تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

شيعة العراق والدولة العراقية

محمد المحفوظ

شيعة العراق والدولة العراقية

 

محمد محفوظ

ارتبط المذهب الشيعي - الإمامي ارتباطًا وثيقًا بالعراق. وهناك أحداث تأسيسية للشيعة جرت في العراق؛ ففي عام 661م اغتيل الإمام علي بن أبي طالب في أحد مساجد الكوفة، وقُتل الإمام الحسين بن علي الذي ثار ضد السلطة الأموية وخاض معركة وقعت في سهل كربلاء عام 680م، وأمضى العديد من أئمة الشيعة الاثني عشر شطرًا على الأقل من حياتهم في العراق، وفي العراق توجد العتبات الشيعية الأربع، وهي النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء. ومنذ المراحل المبكّرة للتاريخ الإسلامي كان التعليم الديني الشيعي يمارس في مراكز العراق (الكوفة - الحلة - بغداد - النجف وكربلاء )... والقسم الأكبر من شيعة العراق هم عرب أقحاح، والفرس يشكّلون حوالي 5% من الشيعة في إحصاء 1919م والهنود أقل من 1%.

«ولم يأخذ العلماء والطلاب الفرس بالوصول إلى العراق بأعداد غفيرة إلَّا ابتداء من القرن الثامن عشر. وكان الاحتلال الأفغاني لإصفهان في 1722، ومحاولات نادر شاه لتشجيع التقارب السني - الشيعي ومصادرة الكثير من الأوقاف التي تدعم رجال الدين الشيعة في إيران، وقد شُرّدت المئات من عوائل العلماء الذين هرب الكثير منهم إلى العراق خلال الفترة الممتدة من 1722 إلى 1763، وانتقل مركز الدراسات الشيعية من إيران إلى العراق، أولًا إلى كربلاء ثم إلى النجف، وانتشرت اللغة الفارسية حينذاك انتشارًا واسعًا في كربلاء والنجف وبغداد والبصرة، ولمدة ثلاث سنوات كانت البصرة تحت سيطرة الزند، وبعد أن قام كريم خان زند حاكم جنوب غرب إيران باحتلال المدينة في 1776م، وطبّق الصلاة على الطريقة الشيعية ومواعظ الجمعة الشيعية»[1].

وفي القرن التاسع عشر ظهرت الجالية الفارسية بوصفها أشد المكوّنات نفوذًا بين سكّان مدن العتبات الدينية - الشيعية.

وبعد الاحتلال الصفوي للنجف في عام 1508 أمر الشاه إسماعيل الأول بتنظيف قناة المدينة القديمة التي علاها الطمي، وامر خليفته طهماسب -الذي زار النجف في حوالي عام 1527- بشقّ قناة أخرى لنقل الماء من الحلة إلى النجف. ولاحظ الرحالة البرتغالي (تيكسيرا) -الذي زار النجف في عام 1604- أن المدينة كانت خربة تقريبًا منذ أن تُوفِّي في عام 1576 الشاه طهماسب الذي قيل: إن المدينة كانت أثيرة عنده. والترعة التي شقّها السلطان سليم الثاني (تُوفِّي في 1574) طمرت وكانت بحاجة إلى تنظيف متواصل. وكان جميع سكان النجف يعتمدون في إمداداتهم من الماء على بعض الآبار داخل المدينة بالدرجة الرئيسية. وثمة محاولات تاريخية عديدة لشقّ قناة أو قنوات لإيصال الماء إلى النجف إلَّا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل و الإخفاق. ويبدو تاريخيًّا أن وضع الشيعة في العراق مرتبط بطريقة أو بأخرى بطبيعة العلاقة السياسية بين تركيا وإيران؛ فإذا تحسنّت هذه العلاقة انعكس هذا إيجابيًّا على وضع الشيعة في العراق السياسي والاقتصادي، وإذا أصبحت العلاقة سيّئة فإن وضع الشيعة في العراق يكون كذلك أيضًا. وكانت النجف حتى عام 1918 واقعة تحت نفوذ كتلتين عربيتين: الزغرت والشمرت، وقد تمكّن هؤلاء من طرد العثمانيين من النجف في إبريل 1915م، وأدار هؤلاء منذ طرد العثمانيين حتى مايو 1918م حين تحطّمت سلطتهم على يد البريطانيين.

الخريطة العشائرية لجنوب العراق

ليس هناك دليل يشير إلى أن الشيعة اقتربوا ذات يوم من تشكيل أكثرية السكان في العراق قبل القرن التاسع عشر، بل وحتى القرن العشرين. وعلى الرغم من أن التشيع حدث في العراق طيلة التاريخ الشيعي فإنه كان يقتصر بالدرجة الرئيسية على المدن التي لم يكن يقطنها إلَّا قسم صغير من السكان. ومن حين إلى آخر كانت بعض العشائر العربية تجنح إلى قبول المذهب الشيعي مثل بني سلامة والطائيين والسودان في الأهوار القريبة من خوزستان خلال سلالة المشعشع الشيعية العربية في القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر.

وتعود المتغيّرات العشائرية والاجتماعية في جنوب العراق إلى السياسة العثمانية التي عملت على توطين العشائر. وكانت هذه التحوّلات المذكورة أعلاه هي نتيجة طبيعية إلى عملية التوطين؛ فالعشائر التي توطّنت هي التي خضعت للتحوّل المذهبي، وهي التي حوّلت جنوب العراق إلى المذهب الشيعي، أما العشائر التي لم تستوطن فبقيت على مذهبها؛ لأن العثمانيين كانوا يستهدفون التوطين والتوجّه نحو ممارسة الزراعة حتى يزيد حجم العوائد المتحقّقة من الضرائب لإدامة انخراط الإمبراطورية بصورة متزايدة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وبفعل هذه السياسة العثمانية المتّبعة في العراق تمّ الحد من سلطة الشيوخ واسترداد الأرض، وأدى هذا إلى سلسلة من التمرّدات في عام 1849و 1853و 1863 - 1866و 1878 - 1883و 1899 - 1905.

واندلعت هذه التمرّدات بمشاركة بني لام والخزعل والزبيد والدليم والظفير وعفك والبوحمد. وأغلب هذه الأحداث كانت في منطقتي المنتفق والشامية. «وأدى الانتقال إلى الزراعة إلى تنويع الاقتصاد العشائري وتراتب المجتمع العشائري، وأسفرت حيازة ممتلكات زراعية عن تغيّر ميزان القوى السياسية بين العشائر المتوطّنة والعشائر الرُّحَّل، وأثر ذلك تأثيرًا بالغًا على العلاقات الداخلية للعشائر التي توطّنت بتغيير دور الشيخ وتوسيع الشّقّة بين القطاعات الغنية والقطاعات الفقيرة، وأخذ الشيخ على عاقته مسؤوليات جديدة بصفته جابي ضرائب أو حامي صكّ من صحوك الملكية.

وكان عليه أن يحافظ على النظام والأمن في منطقة عشيرته، وأن يمارس التحكيم في النزعات بين رجال العشائر، وأن يمثل العشيرة أمام الحكومة، وأن ينظّم أعمال السخرة وغيرها من الاشغال العامة، وأن يشرف على توزيع الماء على الزرّاع من أبناء العشيرة. وأصبحت فروع عشائرية صغيرة وأفراد من رجال العشائر، بدورهم، مرتبطين بالأرض، وأخذوا يدركون وظيفتها كموطن للعشيرة. ونشأت مصطلحات لغوية عشائرية للمنطقة التي انتقلت إليها العشائر مع قطعانها (الديرة)، ولحيازة الأرض (اللزمة) بين العشائر التي توطّنت على امتداد الفرات الأوسط تعبيرًا عن الإحساس باكتساب ملكية من الأرض»[2].

والاحتلال البريطاني للعراق لم يُنهِ مشاكل العراق وإنما فاقمها؛ لذلك نجد أن سنوات احتلال العراق هي كفاح الشعب العراقي المتواصل لطرد المحتل ونيل الاستقلال السياسي؛ فكانت ثورة 1920م، وهي محاولة شعبية عامة لطرد المحتل البريطاني ونيل الاستقلال. وقد قاد هذه الثورة العلماء والفعاليات الوطنية والمجتهدين والحوزة العلمية إضافة إلى الشخصيات الوطنية التي يزخر بها الشعب العراقي. والأنظمة السياسية التي جاءت بعد ثورة العشرين لم تنهِ حالة الكفاح المتواصل من قبل قوى الشعب العراقي لنيل الاستقلال والتخلّص النهائي من الاستعمار البريطاني.

وبعد صدام متواصل قاده فقهاء العراق تمكّن النظام السياسي آنذاك من نفي الرموز الدينية الكبرى الذين رعوا حراك الشعب العراقي للمطالبة بالحرية والاستقلال. وهؤلاء الرموز هم الشيخ مهدي الخالصي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد حسين النائيني، وغادر بعد هذا الإجراء الكثير من المجتهدين الأراضي العراقية ولجؤوا إلى ايران.

«وكان المجتهدون متلهّفين للعودة إلى النجف من أجل الحفاظ على مركز المدينة المرموق، وتفادي فقدان الاحترام بين أتباعهم في العراق. وكانت إقامتهم في قم قد أثارت بعض التوتّرات بينهم وبين رجل الدين الأكبر هناك، عبدالكريم الحائري، الذي كان يسعى حينذاك لتثبيت مركزه وفتح مدرسة خاصة به في هذه المدينة. ولم يعرب الحائري في العلن عن تأييده التام لموقف المجتهدين النجفيين، ولم يقد حركة جماهيرية دعمًا لهم، كما كانوا على الأرجح يتوقّعون منه. وفي الوقت الذي لا توجد فيه مؤشرات على أن الحائري نفسه سعى إلى إضعاف موقف المجتهدين النجفيين فإن بعض العلماء الإيرانيين الآخرين حاولوا استخدام هذه الواقعة لتعزيز قوّتهم في مواجهة المجتهدين النجفيين، وكذلك لتقوية موقع قم كمركز أكاديمي شيعي حينذاك كانت تذهب إلى أن النجف ينبغي أن تكون مقرّ المجتهد الأكبر الذي يُناط به هذا المركز. وقد اعتبر النائيني والأصفهاني نفسيهما من المرشّحين الأقوياء لهذا المنصب. وفي شباط/ فبراير كتب الشيخ جواد الجواهري من النجف إلى النائيني يتوسّل به وبالمجتهدين الآخرين أن يعودوا وإلَّا فإنهم سيفقدون موقعهم في العراق، حيث أخذ مجتهدون آخرون يحتلّونه بوتيرة متسارعة. ويبدو أن فيروز آبادي الذي بقي في النجف، كان يعدّ العدة من أجل الاعتراف به مجتهدًا أكبر»[3].

وسُمح للمجتهدين بالعودة إلى العراق في 22 نيسان/ أبريل 1924م. وكان لإبعاد هؤلاء المجتهدين من العراق ورحيلهم إلى إيران آثار عميقة على المجتمع الشيعي العراقي، والعلاقة بين الدين والدولة في العراق، وموقع الإسلام الشيعي في العراق وإيران. وفي هذه الفترة بالذات بدأت بالبروز الاجتماعي والسياسي والأمني ظاهرة المجتهد الشيعي العربي أو العراقي، والمجتهد الشيعي الإيراني أو الفارسي. وعبّرت الحكومة العراقية آنذاك عن ضرورة تطهير المدن الشيعية من هيمنة النفوذ الفارسي. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1925م لوحظ نشوب صراع حادّ داخل المؤسسة الدينية - الشيعية، شقّها إلى معسكرين: المعسكر الفارسي بقيادة الأصفهاني والنائيني، والمعسكر العربي بقيادة أحمد كاشف الغطاء. «وعاد الصراع العربي - الفارسي إلى الظهور في عام 1932مع مشاركة الحكومة بنشاط في النزاع ووقوفها إلى جانب المجتهدين العرب. وكان سبب العلة مرّة أخرى صالح الحلي. فلقد كان يُلقي المواعظ في المناطق الشيعية وخاصة في العمارة موجّها تعليقات محسوبًا لها أن تُغيظ الأصفهاني والنائيني. وجادل الحلي قائلًا: إن ثلث التركة العقارية للمتوفّين الشيعة التي كانت تسلّم إلى كبار المجتهدين، ينبغي أن يدفع بدلًا من ذلك إلى الفقراء من خلال المؤسسات الدينية الخيرية في أحيائهم أو من خلاله هو. ودعم الحلي في حملته اثنان من كبار المجتهدين العرب هما محمد حسين كاشف الغطاء (توفي عام 1954) ومحمد علي بحر العلوم (توفي عام 1936). وكان كاشف الغطاء الذي برز بوصفه أشهر المجتهدين العرب في ظل الحكم الملكي، ينافس حينذاك لاحتلال مرتبة أعلى في المؤسسة الهرمية الدينية الشيعية، وكان خيار فيصل لتمثيل العراق في مؤتمر القدس الإسلامي الذي عقد في كانون الأول/ ديسمبر 1931. ونصّب بحر العلوم عينًا من أعيان الحكم الملكي. وقيل: إنه كان يقوم بدور حلقة الوصل بين الحكومة في بغداد وبين العلماء والفئات الاجتماعية الأخرى في النجف»[4].

وبدأ النظام السياسي في العراق في هذه الفترة وما تلاها، في إقصاء وإبعاد تأثير المجتهدين في السياسة وإدارة الدولة. ومع رحيل المرجع الديني أبو الحسن الأصفهاني في عام 1946م انتقلت القيادة الدينية من النجف إلى قم. وبروز السيد محمد حسين البروجردي كمرجع للتقليد في قم ساهم في عملية الانتقال بشكل كبير. «وأدّى تطوّر الوضع الاقتصادي لكبار شيوخ العشائر في العراق وازدياد ثقلهم السياسي إلى إضعاف هويتهم الطائفية. ففي الوقت الذي تراجع فيه موقعهم كجزء من النخبة الشيعية ظهر الشيوخ ومعهم نظراؤهم السنة كطبقة في العراق الحديث. وزادت دعوة الدولة إلى القومية العربية من الاختلافات الإثنية بين الشيوخ العرب والمجتهدين الذي كان أغلبهم من الفرس. وتجلّى نجاح الدولة في شقّ النخبة الشيعية وكسب شيوخ العشائر إلى جانبها في عدد من المناسبات التي أظهر فيها سلوك الشيوخ ازدياد التضارب بين مصالحهم ومصالح المجتهدين»[5]. «وفي الوقت الذي تعزّز فيه الموقع السياسي والاقتصادي الاجتماعي للشيوخ الكبار في ظل الحكم الملكي العراقي فإنهم فقدوا الكثير مما تبقّى من قوتهم العسكرية وقدرتهم على تعبئة قبائلهم ضد الحكومة في بغداد. وكان هذا أساسًا نتيجة اتّساع الفوارق التي باعدت بين الشيوخ ورجال عشائرهم وكذلك السيطرة الفعّالة التي بسطتها الحكومة على المراكز العشائرية الحساسة، وخاصة السراكيل. وكما بيّنا في الفصل الأول فإن ظهور السراكيل بين عشائر العراق ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعملية توطّن القبائل والانتقال إلى الزراعة خلال القرن التاسع عشر. وفي زمن العثمانيين كان السراكيل في الأساس بمثابة مراقبي عمل، دورهم إبقاء الأرض مزروعة وجمع العوائد للملّاك. وفي العهد الملكي أدّى تعزّز الموقع الاقتصادي والسياسي لشيوخ العشائر الكبار وازدياد مصالحهم الخاصة في بغداد إلى انفصال الشيوخ أكثر عن عشائرهم لأنهم لم يكونوا يمثّلون لا المصالح الزراعية للفلاحين ولا مصالح السراكيل. وأصبح السراكيل الشيوخ الحقيقيين على الأرض. وفي أحيان كثيرة كان هؤلاء السراكيل المعيّنون والمدعومون من الحكومة، يمتلكون مضيفًا خاصًّا بهم ويحيط بهم أتباع مسلحون. ولذا كانت بعض الثورات التي انفجرت في الجنوب الريفي إبان العشرينات والثلاثينات مظهرًا من مظاهر الصراع على السلطة بين عناصر مختلفة من مكوّنات القيادة العشائرية أكثر منها تأكيدًا لاستقلال العشائر الشيعية»[6].

ومع ظهور وبروز العاصمة (بغداد) بوصفها مركز السلطة أخذت النجف وكربلاء تجدان صعوبة متزايدة في قيادة محور هوية الشيعة في الدولة الجديدة؛ «لذلك كانت البطالة متفشية في المدينتين على السواء، وقدرت نسبتها في النجف إلى حد 50% في عام 1938م»[7].

ولاكتمال عناصر القوة والسلطة لدى الدولة في بغداد تم اضعاف وتراجع موقع النجف وكربلاء.

الطبقات والإثنيات في المجتمع العراقي

ثمّة مقاربتان في فهم المجتمع العراقي، المقاربة الأولى تعمل على فهم الواقع العراقي من خلال تشكّل الطبقات الحديثة في المجتمع العراقي، وعلى ضوء التوزيع الطبقي الحديث يتعدّد المجتمع العراقي، ولا يمكن فهمه من كل النواحي إلَّا بفهم آلية تشكّل الطبقات الحديثة في الواقع العراقي.

والمقاربة الثانية ترى أننا لا يمكن فهم الواقع العراقي دون فهم الطوائف والقبائل التي يتشكّل منها المجتمع العراقي. وفهم هذه المكونات ذات الطابع التاريخي هو السبيل لمعرفة كل جوانب ومناحي الحياة في الواقع العراقي.

«إن الطبقات في العراق كيانات غير مستقرّة نسبيًّا، على الأقل منذ فترة 1914.وبالطبع فإن البنية الطبقية لا تتميّز -من حيث المبدأ- بالثبات، غير أن الوضع في العراق اتّسم بحركات دخول وخروج سريعين من وإلى الطبقات القائمة، أو حركات صعود وتدهور داخل هذه الطبقات عينها، وذلك نتيجة عدد من العوامل بينها: الغزو الإنكليزي، تغلغل رأس المال العالمي، تجزئة الإمبراطورية العثمانية، وفصل المقاطعات العربية في شمال العراق عن مناطقها التجارية الطبيعية في سوريا، البناء السريع لمؤسسات الدولة الملكية والكساد العالمي في عام 1929، سياسات تسوية الأراضي في عام 1932 و 1938، الشح الشديد وانفلات التضخم الجامح خلال الحرب العالمية الثانية وسنوات ما بعد الحرب، الهجرة الجماعية لليهود في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات، التدفّق المفاجئ لأموال النفط بعد عام 1952، ثورة 1958، اندلاع الانقلابات والانقلابات المضادة العديدة في الستينات، تقويض السلطة الاجتماعية للملكية الخاصة الكبيرة، النمو الهائل للبيروقراطية (أجهزة الدولة) في حياة الناس، الارتفاع المذهل في إيرادات النفط في السبعينات، وما رافقها من تزايد في القدرة المالية للحكومة، واستقلالها الاقتصادي عن المجتمع وتزايد قدرتها على الحكم المطلق، والهجرات الكبرى إلى المدن خلال العقود الأربعة لرجال القبائل الفلاحين من الأرياف، تنامي سكان بغداد إلى 13 ضعفًا بين عامي 1921 و 1978.

كما تعرّضت الطبقات إلى انقلابات فجائية في حظوظها أو في العلاقات المتبادلة فيما بينها. ومسّت هذه الحركات والتحوّلات مجموعات بأسرها، وليس مجرّد أفراد أو أسر، ولعل نمو الجزء الشيعي من طبقة التجار، بعد هجرة التجار اليهود، واحد من الأمثلة ذات المغزى في هذا الصدد. بموازاة ذلك، كانت بعض العناصر الطبقية تتقدّم في جانب، وتتدهور في جانب آخر، كما هو الحال مثلًا في ثراء العديد من الشيوخ القبليين المالكين للأرض في ظل العهد الملكي (1921 - 1958 ) على حساب أبناء القبيلة البسطاء، ما أدّى إلى تقويض الروابط القبلية، مما أضعف الموقع الاجتماعي التقليدي لهؤلاء الشيوخ. بتعبير آخر، إن هؤلاء الشيوخ كانوا يصعدون كطبقة اجتماعية، ويتفسّخون كجماعة تقليدية من جماعات الوجاهة في آن واحد»[8].

وعليه نستطيع القول: إن الطبقات الاقتصادية في المجتمع العراقي، تتحوّل وتتغيّر باستمرار، وذلك بفعل عوامل عديدة لعل من أبرزها تدخل السياسي أو تحكمه في طبيعة التطوّر الاقتصادي الذي يجري في المجتمع العراقي؛ لذلك فإن القراءة الاقتصادية - الطبقية، ليست قادرة بوحدها لمعرفة ميكانيزمات الحركة الاجتماعية واتجاهاتها السياسية. ولا خيار أمام أي باحث في الواقع العراقي إلَّا دراسة المكوّنات التاريخية والطائفية التي يتكوّن منها المجتمع العراقي، فإن هذه الأطر التاريخية تقرّبنا كباحثين على فهم طبيعة الحركة والاتجاه السياسي الذي تتحكّم فيه.

ولأن مفهوم الطبقة من حيث الجوهر «تشكيلة ذات أساس اقتصادي، رغم أن مفهوم الطبقة يُشير آخر المطاف إلى الموقع الاجتماعي لعناصر الأفراد والأسر المؤلِّفة للطبقة في مختلف جوانب هذا التشكّل، هذا أولًا. ثانيًا، إن مفهوم الطبقة يتطلّب أو يفترض -من وجهة النظر ذاتها- وجود فكرة اللامساواة، أو أن اللامساواة تتعلّق أساسًا بتفاوت الملكية بين طبقة معينة وواحدة أخرى في الأقل، أو طبقة واحدة أخرى سياسية، إن اقتصرنا على النظر إلى التشكيلات بمنظور الثنائية. وإذا توخينا المزيد من الوضوح، أقول: إننا نجد من الصعب ألَّا نتّفق مع جيمس ماديسون وكارل ماركس وماكس فيبر على أن الملكية أو الإفقار إلى الملكية هما العنصران الجوهريان للوضع الطبقي، وإن هذا التضاد يضم بذور علاقات الاحتراب بين الطبقات، أن القبول بهذا التعريف لا يعني بالضرورة القبول بسلسلة المفاهيم الأخرى المختلفة التي يقرنها كل واحد من هؤلاء المفكرين الثلاثة بمفهوم الطبقة، كما لا يعني القبول بالفرضيات والمضامين الأخرى الملازمة للمفهوم عندهم إلَّا إذا كانت هذه الفرضيات والمضامين قابلة للتثبت تجريبيًّا في الحالة قيد الدرس»[9].

ولا جدال أن السياسي في العراق كان يتدخّل عبر آليات عديدة في تراتبية الملّاك ومغزاها السياسي.

وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد أن الطبقة كظاهرة اجتماعية متعدّدة الأشكال ومتمايزة في آن. لذلك نجد عبر العصور السياسية المتعاقبة على العراق الحديث فإن شيوخ القبائل بوصفها مالكة للأرض ومعبّرة عن مصالح أبناء قبيلتها، كانت درجة قوة وصلابة هؤلاء متغيّرة بسبب طبيعة الظروف السياسية. ففي حقبة كان هؤلاء يشكّلون قوة فاعلة في الدفاع عن مصالحها وللتعبير عن مآلاتها الاجتماعية، إلَّا أنها في ظروف سياسية متنوّعة لا تمتلك هذه القوة والفاعلية. والسبب في ذلك يعود إلى الطبيعة السياسية التي تتحكّم في الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق. وبفعل الاختلافات السياسية والأيديولوجية في العراق، وهي اختلافات متغيّرة باستمرار؛ فإن ملّاك الأرض الكبار وملّاك الأرض الصغار يقعون في مواقع متعارضة لبعضهم كما هو الحال خلال فترة 58 - 1959م الثورية.

«ورغم أن البنى الاجتماعية لمختلف المدن والمناطق كانت تمتاز بخصائص مشتركة، فإنها كانت تختلف باختلاف الوظائف التاريخية، أو الأحوال الطبيعية لهذه المدن والمناطق عينها. ومن البداهة القول: إن الطابع الاجتماعي لمدينة سوق قبلي، مثل مدينة سوق الشيوخ، يختلف اختلافًا بيّنًا عن الطابع الاجتماعي لمدينة من مدن العتبات الشيعية المقدسة، مثل النجف، مركز الزيارات الدينية، أو يختلف عن الطابع الاجتماعي لمدينة بغداد، التي بقيت ردحًا طويلًا من الزمن مركزًا أساسيًّا للحكم، ومركزًا تجاريًّا ذا أهمية عالمية»[10].

وعلى ضوء هذه التحوّلات المتسارعة نستطيع القول: إن معرفة الطبقات الاجتماعية لا تُفضي إلى فهم عميق لطبيعة التطوّرات السياسية والاجتماعية.

وعليه فإننا نعتقد أن معرفة ودراسة المكوّنات الاجتماعية التقليدية (القبيلة - الطائفة - العشيرة) هي القاعدة التي توصلنا إلى فهم دقيق لميكانيزمات التحوّل والتغيّر السياسي والثقافي في المجتمع العراقي.

وإن تجاهل هذه المكوّنات تزيد من غبش الرؤية وحماية الوحدة الوطنية في العراق لا يأتي بتجاهل هذه المكوّنات أو التغافل عنها. بينما معرفة هذه المكوّنات هي التي تقرّبنا من فهم آليات التحوّل ومجالاته في أي حقبة من حقب التحوّل في الواقع العراقي؛ لذلك فإن كل التجارب الحركية الأيديولوجية والسياسية، كانت تعبّر في العمق عن القاع الاجتماعي العراقي، وإن هذه التجارب لا تقلّل من أهمية معرفة هذه المكوّنات في الواقع العراقي، وإنما تؤكد مجددًا أن هذه التشكيلات الحداثية والأيديولوجية لم تعد قادرة على محو واستئصال المكوّنات العميقة في الواقع العراقي.

التنوّع في المجتمع العراقي

المجتمع العراقي كأغلب المجتمعات الإنسانية ينقسم انقسامات عديدة إثنية، ودينية، ومذهبية، واجتماعية سواء طبقات اجتماعية أو جماعات مهنية علاوة على انقسام الحضري - الريفي؛ لذلك فإن القاع الاجتماعي للواقع العراقي يزخر بها المجتمع العراقي. «ويمكن القول بوجه عام: إن القبائل في منطقة غرب الفرات ومنطقة الفرات الأوسط، التي تتّصل اتصالًا مباشرًا بالصحراء، احتفظت، أو عادت إنشاء بعض تقاليدها بدرجة أكبر من القبائل الواقعة إلى الشرق، والتي تمازجت مع السكان المستقرين. (هناك بالطبع استثناءات دومًا: مثل الاتحاد القبلي الكبير: بني لام).

ومن المثير أن نلاحظ كيف أن الرمزية التي يستخدمها صدام حسين تحاكي، بشكل كاريكاتيري، النموذج البدوي في غرب العراق (من حيث اللباس، والاحتفاظ بقطع من الجمال والذهب إلى الصحراء، وما شاكل) إلى درجة إشهار الاحتقار الكامل لفلاحي الشرق والجنوب العراقيين (الذين يطلق عليهم، تحقيرًا، اسم المعدان). أما النتيجة الثانية المترتبة على انحدار عالم البداوة، على مستوى المورفولوجيا الاجتماعية الأساسية فهي التحويل السريع في العلاقات والبنى الاجتماعية السابقة، الجاري لتقويض التعارض بين المدينة والريف»[11].

و«إن المصطلحات العشيرة، الفخذ، البو، الفندة، الحمولة، البيت، تصف العلائق الأساسية التي تؤلّف التنظيم الاجتماعي القبلي في العراق، وسط سكان الحضر والريف على حدّ سواء. ويشير كل مصطلح إلى نظام خاص من العلائق يتيح لكل فرد أن يدرج نفسه ويحتل موقعه في النظام الاجتماعي. كيف يمكن على هذا الأساس أن يفكر الدارس في مسألة الاستمرارية نسبة إلى التنظيم القبلي السابق؟ كيف نضع هذا التطوّر الارتقائي في علاقته مع تكامل/ تضادّ سلطة الدولة وسلطة القبيلة؟ وبأي طرق مميّزة يختلف التنظيم القبلي اليوم عن الأشكال السابقة لهذا التنظيم»[12].

ويشيع استخدام اصطلاح الفخذ عن العراقيين لوصف الجماعات القرابية الأبوية الناجمة عن تطبيق مبدأ التحدّر الخطي، حيث تمتد أواصر القرابة على طول أربعة إلى خمسة أجيال. وهكذا فإن الفخذ هو مجموعة رجال ونساء يعتبرون أنفسهم أولاد عم من خلال المنحدر الأبوي عن جد مشترك. أما في الواقع فإن هناك خلافًا حول هذا المصطلح: إن استخدام كلمة فخذ كان متعدّدًا بتعدًد المناطق، مثلما لاحظ عباس العزاوي (عشائر العراق - المجلد الأول - ص 52 - 54)»[13].

ومصطلح الحمولة تستخدم في الريف والحضر من دون أن تعكس بنية اجتماعية واحدة. «ولا يوجد اتّفاق بين الأنثربولوجيين حول معنى الحمولة. فمثلًا إن شكر مصطفى سليم في أطروحته عن الحبايش (ص 128 - 133) استخدم كلمة حمولة لوصف العشيرة ذاته المنحدر الأبوي. وتضم الحمولة -حسب قوله- عدّة أفخاذ ويمكن الإشارة إليها ليس فقط كوحدة منزلية، بل أيضًا كوحدة سياسية مؤلّفة من عدة أفخاذ، بفعل أهميتها الاجتماعية والسياسية والعددية. بالمقابل نجد أنه لا عباس الغزاوي ولا تامر حسن العامري حاولا تحليل معنى اصطلاح الحمولة في مؤلفيهما. ونجد أن الأنثروبولوجيين العاملين في قرى فلسطينية لاحظوا منذ أمد بعيد أن الحمولة، وإن تكن جماعة قرابية أبوية هامة، لا تؤلّف، مع ذلك، جماعة قرابية أبوية أي ذات منحدر خطي أبوي. وحسب قولهم فإن جماعات القرى التي تشترك في نفس أسماء النسب غالبًا ما تعامل -بشكل خاطئ- على أنها حمولات بدوية ذات نسب خطي، وروابط نسب مباشرة. وهكذا فإن الحمولة جماعة تجد تعبيرها بلغة النسب الأبوي، وهي تتألّف من وحدات انحدار أبوي مباشر متباينة العدد، تلهج بوجود جدّ مشترك متخيّل أو حقيقي، يمكن للأنساب ان تتعقّب أثره -الخط الأبوي- لخمسة أو ستة أجيال»[14].

مكون أصيل

ولا يمكن عند الحديث عن العراق التاريخ والمجتمع، تجاوز الوجود الشيعي في العراق، فهو أحد المكوّنات الرئيسية للعراق. وهؤلاء يحملون تاريخًا متميّزًا على صعيد رفضهم للأنظمة الاستبدادية التي ساهمت في بقاء العراق متراجعًا ومتخلّفًا. وهم بعد احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين أضحوا هم حكام العراق الجدد.

«ولعل المنعطف الأبرز لعملية التكامل الاجتماعي السياسي للسنة والشيعة يتمثّل في الغزو الإنكليزي خلال 1914- 1918، أو بالأحرى المقاومة التي أذكاها هذا الغزو والتي بلغت ذروتها في الانتفاضة المسلحة عام 1920م. فقد تنادى الشيعة والسنة لكي يعملوا وينسّقوا معًا، وذلك لأول مرة منذ قرون. وشهدت بغداد احتفالات دينية شيعية - سنية مشتركة لا سابق لها في بغداد في كل الجوامع الشيعية والسنية على التوالي، ونظمت الموالد النبوية (حفل ديني في ذكرى مولد الرسول) كما نظّمت التعازي الشيعية (في ذكرى استشهاد الإمام الحسين ) على التعاقب في المسجد الواحد. وبهذه الصلة التي أنشئت بين السنة والشيعة، مهما كانت طفيفة، انطلقت صيرورة جديدة هي: النمو العسير، الواهن حينًا، والمتقطّع حينًا، للوحدة الوطنية العراقية»[15].

ويرى بعض المؤرخين على أن الفضل في الفعل الواعي وراء هذا التعاون يرجع بالأساس إلى التاجر الشيعي البغدادي جعفر أبو التمّن، وقد ركّز جهده لتحويل هذا التعاون الظرفي إلى واقع سياسي دائم. وبفعل تأثير هذا الزعيم الوطني حوّل حزبه (الحزب الوطني) كل جهوده صوب:

1- وحدة السنة والشيعة، وتجاوز كل آثار وسياقات القطيعة في المجتمع العراقي.

2- العمل على تصفية النفوذ الإنكليزي وإنهاء الاحتلال البريطاني للعراق.

ويمكن القول: إنه خلال العشرينات والنصف الأول من الثلاثينات كان الحزب الوطني هو أبرز القوى السياسية العراقية، وأبرز هذه القوى في ترسيخ الوعي الوطني العراقي.

«ولقد كان الشيعة يشكّلون الأغلبية في البلاد كلها، لكنهم بحلول ثورة تموز 1958 باتوا يشكّلون أغلبية في العاصمة بغداد أيضًا (وما يزالون إلى الآن يشكّلون الأغلبية فيها، إذا ما أقصينا الـ 600 ألف عامل مصري ممّن تدفّقوا على العاصمة وجوارها منذ عام 1973). وجاء تكاثر الشيعة عدديًّا ليصبحوا الأغلبية في بغداد ثمرة الهجرة الهائلة للفلاحين من أبناء العشائر من الريف، بفعل عوامل عديدة بينها جاذبية الحياة في المدينة، وعظمة الفارق في دخل عامل المدينة ودخل فلاح الريف، والطابع القمعي لنظام الشيوخ في لواءي الكوت والعمارة الشيعيين، وجفاف النهيرات المتفرّعة عن دجلة نتيجة التطوّر العاصف لنظام السحب بالمضخّات في مناطق الكوت وبغداد. إن الهجرات الكبرى للفلاحين، وما رافقها من تيارات تضخّمية (نشأت عن شحّ السلع خلال الحرب العالمية الثانية والطفرة النفطية في الخمسينات) أثرت تأثيرًا عميقًا على شغيلة المدن الفقراء، ودفعتهم إلى التأثر، سوية مع أعداد كبيرة من المهاجرين، بنفوذ الشيوعيين، الذين نمت صفوفهم أواخر الأربعينات وخلال الخمسينات، وتغلغلوا عميقًا في صفوف الشيعة إلى درجة أن خلاياهم تكاثرت حتى في مدينة النجف الأشرف، مما أثار خوف العلماء الشيعة، المحافظين. وأخذ الشيعة يلعبون من خلال موقعهم في الحزب الشيوعي، دورًا ملفتًا للنظر في تاريخ العراق»[16].

«وكان ثقل الشيعة في حزب البعث كبيرًا أيضًا في الفترة من تأسيس فرع الحزب في العراق عام 1952 حتى سقوط أول حكم للبعث في تشرين الثاني 1963.

فمن مجموع 52 عضوًا قياديًّا في البعث خلال هذه الفترة، كان 53.8% منهم من الشيعة، بمن في تلك فؤاد الركابي الأمين العام للحزب من1952 حتى 1959، وعلي صالح السعدي أمينه العام من 1960 حتى 1963. وبالمناسبة فإن السعدي من أصول فيلية، أي من الأكراد الشيعة.

إن انتشار الأفكار والقيم العلمانية الشيوعية والبعثية وسط المثقفين الشيعة، وشرائح من شيعة المدن، أضعف، بالطبع، سطوة المعتقدات الشيعية القديمة عندهم، كما أضعف تمسّكهم بالمعايير والممارسات التقليدية. وقد عزّزت ثورة 1958 هذا الميل في البداية. كما رسّخت عملية اندماج الشيعة في الجسم السياسي. فقد عملت أولًا على إدراج الفلاحين سكنة الأرياف وسكان المدن -شيعة وسنة- تحت مظلّة قانونية واحدة. والمعروف أن جل سكنة الأرياف كانوا يخضعون قبل 1958 إلى ضوابط قانون المنازعات العشائرية، التي وضعها الإنكليز عام 1918، وأصروا على تشريعها قانونًا رسميًّا في العهد الملكي. وحين ألغت ثورة تموز قانون المنازعات العشائرية، فإنها أخضعت سكنة الأرياف السنة والشيعة لمفعول القانون الوطني العام. زد على هذا أن الثورة عزّزت آفاق وقيمة تلاحم الفلاحين الشيعة والسنة مع بقية المجتمع، وذلك بتحويل الكثير منهم إلى ملاكي أرض، وتقديم العون لهم على قلّته في ممارسة الزراعة، وتأمين التعليم، والكهرباء، والخدمات الصحية للقرى، وتقويض السلطة الاجتماعية لكبار الشيوخ»[17].

وكان عام 1963م بالغ الأهمية لسببين؛ فهو العام الذي شهد تصفية الكادر القديم للحزب الشيوعي على يد البعثيين. وقد أدّى هذا إلى إضعاف الحزب الشيوعي بدرجة كبيرة، مما شكّل -بمعنى ما- إضعافا للدور السياسي للشيعة. وهو العام أيضًا الذي فقد الشيعة نفوذهم في حزب البعث خلال فترة 1963 - 1975م. وثمَّة أسباب عديدة للتدهور الكبير في مواقع الشيعة داخل قيادات حزب البعث؛ طرد العديد من الحزب بسبب تأييدهم القائد البعثي علي صلاح السعدي خلال تصادمه مع الجناح العسكري للحزب في تشرين الثاني 1963م. إضافة إلى الممارسات التميّزية التي تعرّض إليها الكادر الشيعي من قبل أجهزة الأمن. وقد عمدت هذه الأجهزة -بعد انقلاب عبدالسلام عارف عام 1963- إلى ملاحقة الشيعة بقسوة أكبر قياسًا إلى رفاقهم السنة. ومن خلال المتواليات الأمنية والسياسية والاجتماعية لهذا النهج الذي مارسته أجهزة الأمن -بغطاء سياسي متواصل- استمرّت سياسة إقصاء الشيعة من الحياة السياسية والوطنية في العراق إلى فترات زمنية متواصلة. ولم تنتهِ هذه السياسة إلَّا بسقوط النظام السياسي في العراق عام 2003م.

وخلال هذه الفترة انتقل الجهد الأمني والسياسي إلى محاربة الوجودات الإسلامية الشيعية بعد الانتهاء من إنهاء الحضور الشيعي من الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي. وتحرّكت حكومة البعث -التي وصلت إلى السلطة عام 1968- بسرعة وشراكة لمواجهة تحرّك الدعوة. واتّبع قياديها الأول، صدام حسين، تكتيكين. فمن جهة ضرب أتباع الدعوة بعنف، ومن جهة أخرى عرض على العلماء الشيعة المكافآت، وأنفق ملايين الدنانير على العتبات المقدسة، والجوامع، وغير ذلك من الشؤون الدينية. وقد نجح في إضعاف حزب الدعوة بشكل حاسم عشيّة اندلاع الحرب بين العراق وإيران. زد على هذا أن صدام حسين -الذي لا ينطلق من تفكير طائفي- بذل جهودًا محمومة لكسب الشيعة إلى حزب البعث وإدخالهم في صفوفه، وربطهم بنظام حكمه. الواقع أن هناك الآن عددًا كبيرًا من الشيعة في المراتب الدنيا والوسطى من تنظيمات الحزب. لكن حضورهم في المواقع الحاسمة ضعيف. فخلال الفترة  - 1977 لم يكن هناك شيعي واحد في مجلس قيادة الثورة، وهو الهيئة الأعلى لرسم السياسة.

أما خلال الفترة 1977 - 1979، لم يكن هناك سوى ثلاثة من الشيعة في هذا المجلس، المؤلّف من 22 عضوًا. وهناك الآن عضوان شيعيان من مجموع تسعة أعضاء. كما أن هناك أربعة قياديين شيعة في القيادة القطرية المؤلفة من 15 عضوًا. ولكن، خلافًا للبعثيين الشيعة في مرحلة ما قبل 1963، لا يتمتع القياديون البعثيون الشيعة حاليًّا بأية قاعدة سلطة خاصة بهم. فنفوذهم غير أساسي، وهو ينبع أصلًا من ارتباطهم بصدام حسين أو ولائهم له. ولكن هذا الحال يصحّ أيضًا على السنة من أعضاء مجلس القيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب. بتعبير آخر، أن غياب أية مشاركة فعلية للشيعة في العملية السياسية هو عاقبة من عواقب سلطة صدام حسين المطلقة»[18].

وغالبية الشيعة العراقيين من العرب ويفتخرون بعروبتهم. لذلك هم عبارة عن تكوينات اجتماعية عربية من قبائل وعشائر وانقساماتها الطبيعية. «واستمر استبعاد الشيعة عن وظائف السلطة، وعن الحكومة وعن السلك العسكري، مثلما كان الحال في الحقبة العثمانية، ولأن الهيمنة الاجتماعية للسنة على الشيعة لها أصلها في تراتبية المجتمع القبلي العربي، فقد وجدت هذه الهيمنة نفسها ممأسسة عبر نظام سياسي لم يقرّ علننًا بأنه نظام طائفي. وتماهي الشيعة مع الإسلام ومع الحركة الاستقلالية التي بثّوا فيها القوة والحياة. وما إن هُزمت الحركة الدينية حتى أثارت الدولة - الأمة العديد من الأوهام حول تجاوزها للمسألة الطائفية. وأخلت الحركة الدينية المكان للحزب الشيوعي، وللأحزاب القومية العربية في صفوف الشيعة. وكان الحزب الشيوعي التجلّي الرئيسي لمقاومة الإكليروس (سلطة رجال الدين) ولتثبيت الأفكار العلمانية في الوسط الشيعي. غير أن دور الحزب الشيوعي كرأس حربة للحركة المناهضة للوحدة العربية الاندماجية الفورية كان يعكس رغبة الشيعة في الحفاظ على خصوصية العراق داخل الوطن العربي ذي الأغلبية السنية. وبانهيار الأوهام القومية، واندحار الآمال المعلّقة على الجمهورية تكشّف للعراقيين كما يبدو، واقع طائفية فجّرت -بسرعة- الحركات السياسية التي تخطّت واقع الحياة المشتركة. إن التحقق من وجود ملامح نظام طائفي قائم منذ أكثر من ثمانين عامًا، ويحتضر أمام أعيننا منذ أمد بعيد، إنما هو رؤية متاحة اليوم بالعودة في الزمن. والواقع أن التمييز الطائفي لم يكن متخفّيًا وراء نظام سياسي قام بمأسسه هذا التمييز فحسب، بل كان محظورًا عن أنظار أجيال بكاملها أيضًا، سواء من المستفيدين منه أو من ضحاياه»[19].

ويمكن أن نختزل مشاكل الشيعة العراقيين في النقاط التالية:

1- القوى الدولية التي يسيطر قطبها على العراق والشعب العراقي. فمنذ الاحتلال البريطاني للعراق وهم لا يثقون بالزعامات الدينية للشيعة العراقيين، وكانوا يعتبرونها متطرّفة؛ لذلك فإن غالبية الشيعة العراقيين كانوا في سياق موقف معارض للدولة العراقية في أطوارها المتنوّعة. «وهذا يعني أن أقلية سنية لا تزيد عن 17% من السكان في وسط العراق، ظلّت تحكم على مدى التاريخ العراقي المعاصر، أغلبية شيعية تناهز 60% وتتمركز في جنوب ووسط العراق، وأقلية كردية تؤلّف نحو 20% في شمال العراق، كانت النخب السنية ترى أنها أحق بحكم العراق؛ معتبرة نفسها وريثة الإمبراطورية العثمانية. وقد ساندت الأغلبية السنية في العالم العربي هذا الوضع في العراق، مثلما سانده الزعماء السنة. ولم تفعل القوى الغربية خلاف ذلك، فقد دعمت هذا الحكم حتى عام 1991م. وكانت الحكومة الأمريكية -مثلًا- تعتبر النظام البعث بمثابة ثقل موازٍ يصد إيران الشيعية. وسادت هذه النظرة حتى بعد حرب الخليج، حين امتنعت إدارة بوش الأب عن تقديم أي دعم لشيعة العراق المنتفضين، منقذةً بذلك صدام وحكمه. وشيعة العراق، شأن سنته، عرب في الأساس. اقتصرت الشيعة حتى أواخر القرن الثامن عشر، على السكن في مدن العتبات المقدسة: النجف، كربلاء، الكاظم وسامراء، إضافة إلى بلدات ومستقرّات أخرى. وما إن حلّ القرن العشرون حتى أصبح الشيعة الأغلبية في البلاد، إثر اعتناق القبائل البدوية المذهب واستقرارها الزراعي. ولم يكن التحوّل السريع للقبائل إلى اعتناق المذهب الشيعي تامًّا، بل تقاطع مع الاتحادات القبلية والقبائل. فأقسام من القبائل صارت شيعية، وبخاصة في جنوب العراق، وأقسام أخرى بقيت سنية، وبخاصة في شمال وغرب بغداد، غير أن القسمين الشيعي والسني بقيا متمسّكين بمميزات ثقافية واجتماعية مشتركة. وهذا يعني أن الجماعتين الطائفيتين في العراق متشابهتان رغم الصراع على السلطة، وأن التوتر الذي يغذي المشكلة الطائفية في العراق ليس إثنيًّا ولا ثقافيًّا بل سياسي في الأساس»[20].

2- الاستبداد السياسي بشتّى صوره الذي سيطر على العراق ومقدّراته خلال فترة زمنية طويلة. ولعل المفارقة التاريخية التي سادت في الواقع العراقي هو أن الأغلبية الشيعية تنزع إلى الوطنية العراقية في مقابلهم يتمسّك حكّام العراق من عام 1920 إلى 2003م من السنة العرب بالقومية العربية بوصفها أيديولوجيتهم الرئيسية. «ويرجع الصراع بين النخبة السنية الحاكمة وجمهور الشيعة حول الوطنية العراقية والقومية العراقية، إلى السنوات الأولى من العهد الملكي. وقد رفض شيعة العراق مسعى الحكومة لتطوير نموذج حداثي علماني عربي، واعتبروه بدعة جاء بها الشريفيون والضباط العثمانيون السابقون. وراحوا -عوضًا عن ذلك- يشدّدون على فكرة الهوية العراقية تعتمد على الطابع القبلي القوي للمجتمع العراقي، والدور التاريخي لقبائل العراق في الحفاظ على الروح الحقيقية للعروبة في البلاد. ودعا إلى بلورة فكرة وطنية تجمع عناصر الشرق والعرب بقيم العراق وتراثه. وحاول علي الشرقي صياغة مفهوم الوطنية العراقية مستلهمًا مساعي المصريين لاستخدام ماضيهم الفرعوني كأساس لأسطورة التأسيس. فارق الشرقي الحياة عام 1964، وقد عاش هو والكثرة من مجايليه في فترة كانت الحكومة العراقية خلالها ما تزال متسامحة مع قدر من المعارضة والانشقاق الفكري. وعلى خلاف الشرقي الذي نشر أعماله ومؤلفاته في العراق، انتهى الكتّاب الشيعة من الجيل اللاحق إلى المنفى ناشرين أعمالهم خارج البلاد»[21].

وخلال الصراع السياسي والثقافي بين قوى الشيعة المتنوّعة في العراق مع أنظمة الحكم التي سادت في العراق «بذل عدد من حكّام العراق الجهد للتشكيك بالولاء الوطني عند الشيعة، مصوّرين هذا المذهب على أنه بدعة هدّامة نابعة من بغض الفرس للعرب، واسترجع بعض الكتّاب ذكرى الحركة الشعوبية التي ظهرت في القرن الثامن. ويمكن اقتفاء أثر أولى هذه المحاولات للتشكيك بعروبة الشيعة في السنوات المبكّرة من العهد الملكي. وأخذ البعث يروّج استخدام لفظة الشعوبية للقذف والتشهير بخصومه حتى قبل صعوده إلى السلطة. وابتداء من أواسط الأربعينات وحتى مطلع السبعينات غدت كلمة الشعوبي سبّه تلصق بالشيوعيين العراقيين وجلّهم من الشيعة، كما أن الزعيم عبدالكريم قاسم الهدف الأرأس للقذف البعثي، صوّر على أنه دكتاتور انفصالي وشعوبي»[22].

وعمد حزب البعث في العراق إبان الحرب مع إيران لصياغة المعركة في سياق الدفاع عن الأمة العربية في وجه الغزو الإيراني المجوسي. وشنّ حملةً للتشكيك بجماعات المعارضة الشيعية على أساس أنها مرتبطة بنظام إيران. وأطلق البعث اسم قادسية صدام على حربه مع إيران مستدعيًا ذكرى انتصار العرب التاريخي على الفرس في معركة القادسية التي جرت عام 636 ميلادي في جنوب العراق، وأن صدام حسين هو الزعيم الذي اصطفاه التاريخ العربي المعاصر لمقارعة إيران وتوحيد الأمة العربية، وأن إيران بزعامة نظامها الجديد ليسوا إلَّا شعوبيين لا هَمَّ لهم غير تدمير الحضارة العربية وإخضاعها لحكم الفرس لا العرب. ورسم البعث خطًّا فاصلًا بين الشيعي الرديء والشيعي الحسن، وبات الإيرانيون الذين يحاربون العراق إشرارًا غلاة. أما شيعة العراق ممَّن لم ينحازوا إلى الثورة الإسلامية ولا انضموا إلى المعارضة لحزب البعث، فهم أتباع الإمام علي بن أبي طالب الذين يحاربون الغلو.

الخاتمة

على ضوء كل ما ذكر أعلاه، نتمكّن من القول وباطمئنان تامٍّ، أن الشيعة في العراق، بالاشتراك مع غيرهم من مكوّنات الشعب العراقي، بحاجة إلى بذل جهود متواصلة، لتفكيك كل عناصر التخلّف السياسي والمؤسسي، والإطلاق في مشروع بناء العراق بعيدًا عن كل عمليات النصب والسرقة التي عانى منها العراق كثيرًا.

وكل خطوة إيجابية يُنجزها العراق على هذا الصعيد، بذات القدر يقترب أكثر من أهدافه وتطلّعاته العامة.

وإن الطموحات السياسية والحضارية التي يحملها الشعب العراقي، تتطلّب نخبة سياسية أكثر وعيًا وسعيًا متواصلًا لتحقيق أهدافه وتطلّعاته وبعيدًا عن كل نزعات تكديس الثورة بدون وجه حق. وما يحتاجه العراق الجديد في اللحظة الراهنة هو بناء نخبة سياسية، مقتدرة، ومتجاوزة لكل نزعات الحزبية والفئوية لتأسيس العراق الجديد على كل المستويات.



[1] إسحاق نقاش، شيعة العراق، ص 26، انتشارات المكتبة الحيدرية، ايران.

[2] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص 28.

[3] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص 118.

[4] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص121.

[5] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص 125.

[6] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص128.

[7] إسحاق نقاش، شيعة العراق، مصدر سابق، ص134.

[8] تأليف جماعي، المجتمع العراقي.. حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات، بغداد - بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية، الفرات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2006،ص10.

[9] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص12.

[10] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص17.

[11] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص165.

[12] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص 170.

[13] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص171.

[14] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص173.

[15] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص199.

[16] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص203.

[17] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص204.

[18] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص207.

[19] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص218.

[20] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص221.

[21] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص221.

[22] تأليف جماعي، المجتمع العراقي، مصدر سابق، ص224.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة