تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

حركة الامام الحسين .. قراءة تحليلية في المواقف المعارضة

زكي الميلاد

حركة الإمام الحسين..

قراءة تحليلية في المواقف المعارضة

زكي الميلاد

-1-
حركة الحسين.. مواقف نقدية قديمة

حركة الإمام الحسين –عليه السلام- على طهارتها وآلامها لم تسلم من النقد والتجريح، فقد ظهرت فئة قليلة من المسلمين السنة كاشفت بحقيقة رأيها في كتابات فكرية وتاريخية قديمة وحديثة، معلنة بعضها الانحياز لموقف الحاكم الأموي يزيد بن معاوية وإظهار المعارضة لحركة الإمام الحسين، وبعضها الآخر اكتفى بتوجيه اللوم للإمام الحسين مع ضبابية الموقف تجاه الحاكم الأموي أو السكوت عن هذا الأمر، إلى جانب من ذم هذا الموقف واعترض عليه.

وأشهر من عرف بموقفه النقدي المعارض في الأزمنة السابقة، هو القاضي الأندلسي المالكي أبو بكر بن العربي (468-543هـ)، وأشار لهذا الموقف في كتابه المثير للجدل الموسوم بعنوان: (العواصم من القواصم) الذي يعدّ أحد أكثر مؤلّفاته شهرةً وتداولًا بين طلبة العلم المعاصرين، وذلك بعد أن أعاد نشره في القاهرة مطلع خمسينات القرن العشرين الكاتب السوري محب الدين الخطيب (1304-1389هـ/ 1886-1969م) مع تحقيق وتعليق.

في هذا الكتاب أعلن ابن العربي صراحة انحيازه إلى صف يزيد بن معاوية مدافعًا عنه ومزكِّيًا له ومخطئًا موقف الحسين، شارحًا رأيه قائلًا: إن الحسين «لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر، وطلب الابتداء في الانتهاء، والاستقامة في الاعوجاج... وما خرج إليه أحد إلَّا بتأويل، ولا قاتلوه إلَّا بما سمعوا من جدّه المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن، وأقواله في ذلك كثيرة، منها قوله –ص-: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان»، فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله»[1].

واللافت في هذا الموقف، أنه لم يأتِ في سياق الحديث عن الإمام الحسين، وإنما جاء في سياق الحديث عن يزيد بن معاوية وتبرأته من تهم المؤرخين، وإظهار عدالته، وانعقاد بيعته، وهي -في نظر ابن العربي- بيعة شرعية، وأكثر من ذلك فقد حاول ابن العربي إثبات أن يزيد كان من جملة الزُّهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقتدى بقولهم ويُرعوى من وعظهم.

وأقواله في هذا الشأن دالّة وواضحة، فعن شرعية بيعة يزيد قال ابن العربي: «إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألَّا يخصَّ بها أحدًا من قرابته فكيف ولدًا، وأن يقتدي بما أشار به عبدالله بن الزبير في الترك أو الفعل، فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس، وتخلّف عنها من تخلّف، فانعقدت البيعة شرعًا؛ لأنها تنعقد بواحد، وقيل: باثنين. فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة، قلنا: ليس السن من شروطها، ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها. فإن قيل: كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلًا ولا عالمًا، قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه أو عدم عدالته؟»[2].

وعن عدالة يزيد والمحاجَّة عليها، قال ابن العربي: «فإن قيل: كان يزيد خمّارًا، قلنا: لا يحل إلَّا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟ بل شهد العدل بعدالته: فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال الليث: تُوفِّي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا، فسماه الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلَّا تُوفِّي يزيد»[3].

وأما كون يزيد من جملة الزُّهاد، فقد استند ابن العربي خطأً إلى قولٍ لأحمد بن حنبل (164-241هـ/ 780-855م) قائلًا: «وهذا أحمد بن حنبل على تقشُّفه وعظيم منزلته في الدين وورعه، قد أدخل عن يزيد بن معاوية –كتاب الزهد- أنه كان يقول في خطبته: إذا مرض أحدكم مرضًا فأشفى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه، ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه، وهو يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزُّهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقتدى بقولهم ويُرعوى من وعظهم. ونعم، وما أدخله إلَّا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين، فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا يستحيون؟»[4].

وفي سياق تتبّع المآخذ على يزيد دفاعًا عنه، وتزكيةً له، وإقرارًا لبيعته، أشار ابن العربي لمقتل الإمام الحسين باعتبار أن هذه القضية واحدة من المآخذ التي يُجادل عليها، ومنها ولج ابن العربي للحديث عن واقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين، كاشفًا عن موقفه النقدي السالف الذكر.

ولعل أكثر من لفت الانتباه لموقف ابن العربي، ودفع بهذا الموقف إلى الواجهة، وجعله في دائرة الضوء والانكشاف هو ابن خلدون (732-808هـ/ 1332-1406م)، وذلك حين أشار إليه في مقدمته الشهيرة التي عبرت بشهرتها الأزمنة، وطافت بين الأمم والمجتمعات شرقًا وغربًا، وفاقت غيرها رواجًا واهتمامًا بقي مستمرًا إلى اليوم.

وبرهان ذلك، أن الكثيرين قد تعرّفوا إلى كلام ابن العربي حول الإمام الحسين وحركته من خلال هذه المقدمة، بحكم شهرتها وانتشارها الواسع، وتداولها منفصلة عن كتاب التاريخ العام لابن خلدون الذي يقع في سبعة مجلدات كبيرة يصعب على غير الباحثين الرجوع له، والتعامل معه والاستفادة منه.

وجاء حديث ابن خلدون عن ابن العربي وكتابه، في سياق نقده وتغليط رأيه حول الإمام الحسين، ونص كلامه: «وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا، فقال في كتابه الذي سماه «العواصم والقواصم» ما معناه: إن الحسين قتل بشرع جدّه، وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!»[5].

إن المعنى الذي حصّله ابن خلدون من كلام ابن العربي وكان صادمًا له على ما يبدو، أوجزه بهذا القول: «إن الحسين قتل بشرع جدّه»، القول الذي لم يُفصح عنه ابن العربي بهذا البيان، لكنه مؤدَّى كلامه، ومبتغى ما يريد تأكيده، ولم يذهب ابن خلدون بعيدًا في تصويب هذا المعنى الذي تحوّل بسببه إلى قول بات معروفًا ومتداولًا بهذا الصكّ البياني.

وابن خلدون الذي غلّط ابن العربي غلّط كذلك الإمام الحسين، لكن ليس من جهة الأهلية، وإنما من جهة الشوكة، وليس في جهة الحكم الشرعي وإنما في جهة أمر دنيوي لا يضرّه الغلط فيه حسب عبارة ابن خلدون، لهذا عُدّ ابن خلدون في عداد أصحاب المواقف المخالفة لحركة الإمام الحسين –عليه السلام- وقد ناقشت هذه القضية فحصًا وتحليلًا في بحث مستقل.

- 2 -
حركة الحسين.. مواقف نقدية معاصرة

على المنوال السابق وتناغمًا معه، جاءت مواقف بعض المعاصرين الذين كاشفوا بآراء تخالف حركة الإمام الحسين وتوجّه اللوم إليها، ومن هذه الآراء توصيفًا وسردًا وتعاقبًا:

أولًا: رأي الشيخ محمد الخضري (1289-1345هـ/ 1872-1927م)

قدّم الشيخ الخضري أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية محاضرات حول تاريخ الدولة الأموية وصلت إلى أربعين محاضرة، وعند حديثه عن عهد يزيد بن معاوية في المحاضرة الرابعة والثلاثين تطرّق لحادثة مقتل الإمام الحسين، كاشفًا عن رأيه تجاه هذه القضية، معلنًا أن يزيد هو الخليفة على المسلمين، وما الحسين -في نظره- إلًّا خارجًا على حاكم رفض بيعته.

وبعد أن سرد لحادثة مقتل الحسين ختم الخضري الكلام قائلًا: «بذلك الشكل المحزن انتهت هذه الحادثة التي أثارها عدم الأناة والتبصُّر في العواقب، فإن الحسين بن علي رمى بقول مشيريه جميعًا عرض الحائط، وظن بأهل العراق خيرًا، وهم أصحاب أبيه، فقد كان أبوه خيرًا عنه وأكثر عند الناس وجاهة، وكانت له بيعة في الأعناق، ومع كل ذلك لم ينفعوه، حتى تمنَّى في آخر حياته الخلاص منهم، أما الحسين فلم تكن له بيعة، وكان في العراق عمّاله وأمراؤه، فاغترَّ ببعض كتب كتبها دعاة الفتن ومحبو الشر، فحمل أهله وأولاده وسار إلى قوم ليس لهم عهد... وعلى الجملة فإن الحسين أخطأ خطأً عظيمًا في خروجه هذا، الذي جرَّ على الأمة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا، وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحادثة لا يريدون بذلك إلَّا أن تشتعل النيران في القلوب، فيشتد تباعدها، غاية ما في الأمر أن الرجل طلب أمرًا لم يتهيَّأ له، ولم يعدَّ له عدَّته، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه»[6].

ثانيًا: رأي محب الدين الخطيب (1304-1389هـ/ 1886-1969م)

تابع الخطيب نهج ابن العربي وتطابق معه وتناغم كليًّا، وهو الذي حقّق وعلّق ونشر كتابه العواصم، وعدَّه من خيرة كتبه، وصوَّب أقواله وآراءه في الدفاع عن يزيد بن معاوية، وإثبات عدالته، وشرعية بيعته وإمارته، وقال كلامًا قاسيًا وشديدًا عن الإمام الحسين واصفًا خروجه بالخروج المشؤوم.

جاء كلام الخطيب في تعليقاته على كتاب ابن العربي، فعند الحديث عن الناصحين للحسين بعدم الخروج، عقّب الخطيب قائلًا: «فلم يفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشؤومًا عليه، وعلى الإسلام، وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة، وكل هذا بجناية شيعته الذين حرَّضوه بجهل وغرور ورغبة في الفتنة والفرقة والشر، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر، ولم يكتفِ ورثتهم بما فعل أسلافهم فعكفوا على تشوية التاريخ، وتحريف الحقائق، ورد الأمور على أدبارها»[7].

ثالثًا: رأي الدكتور عبدالحليم عويس (1363-1433هـ/ 1943-2011م)

خصّص الدكتور عويس كتابًا في الدفاع عن بني أمية خلافةً ودولةً وحكامًا، صدر سنة 1987م بعنوان: (بنو أمية بين السقوط والانتحار.. دراسة حول سقوط دولة بني أمية في المشرق)، وقد ظهر له حسب قوله: «ومن فوق كل الآراء والاختلافات أن خلفاء بني أمية تغلب الجادة على حياتهم، ويغلب شعورهم بالمسؤولية، وصلاحهم والتزامهم بالإسلام، وقيامهم بأمر الرعية على مستوى أداء الدولة بصفة عامة... وفي تقويمها العام أنها كانت كقطار يمشي على قضبان صحيحة»[8].

وحين تطرّق إلى قضية الحسين، رأى عويس «أن خروج الحسين على يزيد مهما كانت دوافعه النبيلة التي لا نستطيع تجاهلها، أمر يحتاج إلى مناقشة تاريخية وشرعية معًا، وليس من الإنصاف التاريخي أن نبدأ بالحكم قبل هذه المناقشة، أو أن يكون لدينا جموح عاطفي يحول دون التقويم الموضوعي لمسار الأحداث وظروف القضية، ومسؤولية أطرافها جميعًا في ضوء مبادئ الإسلام»[9].

وأعاد عويس التذكير بهذا الرأي مناقشًا رأي العقاد ومخالفًا له، وذلك عند حديثه عن أثر مقتل الحسين في سقوط دولة بني أمية، وحسب رأيه «لم يكن سقوط بني أمية لأنهم كانوا سببًا في قتل الحسين، ولأن مصرع الحسين كان الداء الذي سكن دولتهم حتى قضي عليها كما يقول الأستاذ العقاد، فتلك قضية لها ظروفها وقد دفع الفرع السفياني ثمنها، مع أن الملابسات كما تدلّنا المصادر الأصلية والروايات المتعددة، قد تجعل أطرافًا متعدّدة يتحمّلون المسؤولية، وليس بني أمية وحدهم»[10].

وتناغمًا مع هذا الموقف، امتدح عويس يزيد بن معاوية نافيًا عنه تهم وتهجّمات المؤرّخين والمحدّثين وغيرهم، وعدَّه من الطبقة الأولى من التابعين، ونصّ كلامه: «وأيًّا كان الأمر فلم يكن يزيد كما وصفوه، بل هو من الطبقة الأولى من التابعين، وعنه قال عبدالله بن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، وقد علّمه أبوه العدل والانصاف والتواضع»[11].

هذه بعض النماذج التي وقفتُ عليها من الأزمنة القديمة والحديثة، لأولئك الأشخاص الذين كانت لهم مواقف مخالفة لحركة الإمام الحسين –عليه السلام-، وإذا كانت هناك أسماء أخرى قديمة أو حديثة وهي موجودة، فهي تدور في فلك هذه النماذج تقريبًا، ولا تكاد تبتعد عنها كثيرًا، ولعلها جاءت متأثّرة بها.

- 3 -
نقد المواقف النقدية

لم تمرَّ تلك المواقف النقدية المعارضة من دون أن تقابل بالنقد والاعتراض والتجريح الفكري والتاريخي والسياسي، فقد انبرى لها ومن داخل ساحة المسلمين السنة خاصة، علماء وباحثون أعلنوا الاعتراض على تلك المواقف، وأظهروا الاختلاف معها، وكاشفوا بآراء مغايرة لها، ومن هؤلاء النقاد الذين وقفت على آرائهم من المعاصرين، وبحسب تعاقبهم الزمني هم:

أولًا: الشيخ عبدالله العلايلي (1914-1996م)

أولى الأزهري اللبناني الشيخ العلايلي اهتمامًا مميّزًا بحياة الإمام الحسين –عليه السلام- وسيرته، وقد سبق الكثيرين بهذا الاهتمام سنة وشيعة، وقدّم أدبًا بديعًا سرت فيه عاطفة إنسانية سيّالة، وجاء هذا الأدب مفعمًا بحب الحسين، متعلّقًا بشخصه، كاشفًا عن عظمته، داعيًا للتعلّم منه، فالحسين بالنسبة إليه لا نظير له في التاريخ ولا مثيل، وحسب قوله: «فإن جميع من يعرّفنا التاريخ بهم من شتى الرجالات في شتى الأمم، لا نجد بينهم من يجيء مع الحسين –عليه السلام- قرينًا، ولن نجد في التاريخ له مثلًا ولا نظيرًا، وأنَّى نجد إنسانًا يندفع على الموت كما يندفع الطفل على الحياة بكل جوارحه واستعداداته، فهي تجتمع عند الطفل لكي تحيا، وتجتمع عند البطل لكي تموت، وفي حيوانية الطفل سر لموت، وفي موت البطل سر الحياة»[12].

وظهر هذا الاهتمام وتجلَّى في ثلاثة أعمال خصَّ بها الشيخ العلايلي حياة الإمام الحسين وسيرته، بدأها بكتاب (سمو المعنى في سمو الذات أو أشعة من حياة الحسين) الصادر سنة 1939م، وجاء الكتاب الثاني بعنوان (تاريخ الحسين.. نقد وتحليل) الصادر سنة 1941م، والكتاب الثالث جاء بعنوان (أيام الحسين.. عرض وقصص).

ومن جهة النقد، فقد خصّص الشيخ العلايلي فقرة في كتابه سمو المعنى حملت عنوان (حركة الحسين –عليه السلام- من الوجهة النقدية)، تعرَّض فيها -حسب وصفه- لوهم وقع فيه جماعة من المؤرّخين، لم يذكر أحدًا منهم سوى أبي بكر بن العربي، وعدَّه من طائفة المتشرّعين، متوقفًا عند مقولة «إن حسينًا قتل بسيف جدّه»، والأقرب أن العلايلي قد تعرّف إلى هذه المقولة من مقدمة ابن خلدون؛ لأنها لم ترد بهذا الصكّ البياني في كتاب العواصم لابن العربي، والذي لم ينشر أو يعرف آنذاك، وذكرها ابن خلدون في مقدمته لكن بصيغة «إن الحسين قتل بشرع جدّه».

وعن هذا النقد كتب العلايلي قائلًا: «أحبّ أن أتعرّض لوهم وقع فيه جماعة من المؤرّخين، وإن كان بحث هذا الخطأ وتفنيده ليس بذي أهمية في نفسه، حيث لا يتماسك مع بداهة النظر الفاحص، تذهب طائفة من المؤرّخين والمتشرّعين إلى تحميل الحسين –عليه السلام- نتائج خطوته، فقد قال أبو بكر بن العربي: إن حسينًا قتل بسيف جدّه، ولقد أكثر من التعلّق بهذا متأخّرو المؤرّخين وبالأخصّ المستشرقون، وعندي أن حكمًا كهذا الحكم، نتيجة لعدم التثبّت ودرس كل المستندات التاريخية»[13].

وتتمّةً لهذا النقد، يضيف العلايلي قائلًا: «ومن وجه آخر، ثبت لمفكري المسلمين عامة في ذلك الحين، أن يزيد بالنظر إلى خُلقه الخاص وتربيته ذات اللون المتميّز، سيكون أداة هدّامة في بناء الحكومة والدين معًا، وعدُّوا ولايته منكرًا كبيرًا، ولا يصحّ للمسلم السكوت معه أبدًا، ومن واجبه الجهر بالإنكار، إذن فحركة الحسين –عليه السلام- لم تكن في حقيقتها ترشيحًا لنفسه، بل للإنكار على ولاية يزيد أولًا وبالذات»[14].

وجدّد العلايلي نقده في كتابه تاريخ الحسين، متوجهًا إلى أولئك الذين خالفوا حركة الحسين، مظهرًا تعجُّبًا لهذا الأمر، وحسب قوله: «وإن كان ليتداركني العجب من شيء، فمن أولئك المؤرخين الذين يأخذون الحسين –عليه السلام- بحركته ضد يزيد، فقد نعتوها بأنها مهدّمة مفرّقة... ويغفلون عن التعليق على حركة معاوية ضد إمام الحق علي –عليه السلام- وكانت جيشًا كثيفًا، عدا عن أنه لا يختلف اثنان في أن عليًّا كان ولي الأمر ورجل الجدارة والاستحقاق»[15].

وأما يزيد فهو في نظر العلايلي «ليس إمامًا يُعتبر الخارج عليه باغيًا، أضف إلى هذا صفاته الشخصية التي تقدح في إمامته باتّفاق، ولا تصحّح انتخابه، مراعى في ذلك الزمان والمكان والعرف. فالحسين لم يخرج على إمام، وإنما خرج على عادٍ فرض نفسه فرضًا، أو فرضه أبوه بدون ارعواء... فخروج الحسين كان واجبًا دينيًّا واجتماعيًّا»[16].

ثانيًا: الشيخ محمد الغزالي (1335-1416هـ/ 1917-1996م)

عندما نشر صاحب المطبعة السلفية في القاهرة محب الدين الخطيب كتاب ابن العربي (العواصم من القواصم) في مطلع خمسينات القرن العشرين، مضمّنًا له تحقيقاته وتعليقاته، اعترض الشيخ الغزالي وبشدّة على نشر هذا الكتاب، وشنَّ عليه هجومًا عنيفًا، ربما هو الأشد من نوعه في وقته وما بعد وقته، وجاء هذا الرفض والاعتراض في مقالة نشرها الشيخ الغزالي بعنوان (الأمة والفساد الملكي)، ضمّها لاحقًا في كتابه (في موكب الدعوة).

في هذه المقالة حذّر الشيخ الغزالي من كتاب ابن العربي وسخّفه واستنكره، متفاجئًا به وبنشره آنذاك، وكان الأفضل -في نظره- أن يكون مطمورًا حتى لا يُساء للإسلام بنشره في أيام تُوضع فيها الشرائع لقمع الحكام وإلزامهم حدود الأدب.

وحسب كلام الشيخ الغزالي: «فقد فوجئت بكتاب للقاضي أبي بكر بن العربي يُجدَّد في هذه الأيام نشره، وأحرُّ ما فيه دفاع عن يزيد بن معاوية، وعن تقاليد الحكم الملكي المطلق. وإليك عبارات مما حوى الكتاب: «إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألَّا يخص بها أحد قرابته، فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة، فانعقدت له البيعة شرعًا لأنها تنعقد بواحد وقيل: باثنين»، هذا الكلام الذي يقوله ابن العربي فارغ لا وزن له في الإسلام، فالعدول عن الشورى ليس عدولًا عن الأفضل بل عدولًا عن الواجب، وما يطلب الساسة المستبدون أكثر ممّا قاله ابن العربي، ويكرّر في هذا الزمان الأسود»[17].

ويضيف الشيخ الغزالي قائلًا: «ومن غرائب ابن العربي هذا، تعليقه على مقتل حجر بن عدى بقوله: «فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلَّا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله، قلنا: الأصل أن قتل الإمام يكون بالحق، فمن ادَّعى أنه بالظلم فعليه الدليل!!» أي الأصل في تصرّف الحكام الصحّة ولو كان سفك الدم، والخطأ يعرض لهم من بعيد، وهذا قول منكر، فالأصل في الدماء أن تُصان وما تُستباح إلَّا بالدليل القاطع، وكان ينبغي أن يظل كلام ابن عربي مطمورًا فما يساء إلى الإسلام بنشره في أيام تُوضع فيها الشرائع لقمع الحكام وإلزامهم حدود الأدب، ولكن الإسلام المتعب من كيد أعدائه، يقوم فريق من بنيه بنشر هذه السخافات دعاية له»[18].

وكما فوجئ الشيخ الغزالي في أيامه بنشر كتاب ابن العربي، فوجئ كذلك الخطيب بمقالة الشيخ الغزالي، وكانت لها وقع الصدمة المؤلمة عليه، وتمنّى لو أن النقد كان موجّهًا له ولتعليقاته لكان أهون عليه، ولكان وقعه في صدره أرحب وأوسع، داعيًا الشيخ الغزالي أن يستوفي قراءة كتاب العواصم كلّه ولن يندم على ذلك حسب قوله، واصفًا ابن العربي بإمام فقهاء أهل الأندلس والمغرب في عصرهما الذهبي.

هذا ما ذكره الخطيب في مقالة له جاءت ردًّا على مقالة الشيخ الغزالي، نشرت بعنوان (هل الحكم الشرعي كلام فارغ؟)، وأعاد الشيخ الغزالي نشرها في كتابه (في موكب الدعوة) ووضعها بعد مقالته مباشرة.

وقد أعاد الخطيب في هذه المقالة تأكيد ما قرّره ابن العربي بوصفه حكمًا شرعيًّا، قرّره الذين سبقوه أو عاصروه أو جاؤوا بعده من الأئمة وليس رأيًا له ولا اجتهادًا، معترضًا وصفه بأنه كلام فارغ كما جاء على لسان الشيخ الغزالي، مطالبًا بالتأنّي والتفكّر، ونصّ كلامه: «كان ينبغي لنا أن نتأنَّى كثيرًا، وأن نفكّر طويلًا، وأن نبحث وندرس، قبل أن نصف قوله بأنه كلام فارغ، فكيف به وهو يقرّر لنا حكمًا شرعيًّا من أحكام الفقه الإسلامي استمدَّه المجتهدون من الينابيع التي استمدُّوا منها سائر فروع الفقه وأحكامه، وهو يقول لنا صراحة ونصًّا: «فانعقدت له البيعة شرعًا لأنها تنعقد بواحد، وقيل: باثنين». إن هذا الذي يقرّره هذا الإمام من أئمة المسلمين هو الحكم الشرعي، قرّره الذين سبقوه، أو عاصروه أو جاؤوا بعده من الأئمة، وليس رأيًا له ولا اجتهادًا»[19].

وعلى أثر هذا الردّ، عقّب الشيخ الغزالي بردٍّ آخر حمل عنوان (هل هو حكم شرعي؟) ضمّنه الكتاب نفسه، دعا فيه إلى إصلاح حاضرنا المعوجّ من غير نظر إلى ذلك الماضي البعيد، متحدّثًا عن المبادئ التي نستهديها في إقامة الحكم الإسلامي المنشود، وأتبعه بمقالة أخرى جاءت بعنوان (الشورى ركيزة الحكم الصالح)، تمسّك فيه بموقفه، معتبرًا أن الشورى ركيزة الحكم الصالح في أيِّ عهد، وفي كل بلد، لافتًا إلى أن هذا المعنى قد تقرّر في أذهان الناس من فجر الخليقة إلى عصرنا هذا.

ثالثًا: الشيخ نعمت الله صالحي نجف آبادي (1925-2007م)

خصص رجل الدين الإيراني الشيخ نجف آبادي فقرة في كتابه (الشهيد الخالد) الصادر باللغة الفارسية في إيران سنة 1968م، تناول فيها التعليق على فريق من كتّاب أهل السنة الذين كانت لهم وجهات نظر مغايرة لحركة الإمام الحسين وثورته، وذكر من هؤلاء: القاضي ابن العربي وابن خلدون والمصريان الشيخ محمد الطنطاوي وعبدالوهاب النجار والسوري محب الدين الخطيب.

وتحدّدت مناقشة الشيخ آبادي لآراء هؤلاء الكتّاب الخمسة في اتجاهين، اتجاه عام تعلّق بآراء أولئك الكتّاب المذكورين على وجه العموم، واتجاه خاص تعلّق تحديدًا برأي محب الدين الخطيب.

في الاتجاه العام رأى الشيخ آبادي أن هناك نقطتي ضعف في آراء أولئك الكتاب هما:

أولًا: لم يلحظ هؤلاء الكتاب ذلك الهجوم المتواصل من قبل حكومة يزيد على الإمام الحسين، وهم الذين بدؤوا الهجوم عليه وراموا قتله، لذا لم يستطع هؤلاء الكتّاب إدراك ماهية ثورته، ووقعوا في ذلك الاشتباه، أو أنهم لم يريدوا الاعتراف بأن المسبّب الأصلي لحادثة كربلاء الدموية هي حكومة يزيد الظالمة وليس الحسين –عليه السلام-.

ثانيًا: أن هؤلاء الكتّاب حصروا نظرتهم فيما أعقب وقوع حادثة كربلاء، إذ رأوا الهزيمة الظاهرية للإمام الحسين، وتصوّروا أن علّة عدم تحقيق الإمام لانتصار عسكري هو أنه لم يكن يمتلك القوة العسكرية الكافية، وليس الأمر كما ظن هؤلاء.

وفي الاتجاه الخاص، تساءل الشيخ آبادي: ما مقصود الخطيب من قوله: «إن حركة الحسين بن علي كانت مشؤومة عليه وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة»؟.

وعقّب آبادي على ذلك بالقول: هل يريد الخطيب أن يقول: «إن أصل حركة الإمام الحسين –عليه السلام- الإصلاحية ونهوضه كان مضرًّا وخسارة! فينبغي أن نقول له: إذن على كلامك كانت حركة رسول الله -صلى الله عليه وآله- إلى معركة أحد، وحركة أمير المؤمنين –عليه السلام- إلى معركة صفين ضررًا وشؤمًا على الإسلام والمسلمين! إذ قتل في معركة أحد أكثر من سبعين صحابيًّا أحدهم سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، وقتل في معركة صفين أكثر من سبعين ألف مسلم أحدهم عمار بن ياسر، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن نهوض ابن رسول الله –عليه السلام- وثورته لأجل إحياء سنة رسول الله وإماتة البدعة ضرر وشؤم على الإسلام؟»[20].

وتتمّةً للنقاش والمحاججة يضيف الشيخ آبادي قائلًا: أما إذا «أراد الخطيب أن يقول: إن واقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين –عليه السلام- وأصحابه كانا شؤمًا وخسارةً للإسلام، فهنا ينبغي أن نقول: لم يكن الإمام الحسين هو الذي أوجد فاجعة كربلاء، بل لقد بذل الإمام جهودًا كبيرة للحيلولة دون وقوع الحرب وإراقة الدماء، ولكن جلاوزة حكومة يزيد الساعون إلى الحرب هم الذين أوجدوا تلك الفاجعة الدموية التي كانت ضربة وجّهتها حكومة يزيد إلى الإسلام، وليس الحسين بن علي»[21].

رابعًا: الشيخ يوسف القرضاوي

أفرد الشيخ القرضاوي في كتابه (تاريخنا المفترى عليه) فقرة خاصة، وجّه فيها نقدًا لا يخلو من شدّة وقسوة لصديقه الدكتور عبدالحليم عويس، واصفًا له تارة بالغلو في دفاعه عن بني أمية، وتارة بمخالفة إجماع الأمة، وثالثًا التمسّك بأمر استنكره المسلمون سلفًا وخلفًا، ورابعًا قال عنه: إنه في غمرة الحماس والاندفاع فقد الموضوعية والحياد.

عن الأمر الأول ووصف عويس بالغلو، قال الشيخ القرضاوي: «وقد دافع صديقنا الدكتور عبدالحليم عويس عن بني أمية دفاعًا حارًّا في كتابه (بنو أمية بين السقوط والانتحار)، وذكر في ذلك أشياء جيدة، واعتبارات حسنة، ولكنه غلا في دفاعه غلوًّا غير مقبول، حين نصب نفسه محاميًا عن تاريخ بني أمية كلّه بأخطائه وخطاياه»[22].

وبشأن الأمر الثاني ومخالفة عويس إجماع الأمة، قال القرضاوي: «كما خالف إجماع الأمة فعدَّ معاوية أقدر في الإدارة السياسية من أمثال: علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، من كبار الصحابة الذين تُوفِّي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، والذين رشّحهم عمر للخلافة من بعده، فضلًا عن الحسن والحسين وعبدالله بن عمر»[23].

وهذه -في نظر القرضاوي- مجازفة لا يجرؤ عليها مؤرّخ، ولم يقل ذلك أحد من سلف الأمة وخلفها فيما يعلم.

وبشأن الأمر الثالث وتمسُّك عويس بأمر استنكره المسلمون سلفًا وخلفًا، قال القرضاوي: «حتى القضية التي لم يختلف في شأنها المسلمون وعدُّوها من المآخذ على معاوية، وهي ولاية العهد، وأخذ البيعة لابنه يزيد، وما زال في المسلمين عدد من الصحابة الأَكْفَاء، وبهذا حوَّل الخلافة إلى ملك يُتوارث، فسنَّ هذه السنة السيئة في المسلمين، وانتهت الخلافة الراشدة، فأصبحت كسروية أو قيصرية... ومع وضوح هذا الأمر، نجد أخانا الدكتور عويسًا يتولَّى منصب محامي الدفاع عن هذا الأمر، الذي استنكره المسلمون سلفًا وخلفًا»[24].

وبشأن الأمر الرابع وفقدان عويس الموضوعية والحياد، فبعد أن نقل القرضاوي كلام عويس في اعتبار يزيد من الطبقة الأولى من التابعين، وناقلًا كلامًا لابن عباس في مدحه، عقّب القرضاوي على ذلك قائلًا: «ولا أعرف أحد من السلف أو الخلف ذكر يزيد في علماء الناس، ولا أعرف سند هذه الرواية عن ابن عباس، وما أظنّها تصحّ عنه في يزيد... وكم كنت أحب أن يكون أخونا د. عويس في هذه الموضوعات التاريخية الشائكة، قاضيًا محايدًا، بدل أن يجعل من نفسه محاميًا متحمّسًا للدفاع عن موكّله حيال خصومه، وفي غمرة الحماس والاندفاع يفقد الموضوعية والحياد»[25].

خامسًا: الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي

خصّص الباحث الموريتاني الدكتور الشنقيطي في كتابه (الخلافات السياسية بين الصحابة) قسمًا مهمًّا لتوجيه نقدٍ واسعٍ لابن العربي، تحدّد في اتجاهين: الأول تركّز على المآخذ المنهجية العامة التي تشكّلت حول كتابات ابن العربي ومؤلّفاته، الاتجاه الثاني تركّز حول كتاب العواصم والملاحظات النقدية المسجّلة عليه.

بشأن الاتجاه الأول، تتبّع الدكتور الشنقيطي ما سمّاه المساوئ المنهجية التي انتبه لها بعض المحقّقين من العلماء الأقدمين حول كتابات ابن العربي، من هذه المساوئ المنهجية تركيزًا واختصارًا[26]:

1- السطوة والشدّة، نقل السيوطي في معرض حديثه عن حياة القاضي ابن العربي، أنه ولي قضاء إشبيلية فكان ذا سطوة وشدّة.

2- التحامل على المخالفين وغمطهم حقّهم والوقوع فيهم دون إنصاف، من الشواهد الدالة على ذلك حديث ابن العربي عن ابن حزم، إذ قال عنه: «سخيف كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم... زعم أنه إمام الأمة يرفع ويضع، ويحكم ويشرع، وينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا تنفيرًا للقلوب عنهم».

3- ردّ الأحاديث الصحيحة والوقائع الثابتة إذا خالفت رأيه الفقهي أو رؤيته السياسية، ذاكرًا العديد من الشواهد الوقائع.

4- التكلُّف والتعسُّف في إثبات الرأي الموافق ونفي الرأي المخالف، استنادًا إلى أقوال منها قول: المباركفوري حول حديث «الخال وارث من لا وارث له»، قال: «وقد تعسَّف القاضي أبو بكر بن العربي في الجواب على هذا الحديث فقال: المراد بالخال السلطان».

5- الإطلاق في نفي الأدلة التي لم تصل إلى يده أو لم تستحضرها ذاكرته، ومن أمثلة ذلك قول ابن حجر: «ومن المستغرب قول ابن العربي: لم يرد في الثوب الأصفر حديث، وقد وردت فيه عدة أحاديث».

6- التهويل والمبالغة، وأمثلة ذلك قول ابن حجر: «فجرى –ابن العربي- على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف».

7- نقل الإجماع في الأمور الخلافية، ومن أمثلة ذلك قول ابن حجر: «وأغرب ابن العربي فنقل الإجماع على أنها –الجمعة- لا تجب حتى تزول الشمس... وقد نقله ابن قدامة عن جماعة من السلف».

8- حدَّة الطبع، ففي كتابيه أحكام القرآن والعواصم ما يعضد هذا الانطباع.

وبشأن الاتجاه الثاني، والملاحظات المتعلّقة بكتاب العواصم، فقد حدّدها الدكتور الشنقيطي في ثلاثة أصناف هي: أحكام على النصوص، وأحكام على الوقائع، وأحكام على الرجال، مستندًا في كل صنف إلى شواهد عدة[27].

عن الأحكام على النصوص، أورد الشنقيطي خمسة أمثلة دالة ومفصلة، سنكتفي بالإشارة لمثال واحد، تعلّق هذا المثال بعلاقة مروان بن الحكم بقتل طلحة في معركة صفين وكان في جيشه، فقد انكر ابن العربي ضلوع مروان بهذا الفعل قائلًا: «ومن يعلم هذا إلَّا علام الغيوب؟ ولم ينقله ثَبْت»، أما الشنقيطي فيرى أن الأثبات نقلوا هذا الخبر وصحّحوه، مستندًا إلى أقول عدّة، منها قول ابن حجر: «روى ابن عساكر من طرق متعدّدة أن مروان بن الحكم هو الذي رماه فقتله منها، وأخرجه أبو القاسم البغوي بسند صحيح عن الجارود بن أبي سبرة».

وعن الأحكام على الوقائع، فقد أورد الشنقيطي مثالين مفصلين ناقش فيهما محب الدين الخطيب صاحب الحواشي والتعليقات على كتاب العواصم.

وعن الأحكام على الرجال، استند الشنقيطي إلى مثالين خطَّأ فيهما ابن العربي، الأول تعلّق بمروان بن الحكم فقد عدَّه ابن العربي رجلًا عدلًا من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، وتعلّق الثاني بيزيد بن معاوية الذي دافع عنه ابن العربي، وعدَّة من جملة الزهَّاد استنادًا إلى قول أحمد بن حنبل حين أدخل يزيد بن معاوية في كتاب الزهد، وقد وجد الشنقيطي في هذا الكلام حول يزيد أخطاء ثلاثة هي:

الخطأ الأول: أن ابن العربي قد اختلط عليه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان مع يزيد بن معاوية النخعي العابد الزاهد، وهو الذي قصده ابن حنبل في كلامه.

الخطأ الثاني: نسب ابن العربي إلى الإمام أحمد بن حنبل رأيًا في يزيد هو أبعد ما يكون عن الدِّقَّة، والذي لا ريب فيه عنده أن الإمام أحمد لا يعتبر يزيد في جملة الزهَّاد من الصحابة والتابعين.

الخطأ الثالث: قول ابن العربي: ما أدخله إلَّا في جملة الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين، بما يدل على عدم تدقيق في مجالي التاريخ وعلم الرجال.

وقد اكتفى الشنقيطي بهذا القدر من الملاحظات، مع أنه يرى في كتاب ابن العربي أخطاء ومجازفات أخرى لا يستطيع الاستطراد أكثر في مناقشتها.

- 4 -
المواقف النقدية.. ملاحظات ونقد

إلى جانب تلك الآراء النقدية المذكورة، يمكن تسجيل الملاحظات والتحليلات النقدية الآتية:

أولًا: ظهر على أولئك المنتقدين (ابن العربي والخطيب والخضري وعويس) ومن سلك دربهم قديمًا وحديثًا الميل الواضح إلى النزعة الأموية التي سيطرت على قلوبهم، وتجلّت في كتاباتهم، فكانوا أمويي الهوى، ظاهرين بهذه النزعة الأموية، ومكاشفين بها بلا تخفٍّ ولا مواربة.

ومن تعرّف إلى هؤلاء الأشخاص، ونظر في كتاباتهم بسهولة يتوصّل إلى مثل هذا الانطباع البيِّن، فالشيخ القرضاوي رأى أن ابن العربي قد بالغ في الدفاع عن بني أمية، وقال عن عويس: إنه دافع عن بني أمية دفاعًا حارًّا وغلا في دفاعه غلوًّا غير مقبول، ونصب نفسه محاميًا عن تاريخ بني أمية كلّه بأخطائه وخطاياه، علمًا أن القرضاوي لا يُخفي نزعته الأموية، وقال عن نفسه صراحة: أنه ممَّن يدافعون عن بني أمية، واصفًا دولتهم دولة الفتوحات والتأسيس الحضاري[28].

وأما الخطيب فقد عدَّه الباحث الألماني في الدراسات الإسلامية الدكتور راينر برانر أنه من أهم المدافعين عن الأمويين ولا سيما معاوية وابنه يزيد[29]، ولم يكن الخضري بعيدًا عن هذا المنحى.

وتناغمًا مع هذه النزعة الأموية وانتسابًا لها، جاءت تلك الآراء المعارضة لحركة الإمام الحسين ونهضته، فقد جاءت من أشخاص وجدوا أنفسهم إلى صفّ الأمويين، فلم يكن غريبًا أو مستغربًا عليهم صدور مثل تلك الآراء والأقوال التي نعدّها أنها شاركت في قتل الحسين، وقتلت الحسين من جديد.

إذا كان جيش يزيد قتل الحسين بالسيف، فإن هؤلاء الأشخاص قتلوا الحسين بالقلم، والقتل بالقلم أفدح وأخطر من القتل بالسيف؛ لأن القلم يُصوِّب القتل بالسيف ويُشرعن له، ولأن القتل بالسيف يحصل مرة واحدة أما القتل بالقلم فيحصل مرات لا عدَّ لها ولا حصر، ولأن القتل بالسيف مكانه الجسد أما القتل بالقلم فمكانه القلب والعقل والوجدان والذاكرة، ولأن القتل بالسيف يحدث في زمن محصور أما القتل بالقلم فلا ينحصر بزمن ويحدث في كل الأزمان.

ثانيًا: ما أثار الدهشة في آراء أولئك الأشخاص المعنيين هو تنقيتهم لصفحة يزيد بن معاوية ودفاعهم عنه، بل وحماستهم في الدفاع عنه شخصًا وحكمًا وعهدًا، في مقابل من يا ترى! في مقابل الحسين بن علي سبط رسول الله والذي لم يكن في عصره سبط لنبي على وجه الأرض سواه، وقد أحبَّه النبي حبًّا شاع بين الصحابة، مفصحًا عنه في أحاديثه وأقواله المروية عند الفريقين، منها ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»[30].

وروي عن عطاء أن رجلًا أخبره أنه رأى النبي –صلى الله عليه وآله- يضمّ إليه حسنًا وحسينًا يقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»[31].

وتواترت عند المسلمين كذلك أحاديث النبي المروية عنه حول الحسن والحسين وأنهما سيدا شباب أهل الجنة، منها ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وآله-: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»[32]، وروي عن ابن عمر قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وآله-: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما»[33].

تكشف هذه المفارقة عن انقلاب الموازين عند أولئك الأشخاص الذين انحازوا لصف يزيد بن معاوية، ووقفوا إلى جانبه داعمين ومساندين ومادحين، في مقابل الحسين بن علي الذي قتل هو ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه بطريقة لا توصف ولا تصدق في وحشيتها وفضاعتها.

الحادثة التي أدمت القلوب، وأبكت العيون، وأحزنت النفوس، وعلى إثرها -كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة- «أصبح كل مؤمن يحسّ بأن قلبه قد جرح جرحًا بليغًا بتلك الفعلة الفاجرة... ولقد استمرَّ مقتل الحسين إلى اليوم تاركًا ندوبًا في قلب كل مؤمن»[34].

والدهشة من آراء أولئك الأشخاص ظهرت جلية عند الذين تعرّفوا إليها، فالشيخ الغزالي الذي فوجئ بصدور كتاب ابن العربي رأى أن أحرَّ ما فيه دفاع عن يزيد بن معاوية، وعن تقاليد الحكم الملكي المطلق[35]، ورأى الشيخ القرضاوي أن عويسًا ظهر وكأن كل همِّه أن يُثبت شرعية يزيد بن معاوية ويُدين الحسين بن علي، ناظرًا إلى أن عويسًا في هذا الأمر قد أخسر الميزان[36].

ولا تقلُّ آراء الشيخ الخضري دهشة وحسرة لمن يطّلع عليها، فليس من العدل عنده أن يتحمّل يزيد تبعات ما سمّاه الفتن الداخلية الثلاث الكبرى التي حصلت في عهده تباعًا في المدن الثلاث وهي: كربلاء والمدينة ومكة، كما ليس من المعقول في نظره أن يترك يزيد أصحاب تلك الفتن، ومن ثم فهو مجبور على فعل ما فعل[37]، ما اثقل هذا القول على النفس، ولا شك أنه في هذا الأمر قد أخسر الميزان.

ثالثًا: كشف هؤلاء الأشخاص عن ضعف في ناحية التحقيق التاريخي تعلّق تحديدًا بشخص يزيد بن معاوية، الذي ظهر عند هؤلاء بصورة تغاير تمامًا الصورة الحقيقية التي تطابقت عليها آراء المؤرّخين والمحدّثين والكلاميين والأدباء، وشاعت في مؤلفاتهم ومصنّفاتهم وتواترت على اختلاف أزمنتها وأمكنتها وميادينها.

وهذا ما أثار الدهشة كذلك في آراء هؤلاء الأشخاص الذين قلبوا صورة يزيد، وظهر في مؤلّفاتهم بصورة الإنسان الصالح، والحاكم الشرعي العادل، فهو عند ابن العربي من شهد العدل بعدالته، وعدَّه في جملة الزهَّاد من الصحابة والتابعين، وبلسان الواثق قال عنه: «بل شهد العدل بعدالته فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال الليث: تُوفِّي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا، فسمَّاه الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلَّا تُوفَّي يزيد»[38].

وتأكيدًا لهذه الصورة وتدعيمًا لها، وعلى طريقته في اتّباع ما يقوله ابن العربي، ذكر الخطيب أوصافًا غريبة ليزيد، معتبرًا أنه تولَّى المركز الذي أراده الله له، وحسب قوله: «إن معاوية مع شديد حبّه ليزيد، لألمعيته واكتمال مواهبه، آثر أن ينشأ بعيدًا عنه في أحضان الفطرة، وخشونة البداوة وشهامتها، ليستكمل الصفات اللائقة بالمهمّة التي تنتظر أمثاله، فبعث به إلى أخبية البادية عند أخواله من قضاعة...

وفي ذلك الوسط أمضى يزيد زمن صباه وصدر شبابه، وما لبث أن انتقل أبوه إلى رحمة الله حتى تولَّى المركز الذي أراده الله له»[39].

وهكذا هي الصورة اللامعة عند عويس الذي تكرّرت معه الدهشة والغرابة حين قال: «فلم يكن يزيد كما وصفوه، بل هو من الطبقة الأولى من التابعين، وعنه قال عبدالله بن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، وقد علّمه أبوه العدل والإنصاف والتواضع»[40].

أما الخضري فيكفي أنه عدَّ يزيد خليفة واعترف بشرعية خلافته، وكان من حقّه -في نظره- فعل ما فعل، فهو حسب قوله: «خليفة بايعه معظم المسلمين، وخالف عليه قليل منهم»[41].

لكن هذه الصورة المحسَّنة لم تستطع أن تُغطّي على الصورة الفعلية المقبَّحة ليزيد، وقد تعرّضت آراء هؤلاء الأشخاص إلى النقد والتخطئة، فيزيد الذي عدَّه ابن العربي من جملة الزهَّاد استنادًا إلى كلام أحمد بن حنبل ظهر أن المقصود هو يزيد بن معاوية النخعي الكوفي الزاهد العابد وليس يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كما ظنَّ خطأً ابن العربي.

ويزيد الذي عدَّه عويس من الطبقة الأولى من التابعين مزكّيًا له بقول نقله عن ابن عباس، ردّ عليه القرضاوي قائلًا: «ولا أعرف أحدًا من السلف أو الخلف ذكر يزيد في علماء الناس، ولا أعرف سند هذه الرواية عن ابن عباس، وما أظنّها تصحّ عنه في يزيد»[42].

وكذلك يزيد الذي عدَّه الخضري خليفة على المسلمين ودافع عن أفعاله، رأى فيه الشيخ العلايلي رأيًا مغايرًا فهو -في نظره- «ليس إمامًا يُعتبر الخارج عليه باغيًا، أضف إلى هذا صفاته الشخصية التي تقدح في إمامته باتّفاق، ولا تصحّح انتخابه... فالحسين لم يخرج على إمام، وإنما خرج على عادٍ فرض نفسه فرضًا أو فرضه أبوه بدون ارعواء»[43].

هذه بعض الآراء والإثباتات الدامغة والثابتة، وهناك الشيء الكثير من الآراء التي تعارض بشدّة وتناقض ما ذهب إليه أولئك الأشخاص الذين كشفوا -لا أقل في هذا المورد المتعلق بشخص يزيد بن معاوية- عن ضعف في التحقيق التاريخي.

رابعًا: ذكرنا من قبل أن الشيخ محمد الغزالي كان له موقف صارم وغاضب بشدّة تجاه كتاب ابن العربي، وسارع في الردّ عليه ولم يتباطأ أو يتأخّر، واستنكره وحذّر منه، وفضّل أن يكون مطمورًا حتى لا يُساء للإسلام بسببه، هذا الموقف الصارم والمبكّر من عالم مثل الشيخ الغزالي كان يفترض أن يقلب صورة الكتاب، ويبدّل منزلته، ويضم إلى قائمة المؤلّفات المجروحة والمطمورة.

لكن ما حصل هو خلاف ذلك تمامًا، فالرأي الذي كان ينبغي أن يكون حاضرًا ومؤثّرًا بات بحكم الغائب والمطمور ونعني به رأي الشيخ الغزالي، والرأي الذي كان ينبغي أن يكون غائبًا ومطمورًا بات بحكم الحاضر والمؤثّر ونعني به رأي ابن العربي.

ومثل هذه المفارقة تظهر وتتأكّد حين نرى أن رأي الشيخ الغزالي بات لا يُكاد يعلم به أحد إلَّا ما ندر، ويكفي كتاب الشنقيطي مثالًا، فقد تتبّع في كتابه (الخلافات السياسية بين الصحابة)، ما قيل حول ابن العربي من ملاحظات ومؤاخذات صدرت من مؤرّخين ومحدّثين وكلاميين قدماء ومعاصرين، لكنه لم يأتِ على ذكر ما قاله الشيخ الغزالي، ولو علم به لوجد فيه نصيرًا قويًّا لموقفه الناقد لابن العربي.

بخلاف الحال مع كتاب ابن العربي الذي نال شهرةً وحضورًا، وهذا ما تأكّد للدكتور الشنقيطي في كتابه المذكور، إذ رأى أن كتاب ابن العربي قد توالت طبعاته، وتوالت عليه التحقيقات، واشتهر وانتشر بين طلبة العلم، وعمَّ معه أسلوب كاتبه بين كثير من الشباب وطلبة العلم.

وتأكيدًا لهذا الانطباع، يمكن الإشارة إلى شاهدين لهما دلالتهما وأهميتهما في هذا الشأن، الشاهد الأول مثّله الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (تاريخنا المفترى عليه)، والشاهد الثاني مثّله الدكتور عماد الدين خليل في كتابه (حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي) الصادر سنة 2005م.

بشأن الشاهد الأول، فقد حضر ابن العربي في كتاب الشيخ القرضاوي بصورة تلفت الانتباه إليه، وظلّ يمتدحه في كل المرّات التي جاء فيها على ذكره تقريبًا، مدافعًا عنه، ومبجّلًا له، رافعًا من شأنه، مقدّمًا صورة نموذجية تكشف عن قربه منه، وتناغمه معه، ولا يبعد تأثّره به.

ويكفي دلالة على ذلك وصفه المتكرّر بصفة الإمام، فهو بالنسبة إليه: القاضي الإمام أبو بكر بن العربي رأس المالكية في عصره، وصاحب المصنّفات التي ذاعت ولقيت القبول، وقال عنه أيضًا هو: فقيه كبير، وإمام جليل، قام بالدفاع عن الصحابة، قدّم تحقيقًا علميًّا موضوعيًّا، واصفًا كتابه العواصم بالكتاب القيم، وإن كان في نظره قد بالغ أحيانًا في بعض ما ذهب إليه، ورأى أن الشيخ الغزالي قد ردّ على ابن العربي بمنطق قوي ورصين[44].

وبشأن الشاهد الثاني فالصورة أكثر وضوحًا، فقد حضر ابن العربي بقوّة وبصورة نموذجية في كتاب الدكتور عماد الدين خليل الموسوم بعنوان (حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي)، حضر وتواتر اسمًا ونصًّا ومثالًا، ويصلح هذا الكتاب أن يكون نموذجًا لدراسة وتحليل مدى حضور ابن العربي في الكتابات العربية المعاصرة.

ومن أوضح النصوص دلالة على هذا الأمر، النص الذي امتدح فيه الدكتور خليل ابن العربي قائلًا: «وقد سعى ابن العربي في كتابه العواصم، إلى اعتماد منهج نقدي صارم في دراسة إحدى الفترات الخطيرة في التاريخ الإسلامي، عصر الراشدين ومطلع العصر الأموي، فنخل حشود الروايات التاريخية المتراكمة عن الفترة المذكورة، واختبرها اختبارًا دقيقًا، وضرب بعضها ببعض، وأحال معطياتها على مصادر معرفية أخرى، وبخاصة القرآن والحديث، ورفض أن يستسلم لتيارها الصاخب لكي ما يلبث أن يقدّم صورة عن العصر قلَّ ما نجدها في مصدر تاريخي آخر»[45].

ليس هذا فحسب فقد أقدم خليل على خطوة لا تخلو من غرابة، ولم يسبقه إليها أحد قديمًا وحديثًا على ما أظن، حين ساوى بين كتاب العواصم لابن العربي وكتاب المقدمة لابن خلدون من ناحية الالتزام بتنفيذ قيم المنهج النقدي في البحث التاريخي، على ما بين الكتابين من مفارقات تباعد بينهما ولا تساوي، ونصّ كلامه «في كتابي العواصم من القواصم للقاضي الأندلسي أبي بكر بن العربي، والمقدمة لعبدالرحمن بن خلدون، نلتقي بمحاولات جادّة لتقديم بعض اللمحات عن المنهج التاريخي، ولقد جاء العملان القيّمان في كثير من صفحاتهما بمثابة محاولة اختبارية لتنفيذ قيم المنهج النقدي في البحث التاريخي، ذلك الذي يرفض الصيغة الاستسلامية في التعامل مع حشود الروايات التاريخية»[46].

ومن ناحية النص، فقد حضر ابن العربي وكتابه العواصم حضورًا طاغيًا في كتاب الدكتور خليل، وبنصوص طويلة تقدّر بالصفحات وليس بالأسطر، لأنه وجد فيه نموذجًا للمنهج النقدي في البحث التاريخي.

هذه بعض الشواهد الدالّة على أن كتاب العواصم لابن العربي قد قويت شوكته، وامتدَّ أثره، واتَّسع حضوره، بدل أن ينكمش ويتراجع بتأثير الموقف النقدي الصارم والمبكّر للشيخ الغزالي، وهذه من المفارقات!

خامسًا: من ينظر لطريقة تعامل الشيخ الخضري مع الإمام الحسين –عليه السلام- يجد غرابة واستغرابًا لا يُحتمل ولا يُطاق، لا أقلَّ هذا ما وجدته بنفسي، فقد تعامل معه كما يتعامل مع أي إنسان آخر، لا صفة له ولا اعتبار، مبتعدًا منه، ومخطّئًا له، مقتربًا من يزيد الخليفة في نظره، مخفّفًا عليه وزر أفعاله، وكان باردًا بطريقة لم يظهر منه أيّة عاطفة تجاه الحسين ومقتله، ناظرًا للحادثة بوصفها حادثة مقتل لا غير!

خصّص الخضري المحاضرة الرابعة والثلاثين للحديث عن عهد يزيد بن معاوية، معرّفًا به، ومتطرّقًا للحوادث التي حصلت في عهده إلى وفاته، مبتدئًا من حادثة الحسين ومقتله.

وقد تتبّعت في هذه المحاضرة عدد المرّات التي تكرّر فيها اسم الحسين، فوجدت أنها وصلت إلى اثنين وثلاثين مرة، وفي جميع هذه المرّات لم يترحّم عليه أبدًا، ولم يسلّم عليه أو يترضّى عنه، وظلَّ يكرّر الاسم مجردًا عن أية صفة، لا صفة الإمام ولا صفة الشهيد، ولا صفة السبط، فتارة يذكره باسم الحسين، وتارة باسم الحسين بن علي.

والعاطفة التي عبّر عنها الكثيرون قديمًا وحديثًا مسلمين وغير مسلمين، وكانت في الغالب ملتهبة ودافئة وسيّالة يصعب إخفاؤها أو التستُّر عليها، هذه العاطفة غابت كليًّا عن الخضري في حديثه عن الحسين ومقتله، فكان باردًا من جهة، ومتعاليًا من جهة أخرى، ومتحيّزًا ليزيد من جهة ثالثة، ونقول عنه كما قال القرضاوي عن عويس: إنه أخسر الميزان في هذا الأمر، فيا أسفا!

طوبى لمن ناصر الحسين، وبقي نصيرًا للحسين ولقيمه ومبادئه في العدل والحرية والكرامة، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

 



[1] أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم، حقّقه وعلّق حواشيه: محب الدين الخطيب، صيدا - بيروت: المكتبة العصرية، 2017م، ص233.

[2] أبو بكر بن العربي، المصدر نفسه، ص224.

[3] أبو بكر بن العربي، المصدر نفسه، ص229.

[4] أبو بكر بن العربي، المصدر نفسه، ص234.

[5] عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة، ضبط وشرح وتقديم: محمد الإسكندراني، بيروت: دار الكتاب العربي، 1998م، ص208.

[6] محمد الخضري، الدولة الأموية، صيدا - بيروت: المكتبة العصرية، 2017م، ص322.

[7] أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم، مصدر سابق، ص233.

[8] عبدالحليم عويس، بنو أمية بين السقوط والانتحار دراسة حول سقوط دولة بني أمية في المشرق، القاهرة: دار الصحوة، 1987م، ص46.

[9] عبدالحليم عويس، المصدر نفسه، ص23.

[10] عبدالحليم عويس، المصدر نفسه، ص69.

[11] عبدالحليم عويس، المصدر نفسه، ص24.

[12] عبدالله العلايلي، سمو المعنى في سمو الذات أو أشعة من حياة الحسين، القاهرة: مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، 1939م، ص122.

[13] عبدالله العلايلي، المصدر نفسه، ص70.

[14] عبدالله العلايلي، المصدر نفسه، ص71.

[15] عبدالله العلايلي، تاريخ الحسين نقد وتحليل، بيروت: دار الجديد، 1994م، ص217.

[16] عبدالله العلايلي، المصدر نفسه، ص239-242.

[17] محمد الغزالي، في موكب الدعوة، القاهرة: نهضة مصر للطباعة، 2005م، ص114.

[18] محمد الغزالي، المصدر نفسه، ص114.

[19] محمد الغزالي، المصدر نفسه، ص118.

[20] نعمت الله صالحي نجف آبادي، الشهيد الخالد الحسين بن علي، ترجمة: سعد رستم، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 194.

[21] نعمت الله صالحي نجف آبادي، المصدر نفسه، ص195.

[22] يوسف القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، القاهرة: دار الشروق، ص289.

[23] يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، 289.

[24] يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص291.

[25] يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص294.

[26] محمد المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة، جدة: مركز الراية المعرفية، 2007م، ص211.

[27] محمد المختار الشنقيطي، المصدر نفسه، ص223.

[28] يوسف القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، ص84-289.

[29] راينر برانر، التقريب بين المذاهب الإسلامية في القرن العشرين، ترجمة: بتول عاصي وفاطمة زراقط، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2015م، ص391.

[30] محمد فؤاد عبدالباقي، مناقب علي والحسنين وأمهما فاطمة الزهراء نصوص مستخرجة من أمهات كتب الحديث، القاهرة: دار الحديث، 2003م، ص166.

[31] محمد فؤاد عبدالباقي، المصدر نفسه، ص166.

[32] محمد فؤاد عبدالباقي، المصدر نفسه، ص165.

[33] محمد فؤاد عبدالباقي، المصدر نفسه، ص165.

[34] محمد أبو زهرة، الإمام الصادق حياته وعصره آراؤه وفقهه، القاهرة: دار الفكر العربي، من دون تاريخ، ص89.

[35] محمد الغزالي، في موكب الدعوة، مصدر سابق، ص114.

[36] يوسف القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، ص293.

[37] محمد الخضري، الدولة الأموية، ص324.

[38] أبو بكر بن العربي، العواصم من القواصم، ص230.

[39] أبو بكر بن العربي، المصدر نفسه، ص229.

[40] عبدالحليم عويس، بنو أمية بين السقوط والانتحار، ص24.

[41] محمد الخضري، الدولة الأموية، ص324.

[42] يوسف القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، ص294.

[43] عبدالله العلايلي، تاريخ الحسين نقد وتحليل، مصدر سابق، ص239.

[44] يوسف القرضاوي، تاريخنا المفترى عليه، ص98-235-294.

[45] عماد الدين خليل، حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، دمشق: دار ابن كثير، 2005م، ص31.

[46] عماد الدين خليل، المصدر نفسه، ص29.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة