تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

من الدّولة إلى الإعلام : تأمّلات في جدل الفوضى والتّسلّط

إدريس هاني

في معنى السّلطة

هل للسلطة معنى؟ وهل للمعنى سلطة؟ من أي طرف أمسكنا بالمعادلة، سنجدنا أمام إحدى أهم العناصر المؤسسة لنمو الفكر السياسي في الاجتماع البشري. أما أن يكون للسلطة معنى، فهذا هو شرط استمراريتها وصيرورتها وإلا فهو قدر الثورات التي هي بالنتيجة محصل سبق وعي المحكوم لوعي الحاكم. ثمة ما يفرض على الحاكم أن يفكر ويراقب عملية التدبير للسلطة. وأما أن يكون للمعنى سلطة، فذلك مما يشكل عنصراً أساسيًّا في الدفع بالتوتر إلى الأمام. فالمعنى المتشكل على هامش التسلط الحافي يوشك أن يتربص به ويفرض عليه استحقاقاً في نهاية المطاف. إن المعنى يغير من السلطة كما تغير السلطة من المعنى. يجب أن نقرأ المعنى في تحولات السلطة مما لا يعني تجريم فعل التوتر الطبيعي الذي يكتنف صيرورتها. ويبدو أن تكثيف المعنى هنا يصبح غرضاً من أغراض تفكيك تحول هذه الأنماط بالنسبة لفيلسوف المعنى الحافر في بنية خطاب العقاب كما فعل فوكو. لكن هذا من جهة أخرى هو قدر السلطة وطريقها الممكن. وهذا يعني أن الحفر في تلك البنى والأنماط يسهل علينا فهم السلطة لا تجريمها بالضرورة. يعتقد ميشيل فوكو وهو يرصد تحولات أنماط العقوبة، بأننا مع هذا الانزياح المستمر من نقطة الارتكاز للعقوبات الملازم لفعل تلطفها المستمر نستطيع اكتشاف حقل من الأغراض الجديدة ونظام كامل جديد للحقيقة. لنقل هنا: إنه يضعنا دائماً أمام معنى جديد. إذا كانت تلك الأغراض والمعاني تستدعي أحكاماً قيمة كما فعل فوكو وهو يكشف عن أسرار العقوبات الكامنة، فإن هذا يعني أن لا طريق لانفتاح السلطة إلا بنجاحها في معانقة المعنى الواقعي والممكن. فالتجريم الفلسفي لأغراض السلطة على مستوى التأمل والخيال لا يقابله تجريم لها على مستوى المردودية الواقعية على صعيد الاجتماع السياسي في نوباته وحراكه ومساراته وتوتراته. فمع كل انفراج للسلطة يحدث معنى ويستعاد شيء من الإنسان داخل مجتمع المحكومين. إننا هنا نتحرك خارج منطوق الفهم بل نتحرك على مستوى تفهم الظاهرة. يلخّص جورج بالانديه مفهوم السلطة السياسية في جملة حقائق، كونها ضرورة. ولذا فقد تعرفت عليها كل المجتمعات حتى البدائية. وهي تسعى لصيانة المجتمع الداخلي ودفع عيوبه ومواجهة ضعفه للحفاظ عليه كدولة ضدّ الفوضى، بناء على رأي لوسي مير القائل بعدم وجود مجتمع تحترم فيه القواعد تلقائيًّا. وفي هذا تلجأ إلى أساليب شتّى من طقوس واحتفالات بوصفها أدوات العمل السياسي التي تلعب دور الحكّام وبيروقراطيتهم. ولكنها مراقبة من الخارج من حيث ارتباط المجتمع بالخارج بشكل مباشر أو غير مباشر. وهي من حيث بنيتها الاجتماعية لا يوحي انتشارها بضرب من المساواة بالضرورة. لعدم وجود مجتمع متجانس إلى حدّ الاستغناء عن السلطة. من هنا فاللاّتماثل في العلاقات الاجتماعية يعد شرطاً لوجود السلطة كما أن السلطة شرط صيانة مظاهر اللاّتماثل. وتنسج السلطة السياسية حسب بالوندييه علاقتها بالمقدّس، تبدو أوضح في حالة المجتمعات التقليدية.

الدولة بين وظيفة السلطة ونزعة التّسلط

للدولة تأثير ونفوذ وسلطة وتسلط. يمكن أن يكون لها هذا كله ويمكن ألَّا يكون لها إلاّ بعض منه حسب الشكل الذي تكون عليه الحكومة. لكن لا أحد أمكنه الاستغناء عن فكرة الدولة من دون أن تراوده فكرة الفوضوية. وقد يكون منشأ ذلك ليس فقط الإحساس بالحرية وسموّها على سائر القوانين والمؤسسات، بل قد يكون الأمر نابعاً من سوء تقدير الحاجة إلى الدولة في الاجتماع البشري. وبتعبير موتون كابلان، نكون مخطئين إن اعتبرنا الدولة مجرد أداة، لأننا اعتدنا على أن ننظر إلى الأدوات كأشياء غير أساسية يمكن الاستغناء عنها. لكن حتى في نظرتنا هذه للأدوات، فإنه مهما استغنينا عن بعض أنواع الأطعمة كأداة للحياة، فإن الطعام يظلّ ضرورة. من هنا يمكننا الاستغناء عن بعض أشكال المؤسسات السياسية لكن لا يمكن أن نستنغني عنها مطلقاً. فالحديث يصبح أجدى عن تسلط الدول لا عن أصل وجودها. وليس الحديث هنا عن السلطة مطلقاً بل عن شكل من التّسلط الحافي المجرّد عن أيّ مسوغ ويصعب هضمه في الاجتماع الحرّ. أعتبر التسلط الحافي ضرباً من الممارسة للسلطة العارية عن كل اعتبار لمن يقع عليهم التسلط. لذا فهي تمضي في خشونتها لا تحتاج إلى مراوغة أو نفاق. نفاق السلطة معناه إحساسها بواقع لا يعدم سلطة، شعورها بالمحتمل القريب أو البعيد والمفاجأة التي ترعب السلط الحافية، وفي منتهى هذا الشعور يوجد شعور لعله ما يشكل تاريخ تعقل السلطة، إنه الإحساس بأن مكمن سقوط السلطة يكمن فيها. إن أولى أشكال التعقل البدائية التي تشكل خطوة خارج التسلط الحافي هو التفكير والتدبير. يصبح الخطر المطبق على التسلط هو سكر القوة المانع من التفكير وانتفاخها المانع من التدبير. في أولى مظاهر تعقل السلطة يبدأ مشوار تشكل وتكثيف المعنى. فالتسلط الحافي عديم المعنى؛ لأنه لا يفترض وسائط إقناع بين الحاكم والمحكوم. إن بداية المعنى هو نفسه بداية وضع هذه الوسائط الإقناعية، أي تدشين عصر التواصل بين الحاكم والمحكوم. سيظل ميزان التفاوت بين الطرفين مستمراً، فيما نضال المحكوم يتجه نحو الرفع من سقف التمايز يواصل الحاكم مقاومة الإبقاء دائماً على الحد الممكن من التمايز: ففي التمايز يكمن المعنى الطبيعي للسلطة. ويبدأ تاريخ تكثيف المعنى لدى السلطة مع آخر لبنة متهاوية مع التسلط الحافي. هذا النوع من التسلط البدائي الذي يحيل على قانون الغاب، لا يمثل مفهوماً بسيطاً للسلطة فحسب، بل يمثل المعنى الاختزالي لأولى أشكال التسلط التي تنعدم فيها جميع أشكال المعنى غير فعل الإخضاع. حينما يتحقق تطور المجتمع ولا تراعي السلطة هذا الحراك، فإن الفارق بين أنماط التسلط وأنماط الوعي لدى المتسلط عليهم، يخلق توتراً فاضحاً لا يكون في العادة في صالح الحاكم. ويظهر الوجه الوحشي كلما لم يراعِ الحاكم شروط الاستقواء وأنماط السلط وتدبير القوة والعنف طبقاً لما تتيحه الأعراف الجديد لأنماط السلطة. لنتذكر كم بدت صورة العقيد القذافي وهو يخاطب أمة يفترضها في خياله البارنوياني، لا يمكن أن نتصورها أمة أصابها شيء من لقاح العصر الحديث. إنه يتحدث عن مجد الحاكم المطلق الذي صنع الشعب وأسبغ عليه كل النعم التي هي في النتيجة من كدح الشعب. ثم في لحظة استحقاق تاريخي يصبح الشعب نفسه غادراً بالأمير وجارفاً لوفاء الجماهير الكاذبة في ولائها. يصبح الشعب قطيعاً من الجرذان، بينما يستعاض بشعب من بائعي هوى الولاء ومرتزقة الحروب والأزمات، والأغرب أن الديكتاتور يقبل بأن يستبدل شعباً بشعب متى أزفت الآزفة. هاهنا تكمن واحدة من أكثر المفارقات، حينما يعتمد الديكتاتور المتلبّس بنزعته الطوباوية الرّثة على جيش من المرتزقة وسرّاق الله من بني شيبة. استبدال قوم بقوم أسوأ لا يصون مجداً ولا يحرز انتصاراً. فقد نصح ميكيافللي الأمير بألَّا يفعل ذلك، لأنه «علمتنا التجارب أن الأمراء والجمهوريات المسلحة هي التي تحقق التّقدّم، بينما لا ينتج عن المرتزقة إلاّ الأذى». في ثنايا هذا الجدل تكمن حكاية التسلط الحديث كلها. يخطئ من يعتقد أن مسألة التسلط حكاية عابرة في الاجتماع البشري. إن قمع الدولة الذي يعتبر إنجازاً حديثاً بكل ما تعني الكلمة من معنى، فإن ما رافقها من تقنيات القمع جعلها تتفوّق كثيراً عن كل أشكال الاستبداد في تاريخ النوع. وبتعبير فوكو: «أن تكون العقوبات بصورة عامة والسجن من مستلزمات تكنولوجيا الجسد السياسية، هذا ما علّمني إيّاه ربما الحاضر أكثر مما علّمني إيّاه التاريخ». إذا كانت الفوضوية مجّدت الثورة الدائمة والانعتاق الدائم من كل ما هو مؤسس، وعادت الدولة والقوانين، فإن التخطيء الجماعي لهذا النزوع لا ينفي أن أدق توصيف لتسلّط الدولة يوجد عند الفوضوية لا عند أنصار الدولة. فهم لا يرون فيها إلاّ تقييداً وإعاقة ورقابة. وعند ماكس شتيرنر تبدو كل دولة طاغية أيًّا كان نمطها، حكم فردي أو جماعي. إنها دولة شمولية ليس لها هدف غير فعل التقييد للفرد وتتبيعه وإخضاعه. إنها «تبحث بواسطة الرقابة عيونها بوليسها عن إعاقة كل نشاط حرّ وتجعل من هذا القمع واجبها الأساسي. وهذا مفروض على الدولة بسبب غريزة حب البقاء». وعند برودون تلك هي قضية الدولة؛ في البدء كانت متسلّطة. ففي نظره أن تكون محكوماً يعني «أن تسجن أو تفتّش، أن يتجسس عليك، أن تقاد، أن يشرع لك، أن توضع لك النظم، أن تحشر، أن يفرض عليك الرأي، أن تراقب، أن تقيم، أن تمنع، أن تؤمر من قبل أناس ليس لهم لا الصفة ولا المعرفة ولا الفضيلة (...)، ثم إذا بدت منك أقل مقاومة أقل شكوى تضطهد تعاقب تسجن تباع ينتهك شرفك تضرب بالرصاص، هذه هي الحكومة، هذه هي عدالتها هذه هي أخلاقها، أوه أيها الإنسان كيف انحنيت ستين قرناً لهذه اللعنة». وقد اعتبر برودون أن لا شيء إيجابي في الدولة. إنها فساد كلها يجب اجتثاثها كلها. الثورة تعني اللاّدولة. لا تكون ثوريًّا في نظر برودون إذا كنت تؤمن بالاحتفاظ بالدولة أو أن تزيد في صلاحيتها. وحينما أطل عصر الحداثة السياسية وانبرى فلاسفة الحداثة في البحث عن صيغ ولو ملتبسة لتبرير فكرة الخضوع للصّالح العام، بوصفها لا تعارض أصل التحرر لدى الفرد والجماعة الإنسانية كُنَّا أمام شكل من أشكال التنازل عن فكرة التحرر الفردي المطلق. الدولة ضرورة والتحرر ضرورة. وحيث لا بدّ منها، فلا بد من التنازل عن بعضها. ربما تماهى منسوب الشعور الداخلي بالحرية في شكله المتواضع في الماضي مع فكرة الصالح العام، وهو الأمر الذي لم يعد ممكناً بعد ارتفاع منسوب التحرر الدّاخلي للفرد، ممّا فجّر تناقضاً بين الحرية الداخلية للفرد والنظام الموضوعي للجماعة كما ينزع هيغل. كان لا بد أن تتحدد سلطات الدولة كما لا بد أن تتحدد مساحات التّحرر. بين السلطة والحرية نفور أبدي. تريد السلطة أن تكبح كل الحرية وتريد الحرية أن تتحدّى كل سلطة. ذلك لأن السلطة حينما تنبع من الغلب لا من التعاقد تصبح تسلّطاً. في مثل هذه الحالة تصبح السلطة ضرورة لتدبير عالم الأحرار حتى لا يقعوا في العدوان. الجدل حول ضرورة وجود الدولة أو عدمه جدل قديم. حدث في نطاق علم الكلام السياسي الإسلامي على هامش انقسام المسلمين إلى فريقين: سنة وخوارج. سنة هنا ليس المقصود به المذهب الفقهي بل المقصود إجماع المسلمين على ضرورة قيام الدول وحفظ النظام العام سواء أكان الحاكم برًّا أو فاجراً؛ وهو مذهب الفكر السياسي عند الشيعة والسّنة مقابل موقف الخوارج الذين رفضوا مبدأ الحكومة والدولة وقالوا: لا إمرة؛ لكنهم سرعان ما بنوا لهم دولاً صارمة في التاريخ الإسلامي. تلتقي فكرة الخوارج مع سائر الفوضويين بمن فيهم فوضوية القرن التاسع عشر بخصوص الموقف السّلبي من الدولة. الموقف الرفضوي للدولة نابع من موقف أصيل من التسلط الحافي. تأثير الفوضوية أو الخوارجية على الفكر السياسي لا حدود له. لقد غلبت الفوضوية على سيد قطب الذي كان له الأثر البارز على الأدبيات السياسية للحركة الإسلامية في كثير من البلاد العربية. كانت فكرة الحاكمية وفلسفتها ذريعة عند المودودي للظفر بدولة إسلامية مستقلة عن الهند. لكنها أصبحت مع سيد قطب نبذاً للدولة حتى لو كانت دولة المسلمين. لا شكّ رغم التشابه الكبير بين سيد قطب وملهمه المودودي، في وجود خلاف كبير بينهما. دعا المودودي إلى دولة إسلامية بمعناها السلطاني دون أن يدري بينما احترز سيد قطب عن تفصيل الدولة، لأنّه كان يعيش المعنى المثالي للخلافة التي لم تقع. لذا بقدر ما حاول المودودي البحث عن ذرائع للسياسة الشرعية لعثمان بن عفّان، كما فعل في كتاب «الخلافة والملك»، كان سيد قطب عاجزاً عن إعذاره كما فعل في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام». لذا نجح المودودي في بناء الدولة لأنه نظر إليها كدولة وسلطنة حتى وهو يتحدث عنها كخلافة، بينما عجز سيد قطب عن بناء دولة لأنه نظر إليها كلادولة، كطوبى، ومع ذلك قاده الوعي الشّقي الذي أنتجه الالتباس التّاريخي عن مفهوم الخلافة وعلاقته بمفهوم السلطنة كي يكون شهيد طوبى الحاكمية. وكانت أن وجدت هذه الفكرة صدى وقابلية للاعتقاد من قبل صنف من المتلقين، لأن الثقافة الفوضوية مقنعة ولها جذر في الثقافة العربية والإسلامية؛ في البداوة التي تناهض فكرة الدولة، وفي الخوارجية التي قالت: لا حكم إلاّ لله، وفي طوبى الخلافة التي لم تتحقق في التّاريخ. فلقد وجد في الفكر الإسلامي ومفهوم الحاكمية أفضل تعبير عن نزعته الفوضوية تجاه تسلط الدولة. فلا يوجد فرق بين ما دعا إليه برودون حينما قال: «حكومة الإنسان للإنسان عبودية». وما دعا إليه قطب في أصل رفض تسلط الإنسان على الإنسان حينما نزع في (معالم في الطريق) إلى أن تشريع البشر للبشر هو في حكم استعباد البشر للبشر وانتزاعاً لأخصّ خصائص الألوهية التي هي الحاكمية. لم يشغل سيد قطب نفسه بطبيعة القيادة في الدولة الإسلامية وما هي خصائص الحاكم. فأمام كل تساءل حول فقه الدولة وسياساتها كان سيد قطب يجيب بتأجيل هذا الجواب إلى حين تأسيس الدولة. لقد اهتم سيد قطب بالقضية الكلية في مسألة الحكم والتسلط. لكنّه عزف عن التفصيل. مع أنّ شيطان الخلاف السياسي يكمن في التفصيل لا في الإجمال.. في الواقع لا في الطوبى. وقد كان سيد قطب داعية طوبى لا داعية سلطنة. في كلّ بيئة ينشأ فيها الفوضويون والخوارج، تكون ثمّة أزمة تسلط حافٍ. لم يكن سيد قطب من الخوارج بالمعنى الذي تعرّفه لنا كتب الملل والنحل، ولكنه ضرب على الوتر الحساس الذي لا حدود لمتاهته. إن الخوارج أنفسهم كانوا قبل ذلك يؤمنون بالدولة والحكومة. لكن ما يهمنا هنا أن نبرز أن النزعة الفوضوية قديمة قدم التّسلط، تزداد حدّة مع اشتداد التسلط. بل هي منتج للتّسلط الحافي لا يوقفها دين ولا عقل.

الفوضى والطغيان مهلكان للعمران البشري

السلطان العاري في نظر برتراند راسل يختلف عن السلطان التقليدي كما تظهر ذلك مواقفه من الرعايا. فالسلطان العاري هو السلطان «الذي لا ينطوي على تقبل من جانب الرعية»، كسلطان القصّاب على أغنامه وسلطان الجيش الغازي على شعب مقهور. والفرق هنا هو الفرق بين سلطة دولة على رعاياها الموالين فهو من النوع التقليدي بينما سلطانها على رعاياها الآبين للخضوع لها من النوع العاري. وأحياناً يبدو التّمييز بين السلطان العاري والسلطان التقليدي أمراً نفسيًّا ونسبيًّا. فهي قد تكون عارية بالنسبة إلى صنف من رعاياها، تقليدية بالنسبة إلى صنف آخر منهم. ويمكن أن يصبح التقليدي عارياً والعكس صحيح. ولعله من ميزات السلطان العاري الذّي ارتبطت به معظم مخازي التّاريخ البشري، هو من يحترمه الأتباع لمجرد أنه سلطان. ويعتبر برتراند راسل أن عمر السلطان العاري محدود ونهايته حتمية عادة ما تأخذ أشكالاً ثلاثة: احتلال أو قيام نظام ديكتاتوري مستقر يتحوّل إلى نظام تقليدي أو قيام دين جديد. لم يكن برتراند راسل فوضويًّا، لأنّه آمن بالدولة. فقيام الحكومات نابع في نظره من الأسباب ذاتها التي أقرها سابقوه من أمثال هوبز وروسو ولوك ومونتيسكيو، بل وقبلهم الآداب السلطانية نفسها من كون الحكومة بغض النظر عن الحاكم ضرورة لحفظ النّظام العام. فالنزوع إلى الحياة الجماعية هو كذلك عند راسل أمر وجداني ولكن رغباتها على خلاف ما عليه رغبات النحل، هي رغبات فردية. من هنا تبدأ المتاعب في حياة الجماعة وتصبح الحاجة ناجزة لقيام الحكومة. من دون قيام الحكومة تستطيع قلّة قليلة فقط من الناس الأمل في البقاء. فهي ضرورة من هذه النّاحية لكنها من ناحية أخرى تنطوي على عدم تكافؤ في السلطان. لم يكن راسل في وارد إيجاد مخرج لعراء السلطان بل أقرّ بضرورته. لكنه طالب بألَّا يتعدّى العراء الحدّ الأدنى. فالتعايش مع السلطان العاري في حدّه الأدنى هو المخرج الممكن. لذا اعتبر أن وجود السلطان ضرورة أيًّا كان على رأسها برّ أو فاجر، «للحكومات أو للمغامرين من الفوضويين». وحينئذ لا بد من وجود سلطان عار ما دام هناك ثوار ضد الحكومة أو مجرمون عاديون أيضاً. ولكن في نظر برتراند راسل إن كنّا نسعى لحياة إنسانية أجدى من مجرد شقاء رتيب، فلا بد «أن يكون هذا السلطان العاري أقلّ ما يمكن». إن الفوضوية تؤدّي إلى النتائج نفسها للطغيان. وإذن ما المخرج؟ لا بد من البحث عن حلّ وسط ما دام «الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة، ومن الضروري العثور على نوع من التفاهم على حلّ وسط، إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة». وهنا يبدو الحديث عن مخارج الفكر السياسي حديثاً واقعيًّا لا يرقى بالحلّ الديمقراطي إلى منتهى الطوبى بل يجعله حلًّا ممكناً مع بقاء آفة الحكومة من حيث عدم تكافؤ السلطان. ويدخل هذا فيما يسمّيه برتراند راسل بترويض السلطان. ويضرب لذلك مثلاً بحكاية كونفوشيوس الذي مرّ بالقرب من جبل تاي، حينما أبصر امرأة واقفة على قبر وتبكي بمرارة. وحينما سألها المعلم كونفشيوس عن سبب بكائها، قالت: كان والد زوجي قد قتله نمر هنا وكذا زوجي وها هو ابني أيضاً يموت الميتة نفسها. فلمّا سألها المعلم: لم لا تتركون المكان إذن. أجابته المرأة: ليست هنا حكومة ظالمة! يستخلص كونفوشيوس حكمته الخالدة من قول المرأة، وهو ينبّه: تذكّروا قولها يا أولادي: «إنّ الحكومة الظالمة أشدّ فظاعة من النّمر». لاحظ كيف تلتقي تلك الحكمة السياسية مع ما جاء في عهد علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر النخعي: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لله واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». وعليه، يستخلص برتراند راسل من حكاية كونفوشيوس، أنّ محاولة ترويض السلطان أمر قديم في التاريخ. وحيث ظنّ الطّوباويون أنها مشكلة لا حلّ لها، دعوا إلى الفوضوية. آخرون مثل كونفوشيوش دعوا إلى تخليق السلطان وتحويل الحاكم إلى حكيم عادل. بينما سعت الديمقراطية في هذه المحاولة لكبح جماح مساوئ السلطان. الحلّ الوسط الذي يقترحه برتراند راسل هو الديمقراطية إذن. وإذا وضعت هذه الأخيرة في سياقها استطاع الإنسان أن يدرك بأنها الحلّ الممكن في غياب الحلّ الجذري والكامل. بل هي جزء جوهري من الحل. إن «الديمقراطية لا تضمن الحكم الصحيح، ولكنها تحول دون شرور معينّة». الحاجة إلى الديمقراطية لا يعني أنّها الشكل السياسي الوحيد المطلوب لترويض السلطان، إذ «من الممكن أن تمارس الأغلبية طغياناً وحشيًّا لا ضرورة له مطلقاً على الأقلية». بل و«حيثما وجدت الديمقراطية، تكون هناك حاجة ما زالت قائمة لحماية الأفراد والأقليات من الطغيان». وفي تقدير برتراند راسل أن كلّ أساليب الديمقراطية بما فيها الفصل بين السلطات عند مونتيسكيو جاءت في سياق محاولة ترويض السلطان. غير أن فصل السلطات نفسه لم يحقق يومها نتائجه في مثال الفصل بين وزارة الحربية وحرس الفرسان للحؤول دون ديكتاتورية عسكرية، لكن نتائجه في حرب القرم كانت مفجعة. في نظر برتراند راسل أن أساليب القرنين الثامن والتاسع عشر في كبح السلطان الاستبدادي غير صالحة لظروفنا الراهنة. وما كان من الحلول مستحدثاً هو الآخر لا يتمتّع بالكفاية والتّأثير. يمكننا تلخيص هذا المنظور الراسلي للسلطة في الآتي: وجود السلطان ضرورة تحتّمها طبيعة الرغبات الفردية للمخلوق البشري. وذلك علّة قيام الحكومة. ووجود السلطان العاري ضرورة أيضاً ولكن المخرج من تسلّطها لا يكمن في الفوضوية كما لا تستقر سعادة المخلوقات البشرية في الطغيان. فوجب البحث عن مخرج وسط، هو الحد الأدنى من الطغيان العاري. ومن هنا حكاية كل المحاولات التاريخية لترويض السلطان العاري. وخلال كل هذه الحقب كانت الديمقراطية هي المخرج الوسط الأكثر واقعية وإيجابية لكنه لم يكن المخرج الكافي والكامل لمشكلة الاجتماع السياسي. إن سكنى الحلّ الديمقراطي هي ما بين التسلط العاري والفوضى. إنه يجد الحلّ في التقليص من طغيان السلطة ليس إلاّ. لذا بات واضحاً ووفق هذا المنظور الراسلي أن الديمقراطية ومساوئها لا تمنح شرعية للفوضويين والخوارج، كما أنها لا تمنح خيالاً خصباً للتعاطي معها كطوبى.

التسلط وموت السياسة

السياسة والتسلط لا يجتمعان. وإنما جاء التسلط ليسد منافذ السياسة. للسياسة مناخ مختلف مهما بدا ضبابيًّا إلا أنه يختلف عن مناخ التسلط. تريد السياسية أن تمارس بقواعد تفرض حدًّا أدني من الشراكة بينما التسلط هو استفراد بالسلطة واستبداد بالرأي. في عراق صدّام حسين وفي ليبيا القذّافي وغيرهما تأخرت السياسية حتى أكثر منها في البلاد العربية الأخرى، لأن السياسة لم تمارس هنا على أصولها ولا حتى بنفاقها ومغشوشيتها. في مناخ التسلط تضمر السياسية ويمسي لها أنين وفي أغلب الأحيان تصبح السياسية سلعة كمالية غير مرغوب فيها في ظل نظم تعتبر السياسة ترفاً برجوازيًّا وثرثرة ومضيعة لوقت ثمين يجب أن يصرفه الشعب في ملحمة التصفيق الكبرى للزعيم. غاية التسلط هو تكريس الرعب والحرمان من الشعور بالاطمئنان. وليس بعيداً أن يذكّر مونتيسكيو بأن مبدأ الحكومة الاستبدادية هو الخوف والخشية. هذا مع أن ميكيافللّي سبق ونصح الأمير بأن يفرض الخوف منه إن لم يظفر بالحب من الرعية. ولكنه نصح بأن يفرض الخوف منه بطريقة تجنّبه الكراهية؛ خوف بلا كراهية أو بتعبير ميكيافلّلي: «الخوف وعدم الكراهية قد يسيران جنباً إلى جنب». ولا أهمية عند مونتيسكيو لكثرة القوانين بالنسبة لشعوب مضروبة ويساورها الخجل والجهل. يكفي هنا فكرتان أو ثلاث. تماماً كما نفعل في السيطرة على الوحش، تكفينا ضربتان أو ثلاث على الرأس. الأمر السلبي في نظر مونتيسكيو ليس في أن تتحوّل الدولة من حكومة متطورة إلى حكومة متطورة كما لو كان من الجمهورية إلى الملكية أو العكس، بل تكمن السلبية في أن تتحوّل من حكومة متطورة إلى حكومة استبدادية وتسلطية. إنه لا يوجد شيء جيّد في ظل التّسلط بما في ذلك القوانين نفسها. ذلك لأن الحكومة الديكتاتورية لا تفتأ تستمر في الفساد، لأن مبدأ الحكومة الديكتاتورية المتسلطة فاسد في الأصل. تزدان القوانين وتكسب قيمتها مع صلاح المبدأ. ذلك لأنه ما أن تفسد مبادئ الحكومة، حتّى تصبح أفضل القوانين أسوأها. وحينما تصلح تلك المبادئ يصبح لأسوأ القوانين فاعلية القوانين الأفضل. إن قوة المبدأ هي التي تؤدّي إلى كل شيء.

توحش الخليقة وميلاد القوانين

توجد أخطاء شائعة ليس في معاني الألفاظ فحسب، بل في المفاهيم والأفكار. ويصبح لهذه الأخطاء تاريخ بفعل التراكم فيفسد المعنى وتحل الفوضى. ومن ذلك ما قيل في حقّ توماس هوبز وهو يؤسس في لواياثان لأبرز معاني القانون الطبيعي ودرء الفوضى والعنف. لم يشأ هوبز أن يهين الناس وهو يذكّرهم بطبيعتهم الوحشية، حينما قال: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». ومع أنه ليس وحده الذي أشار إلى ضرورة النظام والقانون والعقد الاجتماعي لتستقيم الحياة الجماعية ويستقر هذا الكائن السياسي في اجتماع تنمحي منه أسباب العنف والفوضى، إلاّ أننا لم نشأ أن نفهم المغزى العميق والسليم لعبارات يجب أن تقرأ في سياقها. إننا سنفهم الأمور كذلك إن نحن أخطأنا أنّنا نحن البشر لنا طبيعتان: أولى وثانية. فإذا كانت الثقافة والأخلاق تمنحنا طبيعة ثانية بها تتشخص معالم إنسانيتنا المدجّنة، فإن طبيعتنا الأولى تتصرّف بوحشية. وهنا كان أحرى أن ننصت جيّداً لهوبز وهو يتحدث عن هذا المصير الوحشي للاجتماع البشري إن هو لم يندمج في الطبيعة الثانية التي ينتج عنها العقد الاجتماعي. ومع أن هوبز أقرّ بالبيعة الجماعية الحرّة التي تعني التنازل عن جزء من الحرية الشخصية للحاكم بموجب العقد، إلاّ أنه رفض الثورة، لأنّ الحاكم في نظره ما أن يصبح حاكماً حتّى يصبح غير قابل للعزل. كأنّه منح الاختيار للمرّة الأولى فحسب. لكن لا ننسى أن هوبز نفسه أكّد على حتمية العقد الحرّ. وأنّ الناس لم يختاروا حاكمهم خوفاً منه وإنّما خوفاً من بعضهم بعضاً. ليس الإنسان شرّيراً في نظر هوبز، بل تلك هي طبيعته الأولى التي لا يعتبر بموجبها فعله الفطري خطأ. بتعبير آخر ليست تلك الشرّانية معيارية بقدر ما نظر إليها من زاوية الثقافة الثانية ومعايير الاجتماع المدني. إنه لا ينفي أن ثمة رغبة فطرية في الناس للاجتماع. وهو محق في ذلك، لأن هذه الرغبة غريزية قد تجد لها نظائر في عالم الأنواع غير الناطقة، ولكنه يفرق بين مجرد الرغبة الغريزية في الالتقاء وبين تأسيس المجتمع المدني. فالثاني هو مرتهن لشروط وضوابط مدنية. وإذا لم يخضع الإنسان لشروط وضوابط المجتمع المدني، يوشك أن يتوحّش. التوحش من شأن الطبيعة الأولى للإنسان. والرغبة في الاجتماع جبلّية. لكنها لا تمنح قواماً مدنيًّا للاجتماع كما لا تنفي التّوحش عن الاجتماع. وفي هذا يستوي الحاكم والمحكوم لأنهما من طبيعة بشرية واحدة. بل إن الاجتماع الطبيعي المعبّر عن رغبة الاجتماع هو نفسه سبب في فقد ما لا يعدّ خطيئة في التصرّف الفطري للإنسان. فالإنسان الذي يولد في حالة من المساواة سرعان ما يفقد هذه الطبيعة وهذا الإحساس بموجب الاجتماع. ولا يستعيد المساواة حينئذ إلاّ بفضل القوانين. لا تستقيم السياسة إذن في اجتماع غير سياسي، أي غير مدني، مهما بلغ الخداع المؤسسي مبلغه. ولا توجد نظم تسلطية غير وحشية. وليس معنى ذلك أن شرط التّوحش ألَّا تكون هناك دولة. فالدولة تكون مع العدل مثلما تكون مع الظلم. وإن كانت مع الكفر قد تدوم ومع الظلم لا تدوم. ففي الاجتماع الوحشي الموسوم بمجتمع اللاّدولة لا توجد الحاجة إليها بعد أن تماهى الناس هناك مع الطبيعة تماهياً مطلقاً حتى لم يعد بموجب مبدأ المشاركة ينظر آحادهم إلى نفسه أنه ناس أو نسناس. وحيث قبلنا أن ننظر إلى أنفسنا كناس وجرّمنا ما لا ينبغي لنا من سلوك النسناس، حقّ أن تكون لنا دولة واجتماع سياسي ومدني. إن السلطة وهي مفسدة للسياسية والثقافة والاجتماع، بل إن السلطة مفسدة للسلطة نفسها، لذا وجب ممارستها كوظيفة لا كتسلط، وحتى لا نطغى في الميزان، قالوا: إن السلطة توقف السلطة (le pouvoir arretera le pouvoir)، فوجب الفصل بين أنواعها واحترام حدود بعضها بعضاً.

الإعلام بين السلطة والتسلط

إن صحافتنا مثل سياستنا ترفض النقد وتعد نقادها بمصير مظلم إن هم امتلكوا يوماً شيئاً من الجرأة لتقويمها. وبخلاف ما فعله أمبرتو إيكو مع عينات سمّاها بأسمائها حتى من الصحافة التي يتوفّر فيها على عمود شهري قار (l , espresso)، فإن شيئاً كهذا غير مسموح به عندنا حتى مع أبعد الصّحف. إنّنا نفتقد الجرأة التي يمتلكها أولئك النقّاد في المجتمعات الحرّة. وهذا أكبر دليل على تسلّط إعلامنا، أو لا أقل، نقول: ذاك هو نصيبه من السّلطة العارية. ألا ترى أن السّلطة العارية نفسها لا تمارس تسلّطها إلاّ من خلال سلطة الإعلام. وأحياناً تفوّت للإعلام مهمّة التّسلط على المواطنين أو خصومها. وأحياناً لا يبدو الأمر له صلة بتمثّل سلطة إعلامية بل باستعارة سلطة أو سلطات من خارج المهنة والمهنية، بعد عدم الإحساس بالتشبع بالسلطة الرابعة النّابعة من قوّة الحقيقة؟! وبدل أن تراقب وتكشف عن شطط السلط فهي تتماهى مع السلط وتسرق أحياناً صلاحياتها أو تستند إلى السلطة المستعارة للمساهمة في تجهيل المجتمع. يولد الملك في بيت السياسة وفي كنفها كحاكم بالقوّة قبل أن يصبح كذلك بالفعل. لذا فحياته منذ الطفولة تدريب على فنّ التدبير وفهم الوقائع ودراسة مشكلات الحكم وأخطار السياسة ومكرها. لكن هناك من يسعى من صنّاع الإعلام أن يكونوا ملوكاً لمجرّد أنهم صدّقوا أنّ الإعلام بات سلطة مضافة إلى السلطات الثلاث. في الوقت ذاته، لا يولد الإعلامي ملكاً ولا حتى إعلاميًّا، فقد يقوده قدره إلى مهنة المتاعب التي قد تكون بالفعل متاعب ناتجة عن قهر الدولة كما تكون بالفعل متاعب ناتجة عن نزعة تسلّطية تتشكل داخل السلطة الرابعة تقوم على خلط الإعلامي بين الطموح المهني والطموح غير المهني. ومن هنا يتحول الإعلام تدريجيًّا من سلطة مراقبة ومعرفة الى تسلّط وفعل الضغط والمناورة. والفرق بين الطموح المهني وغيره، أننا في كل مهنة نملك حق الطموح في الترقي في تراتيبها الإدارية أو الرمزية. فالقاضي لا يطمح في الوضع الطبيعي إلا أن يكون قاضياً ذا سمعة كبيرة في مجال القضاء. لكن طموح بعض الإعلاميين يفوق كونه طموحاً مهنيًّا يستند إلى الإصرار على تحقيق السبق الصحفي والريادة في مجال الصّدح بالكلمة الحرّة، بل يصبح طموحاً خارج المهنة التي تبدو في نظرهم مجرد وسيلة للقفز إلى ما بعدها. يسعى كثيرون إلى الضّغط قصد نيل مواقع سامية في الدّولة أو حظوة مريحة في بيت السّلطان أو تحقيق انتصارات تسلطية يلعب فيها ضرب آخر من الحاكمين الذي يسودون ولا يحكمون كما سماهم إدموند دي نيفير؟! أي المليونيرات (والمليارديرات). فتصبح الجرأة على المعرفة والكلام مشروطة ومحكومة بقمع المليارديرات الذين يسودون ولا يحكمون. لقد قيل مجازاً: إن الإعلام غدا سلطة رابعة. إن المفاهيم الجديدة عن السلطة مكّنت من هذا التعبير الشعري حتى وإن كنّا لا زلنا نتحدث عن حقّ الإعلام في ممارسة دوره المهني في الإخبار المقدس والتعليق الحرّ. ولم نتحدث عنه كسلطة رابعة فعلية من بين الثلاث التي ينتظم بها الاجتماع السياسي الحديث. وفي مجتمعاتنا المتخلفة سياسيًّا نتحدث عن تورّط الإعلام في لعبة التّسلط، أي حرب السلطات فيما بينها. لقد قيل: إنه سلطة رابعة، ولذلك حكاية تجلّت في أنّ الإعلام استطاع ذات مرّة أن يسقط رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة خبر. ولو ابتعدنا قليلاً عن هذا المجاز، لاعتبرنا أن الذي أسقط نيكسون هو كذبته لا حقيقة الشطط في استعمال السلطة للتجسس على الحزب الغريم. وحسب أمبرتو إيكو كان ذلك حقًّا سبقاً في تاريخ الصحافة حيث قبل هذا التحقيق الذي أجرته الواشنطن بوست بخصوص واترغيت لم تكن ثمة سابقة في الصحافة في شكل حملة ضد شرف الرئاسة. ومع ذلك كان بإمكان نيكسون أن ينجو من هذا التدليس باتهام بعض معاونيه المتحمّسين. لكن الحملة الصحافية راهنت على أن الرئيس الأمريكي يكذب. ويبدو أنّنا أمام التجربة نفسها مع كلينتون عشية الحملة الصحفية بخصوص قضية لوينسكي. فالمسألة ازدادت إثارة حينما كذب الرئيس في بداية الأمر نافياً أصل القصّة قبل أن يعترف بذلك. يتعلّق الأمر بأهمية السلطة الأخلاقية التي يتمتّع بها النّاخب الأمريكي تجاه رؤسائه في البيت الأبيض. ولولا هذه السلطة الأخلاقية، لكان الأمر مختلفاً تماماً. لنفترض أنّ مثل هذا الحدث تكرر في أي بلاد تختلط فيها السياسة بالبلطجة والصّدق بالكذب السياسي، ماذا كان بالإمكان أن يحدث يا ترى؟ بالتّأكيد سيتصابى المتّهمون ويلجؤون إلى الاحتياطي الثّقافي في معجم صغار الكذبة واللصوص في (زنگاتنا)، ولن يعبأ أحدهم إذا قال على سبيل الحسم عبارات من قبيل:

ـ نحن أحياناً مضطرون للكذب من أجل الصّالح العام، لأن السياسة هكذا!

ـ لسنا وحدنا من فعل ذلك، انظروا إلى العالم ماذا يفعل!

ـ لماذا تركّزون على من تورط في ملف صغير للاختلاس وانتهاك القانون ولا تركزّون على المختلسين الكبار للمال العام!

ولا نستغرب دائماً إذا قالوا: لم يحدث هذا قط، وطارت ولو عنزة؛ فإن الصّورة تكذب والسياسي لا يكذب!

الكذب هنا فضيلة سياسية حينما تأتي بمردود سياسي. والكذبة لا يغادرون السياسة بل يستمرون فيها كفاعلين، يخرجون من باب ويدخلونها من أبواب أخرى. ويساعد في ذلك الالتباس والغموض كما لو كنّا أمام دول يحكمها الملثّمون وزبانية مجاهيل. وحال الإعلام هنا كذلك لا يهتم بكذبة الساسة من حيث هي كذبة ما دام الإعلام عندنا صناعة للكذب أيضاً. ولكنه يمارس روتينه المهني ولا يعبأ بفساد الأذواق وانهيار منظومة القيم. يدعو الإعلام عندنا إلى ضرورة الفصل بين السلط، لكنه لا يريد أن يخضع لأي سلطة حتى حينما يخرج عن القانون ويصبح في وضع يبرر خضوعه لصلاحيتها. وهذا ما لا يحدث في الدول الديمقراطية الحقيقية، لأن الإعلام لا يوجد خارج القانون، وإذا ضبط كذلك فلا يلجأ لاستغلال سلطة الإعلام في التأثير على إجراءات العدالة. وإذ من حق الإعلام الهزيل عندنا أن يحتجّ دائماً كما لو كان فوق القانون وليس لدعم القانون، نظراً لواقع التّسلط والاستبداد، فإن ذلك ما قدّمت يدا الاستبداد نفسه حينما لا يفرض على الإعلام ضوابط من جنس الحرية نفسها. لأن الإعلام في مجتمع نامٍ سياسيًّا يستطيع أن يراقب نفسه ويحاكم نفسه لأن مجال اشتغاله ومنبع مصداقيته هو الحقيقة والضّمير. ويمكن للإعلام الفاسد أن يستمر من دون أخلاق المهنة في ظل الاستبداد، لكن مثل هذا النمط من الإعلام هو منتحر ومفلس في المجتمعات الديمقراطية التي يصبح القارئ فيها طرفاً ومراقباً أخلاقيًّا للإعلام، وليس وسيلة لتصفية حسابات بين سلط قد لا نراها. عادة ما يتحدث الإعلام عن أهمية الفصل بين السلطات. لكنه في حال تسلّطه يحاول أن يتجاوز اختصاصاتها أو لا يريد أن يخضع لتلك السّلط. وككلّ القضايا المائعة في مجالنا العربي، نفهم من الفصل بين السلطات سمو بعضها على البعض الآخر في كل نواحي السلطة لا في إطار الاختصاص فحسب، وهذا باطل. هكذا في الدول الديمقراطية الكلّ يخضع للقانون: القاضي والوزير والبرلماني والإعلامي. إن الموضوع يتعلق بعدم تدخّل أي سلطة في عمل السلطة الأخرى وليس معناه ألَّا تخضع لسلطة اختصاصها. على هذا الأساس يبدو أنّنا أمام الأساليب نفسها للتّسلط، لا يمثل فيها الإعلام الاستثناء. سلطة المعلومة جعلت من الإعلام نفسه ضحية. وكما تساءل دومينيك وولتون: هل الصحافيين الذين هم الرابح الأكبر من انتصار المعلومة والتّواصل، ألا يمكن أن يكونوا هم الضّحايا؟ يسعى الإعلام حينما يجتاحه طاعون التّسلط العاري، إلى الكفّ عن كونه سلطة رابعة، فيضع نفسه مكان القضاء والحكومة ومجلس النوّاب. وأحياناً يبدو أنّنا لسنا أمام سلطة رابعة بقدر ما نحن أمام امتداد لهذه السلط وسلط أخرى. ثمة عاملان إذن يفسدان الإعلام: السلطة والمال. لا يستطيع الإعلام أن يتحرر حينما يوجد في بيئة يسودها التّسلط الحافي والاستبداد أو الفوضى، كما لا يستطيع أن يتحرر حينما يوجد في بيئة الرأسمال الجانح. مشكلة الإعلام في المجتمعات المفتوحة أنّ التسلط يهجم عليه بسبب سلطة الريع لا بسبب السلطة السياسية. وفي الحالتين معاً وفي ظل غياب الرقابة والوعي الاجتماعي نكون أمام صناعة فاسدة للخبر، كما نكون في مختبرات حقيقية للتزييف وفي ماكنة رمزية لتكريس السلطة الحافية. الفرق هاهنا، أن السلطة الحافية التي تمارس في إطار إعلام يبدو ظاهره حرًّا، أنّه تسلط يتقن لغة الديمقراطية، ولا يمارس زواجاً كنسيًّا مع النّظام السياسي، لكنه يفضّل وظيفة بائعة الهوى على رصيف الضّحالة المهنية ومجون الرساميل. ليس ثمة للعاهرة من ولاء لأي من زبائنها؛ فمن يدفع أكثر يستمتع بكامل الجسد! حينما يخضع الإعلام لمنطق السوق وقانون العرض والطلب سيساهم حتماً في تكريس وضعية اللاّعدالة الاجتماعية، حتى عندما يستثمر في بؤس المهمّشين. كانت السوق دائماً سوقاً للاستغلال والسيطرة كما يقول ماركوز. لقد أصبحت الصحافة جزءاً منّا لا غنى عنها، ومن هنا تمارس الأشكال الجديدة لتسلّطها. إنّ هذه المصلحة الطبقية كما يؤكّد ماركوز، هي «التي تستخدم وسائل الإعلام الجماهيرية في تمجيد العنف والغباء وضمان عبودية المستمعين».

وفي المشهد العربي الكثيف بتناقضاته نقف على صناعة إعلامية هجينة وغامضة ومتسلّطة. ومع ذلك تشكل سلطة للتأثير في الرأي العام. وكمومس عمياء لا تبالي بشرف الكلمة الطيّبة، فإنها لا تهتم بترتيب مفارقاتها بالشكل المقبول والمقنع. لم يعد هناك ما يدعو إعلامنا لمزيد من بذل الجهد لعدم استغباء المتلّقي العربي. لا يتنّزه الإعلام العربي عن الانخراط حتّى في الحروب القذرة وممارسة التّسلط على الحقيقة. نحن أمام غرفة عمليات للتحريض وتحويل عملية الإخبار إلى لعبة استخبار. نحن اليوم نستطيع أن نقف على وضعية الإعلام العربي. فالقنوات الأكثر حرصاً على مواكبة مظاهر الاحتجاج العريض في أكثر العواصم العربية المهتزّة هذه الأيّام، خاضعة لسلطان عارٍ غير ديمقراطي. إنه شكل هجين للتّسلط الذي يضخّ الخبر القاتل بلياقة الرأي والرأي الآخر، تماماً مثلما تنفث الأفعى الرقطاء، ناعمة الملمس، سمها القاتل. وأمام مشهد يغلي بثورات واحتجاجات، يمارس الإعلام العربي اصطفافات لا مهنية ويعاقر مفارقاته بكثير من التّسلط على الضّمير وعلى قدسية الحقيقة. وتبدو معاناة الكائن العربي في هذا المشهد المتناقض غير سواء. في العالم العربي تخاصم إعلامان وتناقضا في تغطية الثورتين التونسية والمصرية، لكنهما ائتلفا في تغطية المشهد الليبي وانخرطا في العصبية نفسها تجاه حوادث أخرى كما يجري في البحرين. وتبدو الإطالة في الوصف لا جدوى منها، لأنّه لا مكان للمنطق والمعنى مع تسلّط حافٍ. ومع أن أزمة الإعلام وتسلّطه تبدو واضحة، إلاّ أنّ هذا لا يقلّل من نسبة المستهلكين له. يمنح الجمهور العربي للإعلام المتسلّط فرصة تكريس أخطائه والاستمرار في عدم العناية بالخبر والحقيقة. تَفْتِنُنَا مكانة الإعلام في المجتمع الغربي كما تدهشنا الحقوق المنجزة في طريق تسهيل مهمته، لكن لا نبالي بقوّة خدماته وضمير مهنييه. ففي المجتمع الأمريكي الذّي صدّر لنا حكاية استحقاق الإعلام لمنزلة السلطة الرابعة، نجدنا أمام مجتمع مختلف تماماً حتى أنّنا لا نقيس به المجتمعات الأوروبية. إنها ثورة جديدة مختلفة تماماً عن أصولها الثقافية والعرقية في أوروبا. وهو ما نجده واضحاً منذ القرن التاسع عشر مع توكوفيل واستمر مع كل باحث ورحّالة حتى اليوم. يتجلّى هذا التّميّز في كل النّواحي والأمر كذلك في مجال الإعلام. يضعنا إدموند دي نيفير الذي قدّم انطباعاً شاملاً عن الحياة الأمريكية ضمن جزأين موسومين بـ«الروح الأمريكية»، على حكاية الإعلام وسلطته في هذا البلد. إننا إذن في مجتمع النقد والمال والليبرالية بل الليبرالية المتوحشة. لكن هذا لا يمنع من أن المتلقّي الأمريكي له مشاعر ومزاج يعرف الإعلام كيف يخاطبهما ويستغلّهما بمهنية منضبطة ومهارة عالية. يتحدّث إدموند دي نيفير عن ثلاث سلط في الديار الأمريكية: سلطة الميليونير، حيث يسود ولكنه لا يحكم. يسود على المستوى الاجتماعي ويحتل المرتبة الأعلى في المجتمع. إنّه يهيمن على الخيال ويفتنه وينوّمه. ليست السلطة وحدها هي منشأ الشرف بل تحصيل المتعة يحقق ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. وتأتي بعد ذلك سلطة السياسي الذي لا يتمتّع بمكانة مغرية ومثيرة في المجتمع الراقي، ولكنه يحكم ويمارس سلطته داخل الإدارة والشّأن العام. ثم تأتي السلطة الثالثة الأكثر نفوذاً من الجميع لأن تأثيرها فوري في الحياة السياسية والأخلاق وروح الأمة؛ سلطة الإعلاميين. ومن المؤكّد أن مدراء الصحف الأمريكية في نظر دي نيفير ليس لهم هدف من وراء استعمال كل هذه الصّناعة غير الربح. ولكي يحقق الإعلام أرباحاً كبيرة، فعليه أن يُرضي اهتمامات القرّاء وإثارة فضولهم واستمالة نفوسهم ومخاطبة أعصابهم. لا شيء من هذا يمكن إهماله في الصحافة الأمريكية. إن الجريدة الأمريكية -حسب دي نيفير- هي بمثابة أونسيكلوبيديا تحتوي على مقالات متخصّصة تفيد كل المستويات والطبقات من القراّء: الميكانيكي والمحامي والطبيب والمفاوض والرياضيين والمؤرخين... وتحتوي على مدخل لكل المعارف الإنسانية. كل شيء يتمّ بدقّة ومن دون إهمال للتّفاصيل. هذه هي حقيقة الصحافة في الديار الأمريكية التي يحدّثنا عنها دي نيفير في زمن متقدّم، حيث كانت جديرة باحتلال موقع السلطة الرابعة، مع أن نيفير تحدث عن تقسيم آخر للسلطة أكثر واقعية لها: سلطة رجل الأعمال، سلطة السياسي وسلطة رجل الإعلام. قد لا يهتم المتلقّي الأمريكي -حتى لا نقول لا يمجد- بكذب الصحافة الأمريكية حينما يتعلّق الأمر بقضايا العالم الخارجي. المهم هنا ألَّا يتمّ الكذب عليهم في حدود عالمهم وما يهمّهم. ويحدث أن يهتموا بكذب صحافتهم في القضايا الخارجية حينما يصبحون عرضة لارتكاسات سياستهم الخارجية كما حدث في الفترة التي أعقبت احتلال العراق وأفغانستان. هذا فيما تتحدث صحافتنا وفي بيئة لا تهتم بالكذب ولا تحمل تصوّراً عمّا يجب أن تكون عليه الصّحافة المطالبة بالانخراط في مسارات التنمية والتنوير، عن حقوق باسم المهنية والمهارة التي لا تبدو أكثر جدّية من عبثيتهم الأخبارية. وحتى نتحاشى إعلامنا وتسلطه في المجال العربي، نشير إلى الطريقة التي يتمّ بها نقد الصّحافة في المجتمع الغربي. نتحدث هنا عن نقاش عمومي يجري بين نقاد أحرار يؤمنون بدور المثقف النقدي وبين إعلام قطع مشواراً طويلاً في المهنية. لن نجد أفضل من أمبرتو إيكو ومن الإعلام الإيطالي مثالاً عن ذلك. ففي نظر المفكر الإيطالي ورائد الهيرمينوتيقا لا مجال اليوم لقمع الصّحافة. لأنّ التقنية الحديثة باتت قادرة على تأمين مرور كمية من المعلومات لا مانع منها. وهي التقنية التي لا تستغني عنها حتى السّلطة التي تروم قمع الإعلام. وقد باتت سلطة الإعلام أكثر مما نتصوّر، فهي -حسب إيكو- تؤدّي الدور نفسه الذي كانت تؤدّيه الاستخبارات في الحروب التقليدية. تستطيع من خلال زخم المعلومات أن تحول دون تحقيق المفاجأة الضرورية لأيّ حرب. تستطيع الصّحافة التأثير في الحياة السياسية داخل مجتمع حرّ من خلال تكوين رأي عام. وفي هذا المجتمع تستطيع بل واجب على الصحافة أن تراقب نفسها بنفسها وتقوّم ذاتها. وفي حالة عمّت الشكوى بين الصحافة وعالم السياسة، فلا يعني أننا أمام حالة ضحية لأحدهما تجاه الآخر، بل ترى معالجة إيكو أن الصحافة والسياسة كلاهما شريك في هذه الوضعية التي تبدو شبيهة بسائر الوضعيات التي تشكو منها الصحافة الإيطالية في العالم. لقد كانت مشكلة الإعلام تكمن بحسب السجالات التي جرت في ستينات وسبعينات القرن المنصرم في موضوعين: الموضوعية والتبعية للسلطة. وحيث لم تكن وظيفتها يومها إخبار النّاس، بل كانوا مجرّد وسيلة، استعملت لغة مسنّنة لا يفهمها الشعب. ويرى أمبرتو إيكو أن الصحافة اليوم تخلّت عن هذه اللغة المسنّنة. وهي لم تفعل ذلك بمبادرة منها، بل لسبب بسيط أن لغة السياسيين تغيّرت. أمّا الموضوعية فقد بات واضحاً أنّ كثيرون لم يعتقدوا بوجود لخبر موضوعي في الصّحافة ماعدا النّشرة الجوّية. بل وحتى في حال التّمييز بين الخبر والتعليق يمكننا الحديث عن حكم ضمني ناتج عن عملية اختيار الخبر وطريقة عرضه. ومع أمبرتو إيكو نستطيع فهم الصّراع داخل مجال السلطة الرابعة نفسها. ذلك حينما تحدّث عن تراجع الصحافة اليومية إلى صحافة أسبوعية بعد أن فقدت سلطة السبق في الإخبار مع تطور خدمة التلفزيون وتعدد قنواته. هكذا تحولت اليومية إلى أسبوعية والأسبوعية إلى شهرية، ولكي تحافظ على الإثارة فهي تختلق الأخبار أو تحول ما ليس خبراً إلى خبر. بل المفارقة هنا أن اليومية باتت تتحدث عن التلفزة وتخضع لها ولأسلوبها، بل تسعى اليوم لمنافستها في نمطية اشتغالها. وليس هذا وحده من نتاج السباق والتّنافس داخل مجال السّلطة الرابعة، بل أصبحنا أمام حالة من حديث الصحافة إلى الصّحافة، «فحينما لا تتكلم الصحافة عن التّلفزة، فإنّها تتحدث عن نفسها». وفي اعتقاد إيكو أن هذا مكّن السياسيين من استغلال وضعية الصحافة، ليصبح القراء والمشاهدون «يتأمّلون عالماً سياسيًّا معجباً بنفسه كما هو حال ملكة بلانش نيج». يعتقد إيكو أيضاً أن للصحافة وظيفة أساسية من أجل النمو الحضاري للمجتمع وكذلك لتحقيق متعة العادة في اقتناء الجرائد التي باتت شبيهة بصلاة الصبح حسب تعبير هيغل.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة