تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تأمّلات في سفر الثورات العربية

إدريس هاني

لكي تكون الثّورة مبدعة، لا يسعها الاستغناء عن قاعدة أو فلسفة تعدّل الهذيان التّاريخي.

ألبير كامو

المثقّف والثّورة: من يلوم المثقف؟!

لقد كان المثقّف ولا يزال -وإن انكفأ وفضّل الصّمت- هو المعنيّ الأوّل بتفسير نظام الثّورة أو حتى حينما تصبح الثّور نقيضاً للنّظام أي تمرّد. لا يوجد مثقّف غير منتمٍ بالمعنى الغرامشوي للعبارة، فصمت المثقف نفسه موقف وانتماؤه أوسع من الحزب. تأتي النظرة العالمة المفترضة للمثقّف دائماً في آخر المطاف لأنها غير معنية بفوران الأحداث مهما طغى سعارها. إنها مقاربة متأنّية وليست آنية. وفي التماسها العمق والمسكوت عنه تحاول الإحاطة بأطراف الحدث من جوانب قلّما همّت السياسي المنخرط في ضرب من الكتابات ترمي إلى التّحيّز والغلب واللاّموضوعية، لأنّ غايتها المساهمة في التأثير في الأحداث. فلتثقيف مقارباتنا لوقائع الربيع العربي لا بدّ من مساءلة المفاهيم حتى لا تحتوينا المعطيات الجامدة.

تختبر مصداقية الثّورات عند مدى قابليتها لتعميق الوعي والخضوع لسلطان المفاهيم. المقاربة المفاهيمية مهمّة لأنّها تسمح وتوفّر إطلالة على الوقائع مع خفض الأصوات. أي كيف لنا أن نقارب ظاهرة الربيع العربي بعيداً عن استحقاقات الظّاهرة الصوتية العربية. وكيف تمّ استبعاد فكرة الثّورة كما استبعد معها مثقفوها المنتمون لتخرج علينا مجرّدة من دون ثقافة، أو لعلها تبحث لها على سبيل الاستدراك عن مثقّفين صيّادي جوائز ليمنحوها الشّرعية والمعنى من دون شروط مسبقة أو شقاوة نقدية؟! أليس بالأمس القريب كان المثقف منبوذاً بسبب ثورويته الجامحة؟! فَلِمَ اليوم يتم محاكمته على أنه عدميّ المذهب لا يحسن الإنصات إلى نبض الجماهير؟!

ففي عالمنا الصّامت ردحاً من الزمان، كان لا يزال هناك نوع من أشقى المثقّفين الذين استمرّ إصرارهم على الحلم بالثّورة. وهم طيلة هذا الزمان العربي المتدحرج والمتأرجح قدّموا كطائفة من الحرافيش التي تزاول وظيفة برد الكلمات. وكان ذلك من الأسباب الكافية لتهميش الثقافة والمثقّف. لقد كان المثقّف دائماً مولعاً بالثّورة ومستمتعاً بمناخها الرّمادي، ومنشغلاً -برباطة جأش- بهواجسها اللاّنهائية وشعرها المتمرّد على البحور المتشوّف للعبور. تمنح الثورة للمثقّف هامشاً لاكتشاف مدى جنونه وكذا لتصريف فوضويته.

خامرت المثقف في فترات موت الجماهير وتراجع غواية المثقّف العضوي نزعة الانطواء وعاد إلى يأس فرداني وقد وجد في لعن الجماهير والاستهتار بوعيها طقساً ثقافويًّا ومعركة استباقية وتعويضية ضدّ شيء حال دون الإعلان عنه عبثاً، لكنه تمّ الإعلان عنه قهراً: موت المثقّف! اليوم يعيد المثقّف اكتشاف مساحات أمل جديدة. يبدو حضور المثقّف بطيئاً وحذراً لأنّه مهجوس بثقل الواقع والمثال والتّاريخ والعقل ومفارقاته. فلا زال رهاب الفشل يستولي عليه ويحدّد خطاه. لكنه يخفي بكبرياء، عجزه عن استيعاب الحدث. يدرك المثقف أهمية التّاريخ لكنّ انتظاراته لا تختلف عن انتظارات الجمهور: انتظارات آنية ما فتئت ترسم دوائر يأس عارم من حوله؛ لأنّه مهما أظهر من جنوحه وجنونه، هو إنسان له مطالب وانتظارات. قد يكون كلّ مثقّف جانح ومجنون وحتّى عدمي لكن ليس كلّ مثقّف هو شهيد. وأسوأ أنواع المثقّفين هم من زرعوا كلماتهم فوق لا وعي مكثّف من فرط الرّضّات والجروح، وعي ثوري ومشاعر جبانة.

أيًّا كانت اللعبة وكيف ما كان المفهوم، فإن ما لا مشاحة فيه أنّ اللعبة لا تصنع تاريخاً. وما حدث حتّى اليوم على إيقاع فريد أشبه بنشاز في نغمة مثقّف يائس وجماهير نائمة قبل أن تندلع نار الحراك الجماعي في محيط مفعم باليأس والأمل، يجعل أنّ ما ليس في مقدور أحد أن يفعله، هو إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء، وإعادة المثقّف مرّة أخرى إلى خلوته الرّمادية والجماهير إلى خوفها الأوّل!

لا مشاحّة في الاصطلاح

يصبح هذا أمراً مقبولاً فقط حينما تكون المفاهيم في منأى عن الاستعمال المغرض. وسيكون الأمر كارثيًّا حينما نتحدّث عن معركة المفاهيم التي هي عنوان لمعركة الوعي. هنا نقول: ثمة بالفعل مشاحة في الاصطلاح. حين تصبح الفتن ثورات والثورات فتناً، أو حينما تصبح المقاومة إرهاباً والإرهاب مقاومة، أو حين يصبح التّطرف اعتدالاً و الاعتدال تطرّفاً وهلم جرّا. وعليه، يصعب على الباحث في أسباب وحقائق الأحداث الجارية في المنطقة العربية القبول بالعناوين كما تروج في وسائل الإعلام على سبيل البراءة. ومن هنا لا يكون من قبيل المعطى عبارة «الثورة» و«الربيع العربي» وسائر توابعهما، نظراً لما تثيره هذه المفاهيم من إشكاليات كثيرة. فحتى إن سلّمنا بكونها ثورات وليست احتجاجات، فإنّنا لن نسلم بأنّ فاعليتها ومفعولها كان واحداً في سائر أقطار البلاد العربية أو واحداً على طول الخط في مسار احتجاج البلد الواحد. فوجود مفارقات كثيرة بين تجربة وأخرى ومنعطفات عديدة في التجربة الواحدة، يؤكّد على أنّ السياسة حاضرة في التوزيع الجغرافي والأيديولوجي لهذه الاحتجاجات. وقد يعنينا كثيراً الاهتمام بالعامل الخارجي ودوره في شحن تجربة دون أخرى، ما دام ذلك أمر ثابت في تقدير العلاقات الدّولية القائمة على المصالح.

من الطبيعي أن تخضع الدّيمقراطية المحلّية لاشتراطات خارجية بما أنّ الدّولة الحديثة المحلّية نشأت في قلب تلك الاشتراطات. الدّيمقراطية المحلّية ليست حرّة بل هي مشروطة ككل منجزات دولة مرهونة في بنية التّبعية.

وأيًّا بلغت أهمية المقاربات الأخرى فهي لا تحجب أهمية العامل الخارجي؛ ليس ذلك نتيجة لتطوّر أنماط التّداخل بين الدّول فحسب، بل لأنّ حقائق الاجتماع هي نفسها وسائل امتلكتها المؤسسة الاستعمارية واستعملتها في غزو وتطويع وتأبيد تبعية المحلّي. السوسيولوجيا والأنثربولوجيا علمان وظيفيان تطوّرا بشكل لافت كعلوم للاستعمار وكعلوم للسّلطة والسّيطرة. فالعامل الخارجي هو نفسه لا يتمثّل حقائق الاجتماع المحلّي إلَّا بمقاربات اجتماعية وثقافية.

ويعنينا هنا الحديث عن الدوافع والأهداف والعوامل الاجتماعية والثقافية والتّاريخية للثّورة أو ما هو قريب من معناها كالاحتجاج والتّظاهر. وأهمية ذلك تكمن في إمكانية تحقّق مطالب المجتمع الثّائر أو المحتج. فقد تكون هناك دوافع اقتصاد-سياسية تجعل القوى الخارجية لا تراهن على دمقرطة كاملة للمجتمعات النّامية وإن تعاطفت معها تعاطفاً بارداً وذا طبيعة بروباغوندية تخدم في الغالب مصداقيتها السياسية إزاء مجتمعاتها، فإنّ دوافع سوسيولوجية وثقافية وتاريخية من شأنها أن تحول دون تحقيق الديمقراطية الكاملة في هذه البلدان، حتّى لو تظاهرت تلك المجتمعات وتمثّلت الشعار الديمقراطي بمشاعر رومانسية فائقة. هنا لا يتعلّق الأمر بحكاية الرّبط الأيديولوجي بين الدّيمقراطية والثّقافة، بل يتعلّق الأمر بمعيقات ثقافية إلى جانب معيقات سياسية واقتصادية عادة ما يصار إلى إغفالها في مسارات نشدان الدّيمقراطية. ومن هنا ظل الفهم الخاطئ والسّاري في البلاد العربية، أنّ الديمقراطية مطلب لا يتحقّق إلَّا بالثورة على النظام وإسقاطه.

وأمام هذا التبسيط يكمن اعتقاد شبه مسلّم عند هذه الجماهير بأن الديمقراطية عملية مبسّطة ومعطى بديهي ليس له من عوائق سوى النّظم الفاسدة. بينما لا أحد من طلائع الاحتجاج التفت إلى أنّ الرهان على الديمقراطية هو أعقد من ذلك بكثير، وهو يتعلّق بثورة المجتمع على نفسه؛ وليس النظام في نهاية المطاف سوى انعكاس لصورة المجتمع. ويظهر ذلك بوضوح حيث متى بلغ قادة الاحتجاج إلى دواليب التدبير الحكومي أو حازوا على رئاسة الدّولة حتى يبدأ العدّ العكسي للصورة المخملية عن الوعود، ويفسح المجال أمام ضرب من واقعية الخطاب والحديث عن الممكن، أي عن السياسة. لندرك بعد أن نقف على أطلال الدّول بأنّ الدّيمقراطية لا تعني فقط ذلك الإجراء الذي نمارسه بأشكال كرنفالية موسمية عند صناديق الاقتراع، بل هو ثقافة ومأسسة وتغيير جذري يمسّ العمق السياسي برمّته واهتمام فائق بالأقلّيات قبل الاهتمام بسلطان الأغلبيات. وإلاّ فهي نوازع الاستبداد مدثّرة بلباس ديمقراطي منقوص وهشّ ومراوغ وملغوم.

ويأتي تعبير الربيع العربي ليمنح إيحاءً مجازيًّا بأن عهد التحولات الكبرى قد حلّ بالمنطقة العربية. ليؤكّد على أنّ الأمر يتعلّق بنوبة من نوبات التّاريخ كما حدث في أوروبا الشّرقية. لا أحد اهتمّ بأوّل مستعمل لعبارة الربيع العربي. تلك هي طبيعة الجماهير لا تلتفت إلى الكثير من التفاصيل الغامضة. كان لواضع العنوان رسالة غير بريئة في تقدير اللعبة الدّولية. أما من جهة استقبال هذا المعنى فإنه يرتكز على قوّة التّمثل والإيحاء، بينما لا شيء يؤكّد على مدى تشابه التجربتين ومساراتهما. بايدن نفسه عبّر عن خشيته أن يتحوّل الربيع العربي إلى شتاء.

في المعالجة الفلسفية والاجتماعية والتّاريخية لهذا الذي يجري في المنطقة العربية لا يسع النّاظر القبول بالمعروض على السّطح من باب لا مشاحة في الاصطلاح. لأنّنا هنا نقف أمام جزء من اللعبة التي تسعى إلى حجب الوقائع وتزييف الحقائق. فحينما يكون الاختلاف في الاصطلاح نزوعاً جزافيًّا يمكن الحديث عن القاعدة المذكورة، بينما حينما يكون الاختلاف في الاصطلاح نابعاً من مخطط مدروس وتدبير محكم يكون من الواجب التدبير الاحترازي للمفاهيم.

الثورة والتحرر

الثورة والتفكير في الثورة موضوعان قديمان قدم الاجتماع البشري ومسار العلاقات غير العادلة بين السّادة والعبيد. في ذلك العهد العبودي عرف العالم سلسلة من التّمردات وصلنا منها الكثير. وما لم يصل قد لا يقلّ أهمية في تقرير تراجيديا الثورات الإنسانية. سبق التّمرّد التّاريخ نفسه لأنّنا لا ندري حجم التّمرد الذي سبق طفرات الإنسان الحضارية في عصور ما قبل التّاريخ غير المدوّنة. ومن الملفت للنّظر أنّ المؤرّخ المعاصر لثورات الربيع العربي يتحدّث عن شيء يبدو جديداً في تاريخ الثورات البشرية، ذلك حينما يقال: إنّ ثورتنا هي ثورات شباب!؟ وهذا تحصيل حاصل؛ لأنّ التّاريخ لم يحدّثنا يوماً عن ثورات شيوخ وعجزة! لقد ظلت الثورات منذ الأزل شبابية بامتياز. ولا غرابة في ذلك حينما نستحضر وجهة نظر بيزاريف العدمي الروسي كما استشهد به ألبيركامو في المتمرد، بأن الشباب والأطفال هم أكثر الناس عصبية. ويبدو أن شيئاً ما عارض هنا، ولكنه عامل إلهاء لفرض الجدّة على ثورات تعيد ربط الكائن بوشائج القربى مع براءته الأولى، ومع حرّيته في صورتها الأكثر تبسيطاً، تلك التي لا زالت الجماهير وفيّة لأصولها الطبيعية. هذه الحرّية التي تخيف حتّى الليبرالية الجديدة من حيث هي تحرّر قابل للرّقابة بالمعنى الفوكوني للعبارة. الخوف هنا من الحرية بمعناها التّمرّدي والفوضوي الذي يعيد طرح السّؤال بأقصى البداهة على مؤسسات الحداثة السياسية وفكرها. ماذا يعني أن تكون حرًّا؟ أن تكون ذلك الشّيء الذي تجده عندك ثم سرعان ما تجد نفسك محروماً منه فتسعى لانتزاعه؟ الحرّية هل هي حقّ طبيعي أم وضعي.. صفة أم جوهر به نقول: إنّ الإنسان حرّيّة؟ حرّية فعل أم تفكير وإرادة.. إرادة صامتة أم معلنة بها تتمظهر الحقيقة من خلال عقل الإنسان حينما يملك أن يجيب عن اكتشافه كما هو دون أن تتغيّر رغبته لقول الحقيقة؟ هل نملك أن نتحدّث عن الحرّية كما لو كانت شيئاً واضحاً معطى أم أنّنا سنصطنع أجوبة ونجعل الأمر في نهاية المطاف كما لو كان عبارة عن تشتيت الجواب وخلق متاهة من الإشكاليات بدل الأجوبة؟

يسعى جون بول سارتر لتخليص الحرّية من عوامل التّأثير الخارجي وجعلها إمكانية ذهنية عصية على التّرويض، أن يميّز بين حرّية الفعل وحرية الفهم والاكتشاف. في سياق ردّه على الفلسفة المادية وفكرتها الغامضة وعلى الرّغم من إشادته بأهمية النظرة الدّيكارتية للحرّية والتي تقوم على رابط روح العلم بروح الدّيمقراطية، فهو يزيد فكرة ديكارت حول تساوي قسمة العقل بين البشر، بلّة. يتعلّق الأمر هنا أيضاً بالحرّية من حيث هي الشيء الأكثر تساوياً بين البشر. الحرّية هنا بمعناها السارتري إرادة التّمييز والإجابة الطّيبة. من هنا لا مجال لأن يكون إنسان ما أكثر إنسانية من إنسان آخر؛ لأن الحرية هنا موزّعة بالسّوية على أفراد النّوع. هنا ترتبط الحرية بالفهم؛ فلا أحد يملك أن يفهم عنّي تماماً كما لا أحد يملك أن يموت من أجلي. على هذا الأساس لا إمكان للعوامل الخارجية إلاّ أن تلاحق أفكاري. وحينما تؤثّر تلك الأفكار في مسار فهمي للأشياء فسألجأ إلى تغيير رغبتي وأسبب هزيمة لنفسي. فالحرية من هذا المنظور المستند -حسب سارتر- إلى نزعة رواقية أيضاً، ليست هي القدرة على فعل ما تحبّ بل هي إرادة المستطاع فعله. وليس شيء يوجد في قدرتنا غير أفكارنا.

من هنا يبرز السؤال: هل بالإمكان الحديث عن الثورة من دون الحديث عن الحرّية؟!

من الصعوبة بمكان إقناع الجماهير الثّائرة بأنّ الحرّية قابلة للتفاهمات والتفاوض ولم لا أيضاً قابلة للتجزيء. لكن أنماط الاجتماع المعاصر كما يتّضح في مظاهر الاقتصاد السياسي وليس في مسطور القوانين والمواثيق التي تتحدّث عما يجب أن يكون عليه التّحرر بوصفه أساس حقوق الإنسان، سندرك أنّنا بلغنا مرحلة النّفاق والضّلال والالتباس المعرفي تجاه استحقاقات الكينونة. وهل يوجد يا ترى التباس وضلال أكثر من أن نخادع أحاسيسنا؟! في أنماط العبودية النيوليبرالية الواعدة بمزيد من الخداع لأحاسيسنا ستضطرنّا الأزمات البنيوية التي يساهم التّدهور البيئي في تقليص فرص وتمديد آماد حلولها، تتساقط الأقنعة وتتمزّق حجب الخداع لتظهر ديكتاتورية رأس المال بأنيابها الحقيقية وهي تقطر دماً، كما يظهر العبيد مطوّقين بسلاسل لم نكن نراها. هنا من حقّ الليبرالية الجديدة أن تخلق ملهيات خطاب التّحرر بتجريم أنماط خلت كانت العبودية فيها تقدّم نفسها بأساليب متوحّشة وربما حمّلت الأديان كلّ هذا البهتان لعصر صناعة الاستعباد؛ فيما يمكن الوقوف على مظاهر الاستعباد في دين الرأسمال، حيث هناك تكمن تراجيديا الإنسان المعاصر: عبيد في صورة أحرار! فحيث أمكن هضم هذه الحقيقة، أي إمكان تجزيء الحرّية وإخضاعها للتقسيط واشتراطات سادة الرأسمال وإدارة الدولة الحديثة، أمكننا القبول بفكرة الثّورات التجزيئية. وسوف تظهر الثّورات الحقيقية داخل الميتروبول وفي مركز الرساميل الدّولي، ثورات أعمق من تلك التي نتصفحها في سفر الربيع العربي، لأنّ نكهتها في المراكز هي نكهة التّمرّد برسم الاقتصاد السياسي وليست حراك هواة تمرّد يتساقطون في منتصف الطريق بنكهات أيديولوجية ملوّنة. هناك يصبح التّمرّد على الديكتاتور الحقيقي: رأس المال. وللوهلة الأولى تبدو الجماهير الثّائرة تمارس حرّيتها في الآن نفسه الذي تعبّر فيه عن تمرّدها. وهي إذ تنظر إلى حرّيتها فحسب لا تحمل بالضّرورة تصوّراً واقعيًّا عن حرّيتها. الخيال يحلّ محلّ الواقع.

عند ألبير كامو نقف على تفكيك ثريّ لمعنى التّمرّد والثورة والحرية والواقع والعقل. ففي نظره توجد الحرّية في مبدأ الثورات كلّها. هنا وفي زخم هذا الإحساس يتعذّر تصوّر الثوار للعدالة. يمكننا الحديث هنا عن الانتقام أو بالأحرى عن تلك العدالة العمياء. هذا الغياب لتصور العدالة عند الثّوار لا بدّ له من نهاية، أي لا بدّ أن تأتي اللحظة المناسبة لكي تقوم العدالة بإيقاف الحرّية، فتكون تلك هي اللحظة نفسها التي يعانق فيها العنف الثورة. فقبل أن توقف العدالة الثورة كان معمر القذّافي قد تعرّض لشرّ أنواع القتل والتمثيل من قبل الثّوار. وشيء غير مستبعد أنّ يسلّم الديكتاتور إلى الثّوار في زمن الحماس الثّوري والغياب الكامل لفكرة العدالة!؟ كان هنري ليفي إذن حاضراً بفلسفته في لعبة الحرب وقذارتها التي يتداخل فيها الحقّ والباطل، فلقد كان هنري ليفي وهو يراقب تدفّق الثّوار يستحضر بقوّة أنذاك أقاصيص سبارتاكوس ومتمرد ألبيركامو. وإن كان صدّام حسين لم يلق المصير نفسه، فلسبب بسيط، أنه لم يقع بين يدي الثوار، فيما كانت المحاكمة مطلوبة أمريكيًّا؛ لأنّ التحضير لتهريبه كان مقترحاً من سلطة الاحتلال.

الثورة ليست مجرد تمرد

وإن كان قد خلا منها معجم أندري لالاند الفلسفي فإنّ كلمة ثورة بارحت مجالها الفلكي الأول المعني بحركة الأجرام السّماوية لتصبح شأناً فلسفيًّا بامتياز. عن أصلها الفلكي لفت الانتباه كلّ من ألبير كامو وحنا إرندت وآخرين. حتّى لالاند نفسه لم يتطرّق لها إلَّا في سياق جعلها المعاكس للتطوّر(evolution)، وبذلك جعل منها معادلاً للديمومة. بالعودة إلى المتمرّد حيث يميّز ألبير كامو بين الثّورة والتّمرّد، تعتبر الثّورة عودة إلى الحدود، والتاريخ حدّ من حدود الإنسان. بينما التّمرّد ينزع نحو تجاوز الحدود، أي تجاوز الثّورة نفسها. صحيح أن كامو كان قد ذكّرنا بأنّ الثّورة هي دائماً في حاجة إلى قاعدة أو فلسفة تعدّل هذيان التّاريخ. لكن ثمّة دائماً خوف من الانزياح. فعلى لسان سان جوست يعلن تجمّد الثورة ووهن مبادئها حيث لم يبق سوى قبّعات حمراء تعتمر بها المكيدة. لا مائز في نظر كامو بين الماكيز ساد وسان جوست المجايل له، فهذا يبرّر الإرهاب الفردي ولسان حاله: أثبتو طهركم أو ادخلوا السجون، وذاك يبرّر الإرهاب الفردي ولسانه: افتحوا السجون أو أثبتو طهركم. يجب إذن الحذر من تلك المعادلة التي ذهبت بجوست حدّ الإقرار بأنّ التّمرّد متى ما اختلّ فإنه يتحوّل من إفناء الآخرين إلى إفناء الذّات. ويزيد بأنّ الثورة كانت تهرع نحو الطغيان لتصبح مجرمة. فالفضيلة بالذّات تتّحد مع الجريمة في أوقات الفوضى. وبتعبير كامو دائماً على لسان جوست، لا يمكن أن نسوس النّاس ببراءة.

نسائل هنري ليفي -بهلول الربيع العربي أو على الأقل الفيلسوف الذي أقحم نفسه في الحراك العربي عن ماهية الثّورة فنقف على أجوبة غامضة.

هنري ليفي يتحدّث عن ثورات لم تنطلق من الوضوح. كان الهاجس يقوم على فكرة الفعل الآني لما ينبغي فعله دون التّحقق من المآلات. في كلّ جدله يحرص على ألَّا يقع في متناقضات كلامه لذا يفكّر دائماً في الانزياح. هو في الموضوع اللّيبي صديق لشعب عربي لكنّه برّر كل جرائم الحرب التي تعرّضت لها غزّة من قبل الجيش الإسرائيلي الذي اعتبره الجيش الأكثر ديمقراطية في العالم. مكمن المفارقة في خطاب كاهن ثورات الربيع العربي هو أنه ملتقى لنزعة الفيلسوف والسياسي والمخبر ورجل الأعمال. هناك إصرار من ليفي على أن المسألة لا تعدو أن تكون توسّطاً ودردشة لم تدم أكثر من ثلاثة دقائق مع ساركوزي لتحقيق هذا الغرض. هنا يختار المثّقف استغباء العالم ولو تعلّق الأمر بمثقفّين مثله. فالعالم إذن قد يخضع لرغبة مثقف لا يناضل بل يهاتف أصحاب القرار. وبالتّالي يتبرّأ هنري ليفي من أي صفة رسمية تنسب إليه أو دور استخباراتي في مناطق التّوتّر والنزاع، بل وكما يؤكّد بمجاز غير مقنع أنّه نزل عليهم من لا مكان!؟ يهرب هنري ليفي إلى الميتافور وإلى الحديث عن المعجزة في تدبير الحدث وعن كلّ شيء إلَّا عن مكانته في معادلة تمزيق الخرائط وتصفية الحسابات. يبدو أنّ هنري ليفي هو المعلّم، أو بالأحرى سوفسطائي الربيع العربي. فهو ينصّب نفسه معلّماً ومنظّراً ومجادلاً ولو غير مقنع وصاحب خطاب مفعم بالمغالطة.

الجدل والمال والدعاية هي عناصر أساسية في المعلّم السوفسطائي. فالسوفسطائي يستعمل مناخ الدّيمقراطية لتصريف مغالطاته لكنه ليس صانع أصول الدّيمقراطية. وهو يتنقّل من مدينة إلى أخرى بحثاً عن المال.

لا نريد هنا أن نمضي على تفاصيل العلاقة التّجارية بين هنري ليفي وصديقه محمود جبريل كما كشف عنها تيري ميسان، لكن دعنا نقف عند مثال المعلّم السوفسطائي وعلاقته بالدّيمقراطية في العهد الأثيني. وتماماً كما لا أحد يملك أن ينكر ما لهنري ليفي من أدوار في ثورات الربيع العربي لا أحد يملك أن ينكر ما للسوفسطائية من أدوار تاريخية في المجتمع الديمقراطي الأثيني. لكن هذا الدّور مرفوق بالاستعمال. كان السوفسطائيون قد بدؤوا في تعليم النّاس فنون الجدل. غياب اشتراكية التعليم هي ما جعل هؤلاء السوفسطائيين يدخلون ظاهرة المزايدة في التعليم: من يدفع أكثر هو من يتعلم ويتثقّف أكثر. الأغنياء وحدهم بإمكانهم أن يتعلّموا. بينما السوفسطائي يتنقّل بين سائر المدن وليس فقط داخل أثينا الدّيمقراطية. انتشار الجدل السوفسطائي الذي استغل الديمقراطية الأثينية هو من ساهم في إفسادها وتكريس ثقافة النزوع المصلحي الفردي. لا يهتم السوفسطائيون بالديمقراطية ولا بالدّولة ولا بأي شيء غير أنّ همّهم تعليم فئة قادرة على أن تدفع لهم أجورهم. لذا بات المثل اليوناني: جمع بروتاغوراس من الثروة أضعاف ما جمعه فيدياس. ليس غريباً إذن ما قيل: إنّ كلّ مجتمع قد يظهر فيه سوفسطائيون همّهم لفت الأنظار وتحقيق مصالحهم الشّخصية.

لا يوجد شيء عند هنري يخسره. فهو حتى في إجاباته يتحدّث كما لو أن كلّ أدواره ليست رسمية ولا صلة لها بمخطّط دولي. ولكن وبعيداً عن التّورط في الأحكام بناء على فكرة المؤامرة هناك ما يعطي هنا صورة واضحة عن أن ليس عند هنري ليفي ما يخسره. فهو يدير معارك ساخنة بمجرّد الإقناع والإشراف. نتساءل أي سلطة أمكنها منح هنري ليفي كلّ هذه القدرة على صناعة الحدث الدّولي؟!

ما يلفت هنا أنّ ثورات الربيع العربي واجهت تحدّيات القرصنة، ما جعل الإطاحة بالنّظم هي أسهل بكثير من إعادة بناء الدّولة بمعناها الثّوري.

ماذا نقصد بالمعنى الثوري؟

مما لا شك فيه أنّ الثورة ليست احتجاجاً فحسب، ولا هي تمرّد فحسب. إنها نقيض الفوضى. يمكن أن تأخذ الثورة نصيبها الكامل من العنف، كما يمكن للثورة أن تأكل أبناءها كما فعلت دائماً قبل أن تستقرّ على وجهتها الأثيرة، لكنها لا تقبل بالنهايات المبتورة. إنها ليست هدماً للنظام إلَّا لبناء نظام بديل. هي بحث مضني عن النّظام. الثورة متجذّرة المعنى في علم الفلك كما التفتت حنا أرندت وكما التفت إلى ذلك أيضاً ألبير كاموا. بتعبير أوضح من كامو، هي حركة تقفل الحركة، انتقال من حكومة إلى أخرى. فما لا يكون كذلك هو إصلاح وليس ثورة. يمضي كامو بعيداً في تحديد المائز بين الثورة والتمرّد حينما يؤكّد على أنّ عبارة (هذه ثورة يا مولاي وليست تمرّداً)، تعني اليقين بمجيء حكومة جديدة. التمرد شهادة مضطربة بينما الثورة تعبير عن فكرة. أو بالأحرى عن إدخال الفكرة في التجربة التاريخية. لا يهمّ أن يكون للتمرد تاريخاً جماعيًّا لكنه ليس تاريخاً حقيقيًّا، بل هو بالأحرى تاريخ اقتحام وقائع بلا منافذ ومجرّد احتجاج مبهم. الثورة تدور مدار الفكرة وتكيف الفعل مع الفكرة وتعيد بناء العالم نظريًّا، من هنا حسب كامو دائماً فإن التمرد يقتل أناساً، بينما الثورة تهلك أناساً وتهدم مبادئ في الوقت نفسه. ترسم هذه الحقيقة قناعة أشبه بالعدمية كما عبّر عنها كامو من أنه لم توجد ثورة بعدُ في التّاريخ، ولا يمكن أن توجد سوى ثورة واحدة هي الثورة النهائية. بهذا يبدو أننا في حالة انتظار، حيث لا شيء من تلك الثورات تحقق حتى اليوم، بل إن تاريخ البشر هو تاريخ تمردات ليس إلًّا. إنّ ما يحدث هو سطحي للغاية حتى على صعيد التّحرّر. ففي نظر كامو لو حدثت تلك الثورة الحقيقية لما احتاج البشر بعدها إلى التّاريخ، أليس الثوار في نزعتهم لتوحيد العالم يتصرّفون كما لو كانوا على قناعة بنهاية التّاريخ؟ هنا يطالب التمرد بأن يكون ثوريًّا.

الوهم الكبير

لا تخلو ثوراتنا من أوهام إن لم نقل هي بؤرة لكبرى الأوهام. هنا يدفع الحماس المقرون بارتفاع كبير في منسوب مادة الآدرينالين في دم الثوار إلى الاعتقاد بأن نهاية التّاريخ هنا تصنع، بل ثمة الحقيقة تنحت صورتها إلى الأبد. حينما تفقد الثّورة مدلولها الحقيقي يكون من المتوقّع أن يتمّ تحويرها من قبل السّادة، وأحياناً لا شيء يتغيّر سوى أنّ قادة التّمرّد يمكنهم أن يعيدوا إنتاج سلطان السّادة بكيفية لا تخلو من إثارة. يمكننا الحديث في هذا السياق عن أنّ ما يجري حتّى الآن في المنطقة العربية هو فورة احتجاجية مضاعفة لم تبلغ مقدار الثورة بمعناها التّاريخي والاجتماعي والثقافي، ولكنها أيضاً ليست مجرد احتجاج عابر لم يترك أثراً على البنية السياسية والاجتماعية والتّاريخية. إذا جاز لنا أن نتحدّث عن خضراء الدّمن التي قال عنها صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي المرأة الحسناء في منبت السوء، فإنّ ذلك هو شأن الاحتجاجات القائمة في البلاد العربية؛ أشبه ما تكون بالثورة في منبت لا يتّسع اجتماعيًّا وتاريخيًّا إلَّا إلى مستويات من الاحتجاج لا تقضّ البنى ولا تغيّر المحتوى، الثورة في منبت الصفقات. أمّا الربيع العربي فهو عنوان مغرٍ بقدر ما هو مغالط، في بيئة عربية لا تتوفّر على الفصول الأربعة. فلا ربيع من دون شتاء. بينما كان أولى أن يكون المختار من بين العناوين الممكنة أن نتحدّث عن قلاقل عربية جاءت نتيجة تفاعل عوامل شتّى بقدر ما تناهت في مستوى الصّدمة والتعبير لم تنفذ إلى العمق الاجتماعي والتّاريخي مما جعلها تتأرجح على أرضية الحسابات والصفقات بينما بدا شبابها شبه أيتام وهم ينظرون إلى ثوراتهم تسرق أمام أعينهم، ومصائرهم تخضع لقواعد اللّعب السياسي.

التّحكم العلمي بالتمرّدات

ككل القضايا المعروضة على الفكر، لا بدّ من التمييز على طريقة باسكال بين ما كان فكراً هندسيًّا وآخر مرهفاً. ومهما بدا من سعة التفكير الهندسي فقد يكون من المهمّ أن نؤكّد على أنّ الفكر المرهف الذي ينفذ إلى عمق الأشياء على ضيقه وحدّته هو أهم من سعة الفكر الذي لا يتمتّع بتلك الخاصية. أعتقد أنّ باسكال اهتدى إلى سرّ آخر من أسرار التفكير. وكذلك بات واضحاً أن التفكير في قضايانا بما فيها حرّيتنا وثورتنا لا بدّ أن تخضع للتفكير المرهف لا التفكير الهندسي الذي يعيد ترتيب الأفكار كما لو كانت أشياء محدّدة سلفاً.

لقد مرّت ثورات من مجالنا العربي تحدّثوا عنها كما لو كانت ثورات تاريخية حلّت في وقتها. ومنحوها معنى جغرافيًّا حينما أطلقوا عليها عنوان الربيع العربي. الجغرافيا السياسية الملتهبة للمنطقة هي الأكثر بعداً عن التصريف في مقاربة حقيقة الثورات العربية. هناك استهانة كبرى بعصر الثورات الكبرى وإصرار على الحديث عن قطائع في معنى وصيرورة الثورات الجارية اليوم. هنا لم يعد من أهمية لاستحضار تجارب الماضي أو الحديث عن صيرورات. أحياناً لا يؤخذ من سلطان التّاريخ سوى الحدث باعتباره حدثاً تاريخيًّا وليس لحظة مهمّة في مسار تاريخي طويل. كما يؤخذ في العادة من سلطان الجغرافيا أن حدثاً كبيراً يجب أخذه على غموضه، في مجال يستحقّ أن يتعرّف على ثورته. أشياء كثيرة هاهنا منقوصة. وكبرياء الثورات العربية المعاصرة تجعلنا لا نقف على عمق الجدل الذي جرى على هامش عصر الثورات الكبرى. لقد خضعت الثورة الفرنسية والأمريكية والروسية لأقصى النقاش والنقد في حينها، ما جعلها أقل قدسية من الطريقة التي تقدم بها الثورات العربية اليوم نفسها لمجتمعاتها وللتاريخ. حول الثّورة كتب لينين الكثير عن سوء فهم مغزى دياليكتيك الثورة والمغزى الذي أكّد عليه ماركس لا سيما بضرورة تخفيض المرونة في عهد الثّورة إلى أدناها. هل يا ترى لذلك المعنى صلة ما بما يحصل اليوم في عهد ثورات لم تخل من سياسة الصفقات التي تعتبر في المعجم التقليدي للثورات خيانة بامتياز؟ لم يكن أعداء الثورة في يوم ما هم خصومها واضحي الملامح والمواقف. بل كان أعداؤها الأكثر مثاراً لخيبات الأمل هم خونتها. إنّ للثورة هي الأخرى آفات، أحياناً تنبت معها كأوراق برّية. وحينما تسبق الثورة تاريخها المقرّر تكون أشبه بولادة قيصرية قد تسفر عن مولود هشّ ضعيف إن لم تتداركه العناية. ولا أخطر على الثورة من السّذاجة!

يفرض علينا سؤال بسيط لكنه يلخّص القصّة كلّها: ما الذي جعل كلمة ثورة تفقد كلّ شحناتها من رهاب سنوات من التدجين الممنهج للّغة والألفاظ، لتصبح أخطر عبارة بالأمس هي أصدق عبارة اليوم تحمل مشاعر التطمين، وقد تتعايش مع نقيضاتها في عصر التّدجين إلى حدّ المفارقة!؟ هل لأنّ اللفظة خضعت لضرب من التفريغ الممنهج لشحنتها الأيديولوجية والعلمية على السواء، أم ثمة إرادة للتطبيع مع مفهوم ينتمي إلى جملة المفاهيم المقلقة للمجال العربي ؟

هنا لا بدّ من استعمال التفكير المرهف، واقتناص الدّلالات التي تعبر أحياناً فوق رؤوس الأصابع دون أن تحدث ضجيجاً. مهما أصرّت ثوراتنا على أن تبدو نبتاً أصيلاً في ربيعنا العربي، فإنّ قدرنا الجغرافي يجعل جغرافيتنا الطبيعية وكذا السياسية غير مهيّأة للفصول الأربعة. تملك جماهيرنا الكثير من القدرة على إحداث الصّخب وجعل حراس الاستبداد يفرّون إلى مواقعهم؛ لكنها لا تملك كلّ المعطيات وتقنيات تدبيرها وإمكانات صنع الحدث.

هنا لا مجال للحديث عن المؤامرة وإن تعلّق الأمر بحدث يدور حول مصير أكبر منجم للطّاقة العالمية. لا نستبق الوقت إن كنّا نعتبر أن الربيع العربي ما كان له ليأخذ هذه العبارة في الدّوائر الخارجية لو كان يؤدّي بالضّرورة إلى إنهاء فصول الهيمنة التّاريخية على المنطقة. فهناك معركة الأسماء والعناوين.

سبقت لعبة الألفاظ حوادث الربيع العربي وكأنها تمهيد لفظي لما ستشهده المنطقة وتكامل ديماغوجي مع ما ستؤول إليه الوقائع. فالثورة اليوم هي إرهاب بالأمس.. والمقاومون إرهابيون.. والحلفاء معتدلون بينما الممانعون أشرار!؟ معجم كيدي ارتهنت له سياسات العالم؛ لأن المتحكم في السياسات وألفاظها هو الاقتصاد السياسي. وكلّها تؤكّد أنّ مخاض الثورات العربية هو شكل من الممانعة ضدّ استلابها في عهد أمريكي جديد نراه هارباً من الشّرق الأوسط فيما هو يدبّر شكلاً مختلفاً من الالتفاف على مقدّراته. هنا تبدو مناطق المخاض هي الأكثر قدرة على الممانعة، خلافاً لما دونها.

ثمّة صراع أكبر من كلّ هذا الذي يحدث اليوم، تستعمل فيه كلّ تقنيات التمييع لمفاهيم التّحرر والدّيمقراطية والثورة إلى حدّ التشويه. إن كان العهد الأوبامي هو اللحظة التّاريخية التي رسمت بعناية لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من النتائج الخطيرة التي نتجت عن العهد البوشي، فهذا يجعلنا في صلب ما سعت إليه الأوبامية منذ أول بروباغوندا انتخابية لرجل اختير بعناية للتعبير عن سياسة مرحلة قادمة. الشخص الملوّن وذي الأصول الإسلامية؛ عناوين تسربت من هناك لتحتل صحافة العالم. خطب شاعرية في أسطنبول والقاهرة، والرهان على محو كره العرب لأمريكا، ومساعدة الثورات العربية حسب الاقتضاء، كلها مقتضيات العهد الأوبامي في سياسة أمريكية معروفة منذ نشأتها الحديثة بتقنية خاصّة للكرّ والفرّ.

ربما كان أريح للغرب أن يتعاطى مع مجتمعات عربية ديمقراطية على أن يتعاطى مع نظم مستبدّة. لكن ثمة أسبابا حقيقية لاستمرار هذا الموقف الشكيزوفيرني الغربي. فالعقد الاجتماعي الذي ينظّم الاجتماع الغربي لم يدرج بإصرار كبير كيفية تدبير تصرّف الغرب مع مجتمعات ما وراء البحار. ثم إنّ الدّيمقراطية الحقيقية في المجتمعات الثالثية عموماً تأتي بالتّحرر والنّدية والسّيادة والاستقلال، وهي أخطر العقبات في منظور الاقتصاد السياسي النيوليبرالي. فلا مخرج إذن إلَّا بصناعة ديمقراطيات للاستهلاك العمومي خارج الحدود الطبيعية للغرب؛ ديمقراطيات شكلانية تساهم في تفكيك المجتمعات ودفعها نحو أنماط من الكونية الاستهلاكية. تحرير أسواق لا تحرير مجتمعات!

في المنظور الأمريكي الجديد، لم تعد المراهنة على النظم العربية التي أظهرت الكثير من الضعف والفشل في مواجهة الممانعة ذات الرصيد الشعبي الكبير. في تقدير الاستراتيجيا العميقة لا تمثّل إيران خطراً على المنطقة. نظرة أعمق مما في أيدينا تؤكّد على أنّ وجود إيران كان قد منع من أن تبلغ الثّورات العربية المنطقة الخضراء. فثمة ما يميّز في مجالنا العربي بين الربيع العربي والمنطقة الخضراء. يحيل الأول إلى المناخ وإلى الزمان بينما يحيل الثّاني إلى المكان. هناك فصل متعسّف بين استجابة الزمان واستجابة المكان لسؤال الثّورة. هناك منطقة خضراء لا يدخلها الربيع العربي. والسّبب هو الخشية من إيران. فهذه الأخيرة شكلت سبباً موضوعيًّا لاستمرار نظم عربية. تحتاج واشنطن إلى إعادة توزيع سياسي وجغرافي للأحلاف بعد أن أصيبت سياساتها بالإحباط. لم تكن الفوضى الخلاّقة فكرة للفت النوايا بل سياسة ممنهجة أعطت ثمارها؛ لأنّه لا مخرج من هذا الجمود سوى بإعلان هذه الفوضى. حتى النّظم التي أدركت أنها لا يمكنها أن تستمر برسم الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدّة الأمريكية تحاول اليوم إظهار نشاط غير معهود وبلاءً حسناً وإرادة سياسية على المغامرة، لأنها تدرك أنها أمام آخر فرص إثبات جدارة الاستمرار كحليف قويّ يصنع الحدث.

ولإدراك هذه الحقيقة لا يكفي أن نحلّل ضمن معطيات سياسية، بل يتعيّن استيعاب طبيعة اشتغال العقل الأمريكي ونظرته للتاريخ والجغرافيات؛ لأنّنا لا زلنا أسرى فهم مبسّط منشؤه طريقة اشتغال الاستعمار الكلاسيكي لا سيما الفرنسي منه. الحديث عن فرار أمريكي من المنطقة بفعل هزيمته الكبرى في العراق وأفغانستان، هو نصف حقيقة ما يجري اليوم. فالصعوبات التي واجهت الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة نتيجة تنامي عوامل الممانعة المحلّية جعل واشنطن ونظراً للوضعية الحرجة التي تمرّ منها سائر المنظومة الاقتصادية الغربية تفكّر في العودة إلى الشّرق الأوسط أكثر من ذي قبل كما تفكّر في تغيير نمطية الهيمنة وفق إمكاناتها الموضوعية. إن الأزمة الاقتصادية العاصفة في البؤرة العظمى للراسميل لا تسمح بالعودة إلى الوسائل التي تمّ نهجها عشية سقوط الاتحاد السوفياتي. فاليوم توجد روسيا الطامحة إلى إعادة بناء الاتحاد الأوراسي، والصين التي تواصل نفوذها الاقتصادي العالمي، فضلاً عن قوى تعد بعالم متعدّد الأقطاب على أقل تقدير. لكن الأزمة الاقتصادية نفسها لا تسمح بأن تدير الولايات المتحدة الأمريكية ظهرها للشّرق الأوسط من حيث كان ولا يزال المصدر الأول للطّاقة. وقد يحدث ذلك في حالة واحدة: أن يصبح حلم الطاقة البديلة أقلّ تكلفة وأكثر نجاعة وتحقّقاً من مصادر الطّاقة التقليدية. وفي مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يستمر التّدخّل بسبب إسرائيل؛ لأنّ لتاريخ هذا الكيان علاقة بتاريخ الطّاقة في المنطقة أيضاً.

فهل يا ترى نستطيع الحديث عن علاقة ما آلت إليه وضعية التّدخّل وأنماطه بأشكال التّدخل الجديدة التي تهدف إلى تغيير مجرى الثورات العربية؟ كيف يحدث هذا في زمن الهروب الكبير لواشنطن من مناطق التّوتّر في الشّرق الأوسط؟!

لكي نفهم ذلك لا بد من إعادة اكتشاف العقل الأمريكي في مختلف تمظهراته ونشاطه بعيداً حتّى عن ضجيج الحرب. لقد عوّدتنا هوليود عن كثير من صور الاقتحام والغزو والاستماتة، لكننا قلما اهتممنا بفكرة الهروب في الفكر والأدب الأمريكيين، مع أنّ ما يميّز الحركة الأمريكية أكثر هو طريقتها المتميّزة في الهروب. ففي نظر لورانس، يمثل كلّ من الرحيل والهروب موضوعاً أسمى للأدب. وهي النظرة التي جعلت دولوز يمنح هذه الثّيمة أهمية في تحليل خصائص الأدب الأنجلوساكسوني، بوصفه أدباً متفوّقاً على الأدب الفرنسي. وليست تلك هي المرّة الأولى التي يحدث فيها الحديث عن ضعف الأدب الفرنسي إزاء الآداب الأخرى. فكما حاول في فترة متقدّمة تولستوي تكريس صورة سلبية عن الأدب الفرنسي المولع بالرّداءة الأخلاقية كأدب انحطاطي فها هو من داخل فرنسا ينبري دولوز ليؤكّد تفوّق الأدب الأنجلوساكسوني على الأدب الفرنسي من ناحية الخيال واستيعاب الصيرورة. وتكمن أهمية الأدب هنا في أنه ديوان التفكير والعقل الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً.

على هذا الأساس اهتدى يوماً إدوارد سعيد ليطوّق عقل الاستشراق بوصفه عقلاً فاعلاً في السياسة والحرب لكنه مستنبت من داخل المخيال الشعري والأدبي.

لفهم التّاريخ لا مندوحة من إدراك البنية. هنا، وعوداً على بدء، لا يعني الهروب حسب دولوز الخروج عن العالم، بل هو ضرب من المغادرة الموطنية (deterritorilisation).وهو المعنى الذي لا يفهمه الفرنسيون؛ لأنهم -في نظر الكاتب- يهربون مثل سائر الناس. ولا يعني الهروب الكفّ عن النّشاط بل لا وجود لشيء أكثر نشاطاً من الهروب. يستشهد الكاتب بعبارة جورج جاكسون: من الممكن أن أهرب لكن سأظل طيلة هروبي أبحث عن سلاح.

المثير هنا أنّ فكرة الهروب خادعة، وهي في حدّ ذاتها تشكّل حدثاً ينبغي التّوقّف عند دلالاته بما فيها الأكثر غموضاً والتباساً. فهناك شخصيات تصنع خطّ هروبها وثمة أخرى تصطنع من خلال خطّ الهروب. في أي عملية هروب، يتعيّن أن نفترض بروز لاعبين جدد كما يحصل هذه الأيّام مع الهروب الأمريكي الكبير من الشّرق الأوسط؛ لاعب أتقن الهروب ولاعب أتقن ملأ الفراغ أو تأمين الهروب.

بالعودة إلى دولوز، فإنّ كلّ شيء في هذا الأدب يتعلق بالصيرورة والقفز والمرور والعلاقة مع الخارج. فالأدب الأمريكي هنا يعمل وفق خطوط جغرافية: الهروب نحو الغرب واكتشاف كون الشرق الحقيقي موجود في الغرب. الجغرافيا صيرورة في نظر دولوز. وهي ليس لها مقابل عند الفرنسيين. فهؤلاء مولعون بالإنسانية والتاريخ وهم عاجزون عن مزاولة الصيرورة ومهتمون بالبحث في مقولة الماضي والمستقبل التاريخيين. وفي الثورة تراهم منهمكون في البحث عن مستقبل الثورة لا عن صيرورة الثورة.لا يهم ما للهروب من صفات ونعوت. فهو في نظر دولوز متأمّلاً الأدب الأمريكي، بمثابة نوع من الهذيان. إنه شيء يشبه حركة الجن والشياطين، أي القفز ما أمكن فوق الفواصل. يورد هنا عبارة أوديب عن: أي شيطان قفز أعلى قفزة. لا بدّ من خيانة في خطّ الهروب. لكنها ليست خيانة كرجل غشّاش يصنع مستقبله بل خيانة أي رجل عادي فقد ماضيه ومستقبله.

إذا تأملنا جيّدا في هذا النّمط من الهروب كما يعكسه الأدب الأمريكي سندرك أن أمريكا تعيد اكتشاف الشرق الأوسط من خلال شكل مختلف من الغزو. تريد أن تغزو غرباً بديلاً عن الشرق، أي شرق أوسط جديد لا زالت تنظر إليه كشطر أمريكي. ويمكن للثّورات أن تلعب هذا الدّور متى سمح للتّمرّد بأن يخرج عن حدّه على أن يؤدّي مهمة تاريخية يكون فيها الحدّ الأدنى من الانفراج الصوري في العلاقة بين السلطة والمجتمع هي العمولة المستحقّة في هذه اللعبة التي تجري فصولها اليوم. العودة هنا لا تصنعها الثورات بل تقود إليها الثّورات المضادّة. ومن الطّبيعي أن تكون الجماهير التي استيقظت على معنى مختلف وقفت أمامه بنوع من الدّهشة في بداية الأمر قبل أن تدرك أنّ ثمّة مساحة رخوة للمضيّ بالتّمرّد إلى حدّ إسقاط نظم معيّنة وليس سائر النّظم مع أن معظمها مدين للنّزعة الباترياركية نفسها. من الطبيعي إذن أن تقوم الثورة المضادة، أو بتعبير أدقّ أن يتمّ التحكّم بمسارات التّمرّد إذا أدركنا، فضلاً عن خدعة الهروب الكبرى، نوعية الوعي الذي يضيء للجماهير طريقها.

فإذا كان ما يميّز ثورات الربيع العربي هو غياب قيادة حقيقية فهذا بقدر ما يستغفل الجماهير بأنّها تنحت نمطاً مبتكراً من ثورات بلا قيادات تاريخية، فهو يثير مشكلة حدود الوعي الجماهيري، ما دام أن التّحكم بالتّمرد يجد المهمّة أسهل في غياب القادة التّاريخيين الذين يكمن دورهم التاريخي في تنظيم حركة الجماهير ورفدها بزخات من الوعي، فالقيادة تخوض معركة من نوع آخر، معركة الوعي لحماية الثورة من الثورة المضادة وحماية الثوار من الانتحار. أن تكون ثورات الربيع العربي من دون قيادة تاريخية هو مطلب شكّل وسيشكّل قشرة موز تحت أقدام الجماهير المهرولة. وفي بعض الحالات يستطيع اللاعب والمتحكّم بالتّمرّد أن ينتج قادة على مقاس المتحكّم بالثورة لا على مقاس الثورة.

نحتاج إلى فهم جانب من سذاجة فكر الجماهير لتكتمل الصّورة. فالعيب هنا لا يكمن في أفراد الجماهير بل في وعيها الجماعي. ففي الجمهور أذكياء وعقلاء ما لم يغرقوا في الحشد. لكن ما أن يتصرّفوا كجماعات حتى يغلب الوعي الجماعي على الوعي الفردي. في سائر الثّورات شكّلت القيادة التّاريخية عقل الثّورة. ففي حمأة تفاعل العقل الجماعي للجماهير المندفعة يوجد عقل يفكّر للجماعة كما لو كانت جسماً واحداً. بخلاف ثورات اليوم هي ثورات مقطوعة الرأس، جسد منشطر على نفسه يتحرّك بهذيان جماعي وبخيّال بالغ العناد؛ تخيّل أي كارثة تلك إن كنّا سننظر إلى ما يحدث من خارج تحكّم عواطفنا! إنّ المسافة الفاصلة بين علم النفس الفردي وعلم نفس الجماهير هي نفسها المسافة بين غوستاف لوبون وسيغموند فرويد. بين الغريزة الفردية وبين الغريزة الجماعية. لكن ما يبدو لي غير واضح تماماً هو هذه النزعات التي تتأرجح بين أقصى الفردية وأقصى الجماعية. لنتساءل مثلاً حول ما إذا كان الفرد يفقد كل نزعاته الفردية وسيكولوجيته حينما ينصهر في حراك جماعي؟ إلى أي حدّ يمكننا أن نفترض أنّ الفرد في الجماعة لا يفعل أكثر من التعبير عن سيكولوجيته الفردية العميقة؟ بل إلى أي حدّ يمكننا الافتراض بأنّ السيكولوجيا الجماعية هي مجرّد إمكانية كامنة في سيكولوجيا الفرد نفسه؟ ما الذي يجعل الفرد يفقد الكثير من طاقاته الاحتجاجية بمجرد ما يعتزل الجماعة؟ فالجماعية هي في حدّ ذاتها غريزة إنسانية على أساسها يقوم الاجتماع. لكنّها لا تستغني عن التّعقل الفردي. ليس للحشد منطق أرثميطيقيّ. ليس هو مجموع عدد الأفراد مع حفظ تعدّديتهم الفردانية. إنه انصهار في ذات جماعية جديدة تختلف عن سائر الذّوات المكوّنة للجماعة.

كان ابن خلدون في علم العمران البشري أميل إلى ما سيذهب إليه غوستاف لوبون بعد قرون. فابن خلدون لم يمنح للجماهير غير دور الغوغاء المخرب للحضارة وهي النظرة التي ورثها لوبون من سابقيه. عزا ابن خلدون للجماهير دور تخريب المدنية في شمال أفريقيا من خلال حديثه عن أسراب بني هلال وبني سليم الموسومين بالبداوة. فالبداوة التي تعني صفة الغالبية هنا هي ثقافة الجماهير المهدّدة للحضارات. إن كان ابن خلدون قد وافق نظرة فلاسفة اليونان وفلاسفة عصره في عدم إعطاء أهمية لدور الجماهير في بناء الحضارة، فإنّ الموقف السلبي لابن خلدون من الثورة لم يكن يعكس أكثر من وضعية الاجتماع السياسي لعصره؛ أي عصر ما قبل الجماهير. فالحضارات كان يبنيها العبيد والأسرى ولا يبنيها الأحرار. تعتبر العصبية دينمو العمل الجماهيري. لكنها هنا تعني الأنصار والقبيلة التي تجمع بينها آصرة الدّم. بينما عصر الجماهير هو عصر الأمّة الواسعة الانتماء، أي الجماهير المجتمعة على آصرة الانتماء للمكان: لجغرافيا سياسية وثقافية واجتماعية.

ساهم تطور المجتمع الحديث في بروز فكرة الجماهير التي عجز ابن خلدون عن هضمها يوم كان يخنزل العصبية في القرابة والقبيلة بينما غدت العصبية اليوم تتجلّى في منظور خارق للقوّة لا يقف عند القبيلة ولا تحدّده النظرية التقليدية للقوة، بل باتت القوة نفسها تشهد تطوراً جعلها علاقة أكثر مما هي حقيقة قارة في جانب معيّن.

اليوم وفي عصر الجماهير تسقط النّظم بوسائل أكثر نعومة وخبثاً من سائر العصور. فالصحافة غدت سلطة رابعة وهي تعكس قوّة الكلمة والمعلومة والخداع. ومن هنا ندرك مقدار الدّهشة التي انتابت الكثير من المراقبين عند سقوط نظام بن علي ومبارك والقذافي بسرعة فائقة. ذلك لأنّ الكثير من المراقبين كانوا ما زالوا أوفياء لذلك المعنى من القوّة المحصورة في شكل معيّن وليست علاقات تناقضية تتراكم وتفاجئ وتدهش نتائجها من رأى.

لا يمكننا فهم تداعيات الثورة والثورة المضادة في المجال العربي خارج معطيات التحليل النفسي للجماهيري. لا سيما علاقة الجماهير بالقادة. في نظر لوبون تعود جميع الظواهر إلى عنصري الإيحاء وهيبة القيادة. وهو ما سيعتبره فرويد تعديد في غير محلّه، بما أنّ هيبة القادة تعود نفسها إلى عنصر الإيحاء. أيًّا كانت حقيقة الإيحاء فهي تعبّر عن نفسها كشكل من انتقال القناعات والأفكار والأحاسيس إلى آخر غير قاصد أو لا تربطنا به علاقة حميمة. شكل من أشكال العدوى. ولهذا العامل دور مزدوج قد يخدم أغراض الجماعة بقدر ما قد يضرّها. فالجماهير ليست معصومة ولا بمنأى عن الخطأ. بل إنّ تاريخ الجماهير هو تاريخ أخطاء بالجملة. ولذا ظلّت في أغلب حقبها مستعبدة ومتخلّفة ولا تملك إلَّا أن تثور في لحظات تاريخية معيّنة.

تاريخ الأمم يغلب عليه القهر واللاّمساواة والإقصاء والجهل أكثر مما يغلب عليه العدل والوعي والرّفاهية. عند أميل دوركهايم نقف على معنى لا يقلّ أهمية في رصد العوامل النفسية والاجتماعية الأخرى للانتحار. فحتّى الانتحار هو موضوع عدوى أو ما يفضّل دوركهايم أن يسمّيه بالتّقمّص أو التقليد أو التّشبّه. فبين أفراد من المجتمع قد تنتقل هذه الأحاسيس بواسطة التّقليد. ليس بالضّرورة أن يكون بين المتشبّه والمتشبّه به رابطة ثقافية أو قيمية أو تبادلية ولا حتى لغة مشتركة ولا على مسافة قريبة قبل انتقال العدوى، بل حتى لو كان الشّخص المتشبّه به غريباً عنّا وفي حالة عبور.

تضعنا فكرة دوركهايم عن انتقال عدوى الانتحار وعموم المظاهر عبر التشبّه والتقليد من دون وجود روابط مشتركة إلى ظاهرة قلّما عُني بها في استقراء العوامل السيكولوجيا والاجتماعية لانتقال أنماط التفكير بين التيارات التي تتنافس فيما بينها أشدّ ما تكون المنافسة للظّفر بقيادة الجماهير والتأثير عليها. ففي الغالب تأخذ هذه المنافسة شكلاً صراعيًّا في صميم المفاهيم والشعارات والأفكار، لكن ما أن تنتصر إحدى التّيّارات حتّى تتمثّل تراث الأخرى كما لو أنها لم تحاربه. ونجد لهذا في مظاهر ثورة الرّبيع العربي الكثير من الحالات. فاليسار ما أن يتمكّن من دواليب السّلطة حتّى يخفّض من حدّته ويرفع مرونته عاليًّا على خلاف وصيّة ماركس، ليتمثّل الكثير من عوائد الرأسمالية. والإسلامية الجديدة ما أن ظفرت بالحكومات حتّى تغيّرت أنماطها في التفكير وتمثّلت لغة اليسار واليمين.

في كثير من الأحيان نتحدّث عن وجود موقف مسبق أو خيانة أو ارتداد عن مبادئ وأفكار ومواثيق، لكن في الحقيقة قلّما انتبهنا إلى عامل العدوى وانتقال القناعات والأفكار والأنماط حتى من قبل أولئك الذين لا تربطهم بنا رابطة أيديولوجية أو لغوية أو مصلحية. لوبون وفرويد كلاهما متقدّم على ماكس ويبر وفكرة الكاريزما ودورها في المجتمع والتّاريخ. من السهولة أن تختزل فكرة الكاريزما إلى فكرة الباترياركية التي ساورت فرويد ومن خلالها حلّل العلاقة بين الجماهير والقادة. هي في الخلاصة المتوقّعة أن تكون علاقة ليبيدينالية تماماً كما يمكن توقّع أي علاقة على أساس أنماط وقوّة الإنتاج في المنظور الاقتصادوي.

يعدّد فرويد أنواع الجماهير: جماهير بقيادة وأخرى بلا قيادة، جماهير اصطناعية وأخرى غير اصطناعية، جماهير متجانسة وأخرى ليست كذلك.

بغضّ النّظر عن تلك الأنواع الأخرى لا شكّ أنّنا أمام مثال حيّ اليوم: مثال الربيع العربي، ثورات ملوّنة غير متجانسة ومن دون قيادة ومصطنعة أي ليست بمنأى قليلاً أو كثيراً عن التأثير الخارجي. في غياب القيادة هناك غياب للأب. يخيّل إلى الكثير من المثقّفين أن مخرج أزمة المجتمع العربي هو في موت الأب أو بتعبير هشام شرابي تهديم الأبوية. والحقيقة أنّ بلوغ الظواهر إلى مستوى المنفعة الحدّية هو الذي يستدعي التّوقف. الباترياركية هنا لا تجثث جذورها حتى في مظاهر المجتمعات الحديثة. فالديمقراطيات أعادت إنتاج مفهوم الأب في صورة الكاريزما ومنحته فرص النّجاح أكثر من عهود اللاّدولة. تعيد الوضعية الجماعية الفرد إلى خبراته النفسية الأولى الموسومة بالطيبة والنبل والوفاء. وذلك كلّه نابع من إوالية نفسانية عميقة تستحضر قيماً مكنونة في أعماق النّفس بقوّة الحضور الجماعي ورقابته. لا نقول هنا: إن الفرد يخدع الجماعة في هذا الانصهار شبه الكامل بتفعيل مخزونه من الأنا الأعلى بالمفهوم الفرويدي، لكّنه يكشف عن إمكانات أخرى في أعماق النفس الفردية وهو ما تطلبه الجماعة إلى حين تحقيق غاية الثورة. وتكشف حالات الارتداد الفردي في سياق الثورات وبعدها على أن اللاّوعي الفردي كان يحتفظ دائماً بكلّ النزعات الآبية للشراكة مع قيم الجماهير، بل وتحتفظ الأنا الأكثر وفاء لمصالح الشخص بموقف خاص، هو استعمال الفرد لقوة الجماهير في تحقيق رغائبه الشّخصية. يظهر هذا بشكل أكبر في النخب والقيادات التي تفشل في تقديم نفسها عقلاً للثّورة لا عقلاً يفكّر على حساب الثّورة. هو ذا الفرق بين القيادة الجزافية والقيادة التّاريخية.

سرّاق الثورة هم أيضا مدينون لعلم نفس الجماهير أو بتعبير أدق للغوستافلوبونية. هم يدركون حدود وفاء الجماهير لمثلها. فإن كان هذا الوفاء غير نهائي حتّى أنّه يعانق اللاّواقع ويتشبّت بالطوبا، فإنّ محاولة تطويع الجماهير هو فعل متربص لا يقف عند حدّ. وفي مثال مصر نقف عند شيء من هذا المعنى. فالمجلس العسكري الذي يبدو أكثر استيعاباً للدّرس الغوستافلوبوني من سائر النخب، لا يتوانى في مناوراته السياسية لتطويع الاحتجاجات. ويقدّم نفسه في هيئة أبوية، بوصفه منقذ الثّورة وحاميها والعاطف على الشّعب والوصيّ الشّرعي كل تاريخ وجغرافيا مصر.

لا شكّ في أنّ عصر الجماهير اليوم ليس هو عصر الجماهير سابقاً. إن للتاريخ تأثيراً مختلفاً على الجماهير؛ بات مؤكداً أن نتحدّث ابتداء من اليوم عن عصور للجماهير وليس عن عصر واحد للجماهير تماماً كما ميّز فرويد بين أنواع الجماهير. وأستطيع أن أؤكد من خلال هذا التمييز على فكرة أنّ عصر جماهيرنا يبدو أكثر انتهازية وأقل طوباوية من عصر الجماهير السابقة. فجماهيرنا تدرك حدودها وهي في الغالب لا ترفع السقف عالياً ولا تفقد كامل عقلانيتها في التّمرد مهما بدا لنا من سيكولوجيتها الجماعية. ذلك، ولأسباب تاريخية محض، نابع من عمق النزعة الفردية ونفوذها حتى داخل العقل الجمعي. فالخيط الرفيع بين الوفاء والانتهازية، بين الصمود والارتداد، واضح في مسار ثورات الربيع العربي. في مصر تكمن حرب باردة شديدة الحذر والبراغماتية بين أشكال الجماهير المنظمة وغير المنظمة. الحرب الباردة بين مجموعات 25 يناير المدشنة لعصر الجماهير في مصر والإخوان الذين يتأرجحون بين ميدان التحرير والعسكر مستفيدين من وضعيتهم التي تتفوّق تنظيميًّا على جماهير غير متجانسة وضعيفة التنظيم. ولهذا نظائر في تجربة الربيع العربي في سائر الأقطار العربية. إن ما يسم عصر جماهيرنا هو التطور السياسي. بل إن عصرنا جاء على إثر مسارات تنموية عززت من عهد الاقتصاد الجماهيري. فالتطور الكبير للتعليم والثقافة والإعلام جعل الجماهير أكثر حرصاً واستيعاباً و براغماتية وأكثر قرباً من وعي النخب. إنّ الوعي الجماهيري اليوم يتحكّم به وعي شبيه بالوعي الفردي من حيث هو أكثر استيعاباً وخضوعاً للمصلحة. فالجماهير لا تنصهر كلّيًّا بل تحتفظ بمساحات للتّفرّد، يتحكّم بها عنصر الأمل والانتظارات التي تعني إمكانية انعتاق الفرد من حالة العبيد إلى وضعية السّادة، أي الانعتاق من العقل الجماعي بمجرّد تحقّق المصلحة الفردية؛ الثورة هنا وظيفة آنية أو عقد غير مسطور وغير مضمون. قد يصعب على الغوستافلوبونية أن تقارب جانباً من مفارقات وعي الجماهير الراهنة، ولكنها تملك القاعدة الكلّية لنزعتها: الاندفاع الغريزي!

أسطورة الوعي الشعبي

إن كان ثمة من معطى أساسي في مجمل الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية عام 2011م، فهو العودة الشّاعرية لعصر الجماهير بعد أن نما الاعتقاد بموت الجماهير لا سيما في المنطقة العربية. وكان لهذا الموت مظاهر عديدة أدّت إلى تسرّب اليأس إلى الخيال ما كان سبباً للتأسيس لعصر العدمية. إحدى أخطر مظاهر موت الجماهير في المنطقة العربية بروز خطاب تحقير الجماهير مجدّداً. فالمسؤولية ما عادت تتجّه إلى القوى المهيمنة على الجماهير، بل باتت هذه الأخيرة مسؤولة عن تخلّفها وانتهازيتها وموتها. أمّا آخر البؤساء الذين كانوا لا زالوا يحلمون بقيام الجماهير بالثورة فقد كانوا حتى في حلمهم مجرّد معاندين ويائسين رفضوا إلقاء السّلاح. بموت الأفكار والأيديولوجيات التي راهنت على دور تاريخي للجماهير ازداد الوضع بؤساً واضمحلت فكرة الجماهير حتى لدى التّيارات الماركسية التي قامت بمراجعات نزعت ببعضها إلى مزيد من التخلي عن الجماهير ومزيد من الانفتاح على الليبرالية الفردية، أي حينما دخلوا إلى عهد الصّفقات والنّخب. لكن عودة عصر الجماهير كان يفرض الكثير من الاعتقادات التي ستضعنا أمام إيجابيات وسلبيات عصر الجماهير. يظهر ذلك مليًّا في التجربة المغربية بوصفها قدّمت مساحات سياسية أوفر مقارنة بنظيراتها العربية. فقد يبدو من السهولة أن نخضع أسباب اختيار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للمعارضة وعدم المشاركة في حكومة البيجيدي على الرّغم من أنه كان المعني الأول في هذه المشاركة. ويبدو أنّ السّبب التّاريخي وليس السياسي هو العودة إلى الجماهير بعد أن بتنا أمام حتمية عودة عصر الجماهير. فبلوغ الحكومات في عصر الجماهير قد يعتبر فوزاً سياسيًّا لكثير من القوى السياسية لكنه خسارة تاريخية في عصر الجماهير. إنّ بلوغ الحكومات في عصر الجماهير نكسة تاريخية لجزء كبير من الحركات الإسلامية. وأخال أنّ قوى الصّفقات الإسلامية هي الخاسر التّاريخي الأكبر في هذا الرهان المدروس؛ لأنّ مجيئهم إلى الحكومات هو حرمانهم من رصيدهم التّاريخي من عصر الجماهير وجعلهم وجهاً لوجه مع استحقاقاته.

كان الفضل في بزوغ علم نفس الجماهير يرجع إلى ظهور عصر الجماهير باقتحام هذه الأخيرة مجال التأثير في المجتمع والسياسات وكذا مصير الحضارة. حتّى قبل أن تتطوّر فكرة سيكولوجيا الجماهير مع غوستاف لوبون وسيغموند فرويد، كانت الجماهير عبارة عن غوغاء مخرّب للحضارات التي تبنيها النخب. فالحضارة تقتضي نزوعاً للبناء والإيجابية والعقلانية، وتلك في نظر منظري الحضارة ما قبل عصر الجماهير ليست شأناً للجماهير، التي تنزع في الغالب إلى التخريب والتّدمير.

بالنّسبة إلى التّيارات التي راهنت على قوّة الجماهير وأعادت إنتاج فلسفة كاملة عن دور هذه الأخيرة في بناء الحضارة ووضعية الجماهير على قاعدة الاستغلال الطّبقي، فإنّ العقلانية تتجلّى في موقف الجماهير حينما تقوم بمسؤوليتها التّاريخية كما تنفي عنها صفة التخريب والغوغائية حينما تنصهر في مشروع جماعي يعيد إنتاج الفرد داخل شخصية الجماعة مما يكسبه طبيعة ثانية من الوفاء للجماعة والتّضحية والمثل. إنّ شخصية الفرد تكاد تندكّ في شخصية الجماعة. كانت الماركسية قد أعادت من خلال المانيفيستو الشيوعي الشهير الأهمية التّاريخية للجماهير: يا عمال العالم اتّحدوا. ومما لا يخفى أنّ الثورة لا تتحقّق إلَّا بقيام الجماهير. ولذا يمكن القول: إنّ عصر الجماهير هو في حقيقة الأمر عصر امتياز الاحتجاجات والثورات لا امتياز الحكومات.

في مغزى الحراك الجماعي

وإذا كان ذلك هو الإشكال الذي يثيره عنوان الثورة والربيع العربي، فأيضاً هناك مفهوم الحراك الاجتماعي الذي قلّ ما يتمّ استيعابه بصورة أعمق من المتداول في الخطاب اليومي. وهذا يحيلنا إلى الجدل الحاكم بين الثبات والحراك في حياة الجماعات وحقيقة ما بينهما من تكامل وظيفي. يعتبر لوبون أن خاصية سيكولوجيا الجماهير هو انقيادها للعناصر العاطفية والصّوفية، فلا يمكن لأيّ حجة عقلية أن توقف هذه الاندفاعات التي تستجيب لها على الفور. أيًّا «كان الغرض إحراق قصر أو إتيان عمل كريم فإنها تندفع نحوه بسهولة واحدة، والأمر إنما يتوقّف على طبيعة المحرّك لا على ما يرجّحه العقل من وجوب إمضاء الفعل أو الإحجام عنه كما في الأفراد». لا تأتي الأوهام إلى الجماهير إذن من خارجها، بل هي نفسها تساهم في تضخيم الحوادث وتشويهها. فليس سرعة التصديق في نظر لوبون وحدها تجعل الجماهير تهيم في اختلاق الأقاصيص بل يعود الأمر أيضاً إلى مخيّلتها، لأنها في الأصل تفكّر بواسطة التّخيّلات. هذا لا يمنع من أن تكون الجماهير بخلاف الفرد تتمتّع بخصائص أخرى غير التدمير والقتل، بل أيضاً بالإخلاص والتفاني والذّوبان في المبدأ.

ما قدّمه غوستاف لوبون في مجال سيكولوجيا الجماهير فتح جيلاً كاملاً من الأفكار، بل كان مؤشّراً على تحوّلات كبرى في سيرورة الاجتماع والحضارة الحديثة. كانت النهضة ثورة العلم والعلماء بينما عرف القرن الثامن والتاسع عشر ثورة الجماهير والنخب التي قادتها، ثورات سياسية واجتماعية وثقافية. فكرة لوبون عن سيكولوجيا واعتقادات وآراء الجماهير انبنت على مظاهر الاحتجاجات والخطابات التي عرفها مجلس العموم البريطاني والحراك الاجتماعي الحزبي والنقابي. ولا يعني موقف لوبون من همجية الحراك الجماهيري موقفه السلبي من المعتقدات مقابل المعرفة. فهو في هجائه لسيكولوجيا الجماهير يشير إلى انتهازيتها ولا عقلانيتها ولا أخلاقها. إذا كانت المعرفة في نظر لوبون أساسية في قيام الحضارة، فإنّ الاعتقاد يوجّه الأفكار والآراء والطريقة. وهذا أمر مستمر حتى زمان لوبون الذي رأى أن المعتقدات كفّت أن تكون مسلّمة كما كانت في الماضي ومع ذلك لا زالت تفرض نفسها في توجيه الأفكار. وعلى هذا الأساس اهتدى لوبون إلى أنّ الثورات الحقيقية هي تلك التي تجدّد المعتقدات التأسيسية للمجتمع. وهو قلّما يحدث في نظره. فالمتغيّر في مثل هذه الحالات هي العناوين. فـ«الإيمان يغيّر الموضوع لكنه لا يموت أبداً». وفي نظر لوبون لا يمكن للاعتقاد أن يموت لأنّ الحاجة الإنسانية له هي حاجة سيكولوجية مثل حاجة اللذة والألم. فسيكولوجيا الإنسان تخشى الشّك وتتهيّب انعدام اليقين. هذه الحاجة مستمرة وما يحدث اليوم في العصر الحديث هو أنّنا أمام كثير من الاعتقادات مقارنة بالقرون السابقة. هناك حاجة ماسّة لأن يقاد الإنسان بعقيدة دينية أو مبدأ أخلاقي أو سياسي. فالمذاهب المندثرة سرعان ما تعوّض بأخرى جديدة. فقد بات السبب في عدم تطور ذهنية المؤمنين عبر التّاريخ، هو أنّ الأحاسيس التي تشكّل الأسس الحقيقية للنّفس، حافظت على ثباتها. فالذكاء يتطور بينما الأحاسيس لا تتغيّر. وبفضل الاعتقاد وسحره يتحوّل غير الواقعي أقوى من الواقعي. فالمعتقد متى تمّ القبول به يمنح المجتمعات مجموعة من الأفكار الخلاّقة حول وحدتها وقوّتها. لقد ظلّ مجال المعرفة مختلفاً عن مجال الاعتقاد. ومن هنا حسب لوبون لا قيمة لأيّ محاولة لوضعهما الواحد في معارضة الآخر. فحتى في مجال العلوم ظلّ هذا الأخير مهيمناً على كل الموضوعات المجهولة، أي العجائب!

يمكن ملاحظة هذا النزوع الصوفي عند الجماهير في كل العصور. فإن لم يظهر هذا الأخير في المعتقدات الدّينية فستراه يهيمن على التّصورات السياسية. وحسب لوبون دائماً، فإنّ تاريخ الثورات يكشف عن ذلك في كل صفحاته. كما يعتبر أن النقطة الأساسية لسيكولوجيا الجماهير هو ضعف سيطرة العقل عليها. إنها مجرد عواطف تعبّر عن نفسها في صورة أفكار. وإذا كان ذلك هو واقع مشاعر الجماهير وطريقتها في التفاعل مع الحقيقة، فإنّ خاصية أخرى في نظر غوستاف لوبون تكتنف سيكولوجيا الجماهير وهي حقًّا تكشف عن الكثير من الحقائق التي عادة ما يتم إغفالها في مقاربة الحراك الجماهيري. ويتعلّق الأمر هنا بجدلية الحراك والثّبات بخصوص آراء الجماهير. يقدّم الحراك والثّبات نفسيهما هاهنا بشكل متناقض تماماً. فمع أن الحراك يبدو خاصيتها وهو كذلك إلَّا أنه أشبه ما يكون بأمواج المحيط الناتجة عن المياء الهادئة. فالحراك البادي على السّطح يخفي عناصر أكثر استقراراً. فخلف حراك الجماهير وحماستها وعنفها وكراهيتها التي تساهم في عديد من الانقلابات توجد غرائز محافظة قويّة. تظلّ الجماعات اللّتينية الأكثر ثورية في نظر لوبون هي الأكثر محافظة، فالنظم التي يتمّ تدميرها من خلال هذه الجماعات سرعان ما يعاد إنتاجها باسم مختلف. هنا لا شيء يؤثّر سوى الزمان.

هل دخلنا حقًّا عصر الثّورة؟

الذين أرّخوا لعصر الثورة في أوروبا من أمثال إريك هوبزباوم، تحدّثوا عن انتشار وعدوى وموجات الثورات خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، على أنها ثورات غيّرت الأوضاع بشكل جذري ومسّت البنى والقطاعات المختلفة للمجتمع. كما أن ثورات أخرى كانت تهدف القضاء على الثّورة الفرنسية الأولى كان هدفها منع تكرار مثال الثّورة الفرنسية. في مثال الثّورات العربية التي باتت أكثر التباساً من وضوح الثّورات وبراءة اندفاعها وتمكّن الجماهير من التعبير عن مطالبها من دون أن تنجح التّدخّلات الأجنبية في احتوائها، كما أنّها حينما تنتصر لا تعدو أن تكون عملية استبدالية لا تمسّ بنيات النّظام والاجتماع السوسيو-سياسي. مهما بدا من موجاتها وتردّداتها، فالأمر لا يتعلّق بحالة انسيابية لثورات تعكس التّحدّي نفسه. إنّها إن هي حقّقت نجاحها، ليست أكثر من حضور احتفالي وطقسي لصناديق الاقتراع. ولا شكّ أنّنا نشهد ما يعرف بالثّورة المضادة كما يقول الكثير من المحلّلين. لكنّنا نسمّيها الثّورة الثّانية التي تسعى إلى إعاقة الثورة الأولى من تحقيق كامل أهدافها. حينما يتمّ تشجيع الثورة من لدن أطراف عاشت على نقيض الثّورة ندرك أنّها ثورة إعاقة.

فالثورة العربية لم تستكمل مفرداتها بل هي ثورات أزرموها في بداياتها. وأيًّا بدا انطباعنا عن الوقائع الثّورية التي تشهدها المنطقة العربية اليوم أقلّ تهويلاً، فذلك لا يمنع من القول بأنّ اللّعبة مهما تقيّدت بقواعدها توشك أنّ تتعدّى أهدافها بآثارها المدمّرة، شأن الفيضانات والزلازل.

لعلّه من منطق الأشياء أن نتحدّث عن الفوضى الخلاّقة. وفي تقديري أنّ هذا مفهوم غاية في الصّحة. فالفوضى الخلّاقة لا يمكن التّنبّؤ بمآلاتها. نستطيع أن نعلن بدء اللعبة، لكن لا نستطيع التحكّم بنهايتها. نستطيع أن نلوّح ونهدّد بالفوضى الخلاّقة تماماً مثلما نملك التلويح باستعمال أسلحة الدّمار الشّامل، لكننا لا نستطيع أن نسيطر على آثارها المضاعفة. أيًّا كان الوضع فالمجال العربي حقّق بعض المكتسبات التي أخرجته من هزيمتين نفسيتين: الأولى تتعلّق بالخروج من الهزيمة القومية بعد حرب تموز وغزّة، والثّانية تتعلّق بالخروج من الهزيمة الاجتماعية بعد سقوط نظم عاتية. التّشابه والتّكامل هنا بيّن. إنّ رهاب العدوّ القاهر للأمّة تلاشى، مثلما تلاشى رهاب السلطة القاهرة للشّعب. لا نتحدّث عن نهاية احتلال أو نهاية استبداد، لكن شيء ما تحقّق هو الانتصار النّفسي على القهر وعلى المستحيل. فشكلانية تسلّط الحرافيش على الحكومات ليس سوى مرحلة في طريق طي صفحة استبداد الأوليغارشية السياسية. فآثار هذا المرور من أروقة السلطة سينعكس لا محالة على الاجتماع السياسي وثقافته.

إنّ للسيّاسات مكر وللتّاريخ مكر مضاعف. ولا تزال ثورات الربيع العربي في برزخ بين مكر السّياسات ومكر التّاريخ. إنّ الاستثناء هنا واضح؛ لا تشبه ثورات الربيع العربي نظيراتها في العصر الرّاهن، لأنها لم تشبه ثورات العالم في سائر العصور. ذلك لأنّها تستند إلى مكر مختلف وجغرافيا سياسية وثقافية مختلفة. وهي إن استكملت فصولها فهي تعني ثورة تمسّ بنيات العالم وليس بنيات المنطقة. إنه لا مجال لتحرير ثورات الربيع العربي من التّدخّل إلَّا بجعلها ثورة تاريخية. فثوراتنا إما أن تغيّر العالم أو لا تكون. ولا شيء يؤكّد أننا بتنا جاهزين لتغيير العالم!

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة