تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الحجاج في اللسانيات التداولية.. دراسة لنماذج من القرآن الكريم

بن أحمد عالم فايزة

*

* جامعة مستغانم - الجزائر.

تقديم

إذا اعتبرنا الحجاج عملية فكرية ذات هدف إقناعي انطلاقاً من تقديم مجموعة من الحجج والبراهين، فإنه يتجسد في أنماط مختلفة من القول، بدءا من السفسطة إلى الخطابة فالجدل أو ما عُرف لدى المسلمين بالمناظرة ليتمخض عن هذه المناظرات والمجادلات زخم كبير من النصوص والخطابات التي يتطلب فهمها دراسة بنيتها الداخلية، مستعينين في ذلك بأدوات المنهج اللساني، أما طبيعتها الاجتماعية فتقتضي مقاربتها من الناحية التداولية.

وللوقوف على قيمتها وفعاليتها الحجاجية لا بد لنا من إدراك ملابسات السياق، وذلك من خلال تفاعل المعاني في مقام التواصل وهذا الفصل بين العلاقات الدلالية والتداولية عالجته الدراسات الحديثة في إطار ما يعرف بالتداولية المدمجة. وقبل الوقوف على مفهوم الحجاج وآلياته في هذا الحقل الجديد لا بد من جرد أصوله اللغوية والفلسفية أولاً في التراث العربي والغربي لرصد التغيرات التي لحقت بهذا المنهج الحيوي في السيرورة الإقناعية.

1- المعنى اللغوي للحجاج

الحجاج في اللغة من حَاجَجْتُه، أحاجّه حِجَاجاً ومحاجةً، حتى حَجَجْتُه، أي غَلَبْتُه بالحُجَجِ التي أدليت بها. والمَحَجَّة: الطريق، وقيل جادة الطريق. والحُجَّة: البرهان، وقيل: الحُجّة ما دوفع به الخصم، وقال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة. وهو رجل مِحجَاج أي جدِل، والتَّحَاج التخاصم، وجمع الحجة حجج وحِجاج.والحجة الدليل والبرهان. يقال: حَاجَجْتُه فأنا مُحاج وحجيج، فعيل بمعنى فاعل.

وكلمة الحجاج بحكم صيغتها الصرفية تدل: على معنى المشاركة في تقديم الحجج وعلى مقابلة الحجة بالحجة.

2- المفهوم الاصطلاحي للحجاج

ألفينا من الناحية التاريخية، الكثير من العلماء المسلمين القدامى يستعملون المناظرة والجدل والحجاج كمترادفات للمعنى نفسه، من بينهم ابن خلدون حيث يعرف الحجاج في مقدمته على أنه مناظرة يستعمل فيها لفظ الجدل حيث يماهي فيه بين هذه الألفاظ: «وأما الجدل، وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صواباً، ومنه ما يكون خطأً، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً، يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلاً، وكيف يكون مخصوصاً منقطعاً، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السّكوت ولخصمه الكلام والاستدلال. ولذلك قيل فيه: إنه معرفة بالقواعد، من الحدود والآداب في الاستدلال، التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه، كان ذلك في الفقه أو غيره».

هذه الزوايا التي نظر ابن خلدون منها إلى الحجاج لَتصب في جوهر الطرح التداولي الحديث، فنحن حين نطّلع على آداب المناظرة وقواعدها التي ضبطها في مقدمته فإنها تحيلنا إلى مبادئ بول غرايس Paul Grice الأربعة في الحوار، أو كما أطلق عليها مبدأ التعاون.

كما نجد آخرين قد استعملوا مصطلح الجدل بمعنى الحجاج، من بينهم أبو الوليد الباجي الذي سمى كتاباً له ينتمي الى علم أصول الفقه بـ«المنهاج في ترتيب الحجاج» مستخدماً في العنوان لفظة الحجاج.. لكنه في المقدمة ينعته بكونه كتاباً في الجدل، حيث يقول: «ومن هنا وفي هذا الخضم من المسائل الخلافية التشريعية، ظهر فن الجدل الذي يستمد حجيته من القرآن والحديث وأقوال الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية والمدارس الكلامية بقطع النظر عن الخلاف بالذات الذي يبرر وجوده بل يفرض الاعتماد عليه. ذلك أن هذا الفن يحرص على أن يمد المجتهد بأحسن المناهج وأحكمها وأدقها وأصوبها».

أما حديثاً، فقد عرّف طه عبد الرحمن الحجاج على أنه: «كل منطوق به موجّه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها».

وفي هذا التعريف لم يرد جديد أو اختلاف عما جاء به القدامى، ولكنه اجتهد إلى وضع مفهوم أوسع وأدق، فبلوره في هذا التحديد الدقيق والموجز في قوله: «لا خطاب بغير حجاج، ولا مُخاطِب (بكسر الطاء) من غير أن تكون له وظيفة المدعي ولا مخاطَب (بفتح الطاء) من غير أن تكون له وظيفة المعترض».

لقد جعل طه عبد الرحمن العلاقة الحِجَاجية أصلاً في كل خطاب، وكأنه يحدد لنا تعريفاً خاصًّا بالخطاب على أنه لا ينفصل عن الحجاج، وأن عملية الفهم والاستجابة لا تتحقق إلَّا إذا كان هناك اعتراض. فالاعتراض بناء لرأي مخالف للرأي الأول، وتوسيع لدائرة الحوار وتقليب لوجهات النظر، وفيه دعوة لإقامة الحجة من أجل دحض الادعاء. وبذلك تنقاد أطروحة طه عبد الرحمن في أن الخطاب لا يكون كذلك إلَّا إذا كان مشبعاً بالحجج. لذلك كان تحليل الخطاب يرتكز في أسسه على الحمولة الحجاجية التي ترتقي به من نص خام إلى نص يقبل البيان والحجة. وقد عمد إلى تحديد المواطن التي يصح فيها الإتيان بالحجة، «و قد حددها بالجدل والمناظرة، وذلك لأجل غايتين هما: إما لبلوغ الحقيقة ودفع الشبيهة، أو لطلب الغلبة والانتصار على الخصم».

وأمّا المفهوم العام للحِجَاج المترجم باللغة الفرنسية Argumentation في الموسوعة العالمية، فهو: «الطريقة التي تعرض بها الحجج، والمصطلح يحيل أيضاً إلى مجموع الحجج التي تنشأ عن هذا التقديم»، أي طريقة تنظيم واستعراض الحجج للمخاطب، ليتكون لنا في النهاية نسق منظم من الحجج الموجهة.

وفي المعاجم الفرنسية يقابل كلمة الحجاج لفظ Argumentation ويعني:

1- «فعل أو فن الحِجَاج».

2- مجموعة من الحجج، التي تؤدي نفس النتيجة»، ويقابله لفظ Argument في الإنجليزية.

وفي المعجم الخاص بتحليل الخطاب لباتريك شارودو Patrick Charaudeau نجد وصفاً لبعض التطورات التي صقلت الحجاج عبر مراحل تطور تحليل الخطاب: «فالحِجَاج كان في قلب المفهوم القديم للخطابة، وقد عرف نوعاً من التراجع المرتبط بتراجع الخطابة في مقابل تطور بعض المجالات العلمية، إلَّا أن الدراسات الحِجَاجية عادت في النصف الثاني من القرن العشرين، مع أعمال ش. بيرلمان وتيتيكاه 1970، س. تولمين 1958، أمبلين 1970، إضافة إلى كل من غرايس، وديكرو في السبعينات، وبلونتين في التسعينات1990 - 1996.

إن الدرس الحجاجي تخصَّصَ وارتسم بطريقة استدلالية داخلية من طرف أشكال مختلفة من البنى وبطريقة استدلالية خارجية من طرف الفعل وتأثير القوى الإنجازية المتصلة به كالإقناع».

وفي مقام آخر «إن المظهر الحجاجي للخطاب كثيراً ما يوجد مخبوءاً فيه على نحو مضمر مثلاً «ما يبدو من الملفوظ التقويمي: يمكن تحقيق الأفضل» والمثبت بدفتر التلميذ إذ يمكن أن يفهم منه: «لما كان لهذا التلميذ بما له من إمكانيات يمكنه تحقيق نتائج حسنة شريطة أن يكثف العمل».

ووضع كل من ميشال ماير M. Meyer وشاييم بيرلمان CH. Perelman مفهوماً جديداً للحِجَاج جمعا فيه ملكة اللغة وهي ملكة يشترك فيها العام والخاص من الناس، وملكة الكلام المتمثلة في الخطاب وهي فردية، وملكة الإقناع وهي ملكة يتمتع بها النخبة الخاصة من الناس، فعبرا عن ذلك بأن: «الحِجَاج عادة، يعتبر كونه جهداً إقناعيًّا (إفحاميًّا)، ويعتبر البعد الحِجَاجي بعداً جوهريًّا في اللغة، لكون كل خطاب يسعى إلى إقناع من يتوجه إليه». فهما يعتبران «نجاح الخطاب يكمن في مدى مناسبته للسامع، ومدى قدرة التقنيات الحجاجية المستخدمة على إقناعه، فضلاً عن استثمار الناحية النفسية في المتقبل من أجل تحقيق التأثير المطلوب فيه».

فهذا المفهوم يمكن اعتباره بعثاً جديداً للخطابة الأرسطية، فهو يزاوج بين مفهوم الخطابة عند أرسطو والطرح اللساني التداولي للحِجَاج.

أما ماير Meyer فيعرف الحِجَاج في مصنفه بأنه: «دراسة العلاقة القائمة بين ظاهر الكلام ومضمونه».

ومعنى هذا أن الحجاج لا يقتصر على ظاهر النص وحده أو المضمون وحده، بل يتعداه إلى دراسة تلك العلاقة التي جمعت بينهما في سياق معين، لذلك يستوجب الوقوف عليه والبحث عن دلالة الاقتضاء للملفوظات التي ترمي إلى الإقناع أو التفنيد.

لذلك يُقسم الحِجَاج إلى ضربين: صريح وضمني، ذلك أن طبيعته الخطابية الحوارية تجعل نصفه للمتكلم [وهو النصف المصرح به] ونصفه للسامع [وهو النصف الضمني] فتكون علاقة الضمني بالصريح هي -على صعيد لساني محض- مندرجة -حسب بروندنير- في إطار تداولية مندمجة (Pragmatique intégrée) تجمع بين لسانيات اللغة على نحو ما هو عند سوسير من ناحية، وعناصر المقام (السياق) ومعطياته من ناحية أخرى، وذلك وفق الشكل التالي»:

الملفوظ المقام

المكون اللغوي

مدلول حرفي = صريح مكون من خارج اللغة دلالات التلفظ الضمنية

شكل رقم (1) يبين علاقة الضمني بالصريح

حين تصير جدلية الظاهر والباطن في المحادثة أو المعلن والضمني الذي يقارب بين اختلاف مقصد المخاطِب، وإدراك وفهم المتلقي لهذا الأخير، فنحن حين نقارب بين ما يقول المتكلم وما يريده فعلاً، يصير الأمر محل استفهام، حينها تقوم جدلية المعنى والدلالة الحاصل في الخطاب، ونكون في حاجة إلى آليات أخرى تتجاوز ما هو لساني صرف إلى ما هو تداولي ومقامي، للوقوف على المعنى الحقيقي للخطاب، ومدى كفاءة كل من المخاطب في بلوغ مقصد المتكلم، والإجراءات التي يستعملها في ذلك.

فالكلام الإنساني ذو طبيعة اجتماعية نفسية، وخاضع لقوى خارجية تؤثر في عنصري الإلقاء والتلقي، وبالتالي في عملية الفهم والإفهام، لذلك ما لبث اللسانيون أن وجدوا أنفسهم عاجزين عن إدراك مقاصد المتكلم، واستجابة المتلقي في ظل إقصاء البنيوية لملابسات السياق ومقام الكلام الذي أنتج فيه، وتعسر عليهم الإجابة عن بعض الأسئلة من قبيل:

- من هو المتكلم الحقيقي؟

- إلى من يتوجه هذا الكلام ؟

- كيف يتلفظ المتكلم بشيء وهو يريد شيئاً آخر؟ وفي حال كهذه كيف للمتلقي أن يفهم قصد المتكلم؟ فكانت هذه القضايا موضوعات لحقل جديد عُرف بالتداولية.

3- المعنى اللغوي لمصطلح التداولية

«التداول في اللغة،من مصدر تداول، يقال: دال يدول دَوْلاً: انتقل من حال إلى حال، وأدال الشيء: جعله متداولاً، وتداولت الأيدي الشيء: أخذته هذه مرة وتلك مرة». فهو يفيد الاشتراك والتبادل سواء في اللفظ أو المعنى.

4- المعنى الاصطلاحي للتداولية

تعددت تعاريف التداولية مع اتساع مجالاتها وتداخلها مع العلوم التي لها علاقة باللغة فهي ملتقى الأبحاث اللسانية والفلسفية، والاجتماعية، وهذا التعريف الذي سنسوقه دليل على اندماج هذه الحقول، «إذ تتطرق التداولية إلى اللغة، كظاهرة خطابية، وتواصلية، واجتماعية معاً».

ومن بين التعاريف اللسانية التي وضعت لهذا المصطلح ما تواضع عليه كل من آن ماري ديلر Anne-Marie Diller، وفرانسوا ريكاناتي François Récanati وهو على النحو التالي: «هي دراسة استعمال اللغة في الخطاب، شاهدة في ذلك على مقدرتها الخطابية».

مما يعني أن التداولية توفر لنا الأدوات والآليات التي تمكننا من كشف الأساليب والبنى المختلفة التي يتضمنها النسيج الخطابي، والتي تعتبر دليلاً على مقدرة الفرد في استعمال لغته، وفي الوقت ذاته على غنى هذه اللغة بما تقدمه من خيارات تركيبية ودلالية لهذا الفرد. كما نجد فرع البيداغوجيا الفرنسي يعتبر التداولية مقاربة لسانية، والتي تقترح لدراسة اللغة إدماج دور مستعملي اللغة وكذلك السياقات التي تتم فيها». كما أن التداولية تهتم أيضاً بالدلالة، فهي تدرس «كل جوانب المعنى التي تهملها النظريات الدلالية، فاذا اقتصر علم الدلالة على دراسة الأقوال التي تنطبق عليها شروط الصدق، فإن التداولية تُعنى بما وراء ذلك، أو هي فرع من علم اللغة يبحث في كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم أو هو دراسة معنى المتكلم». فقول القائل: «أنا صائم» (في غير أيام الصوم المعروفة) قد لا يريد إعلام السامع بذلك بل قد يعني أنه مرهق ويريد إذناً بالراحة، أو أنه يريد من السامع دعوته للإفطار، أو أنه يريد أن يتمثل عنه السامع صورة الرجل المتدين. فالناس غالبا ما يعنون أكثر مما تقوله كلماتهم.

لذلك فضّل بعض الدارسين تعريف التداولية على أنها دراسة اللغة في الاستعمال أو في التواصل؛ «لأنه يشير إلى أن المعنى ليس شيئاً متأصلاً في الكلمات وحدها، ولا يرتبط بالمتكلم وحده، ولا السامع وحده، فصناعة المعنى تتمثل في تداول اللغة بين المتكلم والسامع في سياق محدد (مادي، واجتماعي، ولغوي) وصولاً إلى المعنى الكامن في كلام ما».

فالتداولية بذلك تعد «استطالة لسانية أخرى، للسانيات التلفظ، التي دشنها بنفنيست benveniste. إذ إن التمييز الكبير لا يتم أبداً بين اللغة والكلام، ولكن بين الملفوظ، الذي يقصد به ما يقال، والتلفظ كفعل القول».

بناءً على ذلك عرّفها بعض الدارسين على أنها: «اتجاه في الدراسات اللسانية، يُعْنى بأثر التفاعل التخاطبي في موقف الخطاب، ويستتبع هذا التفاعل دراسة كل المعطيات اللغوية والخطابية المتعلقة بالتلفظ، وبخاصة المضامين والمدلولات التي يولدها الاستعمال في السياق.

وقد استعمل بعض المحدثين مصطلح «البراغماتية»، وآخرون مصطلح «الذرائعية»، لكن الذي يعيب هذا الأخير هو أنه وضع مقابل كلمة «pragmatique» اليونانية التي تعني الاستعمال فحسب، ولا تعني التفاعل التخاطبي الذي تدل عليه كلمة «تداول»، والتي تدل على التبادل في المعنى. ويظهر في تعريف آخر لفرانسيس جاك Francis Jacques تقاطع هذه الاتجاهات حيث: «تتطرق التداولية إلى اللغة، كظاهرة خطابية وتواصلية، واجتماعية معاً».

وقد تزامنت نشأة التداولية مع نشأة العلوم المعرفية التداولية ذات الأصول الفلسفية، وهي ممثلة في تيار وليام جيمس 1842 - 1910 William James الذي جعل من المدركات العقلية مدركات حسية مهمتها الوصول إلى تحقيق فعل نافع تتجه بالضرورة إلى المنهج الأدائي، وبعده جون دوي John Dewey 1859 - 1952 كما أوضحه جورج توفاك، «أن قيمة أي عمل أو قيمة أي أسلوب للسلوك أو قيمة أي سياسة يجب أن تحكم عليها بالنتائج الحقيقية فقط، ومما يؤخذ بعين الاعتبار ليس نوايا ودوافع وأهداف الأفراد وإنما النتائج المحضة الناتجة عن أعمال الناس».

ميز الفيلسوف الأمريكي تشارلز موريس Charles Morris 1937 في مقال له كَتَبَه في موسوعة علمية ميّز بين مختلف الاختصاصات التي تعالج اللغة منها علم التركيب، وعلم الدلالة، والتداولية التي تعنى في رأيه بالعلاقات بين العلامات بالنسبة للمؤولين»، حيث إنه استقر في ذهنه أن التداولية تقتصر على دراسة ضمائر التكلم والخطاب وظرفي المكان والزمان، (الآن، وهنا)، والتعابير التي تستقي دلالتها من معطيات تكون جزئيًّا خارج اللغة نفسها، أي من المقام الذي يجري فيه التواصل.

وفي هذا السياق نجد فيتغينشتاين Ludwig Wittgenstein وهو من الفلاسفة الأوائل الذين نظروا في الجانب الاستعمالي للغة من خلال الدراسة التي قدمها في 1918، والتي ركز فيها على الوظيفة التمثيلية للغة، حيث تعرض لمفهوم جديد أطلق عليه اسم ألعاب اللغة، وجاء في معناها: أن الأفعال التي نتلفظها، ترتبط بأشكال الحياة والممارسات التي نحياها، أي إنه ينحصر فيما يباح للمتكلمين في إطار العلاقة بينهم وبين عباراته، وينتج عن اختيارات مباحة داخل تنظيم الخطاب، كونه مجموعة منظمة من وجهات النظر والممارسات والمصالح». ففكرة ألعاب اللغة توضح «كم هو مهم أن تأخذ بعين الاعتبار سياق الملفوظية إذا تعلق الأمر بفهم دلالة التعبير اللغوي أو شرحه».

يواصل جون أوستين John Austin تطوير فكرة ألعاب اللغة من خلال المحاضرات التي ألقاها سنة 1955 في جامعة هارفارد، ضمن برنامج «محاضرات وليام جيمس» زعيم النظرية النفعية، لتكون هذه المحاضرات رغبة في تأسيس اختصاص جديد لفلسفة اللغة، وكان التساؤل المطروح أن اللغة تهدف خاصة إلى وصف الواقع: «فكل الجمل (عدا الاستفهامية والأمرية والتعجبية) يمكن الحكم عليها بأنها صادقة أو كاذبة. فهي صادقة إذا كان الوضع الذي تحققه فعلاً في الكون وهي كاذبة بخلاف ذلك».

انطلق جون أوستين J.Austin من ملاحظة مفادها أن «الكثير من الجمل ليست استفهامية أو تعجبية أو أمرية، لا تصف مع ذلك أي شيء، ولا يمكن الحكم عليها بمعيار الصدق أو الكذب» هي إذاً جمل مميزة بالأسلوب الإخباري، فهي لا تتطلب ردًّا لفظيًّا معيناً، ويمكن أن نصفها بالجملة البسيطة حين تكون في حدود الخبر «تكون بعض الجمل وصفية حين تعطي لنا وصفاً للكون يكون صادقاً أو كاذباً مثال: «المطر ينزل». وجمل إنشائية حيث إنها تتفرد بأنها تسند إلى ضمير المتكلم في زمن الحال وتتضمن فعلاً من قبيل «أمر» و«أقسم» و«عمد» ويفيد معناه على وجه الدقة إنجاز عمل، وتسمى هذه الأفعال «أفعالاً إنشائية»، وختاماً، ليس الحكم على الجمل الإنشائية متعذرا وإن كانت لا تقبل الحكم عليها بمعيار الصدق أو الكذب، بل يتم الحكم عليها بمعيار التوفيق أو الإخفاق.

كما توصل هذا الأخير إلى أن: «كل جملة بمجرد التلفظ بها على نحو جاد توافق على الأقل إنجاز عمل قولي، وعمل متضمن في القول، وتوافق أحياناً كذلك القيام بعمل تأثيري بالقول». فكل جملة تامة مستعملة تقابل إنجاز عمل لغوي واحد على الأقل، ويميز بين ثلاث أنواع من الأفعال المتضمنة في الملفوظ الواحد، أولاً فعل التلفظ (المستوى الصوتي)، ثم العمل المحقق فعلاً (المنجز)، ثم بعد ذلك يأتي عمل الأثر الحاصل من قولنا ذلك الشيء، إذ إن امتداد المعنى الحاصل في القول على ما ينجزه كعمل لأنه تم التلفظ به، ولأننا قلنا شيئاً ما، ولأن لهذا الشيء أثراً ما جراء تلفظنا به.

بعد وفاة أوستين سنة 1960، تصدر جون سيرل Searl John الفيلسوف الأمريكي موقع الصدارة بين أتباع أوستين، «حيث طوَّر بعدين من هذه النظرية، هما: المقاصد والمواضع، لا يهتم هذا الأخير إلَّا بالأعمال المتضمنة داخل القول، يتم إسهامه الحقيقي في التمييز داخل الجملة بين ما يتصل بالعمل المتضمن في القول في حد ذاته، وهو ما يسميه باسم القوة المتضمنة في القول، وما يتصل بمضمون العمل، وهو ما يسميه واسم المحتوى القضوي. مثال «في جملة «أعدك بأن أحضر غداً» نجد أن: جملة «أعدك» هو اسم القوة المتضمنة في القول، و«أن أحضر غداً» هو اسم المحتوى القضوي.

في المقام الأول: يقصد الوعد بأن يحضر غداً.

في المقام الثاني: للقائل نية الوعد بالحضور غداً، ويحقق هذه النية بإنتاج جملة».

والسؤال الذي يطرح بعد هذا التقديم المفصل للتداولية هو: أين يتموقع الحجاج في هذا الزخم المفاهيمي من هذا الحقل المعرفي المترامي؟

نحن نسلم بأن للخطاب الحجاجي بنْية خاصة وهي بنية استدلالية، وإن كنا نستعمل هذا المصطلح بتحفظ، وكذلك أساليبه التي تميزه من باقي الخطابات الأخرى، فنحن بتحليلنا لبنيته الاستدلالية الإقناعية سنكون بصدد رصد أفعال كلامية لها سياق ومقام مشترك بين المتكلم والمتلقي وتؤدي وظيفة حجاجية، «ومن أفعال اللغة المتداولة في الحجاج هناك الأفعال «العرضية» التي تستعمل -حسب أوستين Austin- لعرض المفاهيم، وبسط موضوع، وتوضيح استعمال كلمات وضبط مراجع، مثال ذلك: أكد، أنكر، أجاب، واعترض، وهب، ومثل، وفسر».

وفي هذا السياق يقول ديكرو Ducrot: «لقد انطلقنا من ملاحظة عامة أنه كثير من الأفعال الكلامية لها وظيفة حجاجية، توجه المتلقي إلى نتيجة محددة، أو تصرفه عنها. حين نبتعد قليلاً عن العمومية يمكن أن نقول: إن الوظيفة الحجاجية تحمل علامات داخل الجملة نفسها: منها القيمة الحجاجية لملفوظ ما، فهي ليست فقط نتيجة المحمولات الخبرية له، ولكن الجملة يمكنها أن تحمل عدة دلالات وعدة صيغ أسلوبية، والتي بالإضافة إلى محتواها الإخباري يمكنها أن تدلي بتوجيهات حجاجية للملفوظ، حيث تعمل على توجيه المتلقي وجهة دون أخرى».

ونمثل لهذا النموذج بآي من القرآن الكريم باعتباره خطاباً مشبعاً بالحجج:

النموذج رقم (1)

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.

ق / ف / ف2 / ق2

والسورة في حد ذاتها نتيجة لقول آخر ورد في سورة أخرى هي سُورَةُ الضُحَى

ن

(النتيجة)

هذه الآية إنجاز لما وعد الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الضحى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، ومعناها صلِّ لربك الذي أنجز الوعد الذي وعدك إياه، لذلك يمكن الحكم على فعل العطاء في سورة الضحى موفق بتعبير أوستين.

فحسب ما سبق ذكره على لسان أزوالد ديكرو Ducrot فإننا نصل إلى الترجمة العملية الحجاجية في سورة الكوثر على النحو التالي: ق1+ق2= ن( ف1+ف2).

ق1: تمثل العطاء والكرم.

ق2: نصرة النبي وهزم العدو.

ن: الحمد والشكر المتمثل في الصلاة والنحر.

فالفعلين «صَلِّ، انْحَر» من الأفعال الكلامية التي ربطت بين ق1 وق2؛ فالإحسان والعطاء في ق1، وكذلك نصرة النبي في ق2 في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}؛ فالله يخبر نبيه أنه ليس هو الأبتر، لأن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر... فمثلك لا يقال له: أبتر، وإنما الأبتر هو شانئك، المَنْسي في الدنيا والآخرة، وإذا ذكر كان ذكره باللعن. لذلك فإن ف1 وف2 ربطا بين ق1 وق2؛ لأن كلًّا منهما يستوجب الشكر، وهما فعلان إنجازيان يحققان عملين مختلفين ناجحين، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أطراف هذه العملية التواصلية:

المخاطِب: هو الله (جل جلاله).

المخاطَب: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فعظمة ومكانة وكرم المخاطِب على المخاطَب، الذي يتسم بسمات العبودية والطاعة والخضوع، تجعلنا نحكم على أن الفعل الإنجازي لـ ف1 وف2 المتوخى من المخاطب متحقق، فالعملية التلفظية في هذه الحالة هي موفقة بتعبير أوستين، فهذا الحجاج ناجح لأنه أدَّى إلى حصول العمل المطلوب.

وقد حدد فان إيمرين Frans Van Eemren موقع الحجاج داخل التداوليات المعيارية بدمجه لنظرية الحجاج مع نظرية الأفعال الكلامية وتحليل المحادثة والخطاب، والجدل الصوري داخل نموذج نظري أطلق عليه اسم نظرية الحجاج الجدلي، ويحدده بكونه: «نموذجاً مثاليًّا للمحادثة الخلافية، يوجّه مراحلها، ويوزّع الأفعال اللغوية عبر هذه المراحل، وينظم تفاعلاتها، ويشكل شرطاً أساسيًّا لبناء معياري نسقي للخطاب يسمى التحليل الجدلي». فهو يتصوَّر الحجاج من الناحية الجدلية «فعلاً لغويًّا مركباً، يتكوّن من مجموعة من الإثباتات الموجَّهة لتبرير أو دحض رأي، ولاقناع حَكَم عقلاني يتفاعل بكيفية معقولة، مع درجة مقبولية وجهة النظر المطروحة». فالخطاب الحجاجي «يتميَّز بنوع من الاستدلال الداخلي من خلال الأشكال المختلفة للبنى الداخلية له، وكذلك بنوع من الاستدلال الخارجي من خلال الأثر التكلمي الذي يعقد معه».

كما يتجلَّى البعد التداولي للخطاب الحجاجي في الحوار أو الحوارية، حيث نجد سْكوت جاكوبس Scott Jakobs يحدد الحجاج بكونه: «عملية تكييف للمبادئ الحوارية العامة، مع متطلبات وظيفة خاصة، وهي وظيفة إدارة الخلاف، ذلك أن الحوار -كأي نسق- يتطلب آليات تنظيمية، تواجه القضايا الخلافية، بوضع الحجة في محيط الخلاف المفتوح أو المتضمن أو المسقط، وإعطائها وظيفة تداولية، ما دام الخلاف له علاقة بين الأفعال اللغوية الحوارية، أيًّا كانت القضايا المرتبطة بهذه الأفعال».

النموذج رقم (2)

الحجاج الحواري صِنف كثير الاستعمال في القرآن الكريم، لملاءمته طبيعة المواضيع المطروحة، التي تحتاج إلى الحجج العقلية المقنعة، ومن ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

ففي بداية الحوار يعرف صاحب الدعوة بنفسه {رَسُولٌ أَمِينٌ}، مرسل برسالة واضحة وليست دعوته إليهم من إرادة نفسه، ومن ثم يعرف بمضمون دعوته وهو تقوى الله وطاعته، مع تنبيههم إلى أنه لا يتوخى أي أجر منهم، ومن ثم فإن غايته هو صلاح أحوالهم وليس المال، ثم يُذكرهم بشناعة أفعالهم وظلمهم للعباد وإيثار الدنيا ونسيان الآخرة، ثم يواصل دعوتهم إلى اتقاء من أنعم عليهم بكل ما يملكون. وذكرها في ترتيب حسن، حيث بدأ بنعمة العلم وهي بالنسبة لكل الأمم في كل زمان ومكان أسمى النعم على الإطلاق، ثم بنعمة الأنعام التي تعتبر من الرزق الذي ينتفع به في المأكل والمشرب والمركب وفي التجارة وكسب المال، ثم نعمة الأولاد التي لا تكتمل بهجة المرء إلَّا بها، ونعمة الزرع والماء، الذي لا يستغني عنه الإنسان في كل أمور حياته.

هذه تذكرة لقومه بأنعم الله عليهم، وهي في الوقت ذاته حجج عليهم ساقها لهم في حوار حجاجي ممزوج باللين، لعلهم يمتثلون، ويرجعون، فالعاقل من اعترف بعجزه واعترف بمن منَّ عليه بمعروف أو نعمة وكأنه يقول لهم: ليس من العقل أن تقابلوا ولي نعمتكم بالجحود، فحق المُنعِم على العبد الشكر والعرفان، وشكر الله لا يكون بالقول فقط بل بالعمل الصالح والانصياع لأوامره من فرائض ونواهٍ، ولكن قوم عاد جحدوا بهذه النعم، وتمادوا في البطش وأحبوا الدنيا وركنوا إليها، حينها تغير أسلوب الدعوة من الموعظة اللينة إلى أسلوب الترهيب والزجر في قوله: {أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لعل هذا يشعرهم بالخوف من العزيز الجبار، ولكن الكِبْر أعمى بصائرهم وضخم كبرياءهم، وكَبُر عليهم تخطئة آبائهم وتحقير ملتهم، فكان جوابهم هو التكذيب والإنكار في استهزاء: {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.

ففي قولهم: {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} دليل على أنهم عجزوا عن إبطال دعوى نبيهم هود، وأن الحجة أقيمت عليهم ولكنهم تنكّروا لصوت الحق، فجرت عليهم سنة الأولين.

إذاً فالأفعال اللغوية في هذه الآيات انحصرت في فعلين هما «اتقوا، و«أطيعون»، وهما من أفعال الأحكام حسب تصنيف أوستين، فبالرغم من مرتبة الآمر الرفيعة المتمثلة في النبوة إلَّا أن أوامره لم تنجز والآداء كان مخفقاً، فهي أفعال كلامية غير موفقة، فالمتلقي لها لم ينجز مضمون هذه الأفعال. لكن البنية الحجاجية ككل كانت ناجحة، ودليل نجاحها هو عدم تمكن الخصوم من إبطالها، وهذا ما يُدعى إفحام الخصم، رغم أنه لا يعترف بذلك عناداً وكبراً، وهذا مذموم في المحاجّة.

ولكن تلك القطيعة الإبستيمية في معالجة الخطابات بين اللسانيات والتداولية تجلت في الفصل بين دلالة الكلام والقيمة التداولية له، مما أثر سلباً على مردودية الدراسات اللغوية، ما جعل علماء اللغة يبحثون عن الوشائج التي يصلون بها بين هذين المستويين من الدرس اللغوي الحديث، مما استدعى التداخل بين اللسانيات والتداولية، في إطار جديد هو حقل التداولية المدمجة.

6- الحجاج في اللسانيات التداولية أو التداولية المدمجة

أما الطرح اللساني التداولي للحجاج فقد أرسى قواعده مجموعة من اللسانيين أبرزهم أزوالد ديكرو Oswald Ducrot حيث يعد مشروعه إحياءً للبنيوية السوسورية في شكل جديد، حيث ينظر إلى فعل الحِجَاج على أنه: «فعل محدد بواسطة البنية اللسانية للملفوظات، وضمن العملية الحجاجية يكون استغلال محتمل لبنية دون أخرى، أو لصيغة أسلوبية دون أخرى».

أقحم ديكرو التنوع في استخدام البنيات اللسانية حيث تقتضي العملية الحجاجية باستغلال صيغة أسلوبية دون أخرى، وهنا يشير ضمنيًّا إلى المقام الذي يبعث على ذلك. وفعل الحِجَاج فعل توجيهي حيث: «يفرض على المُخَاطَب نمطاً معيناً من النتائج باعتباره الاتجاه الوحيد الذي يمكن أن يسير فيه الحوار. والقيمة الحجاجية لقول ما، هي نوع من الإلزام تعلق بالطريقة التي ينبغي أن يسلكها الخطاب بخصوص تناميه واستمراره».

فهذه وظيفة توجيهية لسيرورة الحوار الجدلي بين المخاطِب والمخاطَب، حيث ينتج قيمة حجاجية بما يحققه من إلزام بالطريقة التي يجب أن يكون عليها الخطاب كبنية لغوية تنمو وتستمر وفق ما تحققه من قيم دالة.

ونجد ديكرو يوضح ذلك في معرض حديثه عن الفرق بين وظيفتين من وظائف اللغة، وهما الوظيفة الحجاجية والوظيفة الإخبارية، حيث إن هذه الأخيرة: «هي وظيفة ثانوية بالنسبة للوظيفة الحجاجية. فادِّعاء وصف الحقيقة لن يكون إذاً إلَّا تزويراً هذا الادعاء لا يكون أكثر من ملامستنا لما هو جوهري وذلك لإحداث الضغط على تصورات الآخر[...] تتغير طبيعتها، عند استعمالنا لها بشكل مباشر داخل بنية مركبة، مما يجعل كينونتها تتغير سيميائيًّا».

فالمجتمعات الإنسانية تستعمل أساليب خطابية في الإقناع متعارف عليها لدى عامة الناس، معتقدين أنهم يمارسون استدلالات منطقية أرسطية- في إثبات صحة دعوى ما أو تفنيدها، مغفلين أهم عامل في توجهاتهم الحجاجية ألا وهو ضابط اللغة، لأن اللغة بما تتميز به من طواعية الاستعمال وثراء أبنيتها اللغوية في اعتقاد ديكرو هو الكفيل بجعلها محور الدراسة الحجاجية، «فترابط الأقوال لا يستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي وإنما هو ترابط حجاجي؛ لأنه مسجل في أبنية اللغة بصفته علاقات توجه القول وجهة دون أخرى، وتفرض ربطه بقول دون آخر، فموضوع الحِجَاج في اللغة هو بيان ما يتضمنه القول من قوة حجاجية تمثل مكوناً أساسيًّا لا ينفصل عن معناه، يجعل المتكلم، في اللحظة التي يتكلم فيها، يوجه قوله وجهة حجاجية ما». سنوضح ذلك في النموذج الموالي:

الأنموذج رقم (3):

قال تعالى: {اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.

تروي لنا هذه الآيات قصة إبراهيم (عليه السلام) وقومه، حين دعاهم إلى الايمان بالله وتوحيده، حيث دار بينه وبين القوم جدل ابتدأه إبراهيم (عليه السلام) باستفهام غير مباشر عن طبيعة عبادتهم، ليس لجهله بها ولكن ليبيّن لهم حقيقة ما يعبدون، فيجيبون أن آلهتهم هي أصنام يسجدون لها، فيستدرجهم سيدنا إبراهيم إلى سؤال آخر عن نفع هذه الآلهة لهم، فلا يجدون ما يبررون به سبب هذه العبادة والتقديس سوى محاكاة الأجداد والسير على خطاهم، وهو تعبير عن تصورهم لحضور أجدادهم وهو تقمص لسلوكاتهم من غير علم ولا بصيرة، هنا يتفطن إبراهيم (عليه السلام) إلى غياب الحجة الداعمة لأقوالهم لينكر عليهم أفعالهم ويحقر من شأن آلهتهم، ويحول الموقف لصالحه بذكر ربه، وما يحيطه به من هداية ورعاية ورزق، وشفاء، وموت وبعث، في شكل مجموعة من الاستفهامات، في أسلوب إخبار وكأنه يقول من يرزقكم ومن بعثكم من يحييكم.

فكل هذه النعم الربانية كانت الشغل الشاغل لبني البشر على مر العصور، فالاشتغال بالرزق من أشد المبادئ التي تحدد علاقة الإنسان بالإله، على اعتبار أن صفة الآلهة هي من يطعمهم ويسقيهم، فجاء قول إبراهيم بأن رزقه على الله وشفاؤه على الله، وموته وحياته بيد الله، فكانت حججه ملموسة، يعيشها الإنسان ويستشعرها في واقعه اليومي، فحججه قوية تحتاج إلى إجابات لا تستطيع تلك الآلهة التي يعبدونها أن تجيب عنها، وبالتالي تترك المجال إلى إجابات أخرى تكون كفيلة بالبرهنة على ألوهية من يعبد وعظمة قدرته، لأنه بمنطق العقل من لا ينفع ولا يضر لا يستحق أن يعبد، أما من يخلق ويهدي، ويرزق ويشفي، ويميت ويحيي هو الذي يستحق العبادة والتقديس، «لذلك فإن التوجيه هو الذي يشرع البحث في الترابطات الحجاجية الممكنة، لأن مسوغاتها موجودة في البنية اللغوية للأقوال وليست رهينة المحتوى الخبري للقول، ولا رهينة لأي بنية استدلالية صناعية من خارج نظام اللغة [...] لذلك فإن التداولية المدمجة تبحث في القوانين التي تحكم الخطاب داخليًّا لاكتشاف منطق اللغة}.

لذلك نجد أزوالد ديكرو يؤمن بفكرة وجود قوة حجاجية لكل الملفوظات، وهذه الرؤية تجعل الحجاج ليس قوة خارجية تكتسبها اللغة بل هي قوة داخلية كامنة فيها يولدها مستعملو هذه اللغة (المتكلم المثالي)، وهذا ما أطلق عليه ديكرو «الحجاج في اللغة».

يعتبر البعد التداولي أكثر ما يميز أعمال أوزوالد ديكرو وجون كلود أنسكومبر، وذلك من خلال رفضهما: «التصور القائم على الفصل بين الدلالة وموضوعها معنى الجملة، والتداولية وموضوعها استعمال الجملة في المقام، من جهة والسعي إلى سبر كل ما له صلة داخل بنية اللغة بالاستعمال التداولي المحتمل من جهة أخرى. فيكون مجال البحث عندهما هو الجزء التداولي المدمج في الدلالة ويكون موضوع البحث هو بيان الدلالة التداولية (لا الخبرية الوصفية) المسجلة في أبنية اللغة وتوضيح شروط استعمالها الممكن».

يدعو أزوالد ديكرو بعد دراسته لمجموعة من الملفوظات دراسة دلالية، وتتبعه لآثارها الإنجازية في إطار حقل التداوليات المدمجة، إلى إدخال ثلاثة مكونات لسانية ضمن الوصف الدلالي description sémantique هي:

1- «أن نسند للمقولات محتويات مخصوصة بواسطة علامات الأفعال de marqueurs d’actes من بين هذه الأفعال ذات الازدواج الدلالي أفعال الاقتضاء، ومن بين المحتويات، المحتويات الواقعة في العلاقات.

2- أن نُحَول المحتويات بواسطة حساب مؤسس على القوانين الحجاجية، قوانين النفي، وقوانين الخفض.

3- أن نستنبط، انطلاقاً من التحويلات التي تمت في الوجهة الحجاجية الشاملة للملفوظ، الموجهة إلى إنجاز فعل للحجاج، نتيجة محددة».

إذاً يستند أ. ديكرو في الوصف الدلالي للملفوظ على أفعال الاقتضاء بالدرجة الأولى، ذلك لأن الاستعمال التداولي للغة غالباً ما يلجأ إلى الإشارات والتلميحات في التعبير بعبارات غير التي وضعت له في الأصل اللغوي، وفعل الاقتضاء هو الذي يقدم لنا وصفاً دلاليًّا تداوليًّا للملفوظات.

فالحجاج يدل على صنف خاص من العلاقات المتضمنة في الخطاب والمدرجة في اللغة، ضمن المحتويات الدلالية. والخاصية الأساسية للعلاقة الحجاجية أن تكون تدرجية أو قابلة للقياس بالدرجات، أي أن تكون واصلة بين سلالم، حيث يؤمن أ. ديكرو بفكرة وجود قوة حجاجية لكل الملفوظات، أمّا ترتيبها الحجاجي فمرتبط بملفوظ ما يسميه «موجّه القوة»؛ لذلك وضع نموذج السلم الحجاجي: «نقول عن متكلم وضع ملفوظين ف1، ف2 في الترتيب الحجاجي باعتبارهما حجتين بتوجيه من الملفوظ «م»، نفرض مثلاً مجيء زيد وكذلك عمرو قد يبدي نجاحاً في الاجتماع. في هذه الحالة يمكن القول: إن الملفوظات مجيء زيد، ومجيء عمرو ظهر في شكل تراتب حجاجي موجّه بواسطة نجاح الاجتماع». حيث يرى أنه إذا كان «الملفوظ من الفئة «ف» وفي الوقت نفسه من الفئة فَ، فيمكن افتراض دائماً وجود بعض مؤشرات القوة «م»، التي توحي لنا بسلم حجاجي أين «فَ» أعلى من «ف». نقول عن «فَ» أقوى من «ف» إذا كان كلاهما من القسم الحجاجي نفسه. إذاً في إطار الترتيب الحجاجي نسمي كل علاقة تراتبية السلالم الحجاجية، ونمثلها بالمخطط التالي»:

م

ـ فَ

ـ ف

شكل رقم (2)

نموذج رقم (3):

قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ(6)}.

هذه الآيات استعاذة من شر الناس ومن وساوس الشيطان، شرّ واحد والاستعاذة منه جاءت بالربّ والملك والإله من وسوسة الشيطان المُهلكة. وهذا بخلاف ما جاء في سورة الفلق حيث كانت الاستعاذة بشيء واحد من شرور متعددة. وفي هذا إشارة عظيمة إلى خطورة الوسوسة على الإنسان.

وجاء الترتيب في سورة الناس على الشكل التالي: رب، ملك، إله. فالإنسان إذا وقع في حاجة يستعين أولاً بقدرته وخبرته أو بمن له خبرة وتجربة ليرشده وليشير عليه بما يفعل، وهذا هو شأن الربّ لذا بدأت الآيات به (رب الناس=ق1). فإذا كانت حاجة الإنسان عند غيره أو أن مصالحه متداخلة مع مصالح الغير لجأ إلى السلطة وصاحبها أي الملك (ملك الناس=ق2) للفصل بينهم، فإن لم تُجدِ السلطة نفعاً التجأ إلى الله تعالى (إله الناس=ق3) والترتيب في الآيات في السورة هو على سياق هذا الترتيب وكحاجة الإنسان للتعامل في الحياة.

وقد تدرّجت من الكثرة إلى القلّة، فالربّ هو المسؤول المرشد الموجّه وقد يكون هناك العديد من المسؤولين وأرباب العمل في المجتمع لكن لكل دولة ملك واحد والدنيا فيها ملوك كثر، ولكن الإله واحد في كل الوجود، فانتقل في السياق من الكثرة للقلة من حيث دلالة الكلمة بالعدد.أما كلمة الناس فُتطلق على جماعة قليلة من الناس كما تطلق على أمم كثيرة من الناس.

تنتقل كلمة الناس من حيث دلالتها العديدة في السورة على عكس كلمة الرب والملك والإله من القلّة إلى الكثرة. فالتدرج في الصفات بدأ من الكثرة إلى القلة، أما في المضاف إليه (الناس) فبالعكس من القلة إلى الكثرة، فناس المربي أقل، وناس الملك أكثر، وناس الإله هم الأكثر.

م: موجّه القوة، ممثل في قوة الإله وسلطته، وكثرة أتباعه.لذلك فإن ق3 أقوى من ق2 وق1، وحصول الاستعاذة لا يحصل إلَّا بها. لذلك فإن التمثيل السلمي لـ ق1، ق2، ق3، يكون كالآتي: شكل رقم (3):

م

-ق3

-ق2

-ق1

خاتمة

لقد حاولنا في هذه البحث أن نقف عند أهم المفاهيم النظرية والعملية للمصطلحات المحورية التي تناولناها بالدراسة في مصنفات القدامى والمحدثين، لذلك سنوجز في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذه النقاط:

* اختلاف الحمولة الدلالية للفظة الحجاج قديماً وحديثاً على مستوى الممارسة والتنظير، حيث تغيّرت قوانين الحجاج ومفاهيمه تبعاً لمتطلبات العصر والسياق وحاجة الناس لهذا النوع من التواصل في شتى مجالات الحياة.

* تسمح لنا نتائج الدراسات في اللسانيات التداولية بالتأويل التقديري للدلالات الضمنية لخطاب المتكلم، ومن ثم تقليص الفجوة الحاصلة بين المتكلم والمتلقي في مقام التواصل.

* وجود قوة حجاجية لكل الملفوظات، حيث تتجلي هذه القوة من الضمني إلى الصريح، فتحكمها قوانين الاستعمال التداولي للغة.

* تعدد النماذج الحجاجية في القرآن الكريم لكونه صرحاً حجاجيًّا من الناحية البنائية والأسلوبية، والبلاغية، لذلك تعدَّدت المقاربات التي تناولت آياته بالدراسة والتحليل للكشف عن المضمون الحجاجي لتلك الأنساق الداخلية والتقنيات الاستدلالية، والحجج العقلية.

 

 

 

 

 

المخيال والتاريخ

في النص الصوفي الجزائري

الدكتور مـنير بهـادي*

* مخبر الفلسفة وتاريخها، جامعة وهران الجزائر.

لم تكن جزائر القرن التاسع عشر قد عرفت تخلخلاً في بنيتها الثقافية كما حدث بعد الاستعمار، وإنما كان الوعي السياسي يقوم على فلسفة دينية للخلاص تستمد أسسها من الثقافة الصوفية السائدة في المجتمع. لذا كانت أحداث القرن التاسع عشر سواء بعد دخول الاستعمار أو قبله مؤطرة من قبل هذه الثقافة. ولتبيان ذلك سوف نعتمد على ما كتبه (إدوارد دونوفو Edward de nouveu) الذي عايش تلك المرحلة مستكشفاً وواصفاً بعين الباحث الوضعي والاستعماري واقعاً ثقافيًّا جديداً تبدّى له في غاية التعقيد، فوجه أنظار الباحثين للاهتمام بالطرق الصوفية، لفهم طبيعة المجتمع الجزائري، وحركته التاريخية. لكن عجزه عن فهم المرجعية الفلسفية للتصوف الطرقي جانبه التوقع العلمي إلى ما سوف تؤول إليه الأحداث التي حركتها هذه الطرق والزوايا في جزائر القرن التاسع عشر. وما سوف ينشأ من انصهار للآفاق على مستوى الوعي التاريخي الذي أنتج الدولة الوطنية فيما بعد.

المخيال الديني والخلاص الدنيوي

يتحدث «دونوفو» عن تداخل الديني بالسياسي في المجتمع الجزائري، بقوله: «في بلد تتقارب فيه المسائل العقائدية والقضايا السياسية إلي حد كبير جدًّا، حيث ترتبط الأولى بالأخيرة ارتباطاً وثيقاً، فكرنا أنه بالإمكان الكشف ولو عن قليل من الضوء حول مختلف الجماعات الشعبية التي وجدت من منظور ديني، وللوصول إلى هذا الهدف بحثنا عن هذه الجماعات التي تقتسم فيما بينها السكان المسلمين لشمال إفريقيا وعن الأشخاص الذين يسيرونهم ويحركون وجدانهم. ونحن نعرف أن تأثير هؤلاء على أولئك الذين يتبعون تعاليم الطريقة الواحدة قوي جدًّا، ولا يمنح تسهيلات للحكومة الفرنسية التي ستنال الكثير إذا عرفت استعماله لصالحها... إنه من الأحسن في هذه الظروف، التي تتخللها من فترة لأخرى مقاومات جزئية، البحث عمَّا إذا كان مختلف زعماء الثورات ليس لهم علاقة بالجمعيات الدينية المسماة بالإخوان [=الطرق الصوفية]. من الأجدر أن نتحقق أيضاً من هؤلاء الأشراف [=آل البيت] الذين يَفِدون باسم الرسول بين فترة وأخرى مدعين أنهم من نسبه لتحريك بعض الشعوب البائسة والزج بها في ملزمات مخاطر الحرب».

بعد هذا الاستنتاج الأساس في تداخل الديني بالسياسي والتنظيم الاجتماعي في شكل جماعات دينية يقودها أشخاص ملهِمون يكونون في أغلب الأحيان من الأشراف. يحاول «دونوفو» ربط ذلك بالدجل والمنفعة، جهلاً منه بالتاريخ الثقافي الجزائري، وكيفية اشتغال المخيال السياسي فيه. حيث إن الانتساب لـ«آل البيت» في عرف الصوفية قد يكون روحيًّا من خلال التماهي في الذات المحمدية بواسطة التجربة الصوفية، أو الوصول إلى مقام «الإنسان الكامل»، وهو تصوّر مختلف ومتميز لمفهوم فلسفة الخلاص في الإسلام.

من هنا يكون للنسب دوراً ثقافيًّا وفعلاً سياسيًّا كما سبق لـ«ابن خلدون» تبيان ذلك. ويتجلى هذا من خلال الرموز السياسية التي تشكلت تاريخيًّا أثناء الحركات والتحولات التاريخية الكبرى التي تأسست على إثرها دول في المجتمع الجزائري قبل القرن التاسع عشر.

في وصفه لظاهرة الطرق والزوايا التي ينتظم في إطارها المجتمع الجزائري آنذاك، يعتبر «دونوفو» الطريقة القادرية أكبر طريقة منتشرة. كما أن الذهاب إلى الحج كان مقترناً عادة بزيارة ضريح المؤسس «عبد القادر الجيلاني» (1077م/470هـ - 1166/561هـ) ببغداد، إضافة إلى القبب المنتشرة هنا وهناك في الجزائر. مما يدل على سطوة حضوره في المخيال الاجتماعي الذي أراد الترميز لذلك ببناء معالم مجسدة لهذا الحضور المتمظهر في أشكال وصور اجتماعية متعددة.

يقول «دونوفو» عن هذا الحضور القادري: «يتردد اسمه كثيراً على الألسنة ويتداوله الفقراء عند طلبهم الصدقة... فبه يستنجد البؤساء، إذا عثر شخص في الطريق يدعو الناس من حواليه... والمرأة في مخاض ولادتها يستغيثان به».

لا يسأل المتسول الناس ولا يستغيث إلَّا بمن كان له عليهم وعليه سلطة رمزية وسلطان مبين. لم تكن تسمية «عبد القادر الجيلاني» بسلطان الصالحين ذي دلالة روحية فحسب، بل كان له سلطة دنيوية لعبت دوراً في تشكيل المقاومة وبناء الدولة على صعيد الحلم والمخيال، قبل البدء في تحقيقها على صعيد الواقع. هذا ما يُغيّبه ويهمله المؤرخ الوضعي الذي يرجع و يحصر الحركة التاريخية في أسباب وعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية، غير مهتم بمخيال وأحلام الناس التي تؤطر آمالهم وطموحاتهم في تحقيق وجودهم الاجتماعي والسياسي والحضاري.

إنه اللامفكر فيه والمغيب في الكتابة التاريخية في الجزائر؛ وحضوره على سبيل النقد السلبي في بعض الدراسات لا ينم عن فهم عميق لمناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، بقدر ما يتم توظيفه من أجل صراعات ونزاعات الحاضر، ويكفي التذكير بوضعية التصوف في الجزائر المستقلة قبل تسعينات القرن العشرين وبعدها، حتى يمكن فهم أزمة الخطاب الفكري في الجزائر، وسطوة الخطاب السياسي على نزاعات الذاكرة الرمزية.

إن الاعتماد على المرجعيات المعرفية في تحليل النصوص الفكرية والفلسفية أساس في فهم هذه النصوص، لكن حصر هذه المرجعيات في نصوص دون الرجوع إلى أسسها الثقافية والاجتماعية يبقى فهماً ناقصاً إلى حد كبير. وقد يؤدي إلى استنتاجات فكرية وسياسية مبهمة ومشوشة تؤسس لوعي مغلوط حول التاريخ والثقافة. وهو ما حدث بالنسبة للخطاب الصوفي في الجزائر الذي أبعد من سياق التحليل الفكري والفلسفي، تماماً كما تم التأريخ للمجتمع بعيداً عن الفكر، نتيجة هيمنة المنهجية الوضعية في العلوم الإنسانية الكلاسيكية.

لهذا نحاول الاقتراب من المرحلة الثانية التي صنعت الوعي التاريخي عند «الأمير عبد القادر» وأسست لوعيه الأنطولوجي فيما بعد، بمقاربة أسس الوعي السائد في جزائر القرن التاسع عشر.

لقد لعبت قصتان رويتا بشكل مختلف أهمية في المسار التاريخي لـ«الأمير»، تقول الأولى: في سنة 1828م رحل الشاب عبد القادر بن محي الدين، أمير العرب، إلى بغداد مع أبيه زائراً القبة المذهبة لسيدي عبد القادر الجيلالي، فدخل عليه ولي صالح في صفة زنجي وبيده ثلاث برتقالات سائلاً محي الدين: أين أمير الغرب؟ هاته البرتقالات من نصيبه؟ ليس من بيننا أمير، يجيب محي الدين. وينسحب الزنجي معلناً أن حكم الأتراك على وشك الانتهاء في الجزائر، وأن الحاج عبد القادر بن محي الدين سيكون أميراً على عرب المغرب.

وتقول الثانية: في سنة (1832م) كانت مقاطعة الغرب مرتعا للفوضى، كل القبائل والأسر الحاكمة في حرب فيما بينها. ولوضع حد لهذه الفوضى، اجتمع الرؤساء والمرابطون بمكان يطلق عليه أرسيبية [وادي فروحة] في سهول غريس، وهذا لانتقاء قائد بإمكانه إحلال السلم وقيادة الجميع. لم يكن يفكر أحد في الابن الثاني لمحي الدين إلَّا أنه في الليل ظهر مولاي عبد القادر الجيلاني لسيد العرش، وهو مرابط [= ولي] ذو القرن وكلّمه، فإذا بملك ينصب أمام أعين سيد العرش فاندهش لهذه الظاهرة الخارقة للعادة، وسأل العجوز (سيد العرش) سيدي عبد القادر: لمن هذا المُلك؟ فأجابه سلطان الصالحين: للحاج عبد القادر ولد محي الدين، وبعد برهة ركب سيد العرش حصانه ومعه ثلاثمائة فارس ليطلب من سيدي محي الدين ابنه الثاني بعد أن قصّ عليه رؤياه.. وكان محي الدين قد رأى الرؤيا نفسها، ومولاي عبد القادر يسأله: لمن هذا المُلك؟ لك أو لابنك عبد القادر، إن قبلت سيموت ابنك، وإن رفضت تموت أنت قريباً.

إن المقاربة التأويلية لا تبحث عن صحة أو عدم صحة القصتين كما تفعل المقاربة الوضعية، وإنما تحاول فهم القصة من حيث إنها تمثل أمثولة للوعي، بتحليل العناصر المكونة لها لفهم طبيعة الوعي نفسه. للقصتين الغاية نفسها «عبد القادر بن محي الدين» هو «الأمير المنتظر» الذي عيّنه سلطان الصالحين وأولياء الله، واختاروه على بقية منافسيه، خاصة الذين بإمكانهم السعي في محاولة القيام بما قام به «الأمير» في تأسيس إمارة أو دولة بديلة عن حكم الأتراك.

«محمد الصغير بن أحمد التيجاني» شيخ الطريقة التيجانية الذي تحوّل إلى عدو لـ«الأمير» بتحالفه مع المستعمر فيما بعد، يتوفر على الحظوظ نفسها التي يتوفر عليها «الأمير». إضافة إلى نسبه الشريف وقيادته لأحد أكبر الطرق في الجزائر التي لها نفوذ على غرب إفريقيا، فقد سبق لطريقته أن ثارت على الحكم التركي بقيادة أخيه «محمد الكبير بن أحمد التيجاني» عدة مرات بمساندة أعمام الأمير، وبعد عزمه الرحيل إلى الحج سنة 1825 حاول الحاكم التركي «الداي حسين» منعه لكنه أفلت منه، وعندما عاد من الحج سنة 1826م دعا الناس إلى طاعته، والخروج على الحكم التركي طالباً للملك «فوافقته أهل تلك النواحي. ونهض من بلده إلى نواحي معسكر فلاذ الحشم ومن إليهم بطاعته وخرج حسن باي حاكم وهران، في جيوشه. وتزاحف الفريقان، خارج معسكر من جهة غريس. وعند المصاف تقهقر الحشم ومن وافقهم. وانفرد التيجيني [التيجاني] في ثلاثمائة مقاتل، من قبيلة الأرباع فعقلوا أنفسهم كما تعقل الإبل، وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وبعث الباي برأس التجيني إلى الجزائر فعلقت على بابها، وأرسل سيفه إلى السلطان الغازي محمود خان».

تبين هذه الحادثة التي وقعت سنة (1827م) ما يلي:

أولاً: خوف الحكام الأتراك من خروج ممثلي السلطة الرمزية إلى الحج، مما يبين أن الذهاب إلى الحج كان له بعد سياسي إضافة إلى بعده الديني. مثل ما حدث لـ«محمد التيجاني» مع «الداي حسين»، حدث لـ«محي الدين» و«الأمير» مع «حسن باي» كما سبق ذكره، مما يدل أن لقب الحاج كان يقوي من السلطة الرمزية في المجتمع الجزائري.

هذا ما يفسر اختيار محي الدين لـ«الأمير» للذهاب معه إلى الحج، وكثير ما كان يتقدم لقب الحاج اسمه. ألم تبدأ الدعوة الموحدية بعد عودة «المهدي بن تومرت» من الحج، والدعوة الفاطمية بعودة شيوخ القبائل الصغرى بـ«أبي عبد الله الشيعي» من الحج؟ ألم يقم «محمد التيجاني» بهذه الثورة التي أودت بحياته عند عودته من الحج؟ لماذا اختار توقيت ثورته ومطالبته بالملك أثناء غياب «محي الدين» و«الأمير» اللذين كانا في الحج؟ يقول «الأمير»: وفي هذه الأيام التي وقع السفر من طيبة إلى الشام، جرت بوطننا الوهراني فتنة وراءنا، وكان متولي أمر الناس وقتئذ بها، إلى تلمسان ونواحيها، إلى مليانة ونواحيها، وما يدنيها حسن باي لار، على يد لار الجزائر حسين باشا، وهو أنه ثار عليهم ثائر يطلب الملك وانتزاعه من أيديهم، صاحب عين ماضي. أكان تراجع آل الحشم وحلفائهم عن نصرة «محمد التيجاني» عند بداية المواجهة توريط له لإزاحته من طريق السيادة الرمزية في وقت كان كل شيء يعلن بقرب نهاية الحكم التركي في الجزائر؟

ثانياً: لم يكن «الأمير» يرفض السلطة كما يعتقد البعض، وإنما كان يعتقد أن قيام الدول وسقوطها مرتبط بقدرية إلهية؛ وأن قيامه كان بأمر إلهي. وهو ما عبرت عنه القصتان اللتان نطقتا بلسان القدر الذي توافق تماماً مع ما إراده شيوخ قبيلة «الأمير» وحلفاؤها الذين أقروا قيام الدولة، بعد أن تم إقرارها من قبل الأب الرمزي للقبيلة «عبد القادر الجيلاني» من قبل. وهو ما جاء على لسان خليفته في المكان وحامل لقبه «محي الدين» الذي أعلن تنصيب ابنه «عبد القادر» أميراً سميُّ الأب الرمزي. بهذا لا يمكن أن يختلف على هذا الفعل الرمزي أحد.

ما جاء في نص البيعة الأولى يؤكد التوافق بين الخطاب الرمزي والحركة التاريخية، وأن الكل كان ينتظر قيام هذه الدولة، من حيث إن الطريقة القادرية بفعل دور زاوية «القيطنة» استطاعت أن تشكل المرجع الرمزي لتلك القبائل المختلفة، التي انشغلت لوقت طويل بمقاومة الأسبان من جهة، ومن جهة أخرى أن أرضها كانت مسرحاً للثورة والمطالبة بالحكم.

كما حدث مع «محمد التيجاني» ومن قبله «محمد بن الشريف» الذي دَرس على «محي الدين» بزاوية القيطنة، ثم سافر إلى المغرب الأقصى فأخذ الطريقة عن «العربي الدرقاوي»، وبعد رجوعه إلى الجزائر دعا لنفسه، وادعى أنه «المهدي المنتظر» سنة (1811م) فتجمعت حوله القبائل وانتصر على باي «وهران» بسهل «غريس»، وحاصر «وهران» حتى سقطت، ودخل الناس في طاعته من «المدية» إلى «تلمسان»، وفي سنة (1820م) انهزم أمام «محمد باي» بـ«غريس» ففر إلى نواحي «تلمسان» ثم إلى «المغرب». يقول «محمد ابن الأمير» نقلاً عن والده: لم ينجح «ابن الشريف» في أمره، لكونه كان ممقوتاً عند «محي الدين» فمقته الناس لذلك، وبعد رجوع «محمد باي» إلى وهران منتصراً، توجّه إليه «محي الدين» «ليهنئه بانتصاره فأكرم نزله، وأعظم وفادته. ولما انطلق من عنده، قال الباي إلى جلسائه: نحن لا نخشى من «ابن الشريف» وأمثاله، وإنما نخشى من صولة هذا، يشير إلى سيدي الجد...

ما زالت «زاوية القيطنة» تشكل عائقاً أمام قيام أي دولة خارج إطارها الرمزي، لقد استمر العداء مع درقاوية الجزائر إلى وقت طويل، مما أثر في هيمنة «الأمير» على الشرق الجزائري. كان لهذه الطريقة نفوذ كبير، وارتبط اسمها بالثورة عند العامة، حتى أن «أحمد باي» كان يلقب بالدرقاوي.

يرجع هذا الترميز إلى ما حدث سنة (1804م) بنواحي «قسنطينة»، حين قادت الدرقاوية ثورة على الأتراك بقيادة «محمد بن علي» الملقب بـ«بن الأحرش» أو «الشريف» رغم أنه لم يكن ينتمي لـ«آل البيت». عندما كان هذا الثائر عائداً من الحج إلى بلاده، شارك في مقاومة «نابليون الأول» في مصر بتعبئته للمغاربة وقيادته لهم، فاكتسب شهرة، وعندما قفل راجعاً إلى المغرب، أبرم علاقات مع قبائل الشمال القسنطيني غير الخاضعة للحكم التركي والناقمة عليه، فدعا لنفسه، وادَّعى أنه «صاحب الوقت»، التسمية الشعبية التي تطلق على المخلص أو «المهدي المنتظر» في الجزائر، تماماً كما يطلق اسم «القائم» عليه في المشرق العربي بوصفه يتوفر على الشروط التي تسمح له بذلك: نقمة القبائل على النظام وانتظار «صاحب الوقت»أو «مولى الساعة»، النسب الشريف الذي لحق به أو ألحقه بنفسه، حصوله على لقب الحاج، والتي كانت آنذاك إحدى صفات الكمال، شهرته في مقاومة الفرنسيين بمصر.

إنها صورة المخلص في الوعي الاجتماعي والسياسي، «الدرقاوية لديهم عدد كبير من الأتباع في المغرب والجزائر... وهم على استعداد لاستغلال أبسط فرصة لتعبئة الشعوب وتحريكها للثورة. وعليه، في حقيقة الأمر، لم تبقَ الدرقاوية عبارة عن طريقة دينية فحسب، بل أصبحت تشكيلة سياسية، كانت في مواجهة دائمة مع البايات طوال الحكم العثماني. العنف الذي طبع ذهنيتها يزداد كلما ظهر غزو مسيحي؛ إذ انتقلوا من دعاة وحفاظ قرآن في مرحلة سابقة إلى ثوار... هذه النزعة أصبحت أحد واجبات الطريقة جعلتها لا تتملص من صرامتها، ولو حتى في معاملتها مع عبد القادر..».

كما استمر العداء مع التيجانية التي امتنعت عن مبايعة «الأمير»، مما دفعه إلى حصار مقرها وتدميره وطرد «محمد الصغير التجاني» الذي تحالف مع الفرنسيين، مما أدّى إلى انحصار نفوذه في المناطق التي تنتمي إلى التجانية، وبدأ تراجع نفوذه واضحاً منذ سنة 1839.

«كان عبد القادر واعياً لهذا الفشل ومرافعته الطويلة عن هذا الموقف الذي اتخذه تبين قلقه، وقد كتب إلى ممثله في وهران «الحاج الحبيب الطيب» ليعلن له هذا النصر بتعابير تدعم فرضية خيانة التيجان... واستمر في هذا التحليل المغلوط مؤكداً فيما بعد لشرشل أن الحاج كان دجالاً. والحال أن الابن الثاني للشيخ الكبير التيجيني كان شيئاً آخر؛ منافساً محتملاً يجعل من المستحيل إنشاء دولة... وحول هذه النقطة لا يمكن للأمير أن يتراجع. وقد كانت رسالته بياناً حقيقيًّا حول الشرعية وهي تحوي جميع حججه، إنما أيضاً عمق إنسانيته وورعه، حتى وإن غالى في بعض تفاصيل القضية».

لقد أدَّى هذا التراجع بـ«الأمير»إلى التقرب من الطريقة الدرقاوية، فبعث برسالة إلى شيخ الطريقة الدرقاوية «محمد الحراق» -الذي خلف «العربي الدرقاوي» و«أحمد بن عجيبة» بمدينة «تطوان» التي لجأ إليها الكثير من الجزائريين بمساعدة درقاوية الجزائر أثناء المقاومة- سنة1842م، جاء فيها بعد إعلامه عمَّا يجري بينه وبين الاستعمار: وما أصابنا من خير فببركتكم ودعاكم ورضاكم عنا، ولا تنسونا من صالح دعائكم. إن استمرار المقاومة دون التحالف مع الدرقاوية في تلك الظروف العصيبة غير ممكن، خاصة بعد أن ضم شيخ التيجانية قواته إلى الفرنسيين لمحاربة «الأمير» سنة 1840م.

بدأ الترويج للفكرة وجدت لها أساس في المخيال الاجتماعي آنذاك، أن السقوط المتوالي لمدن دولة «الأمير» أمام القوات الفرنسية، راجع إلى العناية الإلهية التي فوضت هذه الأخيرة للانتقام منه، لما فعله بأتباع الطريقة التيجانية وشيخهم «محمد الصغير». لذا فإن دعاء ورضا «الشيخ الحراق» سيكون بمثابة الحاجز الواقي أو الدعاية المضادة أمام الحملة الشرسة التي شنتها التيجانية ضده، لنزع الشرعية الرمزية عنه من جهة، ومن جهة أخرى إشارة رمزية لدرقاوية الجزائر بإمكانية التحالف مع «الأمير». وهو ما حدث فعلاً في سنة1844م «بجبل الورسانيس حيث توجد كذلك مخازن السلاح والذخيرة. هناك يقيم بصورة عادية زعيمها، المدعو سيدي عبدالقادر بوطالب، ينوبه خليفتان، أمين للمال وأمين للذخيرة. هذا الأخير هو سيدي مصطفى ولد محي الدين أخ الأمير عبد القادر. قبل سيدي عبد القادر بوطالب كان الرئيس المحلي للطريقة سيدي موسى الذي حارب الأمير في عدة مناسبات ولم يستقل من منصبه إلَّا بعد أن انفضَّ من حوله أغلب أتباعه... حتى هذه المدة الأخيرة، لا زال سيدي عبدالقادر بوطالب ابن عم الأمير وأخوه سيدي مصطفى بن محي الدين أوفياء للطريقة، يبديان تجنبهما من الأمير. كانا يفضلان أن يكون مثلهما درقاويًّا، حتى يتمكنا من مبايعته زعيماً على الدرقاوية لجمع الصفوف ضد المسيحيين. كان تصرف عبد القادر من أول وهلة كتصرف الأمير السياسي... وتفيد آخر الأخبار أن سيدي عبد القادر بوطالب والأمير عبد القادر قررا العمل سويًّا لفائدتهما المشتركة لكن وفاقهما لم يمكنهما إلَّا من إشعال نار الثورة التي دفعت بقبائل مقاطعة وهران إلى الهجرة إلى المغرب..».

لكنه تحالف لا يلتزم بالشرعية، وإنما من أجل المقاومة، مما يبين أن التنافس على الرمزية ما زال مستمراً بين القادرية والدرقاوية. في الوقت الذي ذهبت فيه التيجانية إلى التحالف مع المستعمر للانتقام من «الأمير»، بدأ النزاع من أجل الشرعية حول من باستطاعته فرض تأويله وطريقته على الطرق الأخرى التي تنهل من معين رمزي مشترك رغم تعدد دروبه.

استعارية أفق انتظار الخلاص

إن النزوع نحو المماثلة والتماهي بالأصل تحت وطأة السيادة والسلطان، لا تتيح فرصة للوحدة والتنافس السلمي، بل للصراع والإخضاع أو الهجرة والإرجاء، لأن المسألة ليست مسألة فرد أو جماعة أو جيل بل هي مسألة رموز وقيم.

لقد كان الجميع يدَّعون أنهم يمتثلون للإرادة الإلهية ويمثلونها، لذا كانت صورة المخلص أو «المهدي المنتظر» أو «مولى الساعة» أو «صاحب الوقت» صورة تَمثَّلها الثائرون، ووظَّفها آخرون من أجل تجييش مشاعر الناس وحملهم على الثورة. كل الطرق التي كان ينتظم السكان في إطارها كانت تروج للفكرة وتؤمن بها، رغم اختلافها حول تجليتها.

إن قراءة لنص مختصر نشر في جريدة الحوار الفرنسية يوم 18 ديسمبر 1845م حول استنطاق ثائر، كان يحرك الثورات في الوسط -حكم عليه بالإعدام من طرف المجلس الثاني للحرب بالجزائر يوم 15نوفمبر من السنة نفسها- يؤكد أن صورة المخلص عامل مؤسس للذاكرة الرمزية، ومحرك للتاريخ في جزائر القرن التاسع عشر، رغم تنوع تمظهراتها:

د- ما اسمكم؟

م- محمد بن عبد الله.

د- ألا تلقبون بـ«بومعزة»؟

م- لا، أخي هو الذي لقبه العرب بهذا الاسم.

د- لماذا أنعتوه بهذه التسمية؟

م- أخي يحمل نفس الاسم، محمد بن عبد الله والعرب لقبوه ببومعزة، لأنه كان دائماً يسير متبوعاً بغزالة أرسلها له الله لقضاء مصالحه.

د- هناك أشخاص كثيرون يلقبون ببومعزة في كثير من الأقاليم ويحاولون تحريض السكان. هل تعرفونهم؟

م- ليس هناك أحد تطلق عليه هذه التسمية إلَّا أخي. وأما الأشخاص الذين يحملون هذه التسمية فأنا لا أعرفهم ولم أسمع عنهم إطلاقاً...

د- من أي بلد أنتم؟

م- أنا من تردونت [ضاحية سوس المغرب الأقصى].

د- وجودكم في الجزائر يعود إلى أي تاريخ؟

م- منذ سبع سنوات تقريباً...

د- منذ متى يوجد أخوكم بالجزائر؟

م- منذ نفس الفترة تزوج عند أولاد يونس، وهناك حصل على سمعة دينية كبيرة، كانت تأتي لزيارته قبائل الظهرة، وتكلمه بإلحاح عن الجهاد، فقام على رأسها، والنتيجة تعرفونها جيداً.

د- من الذي قام بتشجيعه ودفعه للثورة؟ إنه عبد القادر (الأمير) دون شك، الذي تسمونه بالسلطان، أليس كذلك ؟

م- لقد بدأ الحرب وحده منفرداً، غير أن سمعته انتشرت بعيداً عند قبائل... ثم بعد ذلك بدأت تصله رسائل من مولاي عبد الرحمن [سلطان المغرب] والحاج عبد القادر [الأمير] وسلاطين القسطنطينية وتونس. كانت هذه الرسائل تشجعه على المواصلة، وأنه رجل الساعة الذي ذكر في الكتب المقدسة، وإن توصل لإخراج المسيحيين، سيعينونه سلطاناً عليهم ويبقون هم كخلفاء تابعين له...

د- هل جاءت هذه القبائل مع قدماء شيوخها أم صحبة الذين قمنا بتعيينهم؟

م- لم تحضر القبائل جميعها، بعثت بمبعوثين يرأسهم غالباً قادتها الأقدمون، وأحياناً أخرى شيوخهم....

د- مهما كان رأيكم فينا إلَّا أنه هناك جماعة كبيرة من العرب تكنّ تقديرها وإخلاصها لنا.

م- .... يأتي إليكم يوميًّا كثير من المسلمين ليقولوا لكم أنهم يحبونكم وأنهم خدمكم الأوفياء، فهذا غير صحيح.... كل مرة يأتي شريف [=آل البيت] يقنعهم بإطاحتكم فإنهم يتبعونه حتى ولو طلب منهم مهاجمتكم داخل حصونكم بمدينة الجزائر...

د- كيف أن عبد القادر يستطيع أن يسخر من حاكم ذي قوة كبيرة كمولاي عبدالرحمن.

م- منذ أن علم المغاربة بأن مولاي عبد الرحمن عقد الصلح مع المسيحيين، أداروا وجوهم جهة الأمير، الذي جاهد طويلاً، ولا يزال يجاهد، ومنذ هذا الصلح ثارت كل البلاد الواقعة بين سوس والرباط وكذلك القبائل، فهو الآن في عزلة تامة دون حكم...

يؤكد هذا الاستنطاق ما يلي:

السؤال عن «الشريف محمد بن عبد الله» الذي ادَّعى أنه «المهدي المنتظر» أو«مولى الساعة» فأطاعته تلك القبائل التي ثار بها على الفرنسيين من سنة 1845م إلى سنة 1847م، أثناء غياب «الأمير» بالمغرب الأقصى.

لقبه بومعزة الذي أصبح لقباً لكثير من الثائرين، رمز لمهداويته وصلاحه، حيث إن طاعة الحيوانات لشخص ما في المخيال الاجتماعي، كرامة من كرامات المُصطفين والمختارين، خاصة إذا كان ينتسب لـ«آل البيت»، واسمه واسم والده مطابقان لاسم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ووالده، اللذين بدورهما يتطابقان مع اسم «المهدي المنتظر» واسم والده محمد بن عبد الله كما ورد في الأحاديث التي ذكرت المهدي.

لقد كان الجميع يعتقدون بفعالية الدعوة التي قام بها «بومعزة»، عندما استطاع أن يستنهض القبائل من جديد للثورة، بعد الغياب المؤقت لـ«الأمير».

لقد كان «الأمير» على اتصال بـ«بومعزة» حيث أصبح أحد قواده بعد عودته واستئنافه للمقاومة إلى أن انفصل عنه مع بعض أصحابه سنة 1847م، ثم زاره في دمشق سنة 1878م.

حاول المستعمر استغلال هذا الوعي من أجل استكمال السيطرة عل الجهات الثائرة، فجاء في سنة1841م برجل اسمه «محمد بن عبد الله» من أولاد «سيدي أحمد بن يوسف» فرع «عين تموشنت» عن طريق حليفين له: «مصطفى بن إسماعيل» و«مولاي الشيخ علي»، وتم الاتفاق على محاربة «الأمير»، ولقب «محمد بن عبد الله» سلطان على الجهة الغربية. لكن بعد دخول المستعمر «تلمسان» في أواخر جانفي 1842م عيّنوه سلطاناً شكليًّا فبدأ يحضر للانقلاب عليهم انطلاقاً من ضريح «أبي مدين شعيب»، فنفوه سنة 1844م إلى الحجاز، وبعد عودته سنة 1850م، استقر بزاوية «الرويسات» قرب مدينة «ورقلة» فدعا لنفسه فبايعه الناس سلطاناً عليهم في أوت 1851م.

من المؤكد أن الذي تم استنطاقه ليس شقيق «بومعزة»، وإنما أخوه في الدين، فأما الأسماء والألقاب في الثورات فتأخذ في الأغلب دلالات مجازية ورمزية.

إن هذه الاستعارات المتعددة: صاحب الوقت، مولى الساعة؛ ما هي إلَّا تعبير عن سعة أفق انتظار الخلاص وتعدد زمانيته في المخيال الاجتماعي، الذي تشكَّل من تجربة تاريخية اختزلتها بكثافة مركزة تلك الدول والحركات الاجتماعية المتعددة التي قامت في الجزائر بدعوة تحقيق العدل والإحسان اللذين يمثلان أساس فلسفة الخلاص في الإسلام. ويؤول هذان التصوران السياسيان الاجتماعيان إلى أساس فلسفي وجودي، وهو تحقيق صورة «الإنسان الكامل» على الأرض بالتحقق بصفاته وأسمائه، أو كما قال «أبو القاسم الجنيد»: وهو أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون.

هذا ما عبرت عنه التجربة الوجودية عند «الأمير عبد القادر» الذي حاول فيها المزج بين الفرق والجمع، والغياب والحضور، مخالطة الخلق ومعانقة الحق؛ لإعادة إنتاج التجربة المحمدية بقراءة التاريخ وتأويله كممكنات للوجود وانفتاحه المتواصل على الزمان.

لقد اعتبر «الأمير» كتاب المواقف الذي استظهر فيه نصف القرآن عبارة عن «نفثات روحية» ألقيت إليه، لا كما تتلقى العلوم العقلية والنقلية، وإنما هي هبة أو منحة إلهية. لا ترجع هذه المنحة الخاصة إلى بذل المجهود المتمثل في التجربة الذاتية فحسب، بل كذلك إلى عين الجود التي خصَّ بها الله المخلصين من عباده.

يؤسس «الأمير» على هذا التصور الوجودي للمعرفة لأنطولوجيا الذات الأميرية المرتسمة بالتجربة المحمدية في التاريخ، كما تمثلها المسلمون الأوائل، وتشكَّلت من محاولات إعادة إنتاجها في التاريخ الرموز الثقافية الإسلامية.

الذات وممكنات الوجود

إن التجربة الأميرية كما هي في كتاب المواقف تجربة وجودية، تُحوِّل الوعي الديني والتاريخي لجزائر القرن التاسع عشر إلى وعي أنطولوجي عالِم. من خلال التأريخ لأنطولوجيا الذات والتاريخ، بوصفهما تجربة ذاتية، وممكن من ممكنات الوجود، وتأويل من تأويلاته.

من هنا تكون تجربة الذات والتأويل انفتاح الكينونة على الوجود، حيث يتحقق الفتح الأنطولوجي بانكشاف «الحقيقة» للذات. ويكون التأويل وسيلة وأداة لرفع الحجب عن الحقائق الباطنية، الكامنة وراء الظواهر والرسوم والكلمات التي جعلت الرؤية الإنسية في لبس دائم.

بهذا يكون التأويل إلحاقاً للظاهر بالباطن، والعبارة بالإشارة، والأثر والرسم بالعلامة والرمز، والمجاز بالحقيقة. في هذا السياق تتحوّل التجربة المحمدية في التاريخ إلى نموذج للوصول إلى الحقيقة المحمدية، بالتماهي فيها، والتلقي عنها والاستشهاد بها.

في هذا الصدد يقول الأمير: «...فإن الله تعالى قد عوَّدني، أنه مهما أراد أن يأمرني، أو يبشرني، أو يحذرني، أو يعلمني علماً، أو يفتيني في أمر استفتيته فيه، إلَّا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إليَّ ما أراد بإشارة آية من القرآن، ثم يردني إليَّ، فأرجع بالآية قرير العين، ملآن اليدين، ثم يلهمني ما أراد بالآية، وأتلقى الآية من غير حرف ولا صوت ولا جهة، وقد تلقيت...نحو النصف من القرآن بهذا الطريق...وكل آية تكلَّمت عليها تلقيتها بهذا الطريق....ودعاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عباس: اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل».

وإجابة الإمام علي عن سؤال: «هل خصكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل البيت بشيء دون الناس؟ يعني من العلم، فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلَّا أن يكون فهماً أعطيه رجل في كتاب الله. وما في هذه الصحيفة، وما في هذه المواقف، من هذا القبيل..».

إن تحوّل العبارة القرآنية إلى إشارات وجودية يستدعي إعادة تأويل القرآن من خلال الوجود وتأويل الوجود من خلال القرآن، لأن الآية في خطاب «الأمير» والصوفية تأخذ معنى العلامة وهي دلالاتها اللغوية، والآية تدل على العالم كما يشير إلى ذلك القرآن واللغة العربية، «العالم والعلم والعلامة ثلاثة مفردات لغوية دوال تنتمي إلى جذر لغوي واحد هو (ع ل م). ومن الطبيعي أن يكون بين الدوال الثلاث علاقة دلالية في بنية اللغة الأم».

ومنه يكون العلم عند الصوفية فهم جديد للعالم عن طريق تأويل العلامة والآيات التي يتجلى من خلالها القرآن أو الوجود، أو كما قال الأمير: «وأهل طريقنا [=الصوفية] (رضي الله عنهم) ما ادعوا الإتيان بشيء في الدين جديد، وإنما ادعوا الفهم الجديد في الدين التليد، وساعدهم الخبر المروي أنه «لا يكمل فقه [=علم] الرجل حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة». والخبر الآخر «أن للقرآن ظهراً وبطناً، وحدًّا ومطلعاً»، رواه ابن حبان في صحيحه، والأثر الوارد عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: ما حرك طائر جناحيه في السماء إلَّا وجدنا ذلك في كتاب الله».

تتحوّل القراءة التأويلية للقرآن إلى تجربة وجودية، ما دام القرآن يحتوي الوجود الذي ينجلي عن طريق التأويل المفتوح والمتواصل، لأن الخطاب القرآني بوصفه كلاماً إلهيًّا «وفق علمه» اللامتناهي والمحيط «بالواجب والممكن والمستحيل»، وجود مكتوب في نظر «الأمير»، ومنه فإن كل ما هو وجودي هو قرآني، وكل ما هو قرآني هو وجودي، كل منهما يستبطن الآخر ويستظهره، ولا يتبيَّن ذلك إلَّا بالتأويل الذي بواسطته يدرك العارف أن للوجود المجازي، أو للخلق، أو للعدم الظاهر، ظاهر وباطن، ظاهره عدم من جهة دلالاته على الحق أو الحقيقة، وباطنه عدم من جهة تقيده بظاهر الحقيقة، وهو الحقيقة من ناحية أنه مطلق الحقيقة.

يتصور «الأمير» أن المعرفة الصوفية هي المعرفة التي لا تقف عند ظاهر الأشياء، وإنما هي كشف واكتشاف لباطنها عن طريق التأويل؛ لأن الله «يُخرج الأشياء من أضدادها، ويُخفي الأمور في أندادها، حتى لا يعرّج معرّج إلَّا عليه، ولا يتوجَّه متوجّه إلَّا إليه...ولذا قيل في معنى اسمه اللطيف: إنه الذي يُخفي الأشياء في أضدادها، ولما أخفى ليوسف الملك في الرق، قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}» تشير هذه الآية في نظره إلى عدم الوقوف مع ظواهر الأشياء في طبعها أو صورها، لأنها قد تنقلب إلى أضدادها، حتى يعرف الخلق: أن إليه يرجع الأمر كله في الخلق والتدبير، بعيد عن الأسباب العادية والعقلية، ويرجع وجود السبب لحكمته، وعدمه لقدرته. من حيث إن الأسباب في حضورها وغيابها ما هي إلَّا حكمته وقدرته المتجلية في الوجود، لأنه «عين [= جوهر] كل شيء في الأرض والسماء».

أي إن الكلام عن الأشياء وأسبابها من ناحية الباطن، كلام عن ماهيتها أو حقيقتها أو عن الوجود الحقيقي، لأن الأشياء والأسباب لها وجود مجازي، لأنها فعل من أفعال الحق. لذلك فإذا نظر إليها من ناحية الماهية، أو الباطن، أو الوجود الحقيقي، فهي حق، وإذا نظر إليها من ناحية العرض، أو الظاهر، أو الممكن، أو الوجود المجازي، فهي خلق.

إن هذه الرؤية الأميرية تختلف عن تصور المعتزلة لحرية الاختيار والذات الإلهية، وتقترب من تصور الأشاعرة عامة، و«أبو حامد الغزالي» خاصة في مسألة نفي الأسباب وقلب الطبائع.

إن العامل الذي طمس النزعة الأشعرية عند «الأمير عبد القادر» هو تأثره العميق بفلسفة التأويل عند «محي الدين بن عربي»، الذي يقول عنه «.. إنه خزانتنا التي منها نستفيد ما نكتب إما من روحانيته وإما مما كتبه في الكتب».

وهذا ما نجده عند الكثير من الصوفية الجزائريين في بداية القرن العشرين، أمثال «أمحمد بن سليمان» في الإرشادات الربانية و«مصطفى العلاوي» في المنح القدّوسية ومفتاح الشهود في مظاهر الوجود.

مجازية الزمن ورؤياوية التاريخ

إن حضور «ابن عربي» في الخطاب الصوفي المغاربي، كان تلطيفاً للنزعة النصية أو النقلية في الفقه المالكي وعلم الكلام الأشعري. حيث تم الانتقال من التفسير إلى التأويل، مما أدّى إلى الاجتهاد في قراءة النص القرآني، والانفلات من سلطة القياس الفقهي والكلامي (قياس الفرع على الأصل، وقياس الشاهد على الغائب).

هذا ما يفسر المواقف الإنسية المتقدمة للصوفية الجزائريين، ومقاومة الاستعمار ومحاولة بناء دولة وطنية في القرن التاسع عشر.

إن العلاقة بين التجربة والتأويل في مواقف «الأمير» يلخّصها في عنونت كتابه بالمواقف، جمع موقف، ومعناه تلك الحالة الروحية المتعالية عن تيار الشعور بالزمان التي تأخذ العارف إلى حضرة المعاني والتلقي المباشر، والتي عبر عنها في الموقف الأول.

وفي كتاب المواقف لـ«النفري» «الوقفة ينبوع العلم، فمن وقف كان علمه تلقاء نفسه، ومن لم يقف كان علمه عند غيره... الكون موقف... الوقفة باب الرؤية، فمن كان بها رآني ومن رآني وقف، ومن لم يرني لم يقف... الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح العلم والعلم روح الحيوة.. كل واقف عارف، وما كل عارف واقف... العالِم في الرق والعارف مُكاتَب والواقف حرّ... الواقف فرد والعارف مزدوج... العالم يخبر عن العلم، والعارف يخبر عن المعرفة، والواقف يخبر عني... الوقفة وراء ما يقال، والمعرفة منتهى ما يقال... كل جزئية من الكون موقف... وقال لي [الله]: الوقفة هي مقامك مني وكذلك وقفة كل عبد هي مقامه مني...».

الموقف بهذا المعنى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العارف في معراجه وتجربته الصوفية، والوقفة هي حضرت الحقيقة والهوية والفناء والتماثل. بهذا الصدد يقول «عفيف الدين التلمساني» في شرحه لكتاب المواقف لـ«النفري» عن معنى «الوقفة ينبوع العلم»: «إن من وقف كان علمه تفصيل نفسه، وهو معنى تلقاء نفسه ويصح أن يكون معناه: كان علمه من تلقاء نفسه، أي لم يأخذ علمه فعلاً ولا تقليداً، ومن لم يقف كان علمه نقلاً فحسب، وأهل النظر كلهم نقالون لقياسهم الغائب على الشاهد بالإثبات إن شبهوه به، وبالسلب إن نزَّهوه عنه، فهم في الحالين أهل نقل».

من هنا تكون المواقف تعبيراً عن تجربة وجودية ذاتية نتجت عن تجربة معرفية تستند إلى تقاليد تربوية عريقة في التأويل العرفاني، الذي تتداخل فيه التجربة بالمعرفة إلى درجة انعدام الحد الفاصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف، بين المؤَوَّل والمؤوِّل، فعبر المؤوِّل عن ذاته في المؤوَّل، فيتحوَّل التأويل إلى إلقاء ورؤية، يعبر عنهما باللغة القرآنية التي تتكون من رموز وإشارات عرفانية وفق التراث المرجعي الصوفي، وهو ما عبر عنه «الأمير» بخزانة المعرفة عند كلامه عن الشيخ الأكبر.

إن الخطاب الصوفي عند «الأمير» هو إعادة ترتيب العلاقة بين الذات والعالم من خلال إعادة فهم علاقة الإنسان بالله التي تجلَّت في التاريخ بواسطة التجربة المحمدية، بوصفها نموذج النهضة العربية الإسلامية الأولى التي أخذت الصبغة الإنسانية في الخطاب الصوفي الإسلامي. هذه التجربة المحمدية ما هي إلَّا تجسيداً تاريخيًّا للحقيقة المحمدية بوصفها تجلياً للذات الإلهية في الوجود، من خلال تجليها في الأنبياء والرسل والأولياء الذين يمثلون «الإنسان الكامل».

لقد كانت التجربة التاريخية لـ«الأمير» ومرجعيته الثقافية تُنذر بميلاد تجربة وجودية صوفية جديدة، تظهر من خلالها ملامح فلسفة دينية جديدة أو (فلسفة نبوية)، تؤسس لفلسفة خلاص دنيوية تقوم على مفهوم الإنسان الكوني الذي يجسده «الإنسان الكامل» الذي تتجلى فيه الحقيقة المحمدية بالمفهوم الأكبري.

من هنا يمكن فهم المواقف التاريخية والإنسانية لـ«الأمير»، لأن الخطاب الذي كان يوجهه في بعده الرمزي والمعرفي هو خطاب صوفي تؤطره مؤسسة لها سلطة رمزية واجتماعية، لا يمكن لأي مؤرخ أفكار تجاهل حضورها القوي في صناعة التاريخ والوعي التاريخي.

لقد تولى «الأمير» قيادة المقاومة ليس انطلاقاً من حنكته السياسية والقيادية وشجاعته القتالية فحسب، كما تُصوِّر ذلك كتب التاريخ الرسمية وغير الرسمية، وإنما كان العامل المحدد في توليه هذا المقام موقعه من المخيال الديني والسياسي للمجتمع، بوصفه ابن شيخ الطريقة القاديرية التي كانت الأكثر انتشاراً في المجتمع. وتكفي الإشارة إلى وجود مقامات في كل مناطق الجزائر لـ«عبد القادر الجيلي»، الذي سمّي «الأمير» باسمه، والاقتران المتداول بين اسمه والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التوسل لله، وما كانت تمثله زاوية «القيطنة» كمؤسسة دينية آنذاك. يكفي هذا حتى نعرف ماذا كان يمثل «الأمير» لذاته ولمن حوله في المخيال الديني والسياسي الذي كان ينهل منه الجميع في جزائر القرن التاسع عشر.

يقول الأمير بهذا الصدد: كنت مغرماً بمطالعة كتب القوم [=الصوفية] (رضي الله عنهم) منذ الصبا، غير سالك طريقهم، فكنت أثناء المطالعة أعثر على كلمات تصدر من سادات القوم وأكابرهم يقف (أي يقوم منها) شعري، وتنقبض نفسي منها، مع إيماني بكلامهم، على مرادهم، لأنني على يقين من آدابهم الكاملة، وأخلاقهم الفاضلة، وذلك كقول عبد القادر الجيلي: معاشر الأنبياء، أوتيتم اللقب، وأوتينا ما لم تؤتوه. وقول أبي الغيث بن الجميل: خضنا بحراً وقفت الأنبياء بساحله. وقول الشبلي لتلميذه: أتشهد أني محمد رسول الله؟ فقال له التلميذ: أشهد أنك محمد رسول الله...ومثل هذا كثير عنهم.

إضافة إلى المخيال الديني الصوفي الذي كان يؤطر المجتمع آنذاك، يتحدث «الأمير» عن التراث الصوفي المكتوب كمعين معرفي نهل منه منذ الطفولة، مما يبيّن التداخل بين المخيال الديني والثقافة العالِمة في تكوينه النفسي والفكري. إن رجوعه إلى الطفولة ليروي لنا كيف بدأت تجربته الوجودية مستحضراً الذين نهل من معينهم، جاعلاً منهم رواة للوجود، فأقامهم مقام ذاته الأنبياء والرسل والمتصوفة، مختزلاً ذاته في ذاتهم.

وهو يروي هذه التجربة يبيّن إلى أي مدى تتحوّل الذات إلى الموضوع وتتداخل معه، حيث يعدم الفصل ويتحوّل الزمن إلى مجاز والتاريخ إلى رؤيا/ رؤية، تنفلت من ثنائيات العقل الوضعي أين نميز بين الماضي والحاضر والمستقبل مستندين إلى الرواية والسرد، حيث يصنع التاريخ الفعلي للجماعات والأفراد.

يروي «الأمير» تجربة الوجود من خلال روايته لتجربته الوجودية بقوله: كل ما قاله القائلون المؤولون لكلامهم، لم تسكن إليه النفس، إلى أن منّ الله تعالى عليّ بالمجاورة بطيبة المباركة فكنت يوماً في الخلوة متوجهاً، إلى الله تعالى فأخذني الحق تعالى عن العالم، وعن نفسي، ثم ردَّني وأنا أقول: لو كان موسى بن عمران حيًّا، ما وسعه إلَّا اتِّباعي، على طريق الإنشاء، لا على طريق الحكاية، فعلمت أن هذه القولة، من بقايا تلك الأخذة، وأني كنت فانياً في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم أكن في ذلك الوقت فلاناً، وإنما كنت محمداً. وإلَّا لما صح لي قول ما قلت، إلَّا على وجه الحكاية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). وكذا وقع لي مرة أخرى في قوله: أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وحينئذ تبيّن لي وجه ما قاله هؤلاء السادة [= الصوفية]، أعني أن هذا أنموذج ومثال، لأني أشبه حالي بحالهم. حاشاهم، ثم حاشاهم، ثم حاشاهم، فإن مقامهم أعلى وأجل، وحالهم أتم وأكمل، وكذا قال الشيخ عبد القادر الجيلي: كل من اجتمع هو وآخر في مقام من المقامات الكمالية، كان كل منهما عين الآخر، في ذلك المقام ومن عرف ما قلناه علم قول الحلاج وغيره. وبعد يروي بأن هذه الرؤية قد ثبتت له عندما رأى ذاته ممزوجة بذات النبي «وصارتا ذاتاً واحدة».

إن هذه التجربة الصوفية التي يرويها «الأمير» تبيّن لنا إلى أي مدى يحضر المخيال الديني والسياسي للمجتمع الجزائري في التجربة الوجودية الأميرية، ليس في الكتابة الصوفية فحسب، وإنما في تجربة المقاومة وبناء الدولة التي ظهر فيهما بمظهر المُخلِص. فكان يقوم على صعيد الواقع بما كان يقوم به «عبد القادر الجيلي» في المخيال الاجتماعي. ومنه لا يمكن أن نعتبر الخطاب الصوفي إلَّا تعبيراً رمزيًّا استعاريًّا مكثفاً عن تجربة وجودية بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، تجربة الذات الباحثة عن الخلاص والسلام الباطني.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة