تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مؤتمر: تعارف الحضارات : الإسكندرية 18 - 19 مايو 2011م

حسين آل غزوي

عقد في مدينة الإسكندرية المصرية في الفترة ما بين 14 - 15 جمادى الآخر 1432هـ، الموافق 18 - 19 مايو 2011م، مؤتمر دولي حول (تعارف الحضارات)، نظمته مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع مركز الحوار بالأزهر الشريف ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وقد شارك في المؤتمر جمع كبير من العلماء والمفكرين والباحثين من مختلف أقطار العالم العربي والإسلامي.

بدأت أعمال المؤتمر بجلسة افتتاحية ألقيت فيها كلمات الجهات المنظمة للمؤتمر، فألقى الدكتور صلاح الدين الجوهري مستشار مدير مكتبة الإسكندرية كلمة المكتبة، وألقت الدكتورة باكينام الشرقاوي كلمة مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وألقى الدكتور محمود عزب بالنيابة كلمة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، أشار فيها إلى أن الدين المشترك بين المسلمين وغيرهم من الأمم السابقة عليهم هو «التوحيد المطلق» والتصديق برسل الله وكتبه والإيمان بكل ذلك، دون تفرقة أو تمييز عنصري أو طائفي بين رسول ورسول أو كتاب وكتاب.

وبيَّن أنه لا ينبغي أن نفهم من اشتراك الرسالات الإلهية في دين واحد أنها تشترك في شريعة واحدة، كذلك فالدين مضمون ثابت في كل رسالة لا يتعدد ولا يختلف؛ وذلك لأنه يتعلق بحقائق الوجود الكلية الثابتة التي لا تتغير، بينما تختلف الشريعة وتتعدد بين رسالة ورسالة أخرى من رسالات السماء. ونعني بالدين هنا البيان الإلهي المتعلق بالأصول العامة المشتركة بين الرسالات الإلهية مثل الأخلاق والعبادات.

كما أشار إلى أن تلك الأصول القرآنية هي التي حكمت تصورات المسلمين وتركت بصماتها قوية وعميقة على علاقتهم بغيرها من أهل الأديان السماوية منذ أيامهم الأولى، فنحن نؤمن بموسى وعيسى كما نومن بمحمد سواء بسواء، ونعتقد بأن التوراة كتاب الله، وأن الإنجيل كتاب الله، وأنهما هدى ونور للناس. وقد يدهشكم أن تعلموا أن كثيراً من فقهاء الإسلام يقرون أنه إذا كان لا يجوز للمسلم أن يمس القرآن وهو جنب وكذلك المسلمة الحائض فإنه لا يجوز لأي منهما أن يمس التوراة أو الإنجيل حتى يغتسل.

ثم تحدث عن سماحة الإسلام مع الأديان وقال: إنه من خلال نصوص صريحة لا مجال فيها لغموض أو خفاء لابد وأن ينشئ حضارة سمحة ومنفتحة على الحضارات الأخرى، تتعامل معها من منطلق التعارف والتكامل، وليس من منطلق الصراع أو الإقصاء.

كما أشار إلى أن الأصول القرآنية التي ترتكز على وحدة الإنسانية وعلى شمول الإلهي للإنسان جعلت للآخر حقوقاً عدة يراعيها المسلمون ويحفظونها لغيرهم، مثل حق احترام الإنسان في ذاته بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه، وحق احترام العقائد مهما اختلفت وتعارضت مع عقيدة الإسلام.

وبعد برنامج الافتتاح بدأت جلسات العمل للمؤتمر، جلسة العمل الأولى كان محورها: «تعارف الحضارات.. الفكرة والتأسيس»، ترأسها الدكتور أحمد الخمليشي (مدير دار الحديث الحسنية للتعليم الإسلامي العالمي المغرب)، تحدث في هذه الجلسة ثلاثة متحدثون وهم الأستاذ زكي الميلاد (رئيس تحرير مجلة الكلمة وصاحب أطروحة تعارف الحضارات)، وحملت ورقته عنوان «لماذا مفهوم تعارف الحضارات؟ الفكرة والخبرة والتأسيس». تناول فيها نبذة تاريخية عن حوار الحضارات وقسمها إلى أربعة أزمنة، الزمن الأول تناول أطروحة المفكر الفرنسي المعروف روجيه غارودي وكتابه الشهير «من أجل حوار بين الحضارات» الصادر سنة 1977م، الذي يمكن وصفه بمثابة مرافعة محكمة في الدفاع عن قضية حوار الحضارات، تميّز بمنطق شديد التماسك، وبخطاب موثق بالشهادات والوقائع والحقائق، وبالنمط الذي يمكن اعتباره من الصور الفعلية التي تجسّد حوار الحضارات.

وأشار الميلاد إلى أن ما يعزز قناعة غارودي رؤيته بأن الإسلام لم يكمل ويخصب وينشر أقدم وأرفع الحضارات فحسب كحضارة الصين والهند وفارس واليونان والإسكندرية وبيزنظة، بل حمل إلى إمبراطوريات مفككة وحضارات ميتة روحاً حية جماعية جديدة، وأعاد إلى الناس ومجتمعاتهم أبعادهم الإنسانية والإلهية من تسامٍ وتوحد، كما أعاد خميرة تجديد العلوم والفنون والحكمة والقوانين.

كما أشار الباحث إلى أن غارودي كان ينطلق من مقولة حوار الحضارات في توجيه النقد التاريخي والفلسفي والاجتماعي للغرب، إلا أنه كان متوجهاً إلى الغرب في خطابه وليس للحضارات الأخرى، وأن الغرب هو المعني بهذه الدعوة لحوار الحضارات بقصد تصحيح مساراته بعد أن وصل إلى مأزق حضاري خطير، وبأن النظرية التي كوَّنها غارودي لحوار الحضارات أراد بها أن يخاطب الغرب بصورة أساسية؛ لذلك فهي تنتمي وتصنف على النظريات الغربية التي تنطلق من نقد التجربة الغربية والحضارة الغربية، كما أن النظرية كما يصفها الميلاد بأنها تنتمي وتصنف على النظريات الغربية لا يعني ذلك بالضرورة نقداً لها أو رفضاً أو إسقاطاً، وإنما القصد هو تحديد طبيعة الفضاء المعرفي والمرجعي لهذه النظرية، وفهم غاياتها ومقاصدها، وكيفية التعامل معها، وبالتالي لا يمكن الرجوع إلى هذه النظرية إلَّا في إطار التثاقف والتواصل الفكري والمعرفي، وليس الاعتماد عليها بوصفها نظرية كونية عامة، أو باعتبارها قابلة للتعميم على المستوى الإنساني، مع أنها قد تعد من أنضج النظريات في مجالها وأكثرها دعوة للانفتاح والتواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى غير الأوروبية، كما أشار الميلاد بأن قيمتها الرئيسية في النقد الذي وجهه غارودي للغرب وأراد منه أن يدفعه لمراجعة ذاته وتراثه وتاريخه، وأن يغير من نظرته إلى العالم، ويدخل في مصالحة مع الحضارات غير الغربية، والاستفادة والتعلم منها، واكتشاف مستقبله المشترك مع بقية العالم وليس مستقبله الذي لا يرى فيه إلَّا ذاته، ومع ذلك فقد بقيت أطروحة غارودي مجرد دعوة لم تتحول إلى تيار فاعل ومؤثر في الغرب والثقافة الغربية.

ثم تطرق الميلاد إلى الزمن الثاني وحمل عنوان: «هنتنغتون وصدام الحضارات» الذي تبلور في حديثه عن كتاب «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي» لصمويل هنتنغتون، ولفت الميلاد إلى أن هذه المقولة تمثل ارتداداً واضحاً على مقولة حوار الحضارات، وعلى ذلك النسق من الدراسات والأبحاث المقارنة لتاريخ الحضارات التي كرست مفاهيم التفاعل والتواصل والتعاقب، وتنتمي هذه المقولة لنسق آخر من الدراسات الغربية، ذلك النسق الذي اتصف بالتحيز المفرط وإظهار النزعة العدائية للآخر الحضاري، ومحاولة التوظيف اللاأخلاقي، وقد ارتبط هذا النسق في وقت سابق بعلاقات مباشرة مع مؤسسات التبشير وأجهزة الاستعمار الأوروبي، ومن صوره ما تجلى في دراسات بعض المستشرقين، إذ إن اختلاف موقف هؤلاء الذين يقولون بصدام الهويات أو صدام الحضارات أو الصدام بين الإسلام والغرب وبين من يتحدثون عن تعاون الثقافات أو حوار الثقافات يعود إلى طبيعة المنظور وطرائقه التوصيفية والتحليلية والتفسيرية، ومن منظور آخر أيضاً يستند إلى السياسة والأمن والدفاع، وهذا المنظور الذي انطلق من علم السياسة من طبيعة حقله وأدواته التعامل مع أفكار ونظريات حول الصراع أو القوة أو النزاع أو السيادة في نطاق ما يعرف بالجغرافيا السياسية، الأمر الذي جعل من فكرة الصراع أو الصدام حاضرة في منهجيات النظر والتحليل والتفسير، كما أشار الميلاد إلى أن المقولة قد استفزت المجتمع الدولي، وكانت الباعث الأساسي لإحياء مقولة حوار الحضارات؛ باعتبارها الطرف النقيض من جهة، ولكونها تمثل الطرح الإيجابي البديل عن تلك المقولة.

تم تطرق الميلاد إلى الزمن الثالث وحمل عنوان: «الأمم المتحدة وحوار الحضارات»، حيث شرح قرار الأمم المتحدة ورؤيتها لحوار الحضارات منطلقاً من الإقرار بالإنجازات الحضارية المتنوعة للبشر، وضرورة بلورة ثقافة تعددية والقبول بتنوع المخلوقات البشرية، والأخذ بعين الاعتبار أن التعاملات الثنائية بين الحضارات على امتداد التاريخ الإنساني كانت مستمرة على الرغم من وجود الموانع النابعة من عدم التسامح والنزاع والحروب، مع التأكيد على أهمية التسامح في العلاقات الدولية والدور الرفيع للحوار بمثابة إدارة للوصول إلى التفاهم وإزالة تهديدات السلام وتعزيز التعامل والتبادل بين الحضارات، ثم أشار إلى أن اختيار سنة 2001م تحديداً كان بقصد أن يستقبل العالم الألفية الثالثة بنوع من التفاؤل والثقة والشعور بالأمن والسلام، والاندفاع نحو تجديد وتطوير العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب.

ثم انتقل إلى الزمن الرابع وحمل عنوان: «الحادي عشر من سبتمبر وحوار الحضارات»، حيث بدأ مع الحدث الذي أصاب العالم بهزة عنيفة غيّرت من صورته وقبلت معادلاته وتوازناته، وأصبح الحدث الذي تؤرخ به الألفية الثالثة الجديدة، حيث أشار الميلاد إلى أن تلك الأحداث دفعت العالم ليعيش في أشد حالاته انفعالاً وتوتراً واضطراباً، وهيمنت عليه مفاهيم العنف والإرهاب والقوة، وأصبح المجتمع الإنساني لأول مرة وكأنه يعيش صدام حضارات، المفهوم الذي أخذ العالم يتداوله على أوسع نطاق وكأن هنتنغون صدق في نبوءته حين بشَّر بهذا المفهوم عام 1993م وأكده عام 1996م. وأن مفهوم حوار الحضارات تحول إلى أشبه ما يكون بمفهوم إعلامي يستهلك على نطاق واسع في وسائل الإعلام المختلفة والمتعددة من دون أن يرتكز هذا المفهوم ويستند إلى بناء فكري وتاريخي عميق ومنظم، ومن دون أن يكون له تأثرات فاعلة وحقيقية في تغيير المفاهيم والذهنيات، وتبديل الاتجاهات والسياسات العامة لا في النطاقات الإقليمية ولا في النطاقات العالمية، وبالتالي فهو أقرب ما يكون إلى مجرد مفهوم ساحر وجذاب يغري الآخرين بالحديث عنه وحوله والتباهي به من دون أن يكون له فاعلية أو تأثير.

بعد الانتهاء من تاريخية حوار وصراع الحضارات انتقل الأستاذ زكي الميلاد إلى موضوع الفحص والنقد، حيث تناول الفحص المعرفي لمفهوم حوار الحضارات في بنيته وتركيبته اللغوية والمعرفية، وأشار الميلاد لما تطرق له الدكتور محمد عابد الجابري أمام مفهوم حوار الحضارات والذي وصفه بالشعار، ووجد أن هذا الشعار هو في جميع الأحوال محفوف بالغموض والالتباس، وذكر الباحث أن النقد لمفهوم حوار الحضارات يعتبر جديداً في الكتابات العربية، وهو ناشئ -كما أشار- عن التداول الواسع لهذا المفهوم، الأمر الذي اقتضى فحصه وإعادة النظر فيه، عليه فيمكن القول: إن هذا المفهوم لن تكون له القدرة الفاعلة في التأثير على مجرى السياسات العالمية وعلى بنية وأنماط العلاقات الدولية؛ وذلك لشدة تعقيداتها وتناقضاتها وتضارب مصالحها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية.

انتقل بعدها إلى موضوع «تعارف الحضارات» انطلاقاً من الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، وقال بأن هذه الآية تحديداً من أكثر آيات القرآن الكريم التي تكرر ذكرها والحديث عنها والالتفات إليها في الكتابات العربية والإسلامية منذ أن تجدد الحديث حول حوار الحضارات، الأمر الذي يجعلها ذات علاقة بهذا الشأن، حيث أشار الميلاد إلى أن هذه الآية والاستشهاد بها والالتفات إليها في الأدبيات العربية والإسلامية يكاد ينحصر ويتحدد في نطاق التذكير بها أو مجرد الإشارة إليها، من دون التعميق في استجلاء دلالاتها أو استكشاف مكوناتها أو إمكانية ابتكار مفهوم منها يكون أصيلاً ومحكماً بشرائطه العلمية وقواعده الاصطلاحية. والتأمل الفاحص لهذه الآية يكشف لنا عن حقائق كلية ذات أبعاد إنسانية عامة نتوصل منها لمفهوم نصطلح عليه بـ(تعارف الحضارات)، والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده، وإبرازه والنص عليه من خلال سياق وخطاب يؤكد على قيمته وجوهريته لأن يكون مفهوماً أساسيًّا.

وأخيراً تطرق الميلاد إلى «تعارف الحضارات والبناء المعرفي»، وأشار فيه إلى أن الصعوبة المعرفية التي تواجهنا هي القدرة على اكتساب الثقة العلمية لمثل هذه المقولات والمفاهيم، والقدرة على بناء القاعدة المعرفية المتماسكة لهذه المفاهيم، خصوصاً وأن المجال العربي في علم الحضارة وتاريخ الحضارات لم يشهد ازدهاراً وتقدماً، وليس معروفاً عن الكتابات العربية تميزها في هذا الحقل؛ فهي أقرب إلى محاكاة الكتابات الغربية والتزود بالمعرفة منها واتباع منهجياتها ومحاولة تقليدها أو الاعتماد عليها، لهذا فإن المفاهيم والنظريات التي تأتي من العالم العربي تواجه تحديات صعبة في انتزاع الاعتبار العلمي والجدارة العلمية، ليس من الغرب فحسب، وإنما من داخل العالم العربي أيضاً. وقال الميلاد: إن مقولة تعارف الحضارات لا تعني مجرد الاعتراف بتعدد الحضارات وتنوعها، وإنما تستند إلى ضرورة بناء وتقدم الحضارات في العالم، وتأسيس الشراكة الحضارية فيما بينها، وتبادل المعرفة والخبرة، فالعالم ليس بحاجة إلى حضارة واحدة وإنما إلى استنهاض الحضارات كافة، ولهذا فإن مفهوم تعارف الحضارات أكثر ضبطاً وصواباً من مفهوم حوار الحضارات، وأوضح تعبيراً عن الرؤية الإسلامية في هذا الشأن، وأن التعارف هو الذي يؤسس للحوار وينهض به، وما تحتاج إليه الحضارات في عالم اليوم هو التعارف الذي يرفع الجهل بصوره كافة. الجهل المسبب للصدام بين الحضارات، في المقابل أن التعارف هو الذي حافظ على تعاقب الحضارات في التاريخ الإنساني.

جلسة العمل الثانية تمحورت حول «التعارف الحضاري في الفكر الإسلامي»، وترأست هذه الجلسة الدكتورة منى أبو زيد، وكانت البداية مع الدكتور محمد مراح (باحث من الجزائر) بورقة عمل حملت عنوان: «نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات»، في البداية تحدث الباحث عن مبررات التنظير لتعارف الحضارات موضحاً بأننا بحاجة إلى صياغة بديل إسلامي عن نظريات الصراع والصدام بين الحضارات التي طغت على الخطاب السياسي والفكري والفلسفي والإعلامي وحتى الشعبي! خاصة في الظروف الحالية التي يمر بها العالم، فرغم القطع الإسلامي بأن البديل عن ذلك هو الحوار بين الحضارات إلا أن رسم ملامح الرؤية الإسلامية لهذا الحوار ووضعه في إطار جامع وصيغة مكاملة ما زالت في حاجة لجهود معتبرة حتى تصبح المسألة أقرب ما تكون لنظرية في حوار الحضارات وتعارف الحضارات.

وبعد ذلك شرع الباحث في تقديم بعض الاعتبارات بين دلالات معنى التعارف والحوار، حيث أشار إلى أن التعارف ومقتضياته دعوة إلى الفطرة البشرية واستجابة لمطلبها الأصيل، والحوار أداة معبرة عن الحق والباطل، وعن تطلعات الفطرة والعقل وحاجات الغرائز، كما أن التعارف هو الذي يحدد مستويات الحوار والتعاون ويثريهما ويثمرهما، كما أن للتعارف دوراً وقائيًّا في منع النزاع والصدام على مستوى الأمم والحضارات؛ لهذا فإن اختيار مفهوم التعارف الذي بني عليه مفهوم تعارف الحضارات هو أكثر دقة وفاعلية.

بعد ذلك شرع الباحث للحديث عن مرتكزات تعارف الحضارات، وأشار إلى أنه لا تتحقق فعالية التعارف إلَّا إذا أسندته مرتكزات ومبادئ تتناسب مع سموه وحسن مقصده، ويرى أن الرؤية الإسلامية توفر لنا مجموعة من المرتكزات والمبادئ السامية، وذكر منها وحدة الأصل الإنساني ومبدأ وحدة الإنسانية الجامع والاختلاف في الألوان واللغات والمحبة والتسليم بوحدة الرحم وحرية الاختيار.

ثم تحدث الباحث عن بواعث تعارف الحضارات، وأن تلك البواعث من طبيعة الرسالة الإسلامية في العالم، فالتعارف الحضاري يوفر الإطار الملائم لأداء الواجبات الشرعية وتقديم العلاج، كما يساعد على تجسيد صفة عالمية الثقافية والحضارة الإسلامية. ومن أهم تلك البواعث هي باعث الدعوة والهداية، وباعث الشهادة على الناس والانفتاح على العالمية، فالانغلاق والعزلة مجافيان لطبيعة الإسلام الحركية الاتصالية المتطلعة للقاء والتعارف، كما أن التقدير السليم للأمور والأفكار يتطلب أكبر قدر من الانفتاح على العالمية.

وبعدها استعرض الباحث أهداف تعارف الحضارات، وكان من أهمها هو التقارب والتسامح، حيث أشار إلى أن التعارف الإيجابي هو الذي يبذل فيه كل طرف أقصى جهوده للتعرف على ما يقربه من الطرف أو الأطراف الأخرى التي تشاركه التطلع نفسه، ومعرفة الآخر على حقيقته وتصحيح الصورة المسبقة عنه، فكثيراً ما رسمت الحضارات صوراً نمطية لغيرها من الحضارات، حيث يعتقد الباحث أن إقبالاً مخلصاً على الدفع بمشروع تعارف الحضارات سيؤدي خدمة جليلة للإنسانية فيتعرف كلٌّ على صور الآخر كما هي، وتشيع فكرة الانتفاع المتبادل من خيرات الأرض من خلال فكرة التعاون.

ثم تحدث الباحث عن معوقات تعارف الحضارات، حيث أشار إلى مجموعة من المعوقات أهمها: العائق العقائدي، فالدين يمثل جوهر كل حضارة والالتفاف حول المعتقد في حالات الشحن والتعبئة العاطفية أو المقابلة الفكرية بين المعقدات حقيقة مشهودة، وأشار الباحث إلى أنه يجب التسليم بأن الغاية من التعارف ليست نقل أهل دين إلى دين آخر، فلكلٍّ شرعه ومنهاجه فضلاً عن محاولات توحيد دينين أو الأديان! وأن حرية الدعوة بالوسائل الشريفة الواضحة هي من حق الجميع، ثم أشار الباحث إلى تضخيم الذات الحضارية وما تساهم فيه من معوقات لتعارف الحضارات، ثم انتقل إلى نظريات الصراع والصدام التي تأتي تلبيه لرغبة طغيان سياسي أو عسكري أو مالي، وذكَّر الباحث بأننا نحن المسلمين يجب ألَّا ننساق وراء هذه النظريات لاعتقادنا أن الصدام وإن وقع فذلك بفعل عوامل مصلحية قد تستخدم الدين لا ذات الدين وقيم ه، ثم تعرض الباحث للعائق الأخير وهو هيمنة المفهوم السياسي على مجال العلاقات الدولية في هذا المجال الذي تحكمة مبادئ المصلحة القومية والتفاوض السياسي للفوز بأكبر قدر من التنازلات.

في النهاية قدم الباحث بعض الاقتراحات التي تعبر عن تصوره حول الانتقال بفكرة تعارف الحضارات من الإمكان إلى الفعل، عن طريق التربية والتعليم، وتفعيل المؤسسات الثقافية العالمية والإقليمية، للعب دورها في تنشيط وتطوير التعارف بين الحضارات وإنشاء منتدى فكري علمي لتعارف الحضارات، وإنشاء موقع عبر شبكة الإنترنت يحمل عنوان يعبر عن التعارف الحضاري، وإنشاء جوائز عالمية وفكرية وأدبية وفنية وإعلامية لأحسن الأعمال التي تعبر عن التعارف، وأخيراً: الاستفادة من التجارب السابقة في الميدان كتجربة المعهد الدولي لحوار الحضارات.

«في القابلية على التحاور الحضاري: البعد الجوهري الغائب» هذا عنوان ورقة عمل قدمها الباحث الدكتور يحيى اليحياوي (باحث من المغرب)، في البداية أشار إلى أن أطروحة صراع الحضارات وما استتبعها من جدل صاخب في العديد من أوجهه لا شي في رأيه بقوة ما ملازمة للفكرة، ولا بمدى القوة التفسيرية التي تتمتع بها، بل تتأتى لها عناصر القوة ومعطيات الرواج والانتشار من طبيعة الجهة التي استنبتتها، وروَّجت لها، وبنت على أساسها المواقف والسياسات، وحددت على ضوئها طبيعة العلاقة مع الحضارات الأخرى.

كما أشار اليحياوي إلى أن الفكرة الأساسية لهذه الورقة إنما منشؤها الاعتقاد بأنه سواء سلمنا بفرضية الصراع الحضاري أم لم نسلم به، أو سلمنا به بتحفظ؛ فإن التحاور الحضاري إنما هو مطلب وطموح وغاية في حد ذاته ليس فقط من باب التدافع الطبيعي الذي سنه الله تعالى منذ الأزل لبني البشر، ولكن أيضاً من زاوية الدفاع عن الملك الكوني المشترك الذي بضموره أو باحتكاره يتهدد العيش الجماعي، وتتقوض ركائز التدافع، ويغدو الكل بهذا الكون كما لو أنه مع الكل ضد الكل.

بعد ذلك شرع الباحث في موضوع «صدام الحضارات كاستعصاء للتحاور الحضاري» وأشار إلى مجموعة من مقولات هنتنغون، ثم أشار إلى أن ثمة فلسفة عامة ومحددة تحكم علاقة الغرب مع ذاته من ناحية وتحكمها مع الآخرين، من ناحية ثانية ترتكز على ثلاثة مقومات كبرى أسست الخيط الناظم لموروثه الثقافي والفكري ولا يستطيع بالتالي الفكاك منها بالزمن المنضور، والمقام الأول مرتبط بالفلسفة الاقتصادية التي تثوي خلف المنظومة الليبرالية، والمقام الثاني، والذي لا يقل شأناً وأهمية عن الأول، فيكمن في طبيعة النموذج السياسي الغربي، نموذج الديموقراطية وحقوق الإنسان، والمقام الثالث ويتمثل في طبيعة الثقافة التي واكبت ولربما لازمت انتصار اقتصاد السوق وديموقراطية السوق، وباتت العنصر الناعم والرخو الذي يمرر لهما معاً التمثلات والتصورات والرموز، وإلى حد ما سلوك وطقوس استهلاك السلع اللامادية المروجة بالإعلام وبالشبكات الإلكترونية وبما سواها.

بعد ذلك انتقل إلى موضوع «حوار الحضارات أو في الحوار فضيلة كونية»، وذكر أنه لم تبرز أطروحة حوار الحضارات كرد فعل آني وعفوي على أطروحة صراع الحضارات، بل كانت سلوكاً معتمداً ومطلباً سابقاً عليها في الزمن، ثم استمر المطلب ذاته بعد بروز وانتشار أطروحة الصراع لكن بوتيرة أقوى وبوهج أشد، ولربما أيضاً بحماسة لا توازيها إلَّا الحماسة التي واكبت أطروحة الصرع إياها، وأشار إلى أن هدف هذا الحوار (حوار الحضارات) ليس الوصول إلى إضعاف الاختلافات الثقافية والحضارية ولا إلى إيجاد تسوية بين القيم المختلفة التي تميِّزها، ولكن العلة فيما وراء الثقافات الخصوصية لإيجاد قاسم مشترك أعظم من القيم التي تؤسس لإجماع إنساني تاريخي يتم على أساسه إعادة نسج العلاقات بين الدول والأقوام والشعوب على قواعد جلية وواضحة.

بعد استعراض موضوع حوار وصراع الحضارات انتقل الباحث إلى الموضوع الرئيسي «في أطروحة التعارف أو في مدخل القابلية على التحاور الحضاري»، وذكَّر الباحث بأنه إذا اعتبرنا صدام الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية وحوار الحضارات بوصفها نظرية نقدية أو علاجية فإن تعارف الحضارات هي نظرية إنشائية، بمعنى أن القاعدة فيها هي الإنشاء وليس الاختبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة، حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل، بعد ذلك أشار إلى أن التعارف لا ينفي الاختلاف في القيم أو العقائد ولا يلغي التنوع في أسلوب الحياة أو أنماط التمثلات بقدر ما يعني الحجة إلى إطلاع كل طرف على المنظومة الحضارية للطرف الآخر ومعرفة مواقفه معرفة جيدة، واعتبار كل ذلك مصدر غنى لكلا الطرفين لا عنوان تنافر أو تباعد أو عامل تنابذ أو تصارع.

كما أوضح الباحث أن التعارف هو المدخل الأساس القمين بإدراك الحوار بين الحضارات، وتوافر القابلية لذلك إنما هو عصر جوهري وحاسم إذا لم يكن لإنجاح الحوار إياه فعلى الأقل لتحديد القواعد الكبرى التي من المفروض أن يقوم عليها التحاور ذاته في إطاره العام في عناوينه وصيغه كما في مظاهرة الكبرى، بالتالي فإذا لم يكن ثمة تعارف فلن يكون ثمة حوار وتحاور، أو سيكونا منقوصين للغاية، وإذا لم تكن القابلية لذلك متوفرة فلن يكون ثمة تعارف ثم تواصل ثم تحاور وهكذا..

بعد ذلك تطرق إلى «التحاور الحضاري أو في بعد القابلية»، وأشار الباحث إلى أن العالم اليوم، ولربما أكثر من أي فترة تاريخية أخرى، يعاني من أزمات بنيوية كبرى ذات طبيعة سياسية واقتصادية، ثقافية ودينية، ويعرف انفجارات اجتماعية وهجرة مكثفة لبني البشر وفجوات عميقة في توزيع الثروات المادية واللامادية بين السكان، ويعاني تناقصاً شديداً في الموارد الطبيعية ودماراً مستمراً للبيئة، ويعاني -في ظل ذلك كله- ارتفاعاً كبيراً في وتيرة العنف والتطرف والغلو، ويشهد في الآن ذاته ثورات تكنولوجية ضخمة أسهمت ولا تزال تسهم في مجالات إنتاج وتخزين ونقل وتوزيع واستهلاك الملايين من المواد الإعلامية والمعرفية، ومع ذلك فمن الصعب معرفة مدى تأثير كل ذلك في طبيعة القيم وحركة الأفكار والثقافات دونما إعمالٍ لمبدأي: الاحتكام للعقل والتحاور والارتكاز إلى ملكة الفهم والإدراك.

ثم أشار إلى أن القبول بمبدأ التعارف، ثم الارتكان إلى الاعتراف بضرورة ذلك، وتوفير العزيمة لبلوغه؛ ليس من الصراع الحضاري في شيء ولا هو من باب التصادم، إنما هو ترجمة لمبدأ التدافع الحضاري والتفاعل بين الحضارات بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة.

وفي الختام قال الدكتور يحيى اليحياوي: إن البعد الجوهري الغائب في أطروحة حوار الحضارات لا يكمن في طابعها الوقائي الصرف ناهيك عن مضمونها الانتقائي، ولا يكمن في طبيعتها المسالمة والمهادنة وإلى حد ما الموضوعية. بل، يكمن في انعدام المقوم الأساس لضمان الحوار ذاته، وفي مقدمة المقومات إياها مقوم التعارف، ثم مقوم القابلية للتعارف بغرض الاتصال والتواصل ثم الحوار والتحاور، وأن فكرة القابلية على التحاور إنما تستوجب توافر المقدرة والاستطاعة، وكذلك الحاجة، ثم النية، ثم الرغبة في قبول منظومة الآخر أيًّا كان مستوى الاختلاف معه أو مدى تنافر المرجعيات القائمة بين الطريفين.

وفي الختام يستشهد الباحث بقول الأستاذ جون أسبوزيطو: «كما يحلم البعض والملايين في شمال أفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا وجنوبها الشرقي في إيجاد نظام عالمي جديد، ويتطلعون إلى دور أكبر من التحرر السياسي والديمقراطي؛ فإن استمرار حيوية الإسلام والتحركات الإسلامية لا تمثل تهديداً بل تحدياً. إن معظم التحركات الإسلامية ليست بالضرورة ضد الغرب أو ضد الولايات المتحدة الأمريكية أو ضد الديمقراطية، وإذا كانوا يمثلون تحدياً لبعض الفرضيات التي استقرت عليها نظم معينة أوتوقراطية إلَّا أن هذه التحركات ليست بالضرورة تهديداً للمصالح الأمريكية. وإن التحدي الذي يواجهنا هو أن نفهم بطريقة أفضل تاريخ وحقائق العالم الإسلامي، وأن نتعرف على تنوعه ووجوهه المختلفة بدلاً من أن نتصور صورة تمثل تهديداً إسلاميًّا».

«مصطلح تعارف الحضارات... رؤية إسلامية حوار مع زكي الميلاد»، هذه الورقة قدمها الدكتور محمد كمال الدين إمام (رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق - جامعة الإسكندرية)، أوضح الكاتب فيها المنظور الدلالي لتعارف الحضارات، واعتبره مصطلحاً في معجم خاص وليس مفردة في قاموس لغوي، يُقرأ من خلال مفهوم يتحدد من داخله بمكوناته، ويتحدد من خارجه بمقابلاته، أي بالفروق والاختلافات وليس بالأشباه والنظائر.

بعد ذلك تطرق إلى «صراع الحضارات والمركزية الأوروبية»، وأشار الباحث إلى أن كلمة الحوار في مفهومها الفلسفي تعني منهجية مثالية للحصول على الحقيقة. ولكن، في الحركة الواقعية لا يصير الحوار -كما يقول حامد ربيع بحق لغة الوصول إلى الحقيقة وإنما وسيلة الحصول على تنازلات، أما صراع الحضارات فهو تمحور منتج حضاري حول الذات متجاوزاً الإرث الإنساني المشترك الذي هو «جوهر الحضارات»، وفيه تتحول الثقافة الوطنية من رافد حضاري إلى نموذج مكتمل ينبغي فرضه بالقوة.

ثم ذكر الباحث أن معنى الحضارة له تجلياته في حضور الإنسان الحقيقي في قلب المعمورة، والإنسان الحقيقي جوهره دين متعقل وعقل متدين. هكذا في وحدة عضوية وتناسق تام، فإذا خسر الإنسان دينه فلا ثقة في عقله، وإذا غاب عقله فلا فهم لدينه، وعندما تفقد حضارة ما في مرحلة من مراحل التطور القدرة على التنسيق والتناسق وتتقلص لديها القدرة على التربية النافعة، فهذا يعني أن صراع الحضارات شعار كبير تختفي خلفه أزمة حضارات تتآكل من داخلها وتصارع الإيجابي في ذواتها حتى تصرعه، وهنا نحتاج إلى شعار جديد ربما هو ما أشار إليه هادي المدرسي قائلاً: دعونا نتنافس في صنع الحضارات وليس في إجهاض أجنتها، إنها دعوة نعبر بها بهو الصراع على جسر التعارف الذي أُمرنا به وحان وقت استدعائه والتفاعل معه.

ثم انتقل الباحث إلى «تعارف الحضارات»، وقال: إن تبلور مفهوم تعارف الحضارات لحظة الاكتشاف المتوّج رأينا زكي الميلاد يمسك بوليده الفكري قائلاً: وترسخت قناعتي به وبقيت متحمساً له مدافعاً عنه للتعريف والتبشير به، من أجل اختباره وجس النبض حوله، ومعرفة اتجاهات الرأي تجاهه. وبالفعل سال مداد كثير حول المصطلح. والمفهوم رصده زكي الميلاد بدقة وتابع بشغف ما كُتب حوله من أبحاث وندوات وآراء. واللافت للنظر تأرجح تعامله مع المصطلح بين الإجرائي والتأسيسي، في حين أشار الباحث إلى أن هذا الحماس المفعم بجاذبية المصطلح الجديد سرعان ما نكتشف أنه أقل من طموحاتنا؛ لأن مفهوم التعارف بحاجة إلى تعريف، وسرعان ما يحتوينا قلق علمي عندما يحاول زكي الميلاد أن يوجد سبباً أو في القليل تجاوراً بين مفهوم التعارف الإسلامي، المدرك والصياغة والمضمون، ومفهوم التواصل عند المفكر المعاصر يورغن هبرماس خاصة في كاتبه القول الفلسفي للحداثة، كما أشار الباحث إلى أن التعارف في المفهوم الإسلامي ليس صيغة فلسفية مجردة ولا متعالية، ولكنه -كما يقول طه عبد الرحمن- هو مبدأ توصلي جوهري يقره الإسلام، وهو مبدأ التعارف، ومقتضاه الإجمالي أن التواصل السليم لا يكون إلَّا بكلام طيب بين متكلمين كرماء.

بعد ذلك شرع الباحث لتوضيح أن مبدأ التعارف الإسلامي يقر بالتفاوت الأخلاقي بين المتعارفين لأن ثمرته التعاون على حفظ العلاقة الأخلاقية التي تجمعهما، كما يقر بالاختلاف الثقافي بين المتعارفين لأنه سبب في توسيع دائرة معارفهما، بينما الاتصال المعلوماتي يلغي كليًّا عنصر الأخلاق في المعلومات، ويعمل على محو هذا الاختلاف لصالح المتلقي وحده، فتعارف الحضارات بهذا الفهوم هو بنية أخلاقية تعطي الحياة المشتركة صبغة إنسانية كونية، وإن فكرة صدام الحضارات تقوم على المغالبة حيث الدنيا لمن غلب، وفكرة تعارف الحضارات تقوم على المصاحبة حيث الدين المعاملة، وهكذا يؤسس الإسلام تعارف الحضارات على قيمتين هما: واجب الاعتراف بأهمية الآخر وحق الاختلاف عن هوية الآخر، وهنا يصبح التعارف ليس مجرد اطلاع على ما عند الآخر، بل هو في جوهره اقتناع بعدم احتكار الحقيقية تأسيساً لمشروعية الأخذ والعطاء دون تكبر من المعطي ودون تنكر من الأخذ.

ويرى الباحث أن تعارف الحضارات بالمعنى الوظيفي يتحرك في مسارين، المسار الأول: تكويني وظيفته حفظ التنوع باعتباره سنة كونية، المسار الثاني: تكليفي، لأن كلمة «لتعارفوا» ليست مجرد توصيف لواقع بل هي تكليف بواجب. وعليه فإن أمة الإسلام مطالبة بأن تكون الأمة الوسط القدوة والأمة المبادرة إلى تفعيل مبدأ تعارف الحضارات.

كما أشار الباحث إلى أن هناك مجموعة من الشروط لتحقيق الأمل من تعارف الحضارات:

الشرط الأول: وجود ملكة شجاعة إلى نقد الذات لأن قصورنا واضح وتقصيرنا واقع، ولا يحول دون ذلك إلَّا الأصول القرآنية لتعارف الحضارات.

الشرط الثاني: أن الإيمان لا يتزعزع بأننا أمة ذات رسالة وينبغي أن يكون إيماننا أقوى من ضعفنا الذي نعانيه، والأمة ذات التاريخ تستفيد من هزائمها كما تتعلم من انتصاراتها.

الشرط الثالث: ألَّا يمتلكنا الغرور، فنظن أننا نستغني بما عندنا روحيًّا وماديًّا عمَّا يملكه غيرنا، فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.

وفي الختام قال الباحث: إن تعارف الحضارات نظام قبلي تُقرأ في ضوئه العلاقة بين الوظيفية الحضارية وغاياتها، وتُقرأ في ضوئه العلاقة بين المعرفة باعتبارها نظرية في العلم والتعارف باعتباره واجباً إنسانيًّا عامًّا.

جلسة العمل الثالثة ومحورها «تعارف الحضارات... الخبرة والممارسة»، رئيس الجلسة الدكتور محمد الأرناؤوط، وقدمت ورقة عمل حملت عنوان: «من أجل تعارف إيجابي للحضارات: المركزية الفكرية الغربية في ميزان النقد»، هذه الورقة قدمها الدكتور بنسعيد العلوي (باحث من المغرب)، أشار فيها الباحث إلى إن تعارف الحضارات مشروع مستقبلي يستهدف مجاوزة حال النفور والحرب الخفية القائمة اليوم، ويتطلع إلى غد قوامه الحوار والتفاهم والسلام وبالتالي إرساء القواعد المكينة لمجتمع إنساني تعددي، أو العالم على النحو الوحيد الممكن غداً حيث لا بديل له إلَّا الحرب والدمار، ويتعلق الأمر بتشييد صرح جديد وتأسيس نظر جديد مغاير لكثير من الأفكار السائدة والنظريات المتداولة في فهم الإنسان.

كما أشار الباحث إلى أن تعارف الحضارات هو التسليم بأن البداية السليمة تقوم في البحث عن العوائق المعرفية قصد مجاوزتها بالتخلص منها، أو بالأحرى تخليص العقل البشري منها والنظر في اللغط الشديد الذي دار في تسعينات القرن الماضي، خاصة حول صدام الحضارات لأسباب سياسية وتاريخية وثقافية، والنظر في الجدل السابق على ذلك في القرن التاسع عشر عند دعاة المركزية الأوروبية.

وبعدها تحدث الباحث عن المركزية الأوروبية حيث قال: إن المركزية الأوروبية في نعت عام لها موقف يقوم على إخضاع كل القضايا التي يكون النظر فيها إلى منظور أوروبي محض، يصح القول في عبارة أخرى: إن أوروبا تغدو عند أصحاب هذا الموقف هي المركز الذي يكون الانطلاق منه والرجوع إليه، وهي المنظار الذي لا يدرك العالم إلَّا من خلاله، هي إذن نزعة مركزية.

وأشار الباحث إلى أن المركزية الأوروبية تقوم على منطق ذاتي يقضي بجعل العالم قسمتين غير متكافئتين: شق أول هو أوروبا، وشقق ثانٍ هو كل ما عدا أوروبا، وقال: لم يكن الغريب أن تنشأ في أجواء أيديولوجيا المركزية الأوروبية نظريات في الحضارة وفي التاريخ تتسم بخصائص الانتقائية من جانب والاستعلائية التحقيرية من جانب آخر.

كما أشار إلى أن النتائج المباشرة للنزعة المركزية الأوروبية لم تكن منحصرة في نظرته الاستعلائية إلى ما عند الأقوام في غير أوروبا، فالهجوم لم يكن يستهدف الإسلام والعرب فقط، بل إن النظرة التنقيصية للغير شملت فكر الهند والصين ومصر القديمة وحضارات الأنكا والزنوج في أفريقيا السوداء. كما أشار الباحث إلى أن المركزية أساءت للفكر الغربي مرتين: الأولى من حيث إنها كرست القول بالحدود والفواصل بين الحضارات والأفكار إذ صنفت الحضارات الإنسانية في حضارات دنيا وأخرى عليا، لا بل إنها جعلت الحضارة الأوروبية -كما تتوهمها هذه النزعة- في مقابل كل الحضارات الأخرى، والإساءة الثانية من حيث إنها نزعت عن الفلسفة الغربية أجمل ما فيها، وهو روحها النقدية، ومن ثم فهي قد طوقت الفكر الأوروبي بالأغلال.

ثم انتقل الباحث إلى موضوع المركزية الغربية الجديدة وشرع في الحديث عن أن تلك الأطروحات التي تستند إلى عداوة متوهمة للإسلام بحسبانه عدوًّا للغرب عداوة تربطها هذه الأطروحات بالوقع الذي نتج عن حرب 1973م، وقصة الأسرى الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران، وأخيراً بالأعمال الإرهابية التي نفذتها بعض الجماعات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، أو تضررت منها مصالح أمريكية في مناطق مختلفة من العالم. ثم أشار الباحث إلى أن نظرية المركزية الغربية الجديدة تحذو حذو سلفها المركزية الأوروبية، ذلك أن المواجهات واحدة وإن لم تكن دوماً تطفو على سطح الشعور، والأهداف الأيديولوجية واحدة كما أن العوائق الأيديولوجية والسيكولوجية والمعرفية التي تقوم في وجه النظرة العلمية السليمة واحدة بدورها.

كما يدعو الباحث إلى تأسيس ثقافة حوارية، ثقافة تعتمد الحوار من حيث هو، أولاً إقرار بوجود الغير واعتراف بوجوب الإنصات إليه، وما نقول عنه إنه خطوة إيجابية في هذا الدرب هو استخلاص الدرس والعظة عما كانت عليه الثقافة العربية الإسلامية في العصر الذي ننعته بالعصر الكلاسيكي.

وأخيراً يقول الباحث: نحن مطالبون بانتفاضة شاملة يكون بها التحرر من قيود ثلاثة تجثم على صدرونا وتمسك بأنفاسنا ثقافة عصر الانحطاط التي لا نزال متمسكين بها دون وعي منا، ثقافة ردود الفعل على النزعة المركزية الأوروبية، مما يحيل فكرنا إلى جملة من المواقف الدفاعية في جانب والتمجيدية في جانب آخر، وثقافة يكون بموجبها رفض النقد والنقد الذاتي، وبالتالي الجمود على الأحكام القبلية، وهذا من جانب أول، وتوهم عداوة مزعومة القصد منها هو الغرب، وهذا من جانب ثانٍ، مما يستوجب الوقوع فيما أسميه (الغرب فوبيا) قياساً على (الإسلاموفوبيا)، ذلك أن (الغرب فوبيا) هي النقيض والمقابل الموضوعي المعكوس لنزعة الخوف المرضي من الإسلام. ويختتم الباحث بالقول: إن تعارف الحضارات مشروع ضخم، أوله النقد وقبوله، والسبيل إليه هو الحرب الدؤوب ضد الأوهام والعوائق التي قد نكون نحن أنفسنا أطرافاً فيها وجنوداً مدافعين عنها.

«الصورة الثقافية للآخر في إطار نظرية تعارف الحضارات»، هذه الورقة قدمتها الدكتورة سارة حكيمي (باحثة من تونس)، بدأت الباحثة بالحديث عن الصورة الثقافية، وأشارت إلى أن الثقافة النمطية رؤية جامدة عن الآخر، وفي أغلب الأحيان هي رؤية مشوهة تؤدي إلى التصادم والصراع، فالمتعدد هنا يصبح عدوًّا بفعل تمثيلنا له وما نراه من سوء فهم تحوَّل إلى سوء تفاهم نتيجة الاحتكام إلى مجموعة من الأحكام المسبقة وإنتاج صور الثقافة بناء على هذه الأحكام وبعيداً عن الواقع.

وذكرت الباحثة أنه لا يمكن أن تتحقق أو تكتمل إنسانية الأنا إلَّا بعلاقة مع الغير الذي يمثل شرطاً ضروريًّا ومكوناً أساسيًّا للإنية والإنسانية وليس وجوده عرضيًّا أو ضمن علاقة نفعية، فليس للأنا هوية مستقلة عن الغير ولا للغير وجود منفصل عن الأنا. فالإنسانية تتحقق تاريخيًّا ضمن العلاقة البين-ذاتية، وما أحمله عن هذا الآخر هو صورته الثقافية التي تحدد موقفي منه وبالتالي موقفه مني.

وتشير إلى أن الخطاب بين الثقافات والحضارات يشتغل وفقاً لآليات تبرر الأبعاد المتخلية عن الآخر؛ لأنها من تنتجها، ويتعذر النظر في طبيعة الصورة الثقافية، لذا نرى أهمية البحث فيما لهذه الصورة الثقافية من أثر وكيفية تكونها على هذا النحو أو ذاك.

كما تحدثت الباحثة عن أن مسألة الخوف من الإسلام مسألة نفسية تمس الجانب الانفعالي من الإنسان، ونتجت بناءً على تاريخ مطول من الصدامات وأحداث دعمت هذا الخوف، فأصبح الترابط بين الآخر الإسلامي والرهاب آليًّا في نفسية الفرد الغربي؛ فقد اقترن في المخيال العام الغربي أن الإسلام والمسلمين معطيات سلبية ذات تسلسل تاريخي دموي يرتبط بالعنف والحرب. ثم تشير إلى أن الصورة الثقافية هي التي تحدد موقف الأنا من الآخر وتضبط درجة التعاون والتواصل، وبقدر ما تكون الصورة الثقافية من الواقع بقدر ما يكون التواصل أجدى وأسلم وأنفع، وهو ما تضمنه نظرية تعارف الحضارات.

ثم انتقلت الباحثة إلى «الصورة الثقافية للآخر في إطار نظرية تعارف الحضارات»، فقالت: إن المشكلة بين الثقافات ليست في عدم وجود حوار بينها، وإنما في عدم التعارف فيما بينها، والانقطاع عن تكوين هذه المعرفة، وسيادة الجهل أو الفهم المنقوص أو الصورة النمطية والسطحية في المعرفة؛ لذلك فإن كل حضارة غالباً ما تصور مشكلاتها مع الحضارات الأخرى على أساس عدم المعرفة السليمة أو الصحيحة بها، فيبقى جانب الصراع والتصادم هو الطاغي والأبرز.

ثم تقول: إن نظرية تعارف الثقافات برأينا هي الحل الأجدى في تكوين صورة ثقافية واقعية عن الذات والآخر، وإتاحة الفرصة للتفاعل التلقائي والاختيار الواعي، فتُبنى العلاقة مع الآخر على أسس من التعارف والتفاعل والتعايش بعيداً عن الوهم والتراكم والجهل، وتقديم الحل للخروج من المآزق العالمية للصراعات، وتقريب المسافات بين الأفراد والشعوب، وإتاحة الفرصة لها لاختيار تمثلها للآخر بناءً على معاييرها القيمية وبناء على معرفتها بالآخر، ليصبح الاختيار هو عماد التفاعل والتلاقي والتلاقح بعيداً عن الأيديولوجية والبراغماتية.

ثم تشير الباحثة إلى أن نظرية تعارف الثقافات كأساس ومرجع لصياغة تمثلنا عن الآخر تعتبر النظرية الأجدى في إرساء الإنسانية باختلافاتها وتنوعها على برٍّ من التعايش والتعاون وتجنبها الصدام والصراع، فالصورة الثقافية المنتجة على أساس التعارف هي الصورة الحقيقية لذواتنا وللآخر لأنها نشأت بناء على معطيات تمثل في جوهرها قبول الآخر انطلاقاً من احترام الهويات الثقافية، فمعرفة الآخر هي تعرف على هويته واعتراف ضمني بنسبية الثقافات واختلافها وابتعادها عن النظرات التفاضلية المركزية. فكل حضارة كما أعطت وأضافت فقد أخذت من سابقاتها وبنت أساسها على أساس تواصلي، فالحضارات تتكامل ولا تتدافع لأن مفهوم الحضارة في ذاته يحمل معنى الرقي.

وفي النهاية تقول الباحثة: إن إمكانية التفاعل الإيجابي بين الحضارات ممكنة يثبتها التاريخ كما تثبتها النظريات، وخاصة التعارف بين الحضارات كحل يمكن أن يقوم بمهمة تصحيح الصور الثقافية المشوهة عن الآخر التي تتوارث جيلاً بعد جيل وعن جهل بحقيقة الآخر، للتخلص من أثر الموروث التاريخي في الوعي العام، وطرد الأنماط المتجمدة عن الآخر، فالتعارف هو الذي يُمكِّن من تجاوز الإطار الثقافي المشحون برفض الآخر والخوف منه كـ«الإسلاموفوبيا» المنتشرة الآن في أوروبا وأمريكا.

اليوم الثاني: افتتح رئيس الجلسة الدكتور فاطمة المدغري (باحثة من المغرب) الجلسة الرابعة والتي حملت عنوان: «تعارف الحضارات في المجالات المختلفة».

وقُدِّمت ورقة عمل حملت عنوان: «استنفار التعليم والمال في صناعة الإنسان الحضاري وتعارف الحضارات إطلالة على فلسفة المدارس التركية»، هذه الورقة قدمها نوزاد صواش (باحث من تركيا)، وقال في مستهلها بأن مفتاح أي تغيير اجتماعي وبناء حضاري هو الإنسان، وإذا بلغ الإنسان أشده واستوى فذلك يعني أن الحضارة التي ترتفع على كتفيه ناضجة قوية، أما إن كان الإنسان هشًّا ضعيفاً ناقصاً فهذا يعني أن البناء الذي سوف يقوم عليه منهار قريباً ما في ذلك من شك، فالفرد محور التغيير دائماً والفرد محور البناء أبداً. أما المعرفة فهي المادة والخميرة والكيمياء الأساسية التي تشكل كيان الإنسان معمار الحضارة، فالمعرفة المتكاملة تولد إنساناً متكاملاً والمعرفة العرجاء تنجب إنساناً أعرج.

فالحضارة -كما يرى الباحث- مرآة الإنسان، فإن الإنسان الكامل يبني حضارة متكاملة والإنسان الناقص تأتي حضارته متساوقة مع نقصه، ومن ثم كلما كانت المعرفة الراشدة متجذرة في كيان الإنسان كانت تجلياتها في السلوك أقوى وأسطع، وكذلك كلما كان الفرد حجر أساس المجتمع والثقافة والحضارة متكامل المعرفة منسجم العقل والقلب والسلوك كان تأثيره في عملية التغيير والبناء أقوى وأبقى.

وأشار الباحث إلى أن عملية التغيير إذا انبثقت من الأعماق كتب لها الدوام والاستقرار والبقاء، أما إذا كانت نتيجة عوارض طارئة فسوف تتلاشى في أول اختبار لها، فالأمواج السطحية تزول عندما تنقطع الرياض والأمواج السطحية متقلبة حسب تقلب الرياح، تشتد وتضعف وتثور وتهدأ، تميل ذات اليمين وذات الشمال. لكنها، لا تستقر على حال، والأمواج السطحية ليس لها تأثير حقيقي في قيعان البحار، أما إذا جاءت الأمواج من الأعماق فسوف يكون تأثيرها على كيان البحر كله، وسوف تحقق تغيير حقيقيًّا.

ويختم الباحث بقوله: إن الحضارات الكبرى ما هي إلَّا نتيجة أمواج صاعدة من القاع، ما هي إلَّا نتيجة بناء حقيقي شامل، لكن إثارة الأمواج من القاع ليس بالعمل اليسير لكنه الطريق الأوحد لأي تغيير اجتماعي وبناء حضاري حقيقي.

«المنظومة القيمية وتعارف الحضارات»، هذه الورقة قدمها الدكتور عاصم حنفي (باحث من مصر)، في بدايتها أشار الباحث إلى أن الورقة تحاول مقاربة بعض صورة المنظومة القيمة في الحضارتين الإسلامية والغربية، واضعة نصب عينيها أن العلاقة بين الحضارتين متأزمة تاريخيًّا، ومسكونة في الغالب بصور عدائية بين الطرفين، ولم تخلُ من صراع مسلَّح، وهو ما أدى إلى خلق تصور عام عند أفراد كل حضارة عن الأخرى، هذا التصور يتسم عموماً بالسلبية والحط من قيمة الآخر بينما ينظر أبناء كلتا الحضارتين لحضارته على أنها أصل القيم والمبادئ والأخلاق ولا صلاح للكون إلَّا باتِّباع تلك القيم.

ثم يشير الباحث إلى أن الهدف من الورقة هو مقاربة بعض الظواهر والمنطلقات المتعلقة بالحكم على قيم ومبادئ كل من الحضارة الإسلامية والغربية، ولا يستطيع في هذه الورقة ادِّعاء الإلمام بكل تلك المنطلقات ولكن ستبرز أهمها في الحضارتين بهدف الإسهام في إيجاد أرضية مشتركة للحوار الحضاري الذي لا بديل عنه في ضوء صيرورة العالم.

تحدث في البداية عن التعميم ضد التعارف، وقال: إن أول ما يقف حائلاً في سبيل تعارف الحضارات، ويعوق عملية الحوار، ويذكي تعظيم الأنا، ويكرس للفكر الإقصائي؛ هو التعميم والنظر إلى حضارة ما باعتبارها كتلة وأداة صماء. ثم يتنقل إلى «الأخلاق بين الأصل والغاية»، ويقول: إن السؤال عن الأصل أو الغاية في الأخلاق قد لا يخدم عملية التعارف بين الحضارات، كما أن له غالباً أثراً معوقاً في حوار الحضارات، حيث لا يؤدي الجدل مثلاً حول رؤية الفيلسوف البريطاني برتراند راسل «أنه عليك أن تفعل الخير لأنه خير، لا أنه يصعد بك إلى السماء»، وبين الرؤية الإسلامية التي تقول «بوجود فعل الخير لأن الله تعالى أمر به ووعد بالجنة جزاء له»؛ لا يؤدي هذا الجدل إلى التقارب في الحوار، ومن الأجدى التركيز على قيمة الخير ذاتها مع ترك أمر تحديد الأصل والغاية لكل حضارة حتى يكون لها ما يميزها.

ثم يشير الباحث إلى أنه لا يمكن الجزم أن أصل الأخلاق في الحضارة الغربية هو العلم أو العقل فقط بينما أصلها في الحضارة الإسلامية هو الدين؛ لأن جدلية أصل الأخلاق التي تدور بين العلم والدين، وكذلك جدلية الأخلاق والعلم أيهما أصل للآخر؛ قضيتان فلسفيتان لم تحسما في الغرب، مع التسليم بأن عصر التنوير الغربي بوصفه ردة فعل قوية على الكنيسة مال إلى اعتبار العلم أصلاً للأخلاق. ثم انتقل الباحث للحديث عن الأخلاق واللذة والانحراف القيمي، وقال: إن الحضارات الإنسانية متفاوتة في ثقافتها ومعتقداتها وأعرافها، فقد تنوعت القيم والمبادئ السلوكية والأخلاقية والاجتماعية التي تدين بها تلك الحضارات تباعاً لذلك التنويع والتغاير الفكري والثقافي وكذلك العقائدي، وكان من الطبيعي أن ينسحب هذا التباين على مفهوم الانحراف من حضارة إلى أخرى، حيث وجدت حضارات تقر قيماً وأخلاقاً وسلوكات هي نفسه التي ترفضها وتقبّحها حضارات أخرى.

ويختتم الباحث الورقة بالقول: إن من الأسس الضرورية في حوار الحضارات التسامح. ولكن، لا يجب أن يفهم التسامح على أنه رخصة يمنحها الأقوى للأضعف بحيث يتيح له ممارسة شعائره الدينية مثلاً منحةً من الأغلبية للأقلية، بل يجب أن يتعدى هذا المعنى إلى معنى الاحترام والندية. ويؤكد الباحث أن التعرف على المنظومة القيمية للآخر واحترامها في إطار تعارف أو حوار الحضارات لا يعني بالضرورة قبول هذه القيم والدعوة إلى إحلالها بديلاً عن منظومة الأنا القيمية، وفيما يتعلق بالدين علينا أن نعي إذا كان هناك موقف غربي معادٍ للدين فهذا ليس قاصراً على الإسلام في حد ذاته، بل هو موقف من الدين على العموم، نابع من التجربة الغربية السلبية مع الكنيسة ورجالاتها ومعاداتهم للعلم والمعرفة، ومن ثم فالعداء الغربي الموروث ليس للدين في حد ذاته، بل هو لتجربة معينة من الدين يتم سحبها جهلاً على كافة الأديان ومنها الدين الإسلامي.

«الحضور المسيحي العربي العمق والإشكاليات»، هذه الورقة قدمها سامح فوزي (باحث من مصر)، في البداية يقول فوزي: تعارف الحضارات في أبسط معانيه يعني، التعريف والمعرفة بالحضارات في إطار من الاحترام المتبادل، وتبرز في العلاقة بين حضارة وأخرى أهمية عمق الفهم، أسس الالتقاء والتعايش، الاعتراف المتبادل ومسارات الحوار، خاصة بعد أن ظل العنوان الرئيسي للعلاقة بين الحضارات في نهاية القرن العشرين هو الصراع أو الصدام. ثم أشار إلى أنه إذا كان التعارف بين الحضارات في هذا السياق يرمي إلى البحث في علاقة المعرفة بين الحضارات المتنوعة فإنه يعني بالدرجة نفسها البحث عن مصادر التنوع والغني في ثنايا وروافد الحضارة الواحدة، وهو ما يعد ضرورة أساسية في فهم الذات وبالتالي العبور المعرفي إلى الآخر الحضاري.

وأكد الباحث أن الحضارة العربية غنية بتنوعها الثقافي، والديني، والعرقي، والمذهبي. محيط حضاري حي، متفاعل ثري، بمظاهر الاختلاف، والتنوع علامة ثراء مميزة له، وإقصاء المختلف يشكل خطراً على مستقبله، ويمثل المسيحيون العرب أحد روافد التنوع في الحضارة العربية، باختلاف معتقدهم الديني عن معتقد الغالبية من السكان العرب المسلمين وتنوعهم المذهبي، مما يشكل في ذاته عنصراً مضافاً للجدارية الدينية العربية التي تعرف ألواناً من التنوع الإثني والديني والمذهبي.

ثم انتقل الباحث للحديث عن «الإسلام الحضاري.. مدخل جديد لعلاقة قديمة»، أشار فيها إلى أن الإسلام الحضاري هو الذي يجعل تقدم المجتمع مشروعاً أساسيًّا له، وفائض التدين رافداً من روافد التنمية، والحرية الدينية والمساواة، أساس العيش فيه، والفضاء المدني مفتوح أمام كل الأفكار والتيارات دون وصاية أو مصادرة، في ظل ثقافة تعلي من شأن التفكير النقدي والحوار البنَّاء، وتعرف أن مزايا الحرية -مهما شهدت من تجاوزات- أفضل بكثير من المصادرة الفكرية التي تأخذ في طريقها عوامل التميز والاختلاف.

ثم يقول الباحث: إن من الطبيعي أن يتلاقى المسلم العربي مع المسيحي العربي على أرضية الإسلام الحضاري الذي يرفض الغلو والتطرف، ويصون الحرية الدينية، ويعلي من شأن الكفاءة في شغل الوظائف العامة، ويجعل الإنجاز عنوان الحضور في المجتمع دون نظر إلى النوع أو المعتقد الديني للأشخاص.

وأخيراً يشير الباحث إلى أن المبادئ الأساسية الحاكمة للعلاقة بين الدين والدولة، المقدس والنسبي، في إطار رؤية أشمل لمقتضيات مجتمع يحبو ديمقراطياً يريد أن يكون أكثر تسامحاً وأقل تعصباً. هذه الصيغة ليست صعبة المنال، ويمكن تحقيقها في ظل حوار حضاري ممتد لا يعرف الاستقطاب كما لا يعرف الخوف والارتياب، وهناك من الاجتهادات الإسلامية المعتبرة التي تشكل العمود الفقري للإسلام الحضاري تعزز حقوق المواطنة للمختلف دينيًّا، وتحترم العقائد الدينية، وتصون الحرية الدينية، والحق في شغل المناصب العامة في الدولة من أعلاها إلى أدنها على أساس مبدأ الكفاءة، والنظر إلى التراث الحضاري المسيحي بوصفه جزءاً أصيلاً من الثقافة العربية، العرب أولى به من غيرهم، وكنيسة العرب الحية النابضة لا تخصم من الإسلام والمسلمين.

وضمن فعاليات اليوم الثاني افتتح الجلسة الخامسة الدكتور محمد كمال الدين إمام (باحث من مصر)، وحملت عنوان: «تعارف الحضارات وتغيير العالم». وقدمت ورقة عمل حملت عنوان: «نماذج تاريخية للتعارف خلال الحرب والدبلوماسية»، هذه الورقة قدمتها الدكتور نادية محمود مصطفى (أستاذ العلاقات الدولية ورئيس قسم العلوم السياسية - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة، مصر)، في البداية قالت الباحثة: إن التعدد والتنوع والحوار والتعارف رباعية تقع في صميم المنظور الحضاري للعلاقات بين الأمم والشعوب والدول، وتنتظم هذه الرباعية في إطار منظومة أكثر كلية وشمولاً من السنن الحضارية، التعارف الحضاري، التدافع الحضاري، التداول الحضاري. وتشير الباحثة إلى أن التعارف ليس إلَّا منطلقاً لدورة من العمليات والتفاعلات الحضارية يعقبه منطلقات أخرى ويسبقه منطلقات أخرى أيضاً، وهذا التعارف لا يتم في فراغ ولكن في بيئة أو نسق قد تختلف طبيعتها من مرحلة إلى أخرى صراعاً أو تعاوناً، سلماً أو حرباً، فإذا كان الحوار هو إدارة سلمية للصراع بالكلمة فليس من الحتمي أن يكون التعارف دائماً في بيئة سلمية أو لا صراعية ومن ثم فإن التعارف قد يكون في إطار صراعي أو تعاوني سلمي حواري، وقد يتحقق في إطار صراعي من خلال الحرب والدبلوماسية.

بعد ذلك قامت الباحثة باستعراض النماذج التاريخية، وأشارت إلى أنه من أهم الصعوبات دراسة نماذج تاريخية خلال الحرب والدبلوماسية، حيث لأنماط الحروب والدبلوماسية ونماذجها عبر التاريخ الإسلامي مصادرها المنفصلة عن أنماط التعارف الحاضري عبر هذه التاريخ.

وأخيراً تشير الباحثة إلى أن التعارف يمتد أيضاً إلى الثقافات التي تنتمي لنفس الحضارة، ومما لا شك فيه أن نماذج التعارف بين أقوام وشعوب وثقافات الحضارات العربية الإسلامية الجامعة لا تقل أهمية عن نماذج التعارف بين الحضارات، إلَّا أنها لا بد وأن تنطلق من مقولات وافتراضات أخرى، وتشير إلى أن النماذج التاريخية للعلاقات بين شعوب وأمم وثقافات الحضارة العربية الإسلامية تتنوع باختلاف السياق الحضاري الشامل، قوة أو ضعفاً وحدة أو تجزئة، فتوحاً أو استعماراً، كما أن النماذج التاريخية للعلاقات بين الأقوام التي كونت أركان الأمة تاريخيًّا تقدم دلالات واضحة ومهمة لابد من دراستها ومقارنتها في سياقات متنوعة لنعرف هل التعدد والتنوع في ذاته موجباً للصراع أم أنه محرك للتدافع وفق طبيعة الأطر القائمة، هذه الأقوام هي العرب والترك والفرس. وتشير أيضاً إلى أن تجديد الوعي الحضاري للأمة يستوجب الاهتمام بهذا النمط من التعارف، فالتعارف البيني مثل الحوار البيني، وهو من أهم الشروط المسبقة للتعارف والحوار مع الآخر.

«رؤية الإيسيسكو إلى التعارف بين الحضارات وتعزيز المشترك الإنساني»، في البداية أشارت المنظمة إلى أن موضوع العلاقة بين الحضارات من المواضيع المهمة التي عُني بها المجتمع الدولي، سواء على مستوى المعالجة التاريخية أو على مستوى الدراسة للواقع الراهن والمستقبل المنظور لها.

وأوضحت المنظمة أن تعزيز الحوار بين الثقافات والتعارف بين الحضارات يقتضي إقرار مبادئ التعددية الحضارية والتنوع الثقافي، وإبراز تاريخ التعايش والتعاون والتعارف بين العالمين الإسلامي والغربي، وهذا جزء من المسؤولية التي تضطلع بها الإيسيسكو في سعيها إلى نجاح الحوار بين الثقافات والتعارف والتحالف بين الحضارات، بهدف تعزيز أسس الفهم والتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب لتحقيق العدل والسلام الدائم والتنمية الشاملة.

كما بينت المنظمة أن الحوار والتعارف في الحضارة الإسلامية لم يكونا مجرد مقولة نظرية، وإنما ممارسة تربوية وتجارب عملية أورثتنا ثروة فكرية تشهد على تاريخ الاختلاف البنَّاء المفضي إلى التعدد والتنوع في مسيرتنا الحضارية، المجسد لوسطية وعالمية وإنسانية الرسالة الإسلامية، الأمر الذي يبرز غنى التجربة الإسلامية التاريخية في تدبير الاختلاف وإقرار التنوع الثقافي مع الانفتاح على الثقافات الأخرى وإفادتها والاستفادة منها.

ركزت المنظمة على الاهتمام بقضايا الحوار بين الثقافات والتعارف والتحالف بين الحضارات إيماناً منها بأن الحوار هو خير وسيلة لتحقيق التعارف بين الشعوب وإزالة أسباب سوء الفهم بينها وتصحيح صورة ثقافتها وحضاراتها وتعزيز المشترك الإنساني. وكان للإيسيسكو دورها الفاعل في بلورة مفهوم متكامل ومتوازن للحوار يكون التعارف أحد ركائزه الأساسية وأهدافه السامية، سواء على مستوى الحوار بين الحضارات، أو الحوار بين الثقافات، أو الحوار بين الأديان.

وأوضحت المنظمة أن أطروحة تعارف الحضارات فرصة لتقديم الصورة المثلى للفكر الإسلامي الوسطي، وتحويله إلى ثقافة معيشة في حياة المسلمين، وصوت يعبر عنهم بوصفهم طرفاً محاوراً وفاعلاً ومتفاعلاً ومتعارفاً مع الكيانات الحضارية الأخرى.

وأخيراً أكدت المنظمة أنها لا تنظر إلى مفهوم التعارف بين الحضارت بديلاً عن مفهوم الحوار بين الحضارات، وإنما تنظر إلى التعارف بوصفه أحد مداخل الحوار، وإلى الحوار بوصفه أحد وسائل التعارف. والتلاقح والتدافع والتعاون والتفاعل في علاقاتها بالثقافات والحضارات تؤدي المعنى ذاته وترسم الأهداف نفسها، وبالتالي فالعلاقة بينها تكاملية غير تنافسية، وما ينقصها هو بحث السبل الكفيلة بإجراءاتها وتفعيلها وتحقيق أهدافها.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة