في التنمية السياسية لمصطفى محسن
محمد المصطفى الإدريسي
2010-11-12
*
**
«إن النظام المجتمعي العربي عامة، والمغربي القائم، يعاني من غياب مشروع تاريخي عقلاني، مشروع موحد الرؤية، واضح الأهداف، بارز المعالم والاستراتيجيات الكفيلة بالمساهمة في تحقيق الأهداف المنتظرة منه».
مصطفى محسن - «المعرفة والمؤسسة»
* تمهيد
إذا كان يحق لفرنسا أن تعتد وتفتخر بمفكريها وعلمائها، ولاسيما علماء السوسيولوجيا من أمثال آلان توران، وبيير بورديو، وآخرين... فإنه من حق المغرب والمغاربة أن يعتدوا ويفتخروا بمفكريهم وعلمائهم على قلتهم، لاسيما علماء السوسيولوجيا، من أمثال محمد جسوس، وعبد الصمد الديالمي، وفاطمة المرنيسي ومصطفى محسن، الذي سنخصص له هذه المقالة، وهي عبارة عن قراءة في آخر إصدار له موسوم بعنوان: «في التنمية السياسية» .
فمن هو عالم الاجتماع مصطفى محسن؟ وفيما يتلخص مشروعه الفكري والسوسيولوجي؟ وما هي مكونات وعناصر هذا المشروع؟ وما هي القيمة المضافة التي يضيفها آخر إصداراته لمشروعه الفكري ولمشروعه النقدي السوسيولوجي الآنف؟
تلك بعض الأسئلة/ التساؤلات التي ستوجه هذه المقالة/ القراءة معرفيًّا ومنهجيًّا، والتي (القراءة) نتوخى منها تقديم الباحث المؤلف، وبالتالي التعريف بمشروعه الفكري/ السوسيولوجي للقراء المغاربة، وكذا القراء العرب في كل مكان من هذا الوطن الشاسع الأطراف.
I- من هو إذن مصطفى محسن؟
يعتبر الأستاذ محسن من المفكرين القلائل الذين تتنوع مجالات اهتماماتهم، وتعدد حقول تأملاتهم وتختلف فضاءات إبداعاتهم...
إنه، أولاً وقبل كل شيء، عالم سوسيولوجي، وصاحب مشروع فكري نقدي، يطلق عليه: «المشروع السوسيولوجي النقدي الحواري المنفتح والمتعدد الأبعاد». وبالموازاة مع ذلك يمكن القول: إن الأستاذ مصطفى محسن يمارس التأمل/ التفكير الفلسفي باعتباره يساهم جديًّا في نحت وبناء وإعادة سبك مجموعة من المفاهيم الفلسفية والسوسيولوجية التي يعتمدها في خطاباته وأطروحاته وكتاباته... إلخ.
كما أنه أيضاً يمارس التفكير/ التأمل الفلسفي المتجلي في تلك الخلفية الإبستمولوجية الثاوية خلف مشروعه الفكري/النقدي، على اعتبار أن الإبستمولوجيا في نهاية التحديد، وحسب أندريه لالاند هي الدراسة النقدية لمبادئ وفروض ونتائج مختلف العلوم...
كذلك، لا ننسى أن نُذكِّر بأن الأستاذ محسن مارس تدريس الفلسفة لسنوات عديدة، كما مارس التأليف والكتابة حول مادة الفلسفة وتدريسها وإكراهات هذه المادة وهذا التدريس في مؤلفين، سنعود إلى الحديث عنهما في موضع آخر من هذه القراءة/ الورقة.
كذلك، لمن لا يعرف المؤلف، فهو كاتب وباحث أصدر العديد من المقالات والبحوث والدراسات والكتب/ المؤلفات في العديد من الميادين المعرفية وفي العديد من المجلات والصحف الوطنية والعربية، ذات القيمة العلمية الرفيعة،كما عمل على إصدار مجموعة كبيرة من المؤلفات الفردية والجماعية: ( 25 مؤلفاً/كتاباً) سنعود إلى ذكرها...
كما لا يفوتنا أن نذكر أن صاحبنا شاعر، له ديوان شعر -صدر له مؤخراً-، وهو شاعر غنائي له عدة قصائد في هذا اللون من الإبداع تعود في مجملها إلى فترتي الستينات والسبعينات...
وقليلون من معارفه وأصدقائه من يعرف أن مصطفى محسن عازف على آلة العود، وما أدراك ما آلة العود، بقوة حضورها في قلب الموسيقى العربية...
إنه، باختصار، أحد الأسماء العلمية والفكرية المعروفة في الساحتين العربية والمغربية، في ميادين البحث بصفة عامة، والبحث السوسيولوجي والفكر التربوي إنتاجاً وحضوراً ثقافيًّا. وذلك انطلاقاً من مشروعه الفكري/ مشروع النقد السوسيولوجي المتعدد الأبعاد الذي يجعله خلفية موجهة لأعماله الفكرية ومؤلفاته الفردية والجماعية ودراساته التربوية والسوسيولوجية التأسيسية وكتاباته الإبداعية...
فمن بين أهم مؤلفاته:
المعرفة والمؤسسة، في المسألة التربوية، الخطاب الإصلاحي التربوي، التعريب والتنمية، قضية المرأة، أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب، التربية وتحولات عصر العولمة، نحن والتنوير، تجليات من ذاكرة عشق للوطن والشوق، (ديوان شعر)، وأخيراً «في التنمية السياسية» مقدمات في سوسيولوجيا الإصلاح والتحديث والتحول الديمقراطي في المغرب المعاصر . والذي نريد أن نخصه بهذه القراءة التقديمية المتواضعة... باعتباره آخر إصدار للمؤلف من جهة، وذلك باعتباره إضافة نوعية في مشروعه الفكري السوسيولوجي. هذا مع التذكير بأن له أيضاً أعمالاً جماعية أخرى، وأعمالاً فردية جديدة في طريقها إلى النشر والصدور.
إنه باختصار ذلك الباحث المتعدد الأبعاد والاهتمامات.
II- المشروع الفكري السوسيولوجي النقدي للأستاذ مصطفى محسن
إن ما يميز الأستاذ محسن في كتاباته وأبحاثه الفكرية/ السوسيولوجية أنه لا يعزل الفكر/ السوسيولوجيا عن التاريخ، وأن التاريخ بالنسبة إليه هو المعمل الحقيقي للمشتغل بدراسة المجتمع...
إنه يعطي للسوسيولوجيا بعداً تاريخيًّا،كما يعطي للتاريخ بعداً سوسيولوجيًّا...
هذا ما يقوم به ويعمل عليه الأستاذ محسن؛ لأن نظرته إلى السوسيولوجيا وإلى التاريخ، وبالتالي نظرته إلى المجتمع نظرة أكثر ملاءمة وأكثر إجرائية بالنسبة لمقاربة قضايا الثقافة والتربية والاجتماع...
أيضاً، إن ما يميز صاحبنا هو أنه يرفض أن تقتصر مهمة السوسيولوجي والسوسيولوجيا على الوصف والتفسير فقط، بل يحاول ويسعى إلى أن تكون مهمة السوسيولوجي/ السوسيولوجيا فهم وتحليل وتفكيك الظواهر الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية؛ لأن ذلك أمر جوهري بالنسبة إليه... وبذلك يصرح، في غير ما مرة، بنظرته إلى السوسيولوجيا بوصفها مشروعاً عقلانيًّا نقديًّا منفتحاً متعدد الأبعاد... تلك النظرة التي تتأسس وتنبني على ما يلي:
- الإفادة والاستفادة من التجارب السوسيولوجية على امتداد التاريخ.
- التعلم من التجارب السوسيولوجية للآخرين.
- النظر إلى الآفاق المستقبلية للموضوع المراد دراسته وبحثه والتعاطي مع مفرداته ومكوناته...
إنه في نهاية التحليل، مشروع فكري سوسيولوجي نقدي يقوم على الرصد العلمي للواقع والتحليل العلمي الرصين في إنجاز مهام السوسيولوجيا كعلم وكنظرية وأيضاً كممارسة نقدية...
هكذا -إذن- يكون الأستاذ مصطفى محسن، ببصيرته الناقدة وفكره السوسيولوجي النقدي الثاقب، قد لفت الانتباه إلى قضايا فكرية و سوسيولوجية متعددة -انظر لائحة مؤلفاته وكتبه واهتماماته، في موضع آخر من هذه الورقة/ القراءة- ووضع أيدينا على المعنى الملموس لهذه القضايا، كاشفاً لطبيعة البنية/ البنيات السوسيولوجية في المجتمع، ولآليات تفاعلها وانشغالها...
III- عن المنهج السوسيولوجي النقدي المنفتح الحواري والمتعدد الأبعاد
ضمن نطاق هذا المسلك التعريفي بأعمال ومشروع عالم الاجتماع الأستاذ مصطفى محسن، ومن خلال تعرفنا على مجمل مـا يحتويه مشروعه الفكري/ السوسيولوجي، سنحاول في هذه الورقة/ القراءة، التعريف بأهم مكونات المنظور النقدي المتعدد الأبعاد، الموظف في مجمل دراساته، وبالتالي في مشروعه السوسيولوجي النقدي، الذي يعد في تقديري، مشروعاً علميًّا تبناه الأستاذ محسن ضمن مقاربته السوسيولوجية النقدية للأنساق السوسيو-ثقافية والسوسيو-تربوية القائمة في مجتمعنا مغربيًّا وعربيًّا، حيث غدا لحضوره مكانة علمية وفكرية وازنة ومتميزة... وبذلك أصبح معلوماً.
إن المفكر وعالم السوسيولوجيا مصطفى محسن قد غدا من أبرز الدارسين والباحثين السوسيولوجيين والتربويين المغاربة والعرب الذين يكرسون حياتهم العلمية والفكرية للبحث العلمي التربوي والثقافي والسوسيولوجي. في هذا السياق، وضمن محاولة تسطير مجموعة من الأهداف من هذه الورقة/ القراءة، هدف إبراز منهجه النقدي المتعدد الأبعاد... حيث ينطلق مصطفى محسن -في هذا الإطار- من مجموعة من المحاور الاستراتيجية التي ميزت أبحاثه وتحليلاته السوسيولوجية... تشير إلى أهم مكونات هذا النقد:
أولاً: نقد الذات في كافة أبعادها المعرفية، والسوسيوتاريخية والحضارية؛ وذلك من موقع الحس النقدي للذات في لحظتها التاريخية المعيشة، وامتداداتها الماضوية وللآخر في علاقته العمودية أو الأفقية مع الذات في أبعادها المختلفة، ومع اللحظة التاريخية في مكوناتها المعرفية والثقافية... وكمثال على ذلك ما ورد في كتابه: «المعرفة والمؤسسة» حيث يقول: «إن النظام المجتمعي -العربي عامة، والمغربي القائم- يعاني من غياب مشروع تاريخي عقلاني، مشروع موحد الرؤية، واضح الأهداف، بارز المعالم والاستراتيجيات الكفيلة بالمساهمة في تحقيق الأهداف المنتظرة منه...» وضمن السياق نفسه، وفي كتابه: «في المسألة التربوية» وفي إطار تصوره السوسيولوجي النقدي الذي يعتمده في تحليل بنية النظام المغربي يؤكد على الوعي بكون المجتمع المغربي ما يزال دون بلوغ مستوى إرساء مشروع مجتمعي وثقافي متماسك في أهدافه ومكوناته وتوجهاته الفكرية والسياسية والحضارية...
ثانياً: نقد الآخر في كافة أبعاده: المعرفية/ السوسيوتاريخية/ الحضارية. في هذا الإطار يمكن القول: إن الأستاذ محسن دخل عبر انشغالاته السوسيولوجية النقدية، غمار البحث عن إجابات حول أسئلة/ تساؤلات محددة، محتكماً لمجموعة من الإكراهات التي تعوق كياننا الاجتماعي:
1) الإكراهات الاقتصادية والسياسية المحلية والكونية، التي توثر في تنمية الموارد البشرية، وعلى المسارات التحديثية والتنموية بشكل عام.
2) إكراهات العولمة وآثارها السياسية والثقافية والتربوية في هذه المسارات والرهانات.
3) إكراهات الزحف المعلوماتي والإعلامي، وانعكاساته المباشرة وغير المباشرة على تصورات وتمثلات الأفراد والجماعات للذات والآخر وللمعرفة والتاريخ وأنساق القيم المتحولة...
4) إكراهات التبعية، على المستوى السياسي والاقتصادي وعلى مستوى التجارب الإصلاحية عامة...
هذه الإكراهات/ العوائق التي تقف حاجزاً أمام عملية التقدم والتطور المنشود والمطلوب، سياسيًّا وثقافيًّا وتربويًّا وحضاريًّا...
وبناء على هذا يمكن القول -ومنذ البداية-: إن ما يميز تحليلات مصطفى محسن السوسيولوجية النقدية عامة، ومقاربته ومنهجيته خاصة، كونه لا يكتفي بالتشخيص وإصدار الأحكام، وإنما يحاول -قدر الإمكان وبمنهج تحفظي مرن- أن يقدم مقاربة منهجية وتحليلاً سوسيولوجيًّا ذا بعد اقتراحي يتضمن مجموعة من الاقتراحات والبدائل التي لا يعتبرها نهائية، وإنما تبقى في تصوره قابلة للتعديل والتوظيف المحكم.
في هذا السياق كذلك، لابد من الإشارة إلى أن هذا المشروع السوسيولوجي النقدي المتعدد الأبعاد يتميز بخصائص منهجية نذكر منها:
- تأصيله المنهجي والتحليلي المعتمد كاختيار في معالجة الظواهر والمسائل الاجتماعية.
- الاحتراس العلمي في إصدار الأحكام المتسرعة أو المواقف الوثوقية الضيقة...إلخ.
- الحذر المنهجي في تناول المشكلات الاجتماعية، والوعي الموضوعي بخلفياتها السياسية والفلسفية والسوسيوثقافية... المتعددة والمتباينة حسب معطيات الزمان والمكان، والفضاءات السسيو-حضارية المختلفة .
تلكم، في تقديرنا المتواضع، أهم السمات التي ينفرد بها التصور الفلسفي السوسيولوجي النقدي، الذي يتخذه المفكر وعالم الاجتماع الأستاذ مصطفى محسن كخلفية نظرية وكمقدمات منهجية وكمشروع فكري/ معرفي/ إستيمولوجي وسوسيولوجي/ حضاري متعدد الأبعاد والمكونات... في هذا الإطار يقول الأستاذ محسن في كتابه «المعرفة والمؤسسة»: «إن النقد المتعدد الأبعاد ليس هنا سوى أفق فكري للاستلهام؛ قد تسهم هذه الدراسة -والدراسات الأخرى المتتالية- في التعبير عن بعض توجهاته دون أن تستنفده أو تشكل نموذجاً مثاليًّا له. ذلك أن هذا النقد، هو بمثابة رؤية تكاملية يتسم بالانفتاح، ويكونه صيرورة متواصلة فكرية، ومشروعاً يظل على الدوام قابلاً للإغناء والاكتمال والتكامل مع غيره من التوجهات النقدية الأخرى. لذا فإن البلورة العلمية لهذا «المشروع النقدي» لا يمكن تحقيقها عبر دراسة نظرية، وتطبيقية جاهزة، بل يجب أن يفهم هذا المشروع في إطار الرؤية الفكرية التي تنتظم كل محاولاتنا المتواضعة في الحقل السوسيولوجي والتربوي العام» .
إن ما يمكن استخلاصه من هذه القراءة التقديمية/ التوضيحية لمشروع الأستاذ محسن النظري/ الفكري من جهة والمنهجي من جهة ثانية هو:
أ- إن هناك علاقة جدلية/ تفاعلية وتكاملية ما بين مجالات وحقول الاشتغال عنده: ( التربية - التنمية - الشغل - الشباب - المرأة - المواطنة... والسياسة)، من جهة، ومن جهة ثانية: (نقد الذات، الآخر، اللحظة الحضارية... ) كاستراتيجية عمل تتسم بسمة المرونة المحكمة لجدلية التفعيل لمختلف المكونات والامتدادات التي ترتبط بالقضايا الفكرية والسوسيو-حضارية موضوع النظر والمقاربة.
ب- إنها علاقة جدلية على مستوى المحاور والأبعاد المشكلة للمنظور النقدي المتعدد الأبعاد... وأيضاً هناك حضور لأفق نقدي منهجي كهمٍّ فكري موجه في كل الأعمال التي أنتجها الأستاذ محسن خلال مساره الفكري التاريخي، بحيث يمكن رصد هذا الأفق النقدي المتعدد الأبعاد من الناحية المنهجية في أعماله: (في المسألة التربوية/ في المعرفة والمؤسسة/ في الخطاب الإصلاحي التربوي بالمغرب/ في أسئلة التحديث في الخطاب التربوي/ في التعريب والتنمية/ في قضية المرأة/ نحن والتنوير/ التربية وتحولات عصر العولمة...» .
كما يمكننا أن نبرز أهم المقاربات المنهجية التي وظفها داخل منظوره النقدي الذي يشكل العمود الفقري لمشروعه الفكري النقدي:
- المقاربـة السوسيو تـاريخيـة،
- المقاربة السوسيو أنثروبولوجية،
- المقاربـة السوسيو نقـديـة،
- المقاربـة السوسيو تربوية .
إن هذا التعدد، سواء على مستوى الاهتمام النظري/ الفكري، أو على مستوى المقاربات المنهجية المعتمدة، يكشف بالملموس طبيعة الاختيارات النظرية والمنهجية التي يسلكها مصطفى محسن في تحليله السوسيولوجي (سواء الماكرو أو الميكرو) وهو ما أعطى لمشروعه النقدي، المتخذ كاستراتيجية عمل، بعده التعددي النسقي والتفاعلي على مستوى الأدوات المنهجية والمقاربات العلمية/ الفكرية التي استعارها من مختلف الحقول العلمية التي تنتمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية، عبر ومن خلال عملية الانفتاح على مجمل الحقول والمجالات التي تهتم بالإنسان والمجتمع. وذلك بكل مفاهيمها ونماذجها التحليلية والإرشادية، ومرجعيتها النظرية والمنهجية... الأمر الذي يؤكد ضرورة تكامل أنماط المعارف والنظريات والمناهج والرؤى الفكرية ونماذج التحليل المعتمدة في المعالجة العلمية لمجمل الظواهر والوضعيات الاجتماعية والإنسانية بكل أبعادها ومكوناتها...
إن المعارف وأدواتها المنهجية والنظرية والفلسفية عادت متكاملة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وإن تكامل المعارف والتخصصات والمجلات الفكرية ما فتئت تتكامل وتتداخل فيما بينها مما جعل (ويجعل) الأستاذ محسن واعياً بهذا وآخـذ بعين الاعتبار هذا التكامل وهذا التداخل بين المعارف والتخصصات والمجالات الفكرية والعلمية، الشيء الذي سمح/ ويسمح لنا بالقول: إن الأستاذ مصطفى محسن مفكر وعالم متعدد الأبعاد والاهتمامات و... الخ.
IV- المسألة السياسية في منظور النقد السوسيولوجي:
كتاب «في التنمية السياسية» نموذجاً
قبل الشروع في بسط المعالم الرئيسية لهذه القراءة - قراءة كتاب «في التنمية السياسية»، أستأذن القارئ الكريم في أن أمنح نفسي فرصة إعادة هيكلة ودمج وترتيب مجموعة من الأسئلة/ التساؤلات القيمة التي يحاول هذا الكتاب أن يجيب عنها، والتي يقترحها، باعتبارها محـاور للتفكير والمناقشة والدراسة؛ وذلك بشكل يمكنني -كما أعتقد- من تقديم فقرات/ مكونات الكتاب/ الإجابة عنها وفق الرؤية المنهجية التي سلكها صاحب الكتاب والتي أراها قمينة بذلك... حيث يصبح للأسئلة/ التساؤلات دور منهجي هام في توجيه البحث والتفكير...
- هل نعيش في المغرب -هنا والآن- تحولات سياسية واجتماعية جذرية أم نعيش فقط استمرارية نفس النظام؟
- هل هناك قطيعة أم استمرارية في النظام السوسيوسياسي القائم؟
- هل هناك تحول استراتيجي أم أن الوضعية هي عبارة عن تحولات تكتيكية ما يلبث أن يتم الرجوع أو التراجع عنها؟
- هل نعيش -نحن المغاربة- نسقاً سياسيًّا منفتحاً أم نسقاً مغلقاً؟
- هل تعتبر حكومة التناوب التوافقي الأولى قطيعة مع الحكومات السابقة أم استمرار لها؟
- هل يعيش المغرب تنمية سياسية، باعتبارها درجة من درجات الحداثة والديمقراطية والمواطنة المسؤولة والواعية، التي تستمد مرجعيتها من التنوير ومن الحكامة الجيدة؟
- هل تشكل تجربة التناوب التوافقي مشروعاً تجديديًّا بالفعل، يعمل على إعادة تأسيس مجالات السياسة والحكم والاقتصاد والثقافة والمجتمع... على مبادئ حداثية وعقلانية وديمقراطية حقيقية، أم أنها لم تكن، كما يبدو للبعض، سوى مساهمة مؤدلجة في شرعنة الوضع السياسي السائد، وفي إعادة إنتاج آليات اشتغاله التي تظل «ممخزنة» في العمق والمضمون، جديدة في التمظهر والشكل؟
- هل كان التناوب في صيغته هذه، إنقاذاً للدولة والمخزن بمدلوله السوسيولوجي العام، أم إنقاذاً للمجتمع مما وصف بأنه «سكتة قلبية» محتملة الوقوع في كل ظرفية وحين؟
لقد سبقت الإشارة إلى أن مقاربة الأستاذ مصطفى محسن للمسألة السياسية، بصفة عامة، وفي كتابه: «في التنمية السياسية» بصفة خاصة، تندرج في إطار منظوره الموسوم بـ«النقد المتعدد الأبعاد»، وهو في تقديري الشخصي، نقـد معرفي إبستمولوجي سياسي وسوسيولوجي... على اعتبار، أن الهـدف العـام -والسياق العام- (لـ) من هذه المحاولة («في التنمية السياسية») إلى جانب مشاريع فكرية ونقدية عديدة، هو المساهمة في التأسيس لفكر/ لوعي نقدي عقلاني وحداثي مؤصّل، مستوعب ومتفاعل، إيجابيًّا، مع خصوصيات ومقومات الهويـة الذاتيـة، ومنفتح ومتحاور، بشكل جدلي ودينامكي وتواصلي منتج، مع شروط ومتغيرات ومستجدات لحظته الراهنة وسياقـه الكوني - الإنساني الشامل... وفي إطار مشروع وطني وقومي متكامل الأسس والتوجهات والمقاصد الفكرية والحضارية...
هكذا إذن، جاء هذا الكتاب على درب النفس التحليلي النقدي الحواري الذي ارتضاه لنفسه عالم الاجتماع مصطفى محسن حيث الانفتاح على قراءات متعددة للمغرب السياسي. [إذن] عبر فصلين وملحق وقائمة بيبليوغرافية شاملة يتناول الكاتب بالبحث والتحليل والنقد السوسيولوجي المعمق أهم التحولات الفكرية والسياسية والاجتماعية... التي عرفها المغرب المعاصر، ولاسيما منذ انخراطه في تجربة «التناوب السياسي التوافقي» على الحكم، وما كان لهذه التجربة من آثار ومستتبعات ونتائج إيجابية وسلبية. وما اعترض رفدها وإثرائها من مشكلات وعوائق ومنزلقات... ومـا طرحته على الفكر السياسي والبحث العلمي من أسئلة وتساؤلات وقضايا ومفاهيم وإشكالات نظرية ومنهجية شائكة... وما فتحته كذلك، أمام مجمل قوى وفعاليات المجتمع، من فرص وإمكانات وآفـاق للإصلاح والتحديث والبناء الديمقراطي...كما للنقد، والنقد الذاتي، والمراجعة وإعادة الهيكلة والتأسيس... وذلك استهدافاً لتغيير إيجابي منشود شامل ولـ: «تنمية سياسية واجتماعية» مستدامة متوازنة. على اعتبار أن هذه التنمية من وجهة نظر المؤلف، هي استنهاض ديناميكي شمولي حداثي عقلاني مخطط وممنهج لكافة مكونات ومؤسسات وقيم ومقومات وآليات اشتغال الحقل السياسي الوطني [راجع ظهر غلاف الكتاب]. مما يجعل من هذا المؤلف حافزاً على التفكير والتأمل والتساؤل والحوار، ومناسبة لفتح نقاشات علمية واجتماعية وسياسية عميقة ومتعددة...
فإذا كان هذا هكذا، فإنه يمكن القول: إن هذا العمل الفكري لصاحبه مصطفى محسن، يندرج في إطار: «علم الاجتماع السياسي/ La Sociologie politique» بحيث يجعل منه لبنة لإغناء رصيده العلمي، بل يمكن اعتباره قيمة مضافة نوعية للبحث والدراسات السوسيولوجية والفكر السياسي على وجه العموم... يقول الأستاذ محسن في هذا السياق: «إننا لا نريد ديمقراطية هجينة ولا تحولاً أو انتقالاً مفروضاً أو مقلداً ولا حداثةً مستوردةً ولا مشروعاً مجتمعيًّا شعاريًّا ضبابي المكونات والأهداف... وإنما نريد أن نستنبت كل ذلك من/ وفي تربة واقعنا؛ قيماً ومبادئ وتوجهات وممارسات سياسية واجتماعية متجذرة في الزمان والمكان، متواصلة مع مطالب ومستجدات المرحلة بكل تفاعلات ومتغيرات محيطها الوطني والقومي والكوني الشامل، متجاوزة لتحديثية شكلية المظاهر والقوالب تقليدية المضامين.
لذا، [نرجو] لهذه المساهمة (أي هذا الكتاب) المتواضعة أن تساعد على/ في إنمـاء وعينا السياسي والفكري والاجتماعي (وذلك) بضرورة الانخراط الواعي والفاعل في هموم واهتمامات وتحديات ورهانات... «هذه اللحظة الحضارية الحاسمة...» .
بعد هذه الإطلالة الخارجية على الكتاب، نود أن نقوم برصد مضامينه وأهم محاوره، وكذا تلخيص أفكاره وأطروحاته.بحيث نود -منذ البداية- أن نؤكد على أهمية الانتباه إلى المقدمات، التي اعتمدها المؤلف، سواء المقدمات المنهجية أو النظرية/ الفكرية، وفهمها بالعمق الكافي. الشيء الذي يُعد مسألة ضرورية وحاسمة في التعامل مع هذا الكتاب وفي تناول مضامينه بالفهم والاستيعاب والتفكير... إلخ. بل في التحاور مع طروحاته وتصوراته الفكرية والسوسيولوجية والسياسية. خاصة وأن المنظور النقدي الذي يتبناه المؤلف، هو الذي يشكل مشروعه الفكري السوسيولوجي المؤطر لكافة أعماله، ومن ضمنها عمله هذا الذي نقترحه على القارئ/ المتلقي. إنه يشكل جوهر مقاربة الأستاذ محسن للحقل الاجتماعي في أبعاده ومكوناته المختلفة مما يضفي عليه أيضاً بعداً إبستمولوجيًّا ورؤية معرفية تقوم على أساس التكامل والتحاور والتبادل...
الفصل الأول: تحولات المجال السياسي المغربي
ينطلق الأستاذ محسن من الإشارة إلى أن المجتمعات العربية الإسلامية قـد عرفت مجموعة من التحولات، التي مست عدداً لا يستهان به من المفاهيم والأنساق والمؤسسات والمجالات والممارسات ومنظومات القيم والرموز والعلاقات والأطر الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية الشاملة...
كما يشير إلى أن قيمة/ مفهوم الانتقال Transition أو مفهوم التحول Mutation إلى زمن التنمية والحداثة والديمقراطية والاستقلال... هي القيمة التي كانت أكثر حضوراً وتداولاً -ومـا تزال حتى الآن- في الخطاب السياسي والتنموي المساوق والموجه لمجمل التحولات السوسيو-حضارية الآنفة. وذلك بما للسياسة، في مفهومها السوسيو-أنثروبولوجي الشمولي من دلالات وأبعاد وأثار...، كشبكة معقدة من السلط والقوى والقيم والتراتبات والرموز والتبادلات والعلائق وأشكال الحكم والتدبير... إلخ، أيضاً لما للدولة، تحديداً، بكل أجهزتها ومرتكزاتها وامتداداتها...
كما حاول المؤلف أيضاً أن يلامس بعض المعالم الأساسية للثابت والمتحول والمنقطع والمتصل فيما يعرفه الحقل السياسي الوطني بالتحديد، ولاسيما منذ أواخر القرن 20 ومستهل هذا القرن الجديد... مستلهماً في ذلك رؤيته السوسيولوجية النقدية؛ مستهدفاً تحقيق الغايات المنهجية والفكرية والاجتماعية الآتية:
* المشاركة الواعية والمسؤولة في إثراء النقاش الفكري والسياسي الدائر حاليًّا حول مـا يعتمل في مجتمعنا من أفكار وطروحات وجدل سياسي واجتماعي...
* الانخراط الحقيقي في مسار التحول أو الانتقال الديمقراطي وبناء المشروع المجتمعي الحداثي الذي ننشده...
* تندرج غايات هذا الكتاب ضمن رؤيـة ثقافيـة تسعى إلى الانتقال من مجالات التفكير والتأمل والجـدل والبحث والدراسـة... إلى مجال الممارسة الاجتماعية وإلى تحويل مضامين ونتائج وخلاصات هذا البحث وتوجهاته إلى ثقافة مجتمعية عضوية معممة...
نشير كذلك إلى أن المؤلف، قـد استلهم مفاهيم وأطر المرجعية النظرية والمنهجية المعتمدة في سوسيولوجيا أو أنثروبولوجيا السياسة أحياناً أو سوسيولوجيا المعرفة والثقافة أحياناً أخرى. كما حاول وضع خطاطة إرشادية ومقدمات منهجية لقراءة وفهم وتفسير تفاعلات واقعنا السياسي الوطني بما يتسم به من تعقيد وتشابك علائقي متعدد المكونات والأبعاد...
وبناء على ما تقدم، حاول المؤلف معالجة جملـة من التحولات السوسيو-سياسية التي شهدها الحقل السياسي المغربي الراهن، نذكر منها أبرز هذه التحولات التي كانت موضوع البحث والدراسة والتأمل:
- التناوب التوافقي باعتباره تجربـة أنعشت بعض الآمال السياسية والاجتماعية في تأسيس عهد جديد، وفكر سياسي جديد، ومغرب حداثي ديمقراطي جديـد... إلخ، وولدت لدى النخب والمجتمع في آن الكثير من الأسئلة والتساؤلات والتحفظات، بل والتخوفات المبالغة أحياناً أخرى...
- نهايـة المعارضة التقليدية بمـا تمثله من ضرورة إعادة النظر الفكري والسياسي والإيديولوجي في تحليل بعض الأسئلة والقيم والمرجعيات والممارسات والمفاهيم... ومراجعة مدلولاتها وأبعادها السياسية والاجتماعية...
- المتغير الإسلامي، والمقصود هنا الحركة الإسلامية التي اقتحمت ميدان العمل السياسي الرسمي، حيث أصبح لها حضور في البرلمان وفي مكونات «السوق الانتخابية». وهو معطى يؤكد ضرورة إعادة النظر في التعامل مع حركات ما يدعى بـ: «الإسلام السياسي». مما يستدعي فتح حوار سياسي وفكري وديني وطني شامل يأخذ بعين البحث والنقاش والاعتبار ما أصبح لهذا المتغير الإسلامي من راهنية وتصدر، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على ما غدا يحققه، باستمرار، من تجدر، لا على مستوى مرجعيته الدينية والسوسيو-ثقافية التي تجعله أكثر تغلغلاً في معظم مكونات النسيج الاجتماعي وطنيًّا وقوميًّا وعالميًّا... وإنما في ميدان الممارسة الاجتماعية والسياسية بشكل عام.
- رجة الانتقال إلى مرحلة ما بعد التناوب التوافقي على اعتبار أن ردود الفعل تجاه هذه الواقعة السوسيو-سياسية قد تباينت مـا بين تصورات ومواقف القبول والرفض، والتفاؤل والتشاؤم والتوجس، والنقد البناء والنقد المتطرف الهدام...
- كما شكلت التفجيرات الإرهابية (16 ماي 2003) شرخاً دامياً ومؤلماً في مسار الزمن المغربي...، الشيء الذي يستدعي، عدم الاكتفاء بمقاربة أمنية أو سياسوية للظاهرة، وإنما اعتماد مقاربة شمولية مبنية على معطيات علمية وسوسيولوجية دقيقة حول الشروط والعوامل والأوضاع الاقتصادية والتربوية والثقافية والدينية والاجتماعية التي أنتجتها...
- الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية: أي صدور المشروع الجديد لمدونة الأسرة، الأسرة بما هي مؤسسة اجتماعية مركزيـة، ودعامة محورية للتربية والمواطنة والرعايـة الاجتماعية والتضامنية والتكامل... مع محاولة ربط هذه المدونة برؤية إصلاحية متكاملة لمجالات التربية والتكوين والثقافة والسياسة والاقتصاد والمجتمع بشكل عام...، مكرسة، كما في المجتمعات المتقدمة، لاحترام حقوق وكرامة الإنسان/ الفرد/ المواطن... منخرطة في سيرورة قطيعة منهجية مع أوضاع وممارسات وبنيات وخطابات ومفاهيم... ظاهرها حداثة مبتورة مشبوهة، وعمقها المضموني ما يزال مغرقاً في تقليدية متأصلة جامدة، منافية لأي تحديث اجتماعي جذري ولأي تنمية سياسية واجتماعية حقيقية وشمولية...
بعد رصد هذه المعطيات التحولية الحاسمة -والتي لا ريب في أنها قـد ألقت بظلالها وآثارها على كل مكونات المشهد السياسي المغربي الذي شكل محور التركيز والاهتمام، في هذا الكتاب قيد الدرس، هذا المشهد السياسي الذي شكل واقعاً سوسيو-سياسيًّا وضع أمام المجتمع المغربي الجديد، بأوضاعه المحلية وارتباطاته الدولية، جملة هامة من التحديات والمراهنات التي تتطلب المجابهة العقلانية الممنهجة والهادفة، وذلك من منظور صاحب الكتاب- انتقل المؤلف إلى الحديث عما يميز «العهد الجديد» الذي فتح ملفات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية كثيرة منها على سبيل المثال:
* ملف إصلاح منظومة التربية والتكوين * تحديث الاقتصاد من خلال تشجيع وخلق فرص الاستثمار * مدونـة الأسـرة * المبادرة الوطنية للتنمية البشرية: بمـا هي، محاربة للفقر والمرض والتشرد والسكن غير اللائق والإقتصاء والتهميش... إلخ. أيضاً محاولة الاهتمام بتنمية متوازنة للعالم القروي * عناية متزايدة بملف حقوق الإنسان والحريات العامة، بحثاً عن طي سلمي ونهائي عادل لصفحة الماضي... إلخ غير أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بتوفير إصلاح جذري لأحوال العـدل والقضاء وتحقيق إصلاح إداري وخدماتي جيـد ومواكب، منسجم مـع المفاهيم والمنهجيات العصرية للجهوية واللامركزية واللاتركيز... وتجديد وتطوير أدوار ومهام مؤسسات المجتمع المدني في مجالات المشاركة والنقـد والتدخل والاقتراح... في إطار الاستهداف الممنهج لبناء حكامة جيدة/ حكامة رشيدة تكون إطاراً تنظيميًّا وعقلانيًّا لتدبير مختلف دواليب الشأن المجتمعي العام...
وفي هذا السياق يضيف، المؤلف أنـه لا يمكن لكل هذه الملفات السابقة الذكر أن تعالج إلا إذا توفر لذلك مناخ إصلاح سياسي عـام بكل أبعاده ومكوناته الدستورية والحزبية والتنظيمية، وبعلاقاته وممارساته...، وبعلاقته وممارسته وقيمه وثقافته ونخبـه وأطره المرجعية ونماذجه...، كما أنـه لا يمكن تحقيق ذلك أيضاً، من وجهة نظر الأستاذ محسن، إلا إذا امتلكت النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية نوعاً من القدرة على الانتقال بالحقل السياسي الوطني من وضعية الأزمة -على جميع الأصعدة- إلى وضع جديد يصبح فيه المشهد السياسي بالمغرب متجاوزاً لكل مـا يتنافى موضوعيًّا مـع مبادئ وقيم «التنمية السياسية» والحداثة والديمقراطية... إن ما ينتظر من هـذا الإصلاح السياسي -حسب الكتاب موضوع الدراسـة- هو تحقيق الانتقال إلى بلورة «ثقافـة سياسية جديدة» تؤسس لـ«وعي مجتمعي جديد»... أي التحول أو الانتقال الديمقراطي الحداثي المجسـد في مشاريع حقيقية للتنمية السياسية والاجتماعية الشاملـة وفي مسارات متناظمة للإصلاح والتجديد والتقدم وبناء الديمقراطية والحداثة.
وهكذا تبين للأستاذ محسن أن ينهي ويختم هذا الفصل الأول من الكتاب بالتساؤل الآتي:
هل تمتلك نخبنا الاجتماعية والسياسية بالذات -يقصد نخب المغرب: هنا والآن وكل النخب العربية بشكل عام- الاقتدار المطلوب لامتلاك هذه الثقافة وذلك الوعي؟ يجيب الأستاذ محسن: «لا نعتقد أن نخبنا مؤهلة تماماً لتحقيق هذا الإنجاز السوسيو-حضاري المنشود»...
كما يضيف، أيضاً، أن اعتمادنا لحوار وطني شامل ومسؤول وملتزم بمصالح الوطن والأمة هو الكفيل، في تقديره، بتأسيس ثقافـة سياسية حداثيـة مدغمة لبيداغوجيا سوسيو-سياسية عقلانية لتدبير العلاقات والتفاعل والتعدد والاختلاف... ولرسم المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي... يقول المؤلف، في هذا الإطار: «... إننا لا ندعي أي إحاطة كافية بالإشكال موضوع النقاش، وإنما نعتقد أن مـا قدمناه من تحاليل وأفكار وطروحات وتفسيرات، لا يشكل بالضرورة، أحكاماً قطعيـةً ولا معرفـةً مكتملةً، بل يشكل أطـراً للسؤال والتساؤل ومحاولات للتعرف والفهم والنقـد والاستشراف... ممـا نأمل أن يكون... مقدمات معقولـة وواضحة لوضع فرضيات منهجية ممكنة للتفكير والتحاور والبحث العلمي» .
الفصل الثاني: قراءة سوسيولوجية في المشهد السياسي المغربي
إن المسألة السياسية، وبالتالي التنمية السياسية، بالنسبة لعـالم الاجتماع الأستاذ مصطفى محسن ليست أمراً راجعاً إلى تدني القدرات الاجتماعية، بل هي حصاد بنية سوسيولوجية معينة ورؤية محددة ومؤشر على أداء هذه البنية لوظائفها. إنها ليست موقفاً سياسيًّا فقط، ولكنها جماع كل ذلك... إنها مشكلة الجميع وليس أمامنا، وأمام الجميع سوى تحقيق التنمية السياسية باعتبارها، في نهاية التحديد المواطنة الحقة، المواطنة المسؤولة.
إن هذا الفهم وهذا التصور وهذه النظرة للتنمية السياسية، هو ما يريد أن يؤكده الفصل الثاني من الكتاب.
ففي تقديري الشخصي، إن هذا الكتاب يهم كل من يحمل هم هذه البلاد/ المغرب، بل هم الوطن العربي بأكمله؛ على اعتبار أنـه يحتوي على جهـد منظم ومؤسس ومتناسق... وبذلك يكون مفهوم التنمية قد دخل مباشرة في العملية السياسية للمعنيين بأمر وشأن هذه البلاد - أمر وشأن الوطن العربي ككل. وذلك نظراً للنواظم والمشتركات السوسيو-ثقافية والحضارية بين كل مجتمعاته ومكوناته المتعددة...
إن هذا الكتاب واحد من الثمرات اليانعـة لعمل/ لمشروع العالم السوسيولوجي مصطفى محسن لأنه -الكتاب- يجسد التلاحم بين السياسة بمعناها الأخلاقي النبيل والبحث العلمي الملتزم فكريًّا واجتماعيًّا...
إن مادة هذا العمل تقـدم نفسها باعتبارها درسـاً في الحوار بين الفكر السوسيولوجي والرؤى المجتمعية النظرية والعلمية والعملية وبين رسم السياسات الاجتماعية وتقويمها وتقدير مردودها...
هكذا إذن، يمكن القول: إن هذه المساهمة الفكرية التي يتضمنها الكتاب المقروء قـد انتهجت أسلوباً متميزاً في تنـاول موضوع التنمية السياسة، والدليل على ذلك أنهـا تقـدم نفسها باعتبارها مجموعـة من المقدمات في سوسيولوجيا الإصلاح والتحديث والتحول الديمقراطي [انظر العنوان]...
ففي تقديري المتواضع، إن هذا الأسلوب يسهم في إقناعنا وإقناع القارئ، وينير الطريق بقوة لمن يريد أن يختبر في مجتمعه التنمية السياسية... كما أن هذا الأسلوب، هـو الذي يضفي على الكتاب وعلى حديث صاحب الكتاب علميته التي لا يمكن تداركها سوى بتبني هذا النهج العلمي في الكتابة السوسيولوجية العلمية الذي يتحرى الدقة والموضوعية في المعالجة والدراسة والبحث...
إن هذا العمل، الذي بين أيدينا، والذي نتوخى تقديمه للقارئ، من خلال وعبر هذه القراءة [التقديمية] ينبهنا إلى أهمية التنمية السياسية سواء كمفهوم نظري علمي/ سوسيولوجي أو كممارسة علمية في/ على أرض الواقع...
وهكذا فلا يسعنا إلا أن نقول: إن الرؤية التي يبسطها هذا الكتاب درس في المرونة ودعوة إلى إدراك التحول (التحولات) الديمقراطي. إن هدف هذا الدرس هو أن نتصدى لمراجعة موقعنا على خريطة التطور الاجتماعي، وإعادة النظر في المرجعيات والأفكار والممارسات على اعتبار أنه لا يوجـد موقع اجتماعي دائم، ولا توجـد ثوابت في السياسة والاقتصاد. ولكن السياسة والاقتصاد لا يقفان وحدهما، بل هما من صميم نسيج المجتمع، يتغيران به، ويغيران فيه... وهذا هو نوع التأليف السوسيولوجي الجدير بالتقدير، تأليف يتناول حياة الناس اليومية ويناقش همومهم ومشكلاتهم بدون اللجوء إلى اللغة الخشبية المستغلقة على أفهام الناس. إنه تأليف يفعل ذلك بحديث العلم/ العالم والمناقشة الهادئـة الرصينة، المنطلقة مـن نتائج البحوث العلمية ومـن الواقع الملموس والتحليل الملموس... تأليف يختار ويبني بدائل وحلولاً ليعـود ويطرح التجارب والسياسات ليثري مجتمعه... فمرحبا -إذن- بهذا المؤلف، وبهذا التأليف الرصين الذي نأمل أن يسهم في إثراء حركتنا الاجتماعية/ السوسيولوجية...
ولعل من أهم الخلاصات الأساسية والمركزية التي انتهى إليها هذا الفصل الثاني من الكتاب ما يمكن تلخيصه فيما يلي:
- تخليق الحياة السياسية وإعادة الاعتبار للسياسة كممارسة نبيلة وليس كمجال للمناورة.
- النظر إلى الممارسة الديمقراطية بمنظور شمولي لا يعتبرها مجرد تقنيات أو آليات أو منهج، وإنما ثقافة مجتمعية متكاملة في أبعادها القيمية والفكرية والحضارية.
- ضرورة اهتمام الأحزاب السياسية بما هو مناط بها من أدوار تربوية وتأطيرية مستهدفة لتكوين المواطن سياسيًّا وفكريًّا وممارسيًّا.
- أهمية امتلاك النخب السياسية والاجتماعية في بلدنا، وطنيًّا وقوميًّا، لإدارة سياسية حقيقية ووعي فكري واجتماعي بمسؤوليتها ومهامها وأدوارها التاريخية التي عليها القيام بها لتعزيز مسيرة التحول أو الانتقال الديمقراطي في مجتمعنا.
- ضرورة توجيه الحقل السياسي في مجتمعنا، بنيات وهياكل وتوجيهات وثقافة سياسية... نحو المساهمة الفاعلة والفعالة في بناء مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي واضح الأهداف متكامل المكونات...
هذا مع تذكير المؤلف في الكثير من محطات الكتاب بأن الانتقال الديمقراطي لا يتم دفعـة واحدة ولكنه مشروع يُبنى ويُشيَّد، أي أنه سيرورة تاريخية مستمرة البناء والتطور والنمو، كما أن أسس بناء مجتمع ديمقراطي مسألة لا تستورد أو تستنسخ أو تفرض على المجتمع، وإنما هي تجربة يجب أن تُبنى وأن تؤصَّل في تربة المجتمع المعني ومقوماته السوسيو-ثقافية والحضارية دون أن يلغي ذلك تواصل هذه التجربة مع شروطها وارتباطها وامتدادها الكونية .
إن تفاعل هـذه العناصر مجتمعـة هـو المسار الكفيل بأن يحقق -في رأي المؤلـف، كما في رأيي الشخصي المتواضع- «تنمية سياسية» حقيقية سليمة ومتوازنة، وبما هي استنهاض شمولي معقلن وهادف بكل مكونات الحقل السياسي من جهة، وبما هي من جهة أخرى كذلك جزء لا يتجزء من تنمية اجتماعية شاملة متكاملة مستديمة...
VI- خلاصات واستنتاجات
انطلاقاً من كل ما تقدم يمكن أن نستخلص مجموعة من الاستنتاجات، من بينها ما يلي:
1) يعد الأستاذ مصطفى محسن من الدارسين والنقاد والمختصين، إنه أحد رموز علم الاجتماع في الساحتين المغربية والعربية، ذلك مـا يشهد لـه بـه ثرات ضخم من الدراسات والكتب والمساهمات الفكرية والعلمية التي راكمها ونشرها على مدى أكثر من ربع قرن.
2) إن الأستاذ محسن، بصفته أحد المدافعين عن المنهج السوسيولوجي النقدي، الشيء الذي جعل إنتاجاته تتراكم على المستوى الكمي من خلال عدة مؤلفات قيمة ودراسات جـادة ومقالات متعددة؛ أمـا على المستوى النوعي، فيمكن دمج هذه الإنتاجات في المنحى العقلاني التحديثي للكتابة الفكريـة والتأليف السوسيولوجي؛ وذلك من خلال معالجة إشكالية التقدم والتطور والتحديث، وأيضاً باتخاذ المقاربة السوسيولوجية كمنهج في المقاربة والتحليل والتفسير.
3) كما يأتي الاهتمام المتواصل لصاحبنا بالفلسفة -في جانبها الإبستمولوجي- ودورها التنويري العقلاني، وكذا دورها التنموي ليتجسد كخلفية نظرية لمقاربته المنهجية والفكرية، مما يخولنا لوضع الأستاذ محسن ضمن خانة الإصلاحيين الذين اتخذوا من المدخل التربوي والتنموي وسيلة وقاطرة نحو التحديث والتقدم والديمقراطية، وأيضاً يجعلنا نضعه ضمن الداعين لعودة الوعي بضرورة الاهتمام بالفكر/ التفكير الفلسفي الذي يسعى إلى تجديد العقل وتنويره.
4) أهمية المنهج الذي يعلن المؤلف عن تبنيه، سواء بشكل صريح أو غير مصرح بـه، إنه منهج منفتح على عدة علوم اجتماعية وتربوية، محاور لها ولنظرياتها ومناهجها في معالجة الظواهر والمجالات والمشكلات التربوية والاجتماعية، وذلك دون تحجر أو انغلاق في أحدها. إنه منهج قائم على نقد إبستمولوجي وسوسيولوجي تكاملي حواري منفتح ومتعدد الأبعاد...
5) إن كتابات الأستاذ محسن تعتبر موضوعاً صالحـاً بامتياز للدرس والتحليل والتحاور، حيث يمكن إدراجها -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- في التوجه التحديثي لما يسكنها من إشكالات وهواجس تحديثية في العمق.
وأخيراً، لا نملك إلا نقول: إننا لا ندعي الإحاطة الشاملـة بكل جوانب تجربة ومشروع المؤلف الغني والمتكامل، نظراً لعمق ذلك المشروع وتعدد تلك التجربة وسعة مجالاتهما وأبعادهما ومكوناتهما. وما طرحناه هو مجرد قراءة (تقديمية) للمشروع الفكري ولصاحبه عالم الاجتماع الأستاذ مصطفى محسن، وخاصة من خلال عرض تقديمي أولي لأهم أفكار وطروحات كتابه الهام: «في التنمية السياسية...» الذي شكل المحور المركزي لهذه الورقة/ المساهمة المتواضعة.