شعار الموقع

القرآن الكريم والقراءات المعاصرة مع الدكتور الشيخ طه جابر العلواني

حوار خاص بالمجلة 2012-10-03
عدد القراءات « 1406 »

حقل الدراسات القرآنية.. وأطوار تطور الرؤية

* تشتغلون في هذه الفترة بحقل الدراسات القرآنيّة، وصدرت لكم في هذا الشأن بعض الكتابات والدراسات، فما هي الرؤية الكليّة الناظمة لكم في هذا النمط من الاشتغال؟ وهل هناك من أفق جديد لكم في هذا المجال؟

إن اشتغالي في حقل الدراسات القرآنيّة كان جزءاً من همومي ونشاطي الدراسي والمدرسي منذ نعومة أظفاري، وأستطيع القول على وجه التحديد- إنّ هذا الإحساس قد بدأ عندي منذ سن الثانية عشرة من عمري، فمنذ ذلك الوقت وذهني وعقلي وقلبي متعلق بالدراسات الإسلاميّة، فمنذ أن تخرجت في المدرسة الابتدائيّة بعد تعلُّم القرآن في الكُتَّاب (أو الملا) كما يسمّيه العراقيّون- انصرفت إلى ما يعرف بالدراسات الدينيّة أو الإسلاميّة. ومنذ ذلك الوقت وأنا في هذا النوع من الدراسات ومعها، طالبًا أولًا ثم مدرسًا ثانيًا ثم كاتبًا وباحثًا وأستاذًا وموجهًا ثالثًا. ولم تنقطع صلتي بها منذ ذلك الوقت حتى اليوم، ولم تفتر ولم تتراخَ، بل أجدني كلما أوغلت فيها ازددت رغبة في الغوص في أعماقها، فقد رأيت أنَّها الدراسات التي عبّر العقل المسلم بها عن فهمه للنصّ القرآنيّ واستيعابه للسنَّة وتفاصيل الحياة النبويّة، التي تعتبر كلّها بمثابة شرح وبيان للكتاب وتعليم له، وتطبيق لما جاء فيه، وتزكية للناس به نفوسًا وعقولًا وقلوبًا، وتحويله إلى سلوك ونظام حياة وهادٍ وقائد في مسيرة الاستخلاف والابتلاء، والقيام بحق الأمانة والوفاء بعهد الله عز وجل-. فالعقل المسلم حاول أن يقول: هذا ما حصلت عليه من معارف نتيجة تفاعلي مع الخطاب القرآنيّ واتباع متلقّيه وتأويله له عمليًّا وواقعيًّا وحامله عليه الصلاة والسلام.

وإذا كان المتقدمون قد قسَّموا المعارف التي سُميّت فيما بعد بالدينيّة والنقليّة والإسلاميّة، فإنَّهم قصدوا بذلك أنَّ تلك هي حصيلتهم المعرفيّة التي تكوَّنت بذلك التفاعل، وهي التي يُمكن للأجيال اللاحقة من المسلمين أن تعرف هذا الخطاب القرآنيّ وتأويل حامله (صلى الله عليه وآله وسلم) له في الواقع.

وقد كتبت في كتابي «التعليم الدينيّ» الذي طبعته ونشرته دار السلام في القاهرة، قصة علاقتي بهذه العلوم وسيرورتي معها في جميع مراحل التكوين ثم مراحل العطاء.

وقد أشرت في ثناياه إلى أنّي كنت ذا استعداد مبكر لتكوين ملكة نقديّة قادرة على النقد والمراجعة لكل ما أقرأ وكل ما أتعلَّم. وأنّ هذه الحاسّة النقديّة بدأت صغيرة ثم نمت وكبرت معي إلى أن أصبحت لا تفارقني في أيّ نوع من أنواع القراءة لهذه المعارف. وحين بلغت مرحلة الدكتوراه وبدأت في إعداد رسالتي عن الإمام «فخر الدين الرازي وآرائه الأصوليّة وتحقيق كتابه المحصول»؛ وجدت نوعًا من التوافق بيني وبين الإمام الرازيّ الذي قضيت معه ست سنوات دارسًا لتراثه المتنوّع مع تركيز خاصّ على كتابه المحصول، وتعلّمت من «أصول الفقه» وطرائق الأصوليّين في عرض مسائله وقضاياه «والحوار» الذي قد يبلغ مستوى «الجدل» وقد يقصر عن ذلك المستوى ولكنَّه حوار لا ينقطع، «فأصول الفقه» كما هو معلوم يقدّم ما يقدّم، ولكن لا يعلن التسليم بما قدَّمه إلَّا بعد حوار ثم جدل طويل حوله.

فما من تعريف أو مصطلح أو مفهوم يقرّر إلَّا بعد أن يناقش ويحلّل ويؤخذ منه ويترك ثم يستقر عليه من يستقر دون الوصول به إلى أعلى ممّا يقال: «إنَّه قائم على غلبة الظن». فيقال: غلب على ظنّنا كذا... وبعد تخرجي وعملي أستاذًا لأصول الفقه وللفقه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة في الرياض لمدة إحدى عشرة سنة، وصادفتني الصعوبات البالغة في إفهام طلّابي كثيرًا من القضايا الأصوليّة والوقت الثمين الذي كنت أنفقه في الشرح والإعادة والتحليل بل التحليل والتفكيك والتركيب أحيانًا لتيسير الأمر عليهم ومساعدتهم على الفهم والاستيعاب، ذلك كله كان يلفت نظري إلى ما في علومنا الإسلاميّة من مشكلات كثيرة. فلاحظت أولًا ما وجدته لدى الأصوليّين -سواء أكانوا من أصولييّ الأحناف أو المتكلّمين، وكذلك بعض الأصوليّين الذين ينتمون إلى الاتجاه الحنبليّ مثل ابن تيمية وغيره، أنّ الاستدلال بالقرآن الكريم على القواعد الأصوليّة كان استدلالًا محدودًا، بل اكتشفت أكثر من ذلك أنّ الأصوليين أحيانًا يقرّرون قواعدهم وبعد أن يفعلوا يأتون بالآية والحديث الضعيف غالبًا لإسناد ما توصلوا إليه بالأدلة العقليّة والمنطقيّة وما إليها بالنصّ، فبدلًا من أن ينطلقوا في تقرير قواعدهم، وينطلق الفقهاء معهم في استنباط الأحكام، من الكتاب الكريم ثم يبحثون عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتّباع القرآن وتأويله، وجدتهم يعمدون إلى تقرير القواعد وبناء هياكل الأبواب على جميع مصادر الأصول التي اتخذوها أصولًا، ثم يأتون بعد ذلك بالآية والحديث وكأنَّها معضّدة لما توصلوا إليه بطرق أخرى. فلا يبدو ما كانوا يعلِّمونه للناس: أنّ القرآن المجيد هو المصدر المنشيء والكاشف عن الأحكام، والسنّة النبويّة هي المصدر المبين والمؤول والشارح والمعلم للكتاب والحكمة والمزكّي للناس.

فذلك كله لم يكن من الممكن الالتفات إليه أو الانتباه له بالشكل الذي تعلّمناه لولا ما منّ الله تعالى- به من حسّ نقديّ. وقد بقيت هذه الملاحظة تؤرقني جدًّا.

وحينما آتي إلى «القياس» وهو في نظري- من أهم الأبواب الأصوليّة إن لم يكن أهمها، أجد أنَّهم يستدلون على المشروعيّة بقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار﴾ِ (الحشر:2) وهي فاصلة الآية الثانية من سورة الحشر، حين نقرؤها في سياقها لا نجد أيّه علاقة يمكن أن تقوم بينها وبين القياس الأصوليّ، وما هكذا يكون الاستدلال بالقرآن المجيد!! وظاهر أنّ هذا الاستدلال فيه ليٌّ لعنق النص وابتعاد عن السياق لا أراه لائقًا بمستدل.

وإذا جئنا إلى «الإجماع» وجدنا أهم ما يستدلون له من القرآن المجيد هو قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ (النساء:115) وهذه أيضًا آية لووا عنقها وأخرجوها عن سياقها لكي تدل على حجيّة الإجماع. بل إنَّهم يروون عن الإمام الشافعي رواية يزعمون فيها: أنّ أحدًا قد ناقشه أو جادله في حجيّة الإجماع؛ فانصرف مهمومًا وقرأ القرآن كلّه في ثلاث أيام ليخرج بهذه الآية دليلًا على هذه الحجيًة، وهذا أمر مستغرب تمامًا.

وحين نأتي إلى السنن نجد أنّ معظم الأحاديث في الاستدلال بها في كتب الأصول الموسّعة والمتوسطة والمختصرة هي أحاديث يغلب عليها أنَّها ضعيفة. وقليلة جدًّا الأحاديث الصحيحة سندًا ومتنًا. وكذلك الأحاديث التي تصمد منها لكل أنواع النقد في المتن والإسناد قليلة نسبيًّا مما جعلني أتساءل إذن: ما صلة هذه العلوم بالخطاب القرآني وتأويله وبيانه النبويّ؟!

وبدأت أضع علامات استفهام على كثير من تلك المسائل، خاصة ما اتفق على ترديده وتدعيمه علماء القرآن والمفسّرون والأصوليّون كذلك في مثل قضايا «الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والقراءات الشاذة» والاستدلال بها وما إلى ذلك. وكانت صدمة لي أن أكتشف في مرحلة من المراحل أنَّ اللغة العربيّة نفسها قد جرى نوع من التطويع القسريّ لها؛ لكي تستجيب لاتجاهات الفقهاء ومناهجهم بقطع النظر عن الدوافع التي كانت وراء تلك الاتجاهات والتوجُّهات.

وهناك الكثير من الأساليب والاستعمالات اللغويّة التي لا تنسجم مع لسان القرآن وسياقاته نراها شائعة لديهم. فكنت أراجع ذلك وأجد فيما ذكره الفخر الرازي عن بعض النحاة واللغويّين وتجرؤ بعضهم على التخلّي عن لسان القرآن والأخذ بلغة البدو وألسنتهم وجعلها الأصل وجعل لسان القرآن فرعًا كثيرًا من الحق، ورأيت الفخر كيف يوجه اللَّوم محقًّا- إليهم وهو يعلق على قولهم: ورد في القرآن شذوذًا، كما زعم بعضهم في: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ (الحجر:2).

وأدركت مبكرًا أنَّ القرآن ذو اللسان المتحدي المعجز، وأنَّه كان على الّلغويّين أن يبنوا علومهم في الصرف والنحو والبلاغة والاشتقاق والبيان والبديع والقياس والشذوذ على لسان القرآن، ويستنبطوا قواعدهم التي وضعوها بقطع النظر عمن وضعها منه. وكان على من رووا: «أنّ في القرآن لحنًا سوف تقيمه العرب بألسنتها» أن يخافوا الله ويتقوه ويحجموا عن تناقل هذه الأقوال الكاذبة أو الأخذ بهذه الروايات التافهة فلا يتناقلونها بذلك الشكل. أو يشيعونها؛ فالقرآن أجل وأعظم من أن يكون فيه لحنٌ واختلافٌ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. وإذا لم يجرؤ عرب الجاهليّة أن يقولوا ذلك فيه فكيف يجرؤ أحد أن يقول فيه ذلك وهو يُدعى إلى الإسلام؟!

ذلك كله جعلني اقتنع قناعة تامَّة بأنّ هناك أمورًا قد حدثت قبل التدوين وأثناءه وبعده، وأنّها قد مزجت تراثنا بشكل تتحتم معه المراجعة. وأنّ حفظ الله للقرآن الكريم وحمايته له وعصمته حالت دون التزييف والتحريف في ألفاظه فلجأ من لجأ إلى التزييف في التفسير والمعاني والدلالات وما شاكل ذلك. لكن الله تبارك وتعالى- بعصمته لهذا القرآن، حفظه من بين يديه ومن خلفه فلا يمكن لهذا القرآن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت:42)، ولو على مستوى دس لفظ بين الألفاظ التي أنزلها الله تبارك وتعالى- كما يستحيل أن يأتيه الباطل من خلفه أي من معانيه ودلالاته دون أن يكتشف ويرصد، ويطلع على ذلك بعض من يوفقهم الله جل شأنه- لخدمة هذا الكتاب وحراسته، ويستخدمهم تبارك وتعالى- في تشكيل وبناء سور حماية لهذا الكتاب الكريم.

هذه الرؤية الكليّة التي نظرت من خلالها إلى بعض العيوب التي أصابت تراثنا النقليّ مما سمي «بعلوم مقاصد» كالتفسير والفقه والحديث و«علوم وسائل» مثل اللُّغات بنحوها وصرفها وبلاغتها وفقه اللغة والاشتقاق وما شابه ذلك إضافة إلى المنطق وغيره. ولذلك فإنِّي أيقنت بأنّ هذه الأمور إذا كانت من فروض الكفايات، فإنَّ الأمّة لا بد أن تنقد تراثها وتقوم بمراجعة ورصد ما أصابه، وإنَّ ذلك يتعين على من يكتشف شيئًا من ذلك. فما يكون فرض كفاية على من يجهل أنَّ التراث قد أصيب إصابات خطيرة في بعض جوانبه عبر القرون. فإنّ من يكتشف هذه الإصابات عبر دراساته يتعيَّن عليه أن يكشف ذلك للآخرين. من هنا فقد صرفت همتي منذ ما يزيد عن ثمانية عشر عامًا للقيام بمراجعات في مختلف أنواع التراث. أعتمد في هذا المراجعات على كتاب الله وما صح من تأويلات وبيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ أعرض عليهما أيّ أمر تراثيّ أطلع عليه ويحيك في صدري غيره فأراجعه وأبيّن ما فيه بتوفيق الله تبارك وتعالى-. والأفق الذي أتطلّع إليه أن تتكوّن مدرسة من متخصصين في هذه المعارف من مختلف الطوائف المذهبيّة الإسلاميّة ممن يستطيعون القيام بمراجعات لمثل هذا التراث يرصدون بها مدد وفترات الاتصال والانفصال بين التراث وبين الكتاب الكريم وتأويله في السنة النبويّة أقوالًا وسنة وأفعالًا؛ ليستبينوا تلك الإصابات التي لحقت هذا التراث نتيجة ذلك الفصام بينه وبين مصادر تكوينه التي ما كان ينبغي أن ينفصل عنها أو يبتعد قيد أنملة عن أصولها وقواعدها.

ولذلك فقد كان الأفق الجديد الذي أتطلّع إليه أن أرى مدرسة نقديّة قد نشأت وحددت لنفسها وللباحثين منهجًا كاملًا قرآنيًّا نبويًّا لهذه المراجعات وعمليّات النقد من داخل التراث نفسه ومن منطلق الالتزام بوحدة الأمّة وضرورة قيامها بتنقية التراث من الإصابات التي لحقته، وإعادة الارتباط بينه وبين مصدري التكوين المنشئ والكاشف ثم المؤول والمبيّن وليس ذلك على الله ببعيد. وإذا لم يحدث ذلك فإنّني أخشى أن تعد أمّتنا اليوم- بكل فرقها ومذاهبها وطوائفها في أولئك الذين يصدّون عن سبيل الله ويبعدون الناس عن اكتشاف حقائق هذا الدين والإيمان به، والاهتداء بهداه!! ويكونون حجابًا بين حقائق هذا الدين والعقول والقلوب العطشى التي تبحث عن سبيل كونيٍّ للهداية شاء سبحانه أن يجعله موجودًا عندنا وبين أيدينا ميسّرًا لنا بلساننا، إلّا أن تراثنا وقصورنا وعجزنا يقف حائلًا بين البشريّة والوصول إلى حقائق هذا القرآن. لكنّ الله تعالى- ما خلق السماوات والأرض إلَّا بالحق، وهذا الكتاب الكريم قال فيه: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء:105) فلابد له من إزهاق الباطل ودحضه ولو بعد حين.

إنّنا وأقولها آسفًا- لم نكتشف القرآن بعد لتخلّفنا عنه وعن الحق الذي يحمله؛ لأنّنا حملناه حملًا حماريًّا، والحمار إذا حمل الأسفار فهي حملٌ من الأحمال لا تختلف عن أيّ حملٍ آخر، وكل إحساس الحمار مشغول بثقل الحمل أو خفته. لقد حمل أهل التوراة من قبلنا التوراة كمثل الحمار يحمل أسفارًا، وها نحن على دربهم سائرون نحمل القرآن كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

إنّني في بعض الأحيان أشبه القرآن المجيد -ولله ولكتابه المثل الأعلى- «بالبترول» الذي كان تحت أقدام أجيالنا الماضية كلها- فلم تكتشفه لتخلُّفها، وحين أطلق أسلافنا على مناطقنا البتروليّة «أرض القطران» لم تكن أمّتنا تعرف عنه إلَّا أن تهنأ به الإبل الجرباء. ولما اكتشفه الغرب أقام كل منجزاته الحضاريّة عليه!! إنّنا لم نكتشف القرآن ولا عطاءه المتجدّد ولا قدراته الهائلة على بناء الأمم وإنشاء العقيدة والشريعة والتأليف بين القلوب، ولا طاقاته في الاستيعاب والتجاوز والتصديق والهيمنة. لقد نزل ليكون كتابًا لحياتنا فجعلناه لمماتنا؛ إنّه كتاب استخلاف جاء لتعليمنا، كيف يكون الوفاء بالعهد والقيام بمهام الاستخلاف والنجاح في حمل الأمانة واختبار الابتلاء، والعودة إلى الجنّة التي أخرجنا عدو الله وعدونا منها. لقد جعلناه كتابًا لأمواتنا وتعازينا ومقابرنا. إنّني أتوقع أن يكتشف الباحثون الصادقون الجادون من غيرنا من الأمم هذا القرآن بالحق الذي نزل به وضمه بين دفتيه، وقد يكتشفونه بدون مساعدة منّا فنخسر شرفًا وذكرًا لا يُدانيه أيّ شرف ولا يقاربه أيّ ذكر!! ويومئذٍ لا أدري ما نقول لمنزِّل القرآن الذي هجرنا كتابه وجعلنا من جهلنا وتخلفنا وتمزقنا فتنة للناس عنه، وحجابًا يحول بين الناس وبينه ويصرفهم عن الاستنارة بالنور الذي يحمله. والله أعلم.

القرآن وموجة القراءات الحداثية.. رؤية وتحليل

* في تسعينات القرن العشرين ظهرت موجة فكريّة في المجال العربي اتخذت من النص القرآني محوراً وعرفت هذه الموجة الفكريّة بالقراءآت الحديثة للقرآن الكريم، وفي هذا النطاق جاء كتاب أدونيس (النص القرآني وآفاق الكتابة)، وكتاب الطيب تيزيني (النص القرآني أمام إشكاليّة البنية والقراءة)، وكتاب محمد أركون (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينيّ)، إلى كتاب نصر حامد أبو زيد وكتب محمد شحرور وآخرين. كيف تفسرون هذه الموجة الحداثيّة التي ما زالت قائمة؟ وما هو تقييمكم لها؟

إنّ تفسيري لهذه الموجة التي سميتموها «بالموجة الحداثيّة» وذكرتم أنَّها ما زالت قائمة وطلبتم منّي تقييمًا لها، اسمحوا لي أولًا أن أرجع قليلًا إلى بعض الأمور التي تُشكِّل عندي خلفيّة لظهور هذه الموجة التي لا أعتبرها حداثيّة، بل هي امتداد لمحاولات قديمة لم تأخذ حظها من العناية لربطها بهذا الحاضر. وقد قلت ذلك لأركون في لقاء لي معه في واشنطن، جرى قبل سنوات، وذكرت له شيئًا عن جهود سيبويه وابن جنّي والجرجانيّ فدهش الرجل وقال: «إنّه لم يكن يدري أنَّ التراث فيه شيء مما عرضته عليه، وأنّه سيقرأ ما ذكرته له إذا ساعدته الظروف، وعرضت عليه تفرغًا مفتوحًا عندنا في واشنطن لمساعدته في هذه الدراسات بإشرافي الشخصيّ؛ فوعد بدراسة الأمر ولم يرجع إليّ بعدها!!

منذ أن بدأت تتطور دراسات ما عُرف في الغرب «بالكتب المقدسة» بعد ظهور عصر التنوير، اعتمدت تلك الدراسات في الغرب على تفكيك نصوص العهدين القديم والجديد، أي التوراة والإنجيل بعد نزع القداسة عن كل منهما واعتبارهما نصوصًا لا تختلف عن أيّة نصوص أخرى يمكن أن تَخْضَع وتُخْضَع لعمليات نقد النصوص وتحليلها وتفكيكها للوصول إلى كنهها وحقيقتها، مستعينةً بما بدأ يتطور من الدراسات في مجال «الألسنيّات» فيعطي لهذه التيارات ويأخذ حتى تبلورت «الهرمونتيك» (Hormonotech) وبدأت تلاحظ قواعدها وقوانينها في بنية العهدين القديم والجديد، وأعطيت «الهرمونتيك» وما دار حولها وانبثق عنها من دراسات ألسنيّة مهام واسعة في التعامل مع النصوص الدينيّة؛ لتصدر أحكامًا على بعض تلك النصوص سرعان ما تتحوَّل إلى ما يشبه المسلّمات بين ذوي الاختصاص؛ لكثرة تداولهم لها وعملهم على إنضاج ما يمكن إنضاجه من تلك الأفكار والأطروحات المتعلقة بالعهدين، وهي جهود مكثفة متنوعة أخذت مناهجها اتجاهات عديدة لكنّها كلها كانت تلتقي عند فكرة «نزع القداسة» عما يسمى «بالنصّ الديني» وجعله ميدانًا لجولات وصولات العقل النقديّ ليتحكم فيه ويحكم على نصوصه بما توصله تلك القواعد التي ابتكرها الإنسان في إطار الجهود اللسانيّة والّلغويّة التي تفترض بالنصوص المقدّسة أنّها نصوص مات مؤلفوها!!

لقد كان الهدف الغربيّ البعيد تفكيك النص الدينيّ وإعدام سلطانه ونفوذه؛ لكي لا تقوم للكنيسة قائمة مرة أخرى. فكانت هذه الدراسات خلفيّة لا بد لنا من أخذها بنظر الاعتبار عندما نلاحظ تطورات هذه المعركة التي خاض بوادر الرفض لها في مصر الرافعيّ في كتبه، وتصدر جحافلها طه حسين في الأدب الجاهليّ وخلف الله ومندور وأمثالهم ممن كانت سجالاتهم بدايات ذلك، ولانتقال أمثال تلك المجادلات إلى العالم الإسلامي كلّه من مصر.

الأمر الثاني الذي لا بد لنا من استحضاره منبثق عن نشأة الكيان الصهيونيّ وسيطرته على فلسطين، فالكيان الصهيونيّ كان واعيًا تمام الوعي بأنَّ معركته في فلسطين ضد العرب والمسلمين معركة شاقة طويلة المدى متنوعة الأبعاد. وأنّ هناك بعدًا ثقافيًّا ومعرفيًّا ومنهجيًّا في هذه المعركة لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، فأسّس بهدوء كيانًا استشراقيًّا هائلًا استفاد في بنائه من سائر الجهود الاستشراقيّة السابقة، وركّز بخاصّة على الثقافة العربيّة الإسلاميّة ومصادرها بأنواعها المختلفة. هذا الاستشراق -إدراكًا منه لأهميّة هذا الجانب وخطورته- قد اهتم بالتراث الإسلامي اهتمامًا قد تفوّق به على المسلمين أنفسهم، وأخذ يجمع ذلك التراث ويرصد الميزانيّات الضخمة لدراسته وتحليله وتفكيكه، دون استثناء ودون تفريق بين الأصول: القرآن والسنة والفقه والأصول والتفسير والحديث واللغة وبين الموسيقى والغناء والعمارة في القديم والحديث.

وأقول آسفًا: إذا كان التراث في أيّ بلد عربي يشكو من فقدان بعض أنواعه أو ضعف أيّ جانب من جوانب علومه ومعارفه فإنّه يستطيع أن يجد ذلك لدى الجامعات ومراكز البحوث التي يقوم عليها أساتذة إسرائيليّون كبار سلخوا جوانب هامّة من أعمارهم في تتبُّع وجمع التراث الإسلاميّ والعربيّ. وقد بلغ من جديّة الباحثين الإسرائيليّن ومراكز البحوث في دراسة التراث الإسلامي أن استحيوا وجددوا تراث الإسرائيليّات القديمة محاولين الاستفادة من بعض آلاتها وأدواتها والبناء عليها، إضافة إلى تركة الاستشراق الغربي الحديث الذي بناه كثير من الباحثين المستشرقين اليهود!!

إنّ الاستشراق الغربيّ ومنه الاستشراق الإسرائيليّ قد رصد مصادر التراث الإسلاميّ وآثاره في تكوين النفسيّة والعقليّة الإسلاميّة بشكل جاد ولم يفته أنّ القرآن كان في مقدّمتها، بل هو الرأس والأسّ الذي لابد أن توجّه إليه الجهود التي تناسب مكانته وتأثيره وقدراته الدائمة المستمرة على النفس الإنسانيّة، وخاصّة النفس التي تتذوق العربيّة وتعرفها، وأنَّ أيَّ طعنة نافذة توجه إلى القرآن إذا أصابت الهدف فإنَّ تلك الطعنة قد تغني عن مجموعة كبيرة من المعارك الأخرى. «فالتطبيع» الذي تنشده الدوائر الصهيونيّة لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل وطبيعيّ والقرآن يُتلى والكعبة تزار. لقد نظر الاستشراق الإسرائيليّ إلى الشعب المصريّ على سبيل المثال- أنّه رغم كل اتفاقيات السلام التي وقّعت بين حكومته والدولة العبريّة لم تستطع تلك الجهود لحد الآن أن تصل إلى مستوى «تطبيع العلاقات» مع الشعب المصريّ. وأستطيع أن أؤكد لك أنَّهم قد أدركوا أنَّ القرآن المجيد هو الذي أوجد في النفس المصريّة تلك المناعة بما في ذلك لدى الإخوة الأقباط منهم فإنّ القرآن إذا كان بالنسبة للمسلمين مصدر هدايتهم وكتاب ربهم فإنّه بالنسبة للأقباط المصريّين مصدر من مصادر ثقافتهم. وقد أدرك الاستشراق القديم والحديث الثغرات التي تركها علماؤنا نتيجة تشبث أجيال منهم بالحريّة الفكريّة ومنهجيّة الرواية والنقل وما شاع بينهم من أن «ناقل الكفر ليس بكافر» وما إلى ذلك. ووجدوا في بعض ما عرف «بعلوم القرآن» -وما هو في حقيقته بعلوم- مصادر جيّدة للشبهات؛ فأخذوا ما ورد فيها من أحاديث ضعيفة لا يصح شيء منها ما ورد في «الناسخ والمنسوخ» خاصّة، وبعض التصورات الخاطئة في تفسير «المتشابه» وبعض الروايات التي شاعت في عصر التدوين حول تاريخ القرآن الكريم، وإعدام سيدنا عثمان للنسخ الخاصّة التي كان جُلها عبارة عن نسخ شخصيّة كتبها أصحابها لأنفسهم ليقرؤوا فيها، فبعضهم مثل ابن مسعود التزم بكتابة السور التي أقرأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه إيّاها مباشرة. فكان مصحف ابن مسعود يشتمل على سبعين سورة. أما ما لم يقرأه مباشرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يحفظه مثل بقية قرّاء الصحابة ويقرؤه ويصلي به إلّا ما ورد عن المعوذتين وحديث زر بن حبيش الذي أشهره أيضًا الدسّاسون الأوائل وتعلّق به بعض المستشرقين الأواخر.

إن أحاديث النسخ وهي كلها ضعيفة أسانيد ومتونًا، تعلّق بها رجال الاستشراق وبنوا عليها منظومات من الإطروحات التي لا قيمة لها دون أن يكلّف أيٌّ منهم نفسه عناء فحص أو تدقيق أو نقد تلك المرويّات الهزيلة. ومعروف أنّ حركة الوضع للحديث الشريف وحركة حشو التفسير بالإسرائيليّات حركتان قديمتان منظمتان تنظيمًا دقيقًا، فعبد الكريمبن أبي العوجاء؟ حين قبض عليه وتقرر إعدامه بتهم نسبت إليه قال: «وماذا ستفعلون بالآف من الأحاديث التي وضعتها على لسان نبيكم؟ ولما لا تتركوني إلى أن أدلكم على تلك الأحاديث؟ فقيل له: إنّ هذه الأحاديث التي وضعتها لا نحتاجك لرصدها لأنّ لدينا الجهابذة من العلماء الذين يستطيعون ميزها وفصلها عن الأحاديث الصحيحة وأعدموه»!!، لكن الوضع لم يعدم واستمرت الموضوعات ونحوها بالتداول!!

لكنّني أستطيع القول بأنّ الوضّاعين، رغم كل الجهود المشكورة التي بذلها المحدّثون من سائر المذاهب في عمليات التوثيق والتضعيف للروايات وموازين نقد المتون التي وضعوها؛ كل ذلك لم يحُل دون تسرب بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة إلى معارفنا، ومنها «أحاديث النسخ» التي من المؤسف أن نجدها متداولة في كتب علوم القرآن والتفسير وأصول الفقه والحديث بحيث أصبحت من الأحاديث المشتهرة على الألسنة على وهنها وتهافتها، وما تحمله من أفكار معادية للقرآن المجيد طاعنةً في سلامته. وقد قمت بتخريجها كلها- وكشفت عن بعض عيوبها في كتابي المطبوع «نحو موقف قرآنيّ من النسخ» وبعض دراساتي الأخرى فليرجع إليها.

هذا الذي ذكرته كله قد شكّل خلفيّة خصبة عندما تقرر أن تبدأ معركة توجيه الطعون للقرآن المجيد، فمرة يوجه الطعن إلى القرآن المكيّ وحده-، مع أنّ الله سبحانه وتعالى- قد تحدَّى العرب والبشريّة كلّها والجن والإنس وسائر الخلق بأن يأتوا بمثل ما كان قد نزل فثبت عجزهم، ثم بعشر سور فثبت عجزهم، ثم تَنَزّل إلى سورة واحدة فثبت عجزهم. وقد تواتر نقل التحدي والعجز عن الاستجابة باستفاضة وعرف ذلك الخاص والعام، ومع ذلك فقد زعم من زعم بأن أمّيّة العرب لا تسمح لهم خاصّة في مكة بكتابة النص القرآني!! ناسين أو متجاهلين أنَّ العرب في تلك المرحلة لو وجدوا أيّ منفذ للطعن في القرآن الكريم أو النيل منه، أو مما قد نزل لما ترددوا بجعله حديث الخاص والعام في جزيرة العرب وفي اليمن والشام ولسارت به الركبان. فهذا المحيط كله محيط تُجّارهم وتجارتهم وتداولها، ولو أنّهم وجدوا شيئًا يستطيعون أن يستخدموه في معاركهم ضد القرآن الكريم لما ترددوا لحظة واحدة في إشهاره وإعلانه، إلَّا أنّ شيئًا من ذلك لم يحدث. ولم يستطيعوا الاستجابة للتحدي وكانوا يلاحظون كل ما ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل حرف وكلمة فما وجدوا فيه اختلافًا أو ريبًا أو عيبًا من عيوب الخطاب فأُفحموا وأُلجموا!! وتم توثيق النص في القلوب والعقول والسطور.

والبيئة المكيّة بيئة تجاريّة كانت الكتابة فيها منتشرة ومعروفة شأنها شأن أي بيئة تجاريّة مماثلة لها علاقات تجاريّة واسعة في الجزيزة واليمن والشام.

وكلمة «الأمّيين» أو مفهوم «الأمّيّة» لها معنيان أولهما: الأمم والشعوب التي لم يسبق أن جاءهم نبيّ أو رسول، ولذلك قال جل شأنه-: ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (يس:6) والمعنى المتبادر للأذهان أنَّ الأمّي من لا يقرأ ولا يكتب وهذا أحد هذين المعنيين، فإذا ثبت أنَّ القراءة والكتابة كانت موجودة في تلك البيئة التجاريّة ومنتشرة، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكاتب الملوك والأمراء ويراسلهم في البلدان المجاورة ويعرض عليهم رسالته، فإنّ دعوى أنّ النص لم يوثّق في مكة دعوى متهافتة تردّها أمور كثيرة، فتثبيت القرآن الكريم في قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإقراره له بحيث لا ينسى شيئًا منه وتيسيره على المؤمنين ونزوله مفرقًا، لكي تثبت به الأفئدة وتثبت نصوصه كما أنزل في القلوب والعقول والسطور، بالنسبة للكاتبين أمر ثابت ومسلّم بالنصّ وفي الواقع.

وكان الحفظة لكل ما ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقومون بالتوثيق بسائر وسائل التوثيق المقبولة. ومن المعروف أنّ عددًا من الصحابة في مكة وغيرها كانوا يعرفون الكتابة قبل دخولهم الإسلام ومنهم أبو بكر الصديق وعمر وعلي وآخرون G.

أمّا في المدينة فقد جاوز عدد كتَّاب الوحي الستين كاتبًا، بل كان أهل الصفة كلّهم، وعددهم يزيد على السبعين، في المراحل الأولى يشكلون مكتبًا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يكتبون ما يوحى إليه. لكن الاستشراق جعل من كل ما يتعلق بتاريخ القرآن الكريم وكتابته وجمعه مصادر شبهة ووسائل تشكيك بسلامة الخطاب وصحة النص ودقته، وذلك ليتمكن من شاء من توجيه الادّعاءآت التي أثيرت حول «العهدين القديم والحديث» للقرآن المجيد، ولتتم التسوية بينه وبينهما في كل ما أثاروه من حق وباطل!!

ونرجع إلى أبناء المسلمين الذين احتلوا بعض المراكز الأكاديميّة في الخارج. بعضهم تم استقطابه من أقسام الدراسات الإسلاميّة التي يقوم عليها في الغالب رجال الاستشراق أو أنَّها أقسام قامت أساسًا على فلسفة الاستشراق. فقد أرادت تلك الأقسام أن تستفيد من بعض الأسماء الإسلاميّة وانتمائها إلى المحيط الإسلامي لتعزز تلك الأطروحات. وقد وجدت إغراءات الشهرة والمكانة الأكاديميّة والأوصاف والألقاب الكبيرة لدى بعض هؤلاء صدى جعلهم يبنون على ما أسسته وأنتجته مدارس الاستشراق حول القرآن المجيد، وساعد بعضهم معرفته بالّلغة العربيّة وقدرته على قراءة تلك النصوص من الأحاديث الموضوعة والضعيفة والمتهافتة ونقلها من مصادرها في كتب علوم القرآن وأصول الفقه والتفسير وما إليها. باعتبارها مسلمات، ووجدوا فرصة لتطبيق مناهج التأويل والتفكيك والنقد التي تبعها اللسانيّون الغربيّون مع كتبهم المقدسة في محالات مستميتة لإثبات أنّ القرآن قد تعرّض لمثل ما تعرّضت له الكتب الدينيّة الأخرى، وبالتالي فهو لا يمتاز عنها بشيء ويجب أن توجه إليه سهام النقد، وأن يخضع لقواعد اللسانيّات على اختلافها، وأن تنزع عنه القداسة، ويجري التأكيد على نسبيّته، ثم يأخذ كل منهم في تناول ما يشاء، فهناك من يقرر: أنَّ جميع ما جاء في القرآن عن القيامة ومشاهدها هي مجرد رموز يرمز بها إلى بعض الأشياء أو التخويف، وأنّ القرآن تاريخانيٌّ يرتبط بتاريخ نزوله وفتراته ولا ينبغي أن يُدَّعى أنَّه صالح لكل زمان ومكان أو أنّه خطاب يتمتع بالإطلاق والديمومة ويمكن توجيهه لسائر الناس.

إنَّ جهود هؤلاء لا أحب اتّهامها كما يفعل الآخرون- لأنّني أعرف أنَّ في تراثنا مشكلات كثيرة لا علاج لها إلَّا النقد والتحليل والتفكيك، وأنَّ هذه الأدوات ملك معرفيٌّ مشاع بين البشريّة؛ وأنه لابد من الحفر المعرفيّ بكل مضامينه وأشكاله في تراثنا، وإخضاع الفكر الإسلاميّ لكل أنواع الاختبارات والتفكيك، كل ذلك أمور لا أخالفهم فيها ولا اعتراض على جهودهم في تناولها. باستثناء القرآن المجيد، لا لأنّني أخشى على القرآن المجيد من النقد والتحليل أو التفكيك، بل ليقيني أنّ التفكيك إذا لم ينته «بالتركيب بالقرآن الكونيّ» فإنّ تلك الجهود سوف تصب كلها- في بحيرة «العدميّة والعبثيّة»، مثل جهود التفكيك التي أنفق «جاك دريدا» فيها حياته حتى وفاته في (9/ 10/ 2004م)؛ فالتركيب من بعد التفكيك لا يتم إلّا برؤية كونيّة لا مصدر لها على وجه الأرض الآن- إلَّا القرآن.

كما أنَّني كنت أتمنى عليهم أن يبدؤوا بمراجعات لجهود عدد من الألسنيّين المسلمين، ومنهم سيبويه في (الكتاب)، وابن جنّي، والزمخشري، والجرجانيّ، مرورًا بابن هشام والسكاكيّ والسيوطيّ وغيرهم، ويقوموا بتقييم تلك الجهود إضافة إلى تراث قادة «المدرسة التأويليّة» في تراثنا؛ لكي نرى ما لدينا وما يمكن أن نتقدم به للمدرسة المعاصرة، وننظر ما الذي نُعطي وما الذي نأخذ منها. ولكي نتمكّن أن نقوم بالتركيب بعد التفكيك. فإذا استعرنا قواعد التفكيك من تلك المدارس التفكيكيّة فلنقدم لها رؤية في (التركيب) هي شديدة الحاجة إليها!! وبذلك نستطيع أن نضع لبنات سليمة في بناء «التجديد والاجتهاد» لتراثنا دون أن نسقط في متاهات العبثيّة والعدميّة والتفكيك مع العجز عن التركيب؛ ولذلك فقد أبديت استعدادًا لمحاورة كثير من هؤلاء فهم عندي- جزء من مفكري أمتي لا أحب التفريط فيهم أو التنازل عنهم للآخرين.

وقد حاولت ذلك مع أركون ومع الجابري ومع نصر أبو زيد وأخيرًا مع المهندس محمد شحرور، ولم أجد الاستجابة المتوقعة من أيّ منهم ولكل منهم أسبابه!! وأخشى على جهودهم أن تضيع في التفكير المجرد فيكون غاية ما يمكن أن يصلوا إليه ما يلي:

أولًا: إلحاق القرآن بالعهدين القديم والجديد في الحكم العشوائيّ عليه بأنّه ناله التحريف والتغيير وعدم سلامة نصوصه كلها، فتخسر الأمّة بل والعالم كله- مصدر التركيب الكونيّ الوحيد. وإن كنت على يقين أنّ القرآن أمنع من أن ينال منه أحد.

ثانيًا: إشاعة أسطورة عدم توثيق النص القرآنيّ بمثل وسائل التوثيق المعاصرة وعليه فقد دخله ما ليس بموثّق أو ما هو مشكوك فيه كما يزعم كثيرون. وهذه أيضًا- دعوى لا تصمد أمام بحث علميّ جاد!!

ثالثًا: تعزيز دعوى أنّ القرآن غير مكتمل مثله مثل بقيّة الكتب السماويّة، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي والقرآن مفتوح لأيّة إضافة. وقد تعلقوا بهفوة أو زلة من زلات الإمام الخطابي (ت: ببُست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة) شارح سنن أبي داود قالها في تعليق له على أحد الأحاديث غفر الله لنا وله-.

رابعًا: أنّ القرآن تاريخانيٌّ مرتبط بالوقت الذي نزل فيه ولا يتجاوز خطابه عصر النزول، ولا يمتد خارجه. وهذه دعوى يفندها الخطاب القرآنيّ وأدواته جملةً وتفصيلًا. وتحويل مبدأ «عالميّة الخطاب القرآنيّ» إلى مجرد دعوى قائمة على قاعدة «الاستعلاء الدينيّ» وهو جزء من ظاهرة برزت عند أهل الأديان كافّة.

كما أنّني لم أجد لدى غالبيّتهم تمكنًا في التراث الإسلاميّ يمكن أن يطمئنني إلى أنّهم قادرون على التحلي بالاستقامة والموضوعيّة العلميّة ليدرك من يقرأ لهم أنَّهم يتحدثون عن أمور خبروها وعرفوها جيدًا. وقد وجدت جُل المستشرقين القدامى يتمتعون بخبرة في التراث الإسلامي أوسع بكثير من خبرات أبنائنا وإخواننا هؤلاء!!

خامسًا: قد تؤدي جهودهم إلى إقناع متوسطي التعليم وقليلي الاطلاع إلى أنّ القرآن نسبيٌّ وليس في صفاته ومعانيه من الإطلاق شيء؛ وهذه فرية لا يوجد ما يثبتها!!

سادسًا: أو يصفونه بصفات قد يجترئ من يتأثَّر بهم على اتخاذ مبدأ «نزع القداسة» تمامًا عن القرآن واتهامه وإخضاعه لسائر أنواع التفكيك والنقد والتحليل من القادرين على ذلك فعلًا والمدعين له، مبدأً سائغًا، وليس الأمر كذلك بل في ذلك خطر كبير!!.

سابعًا: افتراض بعضهم وجود مؤلف للقرآن مات أو ما زال حيًّا يستطيع الناقد له أن يقرأ أفكار ذلك المؤلف وينطلق منها باتجاه فهم الخطاب الذي وجهه ومعرفة أغراضه وأهدافه، تلك جرأة على القرآن لم يسقط فيها الجاهليّون القدامى وتمرّغ فيها هؤلاء المحدثون!!

ثامنًا: جرأة عارمة تمتّع بها بعضهم على تجاوز وتجاهل كل ما له علاقة بتواتر نقل القرآن في الصدور والسطور والحفظ والعناية الإلهيّة بحفظه وتيسير ذلك وعصمته بنفس النصّ القرآنيّ الذي يقول الله تعالى فيه: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ (الأعلى:6)، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة:16-18)، ومتجاهلين بذلك لمبدأ ختم النبوة وعالميّة الخطاب القرآنيّ وحاكميّته وكل ذلك من وسائل حفظه والمحافظة عليه. لقد تجاهل بعض هؤلاء العلم والموضوعيّة، بل تجاهلوا قواعد اللسانيّات التي عدّوها مرجعيّة لهم بها، ودراساتهم هذه لم تنل من القرآن بفضل الله ولن تنال منه شيئًا.

كناطح صخرة يومًا ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

إنّني أخشى على هؤلاء جميعًا دون استثناء أن يتحولوا «بالتفكيك المجرد» إلى جيل من الخائضين الذين ذكر الله أسلافهم وقال لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ * قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:68-71). فبعض جهود هؤلاء لا يمكن اعتبارها جهودًا علميّة، بل هي جهود «خوضيّة عبثيّة»!!

ولعل كثيرًا من هؤلاء يعلمون من هم الخائضون الذين يشتد حسابهم عند الله تعالى- عن خوضهم في آيات الله، وهناك فرق كبير بين الخائضين الذين يرددون المطاعن في القرآن وهي المطاعن نفسها التي وضعها أعداء القرآن، وهم يروجون لها بحجة أنّها من البحث العلميّ. فالخوض هو السير في ماء ضحل لإثارة الطين وما يستقر تحت ذلك الماء؛ ولذلك فإنّه لا يأتي بخير. أما البحث العلميّ فقد عرفنا في تاريخنا نماذج كثيرة من الباحثين الذين كانوا يطرحون بعض الشبهات ولكن من غير تبنٍّ لها ولا تحيّز، بل يتناولونها بشكل يدل على أنَّهم باحثون عن الحقيقة، إذا أُرشدوا إليها أو وُجِّهوا سرعان ما يستجيبون، وتستطيع أن تجد نماذج من تلك المقولات ومناظرات مستفيضة عقليّة ومنطقيّة لها في نحو كتاب القاضي الباقلاني «الانتصار لنقل القرآن العظيم»، وقبله «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة و«تنزيه القرآن عن المطاعن» للقاضي عبد الجبّار وغيرهم.

أما كثير من هؤلاء فإنّ أخشى ما أخشاه أن يسلكوا في عداد الخائضين فحسب للأسباب التي ذكرتها، وبذلك يعيدون إحياء تراث أولئك الخائضين الذين فاتهم أنَّهم مجرد خائضين يعبثون ويلعبون في أمر كان لهم فيه أناة. إنّ ميشيل عفلق حين بدأ يؤصل لعقيدة «حزب البعث» وعايش التراث الجاهليّ العربيّ فترة طويلة صدَّق ذلك التراث وآمن به وزعم أنَّ الجاهليّة كانت أهم فترات النقاء في التاريخ العربيّ، وأنَّ الإسلام قد أزال ذلك النقاء بانفتاحه على الشعوب غير العربيّة «عرب وين طنبورة وين»؟!

وقد شهدت موقفًا لأحدهم شاهده معي ما يقرب من ألف من الحضور في ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر، وهو محمد أركون الذي نهض إليه الشيخ الغزالي F في ذلك المجمع ورد عليه مقولته في القرآن، وقال له أمام الناس جميعًا: «أجبني بوضوح هل تؤمن بهذا الذي تقول أو أنّك مجرد ناقل له؟»، فحاول التنصل من كل ما قال، وأكد على أنّ المترجمين قد أخطؤوا في الترجمة عن الأصل الفرنسي، فأخرج له الشيخ من جيبه الآخر النسخة الفرنسيّة وطلب من بعض الحضور الجزائريين، وأظنه الدكتور الكشاط، أن يقرأ النص الفرنسي لأركون وأن يترجمه فقام بذلك؛ فبهت أركون وأخذ يغمغم ثم انفجر بالبكاء، فقال له الشيخ: «هذه علامة صحيّة يا أستاذ أركون، فهل لك أن تعلن توبتك وتستغفر الله؛ لعل الله يتوب عليك وتعود إلى دينك، وأن تشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله وأنّ القرآن كله حق وأنّه كلام الله؟!». انفعل الرجل وهو يبكي وردد ما طلب الشيخ منه ترديده وكبر الجميع وانتهى ذلك المشهد، وبقى موقف الشيخ الغزالي وأركون حديث الجميع طيلة فترة الملتقى وبعده. وهو موقف شهده المئات في ذلك الملتقى. وفي ملتقى آخر كرَّر أركون ما قاله في ذلك الكتاب في دراسة أخرى، وكرَّر الشيخ الغزالي المشهد، وحاول أركون أن يتنصل، فقال له الشيخ: «لقد تبت في المرة السابقة عن ردّتك وحمدنا الله على ذلك، ووعدت بأن تكتب ما يفيد رجوعك عن ذلك القول الإفك فإذا بك تكرّره مرة أخرى، فهل كانت توبتك السابقة خداعًا لنا. إنّنا لا نملك لك ضرًّا ولا نفعاً، وإن كنت رجعت عن توبتك فحسابك على الله، ولكن لن نسمح لك بالتلاعب في عقولنا؛ فعاد للاعتذار مرة أخرى.

وكنت إلى جانب أركون على المنصة في هذا الموقف الأخير- لأنّ المفروض أن أقول ملخص بحثي في الملتقى بعده، لكن ما حدث وتفجير الشيخ لمقولة أركون حالت دون ذلك؛ ولذلك فإنّي لا أسمي الكثير من جهود هذه المجموعة التي ذكرت أسماء أصحابها، بحوثًا بل أسميتها خوضًا في آيات الله مع الخائضين، لا يليق بمن آمن بالقرآن الكريم وصحة صدوره عن الله تبارك وتعالى- أن يردد ما يقولون، أو يخوض فيما يقولون، فالحكم القرآنيّ واضح في هذا الأمر. نسأله سبحانه أن يحمينا وإياكم من أن نخوض مع الخائضين... ذلك هو تقييمي لهؤلاء الذين ذكرتم وأعمالهم، ونسأل الله لنا ولهم العفو والعافية.

إنّ العصور لم تخلُ من أعداء للقرآن ولكن بادوا وما زال القرآن يتحدّى الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. ونصيحتي للشباب أن ينظروا إلى جذور هذه المقولات في تراث أهل الكتاب في أوروبا خاصة الذين عُنُوا بتفكيك «العهدين القديم والجديد» وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ (البقرة:78).

وإن كنا نتمنى أن تشكل بعض مراكز البحوث الحرة لدراسة تلك الشبهات التي أوردها بعض هؤلاء والأصول التي بُنيت عليها، وتعمل على كشف نزعة التقليد عند عدد من هؤلاء لبعض المفكرين الذين أرادوا توجيه ما يمكن تسميته بالضربات القاضية «للعهدين القديم والجديد»، فأراد هؤلاء أن يقتبسوا مناهجهم وينسجوا على منوالهم لينالوا من «القرآن الكريم» وما هم بقادرين!!

ولابد أن تتاح الحريّة التامّة في هذه المراكز البحثيّة للرأي والرأي الآخر، والاتجاهات المختلفة، ولا ينبغي أن تنتقص تلك الحريّة بحجة «سد الذرائع» أو أيّة حجة أخرى. فالقرآن علّمنا العدل والانصاف في تقديم سائر الآراء والمذاهب، ولم يتردد القرآن في ذكر أشد الأقوال إمعانًا في الكفر والنفاق ثم الرد عليها.

وقد اطّلعت على جُل الكتابات التي أشرتم إليها فما وجدت فيها علمًا يستحق أن يناقش أو يرد عليه، وإن كنت مصرًّا على أن يكون هناك مركز أبحاث أو أكثر يعالج تلك الشبهات التي أثاروها ويناقشها بأسلوب موضوعيّ علميّ رصين، ويبيّن جذورها وكيف تولّدت في دوائر السجال والجدال التي جرت بين الطوائف والفرق الإسلاميَّة عبر العصور. ولي أمل كبير في استعادة بعض هؤلاء إلى جانب القرآن، وأن يكتشفوا بأنفسهم أنَّ قياسه على «العهدين» قياس مع فوارق لا تحصى.

المثقفون المعاصرون والقرآن.. إحجام أم إقبال

* هذه الموجة الفكريّة التي أشرنا إليها في السؤال السالف تلفت النظر إلى طبيعة العلاقة بين المثقفين المعاصرين والقرآن الكريم من جهة الإحجام والإقبال، فتارة يتوجه النقد لهؤلاء لإحجامهم عن القرآن الكريم الذي اتخذوه كتابًا مهجورًا، وتارة يتوجه النقد إليهم لإقبالهم عليه، فماذا نريد من هؤلاء؟ هل نريد منهم موقف الإحجام أم موقف الإقبال أم هناك موقف آخر؟

لعل الجوابين السابقين يحملان إجابة عن هذا السؤال، ولكن لزيادة التوضح نقول: إنّ القرآن كتاب كونيٌّ لست في معرض التعريف به لكنّني لا أستطيع أن أطلق كلمة مثقف في الكيان الحضاريّ الاجتماعيّ الإسلاميّ على من لم يدرس القرآن دراسة فاحصة، ويكون على اتصال دائم به، شريطة أن يكون مؤهلًا أو قد أهَّل نفسه لإقامة هذا النوع من الصلة بالقرآن المجيد، فالقرآن المجيد يفرض على قارئه أن يعدّ نفسه وقوى وعيه ويستجمع مجموعة من الشروط الأساسيّة التي حددها القرآن ذاته فيمن يريد الاقتراب منه ومس معانيه، فإذا استجمع امرؤ ذلك وأهّل نفسه لمقاربة القرآن الكريم وألمَّ بمجموعة المتطلبات التي لابد لمقارب القرآن أن يتحلى بها وأن يستوفيها فقد وجب عليه أن يقارب القرآن وأن يتخذ منه مرجعيَّة عليا فيما يأخذ ويترك. وأنت تعلم أنَّ هجر القرآن الكريم خاصَّة ممن ينتسب إلى الإسلام يعد في الكبائر التي قد تخرج الإنسان من الملة -والعياذ بالله- لو أنّه استمرأها وداوم عليها، ولم ينتقد أحد أحدًا مما ذكرت لإقباله على القرآن بعد أن استوفى شروط ذلك، لكن من اقتحم حريم القرآن بطريقة عربيَّة جاهليَّة، واستمع إليه بقوى وعي قد سكنها ما سكنها من مسلّمات استشراقيَّة؛ فإنَّه في هذه الحالة يفقد الأهليَّة للتعامل مع القرآن المجيد. والإجابتان السابقتان توضحان أنّ من ذكرتهم قد اقتربوا من القرآن اقتراب الغرباء، أو أقبلوا عليه إقبال الأجنبيّ، وبدون استيفاء لمتطلبات مقاربة القرآن المجيد.

ولذلك فقد سقط بعضهم في أقوال وآراء لو أحسنوا التدبُّر، ودخلوا على القرآن دخول متعلّم مستفيد آخذ بالشروط والأركان التي لابد منها لمقاربة القرآن المجيد؛ لخرجوا بمواقف أخرى. فلا يقيسون القرآن على أدب جاهلي ولا أدب تقدمي، ولا ينظرون إليه على أنَّه نص مُؤلَّف له مُؤلِّف وكاتب، ولوفروا على أنفسهم وعلى غيرهم الكثير من العناء. وكان الأولى بأبنائنا هؤلاء أن يتركوا عمليّات النقد والمقاربات التفكيكيّة التي لا يصحبها تركيب لأولئك الذين لا يؤمنون بالقرآن مرجعيَّة عليا، ولديهم الاستعداد التام لنزع القداسة عن أيّ كتاب وتفكيك أيّ نصّ، بأدواتهم التي لا يصلح شيءٌ منها لمقاربة القرآن المجيد؛ ذلك لأنَّ القرآن المجيد حين يُقاربه من لا يؤمنون به ولا يرون فيه خطابًا إلهيًّا يواجههم بتحديه وإعجازه لا بانفتاحه، ويواجههم بنوع من الانكماش، وهو الذي أشار القرآن إليه بالحجاب. ألم أقل لك: إنَّ هذا الخطاب خطاب مغاير ينبغي أن تعرف خصائصه ويتوافر القارئ على شروط الاتصال به ومقاربته.

إن أبنائنا هؤلاء يستطيعون أن يقدموا لثقافتنا الكثير إذا أخذوا بشروط قراءة القرآن التي حددها، وقاربوه بشروطه وبمستواه، مع معرفة سقفه ومصدره وطبيعته ولسانه ونظمه وأسلوبه وإعجازه وتحديه، وآنذاك سوف يقدمون لأنفسهم وللأمّة وللثقافة الإسلاميَّة الكثير من الخدمة التي تشتد حاجتنا إليها.

ولا أعني بما ذكرت أن نحوّل هؤلاء الأساتذة إلى طلبة في التفسير أو علوم القرآن، بل نريد منهم أن يأخذوا بكل المقاييس العلميَّة والموضوعيَّة، ومنها فرادة هذا الكتاب بالنظم والأسلوب واللسان الخاص والغايات والأهداف والمقاصد والسياق والسباق والتركيب؛ ليعينهم ذلك على حسن الفهم وإتقان القراءة. وبالتالي فالأمر ليس أمر لوم لهؤلاء أو مدح لهم على إقدام أو إحجام، بل هو كيف يُقدِم ومتى وكيف يستوفي متطلبات ذلك الإقدام وشروطه؟!

المثقفون المعاصرون والقرآن.. أين هي الأزمة؟

* إذا أردنا تحليل طبيعة هذه الإشكاليّة في علاقة المثقفين المعاصرين بالقرآن الكريم، فكيف نُحدِّد الإشكاليّة، هل هي أزمة معرفة، أم أزمة منهج، أو أزمة إيمان، أم هناك أزمة أخرى؟

إنّ الأزمة في علاقة من ذكرت، وهم ليسو كل المثقفين بل نموذج من نماذج كثيرة تموج بها الساحة الثقافيّة الإسلامية، هي أزمة مركبة؛ فمن حيث كونها أزمة معرفة تتجلى في أنّ هؤلاء الأبناء لم يعرفوا عن القرآن المجيد أكثر مما يعرفون عن العهدين القديم والجديد، بل إنّني أجزم، وقد لقيت بعض هؤلاء، بأنّ معارفهم عن العهدين أو أحدهما أكثر بكثير من معرفتهم بالقرآن الكريم، وأنّ مراجع الكثيرين منهم في محاولة معرفة القرآن الأساسيَّة هي المراجع التي كتبها مستشرقون عبر القرون الثلاثة الماضية، وقد يزيد بعضهم مرجعًا أو اثنين أو أكثر بقليل مثل الإتقان للسيوطي وبعض كتب تاريخ وفضائل القرآن مما حظي باهتمام الدراسات الاستشراقيَّة أو مما بنيت عليه الدراسات الاستشراقيَّة، وهذه غير كافية لتكوين عقليَّة قادرة على التعامل مع القرآن الكريم تعاملًا تحليليًّا أو فلسفيًّا كما يشير بعضهم إلى تحليلاته.

وهناك أزمة منهج، وهي التي أشرنا إليها في جوابنا عن السؤال الثالث، إضافة إلى أزمة الإيمان بمرجعيَّة القرآن الكريم وفرادته وكونه كلامًا إلهيًّا، إضافة إلى أزمة الفهم اللغويّ والبلاغيّ والبيانيّ للسان القرآن الكريم ومزاياه واختلافاته عن اللسان العربي فضلًا عن سواه، فهي أزمة مركبة تحتاج إلى معالجة من هؤلاء القارئين المعاصرين (أو ذوي القراءات المعاصرة) ليلجوا إلى رحاب القرآن بدون أزمة فيُفيدون ويستفيدون، وتتميز آنذاك دراساتهم عن الدراسات التقليديَّة لأهل التراث الذين يرددون المرويّات الخاصَّة بالتاريخ والفضائل والجمع والتدوين والتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وما إلى ذلك منذ قرون عديدة، وتتميز دراساتهم آنذاك عن المستشرقين بقدرتهم على التعامل مع القرآن الكريم بالمنهجين أو منهج ثالث وسط بين المنهج التراثيّ التاريخانيّ والمناهج الإسقاطيَّة الاستشراقيَّة، فيأتوا بمنهج متميز ثالث سيكون له أثره في تطوير العلاقة بالقرآن الكريم وإصلاح وتجديد الدراسات القرآنيَّة.

محاولة الجابري.. رؤية وتقويم

* من المحاولات الجديدة في التعامل مع النص القرآني، المحاولة التي قام بها مؤخرًا الدكتور محمد عابد الجابري فهمًا وتفسيرًا للقرآن الكريم، كيف تنظرون إلى هذه المحاولة؟ وما هو تقييمكم لها؟

حين أستعرض مشروع الراحل محمد عابد الجابري -يرحمنا الله وإياه- فنأخذ مدخله إلى القرآن الكريم نجد أن الدكتور الجابري قد سلك فيه مسلكًا هو أشبه ما يكون بمسلك الدكتور طه حسين حين أعد كتابه على هامش السيرة، فالرجل قد طلب الناشرون منه أن يكتب في السيرة لأن السوق يحتاج كتابًا في السيرة فكتب الكتاب وفي ذهنه أصناف الناس الذين يريد الناشر أن يصل الكتاب إليهم؛ فكتبه ولكنه أظهر في مقدمته أنه سيعرض أشياء يقبل بعضها ويرفض البعض الآخر لكنّه سيكتبه لغيره على أي حال، فهو لا يؤمن بها كلها ولكنه يذكرها كما ذكرها الآخرون أو المؤرخون وكتَّاب السير الذين رجع إليهم. فالدكتور الجابري قد وضع لنا قسمًا أول في مدخله إلى القرآن الكريم جعله تحت عنوان قراءات في محيط القرآن الكريم، ووضع فيه خمسة فصول استغرقت من الكتاب حوالي مئة وخمسة عشر صفحة، هي عبارة عن نقول لما كتبه الكاتبون عن وقائع وتطورات عرفتها الجزيرة العربيَّة في تاريخها قبيل وأثناء قيام الدعوة المحمدية، وكل ما جاء فيه أنه جمع شتات مجموعة من القضايا التاريخيَّة ولا أقول الحقائق كما قال هو، جعلها ذات أهميّة كبيرة تشكّل مقدمة ضروريّة -في نظره- لفهم القرآن وفهم الإسلام، وبدلًا من أن يستخدم تعبير محمد أركون تاريخانيَّة القرآن وتاريخانيَّة الرسالة استخدم مصطلحه الخاص وهو زمانيَّة الدعوة المحمديَّة وفضاؤها الثقافي، واعتبر ذلك مساعدًا للمعاصرين على مزيد من الفهم المعقول للقرآن وللدعوة المحمديَّة. وكانت فيه إعادة بأسلوب آخر لما ورد في كتابه (نحن والتراث)، وهو لم يُعنَ يرحمه الله- كثيرًا بتدقيق ما روى. ولا يخفى أن السِّيَر والتواريخ منذ بدايات التدوين مُتَّهمة بأنها غير دقيقة وتحتاج إلى كثير من التدقيق والتمحيص؛ وإلَّا فلن يفعل الكاتب أكثر من ذلك الذي ذمه الإمام أبو حامد الغزالي، حين رفض أن يسمي التأليف تأليفًا إذا اقتصر على جمع ما فرقوه وتفريق ما جمعوه ورواية ما ذكروه. ولم أرَ للراحل الجابري في كتابه هذا شيئًا أكثر من ذلك. وحين جاء يرحمه الله- إلى موضوع النبوة أيضًا اقتصر على رواية ما كان قائمًا وسلك ما سلكه بعض المتقدمين من الاستفادة من نقد فريق لفريق من علماء التراث، فيترك ابن رشد ينتقد الغزالي والفارابي ومن إليهما، ويفسح المجال للغزالي ليقول ما يريد... إلخ.

وإذا أردنا أن نقيّم عمله فإنَّ القيمة الأساسيَّة فيه لا تتجاوز الجمع بحيث قدم للقارئ مرجعًا واحدًا بدلًا من الرجوع إلى عديد من المراجع؛ جمعها لنا في مرجع واحد بطريقة انتقائية مثل طريقة أبي نواس:

ما قال ربك ويل للأولى سكروا

بل قال ربك ويل للمصلين

وقدّم إحالات كثيرة على كتب له سابقة، مما يشير إلى أنَّ هذه الدراسة أو هذا المدخل لفهم القرآن الكريم الذي سمّاه (التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) هو عبارة عن تجميع وصفي تاريخانيّ لا يقدم أيَّة زيادة من تلك الزيادات التي ينتظر من عقليَّة فلسفيَّة مثل عقليَّة الجابري أن يقدمها.

وأنا الآن حينما أحب الرجوع إلى شيء مما جاء في المدخل بدلًا من أن أرجع إليه في طبعة الإتقان القديمة أو البرهان للزركشي أو كتاب أبي عبيد القاسم ابن سلام وطبعاتها قديمة؛ أجد كثيرًا من نصوصها مطبوعة في تلك الطبعة الحديثة اللطيفة التي أصدرها مركز دراسات الوحدة.

إنَّ الدكتور الجابري أراد أن يلخّص مشروعه الفكريّ عدة مرات في مواقف؛ ويبدو أنّه كان مسكونًا بهاجس تحميل مشروعه لسفينة تجعل مشروعه مقبولًا لدى القاعدة الإسلاميَّة العريضة، ذلك لأنَّه من أعرف الناس وأعلمهم بطبيعة مشروعه وحقيقته وأهدافه، والمعارضة التي وجدها من الفيلسوف الإسلامي المغربي أ.د: طه عبد الرحمن جعلت مشروع الجابري في موضع شك لدى القاعدة العريضة، فالدكتور طه عبد الرحمن أصدر عدة دراسات منها العمل الديني وتجديد العقل، وكتب في العقل المسدد والعقل المؤيد، وأسس لعقلانيَّة إسلاميَّة تشتمل على بديل ضمني لمشروع الدكتور الجابري، فحاول الدكتور الجابري أن يتحوَّل لمحقق لكتب ابن رشد ليُحمِّل على سفينة ابن رشد مشروعه، فحقق بعض التراث الرشدي واستفاد مما كتب من هوامش وتعلقيات للترويج لمشروعه، ولم يستطع بهذا أن يتصل أو يوصل مشروعه إلى القاعدة العريضة، فالفيلسوف الكلامي طه عبد الرحمن قد تناول ابن رشد بطريقة لم تجعل من السهل على الجابري تحميل مشروعه لسفينة ابن رشد؛ لأن دكتور طه قد خرق تلك السفينة بما كتبه عن ابن رشد نفسه، ثم جاء يرحمه الله- ليحمل علوم القرآن مشروعه ويبين أن مشروعه كان يريد به أن يقود العقل العربي والعقل المسلم إلى فهم معاصر للقرآن الكريم، محاولًا جهده بحنكة سياسي اشتراكي ومتفلسف جيد أن يجتاز المضايق الوعرة بالتشبث بالوصف (والزمانيَّة) وأظنه قد صادف في هذا نجاحًا أكبر، فكتابه المدخل إلى القرآن «مدخل إلى القرآن الكريم» والأقسام الثلاثة في فهم القرآن قد لقيت رواجًا أكثر بكثير مما لقيه مشروعه الرشدي، لكن دراسة عصر النبي وبيئته هي التي ستؤدي إلى ما سماه الفهم المعاصر للقرآن الكريم! لا أظنه قد وصل إلى ذلك أو حقق ذلك الهدف. وقد حاول محمد عزت دروزة أن يقدم لقراء العربيَّة عصر النبي وبيئته بنجاح أكبر بكثير مما حققه الراحل الجابري يرحمهما الله- ولم أره بين مراجعه في المدخل.

القرآن الكريم.. وتعدد المناهج

* تعددت وتنوعت مناهج النظر والتعامل مع النصّ القرآنيّ، فهناك المنهج الكلاميّ والمنهج العقليّ والبيانيّ والعرفانيّ... إلخ، وهناك أيضاً المنهج التجزيئيّ والمنهج الموضوعيّ والمنهج التأويليّ... إلخ، هل نحن بحاجة إلى كل هذه المناهج وإلى ابتكار مناهج جديدة؟ وهل هذا يدل على تطور اقتضته سعة الاشتغال بالنصّ القرآني؟ أم نحن بحاجة إلى تصفية هذه المناهج أو إيجاد منهج حاكم على كل هذه المناهج؟

ما تفضلتم بذكره هي الأقسام التي يضع الكاتبون في التفسير والتأويل أقسامًا للتفسير فيها فيقولون: هذا تفسير كلاميّ مثل تفسير الزمخشريّ والطبرسيّ، ويقولون هذا تفسير عقليّ ويمثلون له بالزمخشري أيضًا- والكشاف وكذلك تفسير النيسابوريّ والبيضاوي، وهناك البيانيّ وهو معروف وعُني به بعض المتأخرين خاصَّة الراحلان أمين الخولي وزوجته عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ»، وهناك العرفانيّ مثل تفسير ابن عربيّ والفتوحات المكيَّة، وبعض ما كتبه أئمة الشيعة للقرآن كله أو لسور منتخبة، ومنهم إضافة إلى المتقدمين السيد محمد باقر الصدر، والإمام الخمينيّ، والسيد محمد تقي المدرسيّ، والصادقيّ. وهناك منهج تجزيئيٌّ وفيه أعداد كبيرة من التفاسير، والمنهج الموضوعيّ وتدخل فيه تفاسير آيات الأحكام أو أحكام القرآن، مثل القرطبيّ وغيره، وقد كتب فيه كثيرون منهم الشيخ الراحل الغزاليّ، ولسنا بحاجة إلى كثير من هذه الأنواع ولا أسميها مناهج؛ لأنَّنا بحاجة إلى أن نكتشف تفسير القرآن لنفسه.

ولذلك أعتقد بأنَّ أحسن ما ينبغي للمسلم المعاصر إتقانه والبراعة فيه هو أن يفسر القرآن بالقرآن، ففي القرآن إحكام وتفصيل والتفصيل يفصل الإحكام والإحكام يضبط التفصيل. وتفسير القرآن بالقرآن هو الذي سنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما ينبغي لنا أن نعتمده ونجعل التفاسير الموروثة ومنها بعض التفاسير الحديثة مراجع للمتخصصين لكيلا تشغل الأمة عن كتاب ربها وتُحجب عنه وتُعزل عن أنواره بآراء المفسرين واتجاهاتهم.

* لماذا الحرص على تفسير القرآن بالقرآن؟

هناك ما يقرب من مليون تفسير كاملٍ وغير كامل ما بين مطبوع ومخطوط أراد جمهرة كاتبيها أن يبيّنوا آيات الكتاب الكريم بها، لكنّ ما حُمّلت به تلك التفاسير من معتقدات أصحابها، وأيديولوجيّاتهم واتجاهاتهم جعلها أحياناً تقف حاجزاً بين العقل المسلم وتدبُّر القرآن في أكثر الأحيان. فصار المسلم يعرض عن التدبّر ويلجأ إلى التفاسير مستسهلاً ذلك مانحاً ثقته للمفسرين الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، وفاقداً لثقته بنفسه وبكرم القرآن الكريم وعطائه الذي لا ينقطع، وما فرض الله تعالى عليه من تدبُّره.

والله -تبارك وتعالى- قد حضّ الناس على تدبّر القرآن وجعل البديل عن تدبّر القرآن هو أن تُقفل تلك القلوب وتُغلق دون معاني آياته فقال -جل شأنه-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24). فمن أراد أن يفتح الله تعالى له قلبه، ويملأه بالطمأنينة ويشرح صدره فعليه بتدبّر القرآن، والتفكر في آياته وتعلّمها وتعقّلها.

كما أنَّه -جل شأنه- قد أعلن في أكثر من موقع أنَّه قد يسّر القرآن للذكر وندب الناس إلى ذكر الله به وتلاوته حق التلاوة وترتيله ترتيلاً والاستماع إليه بإنصات قِوَى وعيه كلها- لصوت القرآن، ووعدهم على ذلك بجزيل الأجر ووافر الثواب، مع إنارة قلوبهم وعقولهم، والحيلولة بين الشيطان وبين النيل منها ومنهم.

«وتفسير القرآن بالقرآن» كان سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحين جزع الصحابة عند سماعهم قول الله جل شأنه-: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} (البقرة: 284)، وأدركوا عموم هذه الآية، وأنّ من المتعذّر أن يسيطر الإنسان على خواطره هرعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبدون إليه قلقهم وجزعهم، فطمأنهم عليه الصلاة والسلام وتلا عليهم قوله جل شأنه-: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286) فقرّت أعينهم واطمأنت أنفسهم.

وحين نزل قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: 102) جزعوا كذلك، وقال منهم من قال: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟!، فلما اشتد ذلك عليهم نزل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم} (التغابن: 16)، وقد أشار الطبري إشارتين متناقضتين جاء في إحداهما أنّ الله -تبارك وتعالى- أنزل التخفيف واليسر لما يعلمه من ضعف خلقه في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم} (التغابن: 16) أي في سورة التغابن، وهذا ما نوافقه عليه لكنّه عاد إلى ذكر النسخ وأن آية آل عمران منسوخة بآية التغابن، ورد عليه أبو جعفر النحاس بعد أن ذكر إشارة الطبريّ أنّ قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُم} (التغابن: 16) نسخت قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: 102)، قال النحاس: «والحق أنّه لا ناسخ ولا منسوخ هنا، ولكنّها جرت على لسانه وفي روايته لاستسهالهم القول بالنسخ، أو لإرادتهم أنّ ما كان عليه العمل، فما كان عليه العمل وعليها بايع رسول الله الناس على السمع والطاعة فيما استطاعوا، عملًا بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ (التغابن:16)». وقال مفسّرًا قول ابن مسعود «بأنّ آية آل عمران منسوخة بآية سورة التغابن: إنّها نسخة ثانية من الآية، وليست منسوخة بها!!، قال طه: والحق أنّه جارٍ على عادة القرآن الكريم في بيان السقف الأعلى ليحفز همم المؤمنين إلى محاولة بلوغه، لكن ما يستقر التكليف عليه هو ما يقع في حدود الطاقه البشريّة للبشر العاديين، ثم يجيء بيان التخفيف والرحمة، فكأنه يبيّن في قوله تعالى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ (آل عمران:102) ما هو مطلوب على وجه الحقيقة والدقة من أفذاذ المؤمنين القادرين على الالتزام بالسقف الأعلى، ثم يخفف الله على الناس فيبيّن ما يقبل من الناس العاديّين ألا وهو الاستطاعة؛ ولذلك فقد أدرك قراء وفقهاء الصحابة، معنى الآيتين فقال ابن مسعود مثلًا في ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾: «أن تطيعوا الله فلا تعصوه وتذكروه فلا تنسوه وأن تشكروه فلا تكفروه وأن تجاهدوا فيه حق جهاده».

وقد قال أبو جعفر النحاس وهو من أشهر الكاتبين في الناسخ والمنسوخ: محال أن يقال هذا ناسخ ولا منسوخ إلَّا على حيلة (أي تأويل)، ومحال أن يقال: «اتقوا الله» منسوخ بأي ناسخ ولا ناسخ، وكلا الآيتين متفقتان على وجوب التقوى والمراد بها، لكن آية آل عمران ذكرت السقف الأعلى من التقوى وهو الذي فهمه ابن مسعود والآخرون، وذكرت آية التغابن التقوى كما يطيقها الآخرون العاديّون، وكذلك الحال في نحو قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة:286)، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ (الطلاق:7)، فذلك كله يعني أن الله لا يكلف عباده تفضلًا منه -جل شأنه- ونعمة ومنة إلا ما يقع في نطاق طاقاتهم وقدراتهم التي من عليهم بها».

وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود: «لما نزلت ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ ﴿يَا بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾»أهـ.

وهكذا علّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جيل التلقي كيف يفهمون القرآن من داخل القرآن وبالقرآن ذاته. كما أنَّه عليه الصلاة والسلام جعل من اتِّباعه للقرآن -وهو الذي أطلق عليه: «سنّة رسول الله»- تأويلاً فعليًّا وتفسيراً تطبيقيًّا وعمليًّا لآيات الكتاب الكريم. فحين نزلت آيات فرضيَّة الصلاة عليه ثم على أمته، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبع القرآن في ذلك فيأخذ بجميع الشروط التي أوردها القرآن الكريم، وأركان الصلاة المبثوثة في القرآن، ليصلي ويعلّم الناس الصلاة ثم يقول لهم: «صلّوا كما رأيتموني أصلي».

هذا النوع من التفسير، تفسير القرآن بالقرآن وقراءته بوحدته البنائيّة والجمع بين قراءته وتأويلات رسول الله وتطبيقاته باتّباعه له، ثم الجمع بين ذلك كلّه وبين الكون هو ما ميّز جيل التلقي ومكّنهم من بناء الشخصيّة المسلمة أولاً، ثم الحضارة الإسلاميّة ثانياً وتحقيق مقاصد القرآن الكريم في الواقع المعيش من توحيد وتزكية وعمران ثالثاً. وهذه المحاولة التي نُقدّم بواكيرها الآن هي خطوة في الاتجاه الصحيح، والرد إلى الأمر الأول الذي كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنحية العوائق التي تحول بين المؤمنين المتدبّرين وتدبُّر القرآن المجيد. سوف نجتهد لعمل ما في وسعنا لتحقيق هذا الهدف. وتقديم هذه الصورة نموذجاً سوف نتبعه -إن شاء الله ونسأ في الأجل وبارك في العمل- بنماذج أخرى. سائلين العلي القدير أن يزكي هذا العمل ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويرزقنا القول السديد والرأي الرشيد. ويجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وأحزاننا والمخُرج لأمتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنَّه سميع مجيب.

الدراسات القرآنية.. وتطوير المنهج

* كيف نطور -في نظركم- حقل الدراسات القرآنية اليوم منهجيَّا ومعرفيًّا؟

إنَّ تطوير البرامج والدراسات الخاصَّة بعلوم القرآن يحتاج إلى أمور عديدة:

أولًا: أهمها معرفة هذه المعارف أو العلوم بأنواعها، والوعي بتطورها وبداية الحديث في كل منها وفي مقدمتها التفسير.

ثانيًا: تدوينها وما صاحب ذلك التدوين من إشكالات.

ثالثًا: اكتشاف نقاط القوة والضعف فيها، وكيفية الاستفادة من نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف.

فإنَّ هذه المعارف والعلوم اختلفت الأنظار حولها، فهناك من ظن أنّها علوم أو معارف إذا أدركها الباحث وتعلمها فإنَّ ذلك سوف يُعينه على فهم أفضل للقرآن الكريم، ولكنَّ الناظر في المؤلفات التي كتبت والتي ما يزال بعضها متداولًا يستطيع أن يدرك أنَّ هذه المعارف مازالت تحتاج إلى كثير من العناية لتحقّق للراغبين هذا الهدف، ولقد حاولنا جهدنا أن نراجع هذه المعارف كما هي في كتبها الأساسيَّة التراثيَّة مع الاستفادة من بعض كتابات المحدثين ثم اقتراح البدائل التي نرى أنَّه لو وفّقت جامعاتنا للأخذ بها فستحقق طفرة -إن شاء الله- في دراسة هذه العلوم وتطويرها وإعادة الارتباط بين القرآن والمسلمين، وإزالة حالة الهجر القائمة بينه وبين الأمَّة. وسأطرح مقترحاتي في هذا المجال أمامكم وأمام قرّائكم لعل ذلك يساعد إن شاء الله- على مراجعة تراثنا في هذا المجال وتصحيح مسيرته، وبعد أخذ ذلك بنظر الاعتبار نقول:

المراد بـ«علوم القرآن» هي مجموعة من العلوم والمعارف التي وضعها علماؤنا المتقدّمون للتعريف بأمور تتعلق بالقرآن المجيد جمعاً، وتاريخاً، ونزولاً، وتسويراً، وتحزيباً، وتجزئة، وتفسيراً، وتأويلاً، ولغة، وقراءات، وأنواعاً، وأسماء، وصفات، وكتابة، ونسخاً، وإعجاماً، ومناسبات نزول، وإحكاماً وتشابهاً، وإعجازاً، وقصصاً، وأمثالاً... وما إلى ذلك.

إنَّ القرآن الكريم هو المصدر المنشئ للعقل المسلم وللثقافة والتشريع الإسلاميّين. كما أنّه المنشئ للأمَّة المسلمة، والباني لحضارتها، ولا يخفى أثره المباشر أو البيّن في سائر فروع الفكر الإسلاميّ والثقافة الإسلاميَّة وسائر مكوناتها، وله تأثير مماثل أو يزيد في علوم الفقه وأصوله وغيرها.

كما قدّم القرآن الكريم لأهل العلم «المنهج التجريبيّ» وكيفيّة البحث عن الحقائق، وكان لذلك أثره في نشأة «العلوم التجريبيَّة» التي عرفتها الحضارة العربيَّة وسائر المعارف والعلوم النقليَّة الإسلاميَّة؛ بذلك «المنهج العلمي» الذي جاء به القرآن، والمناخ العقليّ الذي صنعه القرآن بعد تطهير العقل من الخرافة والشعوذة، وأوضار الجاهليَّة، فمكّنه القرآن بذلك من استيفاء الشروط النفسيَّة والاجتماعيَّة المطلوبة للبحث والإنتاج العلميّ.

ولكن ذلك لا يعني أن نعدّ أنواع هذه العلوم -كلّها-، وسائر فروع تلك الثقافة، أو نسلكها جميعاً في قائمة العلوم أو المعارف التي أسماها العلماء بـ«علوم القرآن». كما لا ينبغي أن يتبادر إلى الأذهان أنَّ المراد بـ«علوم القرآن» علوم اقتبست في مبادئها وقضاياها، وأهدافها وملكات المعنيِّين بها من القرآن المجيد؛ لأنّهم قد أطلقوا هذا المفهوم على كل علم يخدم القرآن أو يستند إليه كما قال الزرقانيّ؛ قال: «وينتظم في ذلك التفسير، وعلم القراءآت، وعلم الرسم العثمانيّ، وعلم مجاز القرآن، وأسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم إعراب القرآن، وعلم غريب القرآن، وعلوم الدين واللُّغة، وإعجاز القرآن وأمثاله وقصصه» تندرج في «علوم القرآن»؛ لأنّها تخدمه من وجه أو آخر.