تفتتح أحداث الحادي عشر من أيلول زمناً من المفارقات والتناقضات التي لا يسعنا إلا التصدي لها بالتفكير والتحليل، وإن كانت دراسات وأبحاث كالتي عرضها هنتنغتون في كتابه " صدام الحضارات " وفوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ" تعتبر المرحلة النظرية لتنازع الحضارات، فإن " أحداث مانهاتن " تعتبر الشرارة الأولى للحرب الحضارية القائمة بنظر البعض والقادمة بنظر البعض الآخر، ومهما حاولت أطراف من الجانبين التقليل من قيمة هذه الأحداث، وعدم إعطائها أهمية في التأثير على مسار الحوار بين الحضارات المختلفة، وتحديداً بين الحضارتين الإسلامية والغربية، فإن مسار الأحداث يتكلم بلغة مختلفة تماماً تُنذر بانهيار ما حاول عقلاء الطرفين بناءه خلال سنوات طويلة.
فالغضب الذي تملك الشارع الغربي والأمريكي خصوصاً، ضد كل ما هو مسلم وعربي بعد أحداث نيويورك كاد أن يعصف بالجميع، فمن الدعوة إلى مقاومة الإرهاب، إلى المطالبة بوقف كافة أشكال دعم وتمويل الجهات المتورطة بالعنف أو المشتبه بذلك، بدأت المساعي حثيثة لإدراج جهات وجماعات وأشخاص في قوائم " الإرهاب "، رافقها حملة مركزة ضد المناهج والمدارس الدينية في بعض الدول الإسلامية، والعمل على تطوير مبادئ وأنظمة العالم الاسلامي لتنسجم أكثر مع ثقافة المعسكر الغربي، وإن تطلب الأمر التدخل العسكري وتغيير أنظمة الحكم القائمة.
بالنسبة للعالم العربي والإسلامي فقد أبدى تعاطفاً وتعاوناً مع الولايات المتحدة بعد أحداث مانهاتن، وأيدت معظم البلدان الإسلامية دعوتها لوقف ودعم أي تمويل للجهات المتورطة بالإرهاب، فالغالبية العُظمى اعتبرت الحدث اعتداء على الإنسانية واستهدافا للأبرياء، وهو ما يخالف التعاليم الإسلامية السمحة.
لكن هذا التعاطف تحول في كثير من القطاعات الشعبية والسياسية إلى "شك وريبة" بلغ حد الكره في أوساط شعبية عديدة، نتيجة للتدخلات السياسية الأمريكية في المنطقة، متجاوزة الأعراف الدولية والخصوصيات الوطنية، واعتبار خطابها الغربي الخطاب الأرفع والأنسب الذي يجب أن يسود العالم وهو ما قلل من قيمة الحديث عن الحوار، واعتبره بعضهم ترفاً لا يجوز الحديث عنه، فالقوي لا يحاور الضعيف بل يملي عليه إرادته، ويعيد تشكيل هويته، فأي حوار يمكن له أن ينمو بين الطرفين ؟
يذهب المتفائلون إلى القول أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لا تعني نهاية تاريخ "الحوار الحضاري بين الأمم والشعوب" وإن أبدت أوساط سياسية تحفظها أو عداءها للمسلمين، فإن منظمات أخرى نشطت لحماية حقوقهم، وبرزت أقلام عديدة تُنافح عن الجالية المسلمة في الولايات المتحدة على سبيل المثال.
ففي بادرة إيجابية انتشرت خلال العام الماضي ظاهرة تأييد قضايا المسلمين والعرب وعلى رأسها قضية فلسطين، وسط فئات هامة داخل المجتمع الأمريكي مثل فئة الطلاب، والجماعات اليسارية المناهضة للحروب والعنصرية، والجماعات الحقوقية، وبادرت بالتعاون مع المؤسسات الإسلامية لعقد عدد من المسيرات السلمية شارك فيها عدة آلاف تخطت في بعضها المائة ألف متظاهر.
ثقافة الكره :
و تحتاج هذه الظاهرة في نظر البعض إلى دراسة أعمق، لأهمية البحث عن سبل تفعيل " ثقافة الحوار " وإغلاق منافذ الصراع بالقدر الممكن، فمن المخزي أن تستغل الوسائل والأدوات الحديثة في الاتصال بين الشعوب لتفجير الخلافات، وإثارة المزيد من الفجوات بين الأمم كأسوأ استفادة من منجزات الحضارة العلمية.
ففي الفترة الأخيرة عانى المسلمون في العالم من حملة تشويه قاسية، شنتها جهات يمينية مسيحية ضد الإسلام وشخصياته التاريخية البارزة، وقد تعرض أحد قادة اليمين المسيحي " بات روبرتسون " لشخصية الرسول محمد (r) بإساءات بالغة، خلال برنامج "هاينتي أند كولمز" أحد برامج قناة فوكس الأخبارية الأمريكية، فقد وصف "بات روبرتسون" النبي الأكرم بالتطرف معلقاً وتقول أن هؤلاء الإرهابيين يحرفون الإسلام !! إنهم يطبقون ما في الإسلام " واصفا الإسلام بأنه "خدعة هائلة واحتيال كبير" @[1]#.
ويعلن السيناتور الأمريكي "جوزيف ليبرمان" "أنه لاحل مع الدول العربية والإسلامية إلا أن تفرض عليها أمريكا القيم والنظم والسياسات التي تراها ضرورية.. فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية، بل تتعداها إلى الدول الأخرى"@[2]#.
ويتحدث رئيس وزراء إيطاليا "سيلفيوبير لسكون" أنه لا بد من انتصار الحضارات الغربية على الإسلام، الذي يجب أن يهزم، لأنه لا يعرف الحرية ولا التعددية ولا حقوق الإنسان، وأن الغرب سيواصل تعميم حضارته، وفرض نفسه على الشعوب@[3]#.
وتمثل هذه التصريحات عينة من" ثقافة الكره" التي تغذيها وسائل الإعلام وتبثها بصورة دورية، تتزايد حدتها مع سخونة الأحداث، ويرى د. محمد عمارة أن هذه الثقافة ليست وليدة اليوم بل لها جذور تاريخية تمتد مع بزوغ فجر الرسالة، معتبراً أحداث الحادي عشر مجرد ورقة استفاد منها الآخر لضرب الإسلام وإضعافه @[4]#.
ومع تزايد هذه النغمة في الغرب، وتبني وسائل الإعلام لها وارتباطها " بصورة أكبر " بحملات عسكرية مبررة تحت لافتات مختلفة تعمق شعور متبادل " بالكراهية " للغرب، أصبحت هناك مشكلة حقيقبة في العلاقة بين الشعوب، وازدادت الهوة في تراجع مذهل لكل لافتات الحوار والرغبة في الالتقاء على مساحات إنسانية مشتركة.
فالإنسان المسلم يبدو اليوم أكثر اقتناعاً بأن "العولمة" ما هي إلا حلقة من حلقات التغريب وزعزعة الهوية الذاتية للشعوب الأخرى، وثمة خشية حقيقية من انفلات يصيب الشارع الإسلامي يسير نحو التصادم مع الآخر، أو الانعزال والانكفاء على الذات، وكل خيار له مساوئه وله تبعاته السلبية.
هذا الاستعداد لدى الشارع الإسلامي يحصل على دعم معنوي واسع من جهات دينية وثقافية، تبرز من خلال وسائل الإعلام المتاحة "التقليدية أو الحديثة" لتبرير حالة القطيعة مع الآخر، والتأكيد على أن الغرب كله "دار كفر"، واعتبار دعوات الحوار إنما هي دعوات غير مسؤولة وغير مبررة، بحيث نخرج بنتيجة نهائية تتخلص بإعلان الجهاد ضد الغرب أو الاستعداد لذلك، وهي بالتأكيد ثقافة لا يمكن لها أن تفكر أو ترسم لعلاقة متوازنة مع الآخر، ولا تبذل جهوداً في سبيل تحسين صورة الإنسان المسلم، أو الاستفادة من وسائل الإعلام المتوفرة للتبشير بالفكر الإسلامي والتركيز على الجوانب الإنسانية والاجتماعية فيه، أو في محاولة التأثير على مصادر القرار، أو لا أقل من السعي نحو كسب الشارع الغربي المبتعد بطبيعته عن الهموم السياسية، وربما تركز اهتمامه " بأخبار الطقس " أكثر من اهتمامه " بصراع الحضارات " أو شؤون السياسة الخارجية.
المسألة الأساسية أن عالمنا الاسلامي مُعبأ إلى آخر درجة ضد الآخر، لكن هذه التعبئة وصلت حد التشنج، والإنسان المتشنج يفقد قدرته على الإنتاج، ويتخلخل توازنه، و تشوش رؤيته، ومن المعيب أن تواجه الآخر بارتباك وتردد، إذ ستكون الهزيمة وليس شيئا آخر هي المحصلة النهائية، ولن تنفعنا الشعارات العريضة ولا ادعاءات القوة.
وبظني أن الخطوة الأولى لإعادة التوازن هي نزع فتيل التوتر لدى شعوبنا، ودفعهم إلى البحث عن مفاهيم أكثر وضوحاً والبعد عن لغة الشعارات الرنانة، فالعمل الجاد والمضيء وحده الكفيل بإعادة الاعتبار لهذا الجزء من العالم، فثمة أسباب للقوة وعوامل للنصر، استفاد منها غيرنا فخرق الصعاب بينما تجاوزنا الزمن، لنظل نكرر جيلاً بعد جيل لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا ؟
ويأخذ سؤال التخلف مشروعيته في ظل انفتاح وتداخل رهيب بين الأمم والحضارات المختلفة، ليتلمس الإنسان المسلم مقدار تقهقره عن هذه الحركة المتسارعة للعلم يوميا وعن قرب، فيكفي أن تضغط على زر جهاز الكمبيوتر وتتصل بالشبكة العنكبوتية لتلاحظ الهوة السحيقة بيننا وبينهم، بين نوعية اهتماماتنا ونوعية اهتماماتهم، قد نتحدث معهم ونحاورهم لكن مع فارق الدرجة، فهم يتحدثون من مكان عال ونحن نتحدث من مكان منخفض، وهي درجة الفارق الحضاري بين عالم يلهث خلف صراعات دينية وحوارات لاهوتية، ويعتبر إسكات الخصم هو غاية النصر وتمام المنى، وبين عالم يتسلح بكل التقنيات ويُسخِّر كل الإمكانات الفكرية والتكنولوجية لبسط نفوذه على العالم، فبسط سيادته عن استحقاق وجدارة.
وتتمثل المعضلة أساساً في أننا لم نحاول الحصول على جواب واقعي لسؤال التخلف، بل ظلت أدبياتنا طوال سنوات طويلة تحوم حول ذات السؤال وتعيد إنتاجه بحلة جديدة، في الوقت الذي تتقدم أمم أخرى بخطوات مدروسة لوضع حلول عملية تجعلهم يتساءلون: لماذا لا نكون في طليعة الأمم المتقدمة ؟؟.
فالتقدم من وجهة نظرهم إنما هو تعبير عن حركة فاعلة تقوم بها الأمة على مختلف الأصعدة، وليس شكوى أو تذمراً، فالاكتفاء بالشكوى يولد حسرة ولا ينتج فعلاً حضارياً راقياً.
من الشكوى إلى حديث التنمية :
تظل نبرة الحزن واضحة على ما آلت إليه الأمور في بلادنا، إذ تتصاعد وتيرة الحسرة مع تداخل العوالم والتقائها على مساحات واحدة على الرغم من إرادة الجميع، وبينما يلوك هذا الجزء من العالم سؤال التخلف ويلوك شكواه من تبعاته، يحرز الآخر انتصارات إضافية تزيد من معدلات فتوحاته لتزداد الفجوة، وتتسع الهوة ويتضاعف الألم.
ويكمن المخرج الحقيقي في تحول خطابنا من لغة الشكوى إلى حديث التنمية، والبحث المضني عن عوامل وأساليب النمو الحقيقي، ليس من خلال الشعارات التي شبعنا استهلاكاً لها وأشبعتنا نزفاً، بل من خلال برامج حقيقية تضع خططاً تنموية وتعمل على إنجاحها ورفع معدلاتها.
ويتمثل مدخل التنمية الحقيقي في زيادة المشاركة الشعبية، وإعادة الدور إلى المجتمع وفعالياته ومؤسساته الأهلية، فالحكومات وحدها لا تستطيع النهوض بحاضر الأمم، بل لا بد من مشاركة فاعلة من المجتمع الأهلي في المجتمعات الإسلامية، والذي غيب لسنوات طويلة.
ولو تتبعنا حركة المجتمعات المتقدمة لوجدنا كم هي مجتمعات فاعلة تقوم بدورها بفاعلية، وتلعب المؤسسات المدنية فيها دوراً أساسياً يكاد يفوق دور السلطة القائمة، مجتمع ومؤسسات لها قوانينها الواضحة وحركتها الموجهة نحو سد النواقص في الحياة العامة بما يدفع بالمجتمع دوماً نحو المزيد من التطوير، واستحداث البرامج والخطط المناسبة.
ويلعب الإعلام دوراً أساسياً في توجيه المجتمع وصنع أجندته، فبينما يدفع الإعلام العربي الشعوب العربية نحو المزيد من الركود، وتضخيم السلبية، تلعب تكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام الغربية دوراً توجيهياً منظماً يعلي من شأن ما يرونه قيماً اجتماعية أساسية يجب أن تسود، ويحارب "القيم التقليدية" ويحملها مسؤولية التخلف.
وفي دراسة للباحث "أمين سعيد عبد الغني" عن "دور القنوات الفضائية والعربية في نشر الثقافة العربية" كشف خلالها عن أداء هذه القنوات وتحديداً في علاقتها بالثقافة، خالصاً إلى أن الأرقام تشير إلى تركيز وسائل الأعلام العربية على وظيفة الترفيه في المقام الأول، حيث بلغت نسبة البرامج الفنية 60% من ساعات البث، بينما جاءت التقارير الإخبارية في المرتبة الأخيرة بنسبة 5%. لافتاً إلى أن القنوات العربية سعت إلى تحقيق أهداف وجدانية بالدرجة الأولى وبنسبة تبلغ 65% ثم الأهداف المعرفية العامة، وتليها الأهداف السلوكية بنسبة لا تتجاوز 5% فقط من مجموع البرامج.
ويرى القائمون على وسائل الإعلام والاتصال أن المراد من البرامج التلفزيونية وأمثالها أن تكون محطة للتنفيس عن الهموم وسرد التجارب، وهذا أمر محمود لكن باعتقادي أن الوقت قد حان للتفكير بصورة جدية بما نقدمه من برامج ضمن خطة إعلامية واضحة المعالم، فالتنمية بصفتها هدف متقدم لا يمكن أن تتحقق في ظل ثقافة استهلاكية مسيطرة، وفي ظل وسط إعلامي ضاغط يقلل من قيمة العمل والإنجاز ويعلي من قيمة الترفيه، كما يمكن أن نفهم علاقة الإعلام بالتنمية من خلال فهم الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في توجيه الجمهور وفي وضع أولوياته.
الإعلام و هموم التنمية:
ويطرح العديد من الباحثين رأياً في ارتباط الإعلام بالتنمية، مفاده استحالة تحقيق تقدم ملموس في معدلات التنمية بمعزل عن إعلام فاعل يدعم العملية التنموية في المجتمع، "إذ لايمكن تحقيق خطط ومعدلات التنمية في الدول النامية، دون مشاركة الإعلام في تعبئة الموارد البشرية، الذي يتطلب قدراً كبيراً من الاهتمام بما يعرفه المواطنون من التنمية، وما يرونه منها لتشجيع المواقف الاجتماعية المؤيدة للتنمية وتزويدهم بالمعارف والمعلومات المواكبة لعملية تنمية المجتمع المحلي، من جهة أخرى أصبحت السرعة الفائقة في نقل المعلومات مطلباً ملحاً لصنع القرار في كل المجالات، ومنها الاقتصاد والمال والعلم والفن، هذا بالإضافة إلى السياسية والحرب، وأصبحت المعلومات محوراً هاماً لا يمكن الاستغناء عنها، ولها بصماتها القوية على كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والنفسية"@[5]#.
في العام 1972 صدرت دراسة لـ (Show , Mccombs) أثبتا من خلالها قدرة وسائل الإعلام على ترتيب أولويات اهتمامات الرأي العام، والدراسات والأبحاث المتكاثرة في هذا الصدد لم تنقطع منذ ذلك الحين، وقد اتفقت أغلبها على قوة الارتباط بين أولويات وسائل الإعلام وأولويات اهتمامات الرأي العام، وأثبتت أن القضايا الحقيقية لا تستطيع وحدها أن تحدد أولويات الرأي العام، وأن الناس في حاجة ملحة إلى تبني وسائل الإعلام للقضايا والمشكلات الواقعية حتى يبدأ بالاهتمام بها، فأغلب الناس لا يهتمون بالحدث لكونه هاماً وجديراً بالمتابعة، بل لأن الإعلام أبرزه في وسائله.
ومن هنا يكون مشروعاً الحديث عن دور وسائل الإعلام في تشويه اهتمامات الناس، وصدهم عن القضايا الحيوية، وتعطيل فرص التنمية، إذ تمتلك وسائل الإعلام قدرة التركيز على جملة من القضايا البعيدة عن خبرة الجمهور، بما يدفعهم للانسياق خلف " الرأي الموجه " دون إدراك بما يمثل ذلك من خطر على استقلالية الجمهور.
وهذا ما دعا عدداً من الباحثين إلى التأكيد على ضرورة تحديد دور وسائل الإعلام في دعم العملية المجتمعية لإيجاد تحولات في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث تكون موجهة نحو تنمية علاقات اجتماعية سياسية، تكفل زيادة الارتباط بين المكافآت وبين كل من الجهد والإنتاجية، بما يؤدي إلى تحقيق زيادة منتظمة في متوسط الدخل الحقيقي للفرد @[6]#.
ويرى الباحثان د. محمد معوض و د. ياسين الياسين أن مدخل التنمية الحقيقي يتمثل في المشاركة الشعبية، والإعلام يعلم الجماهير هذا النوع من المشاركة من خلال جمع ونشر الأخبار والبيانات والمعلومات والصور والحقائق والآراء والتعليقات المطلوبة، من أجل فهم الظروف البيئية والمحلية والعالمية والتصرف تجاهها عن علم ومعرفة، والوصول إلى وضع يمكن الفرد من اتخاذ القرار السليم باستمرار@[7]#.. هذا على مستوى التنمية السياسية.
أما على مستوى التنمية الاجتماعية فيمكن لوسائل الإعلام التركيز على ضرورة العمل المؤسسي في المجتمع، والبعد عن الفردية في اتخاذ القرار أو في التفكير، إذ يعجز الأفراد كأفراد عن مواجهة التحديات التي تهدد وجودهم، ومن خلال الرسالة الإعلامية يتم التركيز على ضرورة تكاتف الجهود وتلاقيها، من خلال العمل في إطار مؤسساتي لتنظيم الجهود ودوامها عبر تراكم الإنجازات وتزايد القوة، إن هذا الإدراك يُمثل القدرة الأساسية للعبور إلى التنمية الشاملة والتطور الحضاري، فكم نحن بحاجة إلى إعادة الهيبة إلى رأي الجماعة، وإعادة المكانة اللائقة للأمة في رسم مستقبلها بيد أبنائها، وهو أمر لايمكن أن يتم دون تبلور إدارة مجتمعية للتنمية تؤدي لإيجاد إرادة سياسية ملتزمة بعملية التنمية، وهو دور أساسي من أدوار وسائل الإعلام.
وعلى مستوى التنمية الثقافية فيمكن اعتبار وسائل الإعلام الآلة التي تحرك الثقافة في وسط المجتمع، وتحفظها من خطر العُزلة، إذ تمتلك الوسائل الإعلامية القدرة على المساهمة الفاعلة في عرض الأفكار المتنوعة، مع المحافظة على القيم الأساسية، حتى لا ينصهر عقل المتلقي في نمط واحد تحت تأثير وسيلة إعلامية محددة.
ومن الواضح أن أجهزة الإعلام وأجهزة الثقافة لا تختلف عن بعضها البعض وإنما تتكامل فيما بينها، وتزداد درجة البعد والقرب بينهما بحسب الأشخاص والجهات القائمة على التوجيه الإعلامي والثقافي.
ففي بعض المجتمعات المحافظة استطاعت وسائل الإعلام أن تحطم الكثير من التقاليد الاجتماعية أو السياسية، رغم أن التقاليد والأعراف الاجتماعية هي من أصعب الأمور القابلة للتغيير أو التبدل، وفي بعض المجتمعات ساهمت وسائل الإعلام في زيادة الاهتمام بالقراءة، أو الانكباب على نوع معين من الاهتمامات السياسية أو الثقافية، وغيرت من الأولويات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، وهو ما يطلق عليه بناء الأجندة، أو إعادة ترتيب الأجندة.
بناء الأجندة وفرض الصمت:
امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها لا يختلف بأي حال عن امتلاك أي سلعة أخرى، فالأمر لا يعدو القدرة على توفير رأس مال ضخم مناسب، يؤهل الجهة لامتلاك محطة إذاعية أو مؤسسة صحفية أو شبكة تلفزيونية أو سينما أو دار نشر، وبامتلاك إحدى هذه الوسائل يكون بإمكان الجهة الاضطلاع بدور حاسم في عملية التوجيه أو التضليل، وفي ترتيب أولويات المتلقي.
ويرى الباحثان لانج ولانج ( (G. E. Lang and K. Lang , 83 أن بناء الأجندة يتم في 6 مراحل كالآتي@[8]#:
1- تلقي الصحافة الضوء على بعض الأحداث وتجعلها بارزة.
2- تحتاج بعض القضايا إلى قدر أكبر من التغطية لتثير الاهتمام.
3- وضع القضايا أو الأحداث التي تثير الاهتمام في إطارها الذي يضفي عليها المعنى ويسهل فهمهما وإدراكها.
4- اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام يمكن أن تؤثر على مُدركات الجمهور لأهمية القضية.
5- تقوم وسائل الإعلام بالربط بين الوقائع والأحداث التي أصبحت تثير الاهتمام وبين بعض الرموز الثانوية التي يسهل التعرف عليها على موقع الخريطة السياسية.
6- بناء الأجندة يتم بسرعة وتزايد عندما يتحدث بعض الأفراد الموثوق فيهم في قضية ما.
ولكن من يصنع هذه الأجندة ؟
المصادر التي تزود وسائل الإعلام بالمادة الإعلامية هم رؤساء الدول والحكومات وكبار المسؤولين والسياسيين، وهو ما يدخلنا في دائرة الحديث عن " سلطة الضبط الاجتماعي " فإذا تحدثنا عن هذه السلطة في دولة ديموقراطية فإننا نتحدث عن سُلطة أقل وطأة في ترتيب الأجندة، وتتمتع وسائل الإعلام بحرية نسبية تُتيح لها تبني بعض اهتمامات الجمهور، والدِّفاع عن قضاياه المطروحة ضمن المُثل والقيم المتفق عليها اجتماعياً.
وإذا تحدثنا عن دولة " تسلطية " فإننا نتحدث عن هيمنة شاملة، تكون خلالها وسائل الإعلام موجهة من المصادر التي ذكرت آنفا، فهي تضع الأولويات والقضايا التي يتم طرحها وإثارتها في وسائل الإعلام، و.. " المتأمل لوضع وسائل الإعلام العربية في مجملها باستثناءات قليلة يكاد يذهب إلى القول بأن هذه الوسائل لا حول لها ولا قوة في ممارسة وظيفتها في بناء أولويات اهتمامات الرأي العام بشكل مستقل، لأن هذه الوسائل في التحليل الأخير ليست سوى مرآة عاكسة لأولويات اهتمامات السلطة السياسية في المجتمع " @[9]#.
بالإضافة إلى وضع الأجندة هناك فرض الصمت، ويأتي من حاجة الناس إلى الإجتماع وعدم العزلة، فيضطر الإنسان لإخفاء رأيه واعتناق رأي الأغلبية، ويأتي الإعلام ليدعم هذا الصمت من خلال تأييده وتأكيده على رأي الأغلبية، وهو ما يؤدي بالتأكيد إلى إضعاف المجتمع، وتضعيف التوجهات النقدية أو عزلها وانخفاض مكانة المختلفين، كما يرى إلياهو كارتز ( E.katz) الذي يلخص فكرة التزام الصمت وعملها بالآتي @[10]#:
1- كل الأفراد لهم آراء.
2- الخوف من العزلة يجعل الأفراد لا يُعبرون عن آراءهم اذا أدركوا أن آراءهم لا يؤيدها الغير.
3- من ثم يقوم بإحصاء سريع لمعرفة مدى التأييد من عدمه.
4- وسائل الإعلام تعتبر المصدر الرئيسي لإطار المعلومات حول توزيع الرأي، ومن ثم مناخ التأييد أو عدم التأييد.
5- تقوم الأطر المرجعية الأخرى بعملها.
6- تميل وسائل الإعلام لأن تتحدث بصوت واحد غالباً ما يكون محتكراً.
7- تميل وسائل الإعلام إلى التحيز في عرض وتوزيع الرأي العام في المجتمع فتؤدي إلى تشويه هذا التوزيع.
8- يدرك الأفراد والجماعات أنفسهم مختلفين وغير مؤيدين ومن ثم سيفقدون الثقة، وقد لا يغير رأيهم الخاص، ولكنهم سيوقفون تجنيدهم للغير وتنازلهم عن القتال دفاعاً عن رأيهم.
9- بهذه الطريقة يتأثر بناء المجتمع ويضعف نتيجة انسحاب الأفراد أو الجماعات من المشاركة.
هذا الدور الخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام يُحتم علينا إعادة النظر في أسلوب تعاطينا مع هذه التقنية الهائلة، فهل أحسنا في هذا الجزء من العالم وفي ظل التحديات العالمية الضخمة التعامل مع وسائل الإعلام ؟.
سوف نعرف من خلال الإجابة على هذا التساؤل لماذا تبدو كل قضايانا المصيرية خاسرة، ولماذا لاتزال صورة الإنسان المسلم في العالم صورة مشوهة ؟ فكلما اندمج العالم أكثر وتقاربت أطرافه بواسطة وسائل الاتصال كلما بدت هذه الصورة قاتمة.
وبظني أن الأوان قد حان للانتقال من مرحلة بناء الأجندة ضمن معايير الآخرين، إلى مرحلة بناء الرسالة الإعلامية ضمن معايير أخلاقية ومهنية واضحة المعالم، فوسائل الاتصال تُمثل أشكالاً ثقافية يمكن أن تؤدي أدواراً مُتناقضة، فهي يمكن أن تحث على التنمية كفعل حضاري على كافة مستوياته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد تقولبها ضمن أطر الترفيه والتسويق الدعائي.
البحث عن القوة :
ما يمكن أن نوجزه هنا القول أن الإعلام بات أحد أهم أدوات القوة في العالم الراهن فكيف يمكننا استثماره بأفضل صورة ؟
فبإمكان الوسائل الإعلامية أن تساهم في خلق وتأكيد الهوية والقيم الإسلامية، كما يمكن لها إيجاد تأثيرات إيجابية على الساحة الداخلية في العالم الاسلامي، عبر توجيه الناس نحو قضاياهم الحية والأساسية، ومن المؤسف أن الإعلام الإسلامي لايزال إعلاماً دفاعياً ينطلق من ردة فعل وحالة من السلبية، وبما أنه " جزء من إعلام دول العالم الثالث، فإنه يعاني من ذات الصعوبات والمشكلات التي يعاني منها إعلام دول العالم الثالث، كما أنه أضحى مرتبطاً بصورة مباشرة بكل أشكال الصراع العربي والواقع العربي، الأمر الذي سهل عملية استدراجه إلى الزاوية التي يصور فيها على أنه إعلام متشنج، وأنه أسير مواقف تقوم على الشك والإدانة " @[11]#.
وقد تنبه الأوائل إلى أهمية وموقعية القائمين بشؤون نقل الأخبار والأفكار، فقد " ورد في كتاب البرهان في وجوه البيان لأبي الحسين إسحاق ابن إبراهيم بن سلمان بن وهب منذ أواسط القرن الهجري الرابع أن أصحاب الخبر ينبغي أن يكونوا من أصح العمال ديانة وأكملهم أمانة وأظهرهم صياغة، كما ينبغي أن لا يتقدمهم أحد في الصدق والثقة والأمانة غير القضاة ومن جرى مجراهم وهم من لا يكون فيهم شيء من الحدة والحسد والغفلة والعجلة " @[12]#.
هذه الموقعية المتقدمة للرواة تنبع من تعاليم ثابتة، أكد عليها الإسلام واعتبرها ميزات تُميز الإعلامي المسلم عن سواه، فثمة إهتمام كبير باعتماد الحـوار أسـاسـاً في التبليغ " وجادلهم بالتي هي أحسن "@[13]#، عبر البحث المشترك عن الحقيقة كما هي ودون تأثر بعوامل خارجية " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال بعيد "@[14]#، وعبر انتخاب الكلمة الطيبة القادرة على إيصال المعلومة بطريقة سلسة ومقبولة " ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون "@[15]#، وهذا يستدعي التزام أمانة النقل وتجنب التحريف ليكون إعلاما نظيفا " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "@[16]#.
ولكن ثمة فجوة بين النظرية وتطبيقاتها العملية، ولا يمكن ردم هذه الفجوة دون أن يعود الإعلام إلى ممارسة دوره الطبيعي في بناء القوة وهي على أربع مستويات :
أولاً / بناء العقل النقدي:
ترتبط العقلية النقدية بمدى توفر أو غياب الديمقراطية في المجتمع وفي مناهجه التربوية والإعلامية، على أن " السمة الأساسية للنظام التربوي العربي أنه لا يساعد على تنمية وتطوير القدرات والمهارات الضرورية لأي باحث، كالحساسية الفكرية إزاء بعض المشكلات، والقدرة على ممارسة النقد وتكوين الرأي والتعبير عنه، والتعويد المبكر على القراءة والتعامل مع المكتبة، فهذه النظم في الغالب تقوم على أسلوب التلقين والحفظ، الأمر الذي يؤدي إلى تنميط عقول التلاميذ وقولبتها " @[17]#.
ولتعريف العقل النقدي يمكن القول: إن العقل النقدي هو نقيض العقل التجميلي الذي يقوم على تبرير التصرفات وتجميل الذات ووضعها في غير موضعها المناسب، هو العقل الذي يتسلح برؤية تاريخية ينطلق منها لمعالجة الواقع، ويكون في سلم أولوياته بناء المستقبل والمساهمة في تشكيله بصورة مناسبة.
ويتعامل العقل النقدي مع الحقيقة بذاتها، ولا يحاول أن يزورها أو يتلاعب بها أو يلتف عليها بحجة أو أخرى، بينما العقل التجميلي لا يخضع للحقائق إن عارضت ما يريد.
يحاول العقل النقدي أن يبحث القضايا في جذورها، ولا يرى الصور بسطحية، ولا يتعلق بظواهر الأشياء أو بالأمور الهامشية، بينما يقف العقل التجميلي عند النتيجة المتوافقة مع أهوائه، فهي التي تهمه بالدرجة الأولى، دون أن يعتني بعمق أو سطحية التفكير.
ومن اللافت أن وسائل الإعلام ونظم التعليم لدينا ليست لديها أي مساهمات تُذكر في بناء العقل النقدي، بل هي تدفع دفعاً نحو "العقل التجميلي" وذكر حسنات الذات، وذكر مساوئ الخصم دائماً وأبداً، ولذلك فإن من يتحكم في وسائل الأعلام هو من يمتلك أدوات التنفيذ، بينما يغيب عنها "صاحب الرؤية "، ومع الإحاطة بأن الإعلام العربي لا يزال يقتات على نظيره الغربي، وينقل ما لديه من سلبيات، تتبين مقدار الأزمة التي نعيشها في هذا العالم ووسط أمواج التحديات.
فبينما استطاع الإعلام الغربي أن يوجه آلته الإعلامية لنقد وتقييم حركته الداخلية، مساهماً في عملية الإصلاح الشاملة في بلاده، توقف الإعلام العربي عند ذكر حسنات الداخل ضمن مانشيتات عريضة ومستهلكه.. "كل الأمور بخير"، "الاقتصاد جيد"، "الأخلاق محفوظة"، "المستقبل مأمون" رغم تدهور الأوضاع السياسية، وسوء الأحوال الاقتصادية، واستشراء الفساد الإداري والمالي والذي بدأ ينخر الحياة الاجتماعية في الدول المعينة.
ومن البين أن الإعلام في ظل التحديات الجسيمة التي تمر على منطقتنا العربية والإسلامية يتحمل عبئا كبيرا في بناء العقل النقدي الحساس الذي يستطيع أن يتلمس مشاكله بموضوعية ويعالجها بحكمة وروية، الأمر الذي يتطلب إعادة تفكير في السياسات الإعلامية في الوطن العربي والإسلامي، بالصورة التي تواكب المرحلة القادمة بإرهاصاتها وتداعياتها المعلومة، سياسات تخلق لنا أجيالاً قادرة على التعاطي بروح نشطة تستلهم التجديد عنواناً لفاعليتها.
ثانياً / بناء القوة التقنية:
الاعتماد على الذات هو حجر الأساس في النمو، ومعضلة العالم العربي والإسلامي عموما أنه اعتمد على نقل أحدث الأجهزة والآلات والمعدات، لكنه فقد "سر الإنجاز"، ووضع نفسه في عجلة التبعية الدائمة للآخر إلى حد سلب الذات والهوية، وإلى حد الاضطرار إلى إسالة موارده المالية رغم ضعفها في بعض المناطق لصالح الغرب، فعلى سبيل المثال هو يشتري السلاح... والسلاح يتطلب صيانة، ويتطلب أيدٍ فنية تعمل عليه، والسلاح له مدة صلاحية، والمصانع الحربية تنتج آلات حربية جديدة تعطل من مفعوله، النتيجة.. الحاجة إلى شراء أسلحة جديدة باستمرار.
وهذه المعادلة تتكرر على كافة المستويات، وفي الإعلام لا يزال الإعلام العربي و الإسلامي يفتقر للكفاءات الحقيقية المبدعة والخلاقة، كما أن القدرة على التعامل مع الوسائل التقنية لا يزال محدودا في الكثير من المناطق، وحتى يتقنها أصحاب المهنة فإن الأدوات الإعلامية في العالم المتقدم تكون قد خطت خطوات غير مسبوقة تجعل من التقنية العربية مُتخلفة وغير قادرة على المنافسة.
يعتمد الإعلام العربي والإسلامي اعتماداً شبه كامل على استيراد معلوماته وأدوات إعلامه من العالم الغربي، " هناك 15 مؤسسة في 6 دول فقط هي أمريكا – وبريطانيا – وألمانيا – وهولندا – وفرنسا، تسيطر على 75 % من مبيعات العالم من أجهزة الاتصال من شاشات التلفزيون والتلكس والتسجيلات والفيديو والتلفزيون، إن أي نوع من أنواع الإعلام المكتوب أو الشفهي أو المرسوم لا يمكن بثه إلا عبر تجميع من هذه الأجهزة التي تنتجها هذه المؤسسات في هذه الدول "@[18]#.
أما عن نسبة تطور وسائل الاتصال والإعلام في البلاد العربية، فتشير " القراءة التحليلية في وسائل الاتصال والإعلام في المنطقة العربية " @[19]# أنها أقل من نسبة النمو البشري، أو حتى من الدخل القومي، مما يشير إلى أن مصالح التخطيط العربية لم تُعِرْ لهذا الموضوع الأهمية التي يستحقها، وهو ما شكَّل ويُشكل عقبة يجب تجاوزها في المستقبل خدمة للمصلحة العربية، كما أن الصناعات العربية لوسائل الإعلام والاتصال تكاد تكون معدومة في العالم العربي، فنحن نستورد كميات كبيرة من أجهزة الالتقاط الإذاعي والتلفزيوني وورق الصحافة، وغيرها من المواد الاستراتيجية التي لها مساس بأمن المواطن العربي.
وبناء على مادة إحصائية جمعها " شرام و جلز " عن حوالي مائة دولة، اكتشف الباحثان أن وسائل الإعلام الحديثة تنمو مع عناصر أخرى في المجتمع لها علاقة بالاتصال، مثل: الإقامة في المدن، والتعليم، الدخل القومي، وإذا كان الدخل القومي والإقامة في المدن يدفعون نحو زيادة وسائل الإعلام أو تفوقها، فإن التعليم وحده هو الذي يحدد مضمون وغاية الخطاب الإعلامي والنظم الإعلامية.
إن نظم الاتصال في أي مجتمع تعكس البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تعمل فيه، فحجم وسائل الاتصال والإعلام ومضمونها يتحددان وفق مفاهيم وفلسفة الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وطالما يعيش عالمنا تخلفا على هذه المستويات فمن الطبيعي أن تكون التقنية الإعلامية متخلفة، واهتماماتنا ضئيلة وتبعية.
و يمكن الإشارة إلى جملة من المعوقات الأساسية التي تواجه وسائل الاتصال في الدول العربية و حصرها في أربع نقاط:
1- الافتقار إلى الموارد البشرية المدربة تدريباً فنياً متلائماً مع اتجاهات التنمية وظروف التطور السريع.
2- المعاناة من ارتفاع نسبة الأمية، وحالياً الأمية الإلكترونية.
3- الإصرار على اتباع أساليب تقليدية في تناول قضايا التطور والشؤون المتعلقة
بالتنمية.
4- فقدان الاهتمام بالتنسيق بين الأجهزة المختلفة لتضافر الجهود وتمكن خطط التنمية.
ثالثاً / التحرر من التبعية:
لا يمكن أن يؤدي الإعلام العربي والإسلامي مهمته ودوره بكفاءة إذا لم يتخلص من تبعيته للنظام الإعلامي الغربي. فمن جهة أولى هذا الإعلام لا ينتمي إلى قيمنا وثقافتنا التي نحملها، ومن جهة ثانية هناك الكثير من الهموم والقضايا الخاصة التي يجب أن نتناولها ونعالجها بطريقة ملائمة، ومن جهة ثالثة: إن الإعلام الناجح إعلام له رسالة واضحة وصريحة، وفي هذا العصر تحديداً يجب أن يكون هذا الوضوح على درجة عالية من الشفافية.
وهذه المتطلبات لا يمكن أن ينهض بها إعلام تبعي لا يملك قرار نفسه، كما لا يمكن أن ينهض بها إعلام مُتلقٍّ ينتظر المادة التي يبثها من الآخرين، "إن الهوية الثقافية الوطنية كثيراً ما تُهددها التيارات الأجنبية التي تساعدها أجهزة الإعلام على الرواج، وذلك أن الاعتماد على النماذج المستوردة التي تعكس قيمها وأساليب حياة غربية يُعرض الذاتية الثقافية للخطر "@[20]#.
وهو ما يؤكد على أهمية رسم سياسة إعلامية واضحة تعتمد على مجموعة القيم التي يؤمن بها المجتمع وتغذي احتياجاته الفعلية من ثقافة وحث على التنمية، ومعالجة مشكلاته الواقعية، وعرض ما يلائمه من برامج، فهذه التغذية هي أهم ما يمكن أن تقدمه وسائل الإعلام لإنساننا المعاصر.
على أن هذا التحرر من التبعية لا يعني انغلاقاً عن الآخرين، كما لا يعني التعامل بخوف وقلق أو النظر للآخر بنوع من الشك والريبة، وإنما التحرر الذي يخلق قواعد عمل مهنية تتعامل مع الذات بثقة تُمكنها من تمحيص المواد وانتقاء المناسب منها دون تحرُّج، لتكون سيدة قرارها أولاً وأخيراً.
رابعاً / بناء القوة المعرفية:
القائمون على الإعلام الإسلامي لا يزالون مهمومين بالمحافظة على الهوية، ومنعها من الاستلاب، ولو استعرضنا العديد من الآراء لتلمسنا ذلك بصورة جلية، فالهدف من العمل الإعلامي عند الكثير من الإعلاميين و السياسيين " الحفاظ على الهوية " إلا أن هذا بحد ذاته ربما يكون سبباً في تعطيل التنمية، وفي تحجيم أفق الإعلام العربي الإسلامي.
فلا بد أن تتفتح الآفاق للتفاعل الإيجابي مع كافة الثقافات الإنسانية عبر ثقة كاملة بالذات، وللحق فإننا في هذا الجزء من العالم ارتبكنا بين طريقتين في التفكير، الأولى انسلخت عن هويتها وانساقت إلى أبعد الحدود في الثقافة الغربية وذابت في طريقة التفكير الغربية، إلى حد الاستعداد للتنازل عن القيم والتقاليد الراسخة والمبنية على أسس سليمة ومنطقية.
والثانية: وجدت هويتها مهددة فانكفأت على نفسها إلى حد الانعزال، ولما خرجت إلى المجتمع وجدت أن مهمتها الأساسية هي المحافظة على الهوية وصونها من الانحراف أو التدمير، وغاب عنها فعل البناء والمساهمة في المسيرة الحضارية مع تداخل العوالم المختلفة وتقاربها.
على أن ثقتنا بثقافتنا وديننا يدعونا إلى كسر حاجز العزلة ومماحكة الآخر ثقافيا، لا بقصد الذوبان بل عبر روح المثابر المبادر إلى الاستفادة من العلوم والمعارف واكتساب الخبرات الضرورية أياً كان مصدرها أو قرارها.
ومن المؤسف أن اهتماماتنا في الآونة الأخيرة وبسبب ظروف حرجة تراجعت إلى الوراء بدلاً من أن تخطو خطوات نحو الأمام، فقد أصبح الاهتمام بالجزئي يغلب على اهتمامنا بالكُلِّي، وهكذا انتقلنا من الاهتمام العالمي إلى العربي ثم المحلي في خطوات تقهقريه واضحة لا تُنبئ بمستقبل مُسفر.
ويمكن ملاحظة حجم التحول في درجة الاهتمامات في الصحافة اللبنانية ما قبل الحرب وبعد الحرب، وأيضاً في مثال الصحافة الكويتية وتراجع اهتماماتها وطموحاتها ما قبل الحرب وبعد الحرب، وهي نماذج لسلسلة تراجعات أصابت وسائل إعلامنا في مقتل.
والملخص: إن لدينا قيماً ولدينا تقاليد ولدينا معارف نؤمن بأنها مفيدة لنا وللبشرية جمعاء، وندعي أن العالم لو أخذ بها لتخلص من شرور كثيرة محيطة به، ولتجاوز العديد من الأزمات المحدقة، ورغم ذلك فقد اتخذنا قراراً عملياً بالعزلة، وفتح نافذة واحدة هي نافذة التلقي والاستقبال، بدلاً من أن نتساءل: كيف نُهيئ للقيم التي نحملها مجالات التطبيق؟ وكيف نجعل الآخر ينتبه إليها ويلتفت إلى أهميتها ؟
وأعتقد أن هذه مهمتنا الأساسية، وهي رسالتنا الإعلامية التي يجب أن نحملها ونُقدمها للعالم كمشاركة إيجابية وفاعلة في أنشطته المتنوعة، فما عاد الانغلاق ممكناً أو مفيداً، بل أثبتت التجارب أن الإنسان كلما انغلق على نفسه أكثر كلما فقد مناعته من التأثر، وهكذا هي المعادلة بالنسبة للمجتمعات البشرية.
إن ما نمتلكه من قيم يُحملنا مسؤولية البحث عن فرص عرضها بالصورة المناسبة، والاستفادة من منجزات العصر التقنية لتقديم المواد الأساسية لصناعة الأفكار والبرامج، فإن تلاشي الحواجز الجغرافية بين بلاد العالم بفعل تقنية الاتصال الحديثة، وبروز ظاهرة العولمة والشركات عابرة القارات ومتعددة الجنسية، أتاح أمامنا فرصة سانحة لعرض القيم الإسلامية وتقديمها للعالم، إذا أحسنا الاستفادة من المعطيات التي بين أيدينا، وإذا قررنا أن نستعيد مساهماتنا الحضارية في الجانب المادي ونملأ الفراغ النفسي والروحي الذي يعاني منه العالم.
[1] - نهاد عوض " أبعاد دور المنظمات المسلمة الأمريكية في عملية الحوار بين المسلمين وغير المسلمين في الولايات المتحدة "، ورقة مقدمة لندوة " نحو حوار بناء بين الحضارات "، الندوة السادسة لمستجدات الفكر الإسلامي – الكويت 11-13 يناير 2003.
[2] - محمد عمارة " الإسلام في الخطاب الغربي "، ورقة مقدمة لندوة " نحو حوار بناء بين الحضارات "، الندوة السادسة لمستجدات الفكر الإسلامي – الكويت 11-13 يناير 2003.
[3] - محمد عمارة، مصدر سابق.
[4] - محمد عمارة، مصدر سابق.
[5] - محمد عوض و ياسين الياسين " رؤية نقدية حول برامج تلفزيون الكويت والتنمية الشاملة " ص 274-275 دراسات إعلامية، ذات السلاسل 1995.
[6] - راجع : علي خليفة الكواري " ماهية التنمية الاقتصادية والاجتماعية: وجهة نظر حول التنمية في أقطار الجزيرة العربية المنتجة للنفط – دراسة غير منشورة فبراير 1981 عن " تربية اليسر والتخلف والتنمية " عبد العزيز عبد الله الجلال – عالم المعرفة عدد 61.
[7] - محمد معوض و ياسين الياسين، مصدر سابق ص 275.
[8] - محمد عبد الحميد " نظريات الإعلام واتجاهات التأثير " ص280 عالم الكتب 1997.
[9] - بسيوني إبراهيم حمادة "دور وسائل الإعلام في ترتيب أولويات قضايا التعليم في الوطن العربي"، المؤتمر التربوي الخامس والعشرون "الإعلام من اجل تربية أفضل في العالم العربي" الكويت 4 – 9 مايو 1996 ص 38.
[10] - محمد عبد الحميد، مصدر سابق ص 292 – 293.
[11] - محمد السماك " الإعلام الديني في الشرق الأوسط " مجلة الدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير العدد 66، يناير – مارس 1992.
[12] - مصطفى المصمودي " النظام الإعلامي الجديد " سلسلة عالم المعرفة رقم 94 ص 226.
[13] - سورة النحل 125.
[14] - سورة سبأ 24.
[15] - سورة إبراهيم 24 – 25.
[16] - سورة الحجرات 6 .
[17] - حسنين إبراهيم " الباحثون الشبان في الوطن العربي، المشاكل والطموحات "، مجلة المستقبل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت العدد 116، ص101.
[18] - محمد السماك، مصدر سابق ص 76.
[19] - لتفصيل أكثر راجع " قراءة تحليلية في وسائل الاتصال والإعلام في المنطقة العربية " عبدالله الكحلاوي. عن محمد السماك، مصدر سابق ص77.
[20] - مصطفى المصمودي " النظام الإعلامي الجديد " عالم المعرفة العدد 94 أكتوبر 1985 ص 204.