شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
*
* رئيس قسم علم النفس، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس
– مستغانم - الجزائر.ملخـص
في هذا المقال نحاول أن نستقرئ كيف حدد مالك بن نبي مفهوم المثقف، في ظل المثاقفة التي تعرض ويتعرض لها، من حيث المكانة والدور، ومدى العلاقة بينه وبين الأفكار والأشياء في العالم العربي والإسلامي.
هي قراءة تشخيصية لفعالية المثقف التي كانت بعيدة كل البعد عن تطلعاته وقناعاته وتكوينه، الذي تقلص من مستوى الوعي الموضوعي بالأفكار والإنجازات، إلى مستوى الوعي المتمركز حول الذات، نتيجة ما تعرض له من تنميط أفرزته ثقافات أخرى تحمل صفة الإشباع المادي والمعنوي على ثقافات محرومة، وبالتالي أصبحت هذه الثقافات المهيمنة باسم التحضر كأيديولوجية أكثر منها كواقع متاح للجميع، تفرض نموذجها كأنموذج مرجعي لكل عمل إبداعي إن وجد من حيث هي موضوع أو منهج، متناسين الخصوصية الثقافية لكل فكرة.
تلك هي إذاً رؤية مالك بن نبي لدور المثقف، الذي يجب أن يعمل على تحرير شعوبه من الاستعمار الثقافي الذي يحمل قوالب جاهزة لشعوب أخرى بدعوى التحضر والتخلص من العبودية والطموح إلى الحرية بمقاسات هذه الأفكار، التي توهمنا أنها تحمل صفة الموضوعية، ولكنها في الحقيقة إنما هي كذلك لأنها تسقط أفكارها في واقع غير منسجم وغير مؤسس من حيث الأولويات والمناهج والمشاريع المنتجة والمبدعة التي تعكس جودة الأفكار والأشياء والأشخاص.
إشكالية الأولوية بين الفكرة والشيء
كتب مالك بن نبي كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» مبتدئاً بتحليل نموذجين من المآزق التي تفرعت عنهما إجابات مختلفة، إجابة مصدرها الأرض والشيء وإجابة مصدرها السماء والأفكار، معتمداً في ذلك على تحليل قصة «روبينسون كروز» لدانيال ديفوي
Daniel De Foe عن روايته حيث يتركز وجوده حول الشيء وحول العمل، فكل أفكاره تركز على الشيء المنعدم، «فروبينسون كروز يتغلب على كآبة الوحدة بالعمل. وخلال هذا الوقت من ذلك اليوم فإن عالم أفكاره كله يتركز حول الشيء أنها الطاولة التي كان يريد صنعها لنفسه».أما حي بن يقظان وقصته لابن طفيل فإن الأشياء تتركز في عالم الأفكار؛ «إن العالم هنا عالم تتركز فيه الأشياء حول فكرة، فحي بن يقظان لا يتغلب على كآبة الشعور بالوحدة بصنع طاولة بل ببناء فكرة واكتشافها، إنه عالم لا يتحدد فيه الزمن لصالح شيء ما».
من هنا تتبلور الصورة الذهنية للعالم وكيف يتم إسقاطها على الواقع، فالمرحلة الأولى تنسجم الصورة الذهنية مع الواقع بينما تبتعد الصورة الذهنية للواقع لأن مصدرها كان غيبيًّا. فمالك بن نبي يوحي من خلال تحليله لهذين النموذجين مدى تأثير الصورة الذهنية سواء للشيء أو للفكرة. فهذه المقدمة التي تعتبر الكل في تصوري لعملية تحليل العلاقة بين الإنسان وعالم الأشياء والأفكار، وعنه تنبثق وتتفرع كل العمليات الأخرى من إنتاج من أخلاق ومن سياسة وخير وشر.
ما يهمنا نحن من كل هذا أين هو المثقف في هذه الجدليات التي صاغت فكر ابن نبي؟ وهل كانت فعلاً تعبر عن فهم واقعي لعلاقة المثقف بما هي عليه بالعالم الإسلامي؟
فالبداية كانت مع مشكلة الأفكار التي هي بالضرورة مشكلة مثقف، استلزام طبيعي لأن رأسمال المثقف هو الأفكار، أي تصوراته للواقع كيف يجب أن يكون؟
في أول وهلة نتساءل عن علاقة الفكرة بالمثقف وعلاقة المثقف بالفكرة، هذه العلاقة الجدلية التي تبيّن مدى تأصل الفكرة كهوية للمثقف وهي مادته الأولية وراس مال أفعاله الذاتية والاجتماعية، فهي الطاقة التي تحرك فيه رسالته ومهمته تجاه وعيه بمسؤوليته وتجاه مجتمعه الذي ينتظر منه تنوير منهجه وكيفية تحديد وبلوغ الأهداف التي تعكس قيمتها ووزنها لدى العام والخاص.
القارئ لكتاب (مشكلة الأفكار) يدرك أن مالك بن نبي يحاول بطريقة غير مباشرة من خلال تلك النظرية التي يريد أن يحللها وفق منطق العلاقة بين الأفكار والأشياء والأشخاص، ليبيّن لنا مكانة المثقف بين ذلك، فهو المدرك لهذا العمق من التحليل، وهو الذي ينبغي أن يعمل وفق هذا الإدراك وهذا الوعي من أجل النهوض بالمجتمع من مرحلة التقهقر والاختلال إلى مرحلة التنمية والتوازن. ذلك المثقف الذي لا نجده يصرح به وإنما يأتي بالعديد من الدلالات والمعاني تشير إليه؛ لعدة أسباب: لأن هذه اللغة التي يستعملها ليست في متناول العامة من الناس؛ فهي تحتاج إلى الكثير من التركيز لفهمها والربط بينها. ولأنه يناقش عالم الأفكار، وهو عالم مجرد مبني على التصور الذي يقودنا إلى توظيفه عن طريق استثماره في عالم الأشياء، وهنا يتدخل الشخص بكيفيةٍ في الاستثمار هي ما يحدد ذلك التجانس وذلك الانسجام بين فعالية الفكرة وإنتاج الشيء، أي تجسيدها على أرض الواقع.
فمثلاً يتحدّث عن المراتب الثلاث لعلاقة الأفكار بالمقاييس الثابتة للنشاط:
1- المرتبة الأخلاقية الأيديولوجية السياسية بالنسبة للأشخاص.
2- المرتبة المنطقية الفلسفية العلمية بالنسبة لعالم الأفكار.
3- المرتبة التقنية الاقتصادية الاجتماعية بالنسبة لعالم الأشياء.
هذه الثلاثية تبيّن لنا القيم والمنهج في تجسيد الفكرة، فهذه السيرورة جوهر علاقة الشخص بوحدة الأفكار والأشياء، وبذلك تعكس مستوى التحكم في الأفكار وإمكانية تطبيقها والحصول على جملة الأهداف المسطرة بعد تحقيقها.
المعنى الاصطلاحي للمثقف
تحديد هذا المفهوم يخضع لاتجاهات وأيديولوجيات مختلفة. ولم نجد تعريفاً حقيقيًّا إلَّا ما أثراه البعد الفلسفي لكلمة الثقافة، فالمثقف الجزء الفاعل فيها؛ لأنه يملك أكثر ما تعنيه الممارسة الطقسية كأدنى مستوى للممارسة الثقافية لدى عامة الناس، غير أنه ينحاز إلى وعيه المنطقي والعقلي، ويحاول أن يستوعبها بعالم الأشياء وليس بعالم الأفكار منها. وهذا ما يهمنا في هذا البحث.
فسارتر يرى أن: «المثقف هو ذلك الإنسان الذي يدرك ويعي التعارض القائم في المجتمع، بين البحث عن الحقيقة العلمية (مع كل ما يترتب على ذلك من معايير وضوابط) وبين الأيديولوجيا السائدة (مع المنظومة من القيم التقليدية)، وما هذا الوعي بالرغم من أن المفروض فيه -حتى يكون فعليًّا وواقعيًّا- أن يتم لدى المثقف على مستوى نشاطاته المهنية، ووظيفته أولاً، وما هذا الوعي سوى كشف النقاب عن تناقضات المجتمع الجوهرية.
فالمثقف إذاً هو الشاهد عن المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنها تستبطن تمزقها بالذات، وهو بالتالي نتاج تاريخي، وهذا المعنى لا يسع أي مجتمع أن يتذمر أو يشتكي من مثقفيه من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام؛ لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلَّا من صُنْعِهِ ونتائجه».
فالمجتمع هو من يصنع المثقف من خلال التصادم والتعارض القائم بين الأيديولوجية والواقع، فالمثقف بحكم موقعه ووعيه يستطيع أن يكشف هذه المؤامرة المتمثلة في التزاوج بين الأيدولوجيا والواقع على حساب مصالح الناس من حيث المنفعة العامة، لأن مستوى الوعي والحدس وروح النقد الذي يمتلكه، يحقق له هذه المؤامرة القائمة على ضمان سيطرة الأيدولوجيا على الواقع، فمن مصلحة بقاء هذا التزاوج يجب أن يبقى بعيداً وسلبيًّا، فأفكاره النقدية تعكر مسار هذا المشروع، مما يجعله مهمشاً بعيداً عن مصدر القرار الذي يحقق الصالح العام.
أما هشام شرابي فيري أن المثقف ليس من أحسنَ القراءة والكتابة، ومن حصل على شهادة علمية، بل ما يميزه هو صفتان:
الوعي الاجتماعي: الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة ومن تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك.
الدور الاجتماعي: الذي يمكن الفرد من رؤية وعيه الاجتماعي، من أن يلعبه بالإضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفاياته الفكرية. يضعنا هذا الأخير بين نموذجين من الوعي، أي إما أن يكون لديه الوعي الاجتماعي دون دور اجتماعي، وهذا وعي قاصر، وإما أن يكون لديه دور اجتماعي دون وعي اجتماعي، وهذا أيضاً دور قاصر. فالمثقف في نظره هو أن ينصهر وعيه الاجتماعي مع دوره الاجتماعي لتحقيق وظيفة متكاملة بين الفكرة والشيء.
أما هشام حفيظ فيقول: «هو الذي يبدع ويخلق ويلعب دوراً في ربط الثقافة بالواقع الفكري والسياسي، المثقف يقوم بعمل ذهني نشيط ووحيد مستمر من أجل المجتمع، متجاوزاً الخدمة التخصصية إلى قضايا الناس وواقعهم ومستقبلهم». قيمة المثقف من خلال نشاطه الذهني الذي ينعكس وتكون له مكانة في المجتمع في كافة المجالات بعيداً عن التمركز حول الذات وما تجلبه من قوالب جاهزة.
يرى برهان غليون أن: «العلم هو الذي خلق النخبة المثقفة». ويرى ابن نصر في كتابة (أوهام المثقفين) أن المثقف هو «امرؤ له دور ورسالة إنسانية في الحياة». أما محمد قاسم عبد الله فيعتبر مفهوم المثقف من أكثر المفاهيم تداولاً في العلوم الاجتماعية، ويستخدم اللفظة في سياقها العربي للدلالة على الدور الذي يشغله أهل الرأي والفقهاء، وهو استخدام حديث العهد دخل ليحل محل ألفاظ تراثية (فقيه، إمام، شيخ متعلم، عالم، فيلسوف)، ومع بداية النهضة العربية وشيوع التعليم شاع الاستخدام ليعني معظم المتعلمين.
هذه الهراء يعكس العلاقة بين الأفكار والمثقف من خلال الكم والكيف من المعلومات التي يمتلكها وتساعده في إدراك حاجات الناس، فالمثقف يوجد أين تكمن حاجة الناس إليه من أجل تنويرهم وتنوير مناهجهم ومشاريعهم في الحياة على مستوى الأفكار والأفعال.
المفهوم التاريخي للمثقف
مفهوم المثقف وليد ظروف تاريخية فجرت وجوده ووظيفته من خلال الدفاع عن العدل والحرية ضد الأيديولوجية السياسية، فمثله كمثل المعيار الذي ينسجم معه كل الناس ليكون نموذجاً في الأخلاق والقيم والفعالية. ويقول علي حرب: «ثمة سجال كان يدور حول وضعية النخب الثقافية، أفكارها ومشاريعها، نماذجها وصورها، مكانتها ودورها، مصداقيتها وفعاليتها؛ حيث ولد مفهوم المثقف في فرنسا أو العالم الغربي حينما ازدهرت مهنة المثقف».
فهو وليد سياق معين من العوامل والظروف التي كانت من جهة تحمل من الأفكار والوعي ما جعلها تستميت في الدفاع عن آرائها وقناعاتها ضد الظلم، وكأنها في الوقت نفسه الذي رفضت فيه هذا الحكم وقفت أمام الفرصة التاريخية لتزكي أفكارها للرأي العام وتوجهها ومشروعها الذي سيحمل اسمها فيما بعد، ويصبح بذلك ميلاد مفهوم المثقف هو ميلاد العدل والحرية ضد الظلم الممارس من طرف الأيديولوجية.
ميلاد المثقف
تجمع البحوث الاجتماعية والتاريخية (سليمان الشيخ: المثقف والسلطة) على أن مفهوم المثقف
L’intellectuel نشأ أولاً في فرنسا مع انفجار قضية دريفوس Dreyfus، كما طرحت المسألة في الثقافة الروسية والألمانية، وقد كان قبلها (قضية سقراط في الثقافة اليونانية، وحتى الثقافة العربية مثل ما حدث لابن رشد، وأبي حيان التوحيدي، وفي الثقافة الفرنسية لفولتير؛ هؤلاء يقدمون لنا نماذج واضحة عن مفهوم المفكر والفيلسوف أو رجل الأدب الذي لا تشغله همومه المعرفية، وتأملاته الفلسفية، عن الاهتمام بشؤون المدينة والنزول إلى الساحة العمومية Logra، صارخاً باسم الحق والعدل والخير، ومدافعاً عن القيم الإنسانية العامة المجردة التي يلحضها شيشرون Chichrone في «حب النوع الإنسان»، ليتفجر الوضع مع قضية دريفوس Dreyfus اليهودي مفتاح نشأة المثقف، حيث اتهم من طرف المحاكم الفرنسية في 22 كانون الثاني (يناير) 1894 ضابطاً برتبة قبطان في الجيش الفرنسي ألفريد دريفوس Dreyfus Alfred بتهمة تسريبه لمعلومات عسكرية إلى ألمانيا العدو لفرنسا، وحوكم Dreyfus، واحتدم الصراع بين مواقف الطبقة الحاكمة ومعارضة بالنسبة للطبقة المثقفة، حيث خرج المثقفون إلى الشارع وأصدروا بياناً سمّي ببيان المثقفين La manifeste des intellectuels، نشر في جريدة الفجر، يرفضون التعليمات المحيطة بقضية ستراز (أحد العقول المدبرة للقضية)، ويلحّون على مراجعة الحكم الصادر في حق دريفوس Dreyfus.لقد وقعت البيان أسماء بارزة مثل «إميل زولا، أناتول فرانس، مرسيل بروست، ليون بلوم»، وبذلك يعد هذا البيان شهادة ميلاد المثقف (المفهوم).
ويضيف سليمان الشيخ أن أول معجم فلسفي يشير إلى كلمة
Intellectuel هو معجم لالاند الشهير، يقول برانشفيل معلقاً على هامش كلمة intellectualisme ومتعدياً قصة intelectuel: «أتذكر أنني سمعت أستاذي أولي ليبرون Ollé Laprune يستعمل هذه الكلمة حوالي سنة 1890 في مناقشة عابرة، لقد بدت الكلمة آنذاك وكأنها لفظة مولدة» بحيث استعملت كصفة وليس كاسم».فالمثقف كان ميلاده مرتبطاً بميلاد الحرية والعدل والبحث عن الحقيقة والخير في منظومة ثقافية لها منطقها ووعيها.
وظيفة المثقف
فهذا السيناريو الذي يبيّن ميلاد المثقف إنما يعكس موقفه من حدث، ولسان حاله يقول: أنا على علم بما يحدث. وتتمثّل وظيفة المثقف في كونه -بمقتضى المفهوم- يرتبط بالعمل المحقق في الواقع، كعلاقة الدال بالمدلول، وممارساته تأخذ أبعاداً متعددة، منها سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، فالمثقف هو وكيل المعرفة العملية»، هكذا تحدث سارتر، ويضيف قائلاً: «فهدفه أن يحقق الذات العملية وأن يكتشف مبادئ ذلك المجتمع القمين بأن ينجبها ويشد من أزرها، وبانتظام ذلك في حساسيته، وفي أفكاره على حد سواء، وهذا يعني أن ينتج في ذاته ولدى الآخرين، بقدر الإمكان ووحدة الشخص الحقيقي، واستعادته وتملكه ثانية الغايات المفروضة على نشاطه، وإلغاء الاستلابات، وحرية الفكر الفعلية، فعن طريق إلغاء النواهي الاجتماعية المتولدة عن البنى الطبقية، وذلك من المنظور الخارجي، أما من المنظور الداخلي إلغاء سنين من ضروب الكبت واللجم والرئاسة الذاتية».
بهذه الوظيفة يتحدد معناه، وانعدامها يجعله في رتبة يستند فيها إلى اكتفاء متمركز حول قضية لها صلة بشخصية فحسب.
يرتبط عمل المثقف بعدد من الشروط بعضها موضوعي (بنية المجتمع، طبيعة المرحلة، موقعه وأوضاعهم المعيشية)، وبعضها ذاتي «تحصيلهم العلمي، ووعيهم لطبيعة دورهم، وحالتهم السيكولوجية، وسمات شخصيتهم».
يجب على المثقف أن يتخلى عن طوباوية مشاريعه عبر الخطاب المجرد، وأن يوظف مشاريعه لخدمة حركة التقدم العربي. ومن هنا تنحصر مهماته فيما يلي:
* مهمة النقد والحوار على مستويات عدة: السلطة، الواقع، على مستوى التراث والمعاصرة.
* رفض الواقع الاستبدادي بما هو مؤسس لواقع الديمقراطية.
* الانتماء إلى ثقافة وحيدة يعبر فيها عن انشغالات مجتمعه.
* الإبداع داخل وخارج الثقافة، ترجمة القيم من خلال الواقع.
* على المثقف أن يناضل ويكافح بلا انقطاع الأيديولوجية التي تُولد من جديد وتبعث دوماً في أشكال جديدة، وعليه أن يستخدم وسيلتين:
1- النقد الذاتي دائماً متواصلاً، لا يخلط بين (العام والشمولي).
2- أنه يشارك مشاركة عينيه وبلا تحفظ في عمل الجماهير المحرومة.
مالك بن نبي والمثقف بين الفاعل والمفعول به
تحدد لنا رؤية ابن نبي لمشروعه الإنساني ذي المرجعية الإسلامية، المؤسس على الإنسان بين الحقيقة والخير كامتياز، ويبين لنا في كتابه (مشكلة الأفكار) أنموذج المثقف والأسس والقواعد التي ينبغي له أن يفهمها ويعمل بها من خلال:
أولاً
: الصراع الفكري وارتباط الفكرة بالثقافة كهوية لمعنى التكيف1- «إن قدرة أي فكرة على التكيف ليست متساوية في مجتمعين لهما أصول ثقافية مختلفة، نموذج تحريم ومنع الخمر في المجتمع الإسلامي والمجتمع الأمريكي».
2-التلازم الضمني بين الفكرة والشيء، تغيّر الفكرة من مرحلة إلى أخرى أي من مرحلة الفكرة إلى مرحلة الشيء، «فلا يستطيع المجتمع أن يتابع مسيرته بعقول خاوية أو محشوة بأفكار ميتة وضمائر حائرة وشبكة من الروابط المتهدمة ليس تجمعها وحدة».
ثانياً
: الحقيقة والخيرتلك هي الجدلية التي حركت لدى مالك بن نبي مفهوم المثقف الذي يجب أن يزاوج بين الحقيقة كفكرة والشيء كإنجاز ومعاني الخير كأجود إنتاج وأرقى عمل تتجلى من خلاله وحدة الفكرة والشيء. وعندما نقول الخير فإننا نقصد القيم الأخلاقية التي تحملها الأفكار المودعة في الشيء.
ثالثاً
: الحضارة وتقلب الأولويات الفكرة والشيءتتمتع الحضارة بقيم مستفيضة للأشياء والأفكار لتتحول من بعد الإشباع إلى بعد الكمال، فعند تطور الفكرة تظهر ملامحها على إنتاج الشيء وإتقانه، ومن ثم تتحرر ضمنه الانطباعات الجمالية إضافة إلى انطباعات الاستعمال، وبالتالي تصبح الفكرة في أول الأمر أولوية، وبعد أن تصبح شيئاً تحافظ على هذه الأولوية مبررة كمية الزمن والجهد ونجاعة الفكرة، ومن ثم تصبح الحضارة أرقى مرحلة لعلاقة الإنسان بالطبيعة عندما تصبح الطبيعة جزءاً من الأفكار التي تنتج الشيء كمعنى للوجود ومعنى للهوية.
رابعاً
: قيمة الوقتالوقت ذلك العنصر الغائب في معادلات الدول المتخلفة، حيث لا يلقى له بالاً، فمثله كمثل الهراء من القول. الوقت عندنا ليس مرجعية لأي سلوك إلَّا ما هو رسمي، إلَّا أن السلوك لا يخضع في العديد من المجالات لهذا الرسمي، والكل يتحجج بعدم وجود الوقت، وعندما يكون لديه وقت فهو يضيعه في الفراغ، متناقضة منطبعة في الذهنية المتخلفة، وتأجيل المشاريع الكبرى وعدم الإقدام عليها بالشكل الذي يحدد المنفعة العامة.
خامساً
: الجانب الأخلاقي في المحافظة والإتقان للأفكارنعتقد أن الأخلاق هي المنهج الحقيقي في التعامل مع الأفكار ورسم منهجها وتوجهها نحو قيمة ما ينتج عنها، وهذه الخاصية تكرس مبدأ الإبداع والاعتماد على الذات، وتحيي لدى الجميع الاتكال على الرصيد الفردي من خدمات ومن عمل ومن جهد في هذا الميدان.
هذه العناصر منوطة بطبقة محددة من المجتمع تسهر على غرسها في أفراده لتكون لهم بمثابة استراتيجية في إحراز التقدم، من خلال الاعتماد على الذات، وكرؤية خاصة حول العالم من خلال ما تتمتع به من خصائص ثقافة متميزة عن غيرها من الثقافات الأخرى، لتعبر عن وجودها وفق ما تملك من قيم وحضارة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، لأن الطبقة العاملة في هذا المجال هي في حد ذاتها ليست موحدة وفق منطق الوحدة ثراء، والاختلاف كمال وتكامل وليس فرقة وتباعد.
تلك إذاً رؤية مالك بن نبي للمثقف ولدوره الذي أفسده هو نفسه من خلال تبني ثقافة أخرى غير ثقافته على أنها مرجعية في التقدم والحداثة، وبالتالي لم تسعه تلك الرؤية لأنها لم تكن نابعة من ثقافته الأصلية، فقد قام بذلك الدور الهستيري الذي يتميز بترك شخصيته الحقيقية وتبني شخصية أخرى، للتخلص من القلق الذي ينتابه نتيجة العجز عن الوصول إلى مرحلة تحقيق الذات كمستوى رفيع في سلم القيم لماسلو.
المثقف نموذج للعقل الفعال يمثل الحكمة والاستراتيجية والحرية والديمقراطية والإبداع وكل ما له معنى في حياة الناس، يساعدهم على النضج والتفاعل والإنتاجية والعمل والتفاني في صنع مستقبل لهم وللأجيال القادمة. إنه بمثابة العقل المدبر لما يجري من حوله وما يمكن أن يكون في المستقبل، كان هذا المفهوم قويًّا في العديد من الثقافات.
يرى مالك بن نبي أن الاستعمار قد غرس التناقض بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، «إن تناقض الفكرة والوثن قد ضمن بصفة عامة للاستعمار نجاحه الباهر في الإجهاض السياسي في بلادنا، مستخدماً غالباً مثقفينا أنفسهم».
لقد عملت أوروبا على تكوين نخبة مثقفة مرجحة قيم الفعالية على قيم الأصالة في أسلوبها الاستعماري، ومنذ ذلك الحين أضحى لعالمنا الثقافي وجهان:
1- وجه يلتفت إلى ذاته بأخلاقياته الخاصة به.
2- وجه يلتفت نحو العالم وهمه الوحيد هو الفعالية، ومن هنا كان في تكوينها خلط يرثى له، بين مظهرين متميزين لفكرة واحدة أصالتها، وفعاليتها، وهذا الخلط في نفسية النخبة المسلمة الحاضرة هو النواة التي حولها تتجمع سائر دسائس ومناورات الصراع الفكري.
الصراع داخل الرقعة الواحدة كما سماها مالك (بالقلعة) بين أولئك الذين يريدون الدفاع عن القلعة والذين يريدون تسليمها إلى الأفكار الأجنبية (الداخل - الخارج). ثم يضيف ناقداً ذلك التقليد الذي أدمن عليه المفكرون، فهم يخلطون بين أمرين، الانفتاح الكامل على كل رياح الفكر وتسليم القلعة للمهاجمين كما يفعل الجيش الخائن. هؤلاء الذين مردوا بإدمان على تقليد الآخرين ليس لديهم أي مفهوم عن الابتكار في هذا العصر، ولا عن دوافع هذا الابتكار ولا عن تكاليفه في جميع المجالات التي يقلدونهم فيها، وكان الأجدر لهم أن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أن يقلدوا.
يقلدونهم فيها؛ إن أقل الناس اقتناعا بالقيمة الاجتماعية للأفكار هو في الغالب المثقف المسلم، وهذا يفسر لماذا فضل عدد لا بأس به من المثقفين في الجزائر منذ ثلاثين عاماً الدوران في فلك بعض الأوثان بدلاً من أن يكرسوا أنفسهم لخدمة بعض الأفكار. ولا بد في النهاية أن نذكر في هذا الفصل نوعاً آخر من الطغيان طغيان الأفكار، إنه (مرض نخبة المجتمع).
إذا كان اندماج مجتمع ما في التاريخ يكون للأفكار دور وظيفي لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة؛ فالمثقف حاليًّا أصبح مولعاً بالأشياء ويتملص من الأفكار التي تمثل إلى عهد قريب هوية تميزه في بناء المشاريع الثقافية التعليمية السياسية والاقتصادية، لقد أصبح الإبداع غير وارد وغير ذي معنى أصلاً، لقد قضت العلقة الانصهارية مع الشيء على كل إبداع يحرره من هذه العلاقة التراجيدية التي تقيده بعيداً عن هويته كمثقف فعال.
من خلال هذا المشروع فهو يضع الفروع على الأصول من خلال منهجه الموضوعي والمنطقي، أولاً من خلال قراءته للوقائع وتحليلها تحليلاً دقيقاً، ثم يوضح من خلال التحليل إمكانية الاستفادة من الظاهرة نفسها، ومن خلال هذا فهو ضمنيًّا يدعو المثقف إلى هذا المشروع من خلال التعامل مع عالم الأفكار والأشخاص والأشياء. الفكرة جوهر، وهي تصور قبل أن تصبح شيئاً، والأشخاص هم الفاعلون على مستوى إنتاج الأفكار وعلى مستوى تطبيقها وتبنيها، لتتحول من مجرد فكرة إلى شيء ملموس، وبذلك ترى النور الذي تحمله في ذاتها عندما يصبح الشيء يعبر عنها وعن فعاليتها وعن جمالها وروح الانتشار التي يريد لها في أوساط الناس، وبذلك تستطيع أن تستجيب إلى حاجات الناس المادية والمعنوية، كما جرى ذلك على مستوى التاريخ الإنساني.
الخاتمة
المثقف هو مصدر ودليل الأفكار منذ ميلادها إلى غاية تجسيدها، ولكن في مجتمعاتنا المتخلفة ليس له معنى سواء على مستوى وظيفة النقد أو وظيفة الفعالية في الإبداع؛ لأن مجتمعاتنا لا زالت طفلية التفكير تتعامل مع التحضر بقيمة الشيء وليس بقيمة الفكرة والذي له علاقة وطيدة بالأشياء، لم يستطع المثقف تجاوز هذه المحنة بل ركن إلى هذه الحقيقة وأصبح شخصاً مستهلكاً كباقي الأفراد الآخرين بعيداً عن الإبداع، بعيداً عن إيجاد بدائل تعكس مدى استعداده للتغيير نحو الأفضل على مستوى كل القيم الإنسانية الجمالية والأخلاقية وجودة الأفكار.
فقد أصبح أسير ثقافة الآخر، فهو يروج لها كما لو أنها فعلاً تنسجم مع ذاته، حتى ولَّدت لديه تناقضاً مرضياً جعله غريباً عن مشروع يحمل أفكاراً ولكنه بعيداً عن ثقافته وهوية مجتمعه، لذلك كانت أفكاراً ميتة بمعنى ما ومميتة بمعنى آخر. فالعالم العربي والإسلامي هو في أشد الحاجة إلى أفكار تجمع بين أصالة الفكرة وقيمة الشيء الذي يتولد عنها، لكننا دائماً نقول: إن الأفكار موجود ينقص من يُفَعِّلُها، فوجودها كمادة خام جعلها ضحية التطبيق، وبالتالي انقسم المثقفون بين الزمن الحاضر الذي يرفض الماضي بحجة لكل زمان خصائصه وأفراده وزمن يرفض الحاضر وملابساته بحجة عدم التفريط في ماضي الأجداد، فهذه الفكرة في حد ذاتها يجب أن يتم الفصل فيها لتتشكل فكرة: ماذا يحتاج الناس وكيف يمكن ينسجموا مع احتياجاتهم من دون إفراط ولا تفريط.
ففكرة مالك بن نبي شخصت فعلاً الداء، وأجهزت على المثاقفة، على أنها العامل الحاسم الذي جسد هذا الانفصام بين الفكرة والشيء، بين الماضي والحاضر، بين الفكر والواقع.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.