يقدمه الغزالي للعبادات، نتبيّن منه التحليل النفسي الدقيق للنفس البشرية الذي يقدمه الغزالي، ونظرته إلى العبادة على أنها أساس تحقيق الاتصال بالله، لتصل النفس إلى التوازن والاستقرار النفسي والطمأنينة. إذ يرى مثلاً أن روح الصلاة في حضور القلب، أما «إذا كان القلب غافلاً.. ولسانه يتحرك بحكم العادة، فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل، ورسوخ عقد الإيمان» .
ومع معرفة الغزالي للطبيعة البشرية فهو يدرك أن الخشوع التام يبدو مستحيلاً، إذ لا يمكن التخلص من مشاغل الدنيا، وأهواء النفس، إلا أن الغزالي يجتهد في فهم أغوار النفس البشرية ليحدد الأسباب التي تشغل النفس عن الخشوع، ملتزماً بمنهجه العلمي يُبيّن لنا في الوقت نفسه الدواء وكيفية علاج شرود الذهن، ودفع المثيرات، وهنا تبرز عبقرية الغزالي في تحليل النفس، إذ يقول: «وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمراً خارجاً، أو أمراً في ذاته باطناً. أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإن ذلك قد يختطف الهَم (أي الفكر) حتى يتبعه ويتصرف فيه، تنجر الفكرة إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سبباً للافتكار، ثم يصير بعض تلك الأفكار سبباً للبعض، ومن قويت نيته، وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه، ولكن الضعيف فلابد وأن يتفرق به فكره» .
وفي هذا التحليل والوصف يحدد (الغزالي) طبيعة العوامل الذاتية والموضوعية التي تؤثر في المصلي وحواسه، فتشغله عن الخشوع، وتشتت انتباهه البصري والسمعي. ولا يكتفي بعرض المثيرات المختلفة بل يصف أيضاً الحلول، «وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره، أو يصلي في بيت مظلم، ولا يترك بين يديه ما يشغل حسه، ويقرب من حائط عند صلاته، حتى لا تتسع مسافة بصره. ويحترز من الصلاة على الشوارع، وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة. وأما الأسباب الباطنة فهي أشد، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم، بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة، وموقف المناجاة، وخطر المقام بين يدي الله سبحانه، وهو المطلع، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمّه، فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره» .
وكما لاحظنا يقترح الحلول لإبعاد تأثير المثيرات الخارجية، ثم تحرير النفس من الخواطر الداخلية، لتحقيق التركيز وحضور القلب في الصلاة، ويبرز في تحليله إدراك جيد للعوامل المختلفة التي تؤثر في النفس البشرية.
2- الاعتدال والتوازن
وقد تنبَّه الغزالي وغيره من فلاسفة الإسلام، كابن سينا وغيره إلى ذلك، حيث يقول الغزالي: «إن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس والميل عن الاعتدال سقم ومرض...وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً، وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم» .
ويؤكد الغزالي على مبدأ الاعتدال والتوازن على المستويين الجسمي والنفسي، فإذا كنا لاحظنا ذلك سابقاً على الجسم، فهو يرى أيضاً ضرورة التوازن والاعتدال بين قوى النفس، وذلك بتحكيم العقل، كما أنه لا يؤمن بقمع ومحو الغريزة والانفعالات، والعاطفة، وإنما يعتبرها جزءاً ضروريًّا من الإنسان، وإنما يجب تنظيم ذلك النشاط النفسي «فإذ رأيت واحداً منهم قد عصى عليك مثل الشهوة والغضب، فعليك بالمجاهدة ولا تقصد قتلهما، لأن المملكة لا تستقر، إلا بهما فإذا فعلت ذلك كنت سعيداً، وأديت حق النعمة... وإلا كنت شقيًّا» .
كما أن الاعتدال والرجوع إلى الوسطية مهم في حدوث الشفاء والتوازن للنفس، في مواجهة الحالات النفسية كالخوف المفرط، واليأس والقنوط وبالتالي الاكتئاب، ويكون التعامل -حسب الغزالي- بحسب الحالة، إذ «الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية، وكلّف نفسه ما لا يطيق، وضيّق العيش على نفسه بالكلية، فتكسر سورة إسرافه في الخوف، بذكر أسباب الرجاء، ليعود إلى الاعتدال، وكذلك المُصر على الذنوب المشتهي للتوبة، الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه» .
ويظهر هنا جليًّا أسلوب العلاج المبني على الإرشاد والإقناع، واستعادة الثقة إلى المريض حتى يسترجع توازنه النفسي، وبالتالي يحدث العلاج، وهو الأسلوب نفسه المعتمد في المدارس الحديثة.
3- تربية الغرائز والتحكم فيها
ويؤكد أن الانفعالات والعواطف جزء من الحياة النفسية، إذ لا يمكن إزالتها بالكلية وإنما تربيتها والتحكم فيها، إذ يقول: «اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية، وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد، وظن آخرون أنّه أصل لا يقبل العلاج، وهذا رأي من يظن أن الخُلق كالخَلق، وكلاهما لا يقبل التغيير، وكلا الرأيين ضعيف، بل الحق فيه ما نذكره، وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب، وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر، فلا بد من أن يحب ما يوافقه، ويكره ما يخالفه، والغضب يتبع ذلك» .
ولما كانت تلك الانفعالات جزءاً حيًّا من الإنسان، فما عليه إلا أن يتحكم فيها ويوجهها توجيهاً صحيحاً ما دام مستحيلاً محوها بالكلية كما يقول الغزالي: «فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب. ولكن لكي يقدر على ألَّا يطيع الغضب، ولا يستعمله في الظاهر، إلا على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل. وذلك ممكن بالمجاهدة، وتكلّف الحلم، والاحتمال مدة يصير الحلم والاحتمال خُلقاً راسخاً. فأما قمع أصل الغيظ من القلب، فذلك ليس مقتضى الطبع، وهو غير ممكن، نعم يمكن كسر سورته، وتضعيفه» .
«وكذلك الشهوة والغضب ينبغي أن يكونا تحت يد العقل، فلا يفعلا شيئاً إلَّا بأمره، فإن فعل ذلك صح له حسن الخلق، وهي صفات الملائكة، وهي بذر السعادة» .
4- العلاج العملي عند الغزالي
ويكمن في وجهين متكاملين، ترك وفعل، أي تجنب الرذائل، والتخلي عنها، واكتساب الفضائل والتحلي بها.
العلاج بترك الرذائل: وسماها الغزالي المهلكات، وهي الحسد والكذب، والرياء والتكبر، وغيرها من الموبقات.
العلاج باكتساب الفضائل: وهي كثيرة وتشكل أساس العلاج عند الغزالي وقد أفرد لها الغزالي فصولاً في الإحياء، سماه ربع المنجيات ويتمثل في التزام الصبر والعفة والصدق، والأمانة، وغيرها من الفضائل.
إذ يستخدم مع الجميع طريق الوعظ والإرشاد، لترك الرذائل واكتساب الفضائل، لكن يكون ذلك حسب حالة كل شخص، أي بالموازنة بين الرجاء والخوف، «أما الذي غلب عليه الخوف، حتى هجر الدنيا بالكلية، وكلَّف نفسه ما لا تطيق، وضيّق العيش على نفسه بالكلية، فتكسر سورة إسرافه في الخوف، بذكر أسباب الرجاء، ليعود إلى الاعتدال، كذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة، الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس، استعظاماً لذنوبه التي سبقت، يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب» .
5- توازن الشخصية عند الغزالي
يستخدم (الغزالي) مصطلحاً مهمًّا للدلالة على حصول التوازن النفسي، وتوافق الشخصية مع محيطها، وهو مصطلح الرضا، الذي صار مستخدماً أيضاً في علم النفس الحديث.
إذ الرضا عند (الغزالي) هو ثمرة المحبة، أي محبة العبد لخالقه، وطاعته له، ويتصور الرضا من وجهين:
الوجه الأول: يبطل الإحساس بالألم، فلا يحس الشخص بالألم، ويتقبل الإنسان الأفعال رغم ضررها ويتزود بالصبر، مثاله الرجل المحارب في الغضب أو الخوف يتعرض للجراح ولا يحس بالألم .
الوجه الثاني: «أن يحس الألم ويدركه، ولكن يكون راضياً به، راغباً فيه بعقله، وإن كان كارهاً بطبعه، مثله من يسافر في طلب الربح، يدرك مشقة السفر، ولكن حبه لثمرة سفره طيّب عنده مشقة السفر، وجعله راضياً بها مهما أصابه» .
والرضا عند الغزالي هو الحالة التي يتم فيه التغلب على الشهوات والغرائز، بعد صراع بين باعث الهوى وباعث الأخلاق. وتحلي الإنسان في هذه المرحلة بالصبر والمواظبة على رياضة النفس على تجنب الرذائل، وبالتالي تتحقق حرية الإنسان وقيادته لنفسه، وذلك حين «يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين... إذ به يصير صاحبه حرًّا» .
أما إذا حدث العكس ولم يفلح في التحكم في نفسه، واستولت عليه غرائزه. فإنه «يصير عبداً... مسخراً مثل البهيمة، مملوكاً يستجره زمام الشهوة، آخذاً بمختنقه إلى حيث يريد ويهوى» .
فالغزالي أدرك منذ ذلك الوقت منهج العلاج المتكامل المبني على الجمع بين العلاج الذاتي الذي يقوم به الفرد نفسه، والعلاج الموضوعي الذي يقوم به ملاحظ خارجي، كالمعلم أو المرشد، حيث يقول مثلاً: «الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل، والجميل والقبيح. بل بقي كما فُطر عليه خاليًّا عن جميع الاعتقادات... فهذا سريع القبول للعلاج جدًّا، فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد، وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة، فيُحسّن خُلقه في أقرب في أقرب زمان» .
* الخلاصة
يمكننا أن نقول دون وجل: إن الغزالي هو مؤسس علم النفس الإسلامي، وأنه سبق غيره في تأسيس هذا العلم موضوعاً ومنهجاً، وقد بنينا هذا الحكم على الأدلة التي سقناها من مصادره الأصلية، وقد أخذنا قليلاً من كثير تميّز به الغزالي في موضوعات النفس. والتي بدا لنا أنها جديرة بدراسة أكثر عمقاً وتوسعاً لأصالتها. كما يبرز من خلال النماذج المختصرة التي قدمناها، أن الغزالي قد أدرك كثيراً من مشكلات النفس وأمراضها، ووصفها بطريقة موضوعية، تدل على اعتماده الملاحظة، واستفادته من التجربة، وتمكّنه من المنهج.
إضافة إلى أن الغزالي تنبّه إلى دور العامل الروحي في نجاح العلاج النفسي، دون أن يغفل ما للعوامل النفسية، والجسدية والاجتماعية من تأثير. مع إشاراته العلمية الدقيقة التي نراه سبق بها كثيراً من علماء النفس والتربية المعاصرين، رغم اختلاف الزمان والظروف والإمكانات بين عصرنا وعصره.
ولا نكون مبالغين إن قلنا: إن الغزالي رائد من الرواد الأوائل في علم النفس والتربية. ولعلّ البحوث العلمية الجادة ستكشف ما في تراثنا من سبْق وأصالة وتميز. وذلك لإنصاف هذا التراث الثري الذي عانى كثيراً من الإجحاف في الأوساط العلمية الغربية.