شعار الموقع

إبراهيم مدكور ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية

زكي الميلاد 2012-10-03
عدد القراءات « 2014 »

ـ 1 ـ
الكتاب.. منزلته وقيمته

يعد كتاب الدكتور إبراهيم مدكور (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) الصادر سنة 1947م، أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، الحقل الذي تأخَّر الاهتمام به في المجال العربي الحديث، وقلَّ فيه الابتكار والإبداع، ولم يشهد فيما بعد تراكماً متصلاً يتسم بالتطور والتجدد.

ومثَّل صدور هذا الكتاب حدثاً لافتاً في وقته، كان جديراً بأن يؤرخ له في مسارات تطور الفكر الفلسفي الإسلامي المعاصر، وبشكل يستدعي التوقف عنده، وذلك لتميزه المنهجي والتاريخي من جهة، ولكونه جاء مبكراً وسابقاً للعديد من الكتابات والمؤلفات في حقله.

وحين تتبع الدكتور ماجد فخري الدراسات الفلسفية في مائة عام، وتوقف عند الكتابات العربية التي أرَّخت للفلسفة الإسلامية، اعتبر أن كتاب الدكتور إبراهيم مدكور «هو أفضل ما ألَّفه العرب المحدثون في هذا الباب، ومع أنه ليس تاريخاً شاملاً للفلسفة العربية، فقد بسط مؤلفه الأسس الصحيحة لمحاولة التأريخ للفلسفة العربية تأريخاً جامعاً، ومثل عليه تمثيلاً حسناً».

مع ذلك فهناك من تجاوز هذا الكتاب ولم يأت على ذكره، ولا أدري تغافلاً أم نسياناً، أم لوجهة نظر عند أصحابها دون أن يصرحوا بها، ومن هؤلاء الدكتور أحمد محمود صبحي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، في دراسة تتبع فيها اتجاهات الفلسفة الإسلامية المعاصرة، حملت عنوان (اتجاهات الفلسفة الإسلامية في الوطن العربي).

ومن هؤلاء أيضاً، الدكتور إبراهيم أبو ربيع في دراسة تتبع فيها التيارات الرئيسة في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، حملت عنوان (الفلسفة الإسلامية المعاصرة في العالم العربي).

ويُذكر لهذا الكتاب ويُسجل له أنه جاء بعد ثلاث سنوات على صدور كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) الصادر سنة 1944م، هذه الفترة الزمنية المتقاربة جعلت كل كتاب يُذكِّر بالكتاب الآخر، وهذا ما استفاد منه كتاب الدكتور مدكور، وذلك للشهرة الواسعة التي حظي بها كتاب الشيخ عبد الرازق لكونه من أسبق المؤلفات العربية في بابه.

وظل الحديث عن هذين الكتابين مقترناً في بعض الكتابات العربية، كالذي أشار إليه الدكتور محمد عابد الجابري حين اعتبر أنهما من أهم المحاولات، إن لم يكونا أهمها على الإطلاق، وأعطاهما صفتا الريادة والطموح، وقال عن مؤلفيهما أنهما من الأساتذة الذين ساهموا مساهمة كبيرة في إعادة بعث وإحياء الفلسفة في الفكر العربي الحديث، بعد أن بقيت مخنوقة مقموعة طيلة عصر الانحطاط، بل منذ وفاة ابن رشد.

وهذا التزامن والاقتران بين الكتابين وما اتسما به من ريادة وتميُّز، لفت الانتباه إلى طبيعة تلك الفترة، فترة أربعينات القرن العشرين التي يمكن أن تُعَدَّ من الفترات التي شهد فيها الفكر الفلسفي الإسلامي المعاصر تطوراً وتقدماً وانبعاثاً، أسهم في نهضة وتأسيس حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وذلك بعد أن كان هذا الحقل تهيمن عليه بشدة كتابات المستشرقين الغربيين.

ويُذكر لكتاب الدكتور مدكور أنه كتب بلغة سهلة وواضحة بعيدة كل البعد عن الغموض والتعقيد، وعن كل ما يكتنف كتب الفلسفة عادة قديمها وحديثها من تصعيب وإبهام، يكون متعمداً أحياناً، لتكون هذه الكتب من اهتمام الخاصة دون العامة.

وهذه السمة كانت متوقعة ومنتظرة من الدكتور مدكور، وليست غريبة عليه، وهو الذي عرفه مجمع اللغة العربية بالقاهرة زمناً طويلاً شارف نصف قرن، حيث انضم إليه سنة 1946م مع نخبة عرفت آنذاك بمجموعة العشرة الطيبة، كان من بينهم الدكتور أحمد زكي، والدكتور عبد الرزاق السنهوري، والدكتور عبد الوهاب عزام، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمود شلتوت وآخرون.

وفي هذا المجمع، تدرج الدكتور مدكور في مناصبه من كاتب سر سنة 1959م، إلى أمين عام سنة 1961م، ثم رئيساً للمجمع سنة 1974م خلفاً للدكتور طه حسين، وبقي في منصبه رئيساً إلى سنة 1995م.

وحين توقف الدكتور مدكور أمام كتابه في الطبعة الثانية، وجد أن ليس هناك ما يستدعي استئناف بحث، ولا إعادة دراسة، وجل ما أدخل عليه كان أقرب إلى التنقيح منه إلى الزيادة.

ـ 2 ـ
المنهج وتطبيقاته

من أكثر ما تميز وتفوق به كتاب الدكتور مدكور على الكتابات الفلسفية الأخرى، هو ذلك الجانب الذي يتصل بالمنهج التطبيقي، فهو من أكثر المؤلفات وضوحاً في المنهج من الناحيتين النظرية والتطبيقية، واتسم بالتجديد والابتكار من هذه الناحية، وكانت هذه من أعظم نجاحاته، بحيث يمكن القول: إنه كتاب في الفلسفة من جهة، وكتاب في المنهج من جهة أخرى، وما زال إلى اليوم يحتفظ بهذه السمة المتفوقة.

وقليلة هي الكتابات التي تميزت بالتفوق المنهجي، أو التجديد المنهجي في الدراسات العربية والإسلامية، ولهذا فإن كتاب الدكتور مدكور يصلح أن يكون كتاباً نموذجيًّا يحتذى به في حقل المنهج وتطبيقاته، وبإمكانه أن يُقدَّم من هذه الناحية، ويدرس كنموذج في كيفية تطبيقات المنهج في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها.

وما يعزز من قيمة هذا التميز المنهجي لكتاب الدكتور مدكور، أن صدوره جاء في وقت مثل بداية الاهتمام بدراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية في المجال العربي الحديث، ولم تكن هناك تراكمات سابقة عليه سوى كتاب التمهيد للشيخ مصطفى عبد الرازق، مع ذلك تمكن الدكتور مدكور من أن يبتكر لنفسه منهجاً تطبيقيًّا جديداً، ولم يكن تابعاً أو مقلداً فيه لأحد من المتأخرين أو المتقدمين.

والمنهج الذي يعول عليه الدكتور مدكور، ويقترحه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، يتحدد في نطاقين هما:

أولاً: المنهج التاريخي، الذي يرى فيه الدكتور مدكور أنه المنهج «الذي يصعد بنا إلى الأصول الأولى، وينمي معلوماتنا، ويزيد ثروتنا العلمية، وبواسطته يمكن استعادة الماضي وتكوين أجزائه البالية، وعرض صورة منه تطابق الواقع ما أمكن».

كما أنه المنهج «الذي يُعوِّل على الأصول الثابتة، فيزنها بميزانها الصحيح، وينقدها النقد النزيه، ويحذر الوضع والاختلاق والغلو والتعصب، والحزبية العلمية ليست أقل خطراً من الحزبية السياسية، ويحاول ما أمكن أن يربط الحياة الفكرية بالأحداث السياسية والاجتماعية».

وجاء اختيار هذا المنهج، بناء على جملة من الخلفيات أشار إليها الدكتور مدكور في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه، ويمكن الكشف عنها وتحديدها في العناصر التالية:

1- لا يخلو البحث التاريخي من فروض يقوم عليها، وأهداف نظرية يصوب إليها، ولا يستغنى عن نموذج متخيل تجمع الوقائع على غراره، ويبنى الماضي على أساسه، ولقد درج المؤرخون على أن يرسموا بحوثهم في ضوء معلوماتهم، ويحددوا معالمها بقدر ما يسمح لهم اطِّلاعهم، فيقفون بالعصور والمدارس عند خطوط تحديد وهمية، ويصلون ما انقطع أو يقطعون ما اتصل، ولا مناص لهم من أن يفعلوا ذلك، وقد لا يكون فيه عيب أو غضاضة.

2- العيب كل العيب أن يتحوَّل التاريخ إلى مجموعة فروض ليس بينها وبين الواقع صلة، وأن تؤخذ على أنها قضايا مسلمة لا داعي لبحثها، ولا محل لمناقشتها، أو أن تمنح قدسية لا مبرر لها، اللهم إلَّا أنه قد قال بها مؤلف سابق، وذهب إليها مؤرخ قديم، وبذا تقف حجر عثرة في سبيل البحث والدراسة، وتحول دون تقدم العلم وارتقائه.

3- بُلي تاريخ الحياة العقلية في الإسلام بطائفة من هذه الفروض، فقيل مثلاً: إن الساميين فطروا على غريزة التوحيد والبساطة في كل شيء، في الدين والفن واللغة والحضارة، أو أن عقليتهم عقلية فصل ومباعدة، لا جمع وتأليف، فلا قِبَل لهم إلَّا بإدراك الجزئيات والمفردات منفصلة، أو مجتمعة في غير تناسق ولا انسجام. وظن أن العرب لم يصنعوا شيئاً أكثر من أنهم تلقوا دائرة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالم كله مسلماً بها في القرنين السابع والثامن، أو أنه لا فلسفة لهم، وكل ما صنعوا أنهم حاكوا الأفلاطونية الحديثة ورددوها، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل رتبت عليه نتائج شتى لا يزال يأخذ بها بعض الباحثين.

4- إن منشأ هذه الفروض في الغالب أنها لم توضع بعد دراسة كاملة، ولم تستمد من التفكير الإسلامي نفسه في أصوله ومصادره، وإنما أملتها صورة مشوهة لما كان متداولاً من المخطوطات اللاتينية. وذلك أن بعض مؤرخي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عرضوا للحياة العقلية عند المسلمين، دون أن يكون لهم إلمام بلغتهم، أو دون أن تتوافر لديهم المصادر العربية الكافية، وانتهوا إلى أحكام لا يمكن إلَّا أن تكون سريعة وناقصة، ومع هذا قُدِّر لها أن تحيا زمناً.

5- لم يبق بُدٌّ من تدارك هذا النقص، وأَقْوَم طريق لذلك أن يعرض الفكر الإسلامي في ذاته، فيدرس دراسة واقعية في ضوء ما وصل إلى المسلمين من أفكار أجنبية، وعلى أساس ما ولدته البيئة الإسلامية نفسها من بحوث ومناقشات، ويعرف مباشرة عن طريق واضعيه والقائلين به، كي يمكن إدراكه على حقيقته، وتفهمه على وجهه. ثم تتبع أدوار تكوينه نشأةً ونمواً وكمالاً ونضجاً، ويبين مدى تأثيره في الخلف والمدارس اللاحقة.

6- إن دراسة كهذه يجب أن تقوم على النصوص والوثاق التي هي مادة التاريخ الأولى، ودعامة الحكم القوية، وسبيل الاستنباط وكشف الحقيقة. ولا شك في أنها، إن صح ثبوتها وفُهمت على وجهها، ولم تُحمَّل فوق طاقتها، كانت أوضح صورة تحكي الماضي وتُعبِّر عنه، وقد لا يكفي تلخيصها أحياناً، بل ينبغي أن تُقدَّم كما هي، كي تُناقش وتُحلل.

ثانياً: المنهج المقارن، الذي يرى فيه الدكتور مدكور أنه المنهج «الذي يسمح بمقابلة الأشخاص والآراء وجهاً لوجه، ويعين على كشف ما بينهما من شبه أو علاقة. والمقارنة والموازنة من العلوم الإنسانية بمثابة الملاحظة والتجربة من العلوم الطبيعية».

وهناك حاجة إلى هذا المنهج تحديداً في دراسة تاريخ الفكر الإسلامي، وذلك لأن الكثيرين في نظر الدكتور مدكور ممن عرضوا لهذا التاريخ حبسوا أنفسهم في نطاق ضيق، وعالجوه من نواح محدودة، فأخذوا الأفكار منفصلاً بعضها عن بعض، وكأنما نبتت كل فكرة بمعزل عن الأخرى، ولمفكرين منفردين، وكأنما عاش كل واحد منهم في كهف أفلاطون الذي لا صلة بينه وبين العالم الخارجي.

فإذا ما عرضوا لفيلسوف مثلاً اكتفوا بسرد آرائه وتلخيص بعض مؤلفاته، دون أن يعنوا بوضعه وضعاً صحيحاً في بيئته، أو أن يقرنوه بمن كانوا حوله، ودون أن يهتموا ببيان كيفية نشأة فلسفته، والعوامل التي أثرت فيها، ومدى ارتباطها بالأفكار المعاصرة لها. وإن حاولوا مقارنة جاءت محدودة ناقصة فتقصر على بعض المسائل، وتقف عند بعض الآفاق. فلا يوازن عادة إلَّا بين فيلسوف وفيلسوف، أو بين متكلم ومتكلم، أو بين متصوف ومتصوف، مع أن هؤلاء جميعاً كثيراً ما تعاصروا وتعارضوا، ودار بحثهم في الغالب حول نقط مشتركة. ومن الخطأ أن ينتزع الواحد منهم من بيئته وينسى من حوله، أو أن تبحث آراؤه منفصلة عن نواحي الثقافة الإسلامية الأخرى المتصلة بها.

والإبداع والتجديد كما هو واضح لا يكمن في هذا التحديد للمنهج من الناحية النظرية، فهو من المناهج المعروفة والمتداولة والمفضلة عند الكثيرين، وإنما يكمن في تطبيقات هذا المنهج، وهي التطبيقات التي شكلت بنية الكتاب الأساسية، وتجلت فيها أطروحته.

وجرت هذه التطبيقات على خمس نظريات تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها جرت التطبيقات عليها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة والنبوة وخلود النفس، واثنتان جرت التطبيقات عليها في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية وحرية الإرادة.

ويرى الدكتور مدكور أن هذه النظريات ما هي إلَّا نماذج لدراسات ينبغي محاكاتها، وجزء من سلسلة يجب استكمال حلقاتها، وهناك نظريات أخرى بحاجة لأن تدخل في نسق هذه التطبيقات، منها نظرية واجب الوجود، والعلم الإلهي، والخلق والإبداع، والسببية والغائية، ومذهب التفاؤل، وغيرها من نظريات أخرى ميتافيزيقية وطبيعية وسيكولوجية وأخلاقية.

وطريقة مدكور في تطبيقات المنهج على هذه النظريات الخمس، تبدأ بتوضيح النظرية وإعطاء فكرة كاملة عنها، وشرحها بلغة أصحابها وواضيعها، وبحسب الصورة التي ظهرت عليه في المجال الإسلامي، ومحاولة تلمس أصولها، والبحث عن مصادرها فيما نقل إلى العربية من أفكار أجنبية، أو فيما جاء به الدين من تعاليم.

ومن ثم تتبع تاريخ هذه النظريات، والكشف عن مدى تأثيرها في ساحة المسلمين، وفي بيئاتهم الفكرية والاجتماعية، لكونها نشأت بينهم، وعلى أيديهم ترعرعت، وبلغتهم كُتبت، وفي حلقاتهم ومناقشاتهم تُبودلت، وإذا كان هناك من عارض هذه النظريات أو حمل عليها، فإن هذا لا يحول ويقف دون تأثيرها.

والخطوة اللاحقة، هي تتبع أثر وتأثير هذه النظريات في غير المسلمين من اليهود والمسيحيين، وعلى مذاهبهم ومدارسهم الفكرية والدينية، وبالذات في فترة العصور الوسطى.

ولا تنتهي هذه التطبيقات عند هذا الحد، وإنما تمتد إلى العصور الحديثة، وتصل أحياناً إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث لاحظ الدكتور مدكور أن هناك بعض الشَّبَه في نظريات فلاسفة المسلمين والفلاسفة المحدثين، وهذا ما لم يُولِهِ الباحثون من قبل عناية تذكر، ولم يبق اليوم شك في أن الفلسفة الحديثة مدينة في كثير من مبادئها لفلسفة القرون الوسطى، ولو لم تتوسط الفلسفة الإسلامية بينهما ما بدت الفلسفة الحديثة بهذا الوضع التي ظهرت عليه.

وهذه ليست أول محاولة للدكتور مدكور في هذا التطبيق المنهجي، فقد سبق أن طبقه -كما يقول- في بحثه عن الفارابي الذي أعده باللغة الفرنسية لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون سنة 1934م، وحمل عنوان (الفارابي ومنزلته في المدرسة الفلسفية الإسلامية)، وهذا البحث كان رسالته الصغرى، أما بحث رسالته الكبرى فكان بعنوان (تاريخ منطق أرسطو في العالم العربي)، ففي فرنسا آنذاك كان الحصول على دكتوراه الدولة يتطلب إعداد رسالتين صغرى وكبرى.

وحين توقف الدكتور ماجد فخري أمام هاتين الرسالتين وجد أنهما من أجود ما حرره مؤلفون عرب في حقل الدراسات الفلسفية سنة 1934م.

ومن جهته وصف المستشرق الفرنسي هنري كوربان بحث الدكتور مدكور عن الفارابي بالبحث القيم الذي عرض فيه مذهب الفارابي الفلسفي.

ـ 3 ـ
المستشرقون والدراسات الفلسفية

تحدَّث الدكتور مدكور عن المستشرقين وهو يؤرخ لدورهم في مجال العناية بالدراسات الإسلامية بشكل عام، وبالدراسات الفلسفية بشكل خاص، ومنوهاً بهذا الدور، ومشيداً بفضل هؤلاء المستشرقين الذين اتجهت عنايتهم بالدراسات الإسلامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولكنها نشطت في الربع الأول من القرن العشرين.

وكانت للدراسات الفلسفية نصيب من هذه الجهود، حيث نشرت مؤلفات لفلاسفة المسلمين بقيت مخطوطة زمناً طويلاً، وقُوبلت أصولها العربية بما عرف لها من ترجمات لاتينية وعبرية، وعلّق عليها بما يشرح غامضها، ويعين على فهمها.

ولولا هذا الدور من المستشرقين -كما يقول مدكور- لبقيت هذه المخطوطات مهملة في خزائن المكتبات العامة، ولولا تمكنهم من عدة لغات قديمة وحديثة، واعتمادهم على منهج صحيح -حسب قوله- ما ظهرت هذه المؤلفات على ما ظهرت به من ضبط ودقة.

ويرى مدكور أن دور المستشرقين لم يقف عند هذا الحد، بل حاولوا أن يكشفوا عن معالم الحياة العقلية في الإسلام، وأرَّخوا لها جملةً وتفصيلاً، فكتبوا عن الفلسفة والفلاسفة، والكلام والمتكلمين، والتصوف والمتصوفين، وأخذوا يشرحون الآراء والمذاهب، ويترجمون للأشخاص والمدارس، ووصل بهم الحال إلى نوع من التخصص أضحى معها كل باحث معروفاً بالناحية التي تفرغ لها، فهناك من اعتنى عناية خاصة بتاريخ التشريع كالمستشرق المجري جولدزيهر، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالتصوف كالمستشرق الإنجليزي نيكلسون، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالكيمياء العربية كالمستشرق الألماني روسكا، وهكذا الحال مع آخرين.

وهذا ما يؤكد نظر الدكتور مدكور في أن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة، وكان للدراسات العقلية والفلسفية فيها نصيب.

وما يريد مدكور أن يقرره ويلفت النظر إليه، يتعلق بمرحلة ما بعد الربع الأول من القرن العشرين، والتي تتحدد في النقاط التالية:

أولاً: إن الفلسفة الإسلامية بالرغم من كل هذا الاهتمام لم تُدرس الدرس اللائق بها، لا من ناحية تاريخها، ولا من ناحية نظرياتها ورجالها، وبقيت حتى أربعينات القرن العشرين لم تعرف نشأتها بدقة، ولم يبين بوضوح كيفية تكوينها، ولا العوامل التي ساعدت على نهوضها، ولا الأسباب التي أدَّت إلى انحطاطها والقضاء عليها، ولم تُناقش كل نظرياتها ليوضح ما اشتملت عليه من أفكار الأقدمين، وما جاءت به من ثروة جديدة.

ثانياً: حتى أربعينات القرن العشرين ما زالت دراسات المستشرقين قليلة وغير وافية، وفي جزء منها معيبة وناقصة، لا تخلو من أخطاء لغوية وفنية، أو مختصرة اختصاراً يكاد يُخِلُّ بالغرض المقصود، ولعل ذلك راجع إلى أن بعض من كتبوا في تاريخ الفلسفة الإسلامية لا يجيدون اللغة العربية، ولا يحيطون بوجه خاص تمام الإحاطة بتاريخ الثقافة الإسلامية، أو هم -إن عرفوا ذلك- يجهلون تاريخ الفلسفة في عمومه، ولم يكوّنوا تكويناً فلسفيًّا خاصًّا.

فمن يُطالع ما كتبه المستشرق الفرنسي كرا دي فو في كثير من مؤلفاته يحس أنه أمام مترجم ينقصه العمق والدقة، وأما من يُطالع المستشرق الهولندي دي بور في تأريخه للفلسفة الإسلامية فإنه يتمنى لو أنه أطال أكثر مما فعل.

ثالثاً: إن دراسات المستشرقين في جملتها قد طال عليها العهد نوعاً ما، وأضحت في حاجة إلى التعديل والتجديد، وذلك لأن معلوماتنا عن الثقافة الإسلامية تتغير من حين لآخر، وبقدر ما نكشف من مخطوطات، ونقف عليه من آثار يتضح الغامض ويصحح الخاطئ. ولا شك في أن حركة جمع التراث الإسلامي في نمو الآن، مقرونة إلى أوائل هذا القرن، ومعلوماتنا عنه أغزر مادة وأكثر وضوحاً، وما أحوجنا إلى دراسات جديدة في ضوء هذه المعلومات وتلك المصادر.

رابعاً: هناك حاجة ماسة إلى متابع السير، فإذا كان المستشرقون قد اضطلعوا بالعبء الأعظم حتى ذلك الوقت، فالواجب أن نقف إلى جانبهم إن لم نتقدمهم، ولا يقاس انتشار صوت مفكر أو مخترع بمقدار ما أنتج من آراء ومخترعات فحسب، بل بدرجة عناية من حوله به، واهتمام أمته بإحياء آثاره، وها هي ذي الأمم المتقدمة تتسابق في الإشادة بمجدها، ونشر آثار علمائها ومفكريها.

خامساً: إن ميدان العمل أمامنا فسيح، ومجال البحث ذو سعة، وأول ما ندعو إليه جمع ونشر لمؤلفات فلاسفة الإسلام، التي لا تزال مخطوطة حتى اليوم، أو التي نشرت نشراً ناقصاً ومعيباً، ذلك لأنا لا نستطيع أن نفهمهم فهماً حقًّا إلَّا إذا قرأناهم بلغتهم وفي كتبهم، وإذا عرفنا مثلاً أن للكندي عدة رسائل مهملة في مكتبات إسطنبول، وأن للفارابي مؤلفات مخطوطة موزعة بين مكتبات ليدن وباريس والأسكريال، وأن (كتاب الشفاء) المشهور لابن سينا قد أهمل ناشره طبع الجزء الأول منه الخاص بالمنطق، أدركنا مقدار حاجتنا إلى هذا الجمع والنشر، ولسنا في حاجة أن نلاحظ أن ابن رشد معروف في العالم اللاتيني أكثر مما هو معروف في العالم العربي.

وإلى جانب نشر هذه المخطوطات، ينبغي أن نتولى فلاسفة الإسلام بالعناية والدرس، على نحو ما درس الفلاسفة الآخرون، فنترجم لهم ترجمة وافية تكشف عن حياتهم وتحلل شخصياتهم، وتسمح بمعرف العوامل المختلفة التي كان لها دخل في تكوين آرائهم، ولنبحث عن أصول هذه الآراء فيما وصلنا من تفكير قديم، ولنقارنها بما عرف لدى اللاتينيين، ولنبين وجوه الشبه بينها وبين الأفكار الحديثة. وإنا لنرجو أن يجيء يوم يكتب فيه عن الفارابي بقدر ما كتب عن موسى بن ميمون، وتعرف مؤلفات ابن سينا كما عرفت مؤلفات القديس توماس الأكويني، ويدرس الغزالي كما درس ديكارت، وحين ذاك تبدو الفلسفة الإسلامية في ثوبها اللائق ومظهرها الحقيقي.

بهذا الموقف يكون مدكور قد ظهر بمظهر الموقف الهادئ والإيجابي من الاستشراق والمستشرقين، وكان بعيداً كل البعد عن الانفعال والتشكيك بخلاف موقف الكثيرين في المجال العربي والإسلامي، ومن هذه الجهة يمكن تصنيف موقف الدكتور مدكور في خانة أصحاب الموقف الإيجابي تجاه الاستشراق الأوروبي.

وعند النظر في هذا الموقف، يمكن تفسيره بعد الكشف عن مجموعة عوامل متعددة ومؤثرة، منها الطبيعة الفكرية المتسامحة عند الدكتور مدكور والتي تجلَّت بوضوح في كتابه (في الفلسفة الإسلامية)، ومنها عامل التتلمذ على المستشرقين، والزمالة لهم، والصحبة معهم في مراحل تالية، فحين ذهب مدكور للدراسة في فرنسا سنة 1929م، كان من حظه -كما يقول- أن أستاذاً جامعيًّا فرنسيًّا كبيراً هو الذي أشرف على بحوثه، ويعني به أندريه لالاند، حيث اتصل به طوال ثلاث سنوات، ووجد فيه حسب قوله الأب الكريم، والمرشد الهادي، وما لقيه مرة إلَّا وأفاد من توجيهاته ودروسه النافعة، وفي مرحلة تالية زامله بعد عودته إلى القاهرة سنة 1935م، وتعيينه عضواً في هيئة التدريس بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة القاهرة، وكان لالاند أستاذاً فيها آنذاك فنعم بصحبته، وبقي على تواصل معه إلى وفاته، فما أن يصل مدكور إلى باريس في أية زيارة له كان يتصل به، ويستمتع بمجلسه.

إلى جانب لالاند كان هناك المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي تتلمذ عليه الدكتور مدكور في فرنسا، وشارك في مناقشة بحثيه في الدكتوراه، وكان يعتبره عميد المستشرقين المعاصرين.

ومن هذه العوامل أيضاً، أن جماعة من المستشرقين الأوروبيين هم الذين نهضوا بحقل الفلسفة عند تأسيسه في جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة حاليًّا، ثلاثة من هؤلاء كان قد تعرف عليهم الدكتور مدكور في باريس وتتلمذ عليهم، وشاركوا في مناقشة بحثيه للدكتوراه، وهم إلى جانب لالاند وماسينيون إميل برييه أستاذ تاريخ الفلسفة القديمة.

وإلى هذه المجموعة من المستشرقين الأوروبيين يرجع الفضل في تأسيس وإحياء حقل الفلسفة في التعليم الجامعي المصري.

يضاف إلى هذه العوامل، أن المجموعة المصرية التي التحق معها الدكتور مدكور في هيئة التدريس بقسم الفلسفة، وبقي متعاوناً معها لزمن غير قصير، كانت على الموقف نفسه تقريباً تجاه الاستشراق والمستشرقين.

وهي المجموعة التي تذكَّرها مدكور في كتاب سيرته وأشاد بها، واعتبر أن من حظه العمل إلى جانب يوسف كرم مؤرخ الفلسفة، وأبو العلا عفيفي أستاذ المنطق، ومصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، وهذه هي المجموعة التي نعم بصحبتها، إلى جانب الأساتذة الأجانب في جو يصفه مدكور كله صفاء وعطاء وحب وتقدير، واستطاعت هذه المجموعة أن تُكوِّن أجيالاً كان لها شأنها في البحث والدرس الفلسفي منذ العقد الرابع إلى اليوم.

وقد عرفت هذه المجموعة المصرية بأسرة الفلسفة، وانظم إليها الأساتذة الأجانب الزملاء لهم في قسم الفلسفة، ومثَّلت هذه المجموعة الجيل الأول لأساتذة الفلسفة في التعليم الجامعي المصري، وهذا يعني أن البيئة الثقافية والأكاديمية في مصر إلى أربعينات القرن العشرين ما كانت تظهر تشدداً وانفعالاً وتشكيكاً تجاه ظاهرة الاستشراق والمستشرقين كالذي ظهر فيما بعد في مصر والعالم العربي.

ويتمم هذه العوامل، أن الدكتور مدكور حينما التفت إلى حقل الدراسات الفلسفية في المجال العربي ما بين ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، لم يجد من الترجمات والتحقيقات والنصوص والمؤلفات سوى كتابات المستشرقين التي رجع إليها، واستعان بها في إعداد وتصنيف كتابه عن الفلسفة الإسلامية، وأشار إلى هذه الملاحظة في مقدمة الكتاب معترفاً لهم بالفضل.

وأظن أن هذه العوامل متضافرة، تُقدِّم تفسيراً معقولاً ومتماسكاً لموقف الدكتور مدكور تجاه ظاهرة الاستشراق والمستشرقين.

وفي وقت لاحق أثار هذا الموقف نقداً ونقاشاً متبايناً بعض الشيء في المجال العربي، سوف نأتي على ذكره لاحقاً.

ـ 4 ـ
الفلسفة الإسلامية.. الأصالة والسمات

أثار المستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر موجة عنيفة من الشكوك تجاه الفلسفة والفكر الفلسفي عند المسلمين، وكثرت وتواترت أقوالهم ونصوصهم التي تسلب من المسلمين ملكة الإبداع والابتكار الفلسفي، والارتقاء بالبحث العقلي الحر، وتضعهم في مرتبة أدنى من ذلك، وتصورهم على أنهم أميل إلى الشعر والخطابة من الفلسفة والمنطق، وأقرب إلى إدراك الجزئيات من الكليات، وأن لا طاقة لهم بالاستدلال والبرهان، ولا عهد لهم بالقوانين والنظريات، والفلسفة التي ظهرت في ساحتهم ما هي في نظرهم إلَّا اقتباساً وتقليداً واتِّباعاً مُشوَّهاً ومنقوصاً ومضطرباً عن الفلسفة اليونانية القديمة.

هذه هي الصورة التي ورثها المسلمون المعاصرون عن الموقف الغالب عند المستشرقين الأوروبيين، تجاه الفلسفة والفكر الفلسفي عند المسلمين، صورة يتجلى فيها بوضوح مدى التحيُّز والتحامل والإسقاط والتشويه المفرط، فما كان على هؤلاء المسلمين إلَّا أن يقفوا في وجه هذه الصورة النمطية المتحاملة والمرعبة، ويبرهنوا على خلافها بتأكيد حقيقة وأصالة الفلسفة الإسلامية.

وفي هذا النطاق جاء كتاب الدكتور مدكور، وإلى هذه المهمة ينتمي في أطروحته الفكرية، وبها تتحدد فلسفته وحكمته، وهذا ما يتكشف حين التعرف على الإشكالية الأساسية التي ينطلق منها، ويقررها الدكتور مدكور بقوله: «وضعت الفلسفة الإسلامية موضع الشك زمناً، فأنكرها قوم وسلَّم بها آخرون، وكانت موجة الشك فيها طاغية طوال القرن التاسع عشر، فظن في تحامل ظاهر أن تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث الحر والنظر الطليق، وأنها تبعاً لهذا لم تأخذ بيد العلم، ولم تنهض بالفلسفة، ولم تنتج إلَّا انحلالاً موغلاً، واستبداداً ليس له مدى، في حين أن المسيحية كانت مهد الحرية، ومنبت النظم النيابية، وقد صانت ذخائر الفنون والآداب، وبعثت العلوم بعثاً قويًّا، ومهدت للفلسفة الحديثة وغذتها».

ولا يمكن فهم فلسفة وحكمة كتاب الدكتور مدكور بعيداً عن هذا النص، الذي افتتح به الفصل الأول، وشرح فيه رؤيته وأطروحته في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.

وحين تتبع مدكور تطور اتجاهات النظر تجاه الفلسفة الإسلامية ما بين القرن التاسع عشر الذي طغت فيه موجة الشك وما بعده، وجد أن هناك تطوراً حصل في القرن العشرين حيث أخذ الباحثون يتعرفون على الدراسات الإسلامية أكثر من ذي قبل، ويدركون ما لهذه الدراسات من طابع خاص ومُميَّز، وكلما ازدادت معرفتهم بها، وقربهم منها استطاعوا الحكم عليها بوضوح وإنصاف.

واليقين الذي وصل إليه الدكتور مدكور في عصره، أن هناك إمكانية لإثبات وجود دراسات فلسفية ذات شأن في المجال الإسلامي، وتبيان أنها لم تنل بعد حضها من الدراسة، وأما الخلاف في تسميتها وهل هي فلسفة عربية أم فلسفة إسلامية، فهذا خلاف أشبه ما يكون في نظر مدكور باللفظي ولا طائل له، لكن الذي يميل إليه هو تسميتها بفلسفة إسلامية، وذلك لاعتبار واحد -حسب قوله- هو «أن الإسلام ليس ديناً فقط، بل هو دين وحضارة، وهذه الدراسات على تعدد مصادرها، وتباين المشتغلين بها قد تأثرت ولا شك بالحضارة الإسلامية، فهي إسلامية في مشاكلها والظروف التي مهدت لها، وإسلامية أيضاً في غاياتها وأهدافها، وإسلامية أخيراً بما جمعه الإسلام في باقتها من شتى الحضارات ومختلف التعاليم».

وحين يريد مدكور أن يكون جازماً في موقفه يقول: «نعم هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول. فهي تُعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته، التي كانت مثار جدل طويل بين المتكلمين، وتحاول أن تُوفِّق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تُبيِّن للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس، وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيًّا كما تصبح الفلسفة دينية. فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها، والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية روحية».

ويرى مدكور أن مع هذا الطابع الديني، لم تهمل الفلسفة الإسلامية المشكلات الفلسفية الكبرى، فعرضت لنظرية الوجود عرضاً موسعاً، وأدلت برأيها في الزمان والمكان والمادة والحياة، وبحثت نظرية المعرفة بحثاً مستفيضاً، ففرقت بين النفس والعقل، الفطري والمكتسب، الصواب والخطأ، الظن واليقين، وفصلت القول في نظرية الفضيلة والسعادة، فقسمت الفضائل ونوعتها، وانتهت إلى فضيلة الفضائل التي هي تأمل دائم ونظر مستمر، واستوعبت أيضاً أقسام الفلسفة المألوفة من حكمة نظرية وعملية.

ولم يكن غريباً في تصور مدكور أن تمتد الفلسفة الإسلامية إلى أبواب الثقافة الإسلامية المختلفة، وتؤثر في نواحيها المتعددة، ولا يمكن في نظره أن نأخذ فكرة كاملة عن التفكير الفلسفي في الإسلام، إن قصرنا بحثنا على ما كتبه الفلاسفة وحدهم، بل لا بد أن نمده إلى بعض الدراسات العلمية، والبحوث الكلامية والصوفية، ونربطه بشيء من تاريخ التشريع وأصول الفقه.

ويضيف مدكور أن في الدراسات العلمية الإسلامية، من طب وكيمياء وفلك وهندسة، آراء فلسفية يجب الوقوف عليها وتفهمها، وربما كان بين علماء الإسلام، من هو في تفكيره الفلسفي أعظم جرأة، وأكثر تحرراً من الفلاسفة المختصين، وفي البحوث الكلامية والصوفية مذاهب ونظريات لا تقل دقةً وعمقاً عن مذاهب المشائين ونظرياتهم، وفي مبادئ التشريع وأصول الفقه تحاليل منطقية، وقواعد منهجية تحمل إشارة فلسفية واضحة، بل ربما وجدنا في ثناياها ما يقرب كل القرب من قواعد مناهج البحث الحديثة.

لهذا كله فليس ثمة شك عند مدكور في أن هناك فكراً فلسفيًّا نبت في الإسلام له رجاله ومدارسه، مشاكله ونظرياته، وله خصائصه ومميزاته، ومن أبرز هذه الخصائص في نظره ما يلي:

أولاً: إنها فلسفة دينية وروحية، تقوم على أساس من الدين، وتعول على الروح تعويلاً كبيراً، هي فلسفة دينية لأنها نشأت في قلب الإسلام، وتربَّى رجالها على تعاليمه، وأُشربوا بروحه، وعاشوا في جوِّه، وجاءت امتداداً لأبحاث دينية ودراسات كلامية.

وما من فلسفة دينية إلَّا وللروح فيها نصيب ملحوظ، والأديان تخاطب القلوب عادة قبل أن تخاطب العقول، وفي نظر فلاسفة الإسلام أن الروح مصدر الحياة والحركة والإدراك.

بهذا الطابع الديني والروحي استطاعت الفلسفة الإسلامية أن تقترب من الفلسفة المدرسية، بل وتتلاقى مع بعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة.

ثانياً: إنها فلسفة عقلية، تعتد بالعقل اعتداداً كبيراً، وتُعوِّل عليه التعويل كله في تفسير مشكلة الألوهية والكون والإنسان، فبالعقل نعلل ونبرهن، وبه نكشف الحقائق العلمية، فهو باب هام من أبواب المعرفة، وليست المعارف كلها منزلة بل منها ما يستنبطه العقل، ويستخلص من التجربة.

ثالثاً: إنها فلسفة توفيقية، توفق بين الفلاسفة بعضهم وبعض، ويعد التوفيق بين أفلاطون وأرسطو أساساً من الأسس التي قامت عليها الفلسفة الإسلامية، والأساس الثاني هو التوفيق بينها وبين الدين، حيث حاولت في جد التوفيق بين العقل والنقل، وجميع فلاسفة المسلمين دون استثناء اشتغلوا بهذا التوفيق من الكندي إلى ابن رشد، وبذلوا فيه جهوداً ملحوظة، وأدلوا بآراء لا تخلو من جدة وطرافة، وكان لمجهودهم أثر في انتشار الفلسفة، ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى.

رابعاً: إنها فلسفة وثيقة الصلة بالعلم، تغذيه ويغذيها، وتأخذ عنه ويأخذ عنها، ففي الدراسات الفلسفية علم وقضايا علمية كثيرة، وفي البحوث العلمية مبادئ ونظريات فلسفية، لهذا فإن فلاسفة المسلمين كانوا يعتبرون العلوم العقلية جزءاً من الفلسفة، وعالجوا مسائل في الطبيعة كما عالجوا مسائل في الميتافيزيقا.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك، كتاب الشفاء لابن سينا، وهو أكبر موسوعة فلسفية عربية حيث اشتمل على أربعة أقسام هي: المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات.

وفلاسفة المسلمين كانوا علماء، ومن بينهم علماء مُبرّزون، فالكندي عالم قبل أن يكون فيلسوفاً عُني بالدراسات الرياضية والطبيعية، وكان يرى أن الإنسان لا يكون فيلسوفاً قبل أن يدرس الرياضة.

هذه هي أبرز خصائص الفلسفة الإسلامية كما شرحها الدكتور مدكور في الجزء الثاني من كتابه.

ـ 5 ـ
الفلسفة الإسلامية.. البيئات والمجالات

يرى الدكتور مدكور أن هناك ثلاث بيئات في المجال الإسلامي عُنيت بالفكر الفلسفي وكانت متعاصرة، وأخذ بعضها عن بعض، مع ما ظهر بينها من مناقضة ومعارضة، ولن يكتمل البحث عن الفكر الفلسفي الإسلامي قضاياه ومشكلاته إلَّا باستعراض هذه البيئات الثلاث، وهي:

أولاً: البيئة الكلامية، وتشمل إسهام وعطاء الشيعة وأهل السنة، فللشيعة في نظر مدكور متكلموهم الذين لا يقلون أحياناً عن متكلمي أهل السنة عمقاً وقوة عارضة، وتشمل هذه البيئة أيضاً بعض الفرق الصغيرة كالخوارج والمرجئة التي لها آراء كلامية خاصة بها.

وفي تقدير مدكور أن هذه البيئة في جملتها أغنى البيئات الثلاث، وأغزرها مادة، وأشدها اتصالاً بالأحداث السياسية والاجتماعية التي حصلت في العالم الإسلامي.

ومن أوضح النصوص تأكيداً في أهمية وقيمة الدراسات الكلامية، النص الذي أشار إليه مدكور بقوله: إن «الدراسات الكلامية تمثل نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، وبقيت في صميمه إلى النهاية، وتحتها تفرَّعت الدراسات العلمية والفلسفية الخالصة، وارتبطت بها على نحو ما البحوث الفقهية، والآراء الصوفية».

ولهذا من الخطأ -في نظر مدكور- فصل الفكر الفلسفي عن الفكر الكلامي في الإسلام.

ثانياً: بيئة الفلاسفة الخلّص، وهم الذين يمثلون المدرسة المشائية العربية التي تأثرت بأرسطو ورجعت إليه، وإن اختلفت عن الأرسطية بعض الشيء.

وكما كان هناك مشائية يونانية قديمة قام على أمرها تلاميذ أرسطو الأُوَل، تلتها مشائية إسكندرانية اضطلع بها رجال مدرسة الإسكندرية من شُرَّاح أرسطو، واختلطت بالأفلاطونية الحديثة، كذلك ظهرت مشائية عربية توسعت في التوفيق بين الفلاسفة أولاً، وبين الفلسفة والدين ثانياً، وبدت معالمها واضحة على أيدي الفلاسفة المسلمين في المشرق والمغرب، وعلى غرار هذه جاءت المشائية اللاتينية التي نادى بها القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر.

ثالثاً: بيئة المتصوفة، وهي البيئة التي قُدِّر لها -كما يقول مدكور- أن تحمي الفكر الفلسفي في الوقت الذي أعرضت فيه الجماهير عنه تحت تأثير حملة عنيفة معادية، فقد عاشت الفلسفة زمناً في كنف التصوف، كما عاشت في كنف علم الكلام، ويمكن أن يلاحظ أن الفكر الفلسفي الفارسي مثلاً في القرون الستة الأخيرة عاش في حمى ابن سينا من جانب، والسهروردي ومحيي الدين بن عربي من جانب آخر، وقد مهَّد له فريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وقطب الدين الشيرازي، فطابعه الصوفي واضح كل الوضوح.

وما هو ثابت وأكيد عند مدكور أننا إذا تتبعنا المذاهب الفلسفية على اختلافها وجدنا أنه لم يخل واحد منها من نزعة صوفية، ولهذا يرى أنه لا يمكن أن يدرس تاريخ التفكير الفلسفي الإسلامي في العصور الأخيرة دراسة كاملة، بطريقة منعزلة عما كتبه المتصوفة وعلم الكلام.

ولم يقف الفكر الفلسفي الإسلامي عند هذه البيئات الثلاث، بل امتد في نظر مدكور إلى ميادين أخرى، منها ميادين أدبية وبلاغية ونحوية، فقد لوحظ من قديم تأثر الأدب العباسي شعراً ونثراً بالفكر الفلسفي، وهناك من الشعراء مثل المتنبي وأبي العلاء المعري اللذين اصطبغ شعرهما بالحكمة والفلسفة، وهناك من الأدباء كأبي حيان التوحيدي الذي امتلأت مجالسه بالحوار والجدل الفلسفي، وأسهم قدامة بن جعفر وعبد القاهر الجرجاني في وضع البلاغة العربية وأقاماها على دعائم تَمُتُّ بصلة إلى المنطق والفلسفة، وعلم النحو هو أثر رائع من آثار العقل العربي، وقد اكتسى بكساء فلسفي واضح.

ومن هذه الميادين أيضاً التي عدَّدها مدكور، ميدان علم الأصول والذي هو ضرب من مناهج البحث في التشريع الإسلامي وقد غُذِّي بغذاء فلسفي.

ومنها كذلك ميدان العلوم، فقد تفلسف المسلمون وكانت فلسفتهم وثيقة الصلة بدراساتهم العلمية المختلفة من طب وكيمياء، وفلك ورياضة، ونبات وحيوان، وكان فلاسفتهم علماء، وعلماؤهم فلاسفة، ولا حياة لفلسفة في أي عصر من العصور بمعزل عما يجري في هذا العصر من بحوث وحركات علمية، وامتدت هذه الفلسفة إلى أبواب شتى من الثقافة العربية، شأنها في ذلك شأن الفلسفات القديمة والحديثة.

ـ 6 ـ
الفلسفة الإسلامية.. وتطور الفكر الإنساني

تحددت نظرية الدكتور مدكور في دراسة الفلسفة الإسلامية، في ربط هذه الفلسفة بمراحل تطور الفكر الإنساني القديم والوسيط والحديث، وعلى أساس أنها تمثل مرحلة من مراحله الهامة والمؤثرة، وحلقة من حلقاته المتصلة والفاعلة، والنظر لها بهذا النمط، ودراستها في هذا الإطار، ومن خلال هذا المنهج.

هذه النظرية هي التي حاول مدكور التركيز عليها، ولفت الانتباه إليها، وظل يُذكِّر بها من أول الكتاب في المقدمة إلى نهايته في الخاتمة.

وكان مدكور شديد الثقة بهذه النظرية، ولم يقل إنه أول من تحدث عنها، لكنه لم يتحدث عن أحد غيره أشار إليها، وليس من طريقته إهمال أقوال الآخرين إذا وُجدت، أو التغافل عنها، لا في هذه القضية، ولا في غيرها.

وقد ظل مدكور يتحدث عن هذه النظرية في مناسبات عديدة، بوصفها تمثل نظرية له في هذا الشأن، لكن من دون أن يعطيها وصف النظرية، وفي كل مرة يتطرق إليها كان يلفت النظر إلى جانب يتصل بها، لأنه لم يخصص فصلاً أو فقرة للحديث عنها، وتركها ليتحدث عنها متفرقة في فصول الكتاب حتى تسري في كل أجزائه.

وأول ما لفت مدكور الانتباه لهذه النظرية، كان من جهة علاقتها بالمنهج الذي اختاره لدراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، حيث حاول ربط هذه النظرية بالمنهج، وذلك لبيان أن الفلسفة الإسلامية في علاقتها بمراحل التفكير الإنساني إنما هي امتداد للفكر القديم، وغذاء للفكر الفلسفي في القرون الوسطى والتاريخ الحديث، وهي العلاقة التي تزداد في نظر مدكور كل يوم ثبوتاً ووضوحاً.

والاهتمام بهذه النظرية يتأكد في تصور مدكور، من ثلاث جهات أساسية هي:

أولاً: إن الفلسفة الإسلامية ما تزال الحلقة المفقودة في تاريخ الفكر الإنساني، فحتى أربعينات القرن العشرين لم تعرف نشأتها بدقة، ولم يبين بوضوح كيفية تكوينها، ولا العوامل التي ساعدت على نهوضها، ولا الأسباب التي أدَّت إلى انحطاطها والقضاء عليها، ولم تناقش كل نظرية من نظرياتها ليتوضح ما اشتملت عليه من أفكار الأقدمين، وما جاءت به من ثروة جديدة، وأما رجالها فغرباء في أوطانهم، مجهولون لدى أقرب الناس إليهم، ولا أدل على ذلك من أن الكثيرين منا يعرفون عن روسو وسبنسر مثلاً ما لا يعرفون عن الكندي والفارابي.

ثانياً: إن الفلسفة الإسلامية تعد من أغنى الفلسفات التي عرفها التاريخ، فيها مادة غزيرة وعميقة، وفيها فكر حر طليق، أخذت وأعطت، وهي دون نزاع حلقة هامة من حلقات الفكر الإنساني، وما أجدرها أن تُدرس وتُعرف كي تبرز في مكانها اللائق.

ثالثاً: إن الفلسفة الإسلامية هي حلقة متممة لحلقات تاريخ الفكر الإنساني، وفيها أصالة، وبوسعها أن توضّح الحلقات الأخرى، وتعين على فهمها، ومن الخطأ أن تُفصل عنها، وبها تكتمل مراحل تاريخ الفكر الإنساني.

وتأكيداً لهذه النظرية وتثبيتاً لها، شرح مدكور صلة الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفكر الفلسفي الإنساني، وتحددت في ثلاث صلات أساسية هي:

أولاً: صلتها بالفلسفة اليونانية في العصر القديم، وعن هذه الصلة يقول مدكور: «نحن لا ننكر أن التفكير الفلسفي في الإسلام قد تأثر بالفلسفة اليونانية، وأن الفلاسفة المسلمين أخذوا عن أرسطو معظم آرائه، وأنهم أُعجبوا بأفلوطين كثيراً وتابعوه في نواح عدة، ولو لم يكرر الكلام لنفذ، ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه، ويقتفِ أثر من تقدموه؟ وها نحن أولاء أبناء القرن العشرين لا نزال عالة في كثير من المسائل على أبحاث الإغريق والرومان، غير أنا نخطئ كل الخطأ إن ذهبنا إلى أن هذه التلمذة كانت مجرد تقليد ومحاكاة، وأن الفلسفة الإسلامية ليست إلَّا نسخة منقولة عن أرسطو كما زعم رينان، أو عن الأفلاطونية الحديثة كما ادَّعى دوهيم، ذلك لأن الثقافة الإسلامية نفذت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت، وفي هذا الاجتماع والتفاعل ما يولد أفكاراً جديدة.

هذا إلى أن تبادل الأفكار واستعارتها لا يستلزم دائماً استرقاقاً وعبودية، فالفكرة الواحدة يتناولها بالبحث أشخاص متعددون، ولا تلبث أن تظهر على أيديهم في مظاهر مختلفة، ولفيلسوف أن يأخذ عن آخر بعض آرائه، ولن يمنعه ذلك من أن يأتي بنظريات خاصة وفلسفة مستقلة، فاسبينوزا -مثلاً- على رغم متابعته الواضحة لديكارت، يعد بحق صاحب مذهب فلسفي قائم بذاته، وابن سينا وإن كان تلميذاً مخلصاً لأرسطو قد قال بآراء لم يقل بها أستاذه، وفلاسفة الإسلام عامة عاشوا في بيئة وظروف تختلف عن الفلاسفة الآخرين، ومن الخطأ أن نُهمل أثر هذه الظروف في أفكارهم ونظرياتهم. وإذن استطاع العالم الإسلامي أن يكوّن لنفسه فلسفة تتمشى مع أصوله الدينية وأحواله الاجتماعية، وليس شيء أعون على تعرّف هذه الفلسفة، والوقوف على حقيقتها من دراستها وتوضيحها».

ثانياً: صلتها بالفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، وعن هذه الصلة يقول مدكور إن التفكير الفلسفي الإسلامي مقارناً بالتفكير المسيحي في القرون الوسطى كان «أغزر مادة، وأوسع أفقاً، وأعظم تحرراً، وأقدر على التجديد والابتكار، وإذا ساغ لنا أن نتحدث عن فلسفة مسيحية أو إسكولائية مسيحية كما يقال، فبالأولى ينبغي أن نسلّم بوجود فلسفة إسلامية أو إسكولائية إسلامية، خصوصاً وتلك مدينة لهذه في بعثها وتوجيهها، وفي كثير من مسائلها وموضوعاتها».

ويرى مدكور أن تأثير الفلسفة الإسلامية على الفلسفة المسيحية، لم يكن واضحاً في القرن التاسع عشر وضوحه اليوم في أربعينات القرن العشرين، وإذا كان رينان -حسب رأيه- قد وجَّه النظر إلى هذا التأثير في كتابه (ابن رشد والرشدية)، ذلك لأن معالم الفلسفة الإسلامية نفسها لم تكن قد اتَّضحت تماماً، ورجال القرن الثالث عشر لم يكونوا قد درسوا ذلك الدرس العميق المقارن الذي اضطلع به أمثال الأستاذ جلسون شيخ مؤرخي فلسفة القرون الوسطى المعاصرين من غير منازع، وسنَّ في ذلك سنة هَدَت إلى نواحٍ كثيرة من وجوه الشبه والتلاقي بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية، وكشف بوجه خاص عن أثر ابن سينا في الغرب، ولم يكن مُقدَّراً من قبل حق قدره، فأبان أنه ربما كان أعمق من أثر ابن رشد، وهو -على كل حال- إلى نفوس المسيحيين أنفذ وأقرب.

وما ينتهي إليه الدكتور مدكور في هذا الشأن، أن لا سبيل إلى فهم الفلسفة المسيحية فهما دقيقاً، إلَّا إذا دُرست في ضوء الفلسفة الإسلامية.

ثالثاً: صلتها بالفلسفة الأوروبية في العصر الحديث، وعن هذه الصلة يقول مدكور: جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى، ولم يفكر واحد منهم في جدٍّ أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة، لكن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس، وربما يبدو غريباً عند البعض أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام والفلاسفة المحدثين.

ويضيف مدكور أنه إذا كنا نقول بوجود صلة بين الفلسفتين الغربيتين الحديثة والمتوسطة، ونعلم من ناحية أخرى مقدار تأثر الفلسفة المسيحية المتوسطة بالفلسفة الإسلامية، أفلا يجدر بنا أن نبحث عما يمكن أن يوجد من علاقات بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة!

ولتأكيد هذه الصلة عرض مدكور بعض الصور والنماذج الكاشفة عن تأثر بعض الفلاسفة الأوروبيين بالفلاسفة المسلمين، ومنها ما حصل مع روجر بيكون الذي وصفه أرنست رينان بالأمير الحقيقي للتفكير في القرون الوسطى، فقد عُرف عنه أنه كان وثيق الصلة بالتفكير الإسلامي بشكل يسوغ ربط تجربته، بل تجربة عصر النهضة، بما كان لدى المسلمين من مراصد ومعامل للكشف والبحث.

ومن هذه الصور أيضاً، ما يتصل بالشك عند ديكارت، فيرى مدكور أن الأدلة قامت «على وجود سوابق له في القرون الوسطى المسيحية، ونعتقد أن دراساتنا تبقى ناقصة إن لم نتلمَّس هذه السوابق أيضاً في القرون الوسطى الإسلامية، ومن يُدرينا أن هذا الشك لم يتأثر في قليل أو كثير بشك الغزالي؟ وإن لم يكن ثمة تأثير أو تأثر فلا أقل من أن نحاول شيئاً من المقارنة والموازنة، وسنرى في بحثنا هذا أن الكوجيتو الديكارتي لا يمت بصلة فقط إلى القديس أغسطين، بل هناك شبه كبير بينه وبين الرجل المعلق في الفضاء الذي قال به ابن سينا».

ومن الصور كذلك، أن إسبينوزا عرف كتاب (دلالة الحائرين) لموسى بن ميمون، وعُني به عناية كبيرة، وعرفه أيضاً ليبنتز وأثنى عليه ثناء مستطاباً، ويرى مدكور أنه عن طريق هذا الكتاب نستطيع أن نُحدِّد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية، وذلك لأن موسى بن ميمون عاش في مصر 37 سنة درس الفلسفة والطب، وهو وليد الحياة العقلية الإسلامية، وتلميذ المدرسة العربية، وكتابه (دلالة الحائرين) همزة وصل حقيقية بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحي، وفيه عرض دقيق ومفصل لقسط كبير من الآراء الدينية والفلسفية الإسلامية.

وبهذه الصلات الثلاث يكون الدكتور مدكور قد حدَّد وبلور نظريته في ربط الفلسفة الإسلامية بمراحل تاريخ تطور الفكر الإنساني، ويرى في هذا الربط أنه يضع الأمور في نصابها، ويُنزل الفلسفة الإسلامية المنزلة اللائقة.

والنتائج التي خرج بها الدكتور مدكور في خاتمة المطاف، حدَّدها في ثلاث نتائج رئيسة هي:

أولاً: كيفما كانت الأفكار الأجنبية التي سرت إلى المسلمين، فإنهم استطاعوا أن يخلقوا بيئة عقلية خاصة بهم ويُكوِّنوا حياة فكرية مستقلة، ومن الخطأ أن نحاول تفسير ظواهر هذه الحياة في ضوء المؤثرات الخارجية وحدها التي يُظن أنها لم تُهضم ولم تتأقلم ولم تنسجم مع العالم الإسلامي، أو أن نستهين بشأن العوامل الداخلية التي امتزجت بها فكانت أوثق اتصالاً وأنفذ أثراً.

فالثابت أن هناك علماً وفلسفةً إسلاميين، وأنهما وإن كانا قد استمدَّا الكثير من المصادر الأجنبية، إلَّا أنهما قاما على جهود المسلمين، ودُرِسا بروح وعقلية إسلامية.

ويرى مدكور أن في وسعنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فنقرر أنه ليس ثمة بحث عقلي عرفه المسلمون إلَّا وله نقطة بدء إسلامية، بَدَأَ أولاً في ضوء تعاليم الإسلام وشبَّ تحت كنفه، وتغذَّى ما استطاع من الكتاب والسنة، ثم لم يلبث أن سعى وراء غذاء خارجي ومدد أجنبي، فنما وترعرع وتفرَّع وتشعَّب، لكنه بقي وثيق الصلة بالبيئة التي نشأ فيها، والظروف المحيطة به.

ثانياً: إن الفلسفة الإسلامية ذات طابع خاص وشخصية مستقلة، أخص خصائصها التوفيق والاختيار، تُوفِّق بين النقل والعقل، وتُؤاخي بين الدين والفلسفة، ذلك لأن فلاسفة المسلمين يرون أنه يمكن كشف الحقيقة من طرق شتى وبوسائل متعددة، فيقودنا إليها المنطق والبرهان، كما يهدينا نحوها الوحي والإلهام.

وفي الفلسفة الإسلامية أيضاً اختيار، تستعرض شتى الآراء وتختار منها ما تشاء، وتُقرِّب ما بين الشرق والغرب.

كما أن في الفلسفة الإسلامية كذلك أخذ وتأثر بما قبلها، وفيها خلق وابتكار أضافت به جديداً إلى الثروة الفكرية العامة.

ثالثاً: إن الفلسفة الإسلامية هي اضطراد واستمرار للفكر الإنساني، بل تقدم له في بعض النواحي، أخذت ما أخذت عن الفلسفات القديمة، ثم ساهمت في تنقيحها وإضافة جديد إليها، ومهَّدت لما جاء بعدها من فلسفات أخرى، فبعثت التفكير اليهودي من مرقده، ودفعت الفلسفة المسيحية دفعة قوية، وانضمت إليها في تغذية رجال النهضة والعصر الحديث، وبذا ترتبط حلقات هذه السلسلة بعضها ببعض.

وقد استطاعت الفلسفة الإسلامية أن تؤثر فيما تلاها من حلقات، أسلمت إليها التراث القديم بعد أن هذَّبته وأدخلت عليه ما أدخلت، ولم يبق اليوم شك في أن رجال القرون الوسطى من يهود ومسيحيين قد أفادوا منها، وأخذوا عنها.

إلى جانب هذه النتائج الثلاث أشار الدكتور مدكور إلى وجود خطأين في البحث عن آثار التفكير الفلسفي الإسلامي، هما:

أولاً: حاول البعض أن يقف بآثار التفكير الفلسفي الإسلامي في الشرق عند القرن السادس الهجري، ظنًّا أن حملة الغزالي قضت على كل تفكير فلسفي، وقد اتَّضح لنا مما تقدم أن هذا زعم باطل، فهناك تفكير فلسفي إسلامي امتد إلى اليوم، وإن اكتسى بألوان مختلفة، وأوضح ما يبدو في ثنايا الدراسات الكلامية والصوفية أو ممزوجاً ببعض البحوث العلمية، ولا يزال يتدارس في بعض المعاهد الشرقية، والنظريات الثلاث التي عرضنا لها كانت تبقى دراستها ناقصة لو لم نعرض لتاريخها في القرون الأخيرة.

ثانياً: حول ما يتصل بالعصور الحديثة، حاول البعض أن يضع حدًّا يفصل بين هذه العصور الحديثة وبين القرون الوسطى، وكأن فلسفة العصور الحديثة كانت نسيجاً وحدها ولم تتأثر بشيء مما قبلها، والأغرب من ذلك أن يُسلِّم البعض أن هذه الفلسفة تأثرت بالفلسفة القديمة دون أن تأخذ شيئاً من المدرسيين في العصور الوسطى، لكن الأكيد أن الفكر الحديث مدين في كثير من مبادئه للفلسفة المدرسية.

هذه إجمالاً هي رؤية الدكتور إبراهيم مدكور ومنهجه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.

ـ 7 ـ
اتجاهات النقد

اتجاهات النقد التي وقفتُ عليها تجاه رؤية الدكتور مدكور ومنهجه، تحدَّدت في ثلاثة مواقف، تنتمي بحسب ترتيبها الزمني إلى ثلاث بيئات عربية هي لبنان ومصر والمغرب، وجاءت هذه المواقف متغايرة من حيث المنطلق والباعث، وهكذا من حيث المحتوى والمضمون النقدي.

وتقصدتُ هنا استعمال تسمية (مواقف) لأنها جاءت عابرة ومقتضبة، باستثناء واحد منها، وهذه المواقف بحسب ترتيبها الزمني هي:

أولاً: نقد ماجد فخري

حين توقف الدكتور ماجد فخري أمام كتاب (في الفلسفة الإسلامية) للدكتور مدكور، وهو يتتبع أسبق المحاولات التي أرَّخت للفلسفة العربية، كانت له ملاحظة نقدية وحيدة، تحدَّدت في أن الدكتور مدكور لم ينجُ في هذا الكتاب بالذات من عقد الاستشراق كل النجاة، فأفاض في مناقشة رينان وتلامذته حول المفاضلة بين العرق السامي والعرق الآري، ومسألة وجود فلسفة إسلامية وعدم وجودها، وصلتها بفلسفة اليونان، وكل ذلك في نظر الدكتور فخري من الفروع لا من الأصول.

وعندما توقَّفتُ أمام هذه الملاحظة، وجدتُ من المستغرب حقًّا أن يخرج الدكتور فخري بمثل هذا الانطباع عن الدكتور مدكور الذي أنصف المستشرقين، وأثنى عليهم، وأشاد بفضلهم، وأكثر من ذلك أنه دعا لأن نقف إلى جانبهم، عرفاناً منه لأنه تتلمذ عليهم في فرنسا، وزاملهم في القاهرة، وبقي على تواصل معهم يزورهم متى ما وصل إلى مواطنهم، وظل يحفظ حقهم عليه.

والدكتور مدكور هو آخر ما يمكن أن يقال بحقه: إنه لم ينجُ كل النجاة من عقدة الاستشراق، فهل كل من يبدأ حديثه عن الاستشراق هو مصاب بعقدة الاستشراق، ومدكور بدأ حديثه فعلاً عن الاستشراق لكن ليس ذمًّا وقدحاً وتشكيكاً وتهجُّماً عليهم، وإنما مدحاً وثناءً واعترافاً لهم بالفضل، فهل يعد صاحب هذا الموقف مصاباً بعقدة الاستشراق؟!.

وقال عنه فخري: إنه أفاض في مناقشة رينان وتلامذته. وحين رجعت إلى الكتاب لم أجد مثل هذه الإفاضة، فقد أشار مدكور إلى رأي رينان وتحدَّث عن بطلان هذا الرأي دون توسُّع وإسهاب وبلا إفاضة.

ثانياً: نقد علي سامي النشار

أشار الدكتور علي سامي النشار إلى موقفه النقدي هذا في هامش الجزء الأول من كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، عند حديثه في نهاية الكتاب عن الكتب المنهجية في المصادر العربية التي تحدَّثت عن المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، فأشار إلى أربعة منها، أحدها كتاب الدكتور مدكور.

وفي نظر الدكتور النشار أن كتاب (في الفلسفة الإسلامية)، يُمثِّل محاولة الدكتور مدكور الأخيرة في بيان حقيقة آرائه التي سبق وأن عبَّر عن كثير منها في مطلع شبابه، وكانت تتمحور حول إثبات أصالة المدرسة المشائية الإسلامية، وأنها لون جديد من ألوان الفلسفة، وتتميز بجدة وأفكار لا نجدها لدى فلاسفة اليونان.

وفي هذا النطاق حسب رأي الدكتور النشار، جاء كتابي الدكتور مدكور الصادرين من قبلُ باللغة الفرنسية، وهما كتاب (منطق أرسطو في العالم العربي)، وكتاب (الفارابي ومنزلته في المدرسة الفلسفية الإسلامية).

الكتاب الأول يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض رائع لمنطق أرسطو في العالم العربي، وأثره في مختلف المدارس الكلامية والفقهية والعلمية والفلسفية، ومعتبراً أن كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) جاء مناقشة نقدية لهذه الفكرة.

والكتاب الثاني هو الآخر يرى فيه الدكتور النشار أنه يحتوي على عرض منهجي متناسق لفلسفة الفارابي، وأثر هذه الفلسفة فيمن تلاه من فلاسفة الإسلام، والبحث كامل من الناحية الفنية، وفيه تتبع دقيق لأصول الفلسفة الإسلامية المشائية في أصولها اليونانية، ومحاولتها التوفيق بين الأفكار المشائية والإسلام، ورأى فيها الدكتور مدكور أنها محاولة قد نجحت، وأضفت على تاريخ الفلسفة أضواء جديدة.

وهنا يصل الدكتور النشار إلى موقفه النقدي، حيث يرى أن هذه المحاولة التي تمزج بين المشائية والإسلام هي محاولة غريبة عن روح الإسلام، وعن تفكيره ومنهجه العام، لأن الفلسفة في نظره إنما تنبثق من الإسلام نفسه، عن القرآن والسنة، لا عن محاولة التوفيق والتنسيق والتلفيق، وفي تقديره أن فلاسفة الإسلام المشائين قد ابتعدوا عن الإسلام روحاً ونصًّا، وعن المجتمع الإسلامي فكراً وعقيدةً وحياةً، وأن الفلسفة المشائية قد ماتت في العالم الإسلامي منذ عهد بعيد، وبقيت العقائد الكلامية ولم تمت حتى عهدنا هذا.

ويضيف الدكتور النشار أن الدكتور مدكور كان يبحث في الفلسفة بحث العالم المؤرخ، فراعته فلسفة الفلاسفة المشائين عند اليونان وعند المسلمين، فحاول في كتبه، وفي تحقيق علمي، أن يجعلها مُعبِّرة عن أصالة إسلامية، وهذا ما أنكره تمام الإنكار، إنها فلسفة بلا شك، ولكنها ليست تعبيراً عن فكر إسلامي وحضارة إسلامية.

مع ذلك فإن الدكتور النشار لا يريد تخطئة الدكتور مدكور أكثر من هذا الحد، فقد استدرك على موقفه النقدي ليذكر أن مدكور «لم يكن على الإطلاق من مدرسة الفلسفة اليونانية التي رأت في فلسفة اليونان غاية الغايات، وأن إليها يعود كل فكر، ولم يرَ الدكتور إبراهيم مدكور على الإطلاق أن فكرنا المعاصر ينبغي أن يرتبط بفلسفة أوروبا وحضارتها، تحت تأثير الدعوة الخاطئة التي قدَّمتها مدرسة طه حسين على مسرح تفكيرنا».

وهذا الموقف النقدي للدكتور النشار قد يصدق على الجزء الأول من كتاب الدكتور مدكور، ولا يصدق بتمامه على الجزء الثاني.

ثالثاً: نقد محمد عابد الجابري

تطرق الدكتور محمد عابد الجابري إلى هذه الملاحظات النقدية في كتابين له، هما كتاب (الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية)، وكتاب (التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات)، وهما أيضاً نفس الكتابين اللذين ضمَّنهما من قبل ملاحظاته النقدية على الشيخ مصطفى عبد الرازق وكتابه (التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية).

وطريقة المناقشة اختلفت ما بين هذين الكتابين، ففي كتاب الخطاب العربي ناقش الجابري محاولة مدكور من جهة علاقتها بالخطاب الفلسفي العربي وممكنات التأصيل، وفي كتاب التراث والحداثة ناقشها من جهة علاقتها بالرؤية الاستشراقية وممكنات الاستيعاب.

وعند النظر في هاتين المناقشتين يمكن إجمال ملاحظات الجابري في النقاط التالية:

أولاً: صنف الجابري رؤية مدكور على ما أسماه الرؤية الليبرالية في مقابل رؤية الشيخ مصطفى عبد الرازق التي أسماها بالرؤية السلفية، والتي خنقت في نظره المنهج.

والرؤية الليبرالية في نظر الجابري هي رؤية غير متعصبة، فليس يهمها فقط وضع الفلسفة الإسلامية في مكانها اللائق، بل يهمها أيضاً اكتمال مراحل تاريخ الفكر الإنساني، وفي إطار هذه الرؤية الليبرالية لن نجد حرجاً في الاعتراف بأن الفلسفة الإسلامية أخذت عن الفلسفة اليونانية، المهم هو أننا قد أعطينا بعد أن أخذنا كما فعلت كل الشعوب التي كانت لها حضارة، وإذن فلقد كان لنا مكان في التاريخ، وذلك برهان على الأصالة.

واعتراض الجابري إن هذا لفائدة من؟ وعلى حساب من؟ وفي تقديره «إن وضع الفلسفة العربية في الشرق في مقابلة الفلسفة اللاتينية في الغرب، أي كجزء مُكمِّل لها، يعني توظيفها لتقوية خط الاستمرارية في تاريخ الفكر الغربي، يعني تدعيم الحلقة الأضعف في هذا الخط، حلقة القرون الوسطى، وهذا كله على حساب تاريخية الفلسفة العربية الإسلامية، على حساب أصالتها، بل على حساب تفوقها على الفلسفة اللاتينية في الغرب، التي لم تكن شيئاً مذكوراً إزاءها، حتى بالنسبة للمستشرقين أنفسهم، هكذا يأتي إثبات المعقولية التاريخية على حساب الأصالة والتاريخية معاً».

ثانياً: يرى الجابري أن القضية عند مدكور جاءت معكوسة تماماً عند تطبيق المنهج، وحسب رأيه «إن هاجس الأصالة الذي هيمن على صاحب المنهج، جعله يختار من الموضوعات تلك التي تنفرد بها الفلسفة العربية في الشرق، ولا نجدها في الفلسفة اللاتينية في الغرب، أعني نظرية السعادة أو الاتصال، ونظرية النبوة والنفس وخلودها عند ابن سينا، وواضح أن الأمر يتعلق هنا بخطاب اللاعقل في مملكة العقل. وبعبارة أخرى: إن إثبات الأصالة يأتي هنا على حساب العقلانية، وبالتالي على حساب المعقولية التاريخية، المشار إليها قبلُ باعتبارها تقوم أساساً على أنها النمو العقلاني في التاريخ».

وبهذا يكون الخطاب الليبرالي الذي عبَّر عنه مدكور في الفلسفة الإسلامية، قد انتهى في نظر الجابري إلى عكس النتيجة التي كان يريدها، انتهى ضمنيًّا إلى عكس ما كان يريده صراحة.

ثالثاً: تحفَّظ الجابري على موقف مدكور من الاستشراق والمستشرقين، الذي لم يتصف في نظره بالوعي الكامل والصحيح، وكان بعيداً عن النقد والطعن والاتهام.

ويرى الجابري أن الاستشراق في كتاب مدكور لم يكن موضوعاً في قفص الاتهام، بل بالعكس، إن التنويه بجهود رجاله كان يتعدى حدود الموضوعية والاعتراف بالجميل، ولا يتعلق الأمر بالخروج عن سبيل المستشرقين، ولا بالطموح إلى تجاوزهم، وإنما يتعلق الأمر أولاً وأخيراً بمتابعة سيرهم، سواء على صعيد تحقيق المخطوطات ونشرها، أو على صعيد التأريخ للفلسفة الإسلامية ورجالها، وإذا كان الأمر كذلك، وهذا هو موضع النظر عند الجابري فما الداعي إذاً إلى اقتراح منهج جديد ومحاولة تطبيقه!.

رابعاً: ليس ثمة شك عند الجابري في حسن نوايا مدكور إزاء الفلسفة الإسلامية، ولكن حسن النية في نظره لا يكفي لإعطاء هذه الفلسفة المكان اللائق بها في تاريخ تطور الفكر الإنساني، «بل لا بد من نقد كل المفاهيم والتصورات التي جعلت تاريخ الفلسفة الحديث يحرم الفلسفة الإسلامية من مكانها اللائق، وعلى رأس تلك المفاهيم والتصورات مفهوم الفكر الإنساني، ذلك لأن هذا المفهوم الحديث، الذي صاغه الفكر الغربي تحكمه المركزية الأوروبية، إذ المقصود في الحقيقة هو الفكر الأوروبي منظوراً إليه كفكر للإنسانية جمعاء، وبالتالي فوضع الفلسفة الإسلامية في مكانها اللائق في تاريخ الفكر الإنساني بهذا المفهوم، يعني جعلها ترمم وتكمل تاريخ الفكر الأوروبي».

وبهذا تنتهي هذه المحاولة إلى عكس المطلوب، والسبب في نظر الجابري يرجع إلى أن مدكور لم يكن قد تحرر من هيمنة الرؤية الاستشراقية، بل ربما لم يكن على وعي كافٍ بطبيعة هذه الرؤية ومكوناتها، لأنه لم ينطلق من نقد الاستشراق رؤيةً ومنهجاً، بل انطلق من ردود الفعل من الرد على بعض المطاعن، وهذا وإن كان واجباً من الناحية الوطنية والقومية، فهو لا يكفي من الناحية العلمية.

والنتيجة التي يخلص إليها الجابري يقررها بقوله: «رواد الدرس الفلسفي في الفكر العربي الحديث لم يكن قد تكوَّن لديهم وعي كامل وصحيح عن طبيعة الرؤية الاستشراقية، ولا عن مكوناتها الأيديولوجية والمنهجية، بل بالعكس من ذلك، لقد كان النموذج الذي كانوا يطمحون إلى تحقيقه، من خلال ما يقترحونه من مناهج، هو النموذج الاستشراقي ذاته، هذا النموذج الذي لم يكونوا يرون فيه إلَّا النظرة التاريخية والمنهج العلمي، وبعبارة أخرى: لقد تعاملوا مع الرؤية الاستشراقية من الخارج، ولم يهتموا بمحددات هذه الرؤية ومكوناتها الداخلية».

والملاحظ على هذا النقد من الجابري، أنه يغلب عليه الطابع الأيديولوجي الذي تجلى في تصنيف المواقف في كتابه (الخطاب العربي) إلى اتجاهات سلفية وليبرالية، وهو تصنيف أيديولوجي في الأساس، وفي كتابه (التراث والحداثة) تجلى في طبيعة الموقف من الاستشراق، وهو موقف فيه مَسّ من الأيديولوجيا، والنقد الأيديولوجي ليس نقداً متجرداً من التحيُّزات الفكرية والسياسية، وبالتالي فإنه ليس نقداً علميًّا وموضوعيًّا، وطالما أفرط الجابري في هذا النمط من النقد خصوصاً في كتابه (نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي).

ـ 8 ـ
ملاحظات ونقد

أما الملاحظات التي وجدتُها حول هذه المحاولة للدكتور مدكور، فهي تتحدَّد في الملاحظات التالية:

أولاً: لاحظت أن الجزء الأول من الكتاب كان كافياً في تحقيق الغرض من جهة بلورة المنهج وتحديده، ومن ثَمَّ العمل على تطبيقه في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، وقد برهن الدكتور مدكور على ذلك بطريقة وافية ومتماسكة.

ورأيت أن الجزء الثاني جاء توسُّعاً وتتميماً، وهو أشبه ما يكون بحاشية على الجزء الأول، وذلك رغبة من المؤلف في مزيد من التوسُّع لاستكمال حلقات النظريات الكبرى في تاريخ الفلسفة الإسلامية، ولإثبات حقيقة وأصالة هذه الفلسفة، وكيف أنها مثَّلت مرحلة مهمة في مراحل تطور تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني.

وما يؤكد هذه الملاحظة، أن الجزء الأول من الكتاب كان الأكثر عناية واهتماماً عند الكُتَّاب والباحثين الذين حاولوا التعرف على منهج الدكتور مدكور في دراسة الفلسفة الإسلامية، وبخلاف الجزء الثاني الذي لم يحضَ بدرجة كافية من الاهتمام.

ومن جانب آخر، يمكن القول: إن الجزء الأول كان أكثر تماسكاً من الجزء الثاني الذي ظهر فيه التكرار عند الحديث عن المذاهب الكلامية.

ثانياً: وجدت أن ما بين الجزأين الأول والثاني، هناك مفارقة أساسية لم يفصح عنها المؤلف بالقدر الكافي، ولم يتنبَّه إليها الكُتَّاب والباحثون الذين وقفت على كتاباتهم ومؤلفاتهم.

وهذه المفارقة تتحدَّد في أن الجزء الأول، كان يُعنى بشكل أساسي بالفلسفة المشائية العربية، والتركيز على منهج الفلاسفة المسلمين الخالص، وتحديداً الفارابي وابن سينا، وتغيَّرت هذه الروح في الجزء الثاني، حيث تحوَّل الاهتمام نحو منهج المتكلمين المسلمين، والتركيز على استظهار العلاقة بين الفلسفة وعلم الكلام.

ولعل أكثر نص يكشف عن هذا التحوُّل من الفلسفة المشائية إلى علم الكلام، هو ما أشار إليه الدكتور مدكور في مقدمة الجزء الثاني بقوله: «والفكر الفلسفي الإسلامي أفسح من أن يقف عند المدرسة المشائية العربية وحدها، فقد ظهر وعُرف في مدارس كلامية قبل أن يُعرف المشاؤون ويستقر أمرهم، وفي علم الكلام فلسفة، وفلسفة دقيقة وعميقة أحياناً».

ولهذا نجد أن معظم النصوص وأهمها التي تتصل بأهمية وقيمة علم الكلام، وعن علاقته بالفلسفة والفكر الفلسفي، إنما وردت وتكررت في الجزء الثاني من الكتاب، وفي دلالة على هذا التحول.

ولا أعلم على وجه التحديد، لكن قد يكون هذا التحوُّل له علاقة بالنقد الذي وجَّهه الدكتور علي سامي النشار واتَّصل بهذه الملاحظة تحديداً، وخصَّ بها الجزء الأول من الكتاب.

ثالثاً: عند تطبيق المنهج، تحدَّث الدكتور مدكور عن خمس نظريات كبرى تنتمي إلى الفلسفة الإسلامية، ثلاث منها تحدَّث عنها في الجزء الأول، وهي نظريات السعادة أو الاتصال، والنبوة، والنفس وخلودها، واثنتان تحدث عنهما في الجزء الثاني، وهما نظريتا الألوهية، وحرية الإرادة.

أمام هذه النظريات الخمس، يمكن النقاش حول تراتبها من حيث الأهمية، فالملاحظ أن مدكور تحدث عن هذه النظريات دون أن يشرح رؤيته في تراتبها ومنزلتها في الفلسفة الإسلامية، وكأنه لم يلتفت إلى هذه الملاحظة، التي لم يُشر إليها لا من قريب ولا من بعيد.

في حين أن من يتوقف أمام هذه النظريات، يلتفت إلى ضرورة الكشف عن التراتب بينها، وذلك لتفاوتها الواضح من حيث الأهمية والاعتبار في الفلسفة الإسلامية، والقدر الذي من الصعب الاختلاف عليه هو أن نظرية الألوهية تأتي في مقدمة تراتب هذه النظريات من حيث الأهمية، ومن ثم تأتي بعدها نظرية النبوة.

ونستطيع أن نُؤكِّد تقدم نظرية الألوهية بما أشار إليه الدكتور مدكور نفسه، عند حديثه عن خصائص الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبر أن «الفلسفة الإسلامية دينية في موضوعاتها، تبدأ بالواحد، وتحلل فكرة الألوهية تحليلاً شاملاً دقيقاً لم تسبق إليه.. وعن الواحد صدر كل شيء، فهو المبدع والخالق».

رابعاً: في زمن صدور كتاب الدكتور مدكور، لم تكن النصوص والمخطوطات والكتابات العربية للفلاسفة المسلمين قد عُرفت ونُشرت وحُقِّقت، وكان مدكور ملتفتاً إلى هذه الملاحظة وسيِّد العارفين بها، الأمر الذي اقتضى منه العودة إلى كتابات ومؤلفات المستشرقين الأوروبيين في هذا الشأن، واستعان كثيراً بهذه الكتابات والمؤلفات، التي كان على دراية جيدة بها.

وكانت آراء هؤلاء المستشرقين ومقالاتهم حاضرة في أغلب موضوعات الكتاب وبالذات في الجزء الأول منه، وذلك باعتبار أن هؤلاء المستشرقين هم الذين تعرَّفوا إلى النصوص الفلسفية الإسلامية وحقَّقوها ونشروها بلغاتهم، واعتنوا بها شرحاً وتعليقاً وضبطاً وتدقيقاً.

وهذا ما يفسر الموقف الإيجابي للدكتور مدكور من هؤلاء المستشرقين والثناء عليهم، والاعتراف لهم بالفضل، والدعوة إلى اتِّباع سيرتهم في الصبر والنشاط، وفي الضبط والتدقيق.

مع ذلك فإن مدكور ما كان يريد أن يبقى هذا الحال ويستمر كما هو عليه، ومن هنا جاءت دعوته وتأكيده ضرورة العناية بإحياء التراث الإسلامي والفلسفي خاصة، على أن ينهض بهذه المهمة المسلمون أنفسهم، حتى لا يبقى ويستمر الاعتماد على كتابات ومؤلفات المستشرقين.

وحين تحدَّث مدكور عن الواقع الذي كان عليه وقت صدور كتابه، وتغيُّر هذا الواقع فيما بعد يقول» «لا شك في أن الكشف عن المخطوطات هو الخطوة الأولى في سبيل إحياء التراث الإسلامي، وقد اتَّجه إليه المستشرقون منذ أخريات القرن الماضي، وسرنا على نهجهم في القرن الحالي، وكشفوا وكشفنا معهم عن ذخائر لها وزنها، فلدينا الآن ثروة يعتد بها من مؤلفات كبار فلاسفة الإسلام.

وقد كنا بالأمس لا نكاد نعثر على مؤلف واحد بالعربية لبعضهم، وتغيَّرت أحكامنا عليهم أحياناً في ضوء هذا الكشف المتلاحق، فأخرج منذ عشرين عاماً 25 رسالة من رسائل الكندي، التي وقفنا على كثير من آرائه الميتافيزيقية والسيكولوجية، وعلى شيء من نظرياته الجغرافية والفلكية.

وتوالى في العشرين سنة الأخيرة، نشر بعض مؤلفات الفارابي في الفلسفة والمنطق والسياسة والموسيقى، الواحد تلو الآخر، ونخصّ بالذكر منها كتاب الحروف، وهو أكبر مؤلفات الفارابي الفلسفية التي وصلت إلينا. واكتملت مراجعنا عن ابن سينا بإخراج موسوعته الفلسفية الكبرى بأقسامها الأربعة، ونعني بها كتاب الشفاء الذي قضينا في تحقيقه ونشره نحو ربع قرن أو يزيد، ولم يكن حظ فلاسفة المغرب بأقل من حظ فلاسفة المشرق، فقد أخرج في الخمسين سنة الأخيرة قدر غير قليل من مؤلفات ابن باجة وابن رشد».

ويرى الدكتور حامد طاهر أن مدكوراً كان «وراء نشر العديد من نصوص الفلسفة الإسلامية القديمة، ومن هنا ظل منهجه معتمداً عليها، واستمرت أحكامه نابعة منها».

وفي هامش الكتاب أشار الدكتور طاهر إلى بعض الأعمال التي وقف وراءها مدكور، منها موسوعة المغني للقاضي عبد الجبار، وموسوعة الشفاء لابن سينا، بالإضافة إلى الإشراف على الكتب التذكارية العديدة عن الفارابي وابن سينا وابن عربي، وكذلك المعاجم الفلسفية الخاصة بالشخصيات والمصطلحات.

خامساً: بخلاف الكثيرين كان مدكور يبدأ حديثه من الفارابي وليس من الكندي، وظل يقدمه ويفاضله عليه، وبقي يلفت النظر لفلسفته وآرائه، كاشفاً عن تأثيره في الآخرين الذين أخذوا عنه، وتابعوه في فلسفته وآرائه.

وفي المقابل أهمل مدكور الكندي، ولم يُعطه أهميةً واعتباراً، ونادراً ما رجع إليه ولآرائه، ومقدار ما رجع إليه في الجزء الثاني من كتابه، يفوق مقدار ما رجع إليه في الجزء الأول.

وحسب رأي مدكور فإن الفارابي هو «أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل، ووضع أصولها ومبادئها، نحن لا ننكر أن الكندي تنبَّه قبله إلى دراسة أفلاطون وأرسطو وعرض لبعض نظرياتهما بالشرح والاختصار، ولكنَّا لا نجد لديه مذهباً فلسفيًّا كاملاً بكل معاني الكلمة، بل هي نظرات متفرقة، ومتعلقة بموضوعات مختلفة لا رابطة بينها. أما الفارابي فقد لَمَّ هذا الشعث، وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات».

وتوقف مدكور مرة أخرى أمام هذا الرأي، ليقول: إنه ما زال على رأيه. ولِيُقَدِّمَ تنبيهاً للدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة الذي خالفه الرأي، فبعد أن جدَّد مدكور موقفه في اعتبار أن الفارابي هو الواضع الحقيقي لدعائم الفلسفة الإسلامية، عقَّب على ذلك في هامش الكتاب بقوله: «واضح أنَّا لسنا هنا بصدد الموازنة بين الفارابي والكندي، أيهما المؤسس الأول للمدرسة الفلسفية الإسلامية، على أنَّا قد رأينا من قبل في هذا رأياً لا نظن أنه جدَّ ما يُغيِّره، وما أجدر صديقنا الدكتور أبو ريدة الذي بدت عليه معارضتنا في بحث أخير -مجلة الأزهر مجلد 18- أن يعود إليه ليتبيَّن أنَّا لم نُنكر على الكندي فلسفته، ولكنَّا شئنا فقط أن نبرز صورتها البادئة، وطابعها الرياضي، الأمر الذي يميِّزها من فلسفة الفارابي».

سادساً: ليس فقط الكندي الذي قلَّل مدكور من مكانته في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وإنما هناك أيضاً ابن رشد، الذي ظهر في كتابه بصورة باهتة جدًّا، وذلك بخلاف الصورة اللامعة والمتفوِّقة التي ظهر عليها في كتابات أخرى، خصوصاً في الكتابات العربية الحديثة التي حاولت إعادة اكتشاف ابن رشد من جديد.

وللكشف عن هذه الصورة الباهتة، يمكن الإشارة إلى موقفين تطرق إليهما مدكور، وهما:

الموقف الأول: عند الحديث عن نظرية السعادة، وتتبع امتدادات هذه النظرية في المدارس الفلسفية الأخرى، وبعد الوصول إلى مدرسة الأندلس تطرق مدكور إلى آراء ابن باجة وابن طفيل، ووصل إلى ابن رشد، وفي تقييمه لرأي ابن رشد، يرى مدكور أن ابن رشد «اعتنق -كزملائه فلاسفة الأندلس الآخرين- نظرية السعادة الفارابية. ومن الغريب أنه لم يدخر وسعاً في نقد الفارابي وابن سينا وتجريحهما، ولا سيما إذا أحس منهما انحرافاً عن سنة أرسطو، ومع ذلك لم ينجُ من أثرهما، ولم يستطع أن يُكوِّن لنفسه مذهباً مستقلاً ينفصل عن مذهبهما، وهو أشد ما يكون تأثراً بهما في المسائل التصوفية».

الموقف الثاني: عند الحديث عن نظرية النفس وخلودها، وجد مدكور أن لا حاجة لأن يُعرِّج -حسب قوله- على مدرسة الأندلس، فآثارها في الشرق غير واضحة، وربما كانت آراؤها السيكولوجية في الغرب أظهر، على أن حديث ابن رشد عن وجود النفس -كحديثه عن خلودها- ضعيف متهافت، وليس فيه ما يدعو لأن نقف عنده.

سابعاً: في الجزء الثاني من الكتاب، تطرَّق الدكتور مدكور إلى المذاهب الكلامية عند المسلمين، وتحدث عن المسلمين الشيعة ووصفهم في ثلاثة مواقع بالرافضة، وهذا الوصف لا يحبذه المسلمون الشيعة، ويعتبرونه مسيئاً لهم، ويضعونه في خانة التنابز بالألقاب الذي نهى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.

وفي نظر المسلمين الشيعة أن هذا الوصف، متى ما ورد فإنه يسلب عن صاحبه النظر العلمي والموضوعي المُتجرِّد من التحيُّزات المذهبية والتاريخية، لأنه ليس من العلمية والموضوعية استعمال هذا الوصف التنابزي والتهكمي.

والدكتور مدكور على جلال قدره، ورفعة مكانته، وسمو تسامحه، ما كان بحاجة إلى استعمال هذا الوصف، ولا يليق به على الإطلاق، وهو أكبر من ذلك، وما كان بحاجة أيضاً لأن يضع نفسه في مثل هذا الموقف، ولا أن يأتي أحد ليلفت النظر إليه، وكان بإمكانه أن يتفطن لهذا الأمر بنفسه، وهو كيِّس فطن.

واللافت في الأمر، أن هذا الوصف قد غاب كليًّا عن الجزء الأول، وما ورد وتكرر إلَّا في الجزء الثاني، وكأنه غاب عن الجزء الأول الذي غلبت عليه روح الفلسفة، وظهر في الجزء الثاني الذي غلبت عليه روح علم الكلام، وهو العلم الذي شهدت في ساحته نزاعات المسلمين وخصوماتهم وسجالاتهم الفكرية والتاريخية.

ولعل منشأ الوقوع في هذا الالتباس، أن الدكتور مدكور رجع إلى كتب الخصوم عند حديثه عن مذهب المسلمين الشيعة، وأشار إلى ذلك بنفسه حين قال عن كتاب الأشعري (مقالات الإسلاميين) إنه مصدره الوحيد.

هذه بعض الملاحظات التي لا تُقلِّل بالتأكيد من أهمية كتاب الدكتور مدكور وقيمته.