تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

فهم الاسلام : بين القراءة التقليدية والقراءة المقاصدية

محسن كديور

فهم الإسلام

بين القراءة التقليدية والقراءة المقاصدية

د. محسن كديور*

ترجمة د. توفيق السيف*

* كاتب وباحث من إيران.

** كاتب وباحث من السعودية.

 

 

ملخص

تستهدف هذه المقالة المساهمة في تطوير نظرية تعالج العلاقة بين الإسلام والحداثة، مع التركيز على جانب محدّد هو فقه المعاملات. ينطلق الكاتب من فرضية خلاصتها أن الزمان والمكان عنصر جوهري في تشكيل مفهوم المصلحة، وأن اختلاف الزمان والمكان يؤدّي بالضرورة إلى تغيير هذا المفهوم، حتى مع بقاء الاسم والعنوان. وبالنظر إلى أن الأحكام الشرعية تدور مع المصالح، وأن تحقيق المصلحة ودفع المفسدة يمثّل حكمة غالب الأحكام وغايتها، فقد استعرض الكاتب أبرز المعالجات الخاصة بالثبات والتغيير في الحكم الشرعي.

استعرض المقال مفهوم الثبات والتغيير عند ثلاثة من أبرز الفقهاء، هم العلامة محمد حسين الطباطبائي، العلامة الميرزا النائيني والشهيد محمد باقر الصدر. ثم استعرض المفهوم المقابل، أي فقه الحكومة الذي تطوّر على يد آية الله الخميني. وقدّم أخيرًا اقتراحه الخاص، أي الإسلام المقاصدي، حيث ربط مفهوم الثبات والتغيير بمعياري العدالة والعقلانية.

يندرج البحث في إطار الاجتهاد في الأصول، حيث يعطي للعقل مكانة موازية للنص. ويماهي بين العقل كمصدر للتشريع وبين عرف العقلاء، كما يعتبر الزمان جزءًا من حقيقة عرف العقلاء.

تبدو بعض الآراء التي قدّمتها المقالة غير معتادة في دراسات الفقه وأصوله، لكنها جميعًا مؤسّسة على أرضية دينية متينة، وهي جميعًا تستهدف دعوة الباحثين إلى التأمّل في المجالات والمسارات والخيارات التي يتيحها الإسلام الحنيف للتفكير فيه وفي علاقته بعالم الإنسان.

تمهيد

بالنظر لمكانة الدين في المجتمع، وتأثير الإسلام في الثقافة الإيرانية طوال تاريخها، فإن إصلاح الفكر الديني يشكّل ركنًا هامًّا من أركان الحركة الإصلاحية في إيران المعاصرة. إن جهود الإصلاح قد لا تكون مثمرة من دون إصلاح الفكر الديني. لقد تعثّر الحراك الإصلاحي بصورة متكرّرة. ولا شك أن بعض تلك العثرات كان ثمرة لتأثير الثقافة التقليدية المعيقة للتقدّم، أو المتشككة في معناه وتمظهراته. ولهذا فنحن بحاجة إلى فهم نقاط الاشتباك بين الحراك الإصلاحي وبين الثقافة الدينية التقليدية، كي نستوعب العقبات التي تواجه مسيرة الإصلاح.

من نافل القول أن التفكير الديني لا يتحرك في فراغ. فهو يتفاعل بحيوية مع بقية الجوانب في حياة المجتمع، ويتأثر بها كما يؤثر فيها. ومن هنا فإن بقاء الفكر الديني خاملًا وتقليديًّا، سينشر الخمول والجمود في بقية جوانب الحياة الاجتماعية. وعلى العكس، فإن نهوض الثقافة الدينية وتطورها، سينعكس على مختلف مسارات الحياة. بصورة إجمالية فإن أي تحرك إيجابي أو إصلاحي في جانب من جوانب الحياة الاجتماعية سيؤثر بالضرورة في الجوانب الاخرى.

لقد عرضت تفسيرات كثيرة لتعثّر الحراك الإصلاحي في بلادنا. ولا شك أن بعض هذه التفسيرات صالحة وصحيحة. لكني أريد الإشارة إلى واحد منها على وجه الخصوص، وهو أن القيم والمعايير التي تشكّل أرضية وضابطًا لمسار الإصلاح، ليست راسخة الجذور في ثقافتنا العامة. لا بد للقيم والمعايير الإصلاحية أن تنفذ إلى أعماق النسيج الثقافي، كي يتحوّل الإصلاح إلى سلوك اعتيادي مقبول من الجميع، لأي يصبح جزءًا من العرف العام السائد.

الإصلاح ليس خيارًا نأخذ به أو نلقيه جانبًا. فهو ضرورة لتجديد الحياة والقيم ومواكبة التحوّلات الكبرى في حياة البشرية. لكن نجاح الإصلاح رهن باستعدادنا الداخلي، للتخلّي عمَّا لم يعد مفيدًا أو صالحًا، مهما كان محبوبًا أو مألوفًا لنفوسنا. ما لم تتحوّل القيم المؤسسة للفكرة الإصلاحية إلى عرف وتقليد ثقافي عام، فلن يتغيّر الكثير في حياتنا، وستبقى عجلة الحياة تدور وتدور حول نفس المحور الذي عرفته طيلة القرون الماضية، بنفس الطريقة، من دون توقف.

لحسن الحظ فإن الواقع ليس شديد السوء، وثمة مكان للتفاؤل. يخبرنا التاريخ أن الفكر الديني في إيران، قد شهد تحوّلات واسعة وأساسية، سيما خلال المئة عام الأخيرة. لو أردنا وضع مؤشر عام يصف المسار الإجمالي لهذا التحوّل، فسوف نقول: إنه –في المضمون– تحوّل من الفهم التاريخي/ التقليدي للدين إلى الفهم المقاصدي المتّصل بغايات التديّن وأغراضه الكبرى.

مفهوم الإسلام التقليدي

المقصود بالإسلام التقليدي/ التاريخي، هو نمط التديّن الذي تشكّل بناء على ثقافة عصور الإسلام الأولى، وما ساد فيها من ضرورات سياسية أو اقتصادية وقيمية.

نعلم طبعًا أن التديّن العام ليس تطبيقًا صافيًا لخطاب الشارع. بل هو –في المقام الأول– صورة عن فهم الناس لهذا الخطاب. ونعلم أن فهم الخطاب يتأثر -بالضرورة- بالمستوى الثقافي السائد وبالضرورات الحياتية، فضلًا عن شبكة الأعراف والتقاليد. وجميع هذه العوامل تتدخّل في تحديد مستوى وطريقة استيعاب أيّ خطاب جديد. هذه العملية التي تجري -بصورة عفوية في الغالب– تنتج نمط تديّن تختلط فيه قيم الوحي الأصيلة، بالعديد من المؤثّرات القادمة من الحياة الاجتماعية والثقافة السائدة، أي من خارج إطار الدين. لكنها مع مرور الوقت، وبسبب ألفة الناس لها، تتحوّل إلى صورة كاملة عمَّا نعتبره دينًا. بعبارة أخرى: فإن الدين الذي يمارسه أي مجتمع، ليس تطبيقًا لنص الوحي كما كان لحظة نزوله، بل هو النتاج العملي لفهم العرف. لأنه يتضمّن بالضرورة العديد من العناصر التي تعكس حقائق الظرف الاجتماعي القائم يومئذٍ، والتي يؤثّر كل منها في فهم الناس للنص.

ليس هذا بالأمر الغريب أو المثير للدهشة. فالمجتمعات تُغيّر قناعاتها وتقاليدها وأنماط معيشتها بصورة مستمرة. كلما تغيّرت حاجاتها، وكلما تغيّرت ظروفها، ابتكرت أعرافًا وتقاليد ومبرّرات ثقافية وقيمية، كي تستوعب الأنظمة الثقافية المستحدثة، وتدمجها في منظومتها القيمية والسلوكية.

الذي حصل في التجربة التاريخية الإسلامية، أن الأعراف والتقاليد وبقية العناصر الثقافية المرتبطة بالظرف الزمني والمكاني لعصر النص، وكذلك الشروط الخاصة بالمرحلة التأسيسية للجماعة المسلمة، تحوّلت إلى جزء من الدين، ولبست رداء القداسة التي يختص بها الدين. حتى أن الذين يتحدثون عن «الدين الأصيل» لا يجدون مثالًا يستشهدون به، سوى القصص التي نقلها التاريخ عن ذلك العصر. وحين يذكرون نماذج عن شخصيات الإسلام، فإنهم لا يرون أحدًا سوى الذين عاشوا يومذاك.

بكلمة أخرى، فإن محتويات عصر الوحي قد تحوّلت -في أذهان المسلمين- إلى نوع من المثال الذي يتطلّع إليه كل مسلم. فكلما ابتعدنا عنه زمنيًّا، ابتعدنا عن المثال والصورة النموذجية للدين. وترتّب على هذا اعتقاد فحواه أن إحياء الدين وتجديده يعني، على وجه التحديد، إحياء الأعراف والتقاليد ونمط العيش الذي كان سائدًا في عصر الوحي.

مفهوم الإسلام المقاصدي

في المقابل فإن القراءة المقاصدية تدور حول غايات الدين وأغراضه، التي لا تنحصر في ظرف اجتماعي خاص، ولا تستمد قيمتها أو ديمومتها من حقبة تاريخية بعينها. هذا لا يعني إغفال علاقة الوحي بالظرف الذي نزل فيه ومتطلّباته. بل يعني على وجه الدقة، النظر إلى هذا الظرف باعتباره ظرفًا، وليس قيدًا على الرسالة ولا جزءًا من جوهرها، ولا غاية نهائية للخطاب الإلهي.

التركيز على غايات الدين ومقاصده، يعني ربط تطبيقات القيم والتعاليم الدينية، بل والتدين في العموم، بروح الرسالة والأغراض التي أرادت تحقيقها في حياة أتباعها، ولا سيما تقوى الله في السر والعلن. أما الظواهر والشكليات ونظم العيش، فهي غير مستهدفة بذاتها، وليست موضوعًا لاهتمام الدين. فهي تعبّر في المقام الأول عن حاجات للناس في ظرف زمني أو مكاني خاص، سواء كان هذا الظرف هو زمن الوحي أو الأزمان التالية له. ولأنها كذلك فهي تتغيّر بين زمن وآخر، أو بين مكان وآخر، بحسب حاجات الناس وتحوّلات حياتهم.

رسالة الله مثل الغيث، يهطل على الأرض في حقبة محدّدة، زلالًا صافيًا، ثم يجري في أرجائها، فيحمل من كل بقعة يمر بها شيئًا من لونها ورائحتها وطعمها، ويدخل فيه شيء من أعرافها وتقاليدها. وحين يمر الزمن، تجد في كل مجتمع نسخة من الإسلام، تتوافق مع بقية النسخ في العمومات، وتتمايز في التفاصيل. ونفهم بالبديهة أن هذا التمايز ثمرة لاختلاف المجتمعات في الأفهام والحاجات والسلائق.

العمل الذي ينبغي لعلماء ومفكري الإسلام القيام به، هو تفكيك ذلك الاختلاط بين الرسالة وتقاليد المجتمعات. أي فرز الجزء الذي يعكس روح الرسالة وغايتها، من ذلك الذي يعكس حاجات بشرية خاصة بظرف معيّن. ومن بينها المقتضيات الخاصة بعصر الوحي. ومن ثم العبور من المسائل والقضايا المرتبطة بالزمان، إلى النص الثابت والعابر للزمان. وبتعبير آخر: فإن دور العلماء والمفكرين لا ينبغي أن يختصر في تكرار المسائل والأحكام التي انتهى زمنها، وتلاشت المصلحة المقصودة من تشريعها، فلم يبقَ منها غير الاسم والشكل الخارجي، من دون فاعلية تذكر في تحقيق الأهداف والغايات الرفيعة للدين.

ينبغي للعلماء والمفكرين التوقّف عن تدوير الأفكار في حلقة مفرغة، والتركيز –بدل ذلك- على الرسالة الداخلية لتعاليم الدين، أي جوهرها، والغايات التي تبتغي الوصول إليها في هذا العصر.

صدمة الحداثة

ما نشهده اليوم من اهتمام بتجديد المعرفة الدينية، يؤكّد أن مجتمعنا -في العموم- يشعر بالحاجة إلى مراجعة ما ألفه وما ورثه من ثقافة دينية. وهو يشعر بأن ما ينفعه هو هذه القراءة الجديدة، أي الإسلام المقاصدي، الذي تحرّر من قيود التاريخ واتّجه إلى الحاضر والمستقبل، ساعيًا للربط بين قيم الدين وحاجات العصر. وليس ثمة شك أن نضج هذا المسار وتكامله ونموه، سيأتي بنفع كبير للدين ولمجتمع المؤمنين.

لكن يجب الانتباه إلى حقيقة أن هذا المسار سيؤدّي –ظاهريًّا على الأقل– إلى تقليص المجال الديني. بمعنى أنه سيخرج الكثير من القضايا والمسائل من دائرة الدين إلى دائرة العلم، حيث يجري تكييفها بناء على معطيات العقل المعاصر، وليس أحكام الفقه أو مصادره. أقول: إن هذا سيجعل الدين أضيق نطاقًا. لكنه سيكون – في الوقت نفسه– أكثر عمقًا وأقرب إلى جوهر المسألة الدينية ونطاقات اشتغال الدين. وسيجد إنسان اليوم الحائر ضالته في التأمّل في الدين.

كلما انخرط الدين في قضايا ومشكلات المجتمع والمعرفة، كلما تعرّفنا أكثر فأكثر على واقعه، كفاءته والمتوقّع منه، بشكل أكثر دقةً وتحديدًا.

انفتاح المسلمين على تيار الحداثة، هو الذي أثار معظم الأسئلة المتعلّقة بدور الدين ومكانته في العصر الحديث. بالنسبة لإيران، يمكن تحديد نقطة البداية بالحركة الدستورية (1905)[1]. قبل هذا الحدث، كانت العقائد والأخلاق والشريعة جزءًا من العرف السائد. ولم يكن ثمّة جدل جِدِّي، يشكّل تحديًا لأيٍّ من مكوّنات هذا العرف الدينية أو غير الدينية. مع دخول العالم عصر الحداثة، وتعرف المسلمين تدريجيًّا على معايير العصر الجديد وقضاياه، برزت العلاقة بين التدين والحداثة كواحدة من أهم المسائل التي واجهت الإنسان المسلم في عصره الجديد.

ولعل نقطة الاشتباك الأولى هي اكتشاف التعارض بين بعض المقولات الدينية، ومقولات أو منجزات المدنيّة الحديثة. ومع مرور الزمن، ظهرت أبعاد أخرى للتفارق بين الجانبين، ولا سيما في مجال الشريعة أي الفقه وأحكام الإسلام العملية، أكثر ممّا ظهر في مجال الإيمان والعقيدة والأخلاق والسلوك. أصبح المشكل أكثر جدية حين اتّسع نفوذ منتجات المدنيّة الجديدة ومنجزاتها، وتحوّل إلى عرف عام للعصر، أو بحسب المصطلح الفني، تحوّل إلى سيرة العقلاء في هذا العصر. فقد أدّى هذا التطوّر إلى تعارض مباشر بين بعض المقولات الدينية وبين عرف العصر الجديد أو سيرة العقلاء.

كان رد الفعل الأولي من جانب المتدينين، هو تخطئة الدعاوى والمعايير الجديدة. بل إن بعضهم صوّر الحداثة كمحاولة منظّمة أو مؤامرة شيطانية غرضها هدم أساس الديانة. وقرّروا –تبعًا لهذا الفهم- أن الواجب الديني يومئذٍ يقتضي إغلاق أبواب البلاد أمام تيار الحداثة.

في مقابل هذا الإفراط، اتّخذ فريق آخر جانب التفريط. فقرّر أن طريق السعادة يكمن في التسليم المطلق للحداثة، وتهميش الدين إلى أضيق زاويا الحياة. وما حدث فعلًا أن هذا الفريق توقّف عند تغيير المظاهر، ولم يقبض على جوهر التقدّم. ثمّة فريق ثالث يضمّ المتدينين ذوي البصيرة، رأى أن التخلّي عن الدين والتقاليد لن يأتي بخير. كما أن الفرار من مواجهة تحدّي الحداثة عبث مستحيل. إن تجربة المواجهة الأولى تكشف أن صخرة لا يمكن أن توقف السيل، وأن علينا –بدل الممانعة السلبية- التفكير في وسيلة أخرى. خيار الفريق الثالث هو إيجاد مصالحة من نوع ما، بين الدين والحداثة، أي الحفاظ على الإيمان، دون التنكّر لتجربة الإنسان في العصر الحديث.

- لكن كيف يمكن للمسلم أن يعيش في العالم الحديث، وأن يحافظ في الوقت نفسه على تقاليده؟.

قُدِّمت أجوبة مختلفة عن هذا السؤال المهم، تخبرنا عن مساعٍ حثيثة بذلها علماء الدين، لحلِّ الإشكاليات والتنازعات المحتملة بين تعاليم الإسلام ومقتضيات العصر الجديد. ومثلما يحدث في كل جدل، كانت بعض الأجوبة متقنة ومتينة، وبعضها الآخر دون المستوى المطلوب من حيث العمق. لكن –على أي حال– فإن مجموعها يشير إلى اهتمام علماء الدين بهذا الأمر.

لأسباب علمية وفنية بحتة، سوف نقتصر هنا على استعراض أجوبة علماء الدين والمفكرين الإسلاميين الشيعة. وكما سياتي فإن معظم التعارضات التي رصدها هؤلاء، محصورة في دائرة التشريع والقانون، أما في دائرة الاعتقاد والإيمان والأخلاق والسلوكيات، فليس هناك سوى القليل من التعارضات الجِدِّيَّة بين الدين والحداثة. ومن هنا فإن معظم المعالجات المقترحة تركّزت على الدائرة الأولى.

جدير بالذكر أن المناقشات المتعلّقة بهذا الموضوع، تتجاوز دائرة التشريع إلى فلسفة الدين وفلسفة التشريع والقانون. وهي جميعًا جديرة بالنقاش. لكننا سنخصّص مناقشتنا الحاضرة للمقاربات المنهجية الخاصة بالتشريع، دون فلسفته أو فلسفة الدين. وبهذا التخصيص تندرج المناقشة في الإطار العام لعلم أصول الفقه.

يمكن تقسيم هذه المعالجات إلى ثلاثة مسارات منهجية أو نماذج، هي نموذج الثابت والمتغيّر، ونموذج الفقه الحكومي أو فقه المصلحة، وأخيرًا نموذج الإسلام المقاصدي/ إلغائي.

المقاربة الأولى: نموذج الثابت والمتغيّر

نموذج الثابت والمتغيّر هو أشهر النماذج وأكثرها رواجًا خلال القرن الأخير. وفقًا للقائلين بهذا النموذج، فإن أحكام الشريعة الإسلامية تنقسم إلى نوعين: أحكام ثابتة وأخرى متغيّرة. الأحكام الثابتة هي متن الشريعة، ولذا فهي عابرة للزمان والمكان. أما الأحكام المتغيّرة فهي مؤقّتة، ظرفية وتابعة للمصالح الموضعية، وقابلة للزوال. الثوابت هي تلك التي أوحى الله بها إلى نبيّه. أما المتغيّرات فهي تلك الأحكام التي يضعها البشر في ظل الثوابت. ومع أنها واجبة الاحترام في المجتمع المسلم، إلَّا أنها لا تعتبر جزءًا من متن الدين. أما من يضع هذه الأحكام ويقنّنها، فإن للعلماء فيه قولين:

التقرير الأول: أن الحاكم هو مشرّع الأحكام المتغيرة

من القائلين بهذا الرأي المرحوم محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان[2] وأتباعه. وهم يعتقدون أن وضع الأحكام التي تصنّف ضمن المتغيّرات، بيد من يتولّى السلطة السياسية في المجتمع المسلم. وبناء على نظرية ولاية الفقيه، فإن المتغيّرات هي ذاتها الأحكام الولائية أو الحكومية، التي غرضها إنجاز مصالح المسلمين[3]. وفقًا للطباطبائي، فإن أحكام الشريعة قسمان[4]:

* أحكام وقوانين ثابتة تحافظ على المنافع الحياتية للإنسان، من زاوية كونه إنسانًا يعيش حياة اجتماعية، بغض النظر عن المكان والزمان والعوامل الطارئة (المتغيّرة) الأخرى. مثل العقائد والنظم التي تعكس عبودية الإنسان لخالقه، والقواعد العامة الناظمة لحياة الإنسان، من قضايا الغذاء والسكن والزواج، وما هو ضروري لصيانة أصل الحياة الاجتماعية. فكل هذه أمور ثابتة يحتاجها الإنسان دائمًا، ولا يمكن تصوّر زوالها.

* أحكام وقوانين ذات طابع مؤقّت أو محلّي. وهي تختلف بحسب أنماط الحياة المختلفة. ومثل هذه الأحكام قابل للتغيير تبعًا للتطوّر التدريجي للحضارة والمدنية، وما يستتبعه من تغيّر في تركيب المجتمع وتلاشي الأساليب القديمة في المعيشة وظهور بدائل جديدة عنها.

تقوم الأحكام الثابتة على أساس ما جبل عليه الإنسان وجوديًّا، وما تقضي به خصوصيته في الخلق. وهذه تسمّى الدين والشريعة الإسلامية، التي تقود الإنسان لو تحرّك في إطار هداها نحو السعادة الإنسانية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}[5].

أما النوع الثاني، أي الأحكام القابلة للتغيير، فترتبط بالمصالح العامة، التي قد تختلف بين زمان وآخر وبين مكان وآخر. وضع هذه الأحكام جزء من سلطات صاحب الولاية العامة، حيث تشخّص موضوعاتها وحدودها بما يحقّق المصالح العامة في كل ظرف، وفي إطار الثوابت الدينية. هذا النوع من الأحكام لا يعدّ -بحسب الاصطلاح الديني الخاص- جزءًا من الشريعة السماوية، ولا يطلق عليه اسم الدين، وإن كان واجب الطاعة، لصدوره عن ولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}[6]»[7].

مثل هذه الأحكام والقوانين المتغيّرة تنتهي إلى أصل في الإسلام، هو «صلاحيات ولي الأمر». وهذا الأصل هو الذي يعالج الحاجات المتغيّرة للناس في كل عصر وزمان، ويستجيب للتبدلات في كل منطقة ومكان ومجتمع، من دون أن تنال الأحكام الثابتة في الدين يد النسخ أو التبديل[8].

ولي أمر المسلمين الذي وصل إلى منصبه وفقًا للقواعد المقرّرة في الشريعة، هو النقطة التي يتلخّص فيها رأي المجتمع المسلم، وتتكثّف فيها مشاعره وإرادته العامة. وهو يملك الولاية العامة في المنطقة التي يحكمها، بكل ما تنطوي عليه من صلاحيات عمل وتصرّف. إن يد الحاكم (ولي الأمر) مبسوطة دون قيد في وضع وتنفيذ ما يراه مناسبًا من الضوابط والقوانين الجديدة، التي تساعد على تقدّم الحياة الاجتماعية، وتحقّق مصلحة الإسلام والمسلمين.

ما ينبغي التأكيد عليه مجدّدًا أن الأحكام الجديدة -التي أسميناها المتغيرات- واجبة التنفيذ. إلَّا أنها -في الوقت ذاته- لا تعدّ جزءًا من الشريعة، ولا تدخل في نطاق الحكم الإلهي. هذه النظم وجدت لتحقيق مصلحة، فبمجرّد أن تنتفي المصلحة يرتفع الحكم. حينها يتعيّن على ولي الأمر أن يرفع الحكم المنتفي ويعلن ذلك للناس، ثم يستبدله بحكم آخر يتّسق مع المصالح المستجدة[9].

يمكن إيجاز تقرير العلامة الطباطبائي عن نموذج الثابت والمتغيّر، في النقاط التالية:

1- أحكام وقوانين وتعاليم الإسلام تنقسم إلى قسمين : ثوابت ومتغيّرات.

2- سمات الأحكام في القسم الأول أنها:

أ- حافظة للمصالح الحيوية للجنس الإنساني.

ب- ثابتة لا تقبل التغيير والنسخ.

ت- وضعت من قبل الشارع، أي الخالق سبحانه أو الرسول.

ث- المقصود بالدين والشريعة الإسلامية هو أحكام هذه القسم حصرًا.

3- سمات الأحكام في القسم الثاني أنها:

أ- حافظة للمصالح المختلفة الزمانية والمكانية والمؤقّتة للبشر.

ب- متغيّرة، قابلة للزوال والنسخ.

ت- توضع من قبل والي المسلمين في إطار الثوابت الدينية. وهي توضع وتلغى بحسب تشخيصه للمصالح الزمنية.

ث- مع أنها واجبة الطاعة إلَّا أنها لا تعتبر من الشريعة أو الأحكام الإلهية.

هذا التقرير عن نموذج الثوابت والمتغيّرات يستدعي بعض الأسئلة الضرورية، منها:

1- هل جميع الأحكام الشرعية الموجودة في الكتاب والسنة، تصنّف بين الأحكام الثابتة؟

2- إذا كان بين الأحكام الصادرة عن النبي أو الأئمة أحكام متغيّرة، فما هو معيار التمييز بين الأحكام الثابتة والمتغيّرة؟.

3- إذا كان وصف الشريعة الإسلامية قصرًا على الأحكام الثابتة، وأن الأحكام المتغيّرة ليست كذلك، رغم أنها واجبة الطاعة، فما هو التكييف النظري لنسبتها إلى الإسلام، واعتبارها أحكامًا ومقرّرات إسلامية؟.

4- ما هو منهج ومعيار وإطار الأحكام المتغيّرة؟ وما هو المعيار الذي يستند إليه والي المسلمين في وضع تلك الأحكام؟.

التقرير الثاني: أن وضع الأحكام المتغيّرة مسؤولية نواب الشعب

يتفق النائيني والصدر في جانب من هذا التقرير، وهو القول بدور نواب الشعب في التشريع. لكنهما يتمايزان في جوانب أخرى. يقول الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة:

مجموعة الوظائف المرتبطة بالنظام وحفظ الدولة، وسياسة الأمة، سواء كانت دساتير أولية، وهي التي تتكفل ببيان أصل القانون العام، أو كانت ثانوية تتضمن الجزاء على مخالفة القوانين الأولية، لا تخرج عن أحد قسمين بالضرورة: إما إنها منصوصة في الكتاب أو السنة، بحيث تكون الوظيفة العملية لأرباب التشريع معينة، وحكمها في الشريعة المطهرة مضبوطًا، أو أنها غير منصوصة، فالوظيفة العملية المترتبة عليها غير معينة، لعدم اندراجها تحت ضابط خاص، فهي حينئذٍ موكولة إلى رأي وترجيح الولي النوعي.

ومن الواضح أن الوظيفة المترتبة على القسم الأول (القوانين المنصوصة الأحكام) لا تقبل التغيير باختلاف الأعصار والأمصار، ولا يمكن تصور شيء فيها غير التعبد بما ورد عليه النص إلى قيام الساعة.

أما الوظيفة المترتبة على القسم الثاني، فهي تابعة للمصالح. فكل ما أدى إلى مصلحة صحَّ، والعكس بالعكس. ولهذا أيضًا فهي تتأثر بمقتضيات الزمان والمكان، فقد تختلف الوظيفة الشرعية أو تتغير، من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر.

وكما أن هذه الأمور موكولة إلى رأي وترجيحات الوكلاء المنصوبين من قبل الإمام المعصوم في سائر الأقطار، عند حضوره وكونه مبسوط اليد، فكذلك الأمر في عصر الغيبة، فهي موكولة أيضًا إلى نظر وترجيحات نوابه العامين، أو المأذونين من قبل من له ولاية الإذن.

وبعد ما اتضح هذا المعنى، فإن الفروع السياسية المترتبة على هذا الأصل، هي كما يلي:

الأول: القوانين التي ينبغي الاهتمام بدقة انطباقها على الشرعيات، مقصورة على القسم الأول، أي تلك القوانين القائمة على أساس أحكام منصوصة. أما في القسم الثاني فهذا المطلب لا موضوع له أصلًا ولا محل.

الثاني: الشورى، التي هي أساس الدولة الإسلامية، بنص الكتاب والسنة، موضوعها القسم الثاني. أما القسم الأول فهو خارج عن هذا العنوان تمامًا، ولا محل للمشورة فيه أبدًا.

الثالث: كما أن آراء وترجيحات الولاة والعمال، المنصوبين من قبل المعصوم في زمن حضوره وبسط يده، ملزمة في القسم الثاني (الوظائف التي لم تنص الشريعة على أحكامها)، كذلك فإنه في عصر الغيبة، تكون ترجيحات النواب العامين أو المأذونين من قبلهم، ملزمة في هذا القسم، بمقتضى النيابة القطعية الثابتة.

الرابع: نظرًا لكون معظم السياسات العامة، مندرجة تحت القسم الثاني (الوظائف التي لم ترد فيها أحكام منصوصة) فهي تابعة لعنوان ولاية ولي الأمر ونوابه الخاصين أو العامين أو ترجيحاتهم، وأن أصل تشريع الشورى في الشريعة، إنما هو بهذا المنظور.

ونظرًا لأن قيام أعضاء المجلس بوظيفتهم في حفظ النظام، والمنع عن تعدي المغتصبين، متوقف على تدوين متعلقات الوظيفة في صورة قانون. كما أن نفاذ مقرراتهم متوقف على صدورها من مجلس الشورى كما سبق بيانه. وهذا بدوره يعتمد على كفاءة وخبرة ممثلي الأمة، مع إمضاء وأذن من له الإذن والإمضاء، كما شرحنا سابقًا. فإذا تم هذا فإن جميع جهات الصحة والمشروعية مجتمعة في هذا العمل، وجميع الشبهات والإشكالات مندفعة. وكون هذه الهيئة المنتخبة من الأمة، مرجعًا في التقنين، وأنها القوة العلمية، منحصر في هذا المعنى.

الخامس: لا يندرج القسم الثاني من السياسات العامة تحت ضابط معين. وإنما يختلف باختلاف المصالح والمقتضيات. وهو من هذه الجهة غير منصوص في الشريعة. بل موكول إلى مشورة وترجيح من له ولاية النظر. وعلى ذلك فالقوانين المرتبطة بهذا القسم، نظرًا لاختلاف المصالح باختلاف الزمان، ستكون مختلفة لا محالة، وفي معرض النسخ والتغيير دائمًا، دون القسم الأول الذي هو مبني على الدوام والتأبيد. ومن هنا يظهر أن القانون الذي ينظم التغيير والنسخ مربوط بذلك القسم فقط[10].

تقرير العلامة النائيني عن نموذج الثوابت والمتغيرات، يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:

1- الأحكام السياسية، بل كافة الأحكام الاجتماعية قسمان: أحكام منصوصة شرعية، وأحكام غير منصوصة.

2- الأحكام المنصوصة الشرعية: أ) ثابتة، ب) غير قابلة للتغيير، ت) غير قابلة للنسخ، ث) يستنبطها الفقهاء، ج) وأن أكثر الأحكام السياسية ليست من هذا القسم.

3- القسم الثاني من الأحكام (المتغيرات): أ) غير منصوصة، أي إنه لا يوجد في نص الشريعة ضابط ومعيار خاص لها، ب) تابعة للمصالح ومقتضيات الزمان والمكان، ت) متغيرة وقابلة للزوال والنسخ، ث) وأن وضعها في يد والي المسلمين، ج) توضع بناء على مشورة أهل النظر، ح) يمكن لوالي المسلمين أن يفوض وضع هذه الأحكام إلى ممثلي الشعب، خ) لا تطبق على الشرعيات د) أكثر الأحكام السياسية في هذا القسم، ذ) هذه الأحكام واجبة الطاعة شرعًا.

يمتاز تقرير النائيني عن تقرير الطباطبائي السابق الذكر بالنقاط التالية:

1- ارتباط الثابت والمتغير بالمنصوص وغير المنصوص.

2- لزوم المشورة مع أهل النظر عند وضع الأحكام غير المنصوصة.

3- لا تحتاج الأحكام غير المنصوصة للتطبيق على الشرعيات.

4- إمكانية تفويض وضع الأحكام غير المنصوصة إلى ممثلي الشعب.

5- أكثر الأحكام السياسية بل حتى الاجتماعية تندرج في هذا القسم.

الأسئلة التي يثيرها تقرير النائيني عن نموذج الثابت والمتغير

أ- هل يمكن اعتبار جميع الأحكام المنصوصة ثابتة، وغير قابلة للتغيير؟. أليس من الممكن أن بعض الأحكام المتغيرة، التي وضعها الرسول أو الأئمة، لا زالت باقية بين الأحكام المنصوصة؟.

ب- إذا كانت أحكام القسم الثاني (المتغيرات) ليس لها معيار وضابط خاص في نص الشريعة، وأن التطبيق على الشرعيات فيها بلا موضوع ولا محل، وأن وضع هذه الأحكام يحتاج إلى المشورة، وأن بالإمكان تفويض وضعها إلى غير الفقهاء (ممثلي الشعب)، فما الحاجة والحال هذه إلى أن يكون والي المسلمين فقيهًا؟.

ت- إلزامية وضع هذه الأحكام من جانب والي المسلمين، وكونها واجبة التنفيذ، اليس ذاته الإلزام العقلي برعاية النظام الاجتماعي العام؟.

ث- إذا كانت معظم السياسات النوعية، بل الأكثرية الغالبة من الأحكام الاجتماعية، أحكامًا غير منصوصة، فكيف وبأي معنى يمن القول بسياسة دينية أو حكومة دينية، وما إلى ذلك؟.

التقرير الثالث: منطقة الفراغ

مثل النائيني، أرجع السيد محمد باقر الصدر[11] وضع الأحكام في الأمور المتغيرة إلى نواب الشعب. نعرف أن الشارع أصدر أحكامًا تتعلق ببعض أفعال البشر، وسكت عن الأفعال الأخرى. وقد صنف الفقهاء هذا القسم من الأفعال تحت عنوان المباحات. وأطلق عليها الصدر اسم «منطقة الفراغ التشريعي»[12] بمعنى أنها تخلو من حكم شرعي ملزم. إن سكوت الشارع عن أحكام هذه المنطقة لا يعني انها لا تحتاج إلى حكم أصلًا، بل يعني أنها متروكة للمسلمين أنفسهم كي يختاروا الأحكام التي يجدونها مناسبة لحاجاتهم.

وفقًا للصدر، فإن الأحكام في منطقة الفراغ يضعها نواب الشعب في السلطة التشريعية، بناء على تشخيصهم للمصالح العامة. ويعتقد الصدر أنه في الأحكام المختلف فيها، يعني أكثر الأحكام الفقهية، يختار مجلس أهل الحل والعقد من آراء الفقهاء ما يراه أكثر تناسبًا مع مصلحة النظام. يقول في هذا الصدد[13]:

الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وذلك على النحو التالي:

أولًا: أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق، تعتبر - بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية - جزءًا ثابتًا في الدستور، سواء نص عليه صريحًا في وثيقة الدستور أو لا.

ثانيًا: إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستوريًّا. ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولًا إلى السلطة التشريعية، التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.

ثالثًا: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحًا. على ألَّا يتعارض مع الدستور. وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، أي ما تركت الشريعة للمكلف اختيار اتخاذ الموقف فيها.

تقرير الصدر عن نموذج الثابت والمتغير، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1- تنقسم القوانين الإسلامية إلى ثلاثة أقسام، أولها الأحكام الشرعية المتفق عليها. وثانيها الأحكام الشرعية التي فيها اختلاف بين الفقهاء. وثالثها أحكام منطقة الفراغ، أي المنطقة التي لم يقرر فيها الشارع حكمًا بالوجوب أو التحريم.

2- الأحكام الشرعية المتفق عليها، تعتبر من الأحكام الثابتة التي لا تزول (إطار الضروريات الفقهية).

3- في الأحكام الشرعية التي تنطوي على خلاف بين الفقهاء، يختار نواب الشعب الرأي الأكثر انسجامًا مع المصلحة العامة. في هذا الإطار لا يجب الالتزام برأي فقيه بعينه، ولو كان مرجعًا صالحًا أو كان ولي الأمر. ويفترض أن هذه الأحكام من الثوابت أيضًا.

4- في منطقة الفراغ أو دائرة المباحات، فوض الشارع التقنين إلى المكلفين. نواب الشعب هم المكلفون بوضع الأحكام الملزمة في هذه الدائرة، على أساس المصلحة العامة، ومع رعاية نصوص الدستور. ومن الواضح أن أحكام هذه الدائرة من المتغيرات.

ميزات تقرير الصدر على تقرير النائيني

1- تفكيك الأحكام المنصوصة إلى أحكام متفق عليها وأحكام مختلف عليها.

2- قبول اختيار نواب الشعب للحكم الأكثر انسجامًا مع المصلحة العامة ، من بين الأحكام الثابت المنصوصة التي فيها خلاف بين الفقهاء.

3- تفويض وضع الأحكام في منطقة الفراغ إلى نواب الشعب.

4- الاكتفاء بالإشراف القانوني للمرجعية الصالحة على وضع الأحكام في منطقة الفراغ، من أجل التذكير بما قد يقع من مخالفة للشرع.

الأسئلة التي يثيرها تقرير الصدر عن نموذج الثابت والمتغير

1- هل يمكن اعتبار كافة الأحكام، الإجماعية منها والخلافية، أحكامًا شرعية ثابتة وغير قابلة للتغيير.. أليس من الممكن أن بعض هذه الأحكام المنصوصة، هي بقايا من أحكام متغيرة صدرت عن الرسول أو الأئمة؟.

2- منطقة الفراغ هي الدائرة التي لم يرد فيها حكم بالوجوب أو التحريم من الشارع. فما هو مبرر إشراف الفقهاء على الأحكام التي يضعها نواب الشعب. اليس من الممكن أن نقول مثل ما قال النائيني من أن التطبيق على الشرعيات في هذه الدائرة بلا محل أو موضوع؟.

3– تشخيص المصالح العامة في منطقة الفراغ، والأحكام المنصوصة التي اختلف فيها الفقهاء، هل يخضع لضوابط ومعايير شرعية محددة؟.

تقدير إجمالي

رغم ما ذكرناه من ملاحظات، ليس ثمة شك أن نموذج الثوابت والمتغيرات، قد تطور بشكل ملفت من خلال التقريرات الثلاثة المذكورة. مع العلم بأن كلا من هذه التقريرات لا يخلو من نواقص، منها:

1- لا يتضمن التقرير الأول معيارًا يميز الأحكام المتغيرة عن نظيرتها الثابتة. في التقرير الثاني والثالث لا يتضح لماذا اعتبرت كافة الأحكام الشرعية المنصوصة بين الثوابت. إذا صح هذا فكيف نصنف الأحكام المؤقتة والمتغيرة التي صدرت عن النبي والأئمة.

2- مشكلة عدم التوافق بين الأحكام الشرعية والحداثة، توجد أيضًا في تلك الشريحة من الأحكام الثابتة والمنصوصة. هذا المشكل بقي دون حل في نموذج الثوابت والمتغيرات.

3- إذا كان الدين والشريعة محصورًا في الأحكام الثابتة والمنصوصة، فإنه لا يمكن إلقاء صفة الحكم الديني أو الشرعي على الأحكام المتغيرة أو غير المنصوصة، أو الأحكام التي تشرع ضمن منطقة الفراغ. سيما وأنه لا يتوفر معيار شرعي لتشخيص المصلحة العامة.

4- أخذًا بعين الاعتبار أن الأحكام المتغيرة أو غير المنصوصة، لا يتوفر لها في النص الشرعي معيار محدد أو ضابط خاص، وأن تطبيق الشرعيات عليها لا موضوع له ولا محل، وأن وضع هذه الأحكام يحتاج إلى مشورة أهل النظر، فإن إيكال وضعها إلى ولي المسلمين أو الولي الفقيه لا دليل عليه. كما أن تفويض الإشراف عليها إلى الفقهاء لضمان عدم مخالفتها للشرع، لا وجه له أيضا.

أخذًا بعين الاعتبار هذه المشكلات، فإنه يمكن القول: إن نموذج الثوابت والمتغيرات غير عملي، الأمر الذي يجعل من الضروري طرح نموذج بديل.

المقاربة الثانية : فقه الحكومة أو فقه المصلحة

ينسب تطوير نموذج فقه الحكومة أو فقه المصلحة، إلى آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية. وهو ثمرة للمواجهة العملية بين الدين والإدارة العامة. وبعبارة أدق: المواجهة بين الدين ومشكلات المجتمع في العصر الحديث. سيما بعد إخفاق المقاربة الأولى (نموذج الثوابت والمتغيرات).

في أول الأمر كان الخميني –مثل العديد من الفقهاء الآخرين- يميل إلى هذه المقاربة. فركز على الأحكام المتغيرة وصلاحيات الحاكم والأحكام الحكومية. وكان يسعى لتعميق هذه الدائرة، أملًا في التوصل إلى تكييف مناسب للعلاقة بين هذه الأحكام والمصلحة العامة. لكن بعد برهة، وجد أن الفقه الرائج والاجتهاد المتعارف في مجامع العلم الشرعي، عاجز عن حل مشكلات هذا العصر، وأن الالتزام بتطبيقاته سيأخذ المجتمع إلى طريق مسدود وينتهي إلى إعاقة تطور المجتمع.

ومن هذا المنطلق، التفت إلى مفهوم جديد لتأثير الزمان والمكان، ليس فقط في استنباط الأحكام المتغيرة (بحسب تقسيم المقاربة الأولى) بل جميع الأحكام، بما فيها الأحكام الثابتة. يرتكز هذا المفهوم على مكانة الفقه كمصدر تشريع لدولة قائمة، وليس فقط موضوعًا للبحث النظري، كما كان الحال قبل قيام الجمهورية الإسلامية. إن قيام الدولة يجعل القانون محوريًّا في حياة البلاد وموجهًا لمسيرتها. ومن هنا فإن طبيعة النظام والحركة الاجتماعية، ومجموع العناصر التي تتداخل وتشارك في تكوين الحياة العامة، باتت جزءًا من ظرف الاجتهاد وتطبيق الأحكام. منذ قيام الدولة، لم يعد الاستغراق النظري غرضًا مناسبًا للنقاشات الفقهية، كما كان الحال قبل ذلك. الغرض الرئيس هو المساهمة في تطوير القانون والسياسات العامة، بوضع النظريات القابلة للتطبيق في الواقع القائم، عسى أن تجد طريقها للتطبيق على يد الدولة التي تملك أدوات التنفيذ.

وبالنظر لهذه النقطة على وجه الخصوص، تضمنت مقاربة الخميني مراجعة لما صنف كأحكام ثابتة في المقاربة الأولى. ويمكن بناء على هذا القول: إن مساهمة الخميني قد تجاوزت فعليًّا نموذج الثوابت والمتغيرات، إلى وضع نموذج جديد مختلف كليًّا في أساساته ومبرراته.

هذا المفهوم الجديد لتأثير الزمان والمكان في الاستنباط يسمح بدجة أكبر من التواؤم بين الشريعة، بل الدين، وبين الحداثة، أو على الأقل يقلل كثيرًا من وجوه التعارض بين الاثنين. وننقل فيما يلي بعض العبارات التي تشكل مفتاحًا لفهم رؤية الخميني في هذا الصدد.

لعل أكثر آراء الخميني فرادة هي قوله بالتمايز بين الأحكام الشرعية وبين الإسلام، وتأكيده على أن الإسلام هو الحكومة أو الحاكمية، بكل ما يتعلق بها ويلزمها من قوانين وأحكام. ولعله الوحيد في الطبقة العليا من الفقهاء المعاصرين، الذي يقول دون تحفظ: إن الأحكام الشرعية ليست مطلوبة بالذات، بل هي طرق ووسائل لبسط العدالة وإقامة الحكم وحاكمية الدين «الإسلام هو الحكومة [الحاكمية] بشؤونها، والأحكام قوانين الإسلام، وهي شأن من شؤونها.... الأحكام مطلوبات بالعرض، وأمور آلية لإجرائها وبسط العدالة»[14].

معنى هذا التقرير أن الأحكام الشرعية طريقية وليست موضوعية. المطلوب بالذات هو بسط العدالة بواسطة الحكومة الإسلامية. أما المطلوب بالعرض، مع صيانة الغايات والأهداف، فهو قابل للاستبدال والتغيير.

«حصر صلاحيات الحكومة في إطار الأحكام الشرعية الفرعية، يجعلها [الحاكمية] عديمة المعنى والمضمون، ويجعل مكانة هذه الأحكام موازية للولاية المطلقة المفوضة لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم).... [الصحيح أن] الحاكمية فرع من الولاية المطلقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي إحدى الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على كافة الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج. صلاحيات الحاكم الشرعي تتضمن حتى هدم المسجد أو المنزل الواقع في الطريق، مقابل تعويض صاحبه. بوسع الحاكم تعطيل المساجد عند الضرورة، وهدم المسجد الذي ينطوي على ضرار، إن لم يمكن رفع الضرار دون هدمه. للحكومة صلاحية إلغاء العقود الشرعية التي أبرمتها مع الشعب، من طرف واحد، فيما لو ظهر أن تلك العقود تتعارض مع مصالح البلد والإسلام. ولها الحق في تعطيل أي أمر، عبادي أو غير عبادي، طالما كان استمراره مخالفًا لصلاح بلاد المسلمين. تستطيع الحكومة تعطيل الحج، الذي هو من الفرائض الإلهية المهمة، بشكل مؤقت، حين يكون مخالفًا لصلاح البلد المسلم... أما ما يقال ويشاع من أنّ هذه الصلاحيات الواسعة للحكومة، ستفسد [أحكام الشريعة الأولية مثل] المزارعة والمضاربة وأمثالها، أقول: فرضًا وجدلًا حصل ذلك، فهذا من صلاحيات الحكومة. وهناك أمور أبعد من ذلك لكنّني لا أود مزاحمتكم»[15].

«الزمان والمكان عنصران عاملان أساسيان في الاجتهاد. تجد مسألة كان لها في الماضي حكم، يمكن أن يكون لها اليوم حكم مختلف في ظل نظام جديد، تحكم سياساته واجتماعه واقتصاده علاقات مختلفة. بمعنى أن صورة المسألة في الماضي والحاضر قد تبدو متماثلة، لكن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بالموضوع، تكشف أننا في الواقع بصدد موضوع جديد، يتطلب بالضرورة حكمًا جديدًا. يجب أن يكون المجتهد محيطًا بمسائل زمانه»[16].

دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ونوعية القرارات التي نتخذها بناء عليهما، قضية مهمة للغاية في عالمنا المعاصر الصاخب. ذلك أن قيام الحكومة الدينية يعيد تحديد الفلسفة العملية للتعامل مع الشرك والكفر والمعضلات الداخلية والخارجية. إذا واصلنا مناقشة هذه المسائل من خلال البحوث ذاتها، التي اعتادها طلاب الحوزات في إطار النظريات [السابقة لقيام الحكومة] فلن نصل إلى أي حل، بل ربما تقودنا إلى طريق مسدود يؤدي في الظاهر إلى نقض الدستور[17].

أرى من اللازم عليَّ أن أبدي أسفي لاستنباط جنابكم من الأخبار والأحكام. بناء على فهم جنابكم هذا للأخبار والروايات، فإن الحضارة الحديثة يجب أن تزول بشكل كلي، وأن على البشر أن يعيشوا إلى الأبد في الأكواخ أو الصحارى[18].

المجتهد الواقعي يفهم الحاكمية كفلسفة عملية لكافة جوانب حياة البشر. الحاكمية تجسيد للجانب العملي للفقه في تعامله مع كافة المعضلات الاجتماعية، السياسية والعسكرية والثقافية. الفقه نظرية كاملة واقعية لإدارة الإنسان من المهد إلى اللحد[19].

يمكن تلخيص المقاربة السابقة في النقاط التالية:

1- الفقه الرائج والاجتهاد المتعارف، عاجز عن مواجهة مشكلات العصر. الواضح أن هذا العجز متعلق باستنباط ما وصف في المقاربة الأولى (الثوابت والمتغيرات) بالأحكام الثابتة.

2- الاهتمام بمقتضيات الزمان والمكان في كافة الأحكام الشرعية، ضرورة للاجتهاد الفعال.

3- الفقه هو النظرية الواقعية والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد. ومنه يتوقع حل كافة المشكلات السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، والعسكرية للمجتمع الإسلامي، بل لكل المجتمعات البشرية.

4- (الحاكمية) والحكومة الإسلامية هي الفلسفة العملية لحياة البشر كلها. صيانة الحكومة أوجب الواجبات. وهي من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على كافة الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.

5- الولاية المطلقة تمنح الفقيه صلاحيات واسعة لضمان مصالح الشعب وإقامة العدل. الولي الفقيه يملك صلاحية إلغاء كافة الأحكام الشرعية، التي لا تلائم مقتضيات الزمان والمكان، أو تتعارض مع مصلحة النظام، طالما بقيت على هذا الوصف. كما يملك صلاحية وضع الأحكام البديلة التي تضمن مصلحة النظام.

6- الأحكام الشرعية مطلوبة بالعرض وليس لها موضوعية. المطلوب بالذات هو إقامة الحكم الإسلامي من أجل إقامة وبسط العدل.

تقييم نموذج فقه الحكومة

يمكن إجمال نقاط قوة هذا النموذج، مقارنة بنموذج الثوابت والمتغيرات في النقاط التالية:

1- نظرا لأن النموذج الأول (الثوابت والمتغيرات) لم يقدم حلًّا للتعارض بين الأحكام الشرعية والحداثة في جانب الأحكام الثابتة والمنصوصة، فإن هذا النموذج قدم حلًّا وافيًا لهذا المشكل، منطلقًا من ولاية الفقيه المطلقة، وملاحظة مقتضيات الزمان والمكان في استنباط جميع الأحكام.

2- معرفة الفقيه بأنه مفوّض بوضع أي حكم ضروري لضمان مصلحة الشعب والنظام الإسلامي، وكذا تعطيل أي حكم يتنافى مع هذه المقتضيات، يعطي هذا النموذج قدرة استثنائية لتمكين الشريعة من مواكبة متطلبات العصر.

مع نقطتي القوة هاتين، يواجه هذا النموذج مشكلات ويحوي بعض الغموض، مثل:

1- لا يوفر هذا النموذج معيارًا أو ضابطًا موضوعيًّا/ غير شخصي، لتشخيص مقتضيات الزمان والمكان. ومع ملاحظة أن تشخيص الشروط الزمانية والمكانية في يد ولي الفقيه شخصيًّا، وأن جميع الأحكام الشرعية خاضعة لفهمه واستنباطه وفق الشروط المذكورة، فما الذي يضمن أن تغيير فهمه أو تغير شخصه، لا يقود إلى تغيير معظم أو حتى كافة الأحكام؟. وكيف يمكن أن نقبل بربط الدين أو الشريعة على هذا النحو بفهم شخص واحد؟.

2- يفترض أن ناتج هذه المقاربة هو أحكام دينية أو سياسات دينية. فكيف حملت هذا الوصف؟. رعاية مقتضيات الزمان والمكان أو مصالح النظام أو مصالح الشعب، كلها أمور عقلائية، ولا يلزم أن تكون موجودة في النص الديني، وقد لا تتغير مع تغيير الدين أو المذهب. مجرد تفويض الفقيه بتشخيص المصالح أو تحديد مقتضيات الزمان والمكان، ليس ضمانًا لكون استنباطاته دينية.

إذا استند الفقيه في هذين الأمرين (تشخيص المصلحة وتحديد مقتضيات الزمان والمكان) إلى غير الدين، مثل الأبحاث العلمية أو رأي الخبراء، وهذا هو ما يحصل واقعًا، فكيف يصبح «خارج الدين» معيارًا للفهم والاستنباط الديني. بل من حيث الأساس، هل سيبقى شيء من الدين إذا استمر هذا المنهج. أم أن كافة الأحكام الشرعية ستذوب في محلول المصلحة ومقتضيات الزمان والمكان؟

3- نظرًا لتركيز هذه المقاربة على الحكم والقوة السياسية، والسلطة والولاية المطلقة للحاكم الديني على الفقه، فإن الأحكام الشرعية ستكون بصورة ما تابعة لمصالح الحكم، وذيلًا للسلطة السياسية ومنغمسة في اليوميات. ثمرة هذه المقاربة قد تكون في نهاية المطاف «دينًا حكوميًّا». الدين الحكومي وباء خطير، يدمر الإيمان والمعنوية والوجدان الديني.

4- وفقًا لما يطرحه هذا النموذج، فإن ما نتوقع الحصول عليه من الدين، ولا سيما الفقه، هو ذاته ما نتوقع الحصول عليه من مجموعة العلوم الإنسانية. وهذا يثير الإشكالات الآتية:

أ- أنه ممتنع لأنه أوسع كثيرًا من مجال عمل العلوم الإنسانية، حيث يشمل كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية لكافة المجتمعات الإنسانية.

ب- هذا النوع من التوقعات، أي تنظيم الدنيا وتدبير المجتمع، غير مقبول من الدين، وإثباته بحاجة إلى دليل، والدليل غير قائم.

ت- إذا كان تشخيص المصلحة العامة وتحديد مقتضيات الزمان والمكان، أمور عقلائية، أي غير دينية، وهي إلى حد ما متعلقة بالموضوعات وليس الأحكام، فما الدليل على أن هذه الأمور يجب أن تفوض إلى الفقيه؟.

المقاربة الثالثة : الإسلام المقاصدي

المشكلات المنظورة في المقاربتين السالفتين، دعت إلى طرح نموذج بديل، يمكننا أن نسميه «الإسلام المقاصدي». يحاول هذا المنهج الجمع بين نقاط قوة المقاربتين الأولى والثانية، والتخفف من الإشكالات الواردة عليهما. يلحظ هذا المنهج عددًا من النقاط. أولها المحافظة على مكانة الدين ودوره في الحياة، وعدم تهميش بعده الروحي. ثانيًا: مجال اشتغال الدين في هذه المقاربة أضيق من المقاربتين السابقتين، لكن نفوذه أقوى وأعمق. ثالثًا: هذه المقاربة تجعل الدين أكثر قدرة على مواجهة الأسئلة الجديدة التي تطرح عليه، والتعامل مع ما يتوقعه إنسان العصر الجديد من الدين. كما أنها تستبعد من إطار الدين، الكثير من الأمور التي ما عادت ملائمة لهذا العصر.

الإسلام خاتم الأديان. وهو دين لكافة الأزمان والأمكنة. مما يقتضي أن يعتمد على القيم والأعراف والأحكام الحكيمة، العادلة والعقلائية. التعاليم الخاصة بالإيمان والعقيدة، القيم الأخلاقية وأحكام الفقه العبادية، وكذا بعض القواعد في فقه المعاملات، تشكل الجزء الأصلي من الدين. وهي عابرة للزمان والمكان ودائمة.

أما في فقه المعاملات، أي الأحكام غير العبادية، فإن مؤثرات الزمان والمكان تتدخل بصورة أساسية في تشكيل موضوعها. كافة الأحكام الجزائية والعقوبات، الأحكام المدنية، الشؤون الدولية، الحقوق الأساسية، التي لبعضها جذور في الكتاب والسنة، وهي جميعًا مما يصنف تحت عنوان المعاملات، هذه الأحكام كانت في زمن صدورها حكيمة وعادلة وعقلائية، وإلَّا لم تصدر من قبل الشارع الحكيم. لم يكن أي من الأحكام المندرجة تحت عنوان المعاملات، ظالمًا أو خشنًا أو غير عقلائي، في عرف العقلاء في ذلك الزمان.

الأحكام التي تشملها دائرة المعاملات لا يمكن اعتبارها جميعًا توقيفية أو تعبدية. فغالبها وضع لتحقيق مصلحة عقلائية، قابلة للإدراك والتشخص من جانب عامة الناس، أو أهل العلم والتخصص فيهم. ونعلم أن الشارع لم ينشئ المعاملات التي تتعلق بها تلك الأحكام، فقد كانت قائمة تنظمها أعراف المجتمع المحلي. فقام الشارع بإمضائها بذاتها أو مع بعض التعديلات. ولذا يمكن القول: إن أحكام الإسلام في هذا المجال، كانت أقرب إلى الحاشية على الأعراف التي كانت سائدة وقت نزول النص. بديهي أن أعراف ذلك الزمان ليست تعبدية ولا مقدسة، وإلَّا لم يستخدمها العقلاء. لقد شرعت هذه الأحكام من أجل تحقيق العدالة، وضمان المصالح الدنيوية للمجتمعات الإنسانية.

من ناحية ثانية لا يمكن إنكار حقيقة أن قضايا البشر، سيما في الدائرة الاجتماعية، وكذا أعراف المجتمعات الإنسانية، قد مرت بتحولات عميقة. كثير من المسائل التي كانت في القرون السالفة تعتبر عادلة وجزءًا من النظام الأخلاقي للمجتمع، تعتبر اليوم ظالمة ومخالفة لسيرة العقلاء. مسائل القانون الدولي قبل مباحث القانون العام، ومباحث القانون العام قبل الحقوق الجزائية والعقوبات، وهذه المسائل قبل مباحث الحقوق المدنية، تعرضت لتحولات وتغييرات عميقة جدًّا. أما الفقه العبادي فالواضح أنه لم يتعرض لذلك القدر من التحولات التي نالت بقية دوائر الفقه.

نظرًا لأن العدالة معيار الدين، وليس الدين معيار العدالة. ونظرًا لأن العقلانية هي معيار دائرة الاجتماعيات وفقه المعاملات، يمكن الاستنتاج أن الأحكام الفقهية ستبقى محل اعتبار ومتمتعة بالحجية، طالما بقيت ملبية لمقتضيات العدالة، ولم تتعارض مع سيرة العقلاء. فمن البديهي أَلَّا يقبل مذهب العدلية بوجود أحكام متعارضة مع سيرة العقلاء ومنافية لمعايير العدالة، فهل يمكن القول ببقاء اعتبارها وحجيتها مع وضوح هذا التعارض؟.

التعارض اليقيني لأي حكم مع سيرة العقلاء، أو تنافيه مع معايير العدالة، أو ثبوت أن المفاسد المترتبة عليه أكثر من المصالح، هو الدليل الذي يكشف لنا أن هذا الحكم مؤقت وغير دائم. يعني أن مثل هذه الأحكام كانت متناسبة مع مقتضيات عصر النص، وليست تشريعات دائمة أو ثابتة.

لقد وضع الشارع هذه الأحكام، لأنه رآها ضرورية لتلبية احتياجات البشر وضمان مصالحهم، في زمن النص والأزمنة المشابهة له. لو لم يضع الشارع تلك الأحكام مع الحاجة الماسة لأهل ذلك العصر اليها، لقيل: إنه مقصر في أداء حق الرسالة إلى المخاطبين بها ومن شابههم من سائر الناس. لكن –من جهة ثانية- لو قرر هؤلاء الناس أن الأحكام التي نزلت مقيدة بحاجات وظروف زمانهم ومكانهم، قابلة للتمديد، بحيث تمسي ثابتة ودائمة في كل عصر ومكان، فهذا يعني أنهم لم يستوعبوا هدف البعثة وروح الإسلام.

الإسلام المقاصدي يعني التوجه الجدي لأهداف الإسلام ومعناه وغاياته المتعالية. ومنها عدم تقديم الأحكام والأطر العملية على الأهداف والغايات. في الإسلام المقاصدي نعتبر الأحكام مطلوبة بالعرض، وأن الغايات مطلوبة بالذات، الأحكام وسيلة للوصول إلى الغايات.

الأحكام الشرعية وسيلة لبلوغ الغايات العليا للدين. وكل وسيلة تبقى معتبرة، حتى توصل إلى غايتها. فإذا أحرزنا -يقينًا لا ظنًّا أو احتمالًا- أن طريقًا ما لم يعد موصلًا إلى غايته، إي إنه فقد صفته كطريق، فعندها سيسقط اعتباره، وسنبحث عن طريق جديد يوصلنا إلى الغاية العليا التي هي مقصد الدين.

لا بد من التأكيد على أننا لا نرمي من وراء الشرح السابق، إلى أن كافة أحكام الفقه غير العبادي قد فقدت اعتبارها بالفعل. غاية ما نقصده أن هذا أحد الاحتمالات الجدية. فالأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الزمان والمكان، بناء على ضوابط مذهب العدلية وتعاليم الكتاب والسنة، لا معنى له غير هذا.

وبناء عليه فإن ملاك اعتبار الحكم وحجيته واستمراره، هو عبور الحكم من بوابة اختبارين مهمين: أولهما أن لا يكون مخالفًا للعدالة. والثاني أَلَّا يكون متنافيًا مع سيرة العقلاء. من الواضح أن كلا الضابطين يرجع في مآله إلى ملاك واحد، هو عرف العقلاء الذي يتقرر معيار العدالة بالرجوع إليه. لكن أهمية العدالة تدعو إلى تمييزها عن سائر الضوابط والمعايير العقلائية.

إما الأحكام التي لم تنجح في الاختبار السابق الذكر، فهي تعتبر أحكامًا متغيرة ومشروطة بشروطها الخاصة. إذا انكشف انتفاء المصلحة المنظورة منها، أو أحرزنا تنافيها مع سيرة العقلاء أو العدالة، فقد علمنا أن زمان صلاحية هذه الأحكام قد انتهى.

بديهي أن استبعاد الحكم المنتهي الصلاحية، يستدعي وضع حكم بديل للتعامل مع موضوع الحكم القديم. فمن الذي يضع هذا الحكم وما هي قيمته الدينية؟

الجواب: أن وضع الحكم الجديد ليس في عهدة الفقيه ولا الولي الفقيه؛ لأن التشريع حق خاص لله والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). بل يمكن القول: إنه من حيث المبدأ لا نملك دليلًا على أن هناك في الواقع حكمًا غير الحكم المنسوخ، ينبغي البحث عنه. إن البديل الطبيعي للأحكام المنسوخة، هو القوانين العقلائية التي توضع بالرجوع إلى العقل الجمعي للشعب. وهذه لا تعتبر دينًا ولا تنسب إلى الدين.

بناء على هذا، فإنه ليس لدينا أحكام دينية متغيرة جديدة، وأن التشريع الديني يبقى في يد الشارع. ليس من الصحيح أن توضع الأحكام وفق معايير العقل والعرف، ثم تنسب إلى الدين. يضاف إلى هذا أن حصر الأحكام الدينية في الثوابت العادلة والعقلائية الموجودة في الكتاب والسنة، يقينا خطر السقوط في مأزق العقل الظني وما يترتب عليه.

تبنّي هذا المنهج سيؤدي بالطبع إلى تقليص نطاق عمل الفقه. ومع الوقت سيظهر لنا أن بعض الأحكام الشرعية ليست من الثوابت، فتنتقل إلى دائرة المتغيرات، التي تفقد صلاحيتها مع مرور الزمن. لكن مع الاهتمام بالأبعاد الواقعية للدين، سيجد المتدينون فرصة أوسع لتعميق الإيمان وارتقاء المعرفة الدينية.

قبول الإسلام المعنوي المقاصدي، سينهي احتمالات التعارض بين التعاليم الواقعية للإسلام، وبين العدالة وسيرة العقلاء والحداثة. وبناء عليه ستكون الأحكام الشرعية وسيلة لبسط العدالة، تحقق المعايير العقلائية وإنجاز المصالح العامة. إذا قبلنا أن الأحكام الفقهية ليس لها صفة الموضوعية، وليست مطلوبة لذاتها، فكل حكم شرعي سيبقى قائمًا، طالما بقي وسيلة فعالة لصون غايات الدين وأغراضه أو للوصول إليها. فإذا تبين لنا بعد التحقيق أنه لم يعد وسيلة فعالة للغاية المنظورة، فسيخرج من دائرة الأحكام الشرعية، كي يودع في أرشيف الأحكام المتغيرة.

تشخيص التوافق أو التعارض بين الحكم الشرعي من جهة، وبين ضوابط العدالة وسيرة العقلاء من جهة أخرى، يرجع إلى عرف الخبراء في أمور الدين وعلماء الدين، سواء كانوا من المشتغلين بالبحث الفقهي أو سواه. هذه المهمة الجليلة تستلزم تمتع هؤلاء الأشخاص بالإدراك العميق للدين والنصوص الدينية، إضافة إلى المعرفة العلمية بمقتضيات العصر، وسيرة العقلاء ومعايير العدالة. إن عرف العلماء والمتخصصين في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وتشخيص الغالب بينهم، هو الطريق الأمثل لتحديد ما يطابق سيرة العقلاء، ومعرفة مقتضيات الزمان والمكان.

يمكن تلخيص نموذج الإسلام المعنوي المقاصدي في النقاط التالية:

1- ملاك اعتبار الأحكام الشرعية في أي زمان، هو كونها عادلة وموافقة لسيرة العقلاء.

3- الأحكام الشرعية كانت في عصر النص عادلة، عقلائية وطبيعية. هذه الضوابط شرط حدوث وشرط بقاء لدينية الحكم. وأي حكم لا يحوز تلك الضوابط في هذا الزمان، يعني أنه لا ينتمي لدائرة الأحكام الثابتة، وسيخرج من الدائرة الفعلية للدين.

4- الشارع هو الله والرسول فقط. غير المعصوم لا يمكن أن يتولى مهمة التشريع. الأحكام التي تخرج من دائرة التشريع بسبب افتقادها إلى ضوابط العدالة والعقلانية، لا يحل محلها حكم بديل، بل يجري تكييف موضوعاتها في إطار القوانين العقلائية، من دون نسبتها تكلفًا إلى الدين.

5- في هذا النموذج تتقلص دائرة الفقه والشريعة بالتدريج. لكن دائرة الدين تزداد عمقًا. أي حكم فقد فاعليته كطريق لتحقيق الغايات الدينية، سوف يسقط. الطريق الديني هو الطريق الذي حدده الله ورسوله.

لا بد من القول ونحن نختتم هذه المقالة: إن الوصول إلى غايات الدين ليس قصرًا على هذا الطريق. ومن الناحية الفنية فإن مبدأ العدالة وسيرة العقلاء، ربما لا تعتبران معيارًا دقيقًا ومنضبطًا. لكن من جهة ثانية فإن الحدود التي تقيد هذين المعيارين، هي ذاتها حدود الفكر والمعرفة الإنسانية. ليس لدينا -نحن البشر- طريق غير هذا الطريق، إن أردنا استيعاب الوحي.

لا يمكن القول: إن نموذج الإسلام المقاصدي خال من كل إشكال. لكن بحسب المقارنة مع النموذجين السابقين، فإنه يحمل قدرًا أقل من الإشكالات، وهو يقدم بديلًا أكثر قابلية لاستيعاب الحاجات الدينية للإنسان المعاصر ، وأكثر قابلية للصمود في وجه التحديات التي تجابه الدين والمؤمنين.

 

 



[1] حول الحركة الدستورية، انظر: أروند إبراهيميان، تاريخ إيران السياسي، ترجمة مجدي صبحي، الكويت: عالم المعرفة، 2014، الفصل 2، ص 57.

انظر أيضًا: حسن كريم الجاف، موسوعة تاريخ إيران السياسي، بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008، 3/ 303.

[2] الطباطبائي مفسر وأستاذ فلسفة معروف في الوسط الديني الشيعي. توفي 1981. لمعلومات عن حياته، انظر ويكي شيعه (25 يونيو 2018) https://goo.gl/29mSHD

[3] لتفاصيل حول الحكم الولائي وتمييزه عن أنواع الحكم الأخرى، انظر: علي إلهي الخراساني، حجية حكم الحاكم عند اليقين بمخالفته للواقع، مجلة نصوص معاصرة (19 ابريل 2015) https://goo.gl/md1BEi

[4] محمد حسين الطباطبائي، مقالات تاسيسية في الفكر الإسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، 1415هـ، ص 105.

https://ia800908.us.archive.org/17/items/42389743279833/mqalat-tasesiah.pdf

[5] سورة الروم، الآية 30.

[6] سورة النساء، الآية 59.

[7] مقالات تاسيسية، نفس السابق.

[8] مقالات تاسيسية، ص 112.

[9] مقالات تاسيسية، ص 114.

[10] محمد حسين النائيني: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تحرير توفيق السيف، (ن. أ. 2014) ص 132.

http://talsaif.blogspot.com/2014/10/blog-post_19.html

[11] محمد باقر الصدر فقيه ومفكر معروف، اعتقل في أبريل 1981 وقتل مع شقيقته آمنة. لبعض التفاصيل عن حياته، انظر: «السيرة الذاتية للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر»، مؤسسة الصدرين للدراسات، (اطلعت عليه في 27 يوليو 2018) http://www.alsadrain.com/sader1/

[12] لنقاش مفصل حول الفكرة، انظر: ذبيح الله نعيميان: نظريّة «منطقة الفراغ» بوّابة التشريع لقوانين الدولة، نصوص معاصرة (15 أكتوبر 2017) https://goo.gl/Dnbyxt

[13] محمد باقر الصدر، لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ضمن كتاب «الإسلام يقود الحياة»، قم: انتشارات دار الصدر، ط4، 1429هـ، ص 19.

http://aljawadain.org/pdf/book-library/PDF/388.pdf

[14] روح الله الخميني، كتاب البيع، ن. إ. (كتابخانه مدرسه فقاهت) ج2 ص 472.

http://lib.eshia.ir/10116/2/472

[15] روح الله الخميني، رسالة إلى السيد علي خامنئي بتاريخ 16 دي 1366 هـ.ش (15-5-1408) صحيفه امام 20/451.

www.imam-khomeini.ir/fa/c207_51482/?ppage=451&utm_source=tg

[16] الخميني: منشور روحانيت 3-12-1367ه.ش (15-7-1409هـ) صحيفه امام 21/273.

http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44699

الفقرة ذاتها في ص 289

[17] رسالة إلى أعضاء مجمع تشخيص النظام 8 دي1367 (19 -5-1409) صحيفه امام 21/217

http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44658/

[18] الخميني: رد على رسالة ايت الله قديري – 2-7-1367 صحیفه امام 21/149

http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44610/

[19] الخميني: منشور روحانيت. المصدر السابق.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة