شعار الموقع

النظرية السياسية عند السيد محمد حسين فضل اللَّـه

أحمد شهاب 2012-10-03
عدد القراءات « 1604 »

*

التمهيد

حين نتحدَّث عن الديمقراطية، فإن المقصود هو حكم الشعب للشعب، وطبقاً للتعاريف التقليدية فإنها تتفرَّع إلى شكلين:

الأول: النظام الذي بمقتضاه يحكم الشعب نفسه بنفسه دون واسطة. ويشار له عادة بمصطلح الديمقراطية المباشرة؛ لأن الناس يساهمون في صناعة القرار بأنفسهم دون واسطة ومن دون نواب يمثلونهم. وتعرف كذلك بالديمقراطية النقية.

والثاني: الديمقراطية غير المباشرة، والتي يشترك فيها الشعب بالحكم عن طريق ممثلين. وتعرف أيضاً بالديمقراطية البرلمانية أو التمثيلية.

وتقوم الديمقراطية بشقيها المباشرة وغير المباشرة على أساسين هما: سيادة الشعب، وصيانة الحريات الفردية، السياسية، والاقتصادية. وهما الأساسان اللذان نهضت عليهما الثورتان الأمريكية والفرنسية.

أما الدِّيمقراطية في معناها الحديث، فتعني المشاركة السياسية في أوسع نطاقها، فلا وجود لسلطة أو قانون يعلو إرادة الشعب وتطلعاته، فكل القوانين تُصاغ وفقاً لمصالح المواطنين، والسلطة السياسية مقيدة بدستور مكتوب، يحمي إرادة الأغلبية الشعبية، والتي تمثل الإرادة العامة في الدولة، فالسلطة رهن بإرادة الشعب. وقد ركَّزت الديمقراطية في العصر الحديث بصورة ملحوظة على الحريات الفردية، ومنحت كل فرد من أفراد الشعب حضوراً فعالاً على خارطة الدولة الحديثة.

تُعد الديمقراطية من المفاهيم السَّيالة، ولذا تشهد كمًّا هائلاً من الآراء والتصورات المتوافقة حيناً، والمتضاربة حيناً آخر، وذلك بحسب تطور الأفكار والنظريات السياسية من عصر لآخر، ومن تجربة سياسية إلى أخرى. إلا أن الحد المتفق عليه هو التقاء جميع تلك الآراء، على أن الديمقراطية تستهدف إيجاد منهج للحياة السياسية في الدولة، يسمح للمواطنين بالمشاركة السياسية، ويمنع استبداد الأكثرية.

وفق هذه النتيجة، فإن الديمقراطية في معناها الحديث تستهدف مطلبين أساسيين:

الأول: القدرة على إنفاذ إرادة الشعب في المشاركة السياسية، والحياة العامة، وصيانة ذلك الحق من انتهاك الدولة.

والثاني: السلطة المقيدة بالقانون، بحيث لا تُطالب الشعب إلا بما يُقِرُّه القانون عليهم، فسيادة القانون ينظر إليها بوصفها أحد أبرز العناوين في الدول الديمقراطية.

مركب الديمقراطية الدينية

يُشير مركب الديمقراطية الدينية إلى مفهوم سياسي حديث، يوازن بين النص الديني والنظريات السياسية المعاصرة، ولا يجد أن هناك تعارضاً يذكر للموائمة بين الأمرين، أو أن التعارضات الناشئة نتيجة إختلاف البيئة التي نمى فيها كل مفهوم على حدة قابلة للحل. ويشير في ذات الوقت إلى تلك المجتمعات التي وجدت في الدين مساحة تتسع لإستيعاب مفاهيم مثل الحرية، والتعددية السياسية، وتداول السلطة، والنظام الدستوري، وأمثالها.

مُعتمد أنصار الديمقراطية الدينية هو القول بمقبولية كل الأفكار والنظريات المتطورة شريطة ألَّا تتعارض مع جوهر الإسلام، ولا تخدش مبانيه الأساسية، فكيف إذا كانت تخدم أغراض الشريعة من حيث إنجاز العدالة في مستواها التطبيقي «سيادة القانون»، وصيانة الحريات العامة، وتحقيق القبول الشعبي من خلال المشاركة السياسية، التي يرمز لها بالشورى في الإسلام؟.

الفرق الأساسي بين الديمقراطية الغربية، ونظيرتها الدينية، أن موضوع الأولى هو القبول الشعبي، ورضا المجتمع، بغض النَّظر عن أي أبعاد أخرى تتصل برضا الله، أو البحث عن حقوقه سبحانه وتعالى، في حين أنَّ موضوع الثانية هو رعاية حقوق الله وصون حقوق الإنسان في الوقت ذاته، بمعنى إيجاد توازن بين رضا الخالق –جل شأنه- ورضا المخلوقين.

إن مدار الديمقراطية الدينية على هذا المبنى هو تمكين المواطنين، الذين يؤمنون بالنظام الديني، من المشاركة السياسية وفق قواعد وآليات حديثة، وتطبيق العدالة السياسية والاجتماعية، وسن القوانين ابتناءً على موافقة الشريعة أو عدم مخالفتها لنصوص وأحكام ثابتة. بمعنى آخر إن جل عناية الباحثين في هذا الموضوع هو التوصل إلى «فهم جديد للدين قابل لاستيعاب الديمقراطية كواحد من الأسئلة الملحة المطروحة على المسلمين في الزمن المعاصر».

يمكن القول: إن مضمون الديمقراطية الدينية وجد تأسيساته الفكرية على يد الميرزا النائيني، الذي أثبت بالأدلة النصية والعقلية وجوب تحويل السلطة من النظام الاستبدادي إلى النظام الولايتي. على أن استخدامه كمركب لغوي يعود إلى الدكتور عبدالكريم سروش، والذي قام بعملية تنظيرية استهدفت المواءمة بين الخلفيات الفلسفية والفكرية للديمقراطية والدين، لم تلبث أن تحوَّلت إلى مادة للجدل الفكري والسياسي، حيث وجدت تداولاً واسعاً مع وصول السيد محمد خاتمي للرئاسة في إيران، والذي نَظر إليها بوصفها السبيل «إلى استقرار نظام معين، أي أنها آلية وأن الحكومة للشعب وأن إرادة الشعب هي التي تحدد شكل الحكومة»، وكما أنها أدَّت في الغرب إلى العلمانية والليبرالية، فلابد أنها سوف تؤدي في المجتمع الإسلامي إلى شكل يساير فكر الناس الإسلامي، فهي انعكاس لطبيعة الثقافة السائدة في كل مجتمع، وتستهدف تحديداً إنجاز رؤية المجتمع لنظامه السياسي.

على هذا، فإن الديمقراطية الدينية تقوم على خمسة عناصر أساسية، وهي: العدالة، والحرية، وسيادة القانون، والمشاركة السياسية، والمقبولية الشعبية. وسوف نحاول أن نتعرف في الأسطر القادمة، على موقف السيد محمد حسين فضل الله من كل عنصر من هذه العناصر الخمسة، لنخلص في النهاية إلى موقفه من الديمقراطية الدينية.

عناصر الديمقراطية الدينية عند فضل الله

ينطلق السيد فضل الله من مسلمة ضرورة حفظ النظام، ليُسلّم تاليًا ببدهية إقامة الدولة، فلا نظام بلا دولة فـ«وجود الدولة في هذا العصر أمر ضروري، إذ من الطبيعي أنه لا يمكن للحياة أن تعيش في فوضى، لأن ذلك مما لا يرضى به الله سبحانه وتعالى، فيجب إقامة سبل حفظ النظام بكل الوسائل التي تحفظ نظامهم دون أن تبتعد عن الخط الشرعي». وطالما أن الدولة المعنية في البحث هي إسلامية بالضرورة فلا بد من القول بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك لتأسيس الدولة الإسلامية أو إقامة الدولة الأقرب إلى روح الإسلام.

ومن هنا وجب أن نكون محكومين بقاعدة حفظ النظام، لاسيما مع عدم القدرة على الاستغناء عن الدولة في النظام العالمي المعاصر، بعد أن تحوَّلت الدولة إلى ضرورة سياسية واقتصادية واجتماعية، وتزداد الحاجة للتنظيم الدولتي في ظل التعايش والمشاركة مع المجموعات الدينية والتلونات السياسية والفكرية المختلفة. إذ «إن من المسلمات الفقهية ضرورة إقامة سلطة لحفظ النظام العام التي تحفظ للناس توازنهم وتحقن دماءهم وتصون أعراضهم وأموالهم، بحيث يكون حفظ النظام هو القاعدة التي تتحرك فيها الشرعية على مستوى التشريع. فإذا ارتكزنا على مسألة وجوب حفظ النظام سلَّمنا تالياً بلابدية قيام دولة، إذ لا نظام لا دولة وخصوصاً في العالم الذي أصبحت فيه الدولة ضرورة سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية وتربوية وحياتية».

وظيفة السلطة طبقاً لفضل الله اجتماعية تنطلق منها القيادة لأجل مواجهة قضايا المجتمع من خلال الشريعة الإسلامية. ويدلل في مباحثه المتفرقة على ضرورة إقامة الدولة بمجموعة الأحكام والتشريعات التي جاءت بها الشريعة وتتعلق في الغالب بحقوق الله على االناس، أو حقوق الإنسان على الإنسان، والتي يتطلب أداؤها وجود دولة ترعاها وتنظمها.

ولا يُشير السيد في كتاباته إلى شكل حاسم للدولة، وإن كان يرى وجوب أن تكون منضبطة بالقانون الإسلامي، ومتصفة بالعدالة، وهو ينفي في أبحاثه ضرورة مطابقة النظام الإسلامي لشكل محدد من أشكال الحكومة، أو تقييده بأنماط افتراضية، وإنما الحد المطلوب هو أن تكون إلهية دينية، تعمل على حفظ النظام العام، وتدفع نحو تطبيق القيم الإسلامية، دون أن يُلزمها بالسَّير وفق نموذج محدد.

أما الديمقراطية بالمفهوم الغربي الحديث فالمقبول منها لدى السيد فضل الله هي الآليات دون الفلسفة، فهو لا يُخفي تحفظه الشديد من المضامين والدلالات الفكرية للديمقراطية ومؤديات حكم الأكثرية. وتحفل كتاباته ومقابلاته بالتأكيد على رفضه استخدام لفظ الديمقراطية فضلاً عن تداوله في الأدبيات الإسلامية، وذلك لأن «الديمقراطية كمفهوم ذات دلالات فكرية لا نلتقي معها، وهذا ما يجعلنا نقف موقفاً متحفظاً من استعمال الكلمات المطروحة في الساحة السياسية مما كان مُحَمَّلًا بإيحاءات وبمفاهيم تختلف عما نؤمن به».

الـعـــدل

هدف السياسة -عند السيد فضل الله- إقامة العدل، والذي يُعَرِّفُهُ بكونه أداء حقوق الحاكم وحقوق المواطنين، فكلمة «العدل تمتد إلى كل علاقات الإنسان بالله وبالكون وبالحياة وبالناس؛ لأن العدل هو أن تُعطي لكل ذي حق حقه، فللَّه حق، وللناس حق يلزمنا حفظه، وللحياة التي نعيشها مما يلزمنا حفظه منها حق، وللبيئة حق. وعلى ضوء هذا فإن الخط العام للعدل يمتد إلى كل جوانب حياة الإنسان». والعدالة تتجلى -عند فضل الله- في جانبها السياسي من خلال تأمين الوسائل الكفيلة بتأمين حقوق الناس، وإيجاد الآليات الكفيلة بإنجاز أكبر قدر من العدالة الاجتماعية.

فالدولة تقوم على أساس العدل، ولا يوجد في الدولة الإسلامية أي نوع من أنواع التفريق ما بين مواطن مسلم وآخر، إذ تختفي في الدولة الإسلامية كل الصفات القومية والعرقية، «فليس هناك تشريع للعرب يختلف عن التشريع للفرس أو الأكراد أو الأتراك أو غير ذلك، بل هو تشريع موحد يتساوى فيه الجميع: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}».

لا تنفي إسلامية الدولة قبولها لكل التنوعات الدينية، والتعاطي مع الجميع وفق قاعدة العدالة، وعلى الدولة الإسلامية أن تراعي مساواتهم في الحقوق المدنية والسياسية العامة التي لا تتنافى مع الخصوصيات الذاتية للإسلام. وفي تعليله لحكم دفع الجزية على أتباع الديانات الأخرى، فإنه قرأ الحكم من زاوية ضمانه لبسط العدالة في الدولة الإسلامية، إذ لا ينبغي على الدولة التي تُطبق الشريعة أن تفرض على أتباع الديانات الأخرى الدفاع عن ثغور المسلمين، أو المشاركة في الحروب إن لم يقتنعوا بها من ناحية عقدية، فتكون الجزية هي المقابل الموضوعي للحماية التي يتمتعون بها، وعدم إلزامهم بأي مشاركة عسكرية، بالإضافة إلى تمتعهم الكامل بحقوقهم الدينية، وعدم الانتقاص من حقوقهم الإنسانية.

ويُشير ذلك إلى نسبية العدالة في الجانب السياسي، فهي عدالة من جهة ضمان حقوق المغايرين عقيديًّا، وعدم زجهم بمفاهيم الجهاد والتضحية التي تنطلق من مبدأ عقدي صرف، وإعفائهم منها عبر فرض الجزية، وهي بمثابة الضريبة التي تدفع في مقابل التمتع بمنافع عمومية، لا يتمتع بها غيرهم، بينما يؤدي المسلم فروض الجهاد والتضحية بالنفس انطلاقاً من إيمانه وعقيدته الدينية، فالجزية هنا تتحول إلى عنوان للعدالة على الجانبين المسلم وغيره.

وعلى ضوء هذا، فإن من مسؤولية الحكومة الإسلامية أن تهيئ كل الوسائل ليقوم الناس بالعدل، سواء في حركة تطبيق الشريعة أو في حركة الوسائل والأهداف على مستوى الواقع السياسي والاجتماعي والأمني. فهو يلازم بين ضرورة تطبيق العدل وإقامة الدولة فـ«هل يمكن أن يكون هناك عدل بلا دولة؟ إن الدولة تمثل وسيلة الإنسان من خلال تحريك العدل وتحويله إلى واقع. العدل لا بد فيه من حاكم عادل، ومن شريعة عادلة، ومن مواطن عادل.. ومن الطبيعي أن العدل ليس شيئاً معلقاً في الهواء وإنما هو قيمة واقعية، فلا بد له من وسائل، فإذا أبعدنا الدولة عن الدين، فمعنى ذلك أننا أبعدنا الوسيلة عن الحياة».

لا يوجد أي معنى للحديث عن انفصال الدين عن الدولة في الإسلام؛ وذلك لأن الدين -من وجهة نظر السيد فضل الله- جاء ليستهدف تطبيق العدل «ولا عدل دون سياسة، فالعدل لا بد فيه من التخطيط لعدل الحكم وعدل القانون ولعدل الحاكم وعدل الناس بين بعضهم البعض، وهكذا نلاحظ أنه لا يمكن إقامة العدل بشكل يمتد في كل حياة الناس ليعطي كلَّ ذي حق حقه، سواء على مستوى الحقوق العامة أو الخاصة، إلَّا من خلال وجود كيان سياسي يوزع المواقع، ويحاول التخطيط والتنظيم لحياة الناس بشكل أو بآخر، في المسألة الاقتصادية والسياسية والأمنية والتربوية والاجتماعية».

الـحــريــة

تعني الحرية توفر الإمكانات اللازمة لأفراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم وإنتماءاتهم لممارسة حقوقهم المشروعة، وضمن التصور الديني للحرية فإن الله خلق الكون وما فيه ليستفيد منه الإنسان على أفضل وجه، ولا يحدّ من حرية الإنسان إلا تعديه على حقوق الله أو حقوق الناس. فالتصور الغربي للحرية يختلف عن نظيره الإسلامي بحدود الحرية، فالأول يراها مطلقة من جهة حقوق الله، ويقيدها من جهة حقوق الآخرين، والثاني يضبطها من الجهتين.

ويؤكد السيد فضل الله على أن الأصل في الانسان «أن يكون حرًّا، بالحرية نبدع، وبالحرية نعطي، وبالحرية نطوِّر الحياة، وبالحرية نغني إنسانيتنا»، لأن الحرية ممنوحة من الله وليست هبة من البشر، ولا يحق لأحد أن يسلب هذا الحق الإلهي، لكن السؤال الذي يجد –السيد فضل الله- أنه يطرح نفسه بقوة على الناس، هو معنى الحرية التي نطالب بها وننتظرها «أية حريةٍ هي التي تُغني، وأية حريةٍ هي التي تُفقر؟ هل الحرية قيمةٌ فوق القيم، أم الحرية قيمةٌ في داخل القيم؟ هذا سؤالٌ لا بدَّ للناس أن يثيروه في كلِّ زمانٍ ومكان».

سوف نجد في ثنايا كتابات السَّيد فضل الله إجابة وافية لهذا السؤال، إذ تزخر كتاباته بالحديث عن الحريات بمختلف مستوياتها السياسية والفكرية، وهو لا يطلقها دون أي قيود، وإنما يراها تسير في سياق حركة التطور الإنساني، وبما ينسجم مع الرؤية الإسلامية للكون، فنظام الحريات في الإسلام «يتميّز بأنه يقوم على رؤية خاصة للكون والحياة، ترتكز على الإيمان بالغيب، والإيمان بيوم الحساب، الأمر الذي يجعل الحرية تتحرك في هذا الإطار، فالإسلام لا يشجع على مقولة «الحرية لأجل الحرية»، بل يرى الحرية لا بد منها لحركة التطور والإبداع الإنسانيين».

ويفسح السيد فضل الله مجال الحرية إلى غير المسلم في الدولة الإسلامية، سواء على مستوى المسائل الفكرية والعقائدية، أو على مستوى المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما أن هذه الحرية تشمل حرية نقد الحاكم وأعمال الحكومة، لأن قضية الحرية لا تتجزأ، فالفكر لا يمكن أن يُقابل بالقوة، وإنما بالحجة والبرهان والإقناع «فمسألة الحرية، من حيث هي حالة إنسانية، مسألة لا يمكنك أن تضطهدها لأنك قد تضطهد اللسان الذي ينطق بها، وكذلك لا يمكن أن تضطهد الفكر الذي قد يتحرك بها».

سيادة القانون

يستند فضل الله في ضرورة إقامة الدولة الإسلامية إلى كون الشريعة تدخَّلت في إنشاء القوانين لكل جوانب حياة الناس، مستدلاً بإقرار الشريعة الإسلامية للعديد من القوانين مثل الديات والقصاص والجهاد. إن الالتزام بالشريعة على مبنى –السيد فضل الله- هو التزام بالقانون بحد ذاته، و «الفقه الإسلامي بما يمثله من ثروة قانونية تشريعية، يستطيع الإيحاء بأن الإسلام ليس مجرد حالة عبادية بل هي حالة مدنية تنفتح على قانون واسع يشرع للإنسان في كل مجالاته العملية». وبما أن الدولة والسلطة لديه هي شأن مدني متصل بالحياة العامة، فهو يرفض دخولها في الشأن الخاص للأفراد. «إن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، عندما تطل على بعض جوانب المعنى الإلهي في الدولة. فهي دولة مدنية لأن للحاكم فيها ضوابط معينة يستمر فيها ما استمر مع هذه الضوابط.. ولهذه الدولة قانوناً شاملاً لكل المجالات العملية التي يعيشها الإنسان، بحيث تستطيع الأمة أن تواجه الحاكم بالقانون، كما يستطيع الحاكم أن يواجه الأمة في أعماله أو فيما يريده منها من خلال القانون».

وطالما هي مدنية فينتظر منها أن تلتزم بالأطر القانونية المتعارفة، ولا تتعداها إلى المساحات الخاصة للمواطنين. وهو ما نستشفه من خلال إشارته إلى صلاحية النبي في التدخل في هذه المساحات، وعدم تطرُّقه لهذا الحق بالنسبة لغير المعصوم، بما يمكن أن نستنتج منه أن الولاية الثابتة عند السيد فضل الله للنبي والمعصوم مطلقة، أما ولاية غير المعصوم فهي مقيدة، على الرغم من تأكيد فوقيته على المجتمع.

وهذه الفوقية منشؤها علم الفقيه بالشريعة، وليست ذاتية، أي أنها ليست نابعة من كونه فقيهاً، بل من كونه مدركاً للعلم بالأصول والقواعد التي يتم تطبيق القانون عليها، ونتيجة ذلك القول: إن الحاكمية -عند السيد فضل الله- تعود لله وحده. فالحكومة التي يدعو إليها السَّيد هي الحكومة الدينية الشرعية القائمة على أساس العدالة والشرع والقانون، فليس للولي الفقيه أن يُحَكِّم مزاجه، بل وفقاً للقانون، أي لا بد أن يحكم بحكم الله، وبحسب شريعة الله.

وفي تفريقه بين الدولة الدينية في المسيحية ونظيرتها في الإسلام، يرى فضل الله أن الأُولى يحكمها رجل الدين من خلال معطياته الذاتية أو الثقافية، بينما الدولة الدينية في الإسلام، يحكمها القانون الإسلامي، وهو الذي يفرض نفسه على رجل الدين والدنيا. على هذا فإن القانون الإسلامي هو حالة مدنية في الإنسان، منطلق من إرادة إلهية، والإرادة الإلهية لا تخضع لأمزجة البشر، ولا لتقديراتهم الذاتية، وإنما هو وحي الله الذي يُطِلُّ على الإنسان ويعرف ما يصلحه وما يفسده فَيُشرِّع له ويخطط له.

الرضا الشعبي

يعالج فضل الله مسألة الرضا الشعبي من خلال تفريقه ما بين الرسالة وصاحبها، فالقيمة الفعلية هي للرسالة، وطاعة صاحب الرسالة يجري باعتباره يحكم بالشريعة. ويجد أن المشكلة في رمتها تكمن في حالة استغراق الناس في صاحب الرسالة، بحيث يكون هو الذي يعطي الرسالة أهميتها وقيمتها لا العكس، ويرى أن هذا الاستغراق هو الذي همَّش من مكانة ودور الناس في المشاركة، وركنهم في الظل، وعزز من الروح السلبية لديهم.

ومن خلال ذلك نفهم «أن مسألة الحكم في الإسلام ليست مسألة الفرد، وإنما هي مسألة الأمة فيما هي مسؤولية الفرد الذي لا يحكم الأمة من خلال ذاته، وإنما يحكمها من خلال البرنامج الذي يلتقي وإياها في الإيمان به. فهو أمين على البرنامج وعلى الأمة من خلال البرنامج. ومن خلال ذلك، نلاحظ أن علينا في الأداء البياني لشخصية القائد في الإسلام.. أن نملك الدقة في التعبير عن شخصيته في الدائرة القيادية وعن موقعه القيادي، لأن بعض الكلمات التي قد تفتح على جوانب العظمة في الشخصية قد توحي بشيء لا يلتقي مع الخط الإسلامي في الحكم، ليتصور الناس أنهم لا يملكون شيئاً أمام الإمام والنبي والفقيه، بالمعنى الذي يعني أنه ليس خاضعاً لبرنامج محدد بل يتحرك في الجو المطلق عموماً».

ويستند إلى النصوص القرآنية التي تعتني بالدور الذي تلعبه الأمة من خلال إبداء الرأي والمشورة، بغض النظر عن حاجة القيادة للمشورة من عدمها، فالأمة ليست كمًّا مهملاً، بل لها احترامها ومكانتها ودورها، فالعلاقة تقوم على قاعدة الشراكة، مشيراً إلى الدور الرقابي الذي تؤديه الأمة والتي تؤكد من خلاله على رضاها وسخطها على النظام العام، بما يمكن اعتباره الميزان الذي نقيس وفق فاعليته حجم التوافق ما بين الدولة والأمة؛ «فإن للأمة حق الرقابة، وبإمكانها أن تعزل الحاكم باعتبار أنها آمنت بدوره وصلاحيته في ضوء معطيات تؤهله لهذه القيادة، ومن الطبيعي إذا انحرفت أن تبادر الأمة إلى عزله.

ولا يُخفي السيد فضل الله تأكيده على ضرورة حيازة الحاكم المشروعية الإلهية والمقبولية الاجتماعية بصورة متزامنة، بحيث تتوفر في الأشخاص المطروحين للحكم الأهلية الشرعية للحكم والقدرة على الإدارة، ثم ينتخب واحد منهم من قبل الناس، والعلاقة بين الطرفين الحاكم والأمة هي علاقة تفاعل وتواصي بالحق، ومشاورة.

المشاركة السياسية

يُقرُّ السيد فضل الله بضرورة الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية، ويَعُدُّ وجودها عاملاً مهمًّا في منع سيطرة جماعة خاصة على الآخرين، إذ تسمح هذه التعددية بتوازن القوى داخل المجتمع، من خلال أن تكون «العقل الذي يفكر ويخطط لها ويقودها وينفتح على قيادتها». ويمكن استخلاص موقف السيد من مسألة التعددية السياسية، عبر الاطِّلاع على موقفه من ولاية الفقيه، حيث لا يرى أن ثمة دليلاً شرعيًّا يمنع من تعدد نماذج الولي الحاكم. مؤكداً على دور الأمة وضرورة الشورى، ومستدلاً بأن القرآن فرض على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاور المسلمين في إطار التطبيق، دون أن تكون ملزمةٌ له، وأما في دائرة التشريع فهو ينطق بالوحي. وعليه فمن الأولى ألَّا يتحرك الفقيه إلَّا بعد مشاورة المسلمين.

يرفض السيد فضل الله مقولة «الشورى كأساس للحكم»، ولذا فهو لا يرى إلزاميتها على الحاكم غير المعصوم، بل باستطاعة الحاكم أن يأخذ بما انتهت إليه نتيجة الشورى أو يعمل على خلافها، فهو يؤكد على أهمية المشاركة الشعبية في قضايا الحكم والإدارة السياسية انطلاقاً من الآية الكريمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، لكنه لا يراها تصل إلى مرحلة الإلزام للحكام. كما لا يرى وجوب اختيار أهل الخبرة، الذين يمثلون دائرة الشورى، من قبل الشعب، بل يمكن اختيارهم من قبل الفقيه بحسب معرفته المنطلقة من الاستقراء، والاستشارة، والخبرة من خلال الرجوع إلى أهل المعرفة في ذلك، وربما كان للاستفتاء الشعبي دور في إبعاد المسألة عن الفوضى لتكون أقرب إلى التركيز والثبات، ولكن ذلك لن يكون ملزماً من الناحية الفقهية، فللفقيه الرجوع إلى غيرهم عندما يجد أنهم يمثلون الدرجة العالية في المعرفة؛ لأن مسألة الاستفتاء لا تخضع لقاعدة شرعية ملزمة، بل هي خاضعة للمصالح التنظيمية.

وانطلاقاً من ضرورة حفظ النظام يأخذ السيد بالأكثرية، لا بوصفها مانحة للحق كما في الأنظمة الديمقراطية، وإنما لكونها مُفعِّلة لحركة الولي الفقيه، إذ إن الشرعية تستمد من إمضاء الفقيه لرأي الأكثرية، فانتخاب الأكثرية للفقيه تُعيِّنه وليًّا للأمر من الناحية الفعلية، لكنها لا تمنحه الشرعية، لأن مصدر الشرعية هو الله وليس الشعب، وبالتالي فإن الفقيه هو الذي يعطي الشرعية، وإرادة الشعب تحقق ولايته فعليًّا.

مناقشة نقدية

بعد أن تتبعنا بتكثيف شديد، لأبرز آراء السيد محمد حسين فضل الله، ومواقفه المختلفة تجاه عدد من العناصر التي تقوم عليها الديمقراطية الدينية، يمكن أن نورد الملاحظات التالية:

1- لا يوجد عند السيد فضل الله رأي حاسم في شأن الموقف من الديمقراطية، فهو من جهة يعيد أمر انتخاب الحكام إلى الناس، والرجوع إلى الأمة في حال تضاربت الاجتهادات، وهو أحد مباني الديمقراطية كما هو معلوم. ومن جهة أخرى يرفض القول بوجود تجانس بين الديمقراطية والإسلام، وحكم الأكثرية الذي لا يمنح من وجهة نظره أي شرعية للحاكم، وينتقد مقولة «الديمقراطية الاسلامية» التي يراها تنطلق من عقدة قصر النظر، وينقض الديمقراطية بناءً على أنها تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، من خلال ممثليه بحيث تكون شرعية القوانين وشرعية الحكم تتحرك من خلال أن الشعب «أعطى الشرعية، فلو فرضنا أن الناس صوتوا لمصلحة الإسلام على أساس ديمقراطي، فإن الديمقراطية تقول: إن الإسلام حق لأن الناس صوتوا له، أما إذا انقلبت المسألة وأصبح الناس يصوتون لغير الإسلام فلا يكون الإسلام إسلاماً شرعيًّا. إنك تتحدَّث عن الديمقراطية على أساس أن تدخل الإسلام داخلها، فعليك حينئذ أن تقول بأن الإسلام يبقى شرعيًّا إذا اعترفت به الديمقراطية وإذا لم تعترف به فليس شرعيًّا». والحل الذي يقترحه هو سعي الإسلاميين نحو ابتداع كلمات تلائم خطهم الفكري، وذلك للتخلص من الحمولات الفكرية والفلسفية التي تعكسها لفظة الديمقراطية.

2- يعزف السيد فضل الله عن بيان كيفية تشكيل الحكم الإسلامي، أو تحديد شكل الحكم في الإسلام، ولا يجد أن الخطابات القرآنية اعتنت بتوضيح طرق الإدارة السياسية، أو تعيين «صورة محددة عن طبيعة المؤسسات التي تتشكل منها الدولة، كأن يكون هناك رئيس جمهورية أو مجلس وزراء أو مجلس خبراء»، وإنما الأمر متروك للصيغ العقلائية، مستعيراً تعريف السيد محمد باقر الصدر لمنطقة الفراغ التشريعي، ليجعل طريقة الإدارة السياسية خاضعة لهذه المنطقة. لكنه عندما يحدد الصيغة المثلى لإدارة الدولة فهو يميل إلى علاقة منسجمة بين الفقيه الحاكم والأمة، من خلال إشراف الفقيه على الجو العام للدولة، واعتماده على الشورى في كل أموره، ليظل الاستفهام عالقاً حول المفاعيل القانونية التي تعطي لإرادة الأمة حضوراً فاعلاً، وتخرجها من دائرة المشاركة الصورية.

إذ إن الإعراض عن تعيين شكل محدد للحكم يمكن أن يُقرأ إيجابيًّا إذا وفَّر فسحة لتحديث السُّلطة حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وعدم تقييدها بشكل أو هيئة محددة، لكنها يُمكن في المقابل أن تحمل مضموناً سلبيًّا بوصفها منطقة مهملة، فالسلطة في هذه الحالة يمكن أن تُضبط بالشورى والقبول الشعبي في فترة التأسيس، وهو ما يؤكد عليه في العادة أغلب البحَّاثة في شؤون السلطة والحكومة في الإسلام، ومن بينهم السيد فضل الله، لكنها تُعرض عن تفعيل الرضا والمشاركة الشعبية في فترة الاستمرار، بناءً على عدم إلزامية رأي الأكثرية، وقد يكون ذلك مدخلاً لتبرير سلوك العنف الذي تتخذه السلطة للمحافظة على إسلامية الدولة.

إضافة إلى عدم وضوح الآلية التي تُمكِّن الشعب من أن يلعب دوراً ما في مسألة تغيير الحاكم، إذا لم تكن له في الأساس مدخلية في منح أو حجب الشرعية عن الحاكم. فالسَّيد فضل الله نظَّر لمشاركة الأمة، ومنحها مكانة مرموقة، وأشار إلى دورها في مسألة الرقابة، لكنه أغفل الحديث عن العناصر الرقابية التي تكفل عملية ضبط السُّلطة، ولم نلحظ في كتابات السيد ما يشير إلى تبنيه مفاعيل قانونية تُعيِّن هذه المكانة التي تحتلها الأمة، أو تحمي المشاركة الشعبية من انتهاك السلطة. إن الإقرار بدور الأمة ينتظر ترجمة على الصعيد العملي، وتُخرجه من الأفكار والتصورات المثالية. فالمسألة لا تتصل بدفع الشبهات عن الإسلام، وتبيان أن له رأياً في كل الموارد والقضايا المستجدة، وإنما يتعلق الموضوع برمته في أصالة الحقوق العامة، والاعتقاد بأن المشاركة والرقابة حق إلهي للشعب لا يمكن نزعه منهم. وفي ظل الظروف المعقدة التي نعيشها اليوم لا يمكن تغافل الحديث عن وسائل تعزيز المشاركة الشعبية، والأدوات التي تعين على إنجاز هذه المشاركة على أرض الواقع، وضمانات عدم الاستبداد، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلَّا إذا اتَّضحت جميع تفصيلات النظرية العامة في الحكم، وتحديد الآلية القانونية التي تُمكِّن الأمة من محاسبة الحاكم أو عزله دون الحاجة إلى الصدام المسلح أو إراقة أنهار من الدماء. وربما يعود سبب عزوف السيد فضل الله عن تفصيل ذلك إلى أنه بالأساس لم يجد في النصوص ما يُشير إلى أهمية تعيين شكل الحكم أو تحديد المنهج السياسي في الدولة الإسلامية، كما مرَّ سابقاً.

3- بناءً على رأي السيد فضل الله بأن الشورى ليست ملزمة للحاكم، ورفضه القبول بشرعية الشورى كأساس للحكم، على اعتبار أن الآية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} لم تشر صراحة إلى ما تفرضه عملية الاستشارة من مسؤوليات على صاحب الأمر المستشير إذا لم يقتنع بالرأي المشار إليه، فإن الآية «لا تفرض شيئاً بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعته بعد الاستشارة، سواء كانت منسجمةً معها أو غير منسجمة»، فمن غير الواضح لديه كيف يمكن إلزام الحاكم برأي أهل الخبرة؟ وماذا لو أجمع أهل الخبرة على فساد رأي الحاكم طالما هو غير معصوم ورأيه عرضة للخطأ؟.

إذ إن الموضوع في شقه السياسي يُناقش من بديهية أن الحكم الذي لا يتمتع بمقبولية شعبية لا يمكن أن يكون مُطاعاً، ولا يمتلك أي سلطة حقيقية على الناس، فالسلطة المستندة إلى قوة الردع وإن فرضت توجهها على المجتمع لفترة من الزمن، لكنها في النهاية ستُذعن وتُعلن فشلها. ومن البديهي أن رأي الشعب لن يكون له أهمية تذكر، إذا لم يتمتع بإلزام من نوع ما، فإن كان للحاكم صلاحية تجاهل رأي الناس، وتبين خطأ رأيه، فإن الحد الأدنى من الموثوقية بين السلطة والشعب سوف يتلاشى بصورة تلقائية.

وهذا لا يعني القول بأن رأي الشعب يمكن أن يهدم الحكم الشرعي، وإنما يعني تحديداً حق الناس في الإشراف على أعمال السلطة، ومراقبتها، والحد من الظلم، ويمكن أن يرد ذلك من ضمن التكاليف العمومية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما فعل الإمام الخميني تماماً.

وإن كانت السلطة لا تأخذ شرعيتها إلا بإذن الفقيه العادل، فإن تصرفاتها لا يمكن أن تحوز على الشرعية ما لم تَحُزْ على الرضا العام. وهو أمر لا يتحقق نظريًّا، وإنما عبر أدوات واضحة وملزمة، تمنح الشعب سلطة حقيقية، فالشعب هنا مصدر من مصادر السلطة السياسية، وليس مجرد كيان له اعتبار نظري. والاكتفاء بإسناد فاعلية ولاية الحاكم إلى الناس دون شرعية الحكم، سيعود بالنفع الأكبر على الحاكم لا الناس، وذلك لكونه يستل أدوات الحراك السياسي وقضايا الإدارة وضبط المجتمع من الناس أنفسهم، لكنه في الواقع لا يشعر بانتمائه لهم، لكونه يستمد قوته وشرعيته من مصدر آخر غير الشعب، وهو الأمر الذي يستدعي تقسيم الشرعية إلى دينية وأخرى شعبية، ولا تكون سلطة الدولة شرعية وقانونية دون حيازتها على كلا الشرعيتين.

خلاصة

بناءً على ما تقدم، فيمكن تصنيف السيد محمد حسين فضل الله من بين القائلين بالديمقراطية الدينية، على الرغم من الضبابية التي اكتنفت بعض آرائه السياسية والفكرية. فإذا أخذنا موقف السَّيد فضل الله من المصطلحات المركبة من أمثال الديمقراطية الدينية والإسلام الديمقراطي، وتحفظه من منح أي شرعية لمصطلح الديمقراطية بما يحمله من مضامين فكرية ملتبسة تتعارض من وجهة نظره مع الشريعة، وتردده في إعطاء الأمة سلطة إلزامية على الحاكم، بما فيها رأيه في عدم إلزامية الشورى، وعدم تحديد المساحات التي يتحرك فيها الفقيه في مقابل المساحات المتروكة للأمة بشكل واضح، فيمكن تصنيف السيد فضل الله من ضمن الرافضين لمفهوم الديمقراطية الدينية، ويُشَّيد بدلاً عنها نظام إسلامي نقي، فهوية الدولة الوحيدة أن تكون إلهية دينية، والقرار فيها للفقيه بوصفه نائباً عن المعصوم، الذي يستأنس برأي الخبراء، أو يعود لشورى الفقهاء.

أما بناءً على تنظيره لمسألة العدالة، وسيادة القانون، والحرية، ومن خلال توسعة مساحة النظر في شكل الحكومة الإسلامية، وقوله بضرورة المشاركة السياسية، بما يكتنف ذلك من منح الناس فرصة التدخل لاختيار المنهج السياسي في الدولة، وتشكيل الحكومة، وانحيازه للمضمون الديمقراطي، فيمكن تصنيف السيد فضل الله من ضمن القائلين بالديمقراطية الدينية، وما يُساعد على ذلك أنه لا يمانع في بعض أبحاثه من إيجاد صياغة جديدة للديمقراطية تؤكد على المضمون الإسلامي في داخل الديمقراطية، بحيث تمارس حركة الإسلام في الواقع السياسي بطريقة ديمقراطية من دون أن تكون الديمقراطية كخط فكري، هي أساس الذهنية الإسلامية، أي تفعيل الأسلوب الديمقراطي المحصن بالمفاهيم الإسلامية.

وهو ما يوحي بأن تحفظ السيد فضل الله من الديمقراطية لا يقف عند التركيب اللغوي وإن أشار لذلك في كتاباته وأبحاثه مراراً، بقدر ما يكمن قلقه من الحمولات الفكرية والفسلفية للمصطلح، فإذا استطعنا من خلال التراكمات الفكرية والتجربة الاجتماعية أن ننتزع اللفظ من ظلاله السلبية، ليأخذ مداه السياسي الإيجابي، ويعطينا مدلولاً متوازناً يجمع ما بين الثمرات المضيئة لمفهوم الديمقراطية المتداول في الفكر الأوروبي، والمفهوم الناشئ للديمقراطية في العالم الإسلامي بوصفها نظام عمل للدولة وليس للدين، فلا يعد ثمة مُبرر للتحفظ من مفهوم «الديمقراطية الدينية» لا من حيث المضمون ولا من حيث اللفظ.