شعار الموقع

مفهوم الولاية في فكر السيد محمد حسين فضل اللَّـه

الشيخ علي حسن 2012-10-03
عدد القراءات « 720 »

أبدى المفكر الراحل السيد محمد حسين فضل الله (قدس الله نفسه) اهتماماً بعرض المفاهيم المتعلقة بمسألة الولاية (التولي / الولاء / التشيع / الانتماء) لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال معالجات دقيقة وحساسة ومستفيضة قلَّما يتم تناولها بأفق رحب بعيداً عن التعصب أو أية مجاملات على حساب الدليل والمبدأ والقناعة. وبدوري سأستعرض في هذه المقالة مجموعة من العناوين التي بحثها المفكر الراحل في خطاباته وكتاباته وحواراته.

أهمية الارتباط الولائي بالنبي وآله

الله هو الولي الذي تتجه إليه قلوب العباد وأرواحهم بالطاعة والعبادة والإخلاص والنصرة والمحبّة، فبالإيمان به ينفتح درب الحياة، وبالالتزام بشريعته يستقيم خط العدل، وبالإنابة إليه يتصحح كل انحراف، وهو المرجع والملجأ في كل شيء.. والرسول هو الولي في الدعوة والرسالة والقيادة، فهو الَّذي يجب على النَّاس أن يستجيبوا له إذا دعاهم لما يحييهم من طاعة الله وعبادته، وهو الرسول الذي أراد الله للنَّاس أن يؤمنوا برسالته بما يوحيه الله إليه من وحيه، وهو القائد الَّذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فيملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، وله عليهم حقّ الطاعة في ذلك كله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله.. والأئمة هم أولياء المؤمنين، والدعاة إلى الله، والأدلاء على سبيله، والقادة إلى هداه، فهم المعصومون الذين جعلهم منارات للحق ومرجعيات للناس بعد نبيه.

انطلاقاً مما سبق، تحدَّث السيد فضل الله حول أهمية الارتباط الولائي بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأهل بيته (عليهم السلام)، وما يترتب على ذلك من فوائد وآثار عملية لها علاقة مباشرة بحياة الإنسان وتحقيق إنسانيته وفي سعيه لعمارة الأرض وفق التخطيط الرباني وبما يتوافق مع هدف الخلقة، وبما يوضح له معالم الصراط السوي الذي يكمل مسيرته في هذه الدار وصولاً إلى دار الخلود، ويقوّم له خطاه في خضم كل التحديات والصعوبات التي يواجهها.. قال: «نجد القضية تلتقي مع حاجة الإنسان الذي قد يتخبط في المتاهات، وقد يبتعد عن عمق الصفاء في إنسانيته، لاسيما في خطوات الشيطان التي تعمل على إغراقه في الوساوس الشيطانية التي تؤدي به إلى الاهتزاز والقلق والحيرة والانحراف. فقد يسقط إذا لم يعش الشعور العميق بوجود القوة المهيمنة الهادية التي تحميه وتقوّيه، وتُوحي إليه بأنها معه دائماً حتى في أشد الحالات صعوبة، وهذا ما يحس به الإنسان في ولاية الله الذي يخرجه من الظلمات إلى النور ويرعاه في كل مواقع حياته ويهديه إلى الصراط المستقيم.

أما ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن دورها هو تحديد الخط الواضح الذي تلتقي فيه البداية بالنهاية في وضوح كامل يتميز بالصفاء والصدق، وينفتح على الحق الذي لا ريب فيه من خلال الإيمان بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحي يوحى، فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحق، وفعله هو الخط، ومنهجه هو المنهج الصحيح الذي يقود الإنسان إلى السعادة والنجاة، وشريعته هي الشريعة المشتملة على كل حاجات الإنسان الروحية والحياتية، وعلى كل تطلعاته الخيّرة في الحياة، وقيادته هي القيادة الحكيمة التي تحرّك التطبيق الدقيق في خط النظرية.

أما ولاية الأئمة (عليهم السلام) فهم الدعاة إلى الله، الأدلاء على سبيله، والمرجعيات المعصومة عن الخطأ والانحراف التي يطمئن الإنسان إلى الحق في كلماتهم وسيرتهم، ليجد فيها المنقذ من الضلال، وليتحرك معها في الخط الإسلامي الأصيل.

إن قيمة الولاية في خط الرسالة والإمامة أنها تلاحق الإنسان في مفاهيمه وحركيته لتمنحه الوضوح في الخط، والسداد في الرأي، والسلامة في الحياة، والاستقامة في الطريق، والرعاية في الحركة في خطواته السائرة إلى الله سبحانه. ولذلك فإن الارتباط بها يحمي الإنسان من الانحراف، ويقوده إلى الصراط السوي، ويمنحه الحنان الذي يتخفف فيه من أثقال الحياة التي تثقل روحه وترهق نفسه، فيحس معها بالحاجة إلى القيادة التي تربطه بكلمات الله وتوحي له بالحقيقة في كل متاهات الشبهات..

فكانت حركة النبي في دعوته وخطه في كل مسيرته الممتدة في حياة الإنسان، في الزمن كله من بعده، وكانت حركة الإمام في تأهيل الفكر الإنساني على أساس تأكيد المفاهيم الإسلامية الرسالية، وتقويم خطواتها في الطريق، وفي الإشراف القيادي على امتداد الرسالة في حياة الناس، وسط التيارات المضادة في الأجواء المحيطة بالإسلام والمسلمين، لتمنعها من التأثير على الفكر الإسلامي، وعلى الصورة التي يتمثلها المسلمون في وعيهم الثقافي وحركتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وفي مسؤولياتهم في مواجهة مهماتهم الكبيرة على خط الإسلام».

تصحيح مفهوم الولاية

ليست الولاية -حسب السيد فضل الله- علاقة شخصية بين طرفين، بعيداً عن الأفق الرسالي وعن محورية الارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) من خلال الارتباط بالله، بل هي -في مفهومها القرآني- علاقة رسالية محضة ينطلق فيها البعد العاطفي ليمثل رافداً لترسيخها، وليس منطلقاً أساسيًّا وهدفاً مركزيًّا.

وهذا ما يلحظه السيد (قدس سره) في العديد من الآيات القرآنية وكلمات النبي وآله عليهم الصلاة والسلام، ففي القرآن الكريم تركيز على الاستغراق في الرسالة وليس في ذات حاملها، فعلى سبيل المثال وبعد أن تحدثت الآيات عن جملة من الأنبياء (عليهم السلام) قال سبحانه: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ}، ويعلق السيد فضل الله على ذلك بقوله: «قد نستوحي من هذه الآية، أن الله لا يريد لرسله وللعاملين في سبيله أن يتحركوا في دعواتهم من منطلق ذاتيٍّ يؤكد على الجانب الشخصيّ الذي يستدعي انطلاق كل واحدٍ منهم من نقطة البداية بعيداً عن خطوات الآخرين الذين سبقوه.. وعلى هذا الأساس، فإنّ النبيَّ لا يعيش همَّ الذات في حركته، بل يعيش همّ الرسالة في منطلقاته، ما يجعل من موقعه في حركة الرسالة موقعاً يكمل السلسلة في خطواتها، لا موقعاً يعطي الذات دوراً مميّزاً منفصلاً عن الأدوار الآخرى.. وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك، أن الله يريد أن يعلمنا ألَّا نستغرق في الأنبياء كأشخاص، بل أن نستغرق فيهم كخطّ وكهدى وكرسالة».

ولعل في الخطاب الموجه للنبي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وليس (فبهم اقتده) إشارة إلى أن النبي يموت ولكن الخط يبقى، والرسالة تبقى، ولابد للرساليين من أن يحملوها، لأن علاقتهم غير مقيدة بشخص النبي في إطار حياته الدنيا ووجوده الجسماني بينهم، حتى إذا توفي انفرطوا من بعده، لتسقط -حسب تصورهم- كل المسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه الإسلام وتجاه أمتهم.. بل لابد للدعوة من أن تستمر، وبكل قوة، وقد قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.

بالطبع هذا لا يعني أن نضيّع ذكر صاحب الرسالة ونهمله، بل أن يكون منهجنا قرآنيًّا في ذلك، فكما أن القرآن ذكر الأنبياء والمصلحين ومجّدهم دون استغراق في العناصر الشخصية في ذواتهم، فكان ذكرهم ذكراً رساليًّا حيث كان التركيز على مدى ارتباطهم بالله إيماناً وتقوىً وعملاً، ولما قدموه في طريق المسؤولية المناطة بهم، فكذلك ينبغي أن نطبع ذكرنا لهم وإحياءنا لأمرهم من ذات المنطلق والأسلوب، وإلَّا فلن يكون لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} معنى، ولا لقوله تعالى: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ} موردٌ.

قال (قدس سره) وهو يستفيض في بيان الفكرة وتوضيحها: «للولاية في الخط العقيدي الإسلامي دور القاعدة الفكرية الحركية في معنى القيادة، التي تختصر كل المفردات الإسلامية في حركة الواقع على الخط المستقيم. إن مضمون الولاية، سواء كانت ولاية الله والرسول والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ينفتح على الله من حيث هو الرب الخالق الرازق المهيمن الذي يملك، وعلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث هو الحامل لرسالة الله سبحانه، العامل على تأكيدها في الوعي والواقع، وعلى الأئمة (عليهم السلام) من حيث هم الأمناء على الرسالة في حمايتها من الانحراف في خط النظرية والتطبيق، وتحريكاً في صعيد الواقع على أكثر من اتجاه... إن هناك نقطة لابد لنا أن نفهمها جيداً، وهي أن الولاية ليست حالة عاطفية تربط الإنسان بالشخص في عملية حب ينبض بها القلب، وتنفتح فيها الروح، ويخفق فيها الشعور، تماماً كما هو الحب الذاتي عندما يحب إنسان إنساناً فيستغرق في صفاته الذاتية بعيداً عن خطه الفكري أو العملي في حركة الرسالة، كما يتحرك فيه الكثيرون من الناس الذين كانت علاقتهم بالنبي وبالأئمة علاقة حب مستغرق في الذات، فهم ينفتحون على أشخاصهم وفضائلهم وشؤونهم في دائرة العظمة الذاتية، بحيث تكون الرسالة جزءاً من أمجادهم، فالرسالة صفة ذاتية في الرسول ترفع مكانته في النفوس، والإمامة عنصر حيوي في ارتفاع درجة الإمام، فلا ينظرون إلى الرسالة في حياة الرسول والإمام من حيث هي المسألة الموضوعية الأصيلة التي ارتفعت بالرسول في روحيته وفكره وحياته، وفتحت للإمام آفاق المعرفة الواسعة والروح القدسي المنفتح على وحي الله».

ويشير السيد الراحل في كلماته حول هذه النقطة إلى سلبيات عديدة يمكن أن تترتب كنتيجة مرصودة للإخلال في فهم حقيقة التولي والاستغراق في ذات الأنبياء والأولياء، وشخصنة العلاقة بهم، وضرورة التركيز على محورية دور الرسالة في ذلك.. ونلخصها في النقاط التالية:

1- نسيان الهدف والرسالة، وهو نقض الغرض الذي من أجله قدّم الأنبياء والأولياء ما قدموا وضحوا بما ضحوا، فلم تكن مساعيهم من أجل أن يبقى ذكرهم خالداً كأصحاب إنجازات على المستوى الشخصي، ولترسم لهم اللوحات وتنحت التماثيل وتنشد فيهم القصائد، بل كانت تضحياتهم قربة إلى الله، ومن أجل الرسالة التي آمنوا بها.

2- الفصل بين الشخصية وبين دورها التغييري والإصلاحي، وبالتالي الفصل بين الإيمان وبين العمل الصالح، وهو مخالف للطرح القرآني الذي يجمع بينهما دائماً، ومن هنا نجد صوراً من الارتباط العاطفي الشديد عند البعض من محبي أهل البيت دون التزام منهم بسلوك متسق مع المعالم الرئيسية لشخصية أهل البيت، من قبيل الورع والتقوى والصدق والأمانة والاستقامة في السلوك، بل وحتى على مستوى إقامة الصلاة والصيام.

إن العاطفة المتجردة عن أي التزام عملي -حسب السيد- تخلق انفصاماً في شخصية الإنسان الموالي، ولا تخرجه من دوائر الانحراف التي تهدد مسيرته في الحياة، بل تدخله في حالة من فوضى العلاقة بالولي، وفي هذا قال (قدس سره) وهو يتحدث عن علاقتنا بأمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إني أزعم أن بعض الذين يلتزمون عليًّا (عليه السلام) في خط الولاية لم يتعلّموا من علي شيئاً، بل إنهم نظروا إلى علي من بعيد ولم يقتربوا من عقله، ولذلك بقي التخلّف في عقولنا ونحن نهتف باسمه، ولم يتعلّموا من قلبه الذي اتّسع للإنسان كلّه، وبسبب ذلك بقيت قلوبنا مغلقة عن كلّ محبّة، ولم نتعلّم من حركته في علمه وفي آفاقه، ولذلك بقينا نلتزم التفاهات ونعيش في الأفق الضيّق، ونتخلّف ونزداد تخلّفاً، وربما يفرض البعض من الناس تخلّفه على علي (عليه السلام) ليعطيه صورته، وربما يفرض بعضنا تخلّفه على الإسلام ليعطيه صورته.

إن مشكلتنا -أيها الأحبة- في هذا العصر، وفي هذه المرحلة بالذات ليست فقط مشكلة الذين يحاربون الإسلام، بل مشكلة الذين يتحرّكون في خط التخلّف الذي يفرضونه على الإسلام، والذين يتحدثون عن الإسلام في موقع الخرافة إنما يتحدّثون عن الهوامش بدلاً عن الساحة الواسعة. لذلك فلا بدّ أن نبدأ لنتثقّف ولنعرف منه كيف نصوغ مفاهيمنا ونحدّدها؟ وكيف ننفتح على الحياة من خلال الإسلام في الصورة التي قدّم بها الإسلام لنا؟ فليست المسألة أن نزور عليًّا (عليه السلام) في التأريخ، بل لا بدّ لنا أن ندعوه إلى أن يزورنا لا زيارة الجسد، ولكن أن يدخل «نهج البلاغة» في فكرنا وسياستنا واقتصادنا وإدارتنا وعلاقاتنا وأوضاعنا لنسمو في مواقع سموّه، وهو الذي محلّه محلّ القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير».

3- عدم وضوح الرؤية واتخاذ الموقف الخاطئ بسبب اختلال المعايير، ففي نهج البلاغة: «قيل: إن الحارث بن حوط أتاه فقال: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال (عليه السلام): يا حارث! إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه! فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر. فقال (عليه السلام): إن سعيداً وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل». بعد أن ينقل د. طه حسين هذه الكلمات عن الإمام (عليه السلام) يقول: «ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته». وقد يقال: إن أصحاب الجمل لم يكونوا معصومين، ولذا لم يكونوا معياراً للحق والباطل بخلاف المعصومين (عليهم السلام).. ولكن هل نضمن أن كل ما نقل إلينا من كلمات ومواقف هي فعلاً صادرة عن المعصوم؟ وبالتالي فلابد أن يكون المعيار هو الحق كما قال (عليه السلام).

4- عدم تحولهم إلى أسوة عملية، لأن التركيز على الذات يركّز الفارق في المستوى بين المعصوم وبيننا، وبالتالي يتصور الفرد أن تكليف المعصوم مختلف عند تجمع عناصر اتخاذ الموقف، فإذا تكررت الظروف معنا وتجمعت العناصر، فلن يكون لموقفه دلالة عملية.

5- السقوط في مهاوي الغلو، وهو ما حذرت منه الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن النبي وآله، كما جاء في الآية الشريفة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}. فكان الغلو ناتجاً عن الاستغراق في ذات النبي عيسى وعناصره الشخصية في ولادته وكلامه في المهد ومعاجزه المتنوعة بالإضافة إلى بعض العوامل المساعدة، ونسيان أصل الرسالة التي دعت إلى التقوى والعمل الصالح، حتى أصبحت الجريمة -على مستوى جرائم المافيات الأمريكية- عند المسيحي الكاثوليكي مبررة ما دام الإنسان مؤمناً بالمسيح المخلِّص. وفي حديث عن الإمام السجاد ؤ: «أحبونا حب الإسلام، فما زال حبكم لنا حتى صار شيناً علينا». يقول العلامة المجلسي في البحار في معنى ذلك: «لعل المراد النهي عن الغلو، أي أحبونا حبًّا يكون موافقاً لقانون الاسلام ولا يخرجكم عنه، ولا زال حبكم كان لنا حتى أفرطتم وقلتم فينا ما لا نرضى به، فصرتم شيناً وعيباً علينا، حيث يعيبوننا الناس بما تنسبون إلينا».

وقد تحدَّث السيد فضل الله (قدس سره) في مناسبات عديدة حول إشكالية المغالاة في حب علي (عليه السلام)، الذي يمثل الارتباط به عندنا -كأتباع لمدرسة أهل البيت- قمة الارتباط الولائي بهم (عليهم السلام)، ومنها كلماته التالية: «يقول (عليه السلام): «هلك فيّ اثنان: محبٌّ غالٍ ومبغضٌ قالٍ». فقد كان علي يحبّ الله تعالى ولا يحبّ نفسه، ويحبّ رسول الله ولا يحبّ نفسه، ولذلك فإنّ عليًّا كان يتواضع لله تعالى، فلا يريد لأحد أن يقترب به من مقام الله عز وجل في أي مجال من المجالات، وهو ما عبّر عنه في دعاء كميل «وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين». إنه يعتزّ بعبوديته ويرى أنّ عظمته في العبودية الخالصة عبودية العقل والقلب لله والحركة لله هي سرّ عظمته، لأنّ الإنسان كلّما كان عبداً لله أكثر اقترب من الله أكثر، وكلّما اقترب منه أكثر عاش العظمة في آفاق الله أكثر. فلا يحسب الذين يغالون في علي (عليه السلام) أو في أبناء علي أنّهم يعيشون المحبّة لأهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم عاشوا للإسلام كلّه، وذلك هو قولهم: «من كان وليًّا لله فهو لنا وليّ ومن كان عدوًّا لله فهو لنا عدوّ، والله ما تُنال ولايتنا إلَّا بالورع». ولقد كرّرنا مراراً أنّه ليس لأهل البيت شيء سوى الإسلام، فليس لديهم شيء للذات. لذلك علينا، عندما نريد أن نفتح عقولنا وقلوبنا لحبّهم، أن نحبّهم كما أرادوا لنا أن نحبّهم، كما ورد في كلمة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): «أحبّونا حبّ الإسلام». أي أن يكون الحبّ في الدائرة الإسلامية، وألَّا يبتعد عن العقيدة الإسلامية في خطوطها القرآنية والنبويّة، وبذلك فإن علينا أن ندقّق فيما جاءنا عن رسول الله وأهل البيت في ذلك كلّه».

وقال في موقع آخر: «إن الولاية الرسولية أولاً، والإمامية المنطلقة من ولاية الرسول ثانياً هي الأساس في دور الرسول والإمام، بالمعنى الذي يجعل الرسالة كل شيء في الدور، فهي التي تحكم معنى الذات في وجودهما. ولذلك لابد من أن يكون الارتباط بالرسول والإمام من خلال الارتباط بالإسلام كقاعدة أساسية في مضمون الحب ومعنى الاتباع وامتداد العلاقة، بحيث يتحدد مستوى الحب بالحدود التي تضعها الرسالة في ارتباط العاطفة بالرموز الدينية، فلا غلو بالدرجة التي تصل إلى الحد الذي يقترب من صفات الألوهية التي ترتفع بالرمز ليكون إلهاً من الدرجة الثانية.

ولعلنا نستوحي هذا الرفض من هذا التأكيد الحاسم المتكرر في أكثر من آية على بشرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث تركز على نقاط الضعف البشرية في الرسول بما لا يتنافى مع موقع العصمة في شخصيته، ولا يسيء إلى مكانة النبوة في دوره. وقد جاء في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): «أحبونا حب الإسلام» ومعنى ذلك أن الحب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) لابد أن يكون منطلقاً من الإسلام في مضمونه العاطفي فلا يبتعد عن حدوده، ومتحركاً في خط الإسلام من حيث إنهم يمثلون فكره وقيمه وخطه ومنهجه، ليكون الارتباط بهم لوناً من ألوان الارتباط بالإسلام، فلا نفصل بينه وبينهم، ولا نبتعد عنه في التزامنا بهم».

تأصيل الولاية في حياتنا العملية

واستمراراً للفكرة السابقة يؤكد السيد فضل الله على أن الولاية لا تعني سوى اتِّباع خط الإسلام، وتطبيق منهجه وترسيخ مفاهيمه في الحياة وتحويلها إلى سلوك عملي. ولذا يتساءل في ضوء الفكرة السابقة: «كيف يمكن أن نتمثل الولاية في حياتنا العملية في المرحلة المعاصرة التي تتحرك فيها حياتنا؟ هل يكفي التشديد على إثارة ذكرياتهم والفرح في مناسبات فرحهم أو الحزن في مناسبات أحزانهم؟ والتركيز على الحديث عن فضائلهم وكراماتهم والاستغراق في الأجواء العاطفية المرتبطة بهم ليكون ذلك كله هو المظهر الحي لارتباطنا بهم؟ إننا نتصور أن الولاية في علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام) تتمثل في الالتزام بالإسلام كله، عقيدة وشريعة، ومنهجاً في حركتنا في الحياة، وذلك باعتباره رسالتنا التي نحملها إلى العالم، لنعمق الالتزام الإنساني به في مواجهة التيارات المضادة التي تقف من الإسلام موقفاً سلبيًّا في ساحة الصراع... على مستوى الصراع الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما تقف من قضايا المسلمين موقفاً استكباريًّا محارباً. فذلك هو الذي يمثله النهج الرسالي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)؛ لأن قضية الإسلام هي قضيتهم الأولى في موقع الأساس، لأن دورهم هو أن يربطوا الناس برسالة الله لا أن يربطوهم بأشخاصهم في عملية استغراق في الذات بعيداً عن أصالة الإسلام في الوعي، بحيث يشمل الكيان كله في انفتاحه على الله ليكون الله كل شيء في العمق الوجودي للإنسان، لتكون قيمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في وعينا أنه رسول الله، وقيمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم أولياء الله، حتى لا ننسى الله عندما نذكرهم، ولا ننسى الإسلام عندما نلتفت إلى خطهم، فليس هناك خط للولاية خارج نطاق الإسلام في قيمه الفكرية والروحية والأخلاقية».

ثم إن هذا الالتزام الفكري والعملي يساوق التزاماً آخر على مستوى العاطفة والروح، فلا يراد للإنسان المسلم أن يتجرَّد من عاطفته ومشاعره، بل أن يجعلها متناغمة مع عقله وسلوكه، بل إن للعاطفة المعقلنة دوراً إيجابيًّا وفاعلاً في التمسك بالخط الولائي، ولذا قال (قدس سره): «إنَّ الالتزام بالعقيدة لا يتمثّل في الالتزام الفكري الذي يمثّل الموقف الفكري للإنسان، بل يمتد إلى الالتزام العاطفي والروحي مع خطّ الفكر في حركة الحياة إزاء العلاقات الإنسانية الموافقة أو المضادة، فإنَّ التقاء الجانب العاطفي بالجانب الفكري في شخصية الإنسان المسلم يمثّل وحدة الشخصية، بينما يكون اختلافهما مظهراً من مظاهر ازدواجيتها وتمزّقها الذاتي، ما يترك آثاراً سلبية على استقامتها على الخطّ الإسلامي المستقيم. وإذا كانت العواطف غير الإسلامية تنطلق من مفاهيم غير إسلامية، باعتبار أنَّ العاطفة هي نتيجة المفهوم الكامن في الذات، فإنَّ ذلك يؤدي إلى التناقض بين الالتزام الفكري الذي يوحي بعاطفة إيجابية، والعاطفة السلبية الناتجة عن مفهوم مضادّ، فكيف يمكن اجتماعهما في الذات في الوقت الذي ينفي فيه أحدهما الآخر؟!

إنَّ الحبّ في المفهوم القرآني لا يتمثّل في العاطفة المجرّدة ومظاهرها الساذجة، بل يتمثّل في العاطفة التي تتحوّل إلى مواقف عملية في اتجاه خطّ الحبّ، وقد يتطوّر المفهوم في اعتبار المواقف العملية المضادة دليلاً على ضعف الحبّ أو عدم جديّة العاطفة وصدقها».

وقال (قدس سره) في بيان نماذج من التطبيقات العملية لصور الانتماء الحقيقي لمدرسة النبي وآله (عليهم السلام): «ولهذا، فإن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أكَّدوا أن مسألة التشيّع ليست حبًّا ساذجاً، ليست مجرد خفقة قلب، أن تقول: أحبّ عليًّا؛ وتأخذ حريتك مع كلِّ الذين حاربهم عليّ؟! لقد حارب عليّ (عليه السلام) الظالمين والكافرين والمتمردين على الله، فكيف تحبّ عليًّا وأنت تؤيّد كل أولئك أو تدعمهم أو تسير معهم، وكأنك وفّيت قسطك لعلي، لأن البعض قال لك: حبّ عليّ حسنة لا يضر معها شيء؟ عليّ عانى ما عانى من أجل الإسلام، والأئمة من بعده أكدوا ذلك. فالتشيّع إذاً خطٌّ للفكر بأن يكون فكرك فكر الحق في خط الإسلام، والتشيّع خطٌّ للعاطفة بأن تكون عاطفتك ممزوجة بالإسلام، والتشيّع خطٌّ للعمل بأن يكون عملك منفتحاً على الإسلام كله...

وفي جانب آخر، نلاحظ كيف يتعامل المسلمون -والشيعة بشكل خاص- مع بعضهم بعضاً، وقد سأل الإمام رجلاً عمّن خلّف من إخوانه، فأجابه بحسن الثناء والتزكية والإطراء، فقال: «كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ قال: قليلة. قال: وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ قال: قليلة. قال: كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا!! فقال (عليه السلام): فكيف تزعم عن هؤلاء أنهم من الشيعة؟»، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «يا شيعة آل محمد، إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يحسن صحبة من صاحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالقة من خالقه»».

معالجة النصوص ومرجعية القرآن

وفي إشارة إلى دور النصوص الموضوعة في تكوين المفاهيم الخاطئة أو القاصرة المتعلقة بالولاية قال: «علينا أن ننفتح على أصالة التراث الإسلامي الفكري الذي تركه أهل البيت (عليهم السلام) لنقوم بدراسته وتوثيقه وتنقيته من كل الشوائب العالقة به مما وضعه الوضاعون وكذب فيه الكذابون، فلعل بعضها يكون مكذوباً عليهم من قبل بعض الناس الذين كانوا يضعون الأحاديث على لسانهم فينسبونها إليهم زوراً وبهتاناً. وقد حذرنا الأئمة (عليهم السلام) من ذلك ودعونا إلى عرض الأحاديث على كتاب الله وقالوا لنا: إن ما خالف قول ربنا لم نقله، وما خالف كتاب الله فهو زخرف، لأن القرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلم يقترب إليه التحريف، ولم يستطع المحرفون أن يفرضوا كلمة واحدة عليه في مدى التاريخ، لذلك نرى القرآن واحداً لدى المسلمين جميعاً، فليس لأية طائفة من المسلمين قرآن مختلف عن قرآن طائفة أخرى، فهو مظهر الوحدة الإسلامية في كتاب واحد، بالإضافة إلى الرب الواحد والرسول الواحد والعقيدة التوحيدية والشريعة الشاملة...

إن للحديث عن أهل البيت والقرآن خصوصية مميزة تختلف عن أية خصوصية لأية جهة إسلامية بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك من خلال الحديث المتواتر عن النبي محمد قال: «أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي». وقال: «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما». فقد نستوحي من هذا الحديث -بمختلف تعابيره- أن العلاقة بين الكتاب وبينهم ليست علاقة مقارنة بين موقع وموقع لينفرد كل واحد منهما بذاتياته في دوره وحركيته، بل العلاقة علاقة ارتباط عضوي ينفتح فيه أحدهما على الآخر لينطلق أهل البيت (عليهم السلام) في عملية تفسير وتوضيح وتطبيق للقرآن وتحريك لمفاهيمه في الواقع الإنساني في الحياة من خلال الوعي الذي عاشوه في معانيه وانفتحوا فيه على آياته، في خط العلم النبوي الذي علمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) الذي قال: «علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب»...

في ضوء ذلك كانت قيمتهم أنهم كانوا ينطلقون بالقرآن ويتمثلون معانيه ويوضحون مفاهيمه ويستخرجون حلاله وحرامه ويستوحون آياته. وقد جاء عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال لأصحابه: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله».. وقد أكدت العترة الطاهرة أن القرآن هو القاعدة الأصلية المعصومة التي ينطلق منها كل فكر إسلامي، وكل حكم شرعي في أي مفهوم من المفاهيم الإسلامية وفي أية حركة ينطلق بها الواقع الإسلامي».

وقد سئل (قدس سره) حول الروايات التي تتناول موضوع الطاعة أو دائرة الولي ومسؤولياته، باعتبار أنها تجتاح المساحة التي يخاطب القرآن بها الإنسان كمسؤول، وأنها تُشعر وكأن الأمة مسلوبة الدور والإرادة، مما قد يشي أو يوحي بالتعارض بين الخطاب القرآني، المرجع الأول والحاسم، والذي يركز على مسؤولية الإنسان الفرد والجماعة، وبين بعض الروايات التي تعطي صلاحيات تامة أو شبه تامة للولي، قال: «في هذا المقام، يحسن التمييز بين الممارسات السلوكية في الذهنية الإسلامية المعاصرة، وخصوصاً في نظرتها إلى الولي، وبين المفهوم القرآني والسنّتي؛ فهناك ذهنية تحاول أن تستغرق في شخص النبي، الإمام الولي، حتى يخيل إليك أنّ المسألة مرتبطة بشخصية أكثر مما هي مرتبطة برسالة، بمعنى أن تُعطى الرسالة قيمة، لا من ذاتها، وإنما باعتبار مَن حملها، سواء كان النبي أو الإمام أو الولي، الأمر الذي يجعل الرسالة ثانوية قياساً على حاملها. ثمة نوع من أنواع الفهم الذاتي للمسألة، قد توهم بطغيان الفرد على الرسالة، مع العلم أنّ القيمة الفعلية هي للرسالة، حتى عندما يقال: إنّ الراد على الولي كالراد على الله، لا باعتباره بات ظل الله على الأرض، كما صوّر ملوك أوروبا أنفسهم قبيل عصر النهضة، وإنما باعتبار أنّ هذا الولي إنما يحكم بشريعة الله وبحكمه، وأي انحراف عن حكم الله يفقد هذا الولي أو ذاك مصداقيته ويسقط وجوب إطاعته، ولعلّ دلالة الرواية التالية واضحة في بيان هذا المعنى: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فاجعلوه بينكم حاكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً». وهذه الرواية توافق من ناحية المضمون دلالة الآية القرآنية الكريمة التي تربط إطاعة الرسول بإطاعة الله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ}.

المشكلة التي توحي بكل التساؤلات المتداولة والمطروحة بصيغ إشكالية، هي أنّ هناك استغراقاً في ذات الولي، بحيث ينظر إليه -بحسب المصطلح- نظرة موضوعية لا طريقية، ما جعل المسألة تتحرك بعيداً عن الأمة ودورها، بل عن الرسالة ودورها، ولعل هذا النمط الثقافي هو الذي جعل الناس تستغرق في الأنبياء والأولياء أكثر من استغراقها في الرسالة وفي القرآن الكريم.

ثمة كثير من الروايات والأحاديث التي يتم تداولها في الدائرة التفاضلية وفي إطار المقابلة بين كتاب الله تعالى وبين الإمام أو الولي... إلخ، وهذا يكشف عن ميلٍ لتغليب الجانب الشخصي والذاتي، ولعل هذا المنحى في التفكير بات يستحوذ على بعض الذهنيات الإسلامية في نظرتها إلى الموقع القيادي. في المقابل، إذا أردنا أن ندرس المسألة من خلال الخطاب القرآني أو الأحاديث الواردة في الولاية، فإننا لا نعثر على مثل تلك المفاهيم السائدة اليوم، فالقرآن الكريم يقدِّم لنا شخصية الرسول في إطار شخصية الرسالة وليس العكس، كما نجد أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتحدث ذاتيًّا عندما يأمر أو ينهى؛ {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ...}، وكذا النبي محمد عندما يتحدث عن نفسه يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ}، حتى عندما نقرأ بعض النصوص القرآنية التي تأمر بإطاعة الرسول، فإنها لا تنطلق من اعتبار الطاعة ذاتية، بل من خلال متابعتها في تفصيل تعاليم الرسالة في الواقع، فنلاحظ غياب شخصية الرسول في إطار التبليغ وبروز الرسالة {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ}، فالتكذيب ليس موجهاً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما موجه إلى الله سبحانه وتعالى».

وفي معرض رده على التساؤل التالي: «هناك حدود واضحة وفاصلة وحاسمة في الإسلام بين العقل والخرافة، ورغم ذلك، فإننا نرى أنّ الخرافة تطغى على سلوك كثير من الإسلاميين، لماذا؟» أجاب: «لعلّ المشكلة الأبرز في التصوّر الإسلامي تجاه الكثير من القضايا، ومنها نظرته إلى الشخصيات المقدسة أو للأوضاع العامة، هي أن هناك اتجاهاً لإعطاء الغيب مساحةً واسعةً، أوسع بكثير مما ينطلق به الإيمان بالغيب، فالله سبحانه وتعالى خصّ نفسه بالغيب، قال سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، وقد تحدث القرآن الكريم عن إقرار النبـي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل الأنبياء (عليهم السلام) بعدم علمهم بالغيب، وذلك كما جاء في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}، {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. ولكنّ الله قد يُطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب مما يتصل برسالاتهم في عملية التبليغ، وهذا ما نقرؤه في قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}.

إلَّا أنّ الناس حاولوا أن يعطوا الغيب مساحةً واسعةً، فحوّلوا الشخصيات المقدّسة إلى شخصيات غيبية، وراحوا يفسِّرون كل ما يصدر عنهم تفسيراً غيبيًّا، مع أن أكثر الآيات التي يتحدث فيها القرآن عن الأنبياء وعن النبي محمد بالذات، تشير إلى بشريته، فهو يفرح ويحزن، كما في قوله تعالى له: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}. وفي الحديث عن عيسى (عليه السلام): {مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. فالله تعالى ركّز في كتابه على الجانب البشريّ عند الأنبياء، وقد كان يوجّه النبيّ إلى أن يخبر النّاس بذلك: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ}.

لذلك، عندما تفسّر الأوضاع الدينية تفسيراً غيبيًّا، فإنّ الخرافة سوف تدخل في هذه التفسيرات، لأنّها لا تنطلق من قاعدة علمية ترتكز على الكتاب والسنة، بل إنها تخضع للكثير من تصوّرات الأشخاص وتحليلاتهم التي يسمعونها ويبثّونها بين الناس، وبذلك تنتشر الخرافة بين الناس بشكل قوي، وتتجذّر في العقل الشعبي العام، إلى مستوى تصبح معه من المقدسات، بحيث يُكفَّر من يناقشها مناقشةً علميةً موضوعيةً. ومع الأسف، فإن الكثير من المسلمين، سواء من السنّة أو الشيعة، يشتركون بهذه الذهنية التي تنفتح على كثير من خطوط الخرافة، وخصوصاً فيما يتعلّق بالشخصيات التي يحترمونها ويقدّسونها».

العلاقة بين الولاء والانكفاء

يعالج السيد فضل الله في هذه النقطة مشكلة أخرى يتعرض لها الموالون وذلك حين تدفعهم العاطفة القوية والصراعات العنيفة نحو التحزب ومعادة الآخرين، ومن ثم التقوقع والانغلاق على الذات والانكفاء إلى الداخل وشق الصف، قال (قدس سره): «ونقرأ عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رسالة إلى بعض شيعته عبر أحد أصحابه يُقال له «خيثمة»، قال: «أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ لُقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلَّا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلَّا بالورع، وأن أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره».

إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) يريدون أن يجعلوا من المسلمين الملتزمين بخط الإمامة والولاية لهم، النموذج الروحي والفكري والشرعي والأخلاقي الذي ينفتح على الناس ويعيش معهم، من أجل أن يبذل كلٌّ طاقاته في سبيل الخير والعدل والحق.

وعلى ضوء هذا، فإننا نستوحي من كلّ هذا الكلام، أنَّ على كلِّ هؤلاء أن يعيشوا الأخوّة الإسلامية والإيمانية، ألَّا يحقد بعضهم على بعض لمجرد اختلاف عائلي أو شخصي أو حزبي هنا وهناك، لأنّ الذين يتحرّكون من أجل أن يزرعوا الأحقاد في نفوس المسلمين، ولا سيّما المسلمين السائرين في خط الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك لاختلافهم سياسيًّا أو حزبيًّا أو عائليًّا، فإنهم يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم حتى لو هتفوا باسم الإسلام والتشيّع، لأنّ الله تعالى يريد للمسلمين أن يردُّوا أيّ خلاف بينهم إليه سبحانه وإلى الرسول، ألَّا نردّه إلى الظالمين والمستكبرين، أن يكون الله ورسوله والهداة من أئمة أهل البيت، هم القاعدة التي نرجع إليها فيما نختلف فيه، ألَّا ننسى ربنا عندما نعيش في واقع اجتماعي أو سياسي نختلف فيه، ألَّا ننسى ربَّنا ونبيّنا وأئمتنا وإسلامنا، لأن الذين ينسون الله ورسوله وأولياءه، فإن معنى ذلك أنهم يخرجون من الإسلام عمليًّا، وإن هتفوا بالإسلام كلاميًّا وشعاراتيًّا».

لقد كانت كلمات السيد الراحل (قدس سره) تؤكد على الدوام ضرورة اعتبار الانتماء لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) مسؤولية تفرض علينا السعي لتحقيق وحدة الكلمة، فالانتماء لعلي (عليه السلام) انتماء لرائد الوحدة الإسلامية الذي ضحى بكل شيء من أجل الإسلام: «لنرجع إلى عليّ (عليه السلام) ولنلتفَّ حوله، وهو الذي أعطى رسول الله والإسلام كل شيء، لنرجع إلى الحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) الذين ضحّوا من أجل الإسلام والمسلمين كلهم، لا تلتفتوا إلى من يريد أن يثير الفتنة وينشر الحقد والبغضاء فيما بينكم، لأن معنى أن نكون شيعةً لأهل البيت (عليهم السلام)، أن نكون في خط عليّ والحسن والحسين والأئمة، وفي خطّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن نقف صفًّا واحداً كالبنيان المرصوص، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد».