شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
العرفان الإسلامي
بين شرط الكمال وهدفيّة التّكامل
الدكتور عبدالفضيل إدراوي*
* كاتب وباحث، كلية الآداب، تطوان – المغرب، البريد الإلكتروني:
d_abdelfdil2006@hotmail.com
مقدمة
لا يخرج العرفان في المدرسة الإسلامية عن كونه سعيًا نحو صنع البيئة التي يتكامل فيها الإنسان لتحقيق العبودية الحقة لله تعالى في هذه الدنيا، وحيث إن هذه العبودية تتأسس على موجّهات غيبية تكفَّل الوحي ببيانها للبشرية، أمكننا أن نُتبعها بمسلَّمة مفادها أن التكامل الحق لا يمكن أن يتحقَّق إلَّا بشرط إمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المعارف الدينية؛ إذ لا إمكانية للحديث عن عرفان إسلامي من دون الاستناد إلى إمامة شرعية، ومن دون التسليم بالولاية المطلقة للإمامة التي ارتضاها الله تعالى للبشرية في هذه الحياة.
بالنظر إلى حاجة الإنسان في سعيه نحو الكمال إلى قادة ومرشدين يوجّهونه ويعلّمونه ويقَوِّمون تصرفاته ويدلونه على عوالم وأسرار السير والسلوك. وهذا لا يتحقّق إلَّا فيمن ارتضاهم الله تعالى أمناء على الوحي ومعارفه، وأطلعهم على علومه وتفاصيله، لكي يرجع إليهم الناس ويهتدون بهداهم.
ورغم أن العرفان قد يبدو للوهلة الأولى اختيارًا ذاتيًّا أو ممارسة فردية وشعيرة عينية تنطلق من الذات الخاصة لصاحبها، إلَّا أن حقيقته تمتد نحو إنجاز الفعل في المجتمع، وتتحوَّل إلى سلوك متعدٍّ قوامه التأثير في المحيط والعمل على إفادة الآخرين والتحرّك من أجلهم، ومراقبة تفاصيل الذات لمنع كل شر أو أذى قد يصدر في حق الغير، بل والانتباه إلى كل تقصير قد يصدر من الذات في مسؤوليتها ورسالتها نحو الغير.
لذا فإن ثمَّة أهمية بالغة يحتلّها العرفان في المنظومة الفكرية والعقدية للمدرسة الإمامية، فهو ضرورة من ضروريات حياة الفرد في المجتمع، وعنصرًا مركزيًّا في البناء السليم للمجتمع. فبه قوام الفرد والمجتمع الخاليين من العاهات النفسية والروحية.
فالعرفان مصدر طاقة تتزوّد عبره وبه الذات، روحيًّا وماديًّا، ومنه تأخذ ما به تغدو مستحقة صفة الإنسانية، فهو مظهر من مظاهر التعبُّد الذي يعبّر عنه الدكتور أ. كاريل بكونه «أشبه ما يكون بعملية التنفس عند الإنسان،.. يعتبر عاملًا ضروريًّا لا غنى عنه لتوثيق الوشائج والصلات الطبيعية بين الوعي وبين بيئته الخاصة،.. ويعتبر وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن واحد، بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا»[1].
أولًا: في تلازم العرفان الحق بالتّديّن المحمديّ
إذا نحن تتبَّعنا الأصول الحقيقية والجوهرية التي يؤول إليها العرفان، فلا ريب أن أسسه، عقلًا وفطرةً وقلبًا، يجب أن ترجع إلى المدرسة الإسلامية الأصيلة، أي «المدرسة المحمدية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام، بكل المعاني والدرجات والأبعاد»[2]، بالنظر إلى كون الغاية الأساس من العرفان إنما هي الدفع بالإنسان نحو حالات الكمال والطهر المعنويّ. رُوي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل»[3].
بل إن الحياة برمَّتها، والوجود على امتداده، لا معنى له ولا قيمة حقيقية له، إلَّا في جوهره الإلهي وفي ماهيته التوحيدية. فالديانات السماوية جميعها إنما تتّحد وتتوحّد في هذا المسعى، وهو «إعادة جميع المحسوسات وكل العالم إلى مرتبة التوحيد، تلك المرتبة التي يتيقَّن فيها العبد ويقتنع عقلًا وقلبًا وجوارحَ أن لا ملجأ ولا منجى ولا غاية إلَّا الله تعالى، وأن كل ما هو موجود فهو منه تعالى، وكل ما سيأتي أيضًا هو منه... فكل ما هو موجود هو الله»[4].
ولا يخفى أن المدرسة الإلهية؛ ممثَّلة في الأنبياء والرسل والأئمة الأوصياء (عليهم السلام)، تتحدَّد رسالتها الأساس منذ البدء وإلى نهاية هذا العالم، وتسير في خدمة عقيدة التوحيد وتحقيق العبودية الحقيقية لله تعالى. فلا يتصوَّر عرفان ولا تربية ولا تخليق ولا طهر إلَّا بمرجعية مصاديق الطهارة والكمال الحقيقي، ممثَّلًا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وتحديدًا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوصيائه الأئمة الأطهار (عليهم السلام). الذين لهم ارتباط نَسَبِي بالبيت النبوي، وكان لهم تبعًا لذلك مسؤوليات ترشيدية وتخليقية شبيهة إلى حد كبير بمسؤوليات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فهم من يضمن «سلامة الهداية الدينية للأمة الإسلامية من الناحية الروحية»[5].
وهم وحدهم الذين لهم الأسبقية ومركزية القدوة، ولهم المرجعية في كل الأمور، وصفوا بأنهم «عباد مصطفون مطهَّرون أورثهم الله علم الكتاب، الذي هو روح أمريّ من عالم الأمر وعالم الإبداع كن فيكون»[6]، بل هم عِدل القرآن وقرناؤه، وهم مصاديقُه والأدلّة عليه والقادة إلى حقيقته والعارفون حقًّا به. ويكفي لكل عارف أو طالب عرفان هذا البيان الخالد منه (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب ربيّ عزّ وجلّ، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد عليّ (عليه السلام) فرفعها فقال: هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض، فاسألوهما ما خلفت فيهما»[7].
فهم إذن وحدهم المؤهَّلون للإحاطة بالعوالم المعرفية والعرفانية ذات الصلة بمحورية القرآن الذي لا يمكن الإحاطة بكل مراتبه الغيبية وبمعانيه العميقة من لدن بني البشر، الذين لا يمكن أن يصلوا أي كمال بقدراتهم الحسية، ولا بد لهم تبعًا لذلك من «قدرة وحيانية» تتجسَّد في الأئمة المعينين بالوحي.
بل إن مفارقة هؤلاء والاستغناء عنهم من شأنها أن تقود صاحبها إلى مرديات الزيغ والانحراف. ولعل ما يلاحظ على مدارس التصوف والزهد في العالم الإسلامي من تخبُّط، وما شاب ويشوب عديدًا من التجارب من انحرافات وأخطاء وتشويه، إنما مردُّه إلى تهميش مرجعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين هم وحدهم دون سواهم، ضمان وأمان الأمة من الزيغ والانحراف، «.. وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون»[8].
فلا يمكن تحصيل معارف غيبية ولا إدراك حقائق عالم الروح والمعنى، إلَّا بمرجعية أهل البيت بوصفهم خزان جميع العلوم وأبواب جميع المعارف، والعارفين بأسرارها وتفاصيلها، وفيهم «حصر القرآن الكريم الوصول إلى المكنون من حقائقه العلوية الغيبية، لأنهم وحدهم المشهود لهم بالتّطهير الإلهي»[9].
وما نقرأ في الزيارة الجامعة الصغيرة «.. السّلام على محالّ مَعرفةِ الله، السّلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله عز وجل»[10].
يعضد هذه الحقيقة، فيجعل المعرفة الحقيقية بالله تعالى وبشؤون الغيب وبتفاصيل الكمال والطّهر المعنويّ، كّل ذلك متوقِّفًا ومشروطًا بمعرفة الأئمة الأطهار ذوي الاختصاص والتفرُّد بالمعرفة الحقة، وحفظة الشرع، والقوامون عليه لهداية البشر وحفظ مصالحهم. «وما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علمًا علمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون.. إلَّا علّمنيه وحفظته، ولم أنسَ حرفًا واحدًا منه..»[11].
لذا نجد أن الأنبياء والرسل والأئمة من أهل البيت قد عُدّوا المؤسسين الأوائل لتيار الزهد والعرفان والتصوف في الثقافة العربية الإسلامية، الذي كان في حقيقته تطويرًا واستلهامًا لفلسفة الزهد، وتجسيدًا لمبادئ مدرسة هؤلاء الرواد في العرفان والرياضة النفسية.
بل إن ثمَّة من الدارسين من يرى أن رموز المدارس الصوفية وكبراءها، هم مجرَّد متعلِّمين لمبادئ التصوف والزهد، تتلمذوا على أيدي هؤلاء الرواد من الأصحاب. يقول زهير غزاوي مُبَيّنًا مكانةَ الإمام علي بن أبي طالب لدى بعض رموز التصوف: «فهذا التيار الهائل من النظرية الصوفية برموزه المعروفة بدءًا من الحسن البصري وصولًا إلى رابعة العدوية، مرورًا بمحي الدين بن عربي والسهرورديّ والجُنيد والرّفاعيّ والكيلانيّ وغيرهم كثير، قد اعتبروا الإمام عليًّا بن أبي طالب أستاذهم الأوحد، واتخذه العرفاء والمرتاضون وأقطاب التصوف بطلًا وقدوة ورمزًا»[12].
وعلى هدي علومه ومعارفه «أثروا الحضارة العربية الإسلامية بفيض من الفلسفات والكلام والشعر، لم يعرف مثله في أية حضارة أخرى»[13].
وفي السياق نفسه يقول أحد الباحثين في فلسفة الزهد والتصوف: «الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلوم[14] والمواهب، كان مزيَّنًا بالزهد والورع، كُشف له الغطاء، وفضت عنه الأستار، وفتحت له كنوز العلم، فنهل منها ما شاء بدون حساب، قدوةَ المتقين، وقطبَ العارفين»[15].
فنحن إذن أمام رواد وصفوا بأنهم سابقون في العرفان والتصوف ومؤسسون لبنائه، ومن معينهم اغترف الصوفية معارفهم ونظرياتهم. فهم النموذج الفعليّ والمصداق العمليّ والتجسيد السلوكيّ لمظاهر الكمال المعنويّ الروحيّ بين الناس في هذا العالم.
وقد دلَّت الروايات الشريفة وتوصيات الوحي على ضرورة التأسي بهم والائتمام بهم واقتفاء آثارهم في كل صغيرة وكبيرة، تجنُّبًا للزيغ والانحراف والتماسًا للخلاص والأمن. فعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلحّ على الأمة الإسلامية طيلة حياته الدّعوية، وإلى آخر لحظة من حياته الشريفة بأن تتولَّى أوصياءه من أهل بيته الشريف، قائلًا: «تركت فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا»، «الله الله في أهل بيتي..» فهو إنما كان يشير إلى ضرورة الاحتراز من الغرور والاغترار بالعلم والمعرفة ودعوى الكمال الروحيّ، بعيدًا عن نهجهم وصراطهم القويم، ما قد يجعل من صاحبه متوهِّمًا امتلاك الحقيقة لوحده، ووصوله إلى جوهر الدين والتديّن واستغناؤه عن المرشد والوليّ أو الإمام المعصوم، وبأنه لا يضعف ولا يَعْيَا، مكتفيًا بمنهج (حسبنا أنفسنا وعقولنا عن الوحي)، (حسبنا كتاب الله عن العترة)[16].
إنه تنبيه مُبكِّر منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحذير من الوقوع في حالة من الاستغناء عن الإرشاد الوحياني، الذي لا يمكن أن يتخلّله النقص أو التناقض أو المصلحة الخاصة، والذي يضمن وحده عدم التّوه والضلال أو الانسياق مع موجات التأويل ومتاهات التناقضات البشرية، التي منشؤها تسلُّط الأنانيات الفردية وتوهُّم الزعامة والقطبية بعد أشواط من السير والسلوك في عوالم الرياضة الروحية لكن مع الشطّ عن متاركة الأئمة المعصومين والاستبداد بالرأي والاغترار بالقدرة الذاتية والثقة في العقل والنفس تحت مسمى شعار (حسبنا كتاب الله).
فلا يتصوَّر عرفان قويم ما لم يتقيَّد بهداية الوحي الإلهي، والمتمثّل في الكتاب والسنة الصحيحة التي تمثّلها العترة الطاهرة، فهما معًا طريق الهداية والنور والحق، وهما وحدهما سبيل تحقيق الغايات الكمالية التي ارتضاها الله تعالى للعباد، مصداقًا للحديث المشهور: «تركت فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»[17].
فقد يكون العرفان والتصوف طريقًا إلى أنواع من العلوم والمعارف التي قد تخرج عن حد الشهود والحسية، فهي آنئذٍ -حتمًا ومنطقًا وعقلًا- تحتاج من صاحبها ومن السالك طريقها إلى ترشيد وتدخُّل من معصوم، وإلَّا قادته إلى الهلكة والضياع الروحيّ والمعنويّ، ولن يكن مأمونًا ولا متيقنًا أن تصبّ في الكمال المرجو.
وغير خافٍ أن كثيرًا من العلوم والمعارف الروحية والأسرار الغيبية التي قد لا يطيق تحملها الإنسان العادي، وقد لا يدرك محتواها ولا حقيقتها ولا كيفية التصرف حيالها، إلَّا إذا استند إلى معارف أهل البيت وتوجيهاتهم. بل إن ثمَّة من الحقائق والمعارف والدرجات المعرفية العرفانية ما لا يتحمَّله حتى المقرَّب من الملائكة، كما جاء على لسان جبرئيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج، لما بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، فقال: تقدَّم يا رسول الله، ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت!![18].
فكيف للإنسان العادي أن يدَّعي الاستقلالية والاعتماد على ذاته في السير إلى الله وسلوك طريق العرفان الخاص من دون هداية وترشيد دقيق وواضح من الأئمة العارفين العالمين بأسرار ذلك؟! مثلما أن كثيرًا من العلوم والمعارف المادية نبغ فيها الإنسان وأعطى فيها الشيء الكثير وحقَّق إنجازات لم تكن متوقَّعة ولا محتملة، لكنها لم تصبَّ سوى في طريق النقيصة والشرور المنافيين لحقيقة الكمال وغاياته المرجوة.
لذا فإن سلوك طريق المعرفة الروحية وطريق العرفان يجب أن يكون مؤسسًا ومحكومًا ومستندًا في تفاصيله إلى معارف الوحي بما هو قرآن وسنة المعصومين، السبيل الأوحد الذي يحقّق «الإحاطة بتمام التكامل للإنسانية والآفاق الممكنة لها، وهو أمر لا يحيط به وبتفاصيله العقل البشري الفطري المحدود، ولا العقل التجريبي ولا العقول الأخرى»[19].
ثانيًا: العرفان وتهذيب النفس
يمكن أن نختزل جميع معاني العرفان وكل مدلولاته وأبعاده، وجميع تفاصيله، مهما اختلفت المنطلقات والدراسات المنظور منها إليه، سيان إن كانت مدرسية تعريفية تبسيطية، أو كانت أكاديمية معمّقة وتخصُّصية، تبحث في تفاصيل العرفان ومصاديقه. فجميع المعاني يمكن أن تؤول إلى حقيقة «معرفة الله التي تتوفَّر في ظلِّها سعادة الدنيا والآخرة»[20].
إن الغاية التي من أجلها سعى وجاهد جميع الأنبياء والرسل، وكذا الأولياء والأوصياء والصالحون، لا تخرج في حقيقتها عن هدفية واحدة «تربية الإنسان وهدايته في مسيرته من عالم التراب إلى عالم الملكوت الأعلى بهدف يتمثَّل في تشكيل المجتمع وإعداد بيئة لا يعبد فيها غير الله تعالى، فتزيل أنوارُ العبودية والإخلاص والإيمان بالغيب، ظلمةَ الأهواء النفسانية والشهوات الدنيوية، وتضيء أنظارَ البشرية بنور جمال الحقّ في عالم الوجود، وتعيد حاكمية التوحيد وأبعاده المتعالية في مختلف العلاقات والنشاطات الإنسانية. ومثل هذا لا يتيسَّر إلَّا بتزكية النفس، الشيء الذي يجهله حكام الشرق والغرب، ويتعطَّش إليه عالم اليوم المنهك»[21]، حيث يكون الإنسان متحرّكًا تحرُّكًا عموديًّا في طريق السير والسلوك إلى الحق تعالى، بغاية «الوصول إلى مقام لا يرى في الوجود غيره تعالى»[22].
إن العرفان ليس إلَّا ذلك السعي المخلص من العبد في دنياه من أجل التحرُّر من صنميّة الذّات وقهرية النفس، أو ما يسميه السيد روح الله الموسوي الخميني بالهجرة من النفس إلى الله، حيث يعزم الإنسان على الخروج من بيت النفس وظلمانيتها، وينطلق صادقًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، متحرّرًا من أسر الدّنيا والطبيعة وسيطرة النفس والشهوات والغرائز، ومن أنانيته الضيقة، إلى مراتب ما يعرف عند العرفانيين بـ«الموت المطلق» التي «لا يعود فيها شيء من أنفسهم»[23].
ويتحقَّق الابتعاد عن بيت النفس أو بئرها العميقة التي تجعل الإنسان لا يرى إلَّا نفسه، ولا يقيم وزنًا إلَّا لها، ولا يفكر إلَّا فيها. بما يجعل منها «أعدى الأعداء وهي أسوأ من كل الأعداء وأكبر من كل الأوثان بل هي أم الأوثان؛ لأن الإنسان يعبدها أكثر من سائر الأوثان ويتوجَّه إليها أكثر من سائر الأوثان، وما لم يحطم هذا الوثن فلا يستطيع أن يصبح إلهيًّا؛ إذ لا يمكن الجمع بين الله وبين الوثن، ولا يمكن الجمع بين الأنانية والإلهية»[24].
لذا وجدنا السيد الخميني في حركته النهضوية الإصلاحية، يركّز على ضرورة الانتباه إلى هذا الخطر الكبير، وضرورة المعرفة الدقيقة والواعية بأقرب الأعداء إلى الإنسان، وهي النفس التي بين الجنب، والعمل على مراقبتها وتتبّع أساليبها المتنوِّعة في الإيقاع بالإنسان والسقوط به في مدارك الجهالة والظلمانية والغفلة عن الحق. يقول في إحدى توصياته العرفانية: «واعلم أن جميع ما يحل ببني آدم من مصائب ناشئ من الإرث الشيطاني. فهو أصل الفتنة، وربما تشير الآية الكريمة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، في بعض مراحلها ومستوياتها إلى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده. ولهؤلاء فروع وجذور في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كل إنسان أن يجاهد حتى لا تكون فتنة داخل نفسه وخارجها، فإذا حقَّق هذا الجهادُ النصرَ؛ صلحت الأمور كافة وصلح الجميع»[25].
فتكون حقيقة العرفان إذن ماثلةً في السعي المخلص والاجتهاد الواعي نحو تحقيق النصر ولو في بعض مستوياته، على جبهة النفس، عبر التمكُّن من الحدّ من الأهواء النفسانية التي لا حد لا تنتهي. هذه المرحلة تعدُّ شرط كل سلوك عرفاني وبداية كل حركة نحو إصلاح الحال. فلا يمكن لأي كان أن يدَّعي إمكانية أن يحقّق تطوُّرًا على مستوى السير إلى الله والارتقاء في مدارج الكمال، ما لم ينجح في تحقيق مستويات من هذا الانتصار الأولي، وهو في الحقيقة ليس أوليًّا بل هو الهدف والغاية من العرفان، لأن جوهر هذا الأخير أن يحقّق العبد التحرُّر من حب النفس والعجب والانطلاق فيما يعبِّر عنه العرفاء «بالسفر من الخلق إلى الحق تعالى، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن الناسوت إلى ما فوق الجبروت»[26].
إن حقيقة العرفان هي جوهر تخليقي تهذيبي محدّد ومشروط بضوابط دينية عقدية، تتجاوز الضوابط العرفية أو الاجتماعية التي قد تكون في ذاتها تهذيبية، لكنها خارجة عن ضوابط التدين والاعتقاد الوحياني. والعرفان معرفة عملية سلوكية تتجاوز المستوى المعرفي التنظيري الخالص، وهو ذو غاية تهذيبية قوامه العمل على إصلاح النفس وتطويعها والارتقاء بها نحو مدارك الكمال والصلاح والطهر المعنويّ، بما هي حالة فطرية في الطبيعة الإنسانية. لأن الغاية العظمى والهدف الأسمى من هذا الوجود إنما هو تحصيل المعرفة الشهودية التي لا يرى العارف فيها أي شيء في الوجود سوى الحق تعالى وأسمائه وصفاته[27].
ثالثًا: العرفان والعمل
في مدرسة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) لا ينفصل العرفان عن العمل، ولا يمكن اعتبار ممارسة العرفان والتفرُّغ للرياضة النفسية بعيدًا عن مقتضيات الحياة ومتطلبات الكدح اليوميّ ممارسة عرفانيّة، بل إن الاكتفاء بالخلوة والانعزال للتعبّد، وإعلان الاستقالة الطوعيّة عن مهام الحياة ومتطلبات الكدح ليعدّ من صميم الانحراف، ووجهًا من وجوه الزيغ عن سواء السبيل.
إن التهذيب الحقيقي للنفس، والتطويع الحق في سبيل السير السلوكي العرفاني التام، لا يتم ولا يتحقَّق، إلَّا بكدح حقيقي وصبر وجهاد ومثابرة، وباقتحام مجالات الحياة ومواجهة مشاكلها والمساهمة الفاعلة والدؤوبة والجادة في بناء الحضارة وخدمة الإنسانية، أي إن العرفان يحوز قيمته، إضافة إلى امتلاك الحالات وتحصيل الملكات النفسانية وتمثّل الأفكار العقلية والحالات الروحية العالية، من سمته العملي ومن أفعاليّة الإنسان الداخليّة والخارجيّة، لا في بعدها الذاتيّ الفرديّ المحض، وإنما من جانب بعدها الاجتماعيّ الحركيّ في المجتمع. والصبر على مشاقّ المواجهة وليس الفرار أو الركون إلى التي هي أخف وأسهل.
يقول السيد روح الله الموسوي الخمينيّ، وهو أحد أبرز رواد النهضة الذين أعادوا للعرفان في الفكر الإسلامي المعاصر مفهومه الحقيقيّ، وأعطوه دفعةً جديدةً، أخرجته من دائرة المعارف النظرية والاصطلاحات الملْغِزة، التي تراد لذاتها ويتيه الباحث بين مصطلحاتها ومفهوماتها المجرّدة، إلى حقيقة عملية سلوكية، تحوز قيمتها الحقيقية من جانب وظيفتها السلوكية، ومن جانب دورها في توجيه الفرد، ليكون شخصًا تكامليًّا، يسعى نحو التجرّد من أنانيّته وإنّيّته الضيّقة والمهلكة، ويسير في اتجاه طهر معنويّ روحيّ يتخلّص فيه من نقائص الأخلاق وذميم الفعال في كل حركاته وسكانه.
يحوز العرفان قيمته إذن من جانب فاعليته الاجتماعية، بالنظر إلى كونه يصبح طريقًا موصلًا ألمَ الفرد بآلام الآخرين، وجسرًا لإشراكه في حاجاتهم ومعاناتهم، وكل مُنغِّصات عيشهم. فهو بعبارة الدكتور علي شريعتي «وسيلة لتلقين النفس، كيف تظل على تطلّع دائم إلى الأهداف والطموحات الإنسانية السامية»[28].
ولقد تنبَّه السيد الخميني إلى انحراف العرفان في ممارسة الكثيرين عن معناه، حينما أشار إلى أن «هناك فئة من الناس ظنوا أن معنى العرفان هو أن يجد الإنسان محلًّا ويتلوَ ذكرًا، ويحرّك رأسًا ويتمايل وغير ذلك هذا هو معنى العرفان. إن أعلى مراتب العرفان كان يحوزها الإمام عليّ (عليه السلام)، ولم يكن لمثل هذه الأشياء من وجود في سلوكه. لقد تخيّلوا أن الشخص العارف يجب أن يعتزل كل شيء ويتنحّى جانبًا ويتلو ذكرًا ويتغنى حينًا ثم يفتح دكانًا!!.. إن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الوقت نفسه الذي كان فيه أعرف الخلق بعد رسول الله في هذه الأمة، وأعرف خلق الله بالحق تعالى، مع ذلك فإنه لم يتنحّ جانبًا ولم يفعل شيئًا عبثًا، لم يكن له في أي وقت حلقة ذكر... كان مشغولًا بأعماله. ولكن يُتَخَيَّل أن أهل السلوك لا شأن لهم بالناس الآخرين، كل ما يجري في المدينة فليجر فأنا من أهل السلوك... لأذهب وأجلس في زاوية وأتلو وِردًا..! وهذا هو السلوك بحسب قولهم. إن السير والسلوك كان في الأنبياء أكثر من غيرهم، وفي الأولياء أكثر من غيرهم، لكنهم -الأنبياء والأولياء- لم يذهبوا إلى بيوتهم ليجلسوا ويقولوا: نحن أهل السلوك»[29].
على عكس هذا الفهم والتطبيق غير السليمين، فالعرفان الحق يمثّله الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، فهم جميعهم أمثلة ونماذج وقادة في كل مناحي الحياة الخاصة والعامة يجسِّدون العرفان الثّوري أو عرفان العبادة والتمسُّك بالعدالة. لقد كان زهدهم زهدًا ثوريًّا وزهدًا علويًّا، من أبرز معانيه «أن تتحمَّل الفقر لمكافحة الفقر وتصبر على الجوع لتكافح الجوع، والتنازل عن الخبز الشخصي من أجل توفير خبز الناس والتنازل عن اللذات والحياة الشخصية وتخفيف المعيشة والبساطة والاستغناء والاكتفاء بلقمة الخبز والملح وسد جوعه وجوع عائلته بالقليل من أجل إشباع جياع الناس، وتخفيف الحمل لكي ينطلق في خدمة المجتمع دونما إحساس بقيود الحياة الشخصية»[30].
وهذا يشير إلى ضرورة إدراج العرفان سلوكًا عمليًّا في الممارسة اليوميّة للفرد، وجعله من ضمن تحرُّكاته الدنيوية بين الناس في المجتمع. فهو يتصرَّف وفق مقتضيات الاستحضار الدائم للحق تعالى والمراقبة الدقيقة لكل حركاته وسكناته والمعاينة الموجِّهة لكيانه وعقله وجوارحه.
يشير السيد محمد الباقر الأبطحيّ في تقديمه للصحيفة السجادية، إلى أن أدعية الإمام زين العابدين السجاد (عليه السلام) «كانت ذات وجهين غاية في الارتباط والتكامل: وجهًا عباديًّا، وآخر اجتماعيًّا يتَّسق مع مسار الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أن يمنح أدعيته -إلى جانب روحها التعبدية المعطاء- محتوىً اجتماعيًّا متعدّد الجوانب، بما ضمَّنها من مفاهيم خصبة وأفكار نابضة بالحياة»[31].
فالإمام رغم المحن الشديدة التي كان يمر بها، ورغم حالة المضايقة والتهميش التي فرضت عليه، ورغم إبعاده عن الناس وإبعاد الناس عنه، ورغم حيلولة السلطة السياسية الأمويّة دون القيام بدوره كاملا في المجتمع، رغم ذلك نجد أنه يستغل هامش الدعاء والتوسل والمناجاة، لينخرط في شؤون المجتمع ويساهم في تربية الناس وتوجيههم وترشيد حركتهم في الحياة، للسير بهم نحو التكامل المطلوب. فكانت الصحيفة السجادية (زبور آل محمد) من أبرز الوثائق التي تثبت حيوية وفاعلية العرفان الإسلامي، وتؤكد مدى ارتباطه بالحياة وبهموم الناس والمجتمع، فهي أسلوب مبتكر في إيصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة إلى القلوب»[32]
وهذا يؤكد أن العرفان وحركة الذكر والدعاء وسلوك المناجاة والتوسل العرفانّي، ليست أمورًا محدودة قيمتها ووظيفتها في نطاق ما هو فردي وخاص، بل هي ممتدة إلى تحقيق هدف اجتماعي أوسع، هو تعليم المرء كيف يكون إنسانًا، فعبره يتم تلقين الفرد النشيد الروحي الموحي بالعمل الإيجابي وبالحركة نحو الآخرين»[33]. ولعلها المرتبة التي تسعى كل الحركات الإصلاحية التي تقوم في المجتمعات من أجل الوصول بالإنسان إليها.
رابعًا: العرفان والعلم
إن الاشتغال بأي نوع من أنواع العلوم، لا يمكن أن ينفصل عن جوهرية العرفان، مثلما أن حالة العرفانيّة لا يمكن أن تنال بالانتساب أو الادعاء أو المعرفة النظرية، فمهما تكن دقة المطالب العرفانية التي قد يبحث فيها الفرد وقد يتعمق في تعريفها وتبيينها والاستدلال عليها، كل ذلك لا يمكن أن يوجد حقيقة الإنسان العارف، ما لم تتجسد فيه معاني العرفان الحق، وما لم يحقّقْها سلوكيًا في حياته الخاصة والعامة، الظاهرة والباطنة.
بل إن كثيرا من المفاهيم والمصطلحات إذا ابتغاها الفرد لذاتها ولم يجعل منها وسيلة إلى إصلاح نفسه وتحقيق العبودية الحقّة لله في حياته، قد تغدو وبالا عليه، ولا تزيد إلا من ظلمانيّته وبعده عن العرفان الحق.
لقد رأى الإمام الخميني أن الانشغال بالعلوم «حتى العرفان والتوحيد، إذا كان لاكتناز الاصطلاحات -وهو حاصل- أو لأجل تلك العلوم فإنه لا يقرب السالك من الهدف، بل يبعده هو (العلم هو الحجاب الأكبر)»[34].
هذا الأمر نفسه هو ما يُوصي به الإمام إحدى الطالبات العارفات، حين سألته أن يرشدها إلى أهم الكتب العرفانية المساعدة في سبيل السير والسلوك، فأجابها: «ابنتي، اهتمي برفع الحجب لا بجمع الكتب،.. (قولي لي) إذا نقلت الكتب العرفانية والفلسفية من السوق إلى المنزل، من مكان إلى مكان، أو جعلت نفسك مخزنًا للألفاظ والاصطلاحات، وعرضت في المجالس والمحافل ما في جرابك وخدعت الحُضَّار بمعلوماتك، وزدت ثقل حملك بخداع الشيطان والنفس الأمّارة الأخبث من الشيطان، وأصبحت بلعبة إبليس زينة المجالس، وتبعك –لا سمح الله – غرور العلم والعرفان، وسيفعل، فهل بهذه المحمولات الكثيرة زدت الحجب أم خففته!»[35].
حين ندرك حقيقة العرفان، ونتمثّل جوهريّته في منظومة التفكير الإمامية، فإننا نلفي أنه يجمع بين كونه حالة سلوكيةً وتجسيدًا تربويًّا قوليًّا وفعليًّا وعقديًّا لمقتضيات الوحي، وسيرًا واعيًا ودقيقًا نحو غايات الشريعة ومقاصدها، وهو تبعًا لذلك، لا يمكن أن يغادر فرعًا من فروع الحياة، ولا يمكن أن يُفتقد أو يستغنى عنه في أي حركة من حركات الإنسان، علنيةً كانت أم سريةً.
إن من مقتضيات شمولية العرفان وهيمانيّته، أنه في مجالات العلم والمعرفة، ومهما يكنْ نوعها وتخصّصها، ومهما تتخذْ المعرفة والبحث العلميّ منحىً محسوسًا وتجريبيًّا، ومهما تكنْ دقة تخصّصها الماديّ المحض، فإنها من منظور العرفان يجب أن تظل مؤطّرة ضمن دائرة التوحيد، وخادمة غايات الكمال والرقي المعنوي، وسببًا للوصول إلى مراتب الطهر والخلاص الروحي، مثلما وجب أن تكون وسيلة لخدمة مشروع الحكومة الإلهية في الأرض، وطريقًا نحو تأمين سعادة البشرية والموجودات كلّها، في الدنيا والآخرة.
إن المعارف التخصّصيّة الدقيقة في الطبيعيات والرياضيات والطب والهندسة وغيرها من العلوم التي لا تكاد تحد، ليست مدروسة لا مطلوبة لذاتها، بل إن «الإسلام يؤطرها بالتوحيد، ويرجع الطبيعة بأسرها وكل الظلال الظلمانية إلى ذلك المقام النوراني الأخير الذي هو مقام الألوهية». فليس للإسلام نظر استقلالي للعلوم الطبيعية لأن كل العلوم، وفي أي مرتبة كانت، يريد لها الإسلام أن تخدم التوحيد فـ«ما هي إلَّا ورقة في هذا العالم، بل هي أرق الأوراق فيه. إن العالم من مبدأ الخير المطلق حتى نهايته موجود حظّه الطبيعي نازل جدًّا، وكل العلوم الطبيعية نازلة جدًّا إزاء العلوم الإلهية»[36].
ومهما يكن الاقتراب من الدين، أو يكن الاشتغال أو التخصّص في فروع الدين والعقيدة، فإن التّحرُّك وفق غايات التهذيب والسير في طريق الكمال الروحي والطهر المعنويّ، يبقى في مقدمة الاهتمامات، بل هو الحاكم العام والمهيمن على كيان وتفكير طالب العلم والمعرفة، مهما تكن دقة تخصصيته.
في كلمة للسيد الخميني لطلبة العلم في الحوزات العلمية وللطلبة الجامعيين يخاطبهم: «فأنتم على علم بمدى التّقدم العلميّ الذي أحرزتموه، وحجم المعارف التي اكتسبتموها في هذا العام الدراسيّ. ولكن ما الذي فعلتموه بالنسبة لتهذيب الأخلاق وتزكية النفس وتحصيل الآداب الشرعية والمعارف الإلهية؟ أية خطوة إيجابية خطوتم؟ هل كان لكم برنامج لذلك؟»[37].
بل إن الإمام، ومن موقع خبرته ومعاينته الواقع الفعلي للناس، ليسارع إلى الإجابة الصريحة الواضحة قائلًا: «للأسف، لا بدّ لي من القول بأنكم لم تُنجزوا عملًا يستحق الذّكر، ولم تقطعوا شوطًا يُذكر على طريق إصلاح نفوسكم وتهذيبها»[38].
فيتضح كيف أن الإمام يميِّز حقيقة بين فعل تحصيل العلم والاجتهاد في ذلك، وبين المراتب التي يمكن أن يحوزها الإنسان في ذلك، وبين البعد العرفانيّ لطلب العلم، وهو أن يكون وسيلة لتهذيب النفس وتحصيل الصلاح والارتقاء التكامليّ في سلم الطهر المعنويّ. فطلب العلم في حدِّ ذاته لا يمكن أن يكون غاية عرفانية، مهما تكن أنواع العلوم المدروسة، ومهما تكن تسمياتها ومستوى قربها من العلوم الشرعية.
فالمدرسة والجامعة والحوزة العلمية وغيرها من مجالات تحصيل المعرفة والعلوم، جميعها مطالبة بأن تكون في صميم السلوك العرفانّي، وأن تكون مهمتها تعليم وتعلُّم المسائل الأخلاقية والعلوم المعنوية وتهذيب النفوس وتطهير الروح، لتربية وتخريج علماء أخلاق ومربّين ومهذّبين متّقين وربّانيّين، أي عرفاء أو عرفانيّين، يُطمأَنُّ إليهم في الفضيلة والأخلاق والصلاح، ويمكن التعويل عليهم في هداية الآخرين وترشيدهم، وفق الطريقة المثلى التي رسمها الوحي، وجسَّدها الأئمة (عليهم السلام).
إن واجب العالم وطالب العلم أن يبتغي من فعله تحصيل آثار العلم وتحقيق صفات الحق في النفس، فالمعارف والعلوم، مهما سميت فقهية أو عقدية أو أصولية وحتّى حديثيّة أو قرآنية تفسيريّة، إذا بقيت في مستوى الاصطلاحات والمفاهيم السطحية الحاجبة صاحبها عن الحق، والتي لا يرجى منها تغيير في النفس ولا في أحوال صاحبها، هي في حقيقتها ليست بمعارف، فحقيقة المعرفة وحقيقة العلم أن يكون عرفانًا «يحيل القلب إلى محلّ تتجلى فيه أسماء الله وصفاته، وينزل فيه السلطان الحقيقي الذي يمحو آثار التلوّث.. (و) يجعل القلب أحديًّا أحمديًّا»[39].
إن حقيقة أي علم وأي فرع من فروع المعرفة أن يُرى مرتبطًا بالعمل، وأن يُصلح المفاسد الأخلاقية ويُهذِّب النفوس والعقول، ويُوجِّه الأفعال والسلوكات. يتساوى في ذلك عالم الدين المتخصّص في العلوم الشرعيّة والطالب أو الأستاذ الجامعيّ المتخصّص في قضايا فكرية، والمنشغل بفروع بحث أكاديمية، قد تبدو دنيويّة وعصريّة وتقنيّة محضة.
إن جوهر العلم بميزان العرفان أن تكون معرفة العبد واجتهاده فيه لله وفي سبيل الله، وأن تتحرَّك نفسه وجوارحه في هذا السبيل، وأن يخضع نفسه لمراقبة وتتبّع دقيقين، بما يضمن للنفس تخطِّي الحجب الظّلمانية وتحصيل الأهلية للدخول في ساحة الرّحمانية، وإلَّا فلا فائدة من العلوم التي يُحصِّلها الفرد، ولا قيمة لمعارفه ومصطلحاته وكتبه مهما كثرت وتعدَّدت عناوينها ومضامينها، فـ«إذا لم يتخلَّص الإنسان من الخبائث، فإنه مهما درس وتعلَّم لن يكون علمه مفيدًا، وليس هذا فحسب، بل سيكون مضرًّا. فالعلم عندما يرد أرضًا خبيثةً، سوف ينبت نبتًا خبيثًا ويصبح شجرة خبيثة. وكلما تكدَّست هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذب ازدادت الحجب أكثر فأكثر؛ فالعلم في النفس التي لم تتهذَّب يكون حجابًا مظلمًا (العلم هو الحجاب الأكبر)، ولهذا كان شرّ العالم الفاسد بالنسبة للإسلام أخطر وأعظم من كل الشرور»[40].
خامسًا: العرفان والبعد الاجتماعي
للعرفان في المدرسة الإسلاميّة الأصيلة، وفي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تحديدًا، بعده الاجتماعيّ الضروري، بالنظر إلى أن جوهر التهذيب المراد للنفس له جانبان؛ جانب لازم ذو علقة بذات الفرد في خلوتها تعبدًا وتنسُّكًا واعتقادًا وشعائرَ فرديةًّ (صلاة وصوم وذكر ودعاء... إلخ)، يكمله جانب آخر ذو بعد متعدٍّ، من حيث إن حقيقة كمال الفرد لا يمكن أن تتحقَّق ما لم يحز كمالًا من جانب حركته في المجتمع، ومن جانب علاقته بالآخرين، فـ«فعلاقة المسلم بغيره علاقة عضويّة تنشد التكامل»[41].
إن العرفان الحقّ تبدو أولى ثمراته على مستوى الذات حين تصبح مقتنعة بأن قيمتها الحقيقية تكمن في الانشغال بالواقع وبحاجيات الناس وبهمومهم، وفي مشاركتهم نوائب الدهر ومكاره العيش. كما تؤمن أن الغاية الإنسانية الكبرى ليست في عزلتها ولا في تمتيع الذات الفردية بما تطلب وترغب فيه، بل في تجسيد قيم الخير والصلاح في المجتمع، وفي القدرة على الخروج من سجن الذات الضيق والانفتاح على الآخرين. وتحقيق المجتمع المتآلف السائر نحو الوحدة المجسدة لمظاهر التوحيد. وهي العلاقة التي يتوجب أن يأمن فيها الآخر من جميع شرور الذات ونقائصها، وبالمقابل يتحصل منها المنفعة والخير والمساعدة والنفع بجميع أصنافه.
هكذا يكون العرفان في بعده الاجتماعي منضويًّا تحت حقيقة (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه)، لا يتملَّكه العُجب ولا التكبُّر ولا يفرح بمديح ولا يبخل بمعروف ولا يؤذي أحدًا في حضور أو غياب، فحقيقة العرفان الاجتماعي أن يُرى الإنسانُ إنسانًا حقيقيًّا، يَرى الناس كلهم أحباءه ويبادر إلى حسن التواصل معهم، لأنهم عيال الله «والخلق كلهم عيالك»[42].
في نظام الإسلام الأصيل لا يوجد أحد يمكن أن يدعي أنه غير معنيّ بشؤون المجتمع، وكما يشير السيد الخامنئيّ في بعض كلماته: «يجب على الجميع أن يشعروا بأنهم مكلفون بالنسبة لمصير المجتمع وأن يبحثوا عن تكليفهم»[43]، فلا يمكن للمجتمع أن يرتقي نحو مدارج الكمال الروحيّ والفكريّ، ولا يمكن تحقيق السعادة الإنسانيّة، ولا توفّر أجواء من الأمن والأمان، ما لم يكن الجانب الاجتماعيّ في الأمة سالكًا سبلَ النهوض الأخلاقّي والتربية الروحيّة المتكاملة.
بل إن ممارسة الشعائر التعبدية على صورتها الصحيحة، ووفق فلسفتها العميقة المتواشجة مع فلسفة الدين الحقّ، ومع مراميه الحضارية الخالدة وأغراضه الإنسانية الرحبة، تغدو من أهم مقومات وعناصر البناء السليم للمجتمع القويم.
إن العبادات جميعها، لا تنفصل عن غاياتها الاجتماعية ومراميها البانية. فمثلما أن الصلاة مطلوبة في المساجد مع الجماعة ترسيخًا لمبدأ التواصل والتلاقي المستمر بين المصلين، وتفعيلًا لمبادئ التساوي والتكافؤ بين الأفراد، ودرءًا لأحاسيس الفوقية والتكبر ومشاعر العلو، وكذلك الزكاة فهي فريضة تؤخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء، والحج يعد مهرجانًا سنويًّا وعالميًّا للمسلمين، يتشاورون فيما بينهم ويتدارسون شؤون دينهم ودنياهم، ويمارسون طقوسه بشكل موحَّد إشعارًا بتساويهم وتشابههم في حقيقة إنسانيتهم، والصوم عبادة جوهرها تحقيق التواصل بين الأفراد وتنمية روح الإحساس بالجائعين والمحرومين من أبناء لمجتمع.
يقول علي بن أبي طالب في وصيته لابنيه: «.. وَكُونَا لِلظَّالِم خَصْمًا وللِمَظْلُوم عَونًا... أُوصِيكُمَا، وجَمِيع وُلْدِي وأَهْلي ومَن بَلَغَه كِتَابِي، بِتَقْوى الله ونظْم أَمْركُم، وصَلاَح ذَاتِ بَيْنكُم، فإني سَمعت جَدّكما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «صَلاَح ذَاتِ البَيْن أَفْضَل مِن عَامّة الصَّلاة وَالصِّيام». الله الله في الأَيْتَام فَلاَ تَغبُّوا أَفْوَاهَهم، ولاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتكُم، والله الله في جِيرَانِكُم، فإِنَّهُم وَصِيَّة نَبِيّكُم.. وعَلَيْكُم بالتَّوَاصُل والتَّبَاذل، وإِيَاكُم و التَّدَابر والتَّقَاطُع»[44].
وها هو الإمام السجاد (عليه السلام) من خلال مقطع دعائي مختصر يوجهنا إلى هذا العمق الاجتماعي للتعبد والذكر والعرفان، أن يدرك الإنسان واجباته الإنسانية تجاه الآخرين، ويدرك حجم مسؤوليته ضمن المحيط الذي يتواجد فيه: «اللّهم إِني أَعتَذرُ إِليْك مِن مَظلُومٍ ظُلم بِحضْرتِي فلم أَنصُرْه، ومِن معْرُوفٍ أُسدِيَ إليَّ فَلمْ أَشكُرْه، ومِن مُسِيءٍ اعتَذرَ إِليَّ فلم أَعذُرْه، ومن ذِي فَاقةٍ سألَنِي فلَم أُوثِرْه، ومن حقِّ ذِي حقٍّ لزمنِي لمؤمن فلم أُوَفِّرْه، ومن عَيبٍ ظهَر لِي فلمْ أَسْتُرْه»[45].
فهو يضعنا أمام صور رائعة من صور النموذجية، ونكران الذات مطلوب أن يتحقَّق في الفرد العادي وفي المسؤول أو القدوة تجاه الغير؛ نصرته إن ظلم، وشكره على المعروف، والتماس العذر إليه في الخطأ، وقضاء حاجاته وتأدية الحقوق إليه.
وهذه في الحقيقة أخلاق تستمد من الأخلاق الرفيعة، التي أقرَّها الإسلام وحاول الأئمة الهاشميون ترسيخها قولًا وسلوكًا. فالإنسان في حقيقته مطالب بأن يكون تجلّيًا من تجليات الرحمة الإلهية في الأرض، حيث يرتقي الفردي إلى مستوى الإنسان النموذج، أو (الإنسان الرباني) أو (الإنسان الكامل)[46].
وفق هذه الامتدادات يغدو العرفان نهجا تواصليًّا فاعلًا، وحائزًا سمته الاجتماعي الواضح، بوصفه مدرسة تعلم الناس أسس العلاقة التكاملية بين بعضهم البعض، في طريق بناء المجتمع السليم والقوي والمتآلف، لأن أساسه ترسيخ العقيدة في نفوس الناس، وتوجيه اهتمامات الإنسان نحو إصلاح العلاقة بينه وبين الله أولًا، ثم الانطلاق لإقامة علاقات متميزة ومتينة بين أفراد المجتمع.
ومن ثمَّة إمكانية الحديث عن فرص النجاح والتميز في كل المجالات والأصعدة؛ لأن الإنسان الصالح يبقى هو المحور وقطب الرحى في كل ذلك.
سادسًا: العرفان والبعد السياسي
يُعِدُّ المجال السياسي من أهم المجالات تمتدُّ إليها دلالات العرفان في المدرسة المحمدية الأصيلة، بل إن السياسة لتتموضع في مقدمة القضايا التي تستوجب تجسيد حقيقة العرفان وتطبيق مبادئه الصحيحة، فلا مجال لمقولة: إن (السياسة هي فن الكذب)، ولا مقولة: (في السياسة، إن الغاية تبرر الوسيلة)، ولا مقولة: (السياسة أم المصالح تدور معها حيث دارت سلبًا أو إيجابًا)، وغيرها من المقولات التي هي في الحقيقة مجرَّد إفراز من إفرازات الاحتكام إلى إملاءات المناهج الوضعية العلمانية في تدبير الشأن العام.
وعلى العكس من ذلك تمامًا، فإن السياسة من المنظور المنهج العرفاني هي من أكثر المجالات حاجة إلى التخليق، وتعاطي الشأن العام وتحمّل مسؤولية الناس في المجتمع والسهر على قضاء حاجاتهم، وتمكينهم من حقوقهم، وقيادتهم نحو سبل تنفيذ واجباتهم، تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين ومجتمعهم، وتعريفهم بواجباتهم تجاه خالقهم.
كل هذه الأمور، وما يتفرَّع عنها، لهي بحق أحوج ما تكون إلى رؤية عرفانية دقيقة وحقيقية، حتى تؤتي السياسة أكلها وثمر نتائج إيجابية في المجتمع البشري، وإلَّا كانت وبالًا على العباد، وقادتهم نحو متاهات الانحراف والفساد والتيه على جميع الأصعدة.
تبعًا لهذا المدلول الإيجابي للعرفان وتأسيسًا له وجدنا أن السيد روح الله الخميني ينتقد بشدة تلكم الفئات والتوجُّهات التي كانت تؤمن بوجود مسافة ما بين العرفان والسياسة، وترى إمكانية الاعتزال والبعد عن الواقع السياسي لممارسة التعبُّد، وتنفيذ البرامج الترويضية للنفس، طلبًا للكمال الروحي. فقد رأى أن العرفان الحقيقي لا يناقض ولا يبرّر لصاحبه ومدعيه الابتعاد عن الانخراط في السياسة والدخول في شؤون المجتمع وتحمل المسؤوليات السياسية والاجتماعية، فاعتبر أنه «لا الاعتزال الصوفي دليل الارتباط بالحق ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الانفصال عن الحق»[47].
وفي هذا الصدد يمكن أن نعتبر هذا المنظور المؤسس لعرفان حضاري إيجابي مشارك في الحياة وممارس لدوره بين الناس، بمثابة رد على منظورات سلبية تبنتها كثير من التوجهات في العالم العربي والإسلامي، اعتقدت أن العرفان «هو في جانب منه موقف من العالم، موقف نفسيّ وفكريّ ووجوديّ، لا بل موقف عام من العالم، يشمل الحياة والسلوك والمصير. والطابع العام الذي يسم هذا الموقف هو الانزواء والهروب من العالم والتّشكيّ من وضعية الإنسان فيه»[48].
ورأت أن الموقف العرفاني كان دائمًا موقف هروب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقيل، كلما اشتدَّت وطأة الواقع على الفرد الذي لا يعرف كيف يتجاوز فرديته، ويجعل من قضيته الشخصية قضية جماعية وإن لزم الأمر قضية إنسانية[49].
مثل هذا الموقف السلبي من العرفان راجع إلى تطبيقاته الخاطئة في تجارب عديدة في المجتمع العربي الإسلامي؛ لذلك فإن ما طرحه الإمام الخميني إنما كان بهدف تصحيح هذه النظرة وإعادة العرفان إلى سكته الصحيحة، بوصفه مساهمة تربويّة وجوهر تخليقيّ غايته ضبط السلوك العام للفرد في الحياة. وهو النهج الذي تحكّم في الأنبياء والرسل والعرفاء الصالحين عبر التاريخ، فقد كانوا بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، وينظمون أحوال الناس في المجتمع، ويقيمون أسسه ويقودون الجيوش... إلخ.
ففي مجال السياسة تزداد حتمية السلوك العرفانيّ، والإنسان في نهاية المطاف معني ومطالب بتجسيد حقيقة العبودية لله تعالى في أي مجال من مجالات الحياة، بما فيها الحياة السياسية و«إذا أراد السالك أن تكون تسميته حقيقية، فلا بد له أن يوصل مراحم الحق تعالى إلى قلبه، ويتحقّق بالرّحمانيّة والرّحيميّة، وعلامة ذلك حصول نموذج منها في القلب أنه ينظر إلى عباد الله بنظر العناية والتلطيف، ويطلب الخير والصلاح للجميع، وهذا هو نظر الأنبياء العظام والأولياء والكُمّل (عليهم السلام)»[50].
وهذا ما يستفاد من كتاب أمير المؤمنين إلى أحد أمرائه وولاته على الأمصار: «أَمَا بَعْد، فَإِن حَقًّا عَلَى الوَالِي أَلَّا يُغَيّرَه عَلى رَعِيتِه فَضْلٌ نَالَه، وَلاَ طولٌ خُصَّ بِه، وأَنْ يَزِيدَه مَا قَسَم الله لَهُ مِنْ نِعَمِه دُنُوًا من عِبادِه وعَطْفًا عَلى إِخْوانِه»[51].
فالعرفان حقيقة عملية، وهو في هذا السياق الخاص، عمل سياسي يقتضي التجسيد الفعلي في مؤسسات ونظم مدنية، وفي ممارسات وتطبيقات الناس.
ومن ثمَّة لا تبقى حقيقة كلمة (عرفاني) أو (ديني) أو (وحياني) وما اشتق منها أو ارتبط بها محصورة فيما هو غيبي روحاني معنوي محض، بل إنها تتَّسع ليصبح العرفان ذا مدلول يبلوره الاجتماع المدنيّ كله، في السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها من المجالات، ويصبح مكتسبًا روحًا جديدة بما هو إطار يستوعب الاجتهاد الإنسانيّ الفكريّ والماديّ، بما هو دين ودنيا، وحْي وعقل، روح ومدنية، تربية وحضارة.
فيغدو العرفان مدرسة بانية للإنسان والمجتمع المدني، ويغدو مظهرًا عمليًّا للمدرسة الإسلامية الأصيلة القائمة على الجمع بين المظهرين المادي والمعنوي، الديني والدنيوي، خادمة لمشروع إقامة الحكومة الإلهية المنشودة بوصفها -وفق تعبير الإمام الخميني- «ظاهرة إلهية، يُؤَمِّن العمل بها سعادة أبنائها في الدنيا والآخرة، بأفضل وجه»[52].
والإسلام مدرسة على خلاف المدارس غير التوحيدية؛ حيث يتدخل في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، والمادية والمعنوية، والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ويشرف عليها، ولم يهمل أية نقطة ولو كانت صغيرة جدًّا مما له دخل في تربية الإنسان والمجتمع، وتقدمه، الماديّ والمعنويّ، ونبه على الموانع والمشكلات التي تعترض طريق التكامل في المجتمع والفرد وعمل على رفعها»[53] فمعنى العرفان وحقيقته تقود الى بناء الدولة الإلهية وتوجِد المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يجسد العدالة الإلهية ويؤسس الرحمة والمحبة بين الناس.
خاتمة
لقد بدا العرفان في المدرسة الإسلامية إذن، مشروطًا بمرجعيته الإمامية، بوصفها وسيلةً للحفاظ على الرسالة أو التجربة الإسلامية، وطريقًا لتحصينها ضدّ متاهات التردّي والانحراف. وهو نهج ومدرسة للحفاظ على «المقياس العقائديّ والرساليّ في المجتمع الإسلامي[54].
فهو في حقيقته توجيه ومتابعة تفصيلية ومتواصلة مستمرة، يوجِّه الإنسان من أجل أن يكون فردًا صالحًا في المجتمع، ويسوقه نحو بناء المجتمع الصالح، استنادًا إلى تعميق الرسالة فكريًّا وعقديًّا وسياسيًّا في الأمة نفسها، «بغية إيجاد تحصين كافٍ في صفوفها، لكي يؤثّر هذا التحصين في مناعتها، وفي عدم انهيارها»[55].
إن العرفان -وفق ما سبق- يغدو ممارسة، بقدر ما هو سلوك فرديّ واختيار أحاديّ أو لازم، يمثّل حالةً تخليقيةً تعبديَّةً، يؤطِّر الفردُ نفسه داخلها، هو أيضًا، ممارسة اجتماعية نافعةً وفعلًا تربويًّا بانيًا ومساهمًا في بناء المجتمع القويم والمتماسك، له آثاره الخارجية التي تساهم في نفع الناس وتحصيل الصلاح العام وترفع لواء الله، والولاء المطلق لأوامره، من أجل علاقة نموذجية بين الناس في المجتمع.
وذلك أبرز مظهر من مظاهر الفاعلية الاجتماعية لأي شعيرة عبادية في المدرسة الإسلامية الأصيلة. فهو ينهض برسالة خارجية متعدّدة الأوجه والتجلِّيات، فاستوعب في مضمونه السياسيَّ والاجتماعيَّ والعلميَّ والثقافيَّ، وكلَّ ما يُساهم في إقامة المجتمع، الذي تُصان فيه إنسانية الإنسان ويحقق تكامله المعنويّ. ويكون له دوره الفعَّال في تحسيس الفرد بحقيقة إنسانيته وسوقه لإدراك نظام العالم ماديًّا ومعنويًّا.
[1] ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، تعريب: شفيق أسعد فريد، بيروت: مكتبة المعارف، 1993م، ص81.
[2] روح الله الموسوي الخميني، الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، طهران: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام، ط 6، 2004، ص 9.
[3] الكليني، أصول الكافي، ج 1، باب: صفة العلم وفضله.
[4] روح الله الموسوي الخميني، الجهاد الأكبر، مصدر سابق، ص 233.
[5] ألفرد بل، الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم، ترجمه عن الفرنسية: عبدالرحمن بدوي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط3، 1987م، ص 153-154.
[6] الشيخ محمد السند البحراني، إسلام معية الثقلين لا إسلام منسلخًا عن الحديث، قم: منشورات دار التفسير، ط 1، ص 32.
[7] ابن حجر العسقلاني، الصواعق المحرقة، ص 75، نقلًا عن: السيد الفيروزأبادي مرتضى الحسيني، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1982، ج 2، ص 127.
[8] مستدرك الصحيحين، ج 3، ص 140، نقلًا عن: فضائل الخمسة من الصحاح الستة للسيد الفيروزأبادي، ج 2، ص 68.
[9] الشيخ محمد السند، إسلام معية الثقلين، مرجع سايق، ص 18.
[10] الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، ويليه الباقيات الصالحات، ترجمة: محمد رضا النوري، دار الثقلين، ط 2، 1998، ص 617.
[11] كما يصرح سيدنا علي بن أبي طالب C، ينظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم: 210.
وهذا ما شهد به عدد غير قليل من العلماء وكبار الصحابة الأجلاء، ويكفي أن نذكر من ذلك قول الصحابي الجليل ابن مسعود: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلَّا وله ظهر وبطن، وإن عليّ بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن...».
ينظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج 4، ص 233، نقلًا عن محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيع، منشورات الغدير، ط 4، 1999، ص 113.
[12] علي شريعتي، الإمام علي في محنه الثلاث؛ ترجمة: علي الحسيني، بيروت: دار الأمير، ط1، 2001، ص 156.
[13] زهير حسين غزاوي، الإمام علي بن أبي طالب إنسان للمستقبل (القلب والسيف)، بيروت: دار الهادي، ط1، 1424هـ - 2003م، ص152.
[14] تبعًا للحديث المشهور عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتِ الباب..»، أورده صاحب المستدرك ج 3، 126، نقلًا عن: السيد الفيروزأبادي، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، مرجع مذكور، ج 2، ص 281.
[15] عيد الدرويش، فلسفة التصوف في الأديان، دمشق: دار الفرقد، ط1، 2006، ص165.
[16] الشيخ محمد السند البحراني، الغلو والفرق الباطنية، رواة المعارف بين الغلاة والمقصرة، تحرير: حسن الكاشاني ومجتبى الأسكن، منشورات باقيات، ط1، 2011م،، ص 331.
[17] حديث مشهور ترويه جل كتب الحديث المتداولة بين المسلمين من مختلف المذاهب والفرق الإسلامية.
[18] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام)، ج 1، ص 179، نقلًا عن: الشيخ السند، إسلام معية الثقلين لا إسلام منسلخًا عن الحديث، مرجع مذكور، ص 130.
[19] الشيح محمد السند البحراني، الغلو والفرق الباطنية، مرجع مذكور، ص 43.
[20] روح الله الموسوي الخميني، رشحات ملكوتية، بيروت: مركز باء للدراسات، ط 2، 2008، ص 143.
[21] روح الله الموسوي الخميني، الجهاد الأكبر، مرجع مذكور، ص 10.
[22] السيد كمال الحيدري، العرفان الشيعي، ص 25.
[23] روح الله الموسوي الخميني، تفسير آية البسملة، ترجمة: عرفان محمود، بيروت: دار الهادي، ط2، 2000م، ص 44.
[24] روح الله الموسوي الخميني، تفسير البسملة، مرجع مذكور، ص 45 - 46.
[25] روح الله الموسوي الخميني، وصايا عرفانية، إعداد: عباس نور الدين، بيروت: مركز بقية الله، ط. 1، 1998، ص 85.
[26] روح الله الموسوي الخميني، وصايا عرفانية، مرجع سابق، ص 84.
[27] يحاول الشيخ الطوسي-كما ينقل عنه الشيخ حسن حسن زاده آملي- أن يُقرِّب إلى الأفهام هذه المراتب مُمثِّلا لها بمراتب معرفة النار؛ فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئًا يعدم كل شيء يلاقيه، ويظهر أثره في كل شيء يحاذيه، وأي شيء أخذ منه لم ينقص منه شيء، ويسمَّى ذلك الموجود نارًا، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير معرفة بالحجة. وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النّار وعلم أنه لا بد من مؤثر، فحكم بذات لها أثر هو الدخان، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر والاستدلال، الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع، وأعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها، وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر، ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلّص الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا أن (الله نور السماوات والأرض) كما وصف به نفسه.
وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته وتلاشى فيها بجملته. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله، وهي الدرجة العليا والمرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها بمنه وكرمه.
ينظر: الشيخ حسن زاده آملي، السير إلى الله، بيروت: دار المحجة البيضاء، ودار الرسول الأكرم، ط 1، 2001، ص 22.
[28] علي شريعتي، الدعاء، ترجمة: سعيد علي، دار الأمير للثقافة والعلوم، ط1، 1426هـ - 2006م، ص 53.
[29] السيد روح الله الموسوي الخميني، رشحات ملكوتية، بيروت: مركز باء للدراسات، ط2، 2008م، ص 226- 227.
[30] علي شريعتي، الإمام علي في محنه الثلاث، مرجع مذكور، ص 158.
[31] محمد الباقر الأبطحي، مقدمة الصحيفة السجادية الجامعة، للإمام زين العابدين، بيروت: دار الصفوة، 1992، ص 12.
[32] السيد محمد الباقر الأبطحي، مقدمة الصحيفة السجادية الجامعة، مرجع مذكور، ص 13.
[33]محمد فتحي عثمان، الفكر الإسلامي والتطور، تونس: دار البراق للنشر، ط1، 1990م، ص 186.
[34] السيد روح الله الموسوي الخمينيّ، وصايا عرفانية، مرجع سابق، ص 110.
[35] السيد روح الله الموسوي الخميني، وصايا عرفانية، مرجع سابق، ص 117. من وصيته إلى السيدة فاطمة الطباطبائي المعنونة بـ(وقود الحب)، من الصفحة 108 إلى الصفحة 130.
[36] روح الله الموسوي الخميني، صحيفة النور، ص 6 -7، نقلًا عن: حسن علي المحمود، المعرفة وفقًا للمنهج العرفاني، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام، ط 1، 2000، ص 9 - 10.
[37] الجهاد الأكبر أو جهاد النفس، مرجع سابق، ص 13.
[38] المرجع نفسه، ص 13.
[39] السيد روح الله الموسوي الخميني، رشحات ملكوتية، مرجع مذكور، ص 44.
[40] السيد روح الله الموسوي الخمينيّ، رشحات ملكوتيّة، مرجع مذكور، ص 186.
[41] عبد الرزاق محمد محمود فضل، في بلاغة الدعاء النبوي، منشورات دعوة الحق، العدد 181، 1 محرم 1418هـ - 8 مايو 1987م، ص 62.
[42] كما في دعاء أبي حمزة الثماليّ المروي عن الإمام علي (عليه السلام).
[43] السيد عليّ الخامنئيّ، أنوار الولاية، بيروت: مركز بقية الله الأعظم، ط1، 1999، ص 58.
[44] نهج البلاغة، ص 511 - 512.
[45] الصحيفة السجادية، مرجع مذكور، ص 166.
[46] السيد بحر العلوم مهدي بن السيد مرتضى الطباطبائي، رسالة السير والسلوك، تعريب: عبد الرحيم مبارك، بيروت - لبنان: دار المحجة البيضاء، (د. ت. ط)، ص 37.
- السيد محمد حسين الطباطبائي، عرفان النفس، جمع وتحقيق: الشيخ قاسم الهاشمي، بيروت - لبنان: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، ط1، 1423هـ - 2002م، ص 112 و 153.
[47] السيد روح الله الموسوي الخميني، بلسم الروح، ترجمة: الشيخ حسين كوراني، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1991، ص 17.
[48] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي دراسة تحليلية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، ص 255.
[49] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مرجع سابق، ص 259.
[50] روح الله الموسوي الخميني، الآداب المعنوية للصلاة، عرّبه عن الفارسية وشرحه وعلّق عليه: السيد أحمد الفهري، قم - إيران: مؤسسة دار الكتاب الإسلامي،( د.ت)، ص 390.
[51] نهج البلاغة، مصدر سابق ص 514.
[52] روح الله الموسوي الخميني، الوصية الخالدة، الترجمة العربية، بيروت، ص 21.
[53] المرجع نفسه، ص 22.
[54] السيد محمد باقر الصدر، أهل البيت، تنوع أدوار ووحدة هدف، بيروت: دار التعارف، (د.ت)، ص 144.
[55] المرجع نفسه، ص 131.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.