تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

نظرية الثقافة عند مالك بن نبي

زكي الميلاد


نحو قراءة معرفية جديدة
-1-

مالك بن نبي ونظرية الثقافة

لا يمكن الحديث عن الثقافة في العالم العربي، وعلى مستوى الفكر الإسلامي، دون التطرق والاقتراب لمالك بن نبي، الذي شغلته قضية الثقافة، وظل مسكوناً بها، ولم يفارقه الاهتمام بها طيلة حياته. وإسهاماته في هذا المجال هي الأكثر حضوراً وأهميةً على مستوى الدراسات الإسلامية، وهو المفكر الذي استطاع أن يبلور نظرية في الثقافة، ويستقل ويعرف بها. وهي النظرية التي اكتسبت شهرة بين الكتّاب والباحثين الذين ظلوا يرجعون إليها، ويعرِّفون بها في كتاباتهم وأبحاثهم.

وما زالت هذه النظرية تلفت الاهتمام، وتستوقف نظر المشتغلين في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، وذلك لطبيعتها المتميزة من جهة، ولضآلة الإبداع والتجديد العربي والإسلامي ومحدوديته في هذا الشأن من جهة أخرى، ولكون هذه النظرية من النظريات المبكرة والجديدة في مجالها.

يضاف إلى ذلك أن مالك بن نبي قد ظل يلفت النظر والاهتمام لنظريته في الثقافة، ويجدد الحديث عنها باستمرار وفي مناسبات عديدة، ولم يتوقف عن الكتابة عنها والتذكير بها، منذ أول كتاب له تحدث فيه عن الثقافة، وهو كتاب >شروط النهضة< الصادر باللغة الفرنسية في باريس عام 1949م، إلى كتابه الذي خصصه لهذه القضية وهو كتاب >مشكلة الثقافة< الصادر باللغة العربية في القاهرة عام 1959م. وهكذا في الحديث عنها من خلال المحاضرات التي ألقاها في القاهرة ودمشق وطرابلس وصولاً إلى الجزائر.

والذي حفّز بن نبي إلى مضاعفة الاهتمام بالمسألة الثقافية، هو أنه بعد وصوله إلى القاهرة عام 1956م، وترجمة كتابيه >شروط النهضة< و >فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ< وصدورهما باللغة العربية عام 1957م و        م، وجد بن نبي اهتماماً من الطلاب العرب في القاهرة بأفكاره حول مفهوم الثقافة التي تطرق إليها في الكتابين المذكورين. وفي هذا الشأن يذكر عمر مسقاوي في تصديره لكتاب >مشكلة الثقافة< أن الطلاب العرب في القاهرة كانوا يرتادون مجلس بن نبي عام 1959م، وأكثرهم يأتيه مستوضحاً مفهوم الثقافة كما شرحه في كتابيه >شروط النهضة< و >فكرة الأفريقية الآسيوية<.

هذا الاهتمام شجع بن نبي لأن يخصص كتاباً حول الثقافة يجمع ويشرح فيه ما توصل إليه من أفكار وتصورات، وفي هذا الصدد جاء كتابه >مشكلة الثقافة<. وبعد اثني عشر عاماً على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، اعتبر بن نبي في مقدمة الطبعة الثانية، أن الأفكار التي عرضها كانت غريبة في الوسط الثقافي العربي، ولم يسبقه إليها دارس عربي من قبل، وأنه قد تناول القضية من زاوية جديدة. وفي تقديره أن غرابة الأفكار التي توصل إليها ترجع إلى سببين:

أولاً: لأنها لم تتوخ منهج الدراسات الغربية في الموضوع لأسباب منهجية.

ثانياً: لأن الأفكار المعروضة ليست في جوهرها إلاّ امتداداً وشرحاً تحليلياً من ناحية، وتركيباً من ناحية أخرى للأفكار التي قدمها في أحد فصول كتابه >شروط النهضة< الذي نشر منذ ربع قرن باللغة الفرنسية، أي عندما كان الموضوع بكراً لا بالنسبة للعالم الإسلامي فحسب، بل أيضاً في بلاد الغرب(1).

ولعل هذا الانطباع بغرابة هذه الأفكار تولد عند بن نبي بعد صدور وتداول كتابه >مشكلة الثقافة< وما تشكل حول هذا الكتاب من وجهات نظر. ولهذا عبر بن نبي عن هذه الغرابة في الطبعة الثانية من الكتاب، ولم يلفت النظر إليها في الطبعة الأولى منه. وما زالت تلك الأفكار تحتفظ بقدر من الغرابة خصوصاً في ناحيتها التركيبية، أما في ناحيتها التحليلية فلم تعد لها تلك الغرابة اللافتة. ومنشأ هذه الغرابة في هذا الوقت لعله يعود إلى الغموض الذي يحيط بتلك الأفكار من جهة صعوبة معرفة كيف توصل بن نبي لبناء نظريته الثقافة بالتركيب الذي شرحه في كتاب >شروط النهضة< ثم في كتابه >مشكلة الثقافة<.

-2-

التحليل النفسي للثقافة

لقد عالج بن نبي مشكلة الثقافة من ناحيتين، أطلق على الناحية الأولى تسمية التحليل النفسي للثقافة، وعلى الناحية الثانية تسمية التركيب النفسي للثقافة.

في الناحية الأولى حاول بن نبي أن يتتبع بصورة سريعة وعامة بعض الملامح التاريخية التي ساهمت في تكوين مفهوم الثقافة، ومن أين جاءت كلمة الثقافة، ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟ وكيف تبلور هذا المفهوم وتطور وتحدد في الثقافة الأوروبية؟ وخلص بن نبي إلى أن فكرة الثقافة، هي فكرة حديثة جاءتنا من أوروبا، والكلمة التي أطلقت عليها هي نفسها صورة حقيقية للعبقرية الأوروبية.

والتحليل التاريخي الذي قدّمه بن نبي في هذا المجال لعله كان مهماً ولافتاً بعض الشيء في وقته، وبالذات على مستوى الكتابات والأدبيات العربية والإسلامية التي لم تكن لامعة، ولم تشهد تجديداً وتراكماً مبكراً ومهماً في هذا الشأن. أما اليوم فإن صورة ذلك التحليل التاريخي قد تغيرت من حيث أهميته وقيمته، وبات يظهر لنا وكأنه شديد العمومية والاختزال، ولا يقدم تحليلاً كاملاً ومستفيضاً، ولا حتى معمقاً في حفرياته المعرفية والتاريخية.

وأساساً لم يكن التحليل التاريخي هو الجانب المهم في حديث بن نبي عن التحليل النفسي للثقافة، الذي كان مجرد مدخل تمهيدي لتأكيد حقيقة جوهرية عند بن نبي، وهي أن كل مجتمع بحاجة إلى تكوين فهم مستقل وخاص به لطبيعة مشكلته الثقافية، أو فكرته عن الثقافة بصورة عامة، وذلك بحسب مرحلته التاريخية. فالمشكلة الثقافية في رؤية بن نبي لها نوعيتها وطبيعتها في كل مجتمع بالشكل الذي يمنع استيراد الحلول من مجتمع آخر له مرحلته التاريخية المختلفة، وليس مبنى هذه الملاحظة كما يقول بن نبي قائماً على اعتبارات دينية أو سياسية، بل هي قائمة على اعتبارات فنية خالصة(2). ولهذا يقرر بن نبي أن من المخاطرة اقتباس حلٍّ أمريكي أو حلٍّ ماركسي كيما نطبقه على أية مشكلة تواجهنا في العالم العربي والإسلامي؛ لأننا هنا أمام مجتمعات تختلف أعمارها، أو تختلف اتجاهاتها وأهدافها(3).

وهذه الفكرة هي من أكثر الأفكار رسوخاً عند بن نبي، حيث ظل يؤكد عليها باستمرار في معظم مؤلفاته وكتاباته ومحاضراته. وبقدر ما كانت راسخه لديه حاول ترسيخها في ثقافة الجيل المعاصر له، وأراد أن يحولها إلى قناعة ثابتة تساهم في بلورة منهجية التعامل مع الفكر الأوروبي. ولشدّة رسوخ هذه الفكرة عند بن نبي أصبحت من ملامح التميز في خطابه الفكري. وهو الخطاب الذي تحصن من إشكالية الاستلاب والتغريب والتماهي بالفكر الأوروبي مع شدّة تواصل بن نبي مع منابعه وفلسفاته ومذاهبه الفكرية والاجتماعية، وذلك في عصر كانت للفكر الأوروبي قوة السطوة والهيمنة التي أثرت على جيل المفكرين في عصره كلطفي السيد، وطه حسين، وساطع الحصري، وعبدالرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود وغيرهم الذين اعتنقوا مذاهب وفلسفات الفكر الأوروبي ونسبوا أنفسهم إليها، وعرفوا بها. وقد عبر بعضهم عن قوة هذه الرهبة والاستسلام والخضوع لها، كدعوة فرح أنطون في مفتتح كتابه >ابن رشد وفلسفته< إلى مجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعاً وجعلهم مسخرين لغيرهم. لذلك فإن التخلص من هذه الرهبة والسطوة كان بحاجة إلى شجاعة فكرية، وثقة عالية بالذات، وانتماء عميق للثقافة الإسلامية، وإيمان بتجديد الحضارة الإسلامية من داخل ثقافتها وعقيدتها.

وتميز خطاب بن نبي بهذه الصفة، هو الذي قرّب إليه المثقفين والنخب الدينية، وجعله مؤثراً في التكوينات الفكرية لهؤلاء، ومصدر إلهام لهم في التمسك بالهوية الإسلامية، وإظهار التميز الثقافي.

وحديث بن نبي عن التحليل النفسي للثقافة كان بقصد تعميق التمايز الثقافي، وقد أوضح عمر مسقاوي كيف أن تداول بعض الأفكار حول الثقافة عند بعض الطلبة الذين تلقوها في محاضرات جامعية نقلاً عن اثنين من المفكرين الأمريكيين هما وليام أوجبرن ورالف لنتون كان من دوافع اهتمام بن نبي بتخصيص كتاب حول الثقافة. إلى جانب ما وقع في يده من كتاب كان رائجاً ذلك الحين، وهو كتاب >دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع< للماركسي كونستانتينوف. ويعقب مسقاوي على ذلك بقوله: >فقد جاءت أفكار بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة، لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي، أو في إطار الفكر الاشتراكي التقديم<(4).

ولهذا اعتنى بن نبي كثيراً بمناقشة أفكار وتصورات هؤلاء حول الثقافة وتعريفها، وحدّد مجالات التوافق والاختلاف معها، على أساس فني وتقني من جهة، وثقافي وتاريخي من جهة أخرى. فني وتقني يرتبط بتفاوت مستويات التطور والتقدم المدني والحضاري العام، وثقافي وتاريخي يرتبط بتمايز المكونات الثقافية والتاريخية.

وبعد أن يشرح بن نبي ما قدّمه أولئك من تعريفات للثقافة، وطبيعة السياقات الفكرية والاجتماعية التي اتصلت وتأثرت بها، يعلّق على ذلك بقوله: >لاشك أن فيما عرضناه من آراء مختلفة إشارات ثمينة، لكن هذه الإشارات على الرغم من أنها لا تقدر بثمن، ليست في الحقيقة حلاًّ لمشكلتنا. فإن للمشكلات الاجتماعية نوعيتها التاريخية. وهذا يعني أن ما يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه، قد تنعدم فائدته تماماً بالنسبة له في مرحلة أخرى<(5).

هذا من حيث المنهج والموقف العام، أما من حيث المعرفة وتحديد الموقف أو الرؤية تجاه الثقافة، ومحاولة الإجابة على سؤال: ما هي الثقافة؟ حتى في هذا الجانب كان منطق التفكير عند بن نبي يتحدد على قاعدة التمايز والاستقلال الثقافي، فهو لا في التعريفات المطروحة للثقافة سواء منها ما عبر عن وجهة النظر الغربية أو الماركسية ما يدعو إلى الاعتراض، وليس نقصها راجعاً إلى خطأ فيها، وإنما لأن مضمونها -كما يقول بن نبي- لا يمكن أن يعطينا مفتاح حل المشكلة في الظروف النفسية والزمنية للمجتمعات العربية والإسلامية. على الرغم من أن تلك التعريفات حسبما يرى بن نبي أنها مكتملة في فكر أصحابها بواسطة عنصر ضمني تقدمه الحضارة الغربية في جانب، والأيديولوجية الماركسية في جانب آخر. فتعريف لنتون -الذي يرى الثقافة على أنها مجموعة من الأفكار- سليم في نظر بن نبي لكنه ناقص من نواح عديدة. وتعريف أوجبرن الذي يرى الثقافة على أنها جملة من الأشياء والأفكار هو الآخر سليم أيضاً، لكنه ناقص من نواح أخرى. وهكذا التعاريف الماركسية للثقافة التي تذهب إلى أنها انعكاس للمجتمع، فهي سليمة أيضاً دون أن تكون أكثر إقناعاً في وطن تقتضي المشكلة فيه حلاًّ أساسياً. أي حيث لا تكون المشكلة مشكلة فهم وتفسير لواقع اجتماعي معين، بقدر ما هي مشكلة خلق لهذا الواقع الاجتماعي.

وما يريد بن نبي التوصل إليه هو أننا لا يمكن أن نتصور تعريفاً للثقافة يتحدد من زاوية نظرية فحسب، بل لابد أن يضاف إليه البعد العملي أو التربوي. وعليه كما يقول بن نبي فلو افترضنا أن تعريفاً معيناً توفر له شروط الصحة، ولكنه في ذاته مقتصر على الجانب النظري، لم يكن في رأينا كافياً لبلد لا تساعد ظروفه العامة على تكملة مضمونه بطريقة ضمنية. فعندما يضع أمريكي مشكلة الثقافة في إطار نظري، فإن مضمون الثقافة الأمريكية محدد من قبل بحكم الظروف العامة الناتجة عن الحضارة الغربية. وعندما يذهب ماركسي المذهب نفسه في تعريفها، فإن مضمون الثقافة التي يعرفها مكمل ضمناً بفضل الأيديولوجية الماركسية. أما عندما يُراد تعريف الثقافة تعريفاً نظرياً في مجتمع ليس فيه ما يكمل هذا التعريف ضمناً، سواء بما توفر لديه من تراث تاريخي أو أيديولوجي، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً. وبذلك -وهذه هي النتيجة التي يخلص إليها بن نبي- نجد أنفسنا منساقين مع طبيعة المشكلة الخاصة بالبلاد العربية والإسلامية إلى تطبيق منهج آخر، هو المنهج الذي يستخدم في تعريف الشيء المعقد.

وهذا الشيء المعقد يقصد به بن نبي أننا أمام تعريف الثقافة نجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننظر للمشكلة في ثلاثة اتجاهات، حتى يتسنى لنا -كما يرى- ضمَّ عناصرها النفسية وعناصرها الاجتماعية، وتقرير العلاقة بين هذه العناصر في إطار صياغة تربوية تجعل من تعريف الثقافة قابلاً للتنفيذ.

والخلاصة أن بن نبي الذي افتتح حديثه عن الثقافة ووجد أن هذه الكلمة لم تكتسب قوة التحديد في اللغة العربية، كالذي هو موجود في الثقافة الأوروبية، وأننا مضطرون من أجل هذا حسب قوله لأن نقرنها بكلمة الثقافة بالمعنى الأوروبي. كان من السهولة لمثل هذه النتيجة أن تقود بن نبي إلى الخضوع للثقافة الأوروبية والاستسلام لها، وتدفع به نحو التغريب والاستلاب كما دفعت بالكثيرين قبله وبعده. وهذا الذي لم يحصل مع بن نبي فقد ظل يقاوم التغريب والاستلاب والاستسلام للثقافة الأوروبية، وبذل جهداً في سبيل تعزيز التمايز والاستقلال الثقافي. وكان يكافح من أجل أن نستقل في فهمنا للثقافة، وتحليلنا لمشكلة الثقافة، وهذا هو الغرض من حديثه عن التحليل النفسي للثقافة.

وما يؤكد قيمة هذا الاهتمام بالتمايز الثقافي عند بن نبي، هو أنه لا ينطلق من خلفية القطيعة والانقطاع الكلي والتام مع الثقافات والفلسفات الأوروبية، كما أنه لا يتشكل على خلفيات ساذجة أو ضحلة من حيث التكوينات المعرفية والمنهجية.

-3-

التركيب النفسي للثقافة

من الحديث عن التحليل النفسي للثقافة ينتقل بن نبي للحديث عن التركيب النفسي للثقافة، حيث يعالج مشكلة الثقافة من زاوية أخرى، وفي طور آخر مختلف، وعلى قاعدة التمايز الثقافي، والتباين في مستويات التطور الحضاري. ويرى بن نبي أن الفرق الجوهري في طريقة مواجهة مشكلة الثقافة يتحدد تبعاً لدرجة التطور والتمدن في كل مجتمع، وطبيعة مرحلته التاريخية. لهذا فإن العالم العربي والإسلامي يختلف في موقفه من الثقافة عن العالمين الغربي والاشتراكي، وليست مشكلته منحصرة في محاولة فهم الثقافة، وإنما بدرجة أساسية في تحقيقها بصورة عملية، وهذا ما يقصده بن نبي من التركيب النفسي للثقافة.

ومع أن بن نبي استخدم عبارات التحليل النفسي والتركيب النفسي وارتبطت بنظريته في الثقافة، ومع ما يكتنف هذه العبارات من غموض، إلاّ أن بن نبي لم يعتنِ بشرح هذه العبارات وتحديد ما يقصده بها بصورة واضحة وثابتة. وقصارى ما أشار إليه هو أنه نسب تلك العبارات إلى مصطلحات علماء النفس لكي يظل في نطاقهم كما يقول، وبدون أيضاً أن يشرح الحكمة من ذلك، أو مصدر القيمة لهذا الانتساب. والمفارقة التي تظهر في هذا الشأن هي أن بن نبي فضل مصطلحات علماء النفس مع أن منهجه في البحث أقرب إلى علم الاجتماع، وهو يتمثل شخصية عالم الاجتماع أكثر من شخصية عالم النفس، كما أنه يعتبر مفكراً اجتماعياً أكثر من كونه مفكراً نفسياً. لهذا كان يفترض أن يلتفت بن نبي إلى ضرورة شرح ما يقصده من عبارتي التحليل النفسي والتركيب النفسي للثقافة.

مع ذلك بإمكاننا أن نتوصل إلى ما يقصده بن نبي من تلك العبارتين، لكن ليس بصورة مباشرة ومحددة، وإنما من خلال البحث والاستنباط. فعبارة التحليل النفسي للثقافة يراد منها الإجابة على سؤال: كيف نفهم الثقافة؟ أو كيف نحدد فهمنا للثقافة؟ وعبارة التركيب النفسي للثقافة يراد منها الإجابة على سؤال: كيف نطبق الثقافة؟ أو كيف يكون للثقافة واقع فعلي في حياتنا؟

والبدء من التحليل النفسي للثقافة لأنه لابد أولاً من تحديد الفهم للثقافة، الفهم الذي يحتاج إلى منهج يحدد طبيعة ومحددات الفهم للثقافة الذي يفترض أن يتناغم ويستجيب للشروط التاريخية، ودرجة التطور الحضاري، ونوعية المشكلة الاجتماعية. وهذه الطريقة في النظر هي التي يصطلح عليها بن نبي بالتحليل النفسي للثقافة. والعمل على تحويل هذا الفهم للثقافة من حيز النظرية والأفكار إلى حيز الواقع والتطبيق، بحيث تتصل الثقافة بالمجتمع، ويتصل المجتمع بها، هذه المهمة يصطلح عليها بن نبي بالتركيب النفسي للثقافة.

ومحاولة فهم الثقافة يحددها بن نبي في إطار التاريخ، وتطبيق الثقافة يحددها في إطار التربية. فالثقافة حسب رأيه ينبغي أن يتصل معناها بالتاريخ، ولا يمكن أن نتصور تاريخاً -كما يقول- بلا ثقافة، والشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتماً تاريخه. والثقافة بهذا المعنى في اتصالها بالتاريخ هي في نظر بن نبي تلك الكتلة بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة(6).

ومعنى الثقافة في التربية يتحدد عند بن نبي من خلال صياغة هدفها، وما تتطلبه من وسائل التطبيق. أما الهدف فاعتبار أن الثقافة ليست علماً خاصاً بطبقة من الشعب دون أخرى، وإنما هي دستور تطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي. وعلى هذا الأساس فإن الثقافة تشتمل في معناها العام على إطار حياة واحدة يجمع بين راعي الغنم والعالم جمعاً توحد بينهما مقتضيات مشتركة، وهي تهتم في معناها بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها(7).

وتطبيق الثقافة هو بمعنى أن تتحول الثقافة إلى أسلوب حياة في المجتمع بحيث تؤثر على كافة طبقاته الاجتماعية. وهذا التحول في رؤية بن نبي بحاجة إلى أربعة عناصر مترابطة ومتكاملة فيما بينها، يسميها بن نبي عناصر أو فصول الثقافة، وهي حسب الترتيب عنده:

أولاً: التوجيه الأخلاقي، ويسميه بن نبي تارة بالمبدأ الأخلاقي أو الدستور أو الفصل، وجميع هذه التسميات تحدّث عنها في مؤلفاته ومحاضراته. لكن التسمية الأكثر تعبيراً وتفضيلاً لديه هي التوجيه الأخلاقي، ولعلها أسبق التسميات أيضاً. وكلمة التوجيه تعبر عنده عن فكرة حاول التأكيد عليها، وصياغة معنى لها، ويَقْصِدُ بها قوةً في الأساس وتوافقاً في السير ووحدةً في الهدف، فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت(8). كما أن كلمة التوجيه هي من الكلمات التي تحدّث عنها بن نبي باهتمام، وربطها بأفكاره الأساسية، وباتت تعد من الكلمات التي تصنف على قاموسه الفكري أو منظومته الثقافية.

وأول ما يلفت النظر إليه بن نبي في هذا الشأن هو أنه لا يتحدث عن الأخلاق من زاوية فلسفية، وإنما من زاوية اجتماعية، وليس هو بصدد شرح مبادئ خلقية، وإنما بقصد تحديد قوة التماسك الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية.

وقد ظل بن نبي يشرح هذه الفكرة في العديد من مؤلفاته ومحاضراته، وكأنه يحاول تنضيج هذه الفكرة وبلورتها وتحديدها بصورة دقيقة ومتماسكة. ولعل أوضح وأضبط حديث كشف فيه عن العلاقة بين الأخلاق أو التوجيه الأخلاقي والثقافة هو ما تحدّث به في محاضرة له ألقاها بمدينة طرابلس اللبنانية عام 1959م، ونشرها في كتابه >تأملات< الصادر عام 1961م. لأن ما تحدث به في كتابه >شروط النهضة< ونقله بدون أي تعديل في كتابه >مشكلة الثقافة< كان عاماً ويفتقد إلى الضبط والتحديد خصوصاً من جهة العلاقة بين الأخلاق والثقافة، كالذي أوضحه في كتابه >تأملات< حيث شرح هذه العلاقة من جهتين، من جهة اجتماعية، ومن جهة ثقافية، بدون الفصل بينهما. فهو يرى أن العلاقات الشخصية بين الأفراد لا تقوم في أي مجتمع من دون أساس أخلاقي، وشبكة الصلات الثقافية هي تعبير عن العلاقات الشخصية في مستوى معين، لذلك لا يمكن لهذه الشبكة أن تتكون بدون مبدأ أخلاقي. كما أن فعالية المجتمعات تزيد وتنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص وجماع القول أن المبدأ الأخلاقي هو الذي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات.

ثانياً: التوجيه أو الذوق الجمالي. حيث يرى بن نبي أن الجمال له تأثير في الروح الاجتماعية، ويشرح هذه الفكرة بقوله: >إن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات<(9). لهذا يعتبر بن نبي أن الذوق الجمالي من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه حسب رأيه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة، ويحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى.

ثالثاً: المنطق العملي. يعتقد بن نبي أن الذي ينقص الإنسان المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً. وأكثر من ذلك أنه قد يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول إلى عمل ونشاط. وليس من الصعب على الفرد المسلم -كما يضيف بن نبي- أن يصوغ مقياساً نظرياً يستخرج به نتائج من مقدمات محددة، غير أنه من النادر جداً أن يعرف المنطق العملي رأي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة بوسائل معينة.

رابعاً: التوجيه الفني أو الصناعة. يرى بن نبي أن المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي والمنطق العملي، هذه العناصر لا تكون وحدها شيئاً من الأشياء -حسب رأيه- إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه. والعلم أو الصناعة -حسب تعبير ابن خلدون- هو الذي يعطينا تلك الوسائل، ويكون عنصراً هاماً في الثقافة لا يتم بدونه تركيب عناصرها وتحديد معناها. ويدخل في هذا المفهوم كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم.

وبقطع جازم يعتقد بن نبي أن هذه العناصر الأربعة هي التي بإمكانها أن تساهم في تحديد الثقافة وتركيبها وتحويلها إلى أسلوب حياة في المجتمعات، ولسنا بحاجة -حسب رأيه- إلى عنصر آخر، وأي إضافة ستكون من فضول الحديث الذي لا حاجة إليه.

ومن الممكن القول بأن هذا التركيب للثقافة وتحديدها بتلك العناصر الأربعة، يمثل جوهر النظرية الثقافية لمالك بن نبي، ومحور لاهتمام في هذه النظرية. وجميع الأحاديث والمحاضرات والكتابات التي كان بن نبي يلقيها أو ينشرها حول الثقافة ومشكلة الثقافة كانت تدور وتتصل بهذه النظرية. وقد ظل بن نبي يكرر الحديث عن هذه النظرية، ويلفت النظر إليها باستمرار، ولاشك أنه كان ملتفتاً لهذا التكرار وقاصداً إليه. وكأنه كان يحاول تعميم هذه النظرية والتعريف بها. وذلك لثقته الجازمة بهذه النظرية وبفاعليتها وتكاملها. وباعتبار أنها تعبر عن رؤية جديدة غير مسبوقة من قبل. مع ذلك يبقى أن تكرار بن نبي كان مخلاًّ بعض الشيء بحيث تظهر مؤلفاته وكأنها متشابهة مع بعضها إلى حد كبير، لا أقل في عدد منها.

ولقد توقفت كثيراً أمام هذه النظرية لمعرفة مصادرها ومنابعها، خصوصاً وأن بن نبي لم يشرح لنا كيف توصل لهذه النظرية؟ وكيف تَعَرَّف عليها وقام بإبداعها وصياغتها؟ وكيف نضجت وتطورت عنده؟

وهذه الملاحظة تكاد تصدق على معظم أو جميع مؤلفات بن نبي التي لا يوثقها بمصادر ومراجع، ولا يُظْهر شيئاً من هذا القبيل إلاّ نادراً، كما في كتابه >وجهة العالم الإسلامي< حين تحدث في مقدمته عن كتاب >الاتجاهات الحديثة في الإسلام< للمستشرق الإنجليزي هاملتون جيب لكي يظهر التشابه معه في الموقف العام، ويتخذ منه كما يقول سنداً يؤيد به رأيه، ووصف هذا السند بأن هل وزن كبير(10).

ولا أدري إن كان بن نبي متعمداً في عدم الإشارة إلى المصادر والمراجع، وما هي حكمته في ذلك، لأن من الصعب الجزم بعدم وجود مثل هذه المصادر والمراجع.

وقد استوضحت هذا الأمر من الدكتور عبدالصبور شاهين حين التقيت به في مؤترم إسلامي عقد في طهران عام 2002م، وهو الذي جمعته معرفة مبكرة مع بن نبي، بعد وصوله إلى القاهرة، وقام بترجمة أوائل مؤلفاته من الفرنسية إلى العربية. وبدوره حدثني الدكتور شاهين عن هذه العلاقة كيف بدأت وتواصلت، وكان جوابه عن سؤالي: أن بن نبي كان يعتبر ما أنجزه من أفكار ونظريات ومفاهيم تأملاتٍ من عنده، ومن وحي فكره، وإبداع عقله.

وبعد نظر طويل وتأمل مستفيض وجدت ما يمكن اعتباره نموذج قياس لتلك العناصر الأربعة في نظرية بن نبي الثقافية، وذلك لوجود قدر من التشابه والتماثل بين ما أقصده بنموذج القياس وبين العناصر الأربعة، مع ما بينهما من تباعد زمني ومعرفي بشكل لا يمكن تصور هذا القدر من العلاقة والتشابه. وهذا النموذج يتحدد في أحد المباحث المهمة، وهو مبحث أقسام العلة الذي ينتمي إلى علمي الفلسفة والمنطق اليونانيين القديمين. حيث تقسم العلة إلى أربعة أقسام هي: العلة الغائية، والصورية، والفاعلية، والمادية. فالعلة الغائية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما له الوجود، وهي التي تحدد الدوافع والغايات. وهذا يشابه ويطابق ما يقصده بن نبي بالمبدأ الأخلاقي الذي يقرر حسب رأيه الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات. والعلة الصورية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما به الوجود، وهي التي تحدد صورة الشيء ومظهره الخارجي، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالذوق الجمالي الذي يصوغ ويحدد صوره المبدأ الأخلاقي. والعلة الفاعلية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما منه الوجود، وهي التي تحدد مبدأ الفعل والحركة، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالمنطق العملي. والعلة المادية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما فيه الوجود، وهي التي تحدد ما يحتاج إليه الشيء من عناصر لينتقل من القوة إلى الفعل، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالتوجيه الفني أو الصناعة.

ولعل هذا أيضاً ما يفسر الجزم الذي يقطع به بن نبي باكتمال المبادئ الأربعة التي قررها بصورة تامة بحيث لا يمكن الإضافة أو الزيادة عليها بأي شيء آخر. ومصدر هذا الجزء ناشئ من تمامية تلك الأقسام الأربعة للعلة.

وما يقرب من إمكانية مثل هذا التشابه أو التطابق وجود بعض الدلائل الجزئية التي تصلح أن تكون قرينة على ذلك، كاستعمال كلمة المنطق في حديث بن نبي عن المنطق العملي، والتفاتته إلى هذا الاستعمال وما يمكن أن يترتب عليه من التباس. والذي أوضحه بقوله: >لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله، ووضعت قواعده منذ أرسطو<(11).

مع العلم أن التقسيم المذكور للعلة ينسب إلى أرسطو، ويحتمل أنه أول من أشار إليه.

وما ينبغي أن يعرف أنني لست بصدد التشكيك في نظرية بن نبي، أو التقليل من أهميتها وقيمتها، خصوصاً وأن بن نبي كوّن هذه النظرية بمضمون معرفي جديد وبديع، وهو المعروف عنه أنه خبير بالثقافة وشؤونها ومسائلها، وهذا أمر لا خلاف عليه. وما كنت بصدده هو محاولة البحث عن منابع التفكير للنظرية الثقافية عند بن نبي.

-4-

الثقافة بين العلم والحضارة

ترتكز النظرية الثقافية عند مالك بن نبي على قاعدة تفكيك العلاقة بين الثقافة والعلم من جهة، وإدماج الثقافة بالحضارة من جهة أخرى. فهو حين يشرح نظريته في الثقافة فإنه يحاول التأكيد على إظهار الفروقات والتمايزات بين مكونات مفهوم الثقافة، ومكونات مفهوم العلم. وهذه القضية كانت واضحة في إدراك بن نبي وهو شديد القناعة بها، لذلك ظل ينبه عليها ويلفت النظر إليها كلما حاول تجلية مفهوم الثقافة. المفهوم الذي لا يمكن أن يكتسب قوة التحديد حسب رؤية بن نبي إلاّ من خلال الكشف عن الفروقات الدقيقة التي تميز مفهوم الثقافة عن مفهوم العلم.

ولعل منشأ هذه الضرورة هو ما يتصف به العلم من دقة ووضوح، وما تتصف به الثقافة من تعقيد وغموض. وهذا يعني أن إشكالية الالتباس ليست في العلم وإنما في الثقافة. وإشكالية الثقافة لا يمكن تحليلها ومعالجتها إلاّ من خلال اقترانها بالعلم. وكأن مهمة الثقافة هي أن تستقل عن العلم وتتمايز عنه، حتى يكون لها هويتها الخاصة، ومهمتها التي تنفرد بها عن العلم. لأن الثقافة شيء يختلف عن العلم، ومنطق الثقافة يختلف عن منطق العلم، وحكمة الثقافة تختلف عن حكمة العلم، ودون الكشف عن هذا الاختلاف يكون من الصعب معرفة منطق الثقافة وحكمتها.

لهذا فإن في كل مرة يتحدث فيها بن نبي عن الثقافة يبدأ أولاً برفع الخلط الذي يصفه بالخطير بين كلمة الثقافة وكلمة العلم. وظل يكرر الحديث في هذا الموضوع ويتوسع فيه سعياً نحو بلورته وتنضيجه والتأكيد عليه. ففي كتابه >شروط النهضة< وهو من أسبق مؤلفاته التي تحدّث فيه عن نظريته في الثقافة. وقبل أن يشرح فكرته عن الثقافة اعتبر أن تحديد الثقافة لا أثر له إلا إذا زال ذلك الخلط الخطير الشائع في العالم الإسلامي بين ما تفيده كلمتا ثقافة وعلم(12). وهذا الربط لا يرتفع حسب رؤية بن نبي إلاّ بعد ربط الثقافة بالحضارة ربطاً وثيقاً، وعلى أساس هذا الربط تصبح الثقافة كما يقول نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن قياس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم(13).

وقد رجع بن نبي مرة أخرى لهذه الإشكالية في كتابه >من أجل التغيير< ليقدم حولها شرحاً أكثر تحديداً بعض الشيء، ويكون منطلقه أيضاً وضع حد لما يصفه بالبلبلة الفكرية المضرة جداً، والتي تجعل من كلمة ثقافة مرادفاً لكلمة علم والعلم حسب رأيه يعطي المعرفة، ويعطي اللباقة والمهارة، وفقاً للمستوى الاجتماعي الذي يتم عليه البحث العلمي، ويعطي امتلاك القيم التقنية التي تولد الأشياء. أما الثقافة فإنها تعطي السلوك والغنى الذاتي الذي يتواجد على كل مستويات المجتمع، وتعطي امتلاك القيم الإنسانية التي تخلق الحضارة. ويؤسس على ذلك أن الثقافة والعلم ليسا مترادفين. والثقافة عنده تولد العلم دائماً، والعلم لا يولد الثقافة دوماً، ولا يمكن استبدال أحد المفهومين بالآخر. وهذا التمييز يعتبره بن نبي أساسياً من زاويتين، من زاوية وضع برنامج يهدف إلى الارتفاع بثقافة بلد ما إلى أعلى مستوى من مستويات الحضارة. ومن زاوية فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية(14).

هذا من حيث الفروقات الكلية والعامة، وأما الفروقات التفصيلية والأكثر تحديداً فقد تحدث عنها بن نبي في كتابه >تأملات< الذي قدّم فيه أوضح تحليل لعناصر ومكونات نظريته في الثقافة بتأكيد الفروقات التي يصفها بالجوهرية بين الثقافة والعلم. فحين يتحدث عن المبدأ الأخلاقي وهو العنصر الأول في نظريته الثقافية، يشير إلى الفروقات بين الثقافة والعلم من هذه الناحية. ويرى أن الثقافة تقوم بتحديد الصلات بين الأفراد، بينما يقوم العلم بتحديد الصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء. ويوضح بن نبي هذا الفرق في تباين السلوك الذي يظهر بين الرجل العالم والرجل المثقف. فالرجل العالم حسب قوله قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة، غير أنه لا يجد في نفسه الدوافع التي تجعله يتصورها عملاً، في حين أن الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يكوّن أساس ثقافته إلى عمليتين، عملية هي مجرد علم، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل.

ومن ناحية الذوق الجمالي وهو العنصر الثاني في نظريته يظهر فروقات أخرى بين الثقافة والعلم. حيث يرى أن العلم تنتهي مهمته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثقافة تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها. لهذا يعتبر بن نبي الذوق الجمالي من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة لأنه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة.

أما من ناحية المنطق العملي وهو العنصر الثالث، فإن تطبيق هذا العنصر يتضمن كما يقول بن نبي فكرة الوقت والوسائل البداغوجية لبث هذه الفكرة في السلوك، وفي أسلوب الحياة في المجتمع. ويعتبر بن نبي أن هذا المبدأ سيزيد في وضوح الخلاف البعيد على حد وصفه بين الثقافة والعلم، وبالتالي بين الفرد المثقف والفرد العالم والمتعلم.

ومن ناحية التوجيه الفني أو الصناعة وهو العنصر الرابع، ويقصد به أيضاً العلم الذي يعطي الوسائل، ويشرح كيفية تطبيق الأصول النظرية للعمل. وهذا يعني أن بن نبي يعتبر العلم جزءاً من الثقافة.

وبهذا يكون بن نبي قد حسم رؤيته في تحليل وتحديد الفروقات بين الثقافة والعلم. وانتهى إلى الانتصار بقوة للثقافة، وأنها ليست جزءاً أو رديفاً أو تابعةً للعلم. وإنما هي أكثر أهمية وفاعلية من العلم. كما واعتبر العلم عنصراً من عناصر فكرته عن الثقافة، وهذا يعني هيمنة الثقافة في نظرية بن نبي على العلم وتفوقها عليه.

والملاحظ هنا أن الجهد الأساسي الذي بذله بن نبي كان يتركز بصورة أساسية على تحديد فكرة الثقافة، وتفسير ذلك لأن الثقافة هي التي بحاجة إلى ضبط وتحديد بسبب ما يكتنفها من غموض وتعقيد. في حين أن العلم لا يكتنفه ما يكتنف الثقافة من غموض وتعقيد، لذلك فهو لا يحتاج إلى جهد كبير ليكون أكثر ضبطاً وتحديداً.

وهناك ملاحظة أخرى بحاجة إلى تفسير أيضاً، وهي أن بن نبي قد بذل جهداً وضحاً في الكشف عن الفروقات الأساسية بين العلم والثقافة، لكن هذا الجهد لم يكن واضحاً بالقدر الكافي في الكشف عن الارتباط الذي يصفه بن نبي بالوثيق بين الثقافة والحضارة. وكأن في إدراك بن نبي أن هذا الارتباط ليس بذلك التعقيد والغموض الذي يراه بين العلم والثقافة، وبالتالي فهو لا يحتاج لشرح مفصل أو موسع. ويمكن أن نضيف تفسيراً ثانياً يكون عاماً وشاملاً وذلك حين نعتبر أن المنظومة الثقافية التي يشتغل عليها بن نبي قائمة أساساً على العلاقة والربط بين الثقافة والحضارة. الربط الذي يتجلى في مجموع أفكاره وتصوراته كما صنفها وشرحها في مؤلفاته ومحاضراته والتي تجعل من مفهوم الحضارة محوراً لها. المفهوم الذي عبر عن محوريته حين أطلق بن نبي تسمية مشكلات الحضارة كعنوان يعبر عن الإطار العام لجميع مؤلفاته. والثقافة في رؤيته هي متفاح الحضارة. لذلك لم يكن في حاجة لأن يبذل جهداً في شرح هذا الربط بين الثقافة والحضارة.

 -5-

تعريف الثقافة ومفهومها

من التحليل النفسي للثقافة إلى التركيب النفسي للثقافة، ومن الكشف عن الفروقات بين الثقافة والعلم إلى الكشف عن الارتباط بين الثقافة والحضارة، وبعد مناقشات ومقاربات مستفيضة وناضجة لأفكار وتصورات حول الثقافة تنتهي لمدارس فكرية وفلسفية رأسمالية وماركسية، ينتمي بن نبي إلى تعريف للثقافة يصفه بالشامل، ويحدده بصورة عملية كما يقول، وهو أنها تعني >مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه< وبهذا التعريف تصبح الثقافة كما يضيف بن نبي ذلك المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، والمحيط الذي يعكس حضارة معينة، ويتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. ويعتبر بن نبي أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان ومقومات المجتمع(15).

والمقصود بفلسفة الإنسان تلك النزعة الفردية الحاكمة على الثقافة الغربية والمؤثرة في تكوين رؤيتهم للثقافة. ففي الغرب كما يقول بن نبي يعرفون الثقافة على أنها تراث الإنسانيات الإغريقية اللاتينية، بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان، والثقافة في رأيهم هي فلسفة الإنسان.

والمقصود بفلسفة الجماعة تلك النزعة الاجتماعية الحاكمة على الثقافة الاشتراكية، والمؤثرة في تكون رؤيتهم للثقافة. ولهذا يعرفون الثقافة في البلاد الاشتراكية كما يقول بن نبي في تكوين رؤيتهم للثقافة. ولهذا يعرفون الثقافة في البلاد الاشتراكية كما يقول بن نبي على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، والثقافة في رأيهم هي فلسفة المجتمع.

ويرى بن نبي أن هذين التعريفين يعدان من الوجهة التربوية مشتملين على فكرة عامة عن الثقافة، دون تحديد لمضمونها القابل لأن يدخله التعليم في عقلية الجماعة(16).

ولأن طبيعة المشكلة الثقافية في المجتمعات العربية والإسلامية تختلف كلياً من الناحية التاريخية والحضارية عن غيرها من المجتمعات الغربية والاشتراكية، لذلك لا يمكن الأخذ والاكتفاء بتعريف تلك المجتمعات للثقافة والأكفاء به. ولهذا نجد أنفسنا كما يقول بن نبي منساقين مع طبيعة المشكلة الخاصة بالبلاد العربية والإسلامية إلى تطبيق منهج آخر، هو المنهج الذي يستخدم في تعريف الشيء المعقد. والمقصود بهذا الشيء المعقد عند بن نبي هو أننا لا يمكننا أخذ الثقافة بصورة واحدة، ولا يكفي كما يقول أن تكون صورتها لدينا مجموعة من الأفكار، أو مجموعة من الأفكار والأشياء على الطريقة الأمريكية، كما لا يكفي أن تكون انعكاساً للمجتمع على الطريقة الماركسية. لذلك -وهذا ما يريد أن يصل إليه بن نبي- نجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننظر للمشكلة في اتجاهين، أو ثلاثة اتجاهات، حتى يتسنى لنا ضم عناصرها النفسية وعناصرها الاجتماعية، ومن ثم تحديد العلاقة الضرورية بين هذه العناصر جميعاً، وأخيراً لكي نصوغ هذه العلاقة صياغة تربوية وافية، تجعل التعريف قابلاً للتنفيذ(17).

ولكي نفهم التعريف الذي يطرحه بن نبي للثقافة، ونمتلك القدرة على تكوين وجهات النظر حوله، نحتاج أولاً إلى تحليل عناصر ومكونات التعريف حتى يكون واضحاً ومتجلياً. وهو يتكون من العناصر التالية:

أولاً: مجموعة من الصفات الخلقية. يبدأ تعريف الثقافة عند بن نبي بهذا العنصر، لأنه يعتقد أن أساس كل ثقافة هو بالضرورة تركيب وتأليف لعالم الأشخاص. وهذا التأليف يحدث طبقاً لمنهج تربوي يأخذ صورة فلسفة أخلاقية، والأخلاق والفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة(18).

ثانياً: والقيم الاجتماعية. يعتقد بن نبي أن عالم الأشخاص لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعال، إلاّ إذا نُظم وتحول إلى تركيب. والفرد المنعزل حسب رأيه لا يمكن أن يستقبل الثقافة، ولا أن يرسل إشعاعها. وفي المجال الاجتماعي فإن الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلاّ إذا تآلفت أجزاؤها وأصبحت تركيباً، فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبداً(19).

ثالثاً: التي تؤثر في الفرد منذ ولادته. يذهب بن نبي إلى أن الفرد منذ ولادته يكون غارقاً في عالم من الأفكار والأشياء التي يعيش معها في حوار دائم. فالمحيط الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية، تكوّن في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملغزة، لكن سرعان ما تصبح بعض عباراتنا مفهومة لنا ولمعاصرينا، عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر(20).

رابعاً: وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. وفي هذا الشأن يرى بن نبي أن مقاييسنا الذاتية التي تتمثل في قولنا: هذا جميل وذاك قبيح، أو هذا خير وذلك شر. هذه المقاييس هي التي تحدّد سلوكنا الاجتماعي في عمومه، كما تحدد موقفنا أمام المشكلات قبل أن تتدخل عقولنا. إنها تحدد دور العقل ذاته إلى درجة معينة، وهي درجة كافية تسمح لنا بتمييز فاعليته الاجتماعية في مجتمع معين. أي أنها تحدّد في الواقع المباني الشخصية في الفرد، كما تحدّد المباني الاجتماعية، أو ما أطلقنا عليه أسلوب الحياة(21).

هذا التعريف للثقافة ينطلق ويتأسس من طريقة النظر عن بن نبي للثقافة التي يرى أنها جو من الألوان والأنغام، والعادات والتقاليد والأشكال والأوزان والحركات، التي تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً وأسلوباً خاصاً يقوى تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة، وأنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه(22).

وقد توقفت كثيراً أمام هذا التعريف، وبقيت أرجع إليه، وأقلب النظر فيه فاحصاً ومتأملاً، وفي الأخير وجدت نفسي لا أقنع بهذا التعريف، ولا أراه لامعاً أو خلاقاً. فحين نقول: إن الثقافة هي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية. والسؤال: ما هي هذه الصفات الخلقية التي تكون أكثر قرباً واتصالاً بالثقافة؟ وما هي أيضاً تلك القيم الاجتماعية؟ لأن الأخلاق تمثل حقلاً وعلماً مستقلاً ومكتملاً، قد يتقاطع مع الثقافة لكن هذا التقاطع بحاجة إلى ضبط وتحديد. وهكذا الحال مع القيم الاجتماعية التي تتصل بعلم الاجتماع أو بفلسفة القيم، وهما من الحقول المعرفية المستقلة والمكتملة أيضاً.

وكون هذه الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية تؤثر في الفرد منذ ولادته فهذا التأثير تشترك فيه عناصر كثيرة ومتشابكة بشدّة، قد تتصل بالثقافة وتتقاطع معها بوجه من الوجوه ولكن ليس بالضرورة بشكل مباشر وقريب.

وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. فهذا يتصل بالثقافة كما يتصل بالنظام الاجتماعي العام الذي يفرض نمطاً سلوكياً وأسلوباً في الحياة الاجتماعية.

وخلاصة القول: إن هذا التعريف للثقافة يتصف بعمومية شديدة، ولعل منشأ هذه الصفة هو اهتمام بن نبي في أن يكون التعريف شاملاً، كما أنه يفتقد إلى الضبط الدقيق والتحديد الصارم. ولاشك أن هذه مهمة صعبة، وتزداد صعوبة في موضوع الثقافة بوجه خاص. وهذه الملاحظة لا تسلب صفة التعريف بالتأكيد، وإنما لا ترى فيه خاصية التعريف المحكم. مع ذلك يبقى هذا التعريف من التعاريف المعتبرة، والتي لابد من الرجوع إليها إلى جانب التعريفات الأخرى. وليس هو أيضاً التعريف الذي يتفوق على التعريفات الأخرى أو يتقدم عليها، وإنما قد يوازيها ويجاورها. كما يمكن القول: إن بن نبي كان متميزاً في تحليله للثقافة، لكنه لم يكن بذلك التميز في تعريفه لها.

-5-

إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند مالك بن نبي؟

لقد كانت نظرية الثقافة عند بن نبي واحدة من أشهر النظريات الثقافية التي ظهرت في العالم العربي، وأكثرها خبرة ونضجاً وتماسكاً، واكتسبت تميزاً خصوصاً مع غياب هذا النمط من النظريات إبداعاً واكتشافاً على مستوى الدراسات الثقافية في العالم العربي. مع ذلك بقيت هذه النظرية على حالها ولم تشهد تطوراً وتقدماً او تراكماً وتجدداً مهماً لا من الناحية المعرفية والمنهجية، ولا من الناحية التحليلية والنقدية. وانتهت إلى وضع جامد. ومازالت هي على هذا الحال بدون تحريك أو تجديد.

والذي كرس هذا الوضع الجامد هو طريقة التعاطي مع تلك النظرية. التعاطي الذي لم يكن فعالاً من الناحية النقدية، أو معرفياً من الناحية التحليلية. وقد تحدّد هذا التعاطي في ثلاثة اتجاهات، هي:

أولاً: الاتجاه الذي يتوافق مع النظرية ويتناغم معها، ويدافع عنها، وينبهر بها أحياناً. وهذا هو الاتجاه الغالب في الدراسات والكتابات التي أنجزت حول أفكار بن نبي ومنظومته الثقافية. وينطلق أصحاب هذا الاتجاه من أهمية وقيمة وفاعلية الأفكار والمفاهيم والتصورات التي توصل إليها بن نبي في مجالات الثقافة والحضارة والاجتماع، وضرورة التعريف بهذه الأفكار والتواصل معها.

وإلى بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين كان في تقدير البعض أن فكر بن نبي يتعرض لنوع من الإهمال أو الإقصاء أو التعتيم. وهذا ما عبر عنه بعض الكتاب، وكان دافعاً لهم في إنجاز كتابات ودراسات حول فكرة وسيرته. ومن هؤلاء الدكتور أسعد السحمراني الذي خصص رسالته للدكتوراه حول بن نبي، وكانت بعنوان >مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً<، ونشرها عام 1984م. وعن اختياره لهذا الموضوع يقول: >لم يلقَ مالك بن نبي الاهتمام الكافي من الدارسين، مما حرم جيلاً من شعبنا من الاستفادة بفكره ومشروعه الإصلاحي. إنه من الصعب لا بل من النادر أن تجد ذكراً له في الكتابات المتعددة والمتنوعة، أو أن تقرأ لكاتب أعطاه بعضاً من حقه. لقد كان اختيارنا للموضوع توخياً للفائدة، وإبراز الأسس لمشروع إصلاحي عند واحد من المغمورين<(23).

وحين يشرح سليمان الخطيب دوافع اختياره للكتابة عن بن نبي في رسالته للدكتوراه يقول في أول نقطة: >إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل تجاه فكر مالك بن نبي ونشره في ربوع العالم الإسلامي، وذلك يدل على أهمية هذا المفكر التي تحاول الدوائر العلمانية والتغريبية أن يظل في منأى عن التناول والتحليل<(24). ويرى الخطيب أن النخب المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلاّ القليل من فكر بن نبي وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية.

وفي عام 1990م نشر الدكتور وجيه كوثراني مقالة بعنوان >لماذا العودة إلى مالك بن نبي< دعا فيها إلى العودة والقراءة الجديدة لفكر بن نبي، والتي تحتمها -حسب رأيه- اعتبارات عديدة. منها أن مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافية الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، وبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي. وأنه لم يقرأ جيداً وبموضوعية لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة(25).

ومن طبيعة هذه الدوافع أنها تحدد طريقة للتعاطي مع أفكار بن نبي يغلب عليها جانب الاهتمام بالتعريف والتبليغ والتبشير. وهذا هو الجهد الأساس الذي قام به من يصنفون على هذا الاتجاه، وأنهم قد أنجزوا قسطاً كبيراً من ذلك الدور، بحيث لم تعد تلك المهمة بذلك الإلحاح التي كانت عليه من قبل. لهذا كان من المفترض أن تظهر قراءات جديدة تحاول الإضافة على ما قدمه بن نبي والبناء عليه، والعمل على تطوير وتجديد نظرياته وأفكاره، والتعاطي النقدي معها أيضاً وهذا الذي لم يحدث. لهذا فإن بقاء مثل تلك القراءات التبجيلية والاهتمامات التوصيفية لم يعد فعالاً في التعاطي مع أفكار بن نبي.

ثانياً: الاتجاه الذي يتعارض مع نظرية بن نبي وعموم منظومته الثقافية. وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الكشف عن بعض الأخطاء والعيوب الفكرية والثقافية في مؤلفات بن نبي، ولفت الأنظار إليها، لعله بقصد الحد من توسع وامتداد أفكار بن نبي من جهة، والحد من جاذبية ولمعان تلك الأفكار من جهة أخرى. وهذه الأخطاء المقصودة هي أفكار ومفاهيم تفسر بطرق ملتبسة. ومن هذه المفاهيم مفهوم القابلية للاستعمار الذي فسره البعض على أنه يبرر للاستعمار، أو يدعو لمهادنته، في حين يفسره بن نبي على خلفية أن الاستعمار هو نتيجة وليس سبباً، والمشكلة هي في الذات وليس في الاستعمار نفسه، وحسب قوله: أخرجوا الاستعمار من نفوسكم يخرج من أرضكم. وهكذا النظر لمفهوم التراب الذي اعتبره بن نبي أحد عناصر الحضارة إلى جانب عنصري الإنسان والوقت، في حين فسره البعض أن بن نبي يبالغ في أهمية الجانب المادي في بناء الحضارة. وهكذا النظر لمبدأ الذوق الجمالي الذي عده بن نبي من عناصر الثقافة. وفسره البعض بأنه من ملامح تأثر بن نبي بالفكر الغربي الذي يبالغ في تقديس مفهوم الجمال.

والملاحظ على هذا الاتجاه أنه لم يقدّم نقداً معرفياً لنظرية الثقافة عند بن نبي والمنظومة الثقافية بصورة عامة. ولم يساهم في تطوير أو تحريك التعامل النقدي والنظر التحليلي أو القراءة العلمية والمعرفية لأفكار ونظريات بن نبي.

أساساً لم تكن هذه هي دوافع أصحاب هذا الاتجاه، ولم تظهر تلك الملامح على كتاباتهم والبعض منهم كان ينطلق من دوافع سياسية، فعلاقة بن نبي مع حكومة عبدالناصر في مصر بعد انتقاله إليها قادماً من فرنسا عام 1956م، هذه العلاقة ألَّبت عليه بعض الجماعات الإسلامية التي دخلت في صراح سياسي مع حكومة عبدالناصر. كما أن بعض الجهات لم يكن يريحها جاذبية أفكار بن نبي خصوصاً بين أوساط المثقفين الشباب.

والمثال الذي يصنفه البعض على هذا الاتجاه هو كتاب >الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم< لغازي التوبة الصادر عام 1977م. الكتاب الذي اعتبرته مجلة الشروق الإسلامي الصادرة بالولايات المتحدة الأمريكية في مقالة نشرتها عن مالك بن نبي عام 1985م، بأنه قد ساهم وبشكل واضح الأثر في صد الشباب عن الإقبال على بن نبي، وذلك نتيجة تقويمه المتحامل عليه.

ثالثاً: الاتجاه الذي يتجاهل نظرية بن نبي ومنظومته الثقافية ولا يحاول الاقتراب منها، أو الاحتكاك بها بأية صورة كانت بما في ذلك الصورة النقدية. فلم يتطرق سمير لهذه النظرية أو صاحبها في كتابه >نحو نظرية للثقافة<، وهكذا محمد عابد الجابري في كتابه >المسألة الثقافية في الوطن العربي<، ومحمد أركون في كتاباته حول الإسلاميات المعاصرة. وهكذا العديد من الدراسات والكتابات العربية الأخرى. وهذا التجاهل من الصعب التبرير له، خصوصاً وأن هؤلاء لم يقدموا نظريات تتجاوز نظرية بن نبي في الثقافة أو تتفوق عليها. وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء أو بعضهم يتثاقفون مع النظريات الغربية، ويرجعون لأفكار المفكرين الغربيين، وفي المقابل كانوا يتجاهلون النظريات والأفكار التي تنتسب إلى المفكرين الإسلاميين ومنهم مالك بن نبي الذي من الصعب تجاهل نظريته في الثقافة. وقد أثر هذا التجاهل على تحريك منهجية التعاطي النقدي مع تلك النظرية، أو تحريكها بصور مختلفة، وبمنهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يرجع إليها أولئك المفكرون العرب ويتقنون التعاطي معها، والاستفادة منها.

لذلك ظلت نظرية الثقافة عند بن نبي جامدة، ومازالت هي على هذا الوضع دون الإضافة عليها، أو الانطلاق منها نحو أفكار جديدة، أو إبداع ما هو أرقى منها، أو تكميلها. والذين ورثوا أفكار بن نبي ونظرياته ظلوا يمجدونه ويعرِّفون به، ويدافعون عنه أمام خصومه ومنتقديه، ولكن لم يظهر من هؤلاء من يضيف إلى أفكاره ونظرياته، أو يجدد فيها، أويبدع من خلالها أو يكملها أو غير ذلك.

ومن جانب آخر: إن العالم العربي، وفي نطاق الفكر الإسلامي بوجه خاص، يفتقد إلى نظريات في الثقافة يمكن لها أن تنازع أو تزاحم أو تحل مكان نظرية بن نبي في الثقافة. ومن بعد بن نبي لم تظهر نظرية في الثقافة تنتمي إلى المنظومة الإسلامية، الأمر الذي يكشف عن ضعف شديد ينبغي العمل على تداركه، والتغلب عليه من خلال مضاعفة الاهتمام بحقل الدراسات الثقافية.

والذي ينبغي أن يعرف أنني بهذا السياق من القراءة والتحليل لم أكن بصدد التقليل من أهمية وقيمة نظرية الثقافة عند بن نبي، وإنما كنت بصدد السعي نحو ألاَّ تصل هذه النظرية إلى حالة من الجمود والتوقف، أو نصل نحن إلى حالة التوقف عن الإبداع والتجديد. الأمر الذي يتطلب تغيير طريقة التعاطي ومنطق التعامل مع نظرية بن نبي ومنظومته الثقافية بشكل عام، من أجل قراءة معرفية جديدة.

 

 

الهوامش:

?(1) انظر كتاب: مشكلة الثقافة. مالك بن نبي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2000م، ص11.

(2) المصدر نفسه. ص139.

(3) المصدر نفسه. ص37.

(4) المصدر نفسه. ص8.

(5) المصدر نفسه. ص36.

 

(6) المصدر نفسه. ص87.

(7) المصدر نفسه. ص77.

(8) المصدر نفسه، ص67.

(9) المصدر نفسه. ص82.

(10) انظر كتاب: وجهة العالم الإسلامي. مالك بن نبي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص17.

(11) مشكلة الثقافة. ص85.

(12) شروط النهضة. مالك بن نبي، ترجمة: عمر مسقاوي وعبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2000م، ص88.

(13) المصدر نفسه. ص88.

(14) انظر كتاب: من أجل التغيير. مالك بن نبي، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص54.

(15) مشكلة الثقافة. ص74.

(16) المصدر نفسه. ص73.

(17) المصدر نفسه. ص43.

(18) المصدر نفسه. ص63.

(19) المصدر نفسه. ص64.

(20) المصدر نفسه. ص55.

(21) المصدر نفسه. ص53.

(22) المصدر نفسه. ص103.

(23) مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً. أسعد السحمراني، بيروت: دار النفائس، 1984م، ص8.

(24) فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي. سليمان الخطيب، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1993م، ص8.

(25) لماذا العودة إلى مالك بن نبي؟ الذاكرة والنسيان والتواصل في المشروع العربي الإسلامي. وجيه كوثراني، مجلة رسالة الجهاد، ليبيا، السنة الثامنة، العدد 86، مارس 1990م.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة