شعار الموقع

اللحظة البدرية في حرب تموز 2006

عبد العالي العبدوني 2012-10-03
عدد القراءات « 845 »

قراءة في تصور السيد فضل اللَّـه

*

حرب الأيام الثلاثة والثلاثين خلال شهري يوليو - أغسطس 2006 شكَّلت حدثاً تأريخيًّا هامًّا، ففيها انتصر رجال الله على الشر المطلق، ليخرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واسماً هذا الانتصار بـ«النصر الإلهي»، وهو حقيقة كذلك عند السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله نفسه الزكية) حيث إنه وصف شباب المقاومة بالبدريين، وهو ما سعى إلى توضيحه بمناسبة حوار أجراه مع الأستاذ حسان بدير.

هي ملاحظة دقيقة واستحضار رائع لمعركة بدر ومحاولة تطبيقها على حرب تموز/ يوليو 2006 نجد سماحته ركز على مسألتين محوريتين للمطابقة:

الأولى: هي إزالة اختلال توازن القوى بين المقاومة والكيان الصهيوني من سنخ الإزالة بين المسلمين وجبهة الكفر؛ لأنه بعد معركة بدر ظهرت قوتين: قوة المسلمين وقوة المشركين، في حين كان السابق وحسب قوة المشركين المتجلية في قريش «يا رسول الله! إنها قريش ما ذلَّت منذ عزت».

والثانية: أن الروح الإيمانية لعبت دوراً مفصليًّا في الانتصار التموزي كما حدث في الانتصار البدري.

مصرحاً «عندما كنت أخاطبهم، وأقول: أيها البدريّون، لم أنطلق من عاطفة، ولكنّي وازنت بين موقف أصحاب بدر وبين موقف المقاومة الإسلاميّة، فنحن عندما ندرس بدراً، فإننا نجد أن المناخ الذي كان يعيشه أعداء الإسلام من المشركين وفي امتداد واقع شبه الجزيرة العربيّة، الذي كان يرى أن القوّة في ميزان المشركين وأن المسلمين كانوا في موقع الضعف، وأن قريش هي الجهة التي تنتصر عندما تدخل أي معركة، ضد أي عدو لها، وهذا ما نستوحيه حتّى من بعض المسلمين من المهاجرين الذين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما استشار أصحابه: «يا رسول الله! إنها قريش، ما ذلّت منذ عزّت»؛ بمعنى أنهم يتحدّثون عن أنّ قريش سوف تنتصر، وأن عليك ألَّا تغامر في الموقف بالدخول في المعركة ضد قريش؛ لأن قريش سوف تحصل على عزٍّ جديد من خلال نصرٍ جديد في معركتها معك».

فما نبحث عنه في هذه الورقة هو عملية الاستحضار التي قام بها سماحته ومعاينة المنطق الداخلي الذي تحكَّم فيها، لكن قبل ذلك لا بأس من إعطاء وجهة نظر ولو قصيرة عن حركية الزمن المقدس والزمن العادي، وكيفية استدخالهما معاً في لحظة معينة.

ماهية الزمن المقدس والزمن العادي

ما لاحظه الباحث الكبير مرسيا إلياذ بخصوص دراسته المقارنة للأديان هو أنه ثمة زمنين، تعرفهما الإنسانية خصوصاً المتدينة منها، وهو الزمن المُقدَّس والزمن المُدنَّس، منتبهاً إلى أن الرجل المتدين لا يرى إلى الزمن على أنه منسجم أو مسترسل، بل يرى التاريخ بأنه يعرف انقطاعات مرحلية ذات طابع قُدسي، هذا التأريخ يتميز بميزتين كبيرتين أولهما أنه تأريخ ارتجاعي يعرف بُعْداً حلقيًّا، ثانيهما أنه زمن ميثي أساسي يتم استحضاره. فـ«أي حفل ديني أو طقس ديني يتأسس على عملية استحضار حدث ميثي حدث في ماضٍ ميثي في البدء، فالمشاركة دينيًّا في حفل يؤدي بالضرورة إلى الخروج من الزمن الدنيوي العادي والدخول إلى زمن ميثي مستحضر من قبل الحفل نفسه، فالزمن المقدس دائم الاسترجاع دائم التكرار».

بمعنى أن الحدث الديني ما هو إلا عملية متمعيرة مع حدث ديني ميثي حصل في مرحلة زمنية بعيدة عن زمن الممارسة، إلا أن هذا الحدث يظل مستحضراً بشكل يطابق الحدث مع تحقق فارق الزمن العادي. إلى حد ما يظل الحدث الديني الطقوسي وغيره من السلوكيات التعبدية المرتبطة بالمكان والزمان هو نفسه مع اختلاف في الأشخاص، لكن المعنى متحقق ولو في درجة معينة.

إذاً هي حركة معنائية تريد أن تُعطي للتأريخ بُعْداً معرفيًّا أقوى من مجرد حوادث ووقائع حصلت في الزمن الغابر، ناهيك على أن التفصيلة الدينية هي بالضرورة موجود معنائي يجب أن يتم التعامل معه على هذا الأساس، لأنه لا يمكن استساغة توصيف تصرفات الأنبياء كما لو أنها محض تصرفات بشرية، لا علقة لها بالهداية بالمعنى الأوسع للكلمة، فالهداية لا تنتهي عند الآخرة، بقدر ما تبدأ من الدفع الحضاري في الحياة المعاشة، بمعنى أن التأريخ الديني ينقلب إلى حامل معنى وحامل غاية وحامل وسيلة، للتصرف في الدفع الحضاري.

لذلك فإن خصوصية وجود الزمن المقدس لا تتوقف عند هذا الحد، بل نجدها تذهب إلى أبعد من ذلك وهي أن التاريخ يكون حاملاً للمعنى تحكمه معقولية وغائية ، وطبعاً تشخيص المعقولية والغائية يظل مرتهن للفكر الكلي عند المتدين. صحيح أن إغفال المفكر إلياذ لهذه الخصوصية لم تكن متأتية من جهة جهالته، ولكن فقط من جهة أنه ركَّز على المائز الفيصل دون المشتركات، وإضفاء الطابع القدسي على الزمان يكفل المعيارية والقفز على المساحة الزمانية العادية حتى يتسنى استحضار الحدث الديني في أعلى صوره، وهذا ما يتم السعي إليه.

فليس من المستغرب أن يعمد المتدين إلى الامتحاح من اللحظات التأريخية ليجد موطن قدم معرفية تجاه الحوادث الواقعة، فمثلاً المتدين المسلم لا يتحرك بالضرورة وفق سقف شرعي محض، بل نجده يتحرك أيضاً وفق روحانية وأخلاقيات إسلامية، تجعله يُشخِّص كيفية الحركة ولماذيتها، وأن يعمد بعدها إلى استيعاب أسبابها وأهدافها، ويحاول أن يتجاوز منزلقاته وأخطائه ليتكامل.

وهذا المستند النفسي المعرفي يظل مالكاً لقوة إحيائية للذهنية المؤمنة، وعليه فإن محوريته تظل غير موضوع استدلال، ولارتباط مصير الأمة المؤمنة يتحقق في العادة أمام المنزلقات الكبرى من أزمات سياسية كبيرة أو حروب بوصفها تعبيرات سياسية بطرق أخرى وفق التفصيلة الكلاوسفيتزية.

فاستحضار الزمن المقدس والحدث المقدس ضمن الغزوات في إطار بحث أفهوم الجهاد الإسلامي أو أفهوم الحرب العادلة، إذا ما حاولنا أنسنة المصطلح، يظل أقوى من أية لحظة أخرى، لذلك ليس من المستغرب أن نقف على هذا الاستحضار، وهو عود أنطولوجي إيجابي لا يضمن فحسب الموازنة كما ذهب إلى ذلك السيد (قدس سره) ، بل تتحرك نحو زاوية المطابقة بما هي تكثّر الصور التأريخية في لحظات متكررة، فالعود الأبدي من مسلمات التأريخ الديني.

معركة تموز وسقف الاستحضار

فظرفية حرب بدر كانت تتحرك بين عير الكفار وبين قتالهم، فالوجهة حرب اقتصادية أو قتال بالمعنى الدقيق للكلمة، وهي ظرفية حرب تموز نفسها حيث التحرك كان بين عير إسرائيل وبين قتالهم، فأتى القتال إليهم، وهو كره لهم.

صحيح أن حيثية الاقتصاد تبدو لأول وهلة مسألة مبالغ فيها، إذ إن لا اقتصاد في اختطاف جنديين إسرائيليين، لكن هذا الاستغراب سرعان ما يرتفع إذا علمنا أنهما يشكلان عملة تبادل من أجل تحرير رجال كبار من الأسر الإسرائيلي، وعليه فحيثية المبادلة بوصفها رحم التجارة نجدها مترسخة في أصل العملية. والغريب في الأمر أن القتال الإسرائيلي تحقق أيضاً. صحيح أن الكيان الصهيوني استغل هذه العملية من أجل تنفيذ مخططه الأصلي بالقتال الموسع لمحو سلاح المقاومة، فتحققت الحيثية بين الرغبة المحمدية والمآل المحمدي في القتال، حيث إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج طلباً للعير فنال النفير، من أجل تحقيق التوازن الحربي بين المسلمين والكفار.

أما حزب الله فنال العير والنفير، فقوَّى التوازن القتالي بين المؤمنين والكيان الصهيوني، كما أجرى التبادل بين الأسرى اللبنانيين وجثامينهم مقابل جثث الإسرائيليين.

حقيقة المطابقة تتجلى في أعلى صورها حتى في الظرفية والغاية، وبخصوص هذه النقطة سنوسع البحث.

سوف نستخرج نصًّا يهتم بالخروج إلى بدر من كتاب «السيرة النبوية برواية أئمة أهل البيت»، حيث نقف على هذا النص والذي على طوله يقدم لنا مادة تأريخية أساسية للمقاربة العصرية «ففي تفسير النعماني عن الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لما كان يوم بدر وعرف الله حرج المسلمين أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، فلما قوي الإسلام وكثر المسلمين أنزل الله تعالى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فنسخت هذه الآية التي أذن لهم فيها أن يجنحوا - وساق الحديث إلى أن قال: أما الجدال ومعانيه في كتاب الله {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.

ولما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بدر كان خروجه في طلب العدو وقال لأصحابه: إن الله عز وجل قد وعدني أن أظفر بالعير أو بقريش، فخرجوا معه على هذا، فلما أفلتت العير وأمره الله بقتال قريش أخبر أصحابه فقال: إن قريشاً قد أقبلت وقد وعدني الله سبحانه إحدى الطائفتين أنها لكم، وأمرني بقتال قريش. قال: فجزعوا في ذلك وقالوا: يا رسول الله! فإنا لم نخرج على أهبة الحرب. قال: وأكثر قوم منهم الكلام والجدال، فأنزل الله تعالى {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} الآية. وساقه إلى أن قال: رجل في الأنصار يقال له رفاعة بن زيد بن عامر، وكان عم قتادة بن النعمان الأنصاري وكان قتادة ممن شهد بدراً».

فالملاحظ أن الوعد الإلهي هو إحدى الأمرين إما العير وإما قريش، وكان الغرض الإلهي هو القتال فخرج أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للعير فلقوا القتال، وهو ما جعلهم يتحججون بعدم الاستعداد للقتال، لكنه وعد الله فهو ما يميز الفارق في قانون الطبيعة.

وإذا حاولنا المقايسة العقلية فإن حزب الله في عملية الوعد الصادق هَمَّ بالعير من أجل تحقيق المبادلة لتحرير الأسرى اللبنانيين، مما يجعلها ذات غرض اقتصادي ولو بمقياس فلسفي أميل إلى الرمزيات المعنوية، إلا أن الرحمة الإلهية التي أرادت إفلات العير لتحقق القتال، كانت هي نفسها للحصول على العير بغرض تحقق القتال لتأكيد توازن الرعب بين حزب الله والكيان الصهيوني؛ لأن الكيان الصهيوني كان قد حضر للحرب ضد حزب الله، لكنه كان يتحرك في قتاله على أساس عنصر المفاجأة، هذه المفاجأة التي اضمحلت في نطاق الرد، لأن رد الفعل دائماً يفتقد لعنصر المفاجأة.

ففي الحالة المحمدية كان القتال للمشركين يستلزم الاستعداد القتالي لشيء آخر غير الحرب، حيث تحرَّك الأمر الواقع لتحقق القتال، أما في الحالة الحزبية كان القتال للإسرائيليين يمر عبر عملية الوعد الصادق بغرض تجاوز عنصر المفاجأة، لتتعين الرحمة الإلهية في الحدثين معاً؛ لأن عنصر المفاجأة يُشكِّل خطراً على وجود الحزب وخصوصاً إذا كانت ضربة موسَّعة، مما يُهدِّد استمرار رمز المقاومة وربما تتساقط باقي تعيُّنات المقاومة كقطع الدومينو.

والكل جاء تحقيقاً للوعد الإلهي {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فالميتا - استراتيجيا تتحقق على هذا المستوى بأجلى صورها. ويُسعدنا أن نقتبس هذا الأفهوم من الباحث محمود حيدر حيث عرفه بأنه «وليد موضوعي واقعي، ينمو ويتطور ويتكامل ضمن سيرية الالتقاء الحميم بين الإيمان الديني ومنظومة الأفكار والخطط التي تعكس المصالح السيادية العليا للأمة، وعلى هذا النحو من الالتقاء بين الغيبي والسياسي تتأسس وظيفة الفكر في الحقل الميتاستراتيجي»، فجانب التجربة الإيمانية لا تشكل فحسب مشروع كمال ذاتي، بل تُشكِّل رؤية خاصة للعالم، على أساسها يتم تشخيص الواقع الخارجي.

وثمة نكتة هامة أثارها السيد (قدس سره)، وهو أن حزب الله وإن كان بدريًّا خلال حرب تموز 2006، لكن هذا لا يمنع من إمكانية وقوع معارك كمعركة حنين أو الأحزاب أو أحد، وبالتالي فعلى الحزب أن يهتم بالبعد الاستراتيجي وعدم التركيز بشكل كامل على الروحية الدينية، وهذا صحيح إلى أقصى الحدود، فقد قال: «أنا لست ممن يشجّعون المبالغة في تقييم أو تقويم مثل هذه الانتصارات في المعارك؛ لأنها قد تجعلنا ننطلق في عالم التجريد الذي قد يوحي إلى أيّة تجربة جديدة بأن هذه الانطلاقة الروحيّة هي التي تمنح النصر، مما قد يُعطل الكثير من عمليّات الاستعداد.

نحن نعرف جيداً أن الله سبحانه وتعالى، عندما عالج مسألة النصر والهزيمة فقد عالجها من خلال طبيعة القوانين الطبيعيّة في مسألة السّلم والحرب».

وهذا صحيح، فأسباب القوة ليست هي القوة نفسها، فالإيمان العالي يُشكِّل جوهر القوة، في حين أن أسبابها لا يمكن إلَّا أن تكون مادية، وهو تصور يظل قائماً لدى مقاتلي حزب الله ولمجمل البنية التنظيمية له، فالاستعداد القتالي بمعناه المادي يظل لازماً لأن الإيمان وحده لا يكفي لدحر العدو، بل يُشكِّل ضمانة للشهادة بما هو انتهاء مادي لفائدة ما وراء المادة، تلك الحيثية الغيبية تظل مغيبة للعدو، وبالتالي فهو سلاح نفسي جبار يكفل صموداً ومنعة تؤدي لتحقق التوازن فيكون الإيمان هو جوهر القوة من دون ماديات القوة، أي أسبابها لا تكون ذات قيمة بالمطلق، وهو ما عاينَّاه عند الكيان الإسرائيلي، صحيح أن البعد المادي على عرضيته يظل عاملاً مساعداً على الانتصار إلَّا أنه ليس كل شيء.

ومن الجميل أن نعيد استحضار الخطاب العلوي وحاسميته في استيعاب نفسية رجال الله أينما كانوا وفي أي زمن كانوا، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ناصحاً ابنه محمد بن الحنفية عندما منحه الراية يوم الجمل: «تزول الجبال ولا تَزُل، عضَّ على ناجدك، أَعِرْ لله جمجمتك، تد في الأرض قدمك، ارمِ ببصرك أقصى القوم، وغُضَّ بصرك، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه». والنصيحة نفسها نجد السيد حسن نصر الله استخدمها خلال مجموعة من الخطب، بل وضعها موضع المتحقق فعلاً على أرض القتال؛ ففي كلمته المؤرخة في 26 يوليو 2006 على قناة المنار صرَّح بما يلي: «وأُقبِّل أقدامكم المنغرسة في الأرض، فلا ترتجف ولا تزول من مقامها حتى لو زالت الجبال. يا إخواني يا من أعرتم الله جماجمكم، جوابي لكم هو شكر لكم إذ قبلتمونني واحداً منكم وأخاً لكم». وكذلك في نص كلمة سماحته بعد مجزرة قانا المؤرخ في 3 أغسطس 2006 عندما صرح: «إنهم يقاتلون رجالاً لديهم مستوى من الإيمان والإرادة والشجاعة والاستعداد للتضحية، وهذا الذي تحدثت عنه.. الأقدام المنغرسة في الأرض التي لا ترتجف ولا تزول ولو زالت الجبال.. هذا يراه الإسرائيليون في كل مواجهة». بل نجد الاستحضار جاء أتم في كلمته المؤرخة في 9 أغسطس 2006 عندما صرح: «ولكل مجاهد في المقاومة اليوم، لكل مجاهد مازال يقاتل، ولكل مجاهد متربص ومنتظر، لكل الأحياء الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدلوا، ولن يبدلوا إن شاء الله، أقول لهم كلام أميرهم (عليه السلام): تِدْ في الأرض قدمك تزول الجبال ولا تَزُلْ، أعر لله جمجمتك، وانظر إلى أقصى القوم، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه». وهو استحضار هام جدًّا لأنه يُشكِّل منعطفاً في الطريقة القتالية لرجال الله، فحرب الجماعات الصغيرة من كر وفر قد ولَّت لتتحول لجماعات قتالية بأعراف جيش نظامي، حيث الوتد في الأرض يفيد الاستقرار في القتال، ورمي البصر أقصى القوم مع غضه عمَّا يُزعزع النفس يفيد المواجهة البدنية المستمرة في الزمن القتالي حرب رجل لرجل ومن حارة إلى حارة.

وفي لقاء مع الأستاذ ناصر قنديل في برنامج بين قوسين في ذكرى استشهاد الحاج رضوان (عماد مغنية)، أوضح أن المهندس القتالي لحرب تموز سبق له أن وضع معادلة قتالية جديدة تتجاوز المقترب العسكري الذي يدرس في الأكاديميات الحربية، حيث صرَّح على وجه التقريب بأنه في الأدبيات الحربية تقوم الدولة بتوجيه ضربة نارية قوية تجعل الجيش العدو ينكفئ ثم يبدأ الإنزال الواسع للجيش لاحتلال مواقع ومقاتلة العدو إلى أن ينهزم، والحال أن الحاج رضوان رحمة الله عليه طرح معادلة بسيطة عقلاً لكنها دقيقة في ضرب الأدبيات في الصميم، ما الذي سيحدث لو بقي الجيش في نقاط ارتكازه رغم القوة النارية؟ وهذا بالفعل ما حدث فالجنود الصهاينة واستراتيجييها اعتقدوا بأن القرى الجنوبية سوف تكون خاوية على عروشها على الأقل فيما يتعلق بالمقاتلين، لكنهم اكتشفوا انقلاب المعايير. صحيح أن الطرح الحزبي في القتال متح من الدرس العلوي في الاستراتيجيا العسكرية، مع فارق بسيط أنه جعلها ممكنة تحت قوة النار، وهذا ليس بغريب عن رجل عرف برجل «اللا مستحيل»، وقد شكّل هذا التحول في كيفية القتال منعطفاً أساسيًّا وحاسماً قلب مفاهيم الكتابات الحربية رأساً على عقب، حتى بدأ الحديث عن نهج قتالي مختلف وجديد.

فالحديث عن المدرسة العلوية في القتال لم يكن فيض فكر نظري بقدر ما تحول بشيء من العزيمة وبكثير من المثابرة إلى أن يتحقق على أرض الواقع.

وطبعاً الجدة في طريقة القتال هي متولدة من جوهر الإيمان لا من فلسفة المادة القتالية نهائيًّا، فعلمنا أن البعد الروحي الجوهراني يفرض على المادة تحولات لم تكن متصورة من قبل، ومن المنطقي أن تكون المقاومة تحوَّلت إلى قيمة عالية في سقف القيم في هذا الزمن المتغول برأسماله، فـ«المنجز المقاومي لا يتجلى فحسب في أن قطعة أرض تحررت هنا أو هناك، على عظمة الإنجاز، بل القيمة هي معنوية ورمزية، حيث قيمة القيم في الفعل المقاوم وفي إنجاز المقاومة هو عودة الروح إلى قلوبٍ أماتها مسلسل الاندحارات بالنكسة والهزيمة التي أصبحت جزءاً من كياننا، سكنت الوجدان العربي وطال مكثها».

فالمقاومة بوصفها بنية معرفية تأسست على أخلاقيات معيارية لا تسمح بآثار الواقع عليها لأنها تسعى إلى قلب الواقع إلى مكنة معيارية بالضرورة، فهي تسعى تنظيراً وتطبيقاً إلى ليِّ عنق الواقع بكثير من الدربة الفكرية إلى تماثلها مع المعيار، وهذا تجلى بشكل كامل في حرب يوليو/ تموز 2006 حيث شاهدنا معيارية أخلاقية انعدم نظيرها في عصرنا الحاضر. فبمعاينة يوميات الحرب، نجد السيد نصر الله يُعلِّم العدو عن مآل المعركة في اليوم التالي ويحقق أهدافه العسكرية والنفسية في الآن نفسه، بل حتى أن قناة المنار لم تكن تتوقف عن إعطاء إحداثيات لأهداف قتالية محتملة، مما يفهم بأن حزب الله ليسوا بطلاب دم ولا يبحثون عن إحصائيات أموات، بقدر ما يصرون على تبيان أخلاقيات الحرب.

بمراجعة النداء الأول للسيد حسن نصر الله المؤرخ في 14 يوليو 2006 نجده يصرح: «أنتم أردتم حرباً مفتوحة، نحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة ومستعدون لها، حرباً على كل صعيد، إلى حيفا.. وصدقوني إلى ما بعد حيفا وإلى ما بعد ما بعد حيفا». فهو تظهير للقدرات وضمن أخلاقيات قتالية ترمي إلى الدفع بالكيان الصهيوني لإيقاف القتال، لأن قيادته السياسية غبية جدًّا مما دفعها لارتكاب أخطاء قاتلة في التقييم دفع ثمنها أبرياء في لبنان، فالهدف عند حزب الله ليس تقتيل العدو ولا البحث عن برك دم بقدر ما هو البحث عن توازن الرعب في المنطقة، وتشكيل عقبة جدية أمام الكيان الصهيوني بحيث تدفعها إلى عدم استسهال الاعتداء على لبنان فالموازنة القتالية تغيرت بالكامل، لتُضحي بيروت في مقابل تل أبيب، بل لتتحول إلى تل أبيب مقابل شارع واحد من بيروت، وهي نقلة استراتيجية جاءت ثمرة معاينة الكيان الصهيوني إلى حركة الفكرة القتالية عند حزب الله، وقدرته على تحطيم مجمل المعادلات السحرية الموجودة في كتب من خبروا القتال الإلكتروني لا الواقعي، فالدمار لا يولد انتصاراً في قبال رجال خبروا كيفية القتال على الأرض، فكيف سيكون الحال لو تحوَّل الدمار إلى دمار مقابل.

المعادلة المحورية التي ظهرت هي أن الروحية القتالية والعضّ على الجراح كافية لهدم من ألفوا الدعة حتى في حربهم، وقلب موازين القراءة القتالية عند الكيان الصهيوني وأسقط غطرسته جزئيًّا، ففي اللقاء نفسه للأستاذ ناصر قنديل (وهو ناقل ثقة) أوضح بأن الحاج رضوان علم بأن المنظومة العربية عندها منسوب الثقة في النفس أدنى بكثير من قدرتها الحقيقية (يعني عقدة نقص)، في حين أن الكيان الصهيوني عنده منسوب ثقة في النفس أعلى من قدرته الحقيقية (يعني عقدة جنون العظمة)، فيجب أن تتحرك العملية القتالية في اتجاه تحقيق التوازن النفسي بالتنقيص من منسوب الثقة الصهيوني ورفعه في العالم العربي، حتى يسهل تحقق استراتيجيا زوال الكيان الصهيوني.

ففلسفة الحرب عند حزب الله تمحورت على مسألة أساسية تجاوزت بكثير السقف المعرفي لنظرية الحرب، فجعلوا منها تعبيراً أخلاقيًّا بطرق أخرى، بل إن التخلق وصل مداه ولو في اللحظات الحرجة التي كان فيها لبنان يلملم جرحاه وشهداءه، الحزب لم يسقط ضحية المداميك الواقعية في قلب حُمَّى الفعل ورد الفعل، بل وطَّن نفسه على وطن للجميع وعلى أخلاق تسع الجميع، حتى ذلك الموجود السرطاني المسمى الكيان الصهيوني.

ولكم يكون جميلاً لو تم تحرير كتاب تفصيلي يدور موضوعه على «حربنا» تقلب مجمل التصورات الغربية التي انطلقت من الإرث الثيوديسيسي إلى الخلف الوالزاي، مروراً بتكنولوجيا مجتمعات الحرب المتصنعة في كتابات ريمون آرون.

وهذا التصور من المصاديق الأنطولوجية للحرب العادلة كما بدأت تطرح على المستوى الفكري، فالحرب حرَّكت دائماً البعد الأخلاقي وحاول الفلاسفة والحقوقيون جهدهم للخروج بالخلاصات الفكرانية للقول بعدالة الحرب من عدمه، بابتكار قوانين والتركيز على أعراف دولية ومواثيق تحمي الجهات القتالية وتحاول ضبط تصرفاتها، والتي على أساس خرقها يمكن الحديث عن مجرمي حرب وعن مجرمين ضد الإنسانية وغيرها من التوصيفات الجنائية المعولمة على أساس مصاديق فكرية للقانون الطبيعي، والتي تتركز على ثلاث محاور: jus ad bellum (قانون إعلان الحرب) و jus in bello (قانون مجريات الحرب) و jus post bellum (قانون بعد الحرب مناسبة إنهاء العمليات الحربية)، والتي تُشكِّل ثلاث مراحل بحث للقول بعدالة الحرب، وإلَّا فإن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية تتكثر.

فعلى مستوى المحور الأول للقول بالعدالة ينظر إلى المعايير الستة الآتية:

المسوغ المشروع - النوايا الطيبة - السلطة المشروعة - أن تكون الحرب آخر الحلول - حظوظ معقولة للانتصار - وتناسبية الرد.

وعلى مستوى المحور الثاني ينظر إلى المعيارين الآتيين:

حصانة العزل - تناسبية الوسائل القتالية.

وعلى مستوى المحور الثالث ثمة معياران هما على الشكل الآتي:

عدالة التعويض - عدالة تفاوض انتهاء الحرب.

وهذه الخلاصات على عموميتها تظل موضع إطباق لدى جميع منظري الحرب العادلة بما فيهم الفيلسوف الأمريكي مايكل والزر الذي يحركه تَصَهْيُنُهُ أكثر مما يحركه عقله، ولن نتعمق على مستوى هذا البعد لكن يظل من الجميل تطبيق هذه المعايير على معركة تموز لنعاين بأن حزب الله قد حافظ عليها بالكامل مع لحاظ بأن هذه المعايير هي قانونية أكثر منها فلسفية، لذا فإننا لا نعتقد بأن ثمة خلاف في كبير بين المدارس الفلسفية حولها، نقول: إن حزب الله على مستوى هذا السقف التشريعي القانوني قد حافظ عليها بالكامل، بل نجده دفع بأخلاقياته أبعد من هذا الحد، وهو أمر طبيعي؛ لأن العقل العملاني الغربي لا يستطيع أن يستوعب الأخلاقيات بما هي هي.

وهنا يظل المحك القيمي الإسلامي متشرِّباً في تفاصيل قتالية يفترض فيها غياب العقل أمام لازمة حماية النفس، وهي معادلة لعمري صعبة جدا لا يصل إليها إلَّا رجال لو وُزِّع إيمانهم على العالم لكفاه، فهذا المُنَظِّر الجرماني كلاوسفيتز يتحدث على أنه خلال الحرب أول ما يغيب هو العقل، لتحضر الغريزة في أكبر صورها كما في أحقر صورها.

لذا ظل حزب الله متمحوراً على البعد الدفاعي أكثر من الهجومي مع التجائه للصواريخ بمقياس الردع فقط، وليس في نيته إسقاط أعداد كثيرة من القتلى الإسرائيليين، لذلك نجد أن القصف كان مسبوقاً بإشعارهم يوماً كاملاً من الإعلام، والكل بحثاً عن الردع القووي للكيان الصهيوني لا الإتيان بمحصلة إحصائية للموتى والمشوهين والجرحى، وقد نجح أيما نجاح؛ ذلك أن الرأي العام العالمي بدأ ينظر للكيان الصهيوني ككيان مجرم، وهذه الصورة ازدادت ترسُّخاً وتكثُّراً في ملحمة غزة العزة.

فالبعد الحضاري في القتال تجلى في أخلاق ربَّانيَّة لا في أشباه الديموقراطيات لا تنفك تظهر حيوانية قلَّ نظيرها في الفتك بالآمنين والعزل.

وكان يكفي ذلك معاينة حجم الخسائر البشرية والمادية لطرفي الصراع، ليقف المشاهد الموضوعي على حيوانية الكيان الصهيوني ووحشيته لا تشبه إلَّا وحشية تلك الكائنات الأسطورية المتمرغة في الدماء والوالغة فيها أيما إيلاغ.

فسؤال الحرب العادلة المتمثل في عدم استعمال الأسلحة المحظورة دوليًّا وعدم استهداف أماكن معينة، نجدها توسَّعت إلى أقصى الحدود في الثقافة التموزية لدى حزب الله، حيث النية لم تهتم بإسقاط أرواح بالبعد الكمي ولو باستعمال الأسلحة المقبولة دوليًّا، لنجد أن الروحية السياسية والروحية القتالية لحزب الله قد سدَّت على الكيان الصهيوني بشكل وجودي وأنطولوجي مكنة الادِّعاء بأنه جهة ديموقراطية ومتحضرة، فالمحك وحده يكشف الحقائق لا التطبيل والتزمير في المحافل الدولية.

اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد

عن الإمام (عليه السلام): «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي تلك الليلة (ليلة بدر) وهو يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَد، وأصابهم تلك الليلة مطر»؛ فالواضح من دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن معركة بدر كانت مصيرية إلى حد تحقق البعد الوجودي فيها، فإن انهزم المسلمون القلائل فلن يتيسر للإسلام البقاء، بالأحرى الانتشار. وهذا البعد المصيري نجده يتكرر تحت عنوان المقاومة، فالمعركة مصيرية لمؤسسة المقاومة إذ إن الهزيمة سوف تؤدي لاضمحلالها ولن يتيسر للمقاومة البقاء، وخصوصاً عندما تتحول إلى عبء على دول «الاعتدال» التي سوف تتحرك في اتجاه الكيان الصهيوني نفسه لإنهاء مشكل الممانعة، والبحث عن الرفاه الاقتصادي على الطريقة الهوليودية.

وهذه المسألة نجدها ناضحة في كلام السيد حسن نصر الله، في الحوار الذي أجراه مع الصحافي غسان بن جدو لفائدة قناة الجزيرة، بتأريخ 21 يوليو 2006؛ عندما قال: «أنا أقول لك: هم لا يريدون القضاء على مقاومة حزب الله في لبنان، هم يريدون القضاء على أي إرادة مقاومة. إن حزب الله أو غير حزب الله، بدهم يوصلوا البلد لمحل كلمة مقاومة تصبح كلمة مدانة... اليوم هناك حرب فرضت على لبنان هدفها تصفية كل شيء اسمه مقاومة ومقاوم». إذاً الحيثية الوجودية متحققة على هذا المستوى، فالمعركة معركة بقاء ليس فقط بقاء لحزب الله كمؤسسة مقاومة، بل بقاء مشروع المقاومة كمشروع أخلاقي وسياسي يقف في وجه المشاريع الانضوائية تحت لعبة اسمها «الشرق الأوسط الجديد»، وهزيمة حزب الله في هذه المعركة يعني بما لا مزيد عنه سقوط مجمل المشروع المقاوم، والبقاء وحسب لشيء متعفن معرفيًّا اسمه «الاعتدال»، وهو من سنخ الألفاظ المنمقة لتدثير قذارة المراد كالواقعية والقبول بالأمر الواقع، وليس أفضل مما هو كائن، والذي أضحى أفيوناً للشعوب المستضعفة. بقاء المشروع يعني علو صوت الحق في وقت كُمِّمَتْ فيه الأفواه وربما العقول أيضاً. فاللحظة كانت بدرية والنصر كان إلهيًّا، والدعم الملائكي أمر لم يكذب. فالمُتَمَّنَى ألَّا ننقلب حنينيين أو أحديين.

لقد تحققت الحدية في معركة تموز بما هي نقلة أنطولوجية وجودية تؤدي في حالة الهزيمة إلى «إنْ تهلك هذه العصابة فلن تقع ممانعة قط»، وهي محورية أساسية قد يعتقد بأنها فيها الكثير من المبالغة، لكن دعونا ندرس الحالة بشكل براغماتي أكبر لنصل إلى هذه الخلاصة.

المقاومة كمشروع اجتماعي شعبي يحتاج إلى دعم ماليّ وتضحيات كبيرة في هذا المجال، وعندما يسقط تعيُّن مقاومي ما فإنه يُحدِث ثلمة في جسم الممانعة قد لا ينسد قط، وبالتالي فإن مجمل التعيُّنات الأخرى سوف تبدأ في السقوط ما لم تقع ولادة لتعيُّن مقاومي جديد في الجغرافيا نفسها، وعليه -وفي غياب سدة من السنخ نفسه- فإن النصر ينتقل لجناح الخصم، فماذا سيكون الحال لو أن الهزيمة أصابت جسماً مقاوماً من ثقل حزب الله الذي يعرف دعماً دوليًّا، فالأكيد أن الثلمة سوف تكون كبيرة بكبر انهيار أحلام جناح الممانعة بالتأكيد، ويؤدي لا محالة إلى انسحاب أجنحة ممانعة في جغرافيات سياسية وفكرية متكثرة، ويمكن الرجوع إلى التجربة الناصرية الممانِعة كدليل تأريخي معاصر، وكيف انقلبت ثلمتها إلى ساداتية «معتدلة» فتحت الأبواب الصهيونية على مصراعيها.

وهو المصير نفسه المتخوف الذي كان متحققاً في اللحظة البدرية، فوجه التطابق مع معركة بدر قائمة من هذا الوجه أيضاً.

لتكون قراءة السيد فضل الله (قدس سره) قراءة بعمق التأريخ الإسلامي واستحضاراً قوويًّا لفلسفة الإسلام في اللحظات الأكثر وجودية، لكن هذه القراءة على أهميتها لا تضمن للتجربة إلَّا ذلك الحراك التأريخي في جميع الأحوال، وبالتالي قد لا تُغني معرفيًّا المقاومة بوصفها بنية معارفية.

في حين أن حرب تموز أسقطت بالكامل المثل القائل: «لا في العير ولا في النفير» لتسقط «لا» بالمطلق هي «لا» باحثة عن توازن الرعب في اللحظة المحمدية، لكن بغيابها صارت لحظة تموزية تستمر أنطولوجيًّا في رحم الوجود العادي، وهي على هذا المستوى مدماك تتجاوز المقصد عند مرسيا إلياد المبسوطة في براديغم العود الأبدي لتتحول إلى تعمق الحاضر في الميتا ليس استحضاراً فحسب بل اندكاكاً، ليضحي التأريخ المقدس في المباحث الدينية المقارنة بوصفه خط تأريخي غائي محمول بالمعاني الدينية المقدسة، حدثاً معرفيًّا صرف يتجاوز الخط التأريخي في تجربة حزب الله، بالمعنى الكينوني نفسه في فلسفة هايدغر.

فالكينونة تتحول إلى آلية للفهم بما هي سعي تعمقي في الكائن هنا، بمعنى أن المنسوب التأريخي والمعارف الخارجية لا تشكل حاكماً على الفهم والاستيعاب بقدر ما تكون الكلمة للكائن بما هو هو كآلية للفهم والضبط المعرفي للموجودات الخارجية، فربما الميتا-استراتيجيا هي أول خطوة في هذا الطريق، لكنها أكيد ليست نهايته فحضور الماورائيات كتصورات في الحراك الاستراتيجي ليست إلا تصورات، في حين أن اندكاكها كمصاديق قائمة الذات هي أكمل صور التعاطي، ثمة انكشاف ذاتي يحدث في هذا الزمن الممهد لانكشاف أقوى وأعمق.