تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

نحو أركيولوجيا مستقبلاتية - محاولة في النقد المستقبلاتي العربي -

هاني ادريس

أن نكون بلا مستقبل، هذا يعني أن نكون بلا تاريخ. وحدها الكيانات التي لم تستطع أن تكوِّن لنفسها وعياً بتاريخها، تجد نفسها أمام هذه >النيهيلية< الجديدة، التي باتت تعرف اليوم بالمستقبليات أو علم المستقبل - Futurologie -. فهل يا ترى، سندخل المستقبل من دون وعي كما لم نشأ أن نؤسس لنا وعياً تاريخياً.. أم سنقبل به برسم الحتمية التي استسغناها كي نؤسس لنا علم كلام جديد يقوم على عقيدة الجبر مثلما استسغنا ذلك عبر تاريخنا. وإلى أي حد يمكن للعقل العربي وقد استكان للوصاية التاريخية، أن يدخل في عهدة وصاية جديدة للمستقبل. فهل نحن مؤهلون لصناعة مستقبلنا، أم سنكون أمام حتمية ضرب من المستقبل الممنوح.

إن مأزق الإنسان العربي اليوم، هو مأزق وجودي أمام صدمة حداثة، فرضت شروطاً أخرى على كيفية عيشه في عالم لم يعد يسمح بالاستكانة إلى شروط العيش القديم. أن نعيش كما نريد وبأي كيفية نريد، ولو ككيان خارج التغطية التاريخية وفي حلٍّ من أمره حيال متطلبات العالم الحديث. ربما قد تكون تلك من الوجبات المغرية للأنثربولوجيا الجديدة، التي هي على كل حال علم أوربي كما يقال؛ علم يؤسس لاستقالتنا ويدعم مأزقنا التاريخي بميثولوجياته التي هي أشبه بميثولوجيات المجتمع الوحشي(1) لكن المهام التي تفرض نفسها علينا، هي أعقد وأعمق من أن نُبقي على رهاناتنا داخل ديوان الحماسة. الحد الأدنى من تقليص الفجوة بيننا وبين مستقبل نجد بعض صور ممكناته في الآخر المتقدم. وعلينا أن نعلن بأننا نرفض هذه الاستقالة الوحشية اللاتاريخية التي أغرت الهاربين من انسدادات التمركز الغربي، كي تجد مبررات ثورتها >النيهيلية< الحداثية، في ارتضاء سُكنى الهامش. نحن نتوق إلى المستقبل في فضاء ممكناته المتاحة، التي ضاعت في خضم هذه الإيديولوجية التاريخانية والأنثروبولوجية البنيوية، سواء بسواء؛ هذه تسخر من تخلفنا، وتلك >تصفق< له.. هذه ترهننا لنموذجها المطلق وتلك ترهننا للعمائية المطلقة(2). لقد ضاعت تلك الممكنات مع الأولى حينما خَطَّت للنوع خطًّا فريداً حاجبة بذلك فضاء الممكن. وضاعت مع الثانية لما انزاحت لنحت أكواخ على ذوقنا خارج فضاء المشاركة التاريخية تزكية لفكرنا الوحشي وحقه في التوحش. ليجرف ما هو لا تاريخي بما هو تاريخي في إيقاعه الأدنى أو مساره الممكن. وهكذا بات العالم أمام خيارين: إما التطور برسم >النيهيلية< وعلى إيقاع التحطيم الذاتي للنوع، وإما توحش واغتراب في السكونية والحلولية الطبيعانية. حيث ما يؤخذ على تشيؤ الحضارة الحديثة هو نفسه ما نؤاخذ عليه مبدأ المشاركة أو الإحيائية الطبيعانية الحلولية. فالذين وصفوا الحداثة بالتشيؤ - Fêtichisme -، كانوا يصفونها بمظهر من مظاهر الكيانات الوحشية(3).

وكما استنكرنا أن نكون حداثيين >نيهيليين< على النمط الدارويني النيوليبرالي(4)، حيث اختزل الحداثة في مسارب >نقدانية<(5)، ونفايات وتلوث ورعب نووي يكدر صفو هذه الأبيقورية المستحدثة(6).. فإننا نتساءل في الوقت نفسه: ماذا لو أصبح العالم جميعاً، في حالة آكلي لحوم البشر؟!! إنها الصورة نفسها. فثورتنا يجب أن تكون ضد هذا الانسداد الأعظم. على عالم يتوحش في تاريخانيته وعالم يتوحش في استقالته وسكونيته. إن مهامنا لا تقف على أحكام الاستشراق التقليدي النمطي، ولا في فانتازيات الانثربولوجيا البنيوية على أهميتها وثورتها المنهاجية الكبرى. فمهامنا تقع في الخط الفاصل بين هول التاريخانية وسبات البنيوية.. إنه نحت لصورة لا تقع هنا أو هناك.. إنها صورة الممكن، الذي وحده يتيح للعقل انبثاقه وفعله المستدام. وإذا اعتبرنا أن مهمتنا هي اليوم وبخلاف ما تحدث عنه أبو يعرب المرزوقي، ليست في منزلة >الكلي< بل في منزلة >الممكن< في ثقافة الأمم وحضاراتها(7) -لأن المستقبل هو فضاء للممكن لا للكلي- فإننا سنكف عن اعتبار صورتنا المستقبلية قد تمت واكتملت في حاضر غيرنا. ذلك الحاضر الذي كان محل إمكان غيرنا أو كان بالإمكان أن يكون محل إمكان بالنسبة لنا فيما لو كنا لم نقف على فضاعاته. نريد أن نتقدم، لكن ليس برسم هذا المستقبل الممنوح؛ المستقبل المنمذج والنمطي الذي يخدعنا ويستفزنا فيما هو يناور في رسم مستقبلنا في ذيل حاضره ومستقبله لاستكمال روابط التبعية له في الزمان والمكان(8). إننا لا نريد أن نتقدم باتجاه مستقبل هو واجب لا ممكن في مسارات نمونا. إن الإمكان إذا وجد فمعناه أنه وجب له الوجود. وما يقدم لنا في صيغة مستقبل ممنوح هو ضرب من الواجب لا الممكن. على أن الأمم تتقدم من خلال وعيها بأهمية الإمكان. إنه مستقبل نراه في حاضر غيرنا ونتأمل انسداده. ولأنه ممكن ممتنع في حقنا بعد أن أصبح لهذا الضرب من التقدم ضريبة تدفعها الأمم، وجهاز رقابة يفرض شروطه المستحيلة وإكراهاته القاسية على برامجها التنموية. إنه لا يريد لنا مستقبلاً حتى بمستوى حاضره، إنه يريد لنا مستقبلاً ممنوحاً، هو بالأحرى صورة مشوهة عن حاضره، أو مستقبل أدنى ملحق بمستقبله. إنها حالة من التمركز الزماني الذي يسعى الآخر من خلاله إلى استكمال دورة التمركز الكلي. لنبحث عن الإمكان الآخر، ولنناور من أجله.

إن ذلك ليس دعوة للاستهانة بالحداثة بوصفها أهم حدث حققه الإنسان المعاصر في فترة وجيزة من التاريخ. إنها دعوة لاستيعاب الحداثة بصورة أعمق تتيح لنا تجاوز معضلاتها بأقل الكوارث، ودون أن يكون فعل التجاوز سقوطاً لنا في سبات الأنثروبولوجيا البنيوية. إن تدارك الأخطاء واستيعاب معضلات الحداثة وإدراج استراتيجيا للوقاية من منزلقاتها في سياسة التحديث هو من الحداثة لا من غيرها. إننا نريد أن نتقدم على ضوء الأحلام التي حلم بها كل الأنواريين بشكل من الأشكال. لكن هذه الأحلام لا تعمل بانفصال عن النسق. إن المستقبل الممكن الذي نسعى إليه هو مستقبل بحجم مشروع الإنسان. لأن مشروع الإنسان هو مشروع ممكن مستدام. وربما تعين الوقوف عند العبارة الأولى؛ أي >الأحلام لا تعمل بانفصال عن النسق<، وهي العبارة التي ألخص بها جواباً ممكناً عن عبارة تلخص أيضاً مشروع يورين هابرماز: الحداثة مشروع لم ينجز! فالنظر إلى المبادئ والقيم والمعايير وأحيانا الأحلام كنثارات من شأنه أن يبرز الوجه المغشوش للحداثة نفسها. إن ما طرح في الأنوار لم يعد كما كان تعبيراً عن انبثاق الوعي بالتحرر من أشكال الوصايات الموجود حينئذ. بل إن أحلام الأنوار سرعان ما استدمجها النسق عبر سلسلة من الثورات العلمية والاجتماعية والسياسية، ما جعل من تلك الأحلام مجرد تعبيرات وظيفية يتحكم بها نسق ناهض على نمط جديد وشمولي للسيطرة.

? المستقبليات؛ ومأزق الوصايات الحداثوية

ربما قد يبدو منذ الوهلة الأولى، أن الاهتمام بسؤال المستقبل، هو جوهر الحداثة من حيث هي بحث في الإمكان. وتلك هي السمة العمدة للحداثة كما لخصها كَانْتْ في سؤاله: ما الأنوار؟ إنها حدث كوبرنيكي في الكون الإنساني، قوامه رفع الوصاية عن الإنسانية كماهية فاعلة. لكن تُرى، إلى أي حد أمكن الإنسان الحديث الذي تحرر من إكراهات التحكم والوصاية أن تتسع دائرة الإمكان أمامه؟ لقد حررت الأنوار الإنسان الأوربي من وصاية الكنيسة؛ من هيمنة الإكليروس والوصاية الباطرياركية، لكنها أدخلته في مسلسل جديد من الوصايات. إنه انفتاح على إمكانات محددة ومفروضة وليس على الإمكان المفتوح الذي ظل متعلقاً لكل الأحلام الجميلة والساذجة لرواد النهضة والتنوير. وبينما كان الإنسان يتعالى ميتافيزيقياً على عالم الأشياء، أصبح في دورة الاستلاب والتشيؤ يتهاوى بشكل ميتافيزيقي مقنع، إلى ما تحت عالم الأشياء. فمن هو يا ترى اليوم من يملك - في ظل سيادة الحداثة النمطية - الحلم بعالم الممكنات خارج الطوق الذي فرضته إيديولوجيا نهاية التاريخ.. ومن هو يا ترى، ذلك الذي يملك اليوم التجرؤ على مجاوزة الرجل الأخير؟! لقد أدرك الفلاسفة منذ ابن سينا، أن ماهية الإمكان، هي هو، من حيث كونه مشروع وجود ومشروع عدم في معادلة تساوي النسبة إلى الوجود والعدم. فالماهية أو الإمكان من حيث هي أو هو، لا موجودة ولا معدومة. والأمر نفسه فيما يتصل بالإمكان الاستقبالي. فسيناريوهات المستقبل اليوم، هي خارج عهدة الإمكان اللامشروط، وخارج عهدة حتى الإمكان الاستقبالي. إنها سيناريوهات موجهة ومفروضة سلفاً، وهي داخلة فيما يجب أن يكون. ويمكننا إجمال القول في ضروب الوصايات الجديدة التي من شأنها أن تعيق مستقبل الإنسان، وأعني تحديداً هنا الإنسان في مجالنا العربي والإسلامي والنامي بشكل عام:

- الوصاية الجديدة برسم الاستهلاك، حيث الاستهلاك هو ميثولوجيا الرجل الأخير. وكما أطنب في ذلك جان بودريار، حول مفهوم >استهلاك الاستهلاك<(9)، أصبحنا أمام نموذج جديد لإنسان مسلوب الإرادة وداخل زخم شديد الإكراه، حيث غدا الاستهلاك في حد ذاته معياراً يتحدد به الوضع الاجتماعي. إنسان الاستهلاك هو بالنتيجة لا يملك قراراً فيما يستهلكه.. الاستهلاك هو الذي يحدد الضرورة وليست الضرورة هي من يحدد نوع الاستهلاك. هذه الوصاية التي حققت تجاوزاً جديداً بالإنسان إلى ما هو أبعد حتى من الـ>Homo - economicus<، حيث يعرف >في شكل حكاية<(10). هذه الحكاية ليست بعيدة عن تلك الأسطورة المؤسسة لنهايات الحداثة ومغامرة الرجل الأخير، في ذلك الموقف الفاوستي بإخراجاته المختلفة؛ الإنسان الذي باع روحه للشيطان، أو الهارب من ظله كما تحكي قصة طالب براغ(11). إننا بالتالي أمام وصاية تهدد الممكن وتحبسه بين أسوار الواجب. وهنا ينطلق السؤال: أيّ مستقبل للإنسان بعد أن اختزل حلمه في نوع من العمائية الاستهلاكية.. أيّ مستقبل للكوكب إن كان قد باع روحه للشيطان؟.. وأي مستقبل للنوع بعد أن أصبحت الصورة النمطية الوحيدة المتاحة لهذا المستقبل، هي إعادة إنتاج التراجيديا الفاوستية؟! إنها وصاية تقمع سؤال الإمكان، وتقلب صورة الوعي.

- هناك أيضاً وصاية جغرافيا سياسية؛ قوامها القانون الدولي نفسه بما هو قانون مفروض من قبل الحلفاء. قانون المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية. ففي مجالنا العربي والإسلامي مثلاً هناك وصاية جيوبولتيكية قوامها معاهدة سايكس بيكو. بل ثمة ما يُنذر بأسوأ منها. وصاية تحول دون وحدة عربية أو إسلامية حتى على أساس استراتيجي أو شراكي. على أن التجزئة في حد ذاتها هي واحدة من عناصر تخلفنا التاريخي!

- هناك وصاية استراتيجية، قوامها منع العرب والمسلمين مثلاً من الدخول في عصر التكنولوجيا النووية أو تجاوز الخط الأحمر في التنمية والاقتدار العلمي. والاستنفار إلى محاسبة كل من يتجاوز ذلك الخط..

- وصاية أيديولوجيا، قوامها أن لا اعتبار لما يتم خارج إطار نهاية التاريخ. إنها إيدولوجيا نهاية عالم الإمكان: الحداثة هنا كواجب وليس إمكاناً لحداثات جديدة ومبدعة..

ويضاف إلى كل ذلك وصاية >النموذج<. فلا حق في مستقبل خارج النموذج الماثل أمامنا.. لا حق للمجتمعات المتخلفة في أن تشق طريقها نحو مستقبل ممكن. بل إنها مجبرة على الخضوع لإملاءات الوصاية الدولية في ضوء النموذج الأوحد؛ الأمم المتقدمة هي نموذج للأمم المتخلفة. بل حتى المجتمعات المتقدمة لم يعد شاغلها الإمكان المستقبلي المفتوح، بل لقد أُطِّرت مسيرتها وأصبح الإمكان محصوراً في النمط الأخير؛ أي في النسق النيوليبرالي بوصفه خاتمة الإمكان، ونهاية التاريخ.

إذن، فالمستقبل المنظور يتطلب ثورة جديدة على الوصاية وفي مقدمتها وصاية النموذج كما سنرى لاحقاً. وتتجلى ملامح هذه الثورة فيما يلي:

- الانتقال من العولمة النمطية الممنوحة إلى مستقبل عولمي مختلف أكثر عولمة(12).

- مقتضى هذه الثورة العولمية المابعدية، فضح الجوهر التسلطي والقمعي لعولمة أحادية الاتجاه، أي النظر إلى الأيديولوجيا العولمية كسطو على الثورة العالمية، بما يوجب حداً أدنى من المقاومة(13).

- هل في إمكان المجتمع العربي والإسلامي أن يكسر سقف الوصاية وامتلاك ناصية مستقبله، حيث لا إمكان لامتلاك المستقبل إذا لم نملك تاريخنا!؟ ليس التاريخ الحديث المقرون بحدث الاستعمار، بل أعني تاريخنا الذي صنعناه وتسيدنا فيه دون أن نفهم قوانينه، وحيث لا زلنا نبرره بلياقة طقوسية عالية. إذن سنفعل الأمر نفسه مع مستقبلنا. لا مجال للسيطرة على المستقبل دون فهم الماضي. وإن تخلفنا الأسطريوغرافي سيساوقه حتماً تخلفنا المستقبلياتي..(14). فالعاجز عن قراءة الماضي هو بلا ريب أعجز عن استقراء المستقبل. هل يمكننا الحديث إذن، أو الدعوة بالأحرى، إلى >أركيولوجيا< للمستقبل: أي البحث والحفر في الممكنات المستقبلية. إن ملامح الثورة على تلكم الوصايات تتجلى هاهنا. وعلينا إذاك أن نكون في حجم خطورة المستقبل. أي أن نكون في حجم إنسان المستقبل المفتوح لا الممنوح. وهذا يتطلب وعياً بما يتعين أن يكون عليه الإنسان الأخير ليس برسم هذه >النيهيلية< التي كرستها أيديولوجيا نهاية التاريخ، بل برسم الإنسان الأعلى المتفوق.. الإنسان الأخير كما وصفه نيتشه على لسان زارا: >أطول الناس عمراً<.. هو سيد المستقبل ومفتاحه. عن أي إنسان إذن يجري الحديث في مستقبلنا؟

?أي إنسان لأي مستقبل؟

ذكرت في مناسبات أخرى، أن تعريف الإنسان بالمعنى الحقيقي أمر يكاد يكون في عداد المستحيل(15). ليس ذلك بسبب سلطة الإجمال على تعريف منطقي، وعدم إمكان تحقق الجامعية والمانعية في التعريف المنطقي. بل المسألة تتعلق بالتعريف نفسه على علاته وقصوره وإجماله ونسبيته، فلا يفي بالغرض في موضوع الإنسان. وبأن المقوم الحراكي لماهيته يجعل التعريف أمراً في غاية التعقيد. ذكرنا حينها أن الإنسان كائن قابل للتخارج النوعي. وقصدنا بذلك، أنه الكائن الوحيد الذي يملك مكنة الترقي في حدود نوعه وخارجه. فالإنسانية ليست ثابتة في حقه دائماً؟ بل هي ما يبلغه الكائن أو ينزل دونه أو يتخطاه إلى ما هو أعلى. وهذا ما يجعل الإنسان قابلاً للتخارج النوعي. ووحده الكائن الذي يملك أن يكون إنساناً أو قد يكون مفرطاً في إنسانيته، فيما لا يتاح لغيره ذلك، فلا مجال للحديث عن بهيمة مفرطة في بهيميتها. وهذا التعريف يتجاوز التعريف بالعقل أو التعريف بالأخلاق لأن الإشكال الممكن وروده في حق الأول وارد في الثاني(16). وعليه نقول: إن الإنسان (إنسان المستقبل) هو أمام خيارات ثلاثة؛ إما أن يترقى إلى ما فوق النوع أو أن يحافظ على حبل إنسانيته في حده الأدنى أو ينزل إلى حالته البهيمية ككائن يرعى عشب انحطاطه كضريبة للنزول. لكن ما يظهر، أن إنسان المستقبل وفق تداعيات الملحمة العولمية، هو أضل من الأنعام. ومصداق ذلك، أنه خرج من طوره الأنعامي لينزل رتبة من حيوانيته إلى ما دون الشيء، تماماً مثل خضراء الدمن.. لا هو ترابي ولا هو نباتي؛ طالما أن العولمة لا تفتأ تبشر بالكائن القابل لأن يصبح بلا جسد وبلا روح، بل جسداً قابلاً للتحول اللامادي Dématérialisation، كما تدل على ذلك قصة الرجل الذبابة(17).

لكن في تصوري، سوف يظل الصراع قائماً لجهة المناعة التي يحملها هذا الكائن ضد ضحالته الوجودية المتربصة به(18). فالمقاومة ستظل رهان الكائن، والأنسنة ستغدو خطاباً أكثر أهمية للمستقبل. وفيما يعنيني، فلست من هواة التهويل حتى فيما تبدعه هذه العقول. لأنني أرى أننا لسنا في حجم المستقبل وتحدياته. أنظر بشفقة لهذا المشوار المتعثر للتقدم العلمي نفسه، رغم كل هذه الإنجازات التي دوخت العقول وأبهرتها. وبالتأكيد لا يدهشني أن يكون هذا الكائن الذي أصبح مطارداً في نهاية انقضاء العقد الفاوستي، لينتج ما به يستطيع أن يدمر كوكبه ويجعل الحياة فوقه كارثية. أقول: مهلاً؛ فهذا لا يدهش طالما أن العقل نفسه بدا أكثر عجزاً في أن يصنع طائرة تستطيع التحليق فوق الأرض عشرات المرات في الساعة الواحدة حتى لا أقول الثانية الواحدة، إنه لا يزال في مواجهة جهله وفشله. ولا يزال لم يتخلص من الأمراض الأكثر فتكاً بالنوع، ولم يقضِ على المجاعة في العالم. ما معنى >الطائرة< في زمان غدت العولمة تبشرنا فيه بالإنسان الرقمي.. طالما لا زال إنسان القرن الواحد والعشرين يركب الطائرة على مضض ويعيش أهوال فوبيا الطيران لساعات.. والأمر نفسه في مجال الطب والصيدلة.. إنني أرى البشرية لا تزال في طفولتها.. أقول: عفواً كَانْتْ؛ إننا لم نخرج من الوصاية!

لقد ازدهرت علوم المستقبل في الفترات والعقود الماضية.. وأعتقد أن المستقبل لن يكون مناسباً لازدهار علم المستقبليات، إن لم يكن المستقبل نفسه قميناً بتوفير شروط الثورة على ضروب الوصاية التي لا تزال تحقق التخارج الأكثر انحطاطاً للنوع. إن مفهوم المستقبل لكائن في تخارجه النزولي الأدنى، لن يكون له معنى. وإن إنسان المستقبل هو إنسان بلا مستقبل. أي إنسان فاقد لملكة الإحساس بأهمية الإمكان وخطورة المستقبل. إنه كائن يعيش على المعطى، وفي حالة من الخضوع المطلق. كائن يحس بوجوده كجزء من نظام الأشياء ليس إلا.. هو كائن لا يفكر ولا ينتظر ولا يحلم ولا يرى.. أنها لحظة الهروب الكبرى للإنسان؛ إنسان مُفَرِّط في إنسانيته - بفتح الفاء وكسر الراء مع التشديد - وليس إنساناً مُفْرِطاً في إنسانيته - بتسكين الفاء -.

? الطريق نحو المستقبل

لم يعد في وسعنا اليوم، الحديث عن رهانات الممكن داخل حتمية النمذجة التاريخية لتطور حضارة الإنسان. وهذا بالتأكيد لا يعني ارتماءً في الضفة الأخرى للوعي، أي الاستقالة من سنن التاريخ ابتغاء المدارات الحزينة. إن التاريخ الخاص للأمم والشعوب يرسم خصوصيته ويستثيرها من داخل ممكنات التاريخ العام، بوصفه مساحة مفتوحة، على فعل المشاركة، في نطاق اتجاهه الذي يتسع للاقتضاء جنباً إلى حتمياته التامة. فالممكن التاريخي يتيحه الاتجاه ذو الصفة الاقتضائية. وهذا التجادل بين الاتجاه والقانون في التاريخ هو ما يتيح تجادلاً ممكناً دائماً بين التاريخ الخاص والتاريخ العام في ضوء من >المشاركة<(19) التي يتيح الوعي التاريخي إمكانية تحققها. هذا الوعي التاريخي التجادلي بين العام والخاص، هو ما يتيح ضرباً من التاريخ في صورته الفعلية المحققة؛ أي التاريخ لأجل -التاريخ لغيره- وليس التاريخ من حيث هو، كماهية معلقة شبحية. هو ما ينقذنا من قمع التاريخ العام ونيهيليته، وانزوائية التاريخ الخاص واستقالته. إن رؤيتنا تقوم على جدل العام والخاص في إطار من رفض إقامة فلسفة التاريخ على وفق عقيدة الثالث المرفوع. وبهذا المنظور تحديداً نستطيع خلق جسر تواصلي بين الأمم ليس على أرضية فراديسها المتخيلة بل على أرضية تحققها الفعلي. بل وأكثر من ذلك، أن نحقق نقلة ما هو لا تاريخي إلى التاريخي. ونستطيع أيضاً أن ننقل فعل المشاركة La participation كفعل خاص برسم الاندماج الطبيعي إلى فعل عام برسم الاندماج التاريخي.

بناءً على ما سبق، نستطيع تحقيق الوعي بما يتطلبه منا المستقبل، بوصفه غاية التاريخ في تخارجه الأسمى. فلنا مسؤوليتنا تجاه مستقبل البشرية كما لنا مهامنا تجاه مستقبلنا. فالعالم لم يعد شيئاً منفصلاً عنا حتى وإن كنا ننتمي إليه بقليل من الإرادة والاستقلال والفعالية. فحتى تاريخنا الخاص لا ينبغي رسمه خارج سنن التاريخ العام، لأننا إذا لم نراع هذا التجادل، فسوف نكون قد سقطنا في مأزق الصدام بين تاريخنا والتاريخ الكوني، بوصفنا تشخصاً خاصاً له لا بوصفنا استقالة خصوصية عنه. فالتاريخ الخاص هو بالنتيجة كيفية من كيفيات تشخص العام. من هنا نقول: إن التاريخ الكوني هو ما كان قابلاً للتخصص. وما لا يقبل التخصص لا يمكن أن يكون كونياً. وهو لا يكون عاماً إلا بعد تشخصه، أي بعد تحققه في صورته الخاصة. إن الخصوصية مقوم أساسي للكونية. إنهما ليسا متضايفين، بل هما بالأحرى متجادلين. فماهية الكوني تقوم على إمكانية التخصص. إن الوعي بالمستقبل هو فرع للوعي بالزمان. والأمم التي لا تزال تتردد في بناء وعيها بالزمان وبالتاريخ، لن تنجح في تكوين هذا الوعي بالمستقبل. وأعتقد أن تلك هي مشكلة العقل العربي؛ أنه لا يمكنه الوقوع في هذه الازدواجية الانتقائية في معالجة المستقبل في إطار من التغاضي عن معالجة تاريخه. وكما أننا سمحنا للآخر بأن يقرأنا كما يشاء، فيمكننا أن نسمح له أن يقرأ مستقبلنا ويحدده كما يشاء أيضاً.

لقد أضاع العالم العربي والإسلامي فرصاً كثيرةً من أجل الدخول في دورة صناعة المستقبل. فبينما كان الأمر ممكنا في سياق السباق نحو المستقبل ومتاحاً له. فإن إهمالاً لهذا القطاع وما حدث من تراكمات مستقبلية في العالم المتقدم، جعلنا مرة أخرى ندخل في مأزق التبعية بعد أن احتل الآخر خريطة الزمان وأصبح مستقبلنا هو نفسه مستباحاً للمستقبليات الممنوحة أو المملاة. إن المهمة اليوم لتبدو مضاعفة حيث دخولنا إلى دورة صناعة المستقبل، رغم كل الصعوبات التي تكتنفها والتي أصبحت أكثر تعقيداً مما مضى. فالتحدي المطروح اليوم ليس هو التحكم في المستقبل والهيمنة عليه درساً أو تخطيطاً، بل التحدي هو فيما يمكن أن نسميه تنامي >إيديولوجيا< المستقبليات. فالمعطيات التي يوفرها هذا القطاع من الإنتاج المعرفي -في مجتمع المعرفة الذي لم ندخله بعد كعرب- أصبحت تؤدي وظائف إيديولوجية على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري. ونقصد هاهنا بالوظيفة الإيديولوجية، ذلك القدر من التوجيه والتحكم بالعقل المعرفي والسياسي الجمعي القائم على أساس من التزييف للوقائع وإعادة إخراجها أمام الوعي المحلي والدولي، لغايات غير بريئة. إن المستقبليات اليوم -وهذا نقد موجه للاختصاص نفسه- تقوم على التهويل والتهوين وواحدية الرأي الشخصي -وليس المعالجة الجمعية- وهي في تطرفها هذا، تسعى إلى أن تتحول إلى ديماغوجية تعبوية دهمائية وإيديولوجيا وظيفية في أغلب الأوقات. إن المستقبليات العربية هي ضرب من >الكرونيك< المقنع وهذا ما ستفضحه معطيات مجتمع المعرفة الآخذ في التكوين يوماً بعد يوم!

? نقد المستقبليات العربية: د. مهدي المنجرة نموذجاً!

إن أي حديث عن تجربة المستقبليات العربية يستدعي بالضرورة الوقوف عند واحدة من أهم المبادرات العربية في هذا المجال؛ أعني المشروع المستقبلاتي كما دعا له وناضل من أجله، الخبير المغربي والدولي د. مهدي المنجرة. حيث كان وراء تأسيس عدد من الجمعيات والمراكز >المستقبلية< إقليمياً ودولياً. الوقفة التي لا بد منها ونحن نحاول تكوين رؤية نقدية عن مشروع لا نكاد ندرك سر إخفاقاته وتعثراته في مناخ من الاتهامات المتبادلة. وهذا يتطلب منا إبراز أخطاء أصحاب المشاريع >المستقبلية< وسوء إدارة شأنهم، وهو الأمر الذي يتطلب شيئاً من الشجاعة والصراحة في توجيه النقد الذاتي لمشاريعنا، الأمر الذي لا يزال غائباً أو مغيباً. وكأن المستقبليات علم معصوم من الخطأ أو مجال مقدس. وسوف نفتح هنا أفقاً لهذا النوع من النقد، حيث صعوبة الموقف وخطورته تكمن في كونه أول مغامرة في نقد المستقبليات العربية في شخص أبرز دعاتها ومؤسسيها؛ أعني البروفيسور مهدي المنجرة!

إننا لسنا اليوم في حاجة إلى الحديث عن د. مهدي المنجرة وهو الخبير المستقبلي الذي اختار جبهة النضال العالم-ثالثية بكل ما تعني الكلمة، وهو بلا شك تحمَّل الكثير من العناء في سبيل الحفاظ على مصداقيته كمناضل ثالثي، إلا أن هنالك الكثير من الآفات التي جعلت كل جهوده لم تحقق النتائج المرجوة، بعدما أصبحت تشكل أيديولوجيا ثوروية جديدة، ذات أبعاد استعراضية لا تخلو من المبالغة. فالمستقبل كما تسعى المستقبليات إلى إبرازه، هو عالم قاتم، طالما أن رؤيتها للحاضر تكاد تكون سوداوية. فالمستقبليات حينما تصبح تحت رحمة الأرقام، وبدون فلسفة، تتحول إلى ديماغوجية كارثية. إن ما كنت أعيبه على مهدي المنجرة منذ بداية التسعينيات(20)، ومنذ إصداره كتابه القيم >الحرب الحضارية الأولى<، هو ذلك التحشيد الإحصائي الذي ينتهي أحياناً إلى تعزيز وجهات نظر فيها الكثير من التحيز والخروج عن مقتضى موضوعية البحث العلمي المستقبلاتي، وذلك الإغراق في لعبة الألفاظ المملة، نظير: >الذلقراطية< و >اللجنقراطية< وما إليها من عبارات، هي بالأحرى ملهيات تسقط المستقبليات في شكل من الديماغوجية الشعبوية الساخرة، على حساب التحليل العلمي الجاد والهادئ. وسوف أحصر هنا أهم ملاحظاتي على >مستقبليات< مهدي المنجرة في محورين:

1ـ مغالطة النموذج التنموي (النمذجة الأصولية في مثال اليابان).

2ـ خدعة الحرب الحضارية الأولى (النمذجة الديماغوجية في مثال العراق).

على أن غاية الملاحظات المذكورة، توقفنا على مأزق المستقبليات العربية، بوصفها صنعة تعاني ما يعانيه مجمل الكيان العربي؛ من آفتين: التمامية والديماغوجية. فإلى أي حد يمكننا اعتبار المستقبليات العربية في مأمن من الآفتين المذكورتين؟

1- مغالطة النموذج التنموي:

لكي نحمي أمل العالم العربي في التنمية والمستقبل الأفضل، ونحمي حلمه من خطر اليأس، فما علينا إلا أن نستند إلى نموذج واقعي قريب، بناءً على قياس الغائب على الشاهد. وقد يصبح الأمر في غاية العبث أن نقيس الغائب على الغائب، ونحمي الحلم بناءً على نموذج حالم. هذا ما نصادفه بصورة مكثفة في الأيديولوجيا المستقبلاتية للبروفسور المنجرة، حينما نصب >اليابان< - وهو اليوم رئيس جمعية الصداقة المغربية اليابانية - نموذجاً للتنمية العربية والإسلامية عموماً والمغرب خصوصاً. وهاهنا تكمن المغالطة، لأن المسألة هي أكبر من أن تكون مجرد انبهار بنموذج ينتمي جغرافياً إلى الشرق الأقصى. أي كونها خارج المجال الجيوبولتيكي الغربي. إنه بالتالي يدعو العالم العربي إلى اقتفاء طريق لا يمكن اقتفاؤه إن لم تحضر بالثقل نفسه جملة الشروط التاريخية الجيوبولتيكية التي رافقت الطفرة اليابانية. إنها دعوة إلى المقايسة بين مجالين بينهما افتراق كبير، وإن كان الاشتراك الواحد، أن الإقلاع الاقتصادي الياباني جاء متأخراً عن الغرب. وسوف أوجز هنا أهم عناصر الاختلاف أو بالأحرى مظاهر المغالطة النموذجية المذكورة:

- المغالطة الجغرافية:

على عكس ما هو عليه المجال العربي من حيث سعة المجال ووفرة الموارد الطبيعية، تفتقد اليابان إلى المؤهل الجغرافي الطبيعي، وذلك بسبب كونها دولة مكونة من مجموع أرخبيلات تفتقر إلى الموارد الطبيعية الضرورية في عملية التصنيع، هذا فضلاً عن محدودية المجال والكثافة السكانية المتعاظمة. إن التركيز على الرأسمال البشري والمهارات العقلية والفنية لليابان، محكوم بإكراهات الجغرافيا. وعليه، ندرك لا موضوعية الأيديولوجيا المستقبلاتية كما تبدو من كتابات المنجرة، لأنه يؤسس مقايساته تلك على أساس الدعوة إلى التخلي عن الثروة النفطية العربية وعدم إعطائها أية أهمية في العملية التنموية. وكأن على العرب أن يتخلوا عن ثروتهم هذه - وهي أكبر احتياطي عالمي للطاقة - والتركيز على المهارات الفكرية والعقلية والفنية الخالصة على غرار اليابانيين، الذين فرضت عليهم الظروف البيئية والجغرافية المفتقرة، هذا النوع من التركيز الأحادي الجانب على المهارات الإنسانية المجردة. نعم، هناك ما هو جدير بالذكر هنا، وهو أن المنجرة إذ يعتبر النفط نقمة وليس نعمة، بالمعنى الذي تفسره الأحداث اليوم، حيث أموال النفط تأتي بسهولة، وحيث إن النفط كرس نوعاً من العجرفة وأدى إلى حجب المهارات الإنسانية الأخرى.. كل هذا مبرر وصحيح إذا عولج في سياق الفلسفة التنموية الجادة، بعيداً عن ردود الفعل ورسم صورة قاتمة تكفر بالإمكان. ذلك لأن المشكل العربي، هو أعم من أن يكون مشكلة الطفرة النفطية(21).. وعليه، كان يفترض من الخبير المستقبلي أن يتحدث عن نمو خاص، حيث يستحضر كل معطيات وفرادة المجال العربي من أجل إنجاز رؤية مستقبلية موضوعية تأخذ بالحسبان واقع العرب لا واقع غيرهم.

وتستمر المغالطة نفسها في كون اليابان هو البلد الوحيد غير الأوربي (الغربي)، والبعيد عن الغرب، الذي استطاع أن ينافس الغرب في منطقه الرأسمالي. وربما تناسينا، أن هذا البلد الذي يبدو في أقصى الشرق في نظر أولئك الذين يتوسطون العالم، هو أقرب نقطة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وربما كان بمنزلة الغرب بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ولذا فالتحدي الأمريكي كان دائماً يجري على حدود هذه النقطة من العالم حتى قبل ثورة >الميجي<!

- المغالطة التاريخية:

ليست اليابان دولة ثالثية حتى وإن كان الإقلاع قد تأخر فيها مقارنة بدول غربية أخرى، وفق معايير التنمية والتعاظم الاقتصادي الليبرالي. فهي كانت دولة إمبريالية قوية ومصنعة. وقد أظهرت الحرب العالمية الثانية أن اليابان دخل المعركة مع الحلفاء بقوة كبيرة وأسطول بحري وجوي ضخم، ما كان للحلفاء بقيادة الولايات المتحدة أن يحرزوا انتصارهم على اليابان إلا بفضل أسلحة الدمار الشامل وبواسطة القنبلة الذرية. إن الحديث عن النموذج الياباني بالنسبة للعالم العربي فيه كثير من التجوز. لا ننسى أن اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وانقيادها اللامشروط للإرادة السياسية الأمريكية، منحت امتيازاً خاصاً تعويضاً للتطوير الاقتصادي الذي جاء في السياق نفسه للدعم الأمريكي لأوربا. كان مشروع مارشال لأجل إعادة بناء الاقتصاد والبنى التحتية الأوربية التي دمرتها الحرب ثمن الانقياد للهيمنة السياسية والعسكرية الأمريكية على أوربا الغربية في سياق الإرهاصات الأولى لانطلاق الحرب الباردة.. وكان الدعم الأمريكي لليابان بمثابة >مارشال< مقنع. لم تكن القواعد الأمريكية في أوكيناوا كمراقب للتسلح الياباني فحسب، بل لقد كانت من الناحية الأخرى ضماناً لحماية السياسة الاقتصادية الجديدة لليابان. وقد ترافق ذلك مع اندلاع الحرب الباردة، الأمر الذي يفسر اتساع رقعة >المارشال< الآسيوي الجديد، وخَلْق جيوبٍ أخرى من الاقتصادات الصاعدة -النمور الآسيوية- لمقاومة النموذج السوفياتي والحد من توسعه شرقاً. هناك أصبح الاقتصاد والتنمية ثمناً للاستقلال السياسي وإرادة الأمم. لقد باعت هذه البلدان استقلالها وإرادتها السياسية التي تعبر عن روح شعوبها. وكانت بمثابة أكياس رمل من الاقتصادات المفرقعة، لكنها ذات بنى هشة، قائمة على المضاربات المالية التي تقي النموذج النيوليبرالي الأمريكي من خطر السقوط، ومن خطر تدفق المد الأحمر على الجبهة الشرقية(22) وقد كان يتعين على المستقبليات العربية ألاَّ تهمل هذا الجانب من الملابسات في مقايستها، لاسيما وأن الحديث عن إرادة أمريكية لتطوير اقتصادات جنوب شرق آسيا، لا يعني استهانة بالإرادة السياسية أو العقل السياسي لشعوب هذه المنطقة. بل إننا نتحدث عن رفع حالة الاستثناء عن التنمية في الهوامش والأطراف. إن أهم شرط في الإقلاع الاقتصادي، هو رفع الحصار عن التنمية. وما حدث بالنسبة لهذه المناطق، هو رفع الحصار، وفرض الاستثناء في سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على مستوى الدعم وإعادة الجدولة، وأيضاً -وهذا هو الأهم- الدعم الأمريكي على صعيد الاستثمارات الضخمة وفتح الأسواق. ولذلك كانت اقتصادات تلك البلدان تحت رحمة المناورات المالية والتجارية الأمريكية. أما بالنسبة لليابان، وهي ذات وضع خاص، فإنها دولة تنموية عظمى، لم تكن صنيعة المناورة المالية أو التجارية الأمريكية على غرار اقتصادات جنوب شرق آسيا الشبيهة بوجبات همبرغر السريعة الظهور والمهددة بسرعة الانهيار. بل لقد استغلت اليابان الوضع الاستثنائي الذي أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانية لتحقق تفوقها الاقتصادي بامتياز.

إن الدعوة -التي تبناها ودعا إليها المنجرة- لاقتفاء مثال اليابان، تحجب الشروط والملابسات التاريخية الاستثنائية التي أوصلت اليابان إلى ما هي عليه. فكيف بمجالنا المحكوم بسياسات تخليفية من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وثقل الديون والحصار السياسي والاقتصادي والثقافي.. وقد أظهر تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 أن العالم العربي بكل أقطاره لا يكاد يبلغ الإنتاج القومي لدولة أقل حظًّا في مستوى التصنيع الغربي، ألا وهي إسبانيا. إذا كان الحصار المفروض علينا يكاد يطال حتى أهم منتوج عالمي، أي الطاقة، فكيف سيسمح لنا بالمناورة. علماً أن دولاً عربية لا تنتج الطاقة، ورغم كل دبلوماسيتها الهادئة لم تستطع أن تخرج من حدود الاستثناء المفروض على عموم التنمية الجنوبية.

إن عقد المقايسة بيننا وبين اليابان كما تدعو إليه الأيديولوجيا المستقبلاتية للبروفسور المنجرة، تجعل من المستقبليات نفسها أسطورة تبتني على المغالطة. وعليه، كان أحرى أن تعقد مقايسة موضوعية بين اليابان وإسرائيل إلى حد ما وليس بين اليابان والعرب. وذلك ما سأبينه باقتضاب:

يتحدد المشترك الجغرافي في موقع اليابان ووضعه الأرخبيلي الضيق وفقره من الموارد الطبيعية، ما يجعله شبيها بالمجال الذي تحتله إسرائيل من الناحية الجغرافية.

- المشترك التاريخي يتجلى في كون اليابان ما قبل الحرب العالمية الثانية، هي دولة إمبريالية استعمارية توسعية، مثل إسرائيل.

- المشترك السياسي، يتجلى في كون اليابان ما بعد الحرب هي ليست حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية فحسب، كما هي إسرائيل، بل هي درع أمريكي محكوم بالإدارة السياسية الأمريكية.

- المشترك الأيديولوجي، ويتجلى في كون اليابان دولة مهما قيل عن تشبثها بهويتها، هي دولة ليبرالية رأسمالية مؤمركة كما هو الوضع في إسرائيل.

والملاحظ للسياسية الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي يكتشف وجه الشبه بين النموذجين. فلقد لعبت اليابان إبان الحرب الباردة دوراً مركزياً في اقتصادات جنوب شرق آسيا. أي الدور المركزي الذي عبر عنه طموح >بيريز< نفسه لاقتصاد إسرائيلي مركزي في سياق مشروع الشرق أوسطية.

ومن هناك أريد أن أخلص إلى أن مثل هذه المقايسة المغلوطة، تخفي إمكانيات أخرى للمقايسة. وفي تقديري: إن الصين هي هي النموذج الممكن حتى الآن للعالم العربي، أعني من الناحية الإنمائية، بوصفها تشترك مع المجال العربي في جملة من النقاط، يمكننا ذكر أهمها في الآتي(23):

1ـ نظراً لكونها -أي الصين- بلداً زراعياً تقليدياً يتمتع بجغرافيا واسعة وقاعدة بشرية كبيرة وموارد طبيعية مهمة، ما يجعله شبيها إلى حد ما بالجغرافيا العربية.

2ـ نظراً للتاريخ المماثل. أعني أن الصين والعالم العربي خضعا معاً للاستعمار.

3ـ لكونهما معاً يشتركان في طبيعة وجودهما في نطاق حالة الاستثناء المفروضة من قبل الشمال على تنمية الجنوب واشتداد الرقابة على تقدمهما. إن تنميتهما لا مجال لنهوضها إلا على حد أقصى من المناورة..

4ـ لأنهما معاً لم يتمتعا بمارشال أمريكي على غرار أوربا أو رفع حالة الاستثناء كما هو حال اليابان والنمور الآسيوية وإسرائيل. وأن السياسة الغربية تجري في اتجاه تخليفهما لا في الاتجاه المعاكس، أعني باتجاه تنميتهما، أو حماية نموهما.

5ـ لأنهما في منطقة التهديد الاستراتيجي الغربي وعلى لائحة الدولة المحاصرة اقتصادياً، بل والمصادمة حضارياً، حيث الصين الكونفوشوسية، في تقرير الخبير الأمريكي صامويل هينتنغتون، من الحضارات المصادمة للحضارة الغربية. شأنها في ذلك شأن الحضارة العربية والإسلامية وربما جرى الحديث هنا عن تحالف ممكن بين الإسلام والكونفوشية كجبهة مصادقة للحضارة الغربية(24).

إن ما ينتظر العالم العربي، هو أن يكدح تنموياً على غرار الصين، وليس أمامه إلا ذلك، طالما أن ما لا تستحضره مستقبليات المنجرة، هو التهديد الاستراتيجي الإسرائيلي للتنمية العربية، قبل أي معطى آخر. نعم، أتفق مع المنجرة على أن العالم العربي يمكنه أن يكون على غرار اليابان إذا سلك طريقها ولكن بشروط كارثية سوف نتبينها تحت العنوان التالي:

- مأزق نموذج أم فضيحة نموذجية:

لقد عودنا الخبير المستقبلاتي على مستوى من الفرجة وإيقاع من التحريض لا هوادة فيه ضد السياسات التنموية والحكومات العربية كافة -باستثناء، طبعاً، عراق صدام حسين- مع سبق الإصرار والترصد. وسوف نفاجأ في الفترة الأخيرة حيث سيخف الإحساس بالمؤامرة حينما بعث المنجرة برسالة عتاب من معجب بالنموذج الياباني إلى الحكومة اليابانية، معاتباً إياها على قرار إرسال قوات عسكرية إلى العراق. لقد اعتبر خبير المستقبليات ذلك مجرد عتاب. وبأن لا يُفهم ذلك على أنه تدخل في الشؤون الداخلية لليابان. ربما هذه المرة الأولى التي أرى فيها مهدي المنجرة واقعياً وبروتوكوليا. هذا الغزل للنموذج وذاك الموقف المزدوج (لعن العالم بأسره وطلب ود اليابان) هما أمارة على انزياح وقعت فيه ولا تزال، المستقبليات العربية.. فأنْ تبعث دولة أوربية بجيوشها إلى العراق، هو استعمار سافر للعراق، أما أن تبعث اليابان بجيوشها إلى العراق، فهو أمر لا يتطلب أكثر من عتاب أخوي ولا يستحق أن يوصف بالمؤامرة(25). لقد انحازت المستقبليات العربية وخرجت عن موضوعيتها. حيث اعتبرت غزو العراق قبل أكثر من عقد من الزمن لدولة عربية شقيقة أمراً مبرراً، وربما نظرت إليه في سياق الحرب الحضارية الأولى. بينما غزو الأجنبي لعراق أنهكته المغامرات العسكرية وأنهكته الدكتاتورية والمقابر الجماعية بما عزز فيه القابلية للاستعمار، يعد استعماراً غاشماً. لكن المفارقة تبرز بشكل يدعو للدهشة، حينما يرفض المنجرة أن تكون الأحداث التي أَلَمَّت بالعراق اليوم، هي فرصة لتحرر الشعب العراقي وتقدمه إن أحسن تدبيره شأن عراق المستقبل. فغزو الولايات المتحدة للعراق هو نهاية لمستقبل هذا البلد. لكن خبير المستقبليات لم يكد يرسم صورة مقارنة بين غزو العراق وغزو اليابان. فالفرصة التي سنحت للثانية هي نفسها الفرصة التي سنحت للأولى. فلم تمنح المستقبليات إمكانية أو فرصة لكي يستغل العراق محنته في سبيل بناء عراق حر ومتقدم على غرار اليابان، مستغلاً كل الأوضاع والتوازنات الإقليمية والدولية. ومناوراً بما فيه الكفاية لتحقيق مطلبه النهضوي والمستقبلي.

لقد ركزت مستقبليات المنجرة على أهمية المعلومات ومجتمع المعرفة. ولم يكن في ذلك أي جديد آخر لم يطرحه ألفين توفلر في سبعينات القرن المنصرم(26). ولاشك أن تركيز خبراء الولايات المتحدة والغرب عموماً على الرأسمال المعرفي يأتي في سياق تطور موضوعي في مجتمع حقق دولة القانون والحريات. وكان على المستقبليات العربية ألاَّ تصدمنا بأرقام مهولة في مجال تنمية المعلومات، حيث هي أرقام متاحة لأبسط الصحفيين في المجتمع الغربي، بل كان عليها أن تذكرنا بأن الرأسمال الحقيقي اليوم بالنسبة للمجتمع العربي هو >الحرية<. وفي تركيز مستقبليات مهدي المنجرة على المتاحف التاريخية العراقية وسكوتها عن المقابر الجماعية >البشرية<، فضيحة كبرى! ربما نحن اليوم أمام وضع عراقي أشبه ما يكون بوضع اليابان عشية الحرب العالمية الثانية. وإذا تفادينا الحديث عن النموذج الياباني من ناحية الأرقام والنتائج -كما تفعل مستقبليات المنجرة- واستحضرنا الملابسات التي رافقت الانقياد الياباني للإرادة السياسية الأمريكية، سوف يكون من المنطقي على العراق اليوم، إن كان يريد اقتفاء النموذج الياباني كما دعا إلى ذلك المنجرة، أن يناور ويتنازل بما فيه الكفاية ويسمح للولايات المتحدة أن تفرض وصايتها وتكتب دستوره. على العراق إذن وفق هذه المستقبليات أن يرضخ مثلما رضخت اليابان. وفي مثال العراق، كلنا يدرك ما هو المطلوب وأي رضوخ يجب أن يكون. إن ما يتيح للعراق طفرة مستقبلية تنموية هو مدى اعترافه بإسرائيل. وحسب منطق الاستسلام الياباني، على العراق أن يتخلى حتى عن تلك المطالب التي يتشبث بها أعضاء مجلس الحكم. أجل، هناك ثلاث شروط قد تجعل من العراق ياباناً عربياً، وهي ثلاثة لا رابع لها:

1ـ تطبيع لا مشروط مع إسرائيل والدخول في عقد الشرق أوسطية.

2ـ دستور عراقي تكتبه الولايات المتحدة.

3ـ قواعد أمريكية على أرض العراق.

طبعاً، إن مستقبليات المنجرة سترفض ذلك، وهذا في حد ذاته مفارقة، لأنه يرفض للعراق الشروط نفسها التي دعمت الإقلاع الياباني - النموذج.

2ـ الحرب الحضارية.. وأكذوبة الانبعاث العلمي:

جاء كتاب (الحرب الحضارية الأولى) للخبير الدولي والمستقبلاتي بمثابة قراءة في أزمة الصراع العربي مع الغرب، بعد إعلان الرئيس العراقي المخلوع انسحابه من الكويت، وبعد أن تكبد الجيش العراقي خسائر فادحة في عملية الانسحاب تلك. وعلى الرغم من أن الكتاب هو عبارة عن مداخلات وحوارات متفرقة ومليئة بالأفكار والنكات والإحصائيات الدقيقة، إلا أن غاية هذا المطبوع، هو التركيز على المسألة العراقية بوصفها الوجه الأبرز لتلك الحرب الحضارية بيننا وبين الغرب. ولقد ساهمت مستقبليات المنجرة في تلك الحملة التهويلية التي صورت العراق كبلد للتقدم والازدهار العلمي والقوة العسكرية، حتى بات في ذهن الرأي العام العربي، لا سيما في الغرب، أن هذا البلد هو نموذج في حد ذاته، يصلح لأن يكون قدوة لباقي نظرائه في العالم العربي. حدث هذا بعد أن أسفرت الأزمة عن أننا كنا أمام خدعة ذات وجهين. الوجه الأول: أننا أمام حرب حضارية يتزعمها العراق نيابة عن الأمة وتعبيراً عن روح الشعب العربي. والثاني: أننا أمام نموذج تنموي جاد على قدر من الأهمية. وأما ما يتعلق بالوجه الثاني، فلقد أظهرت تداعيات الأحداث، أننا أمام صورة مغشوشة تخفي حقيقة كيان منهك، ليس فقط بسبب الحصار >المزدوج< واللاإنساني المفروض على المجتمع العراقي، بل أمام كيان لم يشهد تنمية حقيقية كما تدل على ذلك أريافه وجيوب الفقر وأكواخ الطين البدائية التي تطوق بغداد، قبل أن نتحدث عن مناطق مثل >الهور< التي تنقلنا إلى خارج التاريخ الحديث. وبينما كانت مستقبليات المنجرة تتحدث عن العراق الذي استطاع رفع ميزانية البحث العلمي بمعدل درجة أو نصف درجة، فقد كان هذا الاختزال أشبه ما يكون بخدعة إحصائية. لأن الخبير المستقبلي لم يوضح، إن كان ذلك يُنفق على التسلح وصناعة السلاح الكيماوي أم أنه يصرف على البحث العلمي المدني.. لم يتطرق خبير المستقبليات إلى أن العراق العظيم -الذي رفع من ميزانية البحث العلمي في مجال الأسلحة الكيماوية والجرثومية- لم يكن يتوفر على مصنع للدواء؛ وهو ما كان متاحاً لأقل الدول العربية حظًّا في التنمية(27). لم يتطرق خبير المستقبليات إلى ذلك الارتفاع المهول في ميزان الإنفاق على مشاريع عبثية والنهب اللامحدود لميزانية الدولة العراقية من قبل الرئيس وحاشيته.. لم يتطرق الخبير المستقبلي إلى أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق كشرط بديهي للتنمية والنهضة. وقد كشفت الأحداث أن الدولة العربية النموذجية التي روج لها الخبير المستقبلي العربي، كانت بلداً لقمع الحريات والمقابر الجماعية والتخلف السياسي.. وفي إهمال مستقبليات المنجرة لهذا الجانب واعتباره أمراً ثانوياً، تعيَّن أن تعتبر المستقبليات الأخيرة ضمن خانة الايديولوجيات اللاإنسانية(28).

وحينما كان خبير المستقبليات يسب العالم وجميع الزعماء العرب -حتى أنه استشكل عليهم ذات مرة، بأن لا أحد امتلك الجرأة لمقاضاته- لم يتحدث لحظة واحدة عن النهج الدموي للنظام العراقي المخلوع، بل لقد اتضح بأنه وقف موقفاً مدافعاً ومبرراً للغزو العراقي للكويت. وربما بدا هذا الغزو في نظر الخبير المستقبلاتي، وكأنه فصل من فصول هذه الحرب الحضارية الأولى. لقد كانت بحق قراءة مستقبلية مغشوشة، أضرت بموضوعية البحث العلمي، وجعلت >مستقبلياتنا< أشبه ما تكون بحالة من >التهريج< السياسوي. وهذا ما يتعلق بمسؤولية المشرفين على حقل المستقبليات في تأخر هذا العلم في البلاد العربية. وذلك ما أسميه بالارتداد المخيب للآمال، من المستقبليات كعلم إلى المستقبليات كإيديولوجيا. وسوف يشهد التاريخ، على أن المستقبليات العربية وفق النموذج المذكور، ساهمت بقوة في خداع الرأي العام المحلي، ومارست التزييف والتسطيح للحقائق، ومجدت الطغيان وتنكرت للإنسان العربي واستغفلت العقول. وفي انتظار مستقبليات محلية وعربية جادة، يتعين علينا ممارسة نقدية جادة لمأزقها. وهو المأزق الذي يتمثل اليوم في ازدواجية المعايير والتوريط والتحريض والتخندق السياسي والإيديولوجي والدهمائية. فالخبير المستقبلي حوَّل الخطاب المستقبلي إلى خطاب ديماغوجي لتهييج الشارع. وذلك عبر خدعة النموذج المغشوش وتحشيد الأرقام في أقيسة مغالطة. وبقدر ما نعى الخبير المستقبلاتي على المجتمع العربي >الأمية< المستفحلة، إلا أنه استغلها أيما استغلال، في ممارسة التجهيل والخداع بواسطة النموذج التنموي وممارسة التدليج. إن >الأمية< هذه الآفة التخليفية هي الرأسمال الرمزي لانحطاط مستقبلياتنا، وعنصر مساهم في استفحال التهريج باسم المستقبل! إن الحديث عن مستقبل >المستقبليات< نفسها أمر ملح اليوم. وسوف تكشف الفترات القادمة عن مزيد من الفضائح في المستقبليات العربية، لا سيما تلك القائمة منها على الديماغوجية وتحشيد الأرقام لإخفاء بؤس المحتوى التحليلي والنظري لمستقبليات شخصانية لا تقوم على جهد الفِرَق العلمية والتخصصية، باعتبار المستقبليات هي أم العلوم قاطبة. وهذا التدهور المستقبلي للمستقبليات العربية راجع لسببين:

الأول: وكما أثبتنا سابقاً، لأنها فاجأت الرأي العام بنتائج توقعاتها ونتائجها الخاطئة والتوريطية(29).

الثاني: لأن التطور الذي يشهده مجتمع المعرفة والذي وصلتنا منه بعض المعطيات، كسرت ذلك الاحتكار القائم، والذي قامت باسمه المستقبليات العربية المذكورة. إن المعلومات متاحة اليوم لأبسط الصحفيين ويمكن التعامل معها مباشرة. فإذا كان المنجرة مثلاً، هو أول مغربي درس في الولايات المتحدة وأتقن اللغة الإنجليزية وكتب بها مقالاته، ومن أوائل من تعامل مع جهاز الكمبيوتر في أبحاثه؛ فإن هذا الامتياز أصبح متاحاً للجميع. إن المستقبليات الديماغوجية لا يمكنها أن تنتعش في مجتمعات تعاني من الحصار وضيق هامش الحريات. وقد كان الخبير المستقبلي يقول كل شيء، في زمن لم يكن عندنا من يجرؤ على الكلام. لنكن أحراراً جميعاً، وحينها يمكننا الحديث عن أي مستقبليات يجب أن تقوم عندنا. إن مستقبلياتنا العربية سوف يتبناها جيل جديد، وسوف تصبح مستقبلياتنا الديماغوجية جزءاً من تراث محنتنا. هذه المستقبليات التي فرضت وصاية نموذج تنموي مغشوش على العرب، وأيضاً المستقبليات التي جعلت أسوأ النماذج العربية -أعني عراق صدام حسين- مثالاً لنهضة عربية فاضلة!؟؟

ما بعد النموذج..أو نقد النمذجة:

علينا أن نتساءل عن الأسس المنطقية لفعل النمذجة. أي متى يصبح مجتمع ما نموذجياً بالنسبة إلى مجتمع آخر في طور النمو. إذا كان مجرد التقدم يعطي المصداقية النموذجية لأي كيان آخر، فسنكون أمام حالة من الفوضى، حيث كل مجتمع متقدم سيجد نفسه بالضرورة نموذجاً بالفعل للمجتمعات المتخلفة. وهنا لن يبقى للنموذج الياباني أي مبرر في مستقبليات مهدي المنجرة، لأنه هو نفسه تغذى على النموذج الرأسمالي الغربي مباشرة. وعلى ذلك نقول: لِمَ لا يكون الغرب نفسه نموذجاً مباشراً للمجتمع العربي؟! ولِمَ لا نقف عند تلك الشروط التي تتيح لأي مجتمع حق >الانمذاج<. أقصد هنا، أن يصبح مجتمع ما نموذجاً لغيره. ولعل أهم تلك الشروط هو شمولية المنظور للنموذج نفسه. فأن يكون مجتمع ما نموذجياً لغيره، هذا يعني أن يكون نموذجاً من كل الجهات. وهنا يتعين على المستقبلي ألاَّ يحصر الحديث في النتائج التي توصل إليها المجتمع النموذجي، بل يتعين ذكر الملابسات والشروط التي أتاحت لذلك المجتمع إمكانية الانطلاق في اتجاه تلك النتائج. فهل يا تُرى النموذج الياباني هو نموذجي من كل الجهات بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية؟!

ويتعين على المستقبلي أن يأخذ بتعددية النماذج. أعني بذلك، إجراء نوع من سبر العلة بتعبير الفقهاء للوقوف عند مناطات النماذج المتعددة، ليعرف ما هو حقيق بالتمثل، وما هو جدير بـ>الانمذاج<. وبهذا المعنى تصبح كل الكيانات المتقدمة نموذجية. إن الوقوع في فخ النماذج المحصورة، هو دعوة صريحة للتقليد. ولا قيام للإبداع إلا بنهج سياسة >انمذاجية< تأخذ بالكل من حيث دينامياته لا بالكل من حيث نتائجه. وإذا أضفنا شمولية النموذج من حيث استحضار ملابساته وسبر مناطاته والقبض على ما هو انمذاجي في النموذج، مع الأخذ بتعدد النماذج، فإن ما تبقى هو التركيز على العقل العربي وإمكانيته في استدماج هذه النماذج وإعادة إنتاجها وفق رؤية إبداعية تجعل للعرب الحق في الانمذاج. أي أن يبدعوا نموذجهم من تحت أنقاض هذا الإحباط. وهذا الحق ليس ترفاً في السياسة التنموية، بل هو الطريق الأقصر لرفع الوصاية والمناورة ضمن إمكانيات متاحة. إن النموذج لا يتنزل على الأمم، تنزلاً محكماً. بل النموذج هو ما تصنعه الأمم. فالنموذج الياباني أصبح نموذجاً، بعد أن أبدع وأعاد إنتاج النموذج الغربي. فلا إمكان للانمذاج إلا بإعادة إنتاج نموذج آخر واستدماجه وتحقيق قدر من التجاوز لنموذجه. فالنموذج هو ما نستأنس به وما نتجاوزه في آن واحد. إذن، يمكننا تلخيص فلسفة النموذج في ثلاثة مفاهيم يتعين على المستقبليات العربية استحضارها في مسار اهتماماتها وتحاليلها ومعالجاتها:

1ـ شمولية النموذج، ومقتضاه النظر في الشروط التأسيسية لا في النتائج..

2ـ تعدد النماذج وسياسية الانمذاج، ومقتضاه أننا نحن من له الحق في تشخيص النموذج المتوخى لا أن يفرض نفسه علينا في إطار من البروباغوندا التي تقوم بها اليابان هذه الأيام.

3ـ الاستئناس والتجاوز للنموذج، ومقتضاه الإبداع أو إعادة الإنتاج.

- أخيراً وليس آخراً:

ختاماً نقول: إن هناك ما يميز المحلل السياسي عن المحلل المستقبلي -وهذا ما يعرفه المستقبليون ويسعون للالتزام به- أعني أن المحلل المستقبلي يدرس الظاهرة السياسية في ترابطها الكلي مع الظواهر الاجتماعية الأخرى ويرسم الصيرورة التاريخية. إن المستقبلي الحقيقي هو ذلك الذي يقفز على الأحداث ليقبض على الخيط الرفيع خلف التعقيدات اليومية أو انسياب الوقائع.. إنه يضرب حسابات لمكر التاريخ. إن المستقبلي الحقيقي هو فيلسوف تاريخ. ولذا فإن أدواته يتعين أن تتكاثف بشكل يجعل ما يستقرئه المستقبلي يسمو بعمق التحليل عن الفكر اليومي وعن القراءات السياسية التي ينتجها سياسيون أو صحفيون يفتقرون إلى الرؤية الاستراتيجية وإلى استيعاب الظواهر السياسية بوصفها عنصراً ضمن نسق يتألف من مجموع ظواهر اجتماعية أخرى، مهما بدت هذه الأخيرة -أي الظاهرة السياسية- أكثر بروزاً ودينامية. إن التحليل المستقبلاتي ليس مجالاً للموضوعية أو البرهان. ربما كان بعض الفلاسفة المتقدمين يتحدثون عنه بوصفه إمكاناً محضاً عندما تحدثوا عن إحدى أقسام الممكن بتعبير >الإمكان الاستقبالي<. وهو من أبعد ضروب الإمكان الذي جرى حولها نقاش واسع. وكل ما كان في حيز الإمكان، هو خارج عن سيطرة البرهان. فعملية حبك وتخيل السيناريوهات أحياناً تأخذ بعداً وظيفياً يسعى أصحابه إلى التأثير على المستقبل وتوجيهه، لا من أجل تحليله وفهمه. وهنا نكون أمام ضرب من النبوءة المغشوشة والتوقعات التي تراهن على هذا النوع من >الأثر الأوديبي< على حد وصف كارل بوبر؛ التأثير على مجرى الواقعة المستقبلية. إنه ليس توقعاً، بل ضرب من صناعة المستقبل وتعبئة المستقبل. علينا ألاَّ ننسى أهمية العامل السياسي في موضوع الدراسات المستقبلية. لقد كانت ولازالت حالة اللااستقرار في مقدمة الأسباب التي تعيق قيام مستقبليات حقيقية وجادة في المجال العربي. فهي علم لا يقوم وما ينبغي له إلا في ظل الاستقرار السياسي، وحد أدنى من الديمقراطية. فالمستبدون -وهذا درس تاريخي- يثقون في العرّافات والمنجمين الشخصيين أكثر من إيمانهم بضرورة علم يبحث في المستقبل. وذلك كله للاعتبارات التالية:

* لا يسمح الاستبداد في مجتمع غير مستقر سياسياً، بقيام علم منفلت عن الرقابة أو باحث في الإمكان -كالمستقبليات-. لأن بنية العقل السياسي للاستبداد تقوم على أساس الواجب لا الممكن!

* لا يسمح الوضع الاستبدادي بعلم تفرض نتائجه إحداث تغييرات حقيقية.

* لا يسمح الوضع الاستبدادي بعلم لا يدخل بيت الطاعة كما هو حال الشعراء المداحين. أي أن يكون علم المستقبليات هو علم للكذب المستقبلي أو الافتراء على المستقبل لا توقعه، واستعجاله وتأويله قبل اكتمال المعطيات لصالح جهة أو فئة ما، أو جعل المستقبل في خدمة الاستبداد. وعليه ستصبح محنة المستقبليات العربية مضاعفة، حيث إضافة إلى الوصاية الإمبريالية على زمننا المحلي المهدور، هناك وصاية الاستبداد المحلي على نفس الزمان. وهذا ما يجعل زماننا العربي -وتاريخنا ومستقبلنا جزآن لا يتجزآن منه مثل حاضرنا- زماناً ممزقاً ومحتلاً. وسيكون الحديث عن مستقبل عربي حر وموضوعي، هو ضرب من المقاومة لتحرير الزمان كما كُتب علينا مقاومة الاحتلال لتحرير المكان.

* التغيير والتحكم بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مجالنا العربي، يأتي من فوق، ومن دون دراسة. بل هو أمر يستند إلى المزاج. مثالنا على ذلك، العراق في عهد النظام السابق. لقد كان صدام يملك كل مقدرات العراق. وأي عاقل يتصور إمكانية قيام علم للمستقبل في بلد اختزل فيه العراق ومستقبله لمزاج شخصي. وقد رأينا أن من كان يفكر بمفرده في مصير العراق، كيف جعل العراق في نهاية المطاف بلداً محتلاً، وعاد به إلى العصر الحجري. وهذا هو منطق الاستبداد حيث لا رؤية للمستقبل سوى رؤية المستبد نفسه. حالة فرعونية: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى}. مثال العراق ومثال تقرير التنمية البشرية العربية لهذا العام والذي قبله.. جديران بأن يدفعا العالم العربي إلى نهج مستقبلي مختلف في أفق مستقبليات أكثر جديةً وعلميةً وانطلاقاً.. لنحاول أن نكون مستقبليين إن كنا حقًّا جادين في حلمنا بمستقبل أفضل!

 

 

الهوامش:

?(1) يصف جاك ديريدا الأنثربولوجيا بكونها علم أوروبي.. إن استبدالاً مقنعاً لذلك التمركز الذي يجعل الأنثوبولوجيا الجديدة تستبدل بميثولوجيا البورورو بوصفها ميثولوجيا الميثولوجيات، ميثولوجيا الرأس مال نفسه. انظر:

Derrida, jaques:l’écriture et la différence, p37-38,1967,Editions du seuil.

(2) بينما تنظر التاريخانية إلى المجتمعات السائرة في طريق النمو أو تلك التي لاتزال مكبلة بقيود التخلف، بوصفها مجتمعات دنيا، وبأن لا فكاك لها إلا بأن تكون مثلنا. وإذا لم تستطع أن تكون مثلنا فما لها من خلاص؛ ترى الأنثروبولوجيا الجديدة هذه الاستقالة أو الانزواء في ذيل الحداثة اختياراً مبرراً.. وفي كلتا الحالتين فإن التخلف سيصبح قدرنا، سواء برسم البنيوية التي تحاول صب التوابل والبوازر على تخلفنا. وأن تحل معادلة التمركز الأوروبي على حساب تطلعنا ونهضتنا. إن إعادة اخراج التخلف التاريخي في صورة اختيارات ثقافية بنيوية، لا يخفف من الاستهتار التاريخاني بنمونا.. فبين التهوين التاريخاني والتهويل البنيوي، يستقل تاريخنا ولا يستقيل، لنهج طريقه بوعي. وأتم الوعي هنا، استيعاب المنزلقين معاً.

(3) ظهر ذلك في سياق الرد على ليف بروهل، في وصفه للسيكولوجية البدائية، انظر:

Gazeneuve, jean: Dix Grandes notions de la sociologie P: 117, Editions du seuil 1976.

(4) مثل هذا الوصف والذي ينطبق في أجلى صوره على العولمة بنمطها الاحتكاري اليوم، يصفها كيمون فلاسككيس قائلاً: >إنها النتيجة غير المتوقعة، لدينامية سوق داروينية وتصنيفية، تمنح امتياز البقاء للأقوى، تكافئ الرابحين بسخاء، ولا تقدم للخاسرين شروى نقير<، انظر:

Valaskakis kimon: Mondialisation et gouvernance, Futurible, Avrile1998 voir, Problème économique, n: 2.611- 2.612 14/7/1992 p: 8.

(5) نسبة إلى نقدانية فريدمان والاقتصاديات القائمة على القوة النقدية.

(6) على أنه ليس لها من الأبيقورية سوى عنوان السعادة القائمة على اللذة، وتتميز هذه الأبيقورية الجديدة في أنها استطاعت أن تتخلص حتى من تلك الأخلاق الأبيقورية، لتجعل اللذة غايتها القصوى تأسيساً على العقد الفاوستي الذي هو من الأساطير الأوربية الخالصة التي قامت عليها حضارة الغرب الحديثة.

(7) إشارة إلى العمل الفكري والفلسفي الذي جاء تحت عنوان: >تجليات الفلسفة العربية: منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي<. الصادر عن دار الفكر بدمشق. وهو كتاب بذل فيه صاحبه جهداً حقيقياً. لكن بغض النظر عن أهميته الأكاديمية، لم يستطع صاحبه من خلاله سوى أن يعيد إخراج أزمة الفكر العربي والإسلامي بصورة لم يشفع لها التكلف العباري أو التعقيدات اللغوية التي تخفي بساطة المضمون. ومع أن الكاتب يدعو إلى تحرير المجال المعرفي من هيمنة الإيديولوجيا، إلا أن الكتاب الأخير، وقع في أسوء الإيديولوجيات. وهو ما سنبينه في أوانه. لكن ما هو شاهد هنا، أن أبا يعرب المرزوقي جعل من منزلة الكلي في منطق تاريخ الفلسفة العربية بؤرة الإشكال؛ في حين يتطلب الأمر قلب الموضوع رأساً؛ أي لنبحث في منزلة الممكن في منطق تاريخنا. إن المشكلة ليست في تشخيص الكلي في مخططات حلولية، بل المشكل يكمن في تعالي الإمكان وهروبه من قبضة الوعي والمتخيل العربي في أكثر تجلياته الفلسفية!

(8) المثال الأبرز على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وبشهادة هينتنغتون نفسه. فالنموذج الأمريكي تحديداً لا يصلح مثالاً للشعوب النامية، وذلك لسبب بسيط كون الولايات المتحدة الأمريكية لم تشهد ثورة اجتماعية؛ على الأقل مثلما شهدت فرنسا أو روسيا أو الصين.. إنها لا تملك شيئاً تقدمه كنموذج لهذه البلدان. انظر مقالة، سيرج حليمي:

Quand Samuel Hunting Célébrait Lénime: Le monde diplomatique N 597 Décembre 2003.

(9) مجتمع الاستهلاك كما يصوره بودريار يطمح إلى أن يكون مثل أورشاليم -وعلينا أن نفهم منها معنى المدينة المحروسة، وموطن عباد الذهب- محاطة وغنية ومهددة؛ وهنا تكمن إيديولوجيتها. إن مجتمع الرخاء هو مجتمع التبذير، حيث يمكننا الحديث عن >مجتمع القمامة< La société de poubelle. والتعبير الأمثل عن هذا النمط الاستهلاكي الضروري لتغذية الإحساس بالحياة وليس بمجرد الوجود: قل لي ماذا ترمي هناك، أقول لك من تكون.. هذا النوع من التبذير هو فعل رمزي أو بالأحرى طقس اجتماعي.. إذن يمكننا فهم ذلك من خلال الثقافة الاجتماعية التي تقول: اكسر سيارتك فإن التأمين سيتولى الباقي. انظر:

Jean Baudrillard: La société de consommation: ses moyens ses structures. P: 35,49,55.. Editions Densoél, 1970.

(10) الحكاية ترى بأنه كان ذات يوم إنسان يعيش حياة الندرة. وبعد الكثير من المغامرات والأسفار البعيدة عبر علم الاقتصاد، التقى بمجتمع الرفاهية. لقد تزوجا وأنجبا الكثير من الحاجيات. المصدر نفسه، ص 93.

(11) قصة سينمائية تروي حكاية الشاب الذي باع ظله للشيطان مقابل حياة رغيدة يؤمنها له الجني. لكن سرعان ما بدا مطارداً من قبل ظله؛ وهي إخراج مختلف لتراجيديا فاوست. حلل بودريار قصة طالب براغ، بكثير من التفصيل؛ راجع المصدر السابق نفسه.

(12) ولذا كان من المفروض أن تسمى >غولنة< وليس >عولمة< لأنها عولمة النموذج الأوحد وتغولنه.

(13) تبدو المقاومة على أشدها. وهي مقاومة عولمية تسعى إلى انتزاع عالمية مشروعيتها وعولمة وسائل احتجاجها.

(14) ذلك لأن المناط واحد؛ إنه الوعي بالزمان بتخارجيه: الماضوي والمستقبلي!

(15) انظر: مجلة الكلمة ع33.

(16) انظر: الكلمة عدد (33)...

(17) رواية سينمائية تدور حول إمكانية التحول اللامادي، والانتقال الإشاري من حيز إلى آخر.

المأساة حصلت حينما تم الانتقال إلى الغرفة الثانية التي اتفق أن وجدت فيها ذبابة، ما جعل إعادة التكوين المادي للجسم يجري بشكل تداخلت فيه المورثات الجينية للذبابة، فكان أن حصلت قصة الرجل الذبابة، الذي فشل في أن يعيد التجربة في وضع أكثر نظافة..

(18) وهذا تحديداً ما يجعل للأمل معنى. ففي ثنايا هذه الإنسانية، تكمن بذرة ممانعة لكل ما هو لا إنساني. فيمكننا القول: إن الإنسان حتى في تخارجه الأدنى، يظل إنساناً بالقوة لانطوائه على بذرة المقاومة؛ فهو كائن مقاوم من أجل تخارجه الأمثل. إن تعريفنا للإنسان على أساس التخارج النوعي، وحده يجعل الإنسان عصيًّا على التنميط.

(19) إن مبدأ المشاركة La participation يقضي حسب بروهل بأن يتقاسم البدائي الطبيعة مع حيوان ما يمثل طوطمه الخاص. بحيث يستطيع أن ينظر إلى نفسه بوصفه إنساناً وحيواناً في آن واحد. لمزيد من التفصيل انظر: إدريس هاني: المفارقة والمعانقة، ص98. المركز الثقافي العربي ط 1 - 2001 - بيروت.

(20) هذا النقد مهما بلغت حدته، فهو لا يقلل من تقديرنا للخبير المستقبلي ولا لمواقفه الأخرى التي بدا فيها أكثر التصاقاً بمصالح العالم الثالث. لكن هذا لا يمنع من النقد بوصفه طريقاً للتحليل والاستدراك.

(21) مع أنني اختلف تماماً مع تلك الرؤية الاختزالية التي تعلق هزائم العرب على الدول النفطية. حيث كان حظ الدول العربية الأخرى من شروط التنمية اكثر بكثير من هذه الأقطار. والسؤال، ما ذنب هذه الدول في أن يوجد فيها النفط... ومع ذلك فالانهيارات التي أصابت العرب جاءت من الدول العربية غير النفطية.. قال أحدهم ذات مرة، وأحسبه صائباً: الخليج ليس نفطا فقط!

(22) لجورج سورس كبير المضاربين ومسبب الأزمة المالية في بلدان جنوب شرق آسيا سنة 1997، كلمة في غاية الصدق.. فهو حتى الآن أكبر مضارب أمريكي يمارس نشاطه بوعي وصراحة. قال: >إن انهيار السوق العالمية سيكون حدثاً مؤلماً يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن<. وهو ما يؤكد على فضيحة الأزمة المالية في بلدان جنوب شرق آسيا نفسها، حيث استطاع مضارب واحد أن ينهي قصة هذه الاقتصاديات. ولعله كان صادقاً لما عنون لأحد كتبه: the Alchemy of finance.

انظر: جون جريي: الفجر الكاذب ص 7، ط 1- 2000، مكتبه الشروق - القاهرة - كوالا لومبور - جاكرتا. ت: أحمد فؤاد بلبع.

(23) لنضع بعين الاعتبار، أننا نتحدث في إطار الممكن والنموذج الأكثر واقعية، ولا نتحدث عن النموذج الأمثل أو النموذج الأخير. إن الصين حققت ما حققته باستقلال...واليابان حققت ما حققته بثمن باهض. حقق الصين مؤخراً أعلى معدل نمو في العالم، وهي الدولة المليارية التي تكدح لإنماء بلدها الذي يئن تحت الحصار. إن الصين بهذا المعنى، كادح تنموي نموذجي، ومن هنا أهميتها!

(24) لا أدري ما السبب الذي يجعل الكثير من المحللين يتحدثون عن الصين الكونفوشية وليس الصين الطاوية.

(25) نذكر بأن د.مهدي المنجرة، هو رئيس جمعية الصداقة المغربية - اليابانية، وذلك كافٍ لتفهم موقفه. لكن ما فوجئ به كافة المغاربة، هو غياب الموقف الصارخ للمناضل المستقبلي، ضد القرار الياباني الأخير، مع أنه يدرك تمام الإدراك أن اليابان مسلوبة القرار السياسي. لقد نسي الخبير المستقبلي، أننا أمام نموذج لدولة فريدة ولسنا أمام فرادة دولة نموذجية!

(26) يتحدث توفلر عن مجتمع المعرفة في مجتمع اكتملت أركان التقدم الاجتماعي وترسخت قواعد التحرر فيه.. بينما يدعو المنجرة إلى مجتمع المعرفة في مجتمع غارق في الأمية ومسلوب الحقوق والحريات. هل هي سياسية التعجيز أم آفة المقايسة مع الفارق!

(27) ولعلها مفارقة أن يكون ابن لادن أكثر تدبيراً من الناحية المدنية، فهو بخلاف صدام الذي بنى مصانع إنتاج الأسلحة الكيماوية والجرثومية دون أن يفكر في بناء مصنع واحد للدواء في العراق، كان ابن لادن قد ساهم في مصنع للأدوية في السودان قبل أن تقصفه الولايات المتحدة الأمريكية. وكان يفترض بالخبير المستقبلي أن يشرح تلك المفارقة التي جعلت السودان أكفأ من عراق التفوق العلمي في مجال صناعة الدواء!؟؟

(28) وطبيعي جداً أن يعتبره أمراً ثانوياً. لأن الخبير المستقبلاتي الثائر والأكثر غيرة على عراق المقابر الجماعية، لو كان عراقياً لما امتلك الجرأة في الحديث؛ هذا إن سمحت له ماكنة القمع أن يكون له وجود طويل وملحمة من التحريض كتلك التي يتمتع بها الخبير المستقبلاتي كامتياز لا يشاركه فيه أحد!

(29) وقد تفقد المستقبليات مصداقيتها أمام الرأي العام، وربما سيصبح أهون على الناس تصديق الكهنة من أن تصدق خبراء المستقبل الأيديولوجيين!

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة