تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

السيد محمد باقر الصدر وتطور الفكر العلمي لأصول الفقه

زكي الميلاد

- 1 -
أصول الفقه.. وكتابة التاريخ

في سنة 1965م، أصدر السيد محمد باقر الصدر كتاب (المعالم الجديدة للأصول)، وهو الكتاب الثاني له في مجال أصول الفقه، بعد كتابه الأول (غاية الفكر) الصادر سنة 1955م، هذا الفاصل الزمني الطويل نسبيًّا ما بين هذين الكتابين، والذي يُقدَّر بعشر سنوات تقريباً، جعل من الكتاب الثاني يختلف كليًّا في أطروحته عن الكتاب الأول، ويُغطِّي عليه بدرجة كبيرة، ويحل مكانه من جهة الأهمية والاعتبار.

قسَّم السيد الصدر كتابه الثاني (المعالم الجديدة للأصول) إلى قسمين أساسيين، القسم الأول حمل عنوان (المدخل إلى علم الأصول)، وحمل القسم الثاني عنوان (بحوث علم الأصول)، في القسم الأول تحدَّث السيد الصدر عن تاريخ أصول الفقه، متتبعاً مراحل وعصور تطور الفكر العلمي لأصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي.

ويعد هذا المدخل التاريخي من أكثر ما تميز به هذا الكتاب، ومن أبرز ما لفت انتباه الآخرين، ولولا هذا المدخل لكان حال هذا الكتاب، كحال غيره من المؤلفات الأخرى الكثيرة المدونة في مجال أصول الفقه، من دون أن يتفرّد عنها بشيء يلفت الانتباه كثيراً.

وما يؤكد صحة هذه الملاحظة، أن الذين توقّفوا عند هذا الكتاب أشاروا لمثل هذه الملاحظة بنوع من الاهتمام، ومُميِّزين بها هذا الكتاب عن غيره من المؤلفات الأخرى في مجاله، فحين توقف عنده السيد محمود الهاشمي ميَّزه بأنه احتضن مقدمة علمية رائعة حول تاريخ علم الأصول ونشأته وتطوره.

ومن جهتها اعتبرت اللجنة العلمية المُكلَّفة بتحقيق الأعمال الكاملة للسيد الصدر، أن من المميزات المهمة لهذا الكتاب، اشتماله على فصل مهم جدًّا في دراسة وتحليل تاريخ علم الأصول.

وقد تكون هذه أول محاولة في كتابه تاريخ أصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي الحديث، وجعله مدخلاً تاريخيًّا في دراسة هذا الحقل، ومع أن السيد الصدر لم يشر لهذه الملاحظة لا من قريب أو بعيد، ولم يعتبر هذه المحاولة الأولى في هذا الشأن، وأنه لم يسبقه إليها أحد من قبل، لكنه لم يشر أيضاً إلى أية محاولة أخرى كانت سابقة عليه في تناول هذا الموضوع أو الاقتراب منه.

وهناك من أعطى السيد الصدر حق السبق والريادة في هذا المجال، كالدكتور عبدالهادي الفضلي، الذي يرى أن السيد الصدر أستاذه العظيم حسب وصفه، سجَّل بهذا المدخل التاريخي ريادة مثمرة وموفَّقة.

ولعل الذي قاد السيد الصدر إلى كتابة هذا المدخل التاريخي وضمّه إلى أصول الفقه، أنه أعد هذا الكتاب أساساً للطلبة المبتدئين في دراسة هذا العلم من جهة، وليكون من جهة أخرى في متناول الراغبين في تحصيل المعرفة بهذا العلم، من خارج طلبة الدراسات الدينية.

وذكر السيد محمد الحسيني أن السيد الصدر أعد هذا الكتاب لطلاب كلية أصول الدين في بغداد، وجاء تلبيةً لطلبٍ من هذه الكلية.

وهذا الأمر اقتضى من السيد الصدر على ما يبدو، أن يأخذ بعين الاعتبار الطريقة المتَّبعة في كتابة المناهج الحديثة لطلبة الجامعات، والتي تعتمد على وضع مداخل تاريخية لكل حقل معرفي، واعتبار أن تاريخ كل علم يمثل جزءاً أصيلاً في دراسة العلم نفسه، وبشكل يصبح تاريخ أصول الفقه جزءاً من دراسة علم الأصول.

إلى جانب إدراك السيد الصدر بأن هذه الشريحة من طلبة الجامعات، وشريحة المثقفين عموماً بحاجة لتكوين المعرفة بتاريخ أصول الفقه ومقدماته، لكونها بعيدة عن هذا الحقل، وغريبة عنه أيضاً.

وما لم يُلتفت إليه، أن هذا المدخل التاريخي يمثّل أولى عناصر الإبداع والتجديد عند السيد الصدر في مجال أصول الفقه، وهذا ما غاب عن إدراك أولئك الذين حاولوا التعرّف على هذه العناصر عند السيد الصدر، وأنهم لم يلتفتوا إلى هذا الجانب، مع ما له من أهمية منهجية ومعرفية، لا تقل أهمية وقيمة عن تلك العناصر التي جرى التعرّف عليها، والحديث عنها في الكتابات التي تناولت هذا الجانب.

ليس هذا فحسب، بل إن هذا المدخل التاريخي لم يُقدَّر حق قدره من الناحيتين المنهجية والمعرفية، ولم يُعطَ من الأهمية والاعتبار ما كان يستحق، ولم يُلتفت إلى ما يمكن أن يفتحه هذا المدخل من آفاق في تطوير وتجديد أصول الفقه، وبقي كما هو من دون أي أثر أو تأثير يذكر.

- 2 -
أصول الفقه.. بين العلم والتاريخ

خصَّص الدكتور عبدالهادي الفضلي في مدخل كتابه (دروس في أصول فقه الإمامية)، فقرة بعنوان (التاريخ الأصولي)، أراد منها التعرّف على الكتابات والمؤلفات التي تحدّثت عن تاريخ علم أصول الفقه عند الشيعة الإمامية، فوجد أن هناك أربعة عناوين فقط، جاء في مقدمتها كتاب السيد الصدر (المعالم الجديدة للأصول)، وباقي العناوين الثلاثة الأخرى هي: كتاب (نظرة في تطور علم الأصول) للدكتور أبي القاسم الكرجي كُتب باللغة الفارسية، وترجمه إلى العربية الدكتور محمد علي آذرشب.

هذان الكتابان كان الدكتور الفضلي على معرفة بهما، وتعرَّف -حسب قوله- على عنوانين آخرين عن طريق كتب الفهارس التي اطَّلع عليها، وهما كتاب (علم الأصول تاريخاً وتطوراً) للشيخ علي الفاضل القائيني النجفي، و(مقاله في تاريخ علم الأصول) للشيخ مرتضى الكيلاني.

وحسب هذا الرأي، فإن المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر، يمثل أول محاولة في كتابة تاريخ علم الأصول عند الشيعة الإمامية، وهذا الرأي يدعونا للتوقف عند بعض الملاحظات التي ينبغي الالتفات إليها، وهي:

أولاً: يكشف هذا الرأي عن مدى التأخُّر الزمني الطويل في الالتفات إلى كتابة تاريخ علم الأصول في المجال الإسلامي الشيعي، فالكتابات التاريخية الشيعية تكاد تتَّفق تقريباً على أن أقدم كتاب مُدوَّن في أصول الفقه وصل إلينا، يرجع إلى ما بين القرن الرابع أو الخامس الهجريين، وهو كتاب (أصول الفقه) للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (336 - 413هـ).

ومن بعد هذا الكتاب توالت الكتابات الأصولية ولم تنقطع أو تتوقف، بل ظلت في حالة تراكم متواصل على طول الخط، وما زالت إلى اليوم تشهد مثل هذا التراكم الكمي.

وهذا يعني أن ما بين أول كتاب مُدوَّن في أصول الفقه، وما بين أول كتاب يتحدّث عن تاريخ أصول الفقه، هناك ما يُقارب عشرة قرون ما يعادل ألف سنة، وهذه فترة طويلة جدًّا لا يمكن تخيّلها على الإطلاق، ونادرة الحدوث بهذا الشكل في ميادين المعرفة بأقسامها كافة.

ومنشأ هذا التعجُّب، أن تاريخ أي علم هو جزء من العلم نفسه، جزء وثيق به، لا يبتعد عنه ولا ينفصل، وهذه هي سيرة المعارف والعلوم، وليس هناك علم بلا تاريخ، وما حصل في مجال أصول الفقه من تباعد وانفصال بين العلم وتاريخه، هو أمر مُحيِّر حقًّا، وسيظل مُحيِّراً مهما كانت العوامل والأسباب.

ثانياً: إن اعتبار المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر هو أول محاولة في كتابة تاريخ علم الأصول، فإن هذه المحاولة تضع المعنيين بهذا الشأن، أمام بداية قوية تتَّسم بالمتانة والتماسك، وتُمثِّل أفضل بداية يمكن الانطلاق منها، والبناء عليها.

ومع أن هذه المحاولة جاءت متأخرة جدًّا من الناحية الزمنية، لكنها هي المحاولة التي كُنَّا نتمنَّى لها أن تسجّل نقطة البداية، وذلك لما لنقطة البداية من أهمية خاصة في تاريخ تطور المعارف والعلوم، وعادة ما يتوقَّف الدارسون والباحثون في تاريخ المعارف والعلوم، أمام هذه البدايات، ويبذلون جهداً في تحديدها والتعرّف والاتفاق عليها، والانطلاق منها في تقييم مسارات تطوّر هذه المعارف والعلوم.

ثالثاً: كان يفترض من هذا المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر، أن يُعطي زخماً ودفعاً وحافزاً قويًّا لمزيد من الكتابات حول تاريخ أصول الفقه، الذي تأخَّر الاهتمام به طويلاً وبصورة غير طبيعية، ومن جهة أخرى لكون أن هذا المدخل لفت الانتباه لأهميته وقيمته، لكن هذا ما لم يحدث على الإطلاق.

فلم نشهد بعد هذا المدخل التاريخي، أي نوع من أنواع التغيُّر أو التطوُّر أو التجدُّد أو التراكم في الكتابات حول تاريخ أصول الفقه، فقد ظلَّت هذه الكتابات قليلة من ناحية الكم، وضعيفة من ناحية التراكم، ومتباعدة من ناحية الزمن، وما زالت إلى اليوم على هذه الحال تقريباً.

وهذه الكتابات على قلَّتها وتباعدها لم يظهر عليها أنها تعقَّبت أثر المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر، ولا أنها جاءت متأثرة به، ومتفاعلة معه، وتحاول البناء والتراكم عليه، فبعض هذه الكتابات أهملت هذا المدخل التاريخي، ولم تأتِ على ذكره إطلاقاً، ولا حتى بوصفه مصدراً أو مرجعاً في البحث.

وهذا ما وجدته في كتاب (مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه) للشيخ جعفر السبحاني، الذي خصَّص فيه فصلاً كاملاً حول تاريخ أصول الفقه عند الشيعة والسنة، وهو الفصل السادس والأخير من الكتاب، ولم يرد فيه ذكر السيد الصدر ومحاولته في كتابة تاريخ علم الأصول، ولا أعلم لماذا على وجه التحديد!

لكن الذي أعلمه أن من يكتب في موضوع معيّن، يفترض منه من الناحيتين المنهجية والمعرفية، التنويه بصورة من الصور بالكتابات السابقة عليه، وتزداد هذه الملاحظة تأكيداً كلما كانت الكتابات في هذا الموضوع قليلة، ويمكن حصرها وضبطها.

كما هو الحال تماماً في موضوع تاريخ علم الأصول، والذي لا يختلف أحد على قلة الكتابات فيه، بل ندرتها أيضاً، الملاحظة التي من السهولة التنبُّه لها، وذلك لشدة وضوحها وظهورها، خاصة عند أولئك الذين اقتربوا من هذا الموضوع بحثاً وتوثيقاً وتصنيفاً.

وأشار لهذه الملاحظة الباحث الإيراني علي القائيني النجفي، الذي كانت له محاولة في كتابة تاريخ أصول الفقه، صدرت بعنوان (علم الأصول تاريخاً وتطوراً)، فقبل أن يختم مقدمة كتابه، أشار إلى قلة الذين بحثوا في هذا الموضوع ودرسوه، الأمر الذي حمَّله حسب قوله- صعوبة البحث في هذا الموضوع.

يضاف إلى ذلك، أن الكتابات التي جاءت بعد محاولة السيد الصدر، غلب على معظمها الطابع المسحي والتوثيقي والاستطلاعي، وقلَّ فيها عنصر التحليل الفكري والتاريخي الذي اتَّسمت به محاولة السيد الصدر، وتفوَّقت به على المحاولات التي جاءت بعدها، وهذه من المفارقات اللافتة التي ينبغي التوقف عندها في هذا الشأن.

وما نخلص إليه في هذا الجانب، أن محاولة السيد الصدر في كتابة تاريخ علم الأصول، تعد من أنضج المحاولات، وأكثرها تميُّزاً ولمعاناً، وما زالت تحافظ على تفوقها، ولم تتراجع قيمتها الفكرية إلى اليوم.

- 3 -
أصول الفقه.. والحاجة التاريخية

ربط السيد الصدر نشأة أصول الفقه بالحاجة التاريخية، الحاجة التي ولَّدت الحافز والدافع للتنبُّه لهذا العلم، وألحَّت على نشأته وتكوّنه، ولولا هذه الحاجة وإلحاحها لما نشأ وتكون هذا العلم في المجال الإسلامي، أو كان له مصير آخر لا نعلم ما هي صورته.

والمقصود بهذه الحاجة التاريخية -في نظر السيد الصدر- أن علم الأصول لم ينشأ من فراغ أو من ترف أو من سكون. لم ينشأ من فراغ لأن العلوم أساساً لا تنشأ من فراغ، وإنما تنشأ من دافع الحاجة إليها، فالحاجة إلى الطب لمعالجة أمراض الإنسان، جعلت من الطب أسبق علم تعرّف عليه الإنسان في تاريخ العلوم.

ولم ينشأ علم الأصول من ترفٍ فكري، لا قيمة له إلَّا في عالم المجادلة والمناظرة والمغالبة، وإنما نشأ لحاجة ضرورية تتعلَّق بتوجيه وتنظيم حياة الإنسان والجماعة والأمة بقوانين الشريعة الإسلامية، ولمواكبة تحوّلات الزمن وتطوّرات الحياة.

كما لم ينشأ علم الأصول من سكون بارد وجامد، وإنما نشأ من حاجة تولَّدت منها حركة وتدافع على صعيدي النظر والعمل.

وجهة النظر هذه تصلح أن تمثل نظرية في هذا المجال، ومع أن السيد الصدر لم يستعمل وصف النظرية هنا، إلَّا أن بالإمكان إطلاق هذا الوصف، وذلك لشدة تأكيد السيد الصدر على ربط نشأة علم الأصول بالحاجة التاريخية، وتنبيهه المستمر وفي مناسبات عدة على هذا الربط، وبشكل يجعل من الممكن إطلاق وصف النظرية في هذا الشأن.

وعند النظر في هذه النظرية، يمكن تحديدها وبلورتها وتنسيقها في النقاط الآتية:

أولاً: يرى السيد الصدر أن علم الأصول إنما وُجِدَ تعبيراً عن حاجة مُلحَّة وشديدة لعملية الاستنباط، التي تتطلّب من علم الأصول تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى عنها.

وهذا يعني أن الحاجة إلى علم الأصول، تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس وتحدّد في هذا العلم، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الأصولية، هي حاجة تاريخية وليست مطلقة.

ثانياً: إن الحاجة إلى علم الأصول هي حاجة تاريخية، لكونها ترتبط في نظر السيد الصدر بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع، وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها، لأن الفاصل الزمني عن ذلك الظرف، هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط، وهذه الثغرات والفجوات هي التي تُوجِد الحاجة الملحة إلى علم الأصول والقواعد الأصولية.

وهذا يعني أن الإنسان كلما كان أقرب إلى عصر التشريع، وأكثر امتزاجاً بالنصوص، كان أقل حاجة إلى التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة، لأن استنباط الحكم الشرعي يتم عندئذ بطريقة ميسرة، من دون أن يواجه الفقيه ثغرات عديدة ليفكر في ملئها عن طريق العناصر الأصولية.

وإما إذا ابتعد الفقيه عن عصر النص، واضطر إلى الاعتماد على التاريخ والمؤرخين، وعلى الرواة والمُحدِّثين في نقل النصوص، فسوف يواجه ثغرات كبيرة، وفجوات تضطره إلى التفكير في وضع القواعد لملئها.

ثالثاً: على ضوء ما تقدَّم نستطيع -كما يقول السيد الصدر- تفسير الفارق الزمني ما بين ازدهار علم الأصول في نطاق التفكير الفقهي السني، وما بين ازدهاره في نطاق التفكير الفقهي الإمامي، فالتاريخ يشير إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيًّا في نطاق الفقه السني، قبل ترعرعه وازدهاره في نطاق الفقه الإمامي.

ويكشف عن ذلك، أن علم الأصول على الصعيد السني دخل دور التصنيف في أواخر القرن الثاني، بينما لا نجد التصنيف الواسع في هذا العلم على الصعيد الشيعي إلَّا في مطلع القرن الرابع الهجري.

وهذا الفارق الزمني في الازدهار والتصنيف، جاء نتيجة موقف المذهب السني بأن انتهاء عصر النص حصل بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الأمر الذي يعني أن التفكير الفقهي السني في القرن الثاني الهجري قد ابتعد عن عصر النص بمسافة زمنية كبيرة، مسافة تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط، وبشكل يوحي بالحاجة الشديدة إلى وضع القواعد العامة الأصولية لملئها.

وهكذا كانت الحال فيما بعد مع التفكير الفقهي الإمامي، فما إن اجتاز عصر النص الذي امتدَّ إلى مطلع القرن الرابع الهجري، حتى تفتَّحت الذهنية الأصولية عند الإمامية، وأقبلوا على درس العناصر المشتركة، وحققوا تقدُّماً في هذا المجال، ودخلوا بسرعة إلى دور التصنيف والتأليف.

رابعاً: اعتبر السيد الصدر أن عدم إحساس الرواة والفقهاء الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى تأسيس علم الأصول، لا يعني عدم احتياج الفكر الفقهي إلى علم الأصول في العصور المتأخرة، التي يصبح الفقيه فيها بعيداً عن جو النصوص، ويتَّسع الفاصل الزمني بينه وبينها، بما يفرض على الفقيه وضع القواعد الأصولية العامة لعلاج ما يظهر من ثغرات وفجوات.

هذه تقريباً هي نظرية السيد الصدر في ربط نشأة علم الأصول بالحاجة التاريخية.

- 4 -
أصول الفقه.. المراحل والعصور

قسَّم السيد الصدر مراحل تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي، إلى ثلاثة مراحل، أو ثلاثة عصور حسب عبارته، وهي:

أولاً: العصر التمهيدي، ويعني به العصر الذي وُضِعت فيه البذور الأساسية لعلم الأصول، ويُؤرِّخ لهذا العصر بظهور الرواد النوابغ في القرن الرابع الهجري، وفي طليعتهم الحسن بن علي بن أبي عقيل المتوفى حوالي (329هـ)، ومحمد بن أحمد بن الجنيد (ت381هـ)، وينتهي بظهور الشيخ محمد بن الحسن الطوسي.

في هذا العصر دخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألَّف الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (336 - 413هـ) كتاباً بعنوان (التذكرة بأصول الفقه) أو (التذكرة في أصول الفقه)، نقله ولخَّصه تلميذه محمد بن علي الكراجكي في كتابه (كنز الفوائد).

ويذكر السيد الصدر أن الشيخ المفيد واصل -في هذا الكتاب- الخط الفكري الذي سار عليه قبله ابن أبي عقيل وابن الجنيد، كما ضمَّنه نقداً لبعض آرائهما.

ومن بعد الشيخ المفيد، واصل تنمية الخط الأصولي تلميذه السيد المرتضى علي بن الحسين (355 - 436هـ)، الذي أفرد لعلم الأصول كتاباً موسَّعاً نسبيًّا سمَّاه (الذريعة في علم أصول الشريعة)، ذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الأصولية التي تميّز الإمامية باستيعاب وشمول.

ومن المؤلفات التي تنتمي لهذا العصر، كتاب (التقريب في أصول الفقه) للشيخ حمزةبن عبدالعزيز المعروف بسلَّار الديلمي (ت 448هـ).

ثانياً: عصر العلم، ويعني به السيد الصدر العصر الذي اختمرت فيه البذور الأولى للعصر الأول، وأثمرت وتحدَّدت فيه معالم الفكر الأصولي، وانعكست في نطاق واسع على مجالات البحث الفقهي.

ويعد الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385 - 460هـ) رائد هذا العصر، وكشف السيد الصدر عن هذه الريادة للشيخ الطوسي، بالأوصاف التبجيلية الكثيرة التي أطلقها عليه، ومنها الفقيه الرائد، والفقيه المُجدِّد، والفقيه العظيم، والمُجدِّد العظيم وغيرها. وانتهت إليه الزعامة الفقهية بعد أستاذيه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، وانتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري.

وتمكَّن الشيخ الطوسي من أن يضع حدًّا فاصلاً بين عصرين من عصور العلم، بين العصر العلمي التمهيدي، والعصر العلمي الكامل، وأصبح أصول الفقه في هذا العصر، علماً له دقَّته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة.

وعبر الشيخ الطوسي عن هذا التطوُّر، من خلال كتابيه الشهيرين، كتاب (العدة) في أصول الفقه الذي جاء تعبيراً عن التطوُّر في الجانب الأصولي، وكتاب (المبسوط) في الفقه الذي جاء تعبيراً عن التطوُّر في الجانب الفقهي.

وبعد النظر في هذين الكتابين، وجد السيد الصدر أن بالإمكان استخلاص الحقيقتين الآتيتين:

الحقيقة الأولى: أن علم الأصول في الدور العلمي الذي سبق الشيخ الطوسي كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي الذي كان يقتصر وقتئذ على أصول المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص، ولم يكن بإمكان علم الأصول في تلك الفترة أن ينمو نموًّا كبيراً، لأن الحاجات المحدودة للبحث الفقهي الذي حصر نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص، لم تكن تساعد على ذلك، فكان من الطبيعي أن ينتظر علم الأصول نمو التفكير الفقهي، واجتيازه تلك المراحل التي كان الشيخ الطوسي يضيق بها، ويشكو منها.

الحقيقة الثانية: أن تطوّر علم الأصول الذي مثله الشيخ الطوسي في كتاب العدة، كان يسير في خطٍّ موازٍ للتطوُّر الذي أنجز في تلك الفترة على الصعيد الفقهي، وهذه الموازاة التاريخية بين هذين التطورين تُعزِّز من فكرة التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الأصولي، أي بين بحوث النظرية وبحوث التطبيق الفقهي.

لكن ما لفت نظر السيد الصدر، أن التطوُّر الضخم الذي أنجزه الشيخ الطوسي في مجالي الفقه والأصول، كان يفترض أن يُشكِّل قوة دافعة لحركة العلم بعد غيابه، ويفتح لمن جاء بعده آفاقاً جديدة للإبداع والتجديد، ومواصلة السير في الطريق نفسه، لكن الذي حصل هو خلاف ذلك تماماً.

فبعد غياب الشيخ الطوسي أصيبت عجلة التطوُّر بالتوقُّف، وشلّت حركة الإبداع والتجديد، وتكرّست نزعة التبعية والتقليد، وسيطرت على الوسط الديني آنذاك مواقف الهيبة والرهبة تجاه الشيخ الطوسي وأفكاره ونظرياته، وظهر ما عرف في الكتابات التاريخية الأصولية بالمقلدة، في إشارة لتوصيف الحالة العلمية التي سادت مرحلة ما بعد الطوسي، ودامت ما يُقارب قرن كامل.

وما تغيَّر هذا الوضع، إلَّا على يد الشيخ محمد بن إدريس (543 - 598هـ)، الذي وصفه السيد الصدر بالفقيه المبدع، صاحب الكتاب الفقهي الشهير (السرائر)، الكتاب الذي كان إيذاناً في نظر السيد الصدر، ببلوغ الفكر العلمي إلى مستوى التفاعل من جديد مع أفكار الشيخ الطوسي ونقدها وتمحيصها.

وفي عصر ابن إدريس تجدَّدت الحياة العلمية من جديد، وأخذت تنمو وتتَّسع وتزداد ثراءً، وبرزت في هذا العصر أسماء لامعة أسهمت في تجدُّد وازدهار الحياة العلمية، وقدَّمت تراثاً ثريًّا وغنيًّا في ميادين الفقه والأصول، وفي طليعة هؤلاء كل من: المحقق جعفر بن الحسن الحلي (602 - 676هـ) صاحب كتاب (شرائع الإسلام) في الفقه، وكتاب (المعارج) في الأصول، والعلامة الحلي الحسن بن يوسف (648 - 726هـ) صاحب المؤلفات العديدة في الأصول، منها (مبادئ الوصول إلى علم الأصول)، و(تهذيب الوصول إلى علم الأصول)، والشيخ محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول (734 - 786هـ) صاحب كتاب (القواعد والفوائد)، والشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني (911 - 965هـ) صاحب كتاب (تمهيد القواعد).

وتواصل هذا التطوُّر العلمي في ميادين الفقه والبحث الأصولي، إلى أواخر القرن العاشر الهجري، وكان الممثل الأساسي له في أواخر هذا القرن الشيخ الحسن بن زين الدين (959 - 1011هـ) صاحب كتاب المعالم، الذي مثَّل -حسب قول السيد الصدر- المستوى العالي لعلم الأصول في عصره، واتَّسم بتعبير سهل وتنظيم جديد.

ثالثاً: عصر الكمال العلمي، ويعني به السيد الصدر العصر الذي افتتحته -في تاريخ تطوُّر علم الأصول- المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، على يد المحقق الوحيد البهبهاني (1118 - 1206هـ)، الذي وصفه السيد الصدر بالمُجدِّد الكبير.

ويرى السيد الصدر أن هذه المدرسة الجديدة، قد نصبت نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية، والانتصار لعلم الأصول، وأنها وضعت حدًّا فاصلاً بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول.

وواصلت هذه المدرسة عملها الرائد حوالي نصف قرن، وتعاقبت فيها ثلاثة أجيال من العلماء النوابغ، وهو حسب ترتيب السيد الصدر:

الجيل الأول: المحققون الكبار من تلامذة الوحيد البهبهاني، ومنهم السيد مهدي بحر العلوم (1155 - 1212هـ)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء (1156 - 1227هـ)، والميرزا أبي القاسم القمي (1151 - 1231هـ)، والسيد علي الطباطبائي (1161 - 1231هـ)، والشيخ أسد الله التستري (1186 - 1234هـ).

الجيل الثاني: مثَّله الشيخ محمد تقي الأصفهاني (ت 1248هـ)، وشريف العلماء محمد شريف بن حسن بن علي (ت1245هـ)، والسيد محسن الأعرجي (ت 1227هـ)، والمولى أحمد النراقي (ت1245هـ)، والشيخ محمد حسن النجفي (ت1266هـ) وآخرون.

الجيل الثالث: وفي طليعته المحقق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281هـ)، الذي يعده السيد الصدر رائداً لأرقى مرحلة من مراحل تطوُّر العصر الثالث، وهي المرحلة التي تمثَّل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتى اليوم.

هذا هو تقسيم السيد الصدر لمراحل تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي، ولم يُوضِّح السيد الصدر إن كانت هذه أول محاولة في تقسيم علم الأصول إلى مراحل وعصور تاريخية أم لا! ولم يُشر أيضاً إلى أية محاولة أخرى سابقة عليه، لكن الملاحظ على هذا التقسيم التاريخي أنه يتَّسم بعمومية شديدة، ويصلح أن يكون تقسيماً أوليًّا يمكن مراجعته، وإدخال تحديثات عليه، ليكون أكثر ضبطاً وتحديداً.

والمحاولات التي جاءت بعد هذه المحاولة اتفقت معها في الرؤية العامة، وفي طبيعة الأحداث والأشخاص والأفكار والمؤلفات، واختلفت معها جزئيًّا في التقسيمات التاريخية من الناحية الزمنية.

ومن هذه المحاولات على قلَّتها ومحدوديتها، محاولة الشيخ جعفر السبحاني الذي قسَّم تاريخ علم الأصول إلى مرحلتين أساسيتين، وقسَّم كل مرحلة إلى ثلاثة أدوار، أطلق على المرحلة الأولى تسمية مرحلة النشوء والازدهار، وتمتد من أوائل القرن الثالث الهجري إلى عصر العلامة الحلي (648 - 726هـ)، وقسمها إلى ثلاثة أدوار هي: دور النشؤ، ودور النمو، ودور الازدهار. وأطلق على المرحلة الثانية تسمية مرحلة الإبداع والابتكار، وتمتد من بداية القرن الحادي عشر الهجري مع ظهور الحركة الأخبارية إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقسَّم هذه المرحلة إلى ثلاثة أدوار هي: دور الانفتاح، ودور النضوج، ودور التكامل.

أما علي القائيني الذي كانت له محاولة أخرى، فقد فضل استعمال تسمية المدارس في تقسيم تطور هذا العلم، بدل تسمية المراحل والعصور، ووجد أن هناك أربع مدارس كبرى، أطلق على المدرسة الأولى تسمية مدرسة ما قبل التأليف، والمدرسة الثانية مدرسة بداية عصر التأليف، والثالثة ويعني بها المدرسة التي تقدَّم وازدهر فيها علم الأصول قبل أن يصل مرحلة الكمال، والرابعة هي المدرسة التي بلغ فيها أصول الفقه تطوُّراً ممتازاً ما زال ممتداً إلى اليوم.

هذه بعض التقسيمات الاجتهادية، وما زالت هناك حاجة إلى تقسيمات أخرى تكون أكثر إبداعاً وتجديداً.

- 5 -
أصول الفقه.. ومصادر الإلهام

توقف السيد الصدر عند المصادر والمنابع التي ألهمت الفكر الأصولي، وأمدته بالنظريات والأفكار والخبرات، وأعطته دفعات نحو التطوُّر والتقدُّم، وظلَّت تبث فيه روح الحركة واليقظة، وأوصلته إلى ما وصل إليه اليوم.

هذه المصادر والمنابع تحدَّدت في نظر السيد الصدر، في النقاط الآتية:

أولاً: بحوث التطبيق في الفقه، فإن الفقيه تتكشف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الأصول عندئذٍ بوضع الحلول المناسبة لها، وتُصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركة في عملية الاستنباط. ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيراً ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها.

ثانياً: علم الكلام، الذي لعب دوراً مهمًّا في تموين الفكر الأصولي وإمداده، وبخاصة في العصر الأول والثاني، وذلك لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الأصول يشق طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه.

ثالثاً: الفلسفة، وهي لم تُصبح مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلَّا في العصر الثالث تقريباً، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام، وانتشار فلسفات كبيرة ومجدّدة، كفلسفة صدر الدين الشيرازي، فإن ذلك أدَّى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي، ومن أمثلة ذلك: ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة تعلق الأوامر بالطبائع والأفراد.

رابعاً: الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكر الأصولي، فإن الأصولي قد يعيش في ظرف معيّن فيستمد من طبيعة ظرفه بعض أفكاره، ومثاله: أولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأول ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسراً لهم في جل ما يواجهونه من حاجات وقضايا، نتيجة لقرب عهدهم بالأئمة (عليهم السلام)، وقلّة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبيًّا، فقد ساعد ظرفهم ذلك، وسهولة استحصال الدليل فيه، على أن يتصوّروا أن هذه الحالة حالة مطلقة ثابتة في جميع العصور، وعلى هذا الأساس ادَّعوا أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً ما دام الإنسان مُكلَّفاً والشريعة باقية.

خامساً: عامل الزمن، فإن الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلما اتَّسع وازداد تجدَّدت مشاكل وكُلِّف علم الأصول بدراستها، فعلم الأصول يُمنى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها، والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.

ومثال ذلك: أن الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور، ولا يتيسَّر الاطلاع المباشر على صحتها، كما كان ميسوراً في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأول، فبرزت أهمية الخبر الظني ومشاكل حجيته، وفرضت هذه الأهمية واتِّساع الحاجة إلى الأخبار الظنية على الفكر العلمي أن يتوسَّع في بحث تلك المشاكل ويُعوِّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرعي يدل على حجيتها وإن كانت ظنية، وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أول من توسَّع في بحث حجية الخبر الظني وإثباتها.

سادساً: عنصر الإبداع الذاتي، فإن كل علم حين ينمو ويشتد يمتلك بالتدريج قدرة على الخلق والتوليد الذاتي نتيجة لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره، ومثال ذلك في علم الأصول: بحوث الأصول العملية، وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية، فإن أكثر هذه البحوث نتاج أصولي خالص.

ويقصد ببحوث الأصول العملية: تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الأصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلاً على الحكم الشرعي مجهولاً لديه.

ويقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام: ما يقوم به علم الأصول من دراسة الروابط المختلفة بين الأحكام، من قبيل مسألة أن النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها أو لا؟ إذ تُدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده، وهل يفقد أثره في نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراماً، أو يظل صحيحاً ومؤثراً في نقل الملكية بالرغم من حرمته؟ أي أن العلاقة بين الحرمة والصحة هل هي علاقة تضاد أو لا؟.

هذه تقريباً هي أبرز ملامح وعناصر رؤية السيد الصدر في تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه في المجال الإسلامي الشيعي.

- 6 -
ملاحظات ونقد

بعد أن تحدَّدت رؤية السيد الصدر في تطور الفكر العلمي لأصول الفقه، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات، ومنها:

أولاً: إن هذه الرؤية شرحها السيد الصدر في كتابه (المعالم الجديدة للأصول)، الذي أراد منه أن يكون الحلقة الأولى التمهيدية ضمن حلقات ثلاث تتدرَّج في عرض علم الأصول، والغاية التي توخاها من هذه الحلقة، هو تقديم علم الأصول بصورة بدائية ومبسطة للمبتدئين في دراسة هذا العلم، وراعى في كل جوانب هذه الحلقة، أن تكون في مستوى هذه الغاية.

الأمر الذي اقتضى من السيد الصدر، تأجيل التوسُّع في عرض هذه الرؤية إلى الحلقات الأخرى التالية، التي أراد منها أن تكون أكثر توسعاً وعمقاً.

وأشار السيد الصدر إلى هذه الملاحظة مرّات عدة، ونبَّه عليها في مناسبات مختلفة كنت قد تتبَّعتها وتوقَّفت عندها، وفي كل هذه المرّات كان القصد من الإشارة إليها، التأكيد على أن مستوى هذه الحلقة لا يسمح بالتوسُّع أكثر مما هو مطروح، تاركاً هذا التوسُّع إلى الحلقات التالية.

وهذا يعني أن هذه الرؤية لم تصل إلى حد الاكتمال، ولا تُعبِّر عن اكتمال الرؤية عند السيد الصدر في رؤيته لتطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه، وعلى هذا الأساس ينبغي النظر لهذه الرؤية.

ثانياً: بعد صدور هذه الحلقة سنة 1965م، توقَّف السيد الصدر عن إكمالها بالحلقات الأخرى الموعودة، وهي الحلقات الثانية والثالثة حسب الخطة المرسومة، وبعد ما يزيد على عقد من الزمن استأنف السيد الصدر العمل من جديد في هذا المشروع، واستمر فيه إلى نهايته، وصدر كاملاً سنة 1978م، في ثلاث حلقات مجموعة في مجلدين، حملت عنوان (دروس في علم الأصول).

في هذه الحلقات الثلاث، حذف السيد الصدر المدخل التاريخي الذي كتبه حول تاريخ تطوُّر علم أصول الفقه، ولم يأتِ على ذكر هذه الملاحظة، التي ظلَّت إلى اليوم بلا تفسير واضح وجازم.

والذين ترقَّبوا من السيد الصدر كما وعد ونبَّه، التوسُّع والتعمُّق في هذا المدخل التاريخي في الحلقات المتقدمة التالية، فوجئوا بحذف هذا المدخل من دون الإشارة إلى أسباب واضحة.

وهناك من اعتبر أن حذف هذا المدخل التاريخي، جاء حرصاً من السيد الصدر لأجل احتفاظ الحلقات الثلاث بالطابع العلمي والدراسي، وبالنحو المقبول في أوساط الحوزة العلمية.

هذا التفسير وإن جاء من اللجنة العلمية التي أشرفت على تحقيق الأعمال الكاملة للسيد الصدر، إلَّا أنه يبقى تفسيراً احتماليًّا لا يمكن الجزم به كليًّا. وما يمكن الجزم به هو أن الرؤية التي كانت عند السيد الصدر في زمن صدور كتاب المعالم سنة 1965م، تغيَّرت في زمن صدور كتاب الدروس سنة 1978م.

وكشف عن هذا التغيُّر، توقُّف العمل عن إكمال مشروع الحلقات في زمن كتاب المعالم، وحذف المدخل التاريخي في زمن كتاب الدروس، وكأن السيد الصدر أراد أن يكون كتاب المعالم كتاباً مستقلاً له طابعه الخاص المتميّز به عن كتاب الدروس.

مع ذلك يبقى أن السيد الصدر توقَّف عن إكمال رؤيته، في تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه، وظلت رؤية لا تتَّسم بالاكتمال.

ثالثاً: تابع السيد الصدر الحديث عن مراحل تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه إلى زمن الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي قدَّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمة.

وما بين زمن الشيخ الأنصاري المتوفى سنة 1281هـ، إلى زمن صدور كتاب المعالم هناك ما يزيد على مائة سنة لم يتطرَّق السيد الصدر إليها، وإلى ما حصل فيها من تطوُّرات وتغيُّرات أثرت في مسارات الفكر العلمي لأصول الفقه.

ولا شك في أن هذه الفترة ليست فترة قصيرة في مقاييس الزمن، ولم تكن خالية من التطوُّرات والتغيُّرات الجادة والهامة، ولا يمكن إهمال كل هذه الفترة أو التغافل عنها، وجعلها خارج السياق التاريخي لمسارات تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه.

وكنا نتوقَّع في الحلقات التي وعد السيد الصدر بالتوسُّع فيها بعد حلقة كتاب المعالم، أن يتمّم الحديث عن هذه الفترة المعلّقة، واستكشاف ما حصل فيها من تطوُّرات وتغيُّرات استكمالاً لمراحل تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه، والتي لا تكتمل بدونها، وهذا ما لم يحدث.

وعندما استأنف السيد الصدر مشروع الحلقات من جديد سنة 1987م، وأراد منها أن تكون بديلاً دراسياً عن الكتب الأصولية القديمة، ومنها كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري، توقَّف عند فترة المائة سنة الأخيرة، لافتاً النظر لما حصل فيها من تطوُّرات وتغيُّرات تستدعي التوقُّف عن الكتب الدراسية التي لا تنتمي إليها، وضرورة تبني كتباً جديدة تواكب التطوُّرات العلمية الحادثة بعد تلك الفترة.

وفي تقريره لهذه الحقيقة يقول السيد الصدر: «وقد حصل علم الأصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة مائة سنة تقريباً من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء المُجدِّدين، وخبرة ما يُقارب مائة سنة من البحث العلمي الأصولي جديرة بأن تأتي بأفكار جديدة كثيرة، وتُطوِّر طريقة البحث في جملة من المسائل، وتستحدث مصطلحات لم تكن تبعاً لما تكون من مسالك ومبانٍ، ومن الضروري أن تنال الكتب الدراسية حظًّا مناسباً لها من هذه الأفكار والتطوُّرات والمصطلحات، لئلا يُفاجأ بها الطالب في بحث الخارج دون سابق إعداد».

وهذا يعني أن السيد الصدر لم يُتمِّم رؤيته لمراحل تطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه، وتوقف عند ما قبل المائة سنة الأخيرة، التي مثَّلت منطقة فراغ مؤثرة في تركيبة رؤيته.

رابعاً: إن المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر، يصلح أن يكون خطة بحث نموذجية لكتابة تاريخ أصول الفقه من جديد، ولا أدري لماذا لم يتم التنبُّه لمثل هذه الملاحظة عند تلامذة السيد الصدر، ومن ينتمون عموماً لمدرسته الفكرية، المدرسة التي عرفت بالاتِّساع العددي، والامتداد الجغرافي، وضمَّت شريحة مميّزة من العلماء والباحثين.

ويمكن التعرُّف على هؤلاء بالعودة إلى كتاب (تلامذة الإمام الشهيد الصدر) للسيد محمد الغروي، وأشار إلى أسماء هؤلاء التلامذة أيضاً، الباحث اللبناني أحمد أبو زيد في كتابه الموسوعي (محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة)، وأوصلهم إلى مائة وأربعة وستين اسماً من العراق وخارجه.

وقد حظي التراث الفكري للسيد الصدر عند شريحة من هؤلاء، بالدراسة والمراجعة والتحقيق، شملت محاضراته ودروسه ومقالاته ومؤلفاته وسيرته، وصدرت الكثير من مؤلفاته في طبعات محقّقة، وتأسَّس في مدينة قم الإيرانية مركز متخصص في العناية بهذا التراث الفكري، حمل اسم (مركز الأبحاث والدراسات التخصُّصية للشهيد الصدر)، وصدرت عنه الأعمال الكاملة للسيد الصدر في طبعة مُراجعة ومحقَّقة، حملت عنوان (تراث الشهيد الصدر).

هذه العناية، وهذا الاهتمام بالتراث الفكر للسيد الصدر، مع ذلك لم يحصل التنبُّه إلى أن المدخل التاريخي الذي كتبه السيد الصدر يصلح أن يمثل خطة بحث نموذجية لإعادة كتابة تاريخ تطوُّر الفكر العلمي لعلم أصول الفقه، وهذه المهمة ما زالت قائمة، وتنتظر من ينهض بها.

خامساً: عند حديثه عن النزعة الأخبارية التي تنكَّرت لدور العقل في المجال الإسلامي الشيعي، توقَّف السيد الصدر أمام رأي الميرزا محمد أمين الاسترابادي (ت1023هـ)، الوارد في كتابه الشهير (الفوائد المدنية)، الرأي الذي قسَّم فيه العلوم البشرية إلى قسمين، أحدهما العلم الذي يستمد قضاياه من الحس كالرياضيات، والآخر العلم الذي لا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي كقضايا ما وراء الطبيعة، واعتبر الأسترابادي أن القسم الأول من العلوم هو وحده الجدير بالثقة.

وقد وجد السيد الصدر، أن الاسترابادي يخرج من تحليله للمعرفة بجعل الحس معياراً أساسيًّا لتمييز قيمة المعرفة، وهذا يعني في نظر السيد الصدر، أن هناك اتجاهاً حسيًّا في أفكار المحدث الأسترابادي، يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائل بأن الحس هو أساس المعرفة.

وعلى هذا الأساس، اعتبر السيد الصدر أن الحركة الأخبارية في الفكر العلمي الإسلامي، مثَّلت أحد المسارب التي تسرَّب منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا الفكري، ووجد أن هناك التقاءً فكريًّا ملحوظاً بين الحركة الفكرية الأخبارية، والمذاهب الحسية والتجريبية في الفلسفة الأوروبية، فقد شنَّت هذه جميعاً حملة كبيرة ضد العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس.

وبهذا تكون حركة المحدث الأسترابادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس، قد أدَّت في تصوُّر السيد الصدر، إلى النتائج نفسها التي سجَّلتها الفلسفات الحسية في تاريخ الفكر الأوروبي.

هذا الرأي طالما توقفت عنده كثيراً، وتمنيت لو أن السيد الصدر رجع إليه مرة أخرى، وذلك لمعرفة فيما إذا كان ما زال على نفس الرأي، وجازماً به أيضاً، أم أن رأيه قد حصل فيه تغير، وبأي صورة حصل هذا التغير.

ولا أعلم على وجه التحديد، لكني أظن أن السيد الصدر لم يرجع مرة أخرى إلى هذا الرأي، ولم يأتِ على ذكره في كتاب الدروس الذي جاء بعد كتاب المعالم.

أقول هذا الكلام لأني احتمل لو أن السيد الصدر رجع إلى هذا الرأي مرة أخرى لتغيّر رأيه، لكن من دون تحديد نسبة وصورة هذا التغيّر.

والسبب في ذلك، أن هذه المقارنة والمقاربة بين النزعة الأخبارية والمذاهب الحسية الأوروبية فيها تكلُّف لا يُتصوَّر، ويصدق عليها قاعدة تحميل ما لا يحتمل، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، أن النزعة الأخبارية كانت نزعة مغالية في المحافظة، وشديدة التحسّس من الرواسب والروافد الخارجية والأجنبية، بشكل لا يسمح لإمكانية المقارنة والمقاربة بينها وبين المذاهب الحسية الأوروبية.

ومن جهة ثالثة، يعلم السيد الصدر أن موقف النزعة الأخبارية من العقل، لم يكن بقصد الدفاع عن الحس وتمسُّكاً به، ولم ينطلق من كون أن الحس يمثل موقفاً فكريًّا في مقابل النزعة العقلية، وإنما جاء على خلفية رد العقل، بقصد العودة إلى النصوص والمرويات والأخبار الدينية، والتمسُّك بها بوصفها تمثل الطريق الوحيد العاصم عن الخطأ في مسائل الدين والشريعة.

ومن جهة رابعة، إذا كانت النزعة الأخبارية انبثقت على حد زعمها، لتنقية المجال الشيعي من رواسب الفكر السني الذي أخذ يتسرَّب من قناة أصول الفقه، فكيف لهذه النزعة بهذا الموقف النفسي والفكري أن تتورَّط بوعي أو بدون وعي، في أن تصبح أحد مسارب المذاهب الحسية الأوروبية في المجال الشيعي.

ومن جهة خامسة، أن الأخباريين أنفسهم استغربوا هذا الرأي، وتنكَّروا له، واعترضوا عليه بشدة، وأشار إلى هذا الموقف الشيخ آل عصفور البحراني، وقدَّم عليه ثلاثة اعتراضات احتجاجية، هي:

أولاً: كيف يقدر على إثبات هذه الدعوى؟ والحال أن المعاصرين للأسترابادي لم يدركوا ذلك، حتى الذين أتوا من بعده، فأصل الدعوى لا لها سبق حتى يرويها واحد إلى واحد فعرف أنه افتراء.

ثانياً: إن كان الأسترابادي قد أخذ من الفلاسفة المعنيين واتبعهم، فما ربط ذلك بالفقه والأصول؟ فخرج تهافت ما ادَّعاه.

ثالثاً: إن المولى الأسترابادي اختار مسلك المتقدمين في قوله: الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريين وطريقتهم، ويلزم من هذا القول أن المتقدمين أيضاً أخذوا عن الفلاسفة المعنيين، فبان ما غفل عنه.

هذه بعض الملاحظات النقدية التي تصلح أن تفتح نقاشاً مع السيد الصدر في رؤيته لتطوُّر الفكر العلمي لأصول الفقه.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة