تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

في مواجهة الحداثة وتداعياتها

محمد تهامي دكير

في مواجهة الحداثة وتداعياتها

 

محمد تهامي ذكير

الكتاب: معرفة الحداثة والاستغراب.. حقائق متضادة.

تأليف: حسين كتشويان نيان.

تعريب: مسعود فكري ومحمد فراس حلباوي.

الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.

سنة النشر: ط1 - 2016م.

الصفحات: 240 صفحة من القطع الوسط.

 

بين يدي الحداثة..

كثيرةٌ هي الكُتب والدراسات التي كُتبت وأُنجزت إلى حدِّ الآن، وكان موضوعها «الحداثة الغربية»، كواقع معيش، أو تحدّي حضاري، أو نموذج مثال للاقتداء والاقتباس والاندماج، أو كخصم لدود يجب منازلته والتملّص منه ورفضه جملةً وتفصيلًا، وهذه المواقف جرى الإفصاح عنها بأشكال موضوعية ومنهجية متعدّدة الخلفيات والأهداف.

ومع ما حقّقته هذه الكتابات من تراكم كمّي ونوعي في بعض الأحيان، إلَّا أنّ عددًا قليلًا من الكُتّاب المعاصرين، من المناهضين للحداثة الغربية أو المدافعين عنها، من تجرَّأ لإعلان أنّ الوقت قد حان للإعادة النظر في هذا التراث المواقفي، بُغية نقده وتحليله، لبلورة موقف جديد، يتناسب مع ما آلت إليه الحداثة الغربية، وقد بدأت العقلانية ومناهجها التجريبية والبرهانية تترنّح أمام تعدّد العقلانيات، وهيمنة نزعة اللا يقين والتشكيك والنسبية، ودخول العلوم الحداثية في دوامة الاختصاص التجزيئي، الذي أفقد فلسفة العلم، القدرة على بلورة رؤية كونية للإنسان والطبيعة من حوله، الأمر الذي انعكس سلبًا على الاجتماع الغربي، حيث ارتفعت الأصوات من داخله مُبشِّرة بما بعد الحداثة، حيث سينتهي التاريخ على خيبات مُتعدّدة الأبعاد، فالأسئلة التي طرحتها الحداثة الغربية في بدايتها ووعدت بالإجابة عنها، ظلّت معلّقة، بعدما فرّخت الكثير من الأسئلة الإشكالية الأخرى بدورها، والرؤية المستقبلية التي كانت تتذرّع بالمرحلية الزمنية لتُحقِّق الوعود والآمال، أضحت فارغة من مضمونها، وقد بدا العلم في الغرب يجترّ نفسه، وهو يدخل في متاهة اللا يقين، وانفتاح القراءة للذات وللطبيعة على التعدّدية المنهجية المُبرِّرة لتنوّع الفهم والتحليل والاستنتاج..؟!

في المقابل، كانت الأوساط الفكرية خارج الغرب، سواء التي استقبلت الحداثة بالترحيب والتبجيل، أو التي اتّخذت موقف العداء والرفض، تتخبّط في الآثار الكارثية لهيمنة الحداثة الغربية، فالحصاد كان كارثيًّا، فقد انتهى المطاف مع عولمة لأشكال جديدة ومتنوّعة من الهيمنة الاستعمارية، والتبعية المُعمِّقة للتخلّف، ما أفقد غير الغرب والعالم الإسلامي على وجه الخصوص، البوصلة الحضارية، حيث البكاء على أطلال الماضي، والارتماء المتهوّر في أحضان الحداثة، كلاهما لم يُجدِ نفعًا في الخروج من ورطة التخلّف الحضاري.

إلَّا أنّ الملاحظ هو وجود حالة من التململ، تمظهرت في بعض الدعوات لإنجاز دراسات جديدة للتعرّف على الغرب، من خارج حديث الغرب عن نفسه، كما هو مبثوث في مناهجنا الدراسية والثقافة المُعولمة، دراسات تُعيد تشكيل الرؤية تجاه الحداثة الغربية، بما يُعيد الثقة بالذات والهوية، كمقدّمة لإنتاج حداثة بمنطلقات وخلفيات حضارية خاصة.

من هنا يمكن الحديث عن أهمية هذا الكتاب «معرفة الحداثة والاستغراب: حقائق متضادّة» الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت، كمحاولة لتناول موضوع الحداثة من زاوية مختلفة، لا تكتفي برصد ما قيل عن الحداثة، أو تتبّع مراحل تطوّر المواقف منها، ونقدها وتحليلها، وإنّما بالإضافة إلى ذلك، التركيز على الشروط والمستلزمات لقيام دراسات غربية، يُمكن أن تكون مقدّمة صحيحة لقيام «علم الاستغراب» على غرار علم الاستشراق، مع اختلاف الأهداف، فليس الهدف من الاستغراب تشويه صورة الغرب أو الهيمنة عليه، وإنما الهدف منه التعرف العلمي الدقيق على الغرب، لاتخاذ الموقف الصحيح منه ومن حداثته، ومحاولة الانعتاق من هيمنته وآثارها السلبية.

الحداثة الغربية وانتصار العقل في التاريخ

للضرورة المنهجية، ما كان للباحث أن يقدّم وجهة نظره عن الموقف العلمي من الحداثة الغربية، إلَّا بالحديث في البداية عن هذه الحداثة، للتعريف بطبيعتها ومنشئها ومراحلها التاريخية، لكن الجديد في هذا التعريف، هو التركيز على التغيّرات الحاصلة في الدراسات التاريخية المرتبطة بالحداثة وعلم الحداثة، وخصوصًا في الأوساط الفكرية الغربية، حيث تُنتج الحداثة نفسها، وكذلك رصد بعض المواقف من خارج الغرب، والتي رغم تذبذبها وتناقضها، إلَّا أنها هي الأخرى عرفت قفزات مهمة، سيتمّ الرّكون لبعضها في أطروحة الباحث وموقفه من الحداثة.

ففي نظره، فإنّ علم الحداثة قد طوى ثلاثة مراحل تاريخية هي: المرحلة الجنينية الأولية، وقد ظهرت في إطار النظريات التاريخية العامة وفلسفات التاريخ بالتحديد، وهذه المرحلة بدأت من تاريخ ما قبل تأسيس علم الاجتماع، وانتهت تدريجيًّا مع تشكّله في أواسط القرن 19 (ص19). المرحلة الثانية مرتبطة بتأسيس علم الاجتماع، وفيها ظهرت مجموعة من النظريات الاجتماعية ثم التركيز فيها على المجتمع والتاريخ والمؤسسات الحداثوية. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فإنّ ما يُميّزها هو انفصال علم الحداثة عن كيان العلوم الاجتماعية، وبمساعدة تخصّصات كثيرة ساهمت في تطوّر الدراسات والبحوث في هذا المجال، ما جعله مُهيّئًا ليغدو فرعًا بل حتى «علمًا مستقلًّا».

وبالتالي، اتّضحت صورة الحداثة باعتبارها حصيلة الأفكار والتنظيرات التي انبعثت من خلال الإنتاج الفكري للحداثويين، ونتائج معرفة بالذات الحداثوية والغرب الحداثوي بالنسبة إلى الطبيعة والتاريخ والعوامل والأسباب المؤثرة فيها.. (ص20). في المقابل، فقد شكّلت الحداثة موضوعًا مهمًّا بالنسبة للشعوب غير الغربية والتي عانت من هيمنة مظاهر الحداثة عليها، وقد اتّخذ «علم الحداثة» في هذه الجغرافية الثقافية غير الغربية –حسب المؤلف– أشكالًا عدّة وطوى بدوره ثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى من علم الحداثة بدأت مع المواجهات الحضارية الأولى بين الغرب والحضارات الشرقية، إبان الهجمة الاستعمارية، وما نجم عنها من مشاريع التحديث والتجديد أو الاستنساخ للحالة الغربية والاقتباس منها في أكثر من مجال، وبالتالي -كما يقول المؤلف- فإنّ المرحلة الأولى من علم الحداثة غير الغربي طُبع بأحد أمرين؛ فهي إما كانت تهدف إلى التغرُّب أو الانضمام إلى نادي الحداثة (ص23). المرحلة الثانية لعلم الحداثة الشرقي، تميّزت ببداية تشكّل نوع من النزعة السلبية تجاه الحداثة، وانتشار هذه النزعة تدريجيًّا في مواجهة الغرب الحداثوي، مع الالتفات إلى المشكلة التي تُعاني منها الذات الشرقية، والتي تكمن في استقطاب الحداثة على الرغم من خصائص الغرب المتغايرة مع الإسلام وحضارته.. (ص24).

أما ما يميّز المرحلة الثالثة من علم الحداثة الشرقي، فهو التخلّي عن التسليم الكامل للحداثة وضرورة اعتناقها، كما تمتاز -في نظر المؤلف– الاتجاهات النقدية والاقتباس الانتقائي مع غلبة البُعد النقدي وسيطرته على وجه العموم (ص25). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقارنة بين هذه المراحل تكشف عن ظهور حالة من علم الحداثة يمكن أن نطلق عليها اسم «الدراسات الغربية» أو ظهور علم الحداثة في صورة الدراسات الغربية كما يقول المؤلف (ص26). لكن هذا التوصيف المرحلي لتطوّر الموقف من الحداثة، طرح سؤالًا صعبًا لا توجد له إجابة شافية إلى حدّ الآن كما يرى المؤلف، ويتعلّق الأمر بالتحديد الدقيق بين السؤال عن الحداثة كما فهمها الغرب، وقدّمها لنا من خلال العلوم والنظريات التي ندرسها في مناهجنا الدراسية، والسؤال عن الدراسات الغربية؛ لأن عدم التمايز بين السؤالين يجعلنا نجد صعوبة في التفكير بالمنهجية والمستلزمات المعرفية الخاصة بـ«الدراسات الغربية»، لأن الإجابة إما أن تكون قد قُدِّمت سابقًا من طرف الغربيين أنفسهم، وإما يلزم تأسيس إطار جديد من داخل هذه العلوم، وهنا قد تتحوّل «الدراسات الغربية إلى قضية لفظية اصطلاحية فقط..» (ص27).

ولحلّ هذه الإشكالية وإيضاح أبعادها المتنوّعة، ومن بينها العوامل المؤثرة في ظهور «علم الاستغراب»، وكذلك لعرض إطار عام لنسق صحيح من الأسئلة التي توجّه البحث عن الدراسات الغربية، أو تستفسر عن الغرب كما هو، فقد تحدّث المؤلّف بالتفصيل عن علم الاستغراب، كيف تطوّر التعاطي مع الحداثة، من اعتبارها بمثابة التاريخ البشري العام، إلى حداثة بما هي تاريخ غربي خاص، وكيف تمّ قبول الحداثة باعتبارها انتصارًا للعقل في التاريخ، وصولًا إلى ظهور علم الاجتماع أو الأسلوب العلمي للتعرّف على الذات وعرض الحداثة على الآخرين.

وأخيرًا ظهور علم الحداثة المابعد حداثي، أو الحداثة القلقة والمطلقة، وفي هذه المرحلة يمكن القول –حسب المؤلّف- أنّ علم الحداثة الغربي قد نال قسطًا من التغيير من الناحية الصورية أو الشكلية لفهم الحداثة. وإذا كانت رجاحة الحداثة وقيمها باعتبارها نهاية للتاريخ، تدرك في معنى غير زمني لها وبمعناها الفوكويامي، -أي إنها تشكّل الغاية الكمالية للوجود والحياة الإنسانية والوصول إلى إجماع على قيمها النهائية– فإنّ علم الحداثة في مرحلة ما بعد الحداثة ينظر إلى الحداثة أيضًا باعتبارها نهاية للتاريخ البشري.. (ص91).

أما بخصوص تطوّر علم الحداثة في الشرق، فأهم ما ميّزه هو تطوّر الوعي بهذه الحداثة، من أزمة الهيمنة ومحاولات الاستنساخ والتبعية، إلى المواجهة والنقد وصولًا إلى ما يسميه المؤلّف، عملية الانعتاق من الوعي الحداثي، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الموقف السلبي لبعض المرجعيات الدينية التي وقفت موقفًا سلبيًّا تشوبه الحيرة والتذبذب تجاه الحداثة، وعدم القدرة على تشكيل سؤال عقلاني عن الغرب وماهية الحداثة، أو محاولة فهم الحداثة بشكل صحيح، ما انعكس سلبًا على فئة عريضة من المتنوّرين والطبقات المثقّفة في المجتمعات الإسلامية، حيث تمّ قبول التاريخ الحداثوي باعتباره تاريخًا لمسار العلم والعقل البشري الطبيعي، والخضوع المطلق للمنظّرين الغربيين ونظرياتهم، وبالتالي، السقوط في فخّ الغرب وحداثته.. في الوقت الذي كنَّا فيه بحاجة إلى مواقف مختلفة عنهم، «والوعي بضرورة اختلاف منهجياتنا عن المناهج المعتمدة لدى الغربيين..».

هذه الأخطاء وغيرها كانت مقدّمة لتعميم الحداثة على التاريخ والوجود، ما أدّى إلى استحالة علم الاستغراب، وبالتالي السقوط في إشكالية كبرى، وهي أن فهم الحداثة يقتضي أن يُصبح الشرقي غربيًّا!! «وبهذا المعنى تكون كل معرفة عن الغرب، بمعنى خطوة أكبر في طريق إزالة إمكانية القيام بالدراسات الغربية؛ لأن هذه المعرفة وتحقّقها عمليًّا في الحياة تتسبب في زوال بقايا الهوية الغربية، مع تحوّل الفرد والمجتمع إلى فرد أو مجتمع حداثوي بشكل كامل، وسوف يُفقد الفرد أو المجتمع غير الغربي مقدرته على مواجهة الغرب بشكل حي وفاعل» (ص125).. وسينظر إلى نفسه باعتباره صاحب هوية ميتة وقد أصيبت بالانحطاط والموت، وقد أصبحت مانعًا للوصول إلى الحداثة أو مواكبة التاريخ.. وهنا -كما يقول المؤلف- «لا تُبقي الرواية الحداثوية للشرقي بديلًا عن القيام بالدراسات الغربية سوى إمكانية الاستشراق الذي يعني مواجهة الميت لهويته، وأن ينظر إلى ذاته من الخارج بعد اتخاذ موقف حداثوي، وأن يخرب هويته ليحظى بإمكانية العيش والعودة إلى التاريخ..» (ص127).

وإذا كان علم الحداثة الاجتماعي -كما ظهر في بعض الأعمال ذات الطابع التاريخي التي أنجزها عدد من المفكرين الشيوعيين والإسلاميين، مثل آل أحمد وشريعتي- قد شكّل بدوره مانعًا مستمرًّا في وجه قيام الدراسات الغربية، فإنّ المرحلة ما بعد الحداثوية قد أظهرت إمكانية القيام بها، وذلك بعد انهيار العقل الغربي وتمزّق البيئة الاجتماعية في داخله، وفقدان الركائز والأسس البرهانية والاستدلالية للحداثة الكلاسيكية، ما جعل العقلانية والعلم الحداثوي يفتقد أيَّ نوع من المركزية والاعتبار، المتمايز بالنسبة إلى جميع العقلانيات والعلوم..(ص137).

وهذا ما ظهر بشكل واضح مع التيارات المضادّة للتغريب والحداثة معًا، والتي جعلت حاملي الفكر الحداثوي من غير الغربيين يعيشون في ضغط مضاعف ومستمر، ومن خلال هذا التحوّل يرى المؤلّف أنه أصبح هناك إمكانية لتأسيس «الدراسات الغربية» بمعناها الدقيق المتمايز عن علم الحداثة..(ص138).

بعد عرض هذه الإشكاليات ومناقشة وتحليل ما يترتّب عن تطوّر الفهم والموقف تجاه الحداثة الغربية، وما آل إليه الأمر من إمكانية التأسيس للدراسات الغربية خارج مجال التفكير الغربي، قدّم المؤلّف نظرته لإمكانية ظهور علم الاستغراب والخصائص والشروط اللازمة لهذا التأسيس.

الاستغراب: الشروط، الإمكانية والخصائص

قبل الحديث عن إمكانية ظهور علم الاستغراب، والشروط الضرورية لتأسيس هكذا علم في الشرق والعالم الإسلامي على وجه الخصوص، حاول المؤلّف التذكير بما أشار إليه سابقًا، وذلك لأهميته في التأسيس أو كونه عائقًا أمام ذلك، لكن من خلال التركيز على أوجه وأبعاد مهمّة لها علاقة مباشرة بقيام هذا العلم وبنجاح الدراسات الغربية، حيث أشار إلى أن الدراسات الحداثوية غير الغربية قد ركّزت على التوجّه إلى العقلانية والعلم باعتبارهما عنصرين جوهريين للحداثة، بل إن كبار دعاة النهضة الإسلامية مثل جمال الدين الأسدآبادي، كانوا يرون أن النجاح الغربي قد اقترن بهذين العنصرين الموجودين في التعاليم الدينية وإرشاداتها أساسًا، وبالتالي، إذا أضفنا لهما العنصر الأخلاقي، فإنّ الإسلام يمكن أن يقدّم شكلًا أفضل وأكمل مما تعرضه الحداثة الغربية، وهذه الرؤية -حسب المؤلّف- تستند إلى منهجية لا تُدرك التمايز الماهوي بين نظرتي الحداثة الغربية والإسلام للعقلانية والعلم.

كما أنّ غلبة الرؤية التي ترى في الحداثة صورة للحياة وتاريخًا ضروريًّا لا محيص منه للوجود البشري، أدّت إلى تحريف الفهم الذاتي للمجتمع، وفهم خاطئ عن بعض أبرز النقاط لظهور الوجود التاريخي الخاص للمجتمع.. (ص164).

وبما أن الشرق واقعيًّا يعيش على وقع هيمنة شكل من أشكال الاستغراب، بحيث ندرس في مناهجنا التعليمية النظريات الغربية باعتبارها حقائق حيَّة ودينامية، فإن هذا الوضع لا يسمح بإنجاز دراسات علمية في علم الاستغراب، وهناك أسباب أخرى تحول دون قيام هذا العلم -في نظر المؤلّف- ترتبط أساسًا بغياب الأرضية المؤسساتية والموقع الاجتماعي، وكذلك «فقدان اللوازم المعرفية للدراسات الغربية..» (ص166). والفرضيات الأساسية والمهمّة التي تشكّل الخلفية الذهنية للباحث، وتمكّنه بالتالي من طرح الأسئلة عن الاستغراب وتشكيل إطار بحثي متطوّرن بالإضافة طبعًا إلى توفّر الشروط المؤسساتية والارتباط بها، ومن بين هذه الأسئلة» ما الفرق بين الاستغراب ومعرفة الغرب، بعيدًا عمَّا علمناه ودرسناه عن الغرب والعلوم الحداثية ؟ وهذا السؤال -في نظر المؤلف- هو «رمز علم الاستغراب ومفتاحه» (ص170).

وإذا كانت العلوم تمتاز عن بعضها بحسب الموضوعات أو المسائل والغايات فإن المعيار المعتمد في التمايز بين العلوم في نظريات العلم الحداثوي هو المنهج، وبالتالي، فبناء على الموضوعية بين الاستغراب وبين التعرّف على الغرب ينبغي بيان وجه التمايز الذي يُبرّر إنشاء علم جديد «الاستغراب»، وكذلك الإجابة عن سؤال «ما هي الاعتبارات المنهجية التي تسمح بإنتاج هذا العلم الجديد، وبذلك نميّز كذلك بين الاستغراب والدراسات الغربية، ونكون أمام منظور للاستغراب من موقع خارج الحداثة ودراساتها الكلاسيكية.

وأخيرًا، فإن التأسيس لهذا العلم باستقلال عن دراستنا ومعرفتنا المسبقة بالنظريات الحداثية الغربية، يُثير بدوره الكثير من الأسئلة المهمة عن واقع معرفتنا بذواتنا وهويتنا وتاريخنا، وقيمنا الدينية؛ لأن هذه المعرفة بالذات، بأبعادها المتنوّعة ستوجّه أسئلتنا وموقفنا من الغرب وحداثته وعلومه ونظرياته، وبالتالي ستحدّد طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، كذلك هناك قضية مهمّة يثيرها هذا الاشتغال بالاستغراب، وتتعلّق بغياب تشكّل مؤسسات العلم والمجالات المولّدة للدراسات والنظريات في أغلب الدول والمجتمعات الإسلامية، ومع غيابها فقد فقدنا نشاط البحث العلمي الذي هو شرط أساسي وضروري لتشكيل مؤسسة العلم، وهذا بدوره له تأثير سلبي على الوعي بالذات.

والنتيجة أو الخلاصة التي يتوصّل إليها المؤلّف بعد استعراضه للمراحل التي قطعتها الحداثة الغربية، وكذلك تطوّر المواقف تجاهها من طرف الشرق، هذه الخلاصة التي نشاطره التأكيد على أهميتها، هي أن نجاح التأسيس لعلم الاستغراب مرهون ومرتبط أساسًا بالاهتمام والإحاطة والمعرفة الدقيقة بالهوية الحضارية والدينية للأمة الإسلامية وخصوصياتها الاجتماعية والثقافية والوطنية، وخصوصًا الدراسات الحضارية والتاريخية التحليلية الدقيقة والعميقة والشاملة والموضوعية. ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ الغرب نفسه بدأ حداثته بإعادة التعرف على تراثه العميق، أي التراث اليوناني، ونقد مراحل تطوّره التاريخية بقسوة، وكذلك موقفه التشريحي الناقد للأيديولوجيات السياسية والدينية التي سادت في عصور انحطاطه.

أما إذا افتقدنا الوعي الموضوعي بذاتنا وبمنظوماتنا القيمية والتشريعية والأخلاقية، وغابت عنَّا الدراسة العلمية لحضارتنا ومراحل تطوّرنا وإدراكنا لموقعنا الحقيقي في التاريخ والسيرورة البشرية، فلن يكون بمقدورنا أن ندرس الآخر ونفهمه ونتّخذ الموقف المطلوب منه، أو نحدّد موقفنا بدقة من الغرب وحداثته، استعدادًا للتخلّص من هيمنتها وتأثيراتها السلبية علينا، وبالتالي -كما يقول المؤلّف- سوف نُجبر على الاستمرار والمُضي في السبيل الذي سلكناه الى حدّ الآن، أي التبعية للمعرفة الذاتية الحداثوية.. (ص232).

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة