تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الأبعاد التجديدية لمشروع انتاج المفاهيم وبنائها عند المفكر طه عبدالرحمن

سعدية بن دنيا

 

 

الأبعاد التجديدية لمشروع إنتاج المفاهيم وبنائها

عند المفكر  طه عبدالرحمن

الدكتورة سعدية بن دنيا*

 

* كاتبة وباحثة، جامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر، البريد الإلكتروني: bendeniasaadia@yahoo.fr

 

 

مقدمة

شيّد الدكتور طه عبد الرحمن مشروعه الفكري الفلسفي انطلاقًا من تصوره الواضح للحداثة، وتمثُّله الدقيق للمشاكل التي ما فتئت تطرحها مخلفاتها في الفضاء الفلسفي، فإبداعه يمتّ بصلة وثيقة لعديد المقاربات الفلسفية المعاصرة، مع أنه لا ينفك يتمايز عنها، ويقدم لها –من زاوية أخرى- مساءلة نقدية صارمة تطال مختلف الفروع والميادين المعرفية.

من أهم الأولويات التي يسعى المفكر طه عبد الرحمن إلى تحقيقها من خلال مشروعه الفكري الحضاري صناعة خطاب فلسفي متجدّد يؤصّل للحق العربي في التفلسف؛ ذلك أنه قدم جهودًا نظرية وعملية غاية في الدقة والأهمية، بحث من خلالها في أعماق التراث والمنظومة العقدية، كما طرق أبواب التاريخ والسياسة، فضلًا عن ضلوعه في المنطق وفقه اللغة.

بيد أن المشكل الذي ظل يؤرقه ويستأثر بنصيب كبير من اهتمامه هو التأسيس للحظة الاختلاف في الفكر الفلسفي المعاصر من خلال إقامة فلسفة عربية إسلامية مستقلة بذاتها. وهذا الرهان الفكري لا يتحقق في المنظور الطهائي إلا ببناء المفاهيم وبعث التجديد فيها، فما علاقة الإبداع الفلسفي بعملية بناء المفاهيم؟

الفلسفة الحية.. استراتيجية بناء المفاهيم

إن الهمّ الفكري الذي لطالما شغل المفكر طه عبد الرحمن وشكّل أحد أهم هواجسه الفلسفية، هو البحث عن منفذ للخروج من شرك التبعية والتقليد وإعادة الاعتبار للمنظومة الفكرية والقيمية الإسلامية، لقد بحث أولًا بأول عن الأسباب الكامنة وراء هذا التخلف، ووجد أنه يبقى في ذمة الأمة الإسلامية -بموجب ادّعاءها خصوصية إيمانية وأخلاقية- أن تُجيب عن مشكلات عصرها، وتتدارك الركب الفكري والحضاري الذي يكاد يكون بعيدًا عن مداها الفكري[1].

ومن الإشكاليات العميقة التي طرحها في هذا الصدد: «هل للأمة الإسلامية جوابها الخاص عن أسئلة زمانها؟»[2]، هل «نحن في «أزمة فكرية» تضرب فيها آراؤنا ورؤانا بعضها بعضًا؟ أم نحن في «هزيمة فكرية» حلّت بنا لتخاذلنا في القيام بواجبنا..؟ أم نحن في «فراغ فكري» أتى من موت أصاب الذهن والقلب فينا؟ أم نحن في «عجز فكري» نتج عن ضعف أفهامنا أو من نقص معارفنا؟»[3].

إن هذا التداعي والنكوص الذي أمسى يستشري في كيان الذات العربية المسلمة، إنما هو راجع، في نظر الدكتور طه عبد الرحمن، إلى الانبهار بالنموذج الفلسفي الغربي، والاعتقاد على أنه النموذج العقلاني الأوحد الجازم الذي لا يقبل النقد أو الاستبدال.

والحل –في رأيه- للتحرر من هذه التبعية الفكرية يكمن في «اليقظة الدينية-العقدية»، التي تتوافر فيها شروط التحديث والأصالة، ويحافظ من خلالها المفكر المسلم عبى قيمه وهويته الدينية، «فكيف إذن نجعل هذه اليقظة متكاملة لا متنافرة ومتجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟»[4].

لا سبيل في اعتقاد طه عبد الرحمن «إلى حصول التجدد في اليقظة الإسلامية بغير طريق التوسل في تأطير وتنظيم وتأسيس هذه التجربة الإيمانية العميقة بأحدث وأقوى المناهج العقلية وأقدرها على مدّنا بأسباب الإنتاج الفكري»[5]، حيث إن التكامل بين شرطي التجربة الإيمانية والسلوك العقلاني هو بداية الطريق لإقامة فكر إسلامي متجدد.

إن مراد طه عبد الرحمن من هذا الاستدعاء الديني والعقلي إنما هو لسببين رئسيين: الأول «بيان كيف أن الفعل الحداثي يجد رقيه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها»[6]، والثاني هو التأكيد على أن الوثوب الحضاري لا يتحقق إلا بإعمال العقل وإدراك ما ينبغي التفكير فيه لبناء منظور فلسفي خاص[7].

وهكذا يتعين لزامًا على الإنسان العربي المسلم أن يتسلح بالنظر العقلي والوقوف على أسرار القول الفلسفي[8]، وأنّى لذلك أن يتحقق ما لم يتمكن من إبداع فلسفة خاصة ومستقلة[9]، تنأى بذاتها عن التقليد والاجترار.

لقد اضطلع الفيلسوف طه عبد الرحمن بمهمة الدفاع وبشدة عن الحق العربي الفلسفي من مقتضى اعتقاده الراسخ بأنه «يحق لكل قوم أن يتفلسفوا على مقتضى خصوصيتهم الثقافية، مع الاعتراف لسواهم بذات الحق»[10]، وهو في هذا الصدد يقول: «ونحن العرب نريد أن نكون أحرارًا في فلسفتنا، وليس من سبيل إلى هذه الحرية إلا بأن نجتهد في إنشاء فلسفة خاصة بنا تختلف عن فلسفة أولئك الذين يسعون وبشتى الدعاوى إلى أن يحولوا بيننا وبين ممارستنا لحريتنا الفكرية»[11]، فالفلسفة في رأيه ليست حكرًا على شعب بعينه، وإنما هي حق طبيعي ومطلب شرعي يفتح لكل الشعوب والأقوام سبل الانعتاق والتحرر الفكري.

غير أن الفلسفة لا تتمخض عنها هذه الحرية واليقظة ما لم تقترن بالتجديد والاختلاف، وفي هذا السياق يرى طه عبد الرحمن أن الإبداع الفكري والفلسفي لا يتحقق إلا ببناء مقولات فكرية وطرائق معرفية وفلسفية مؤسسة على التجذير والتأصيل[12]، وهو ما لم يتوفر –في أغلب الحالات- للعقلانية العربية التي مضت في استنساخ القول الفلسفي الغربي واعتمدته بحذافيره[13]، وتلك أهم أسباب انتكاس العقل الفلسفي العربي وانحساره.

لقد تعجب طه عبد الرحمن «كيف لأمة جاءت بغير علم واحد، وبغير معرفة واحدة لا يقدر فلاسفتها على أن يقولوا قولا فلسفيا لم يقله غيرهم، ولا أن يُسمعوه ما لم يطرق سمعه، إلَّا أن يحفظوه عنه وينقلوه إليه، بضاعة مردودة إلى أهلها»[14]، لكنه أدرك «بعد طول نظر أن شرور هذا التقليد [تقليد القول الفلسفي الغربي] لا يدفعها إلا الوقوف على أسرار القول الفلسفي عند أهله المجتهدين لا عند ناقليه المقلدين»[15]، حيث إن اعتماد الرؤية التأصيلية وحده كفيل بإنتاج فلسفة مبدعة لا مقلدة، وتجديد الفكر الإسلامي وحل استشكالاته الفلسفية.

لأجل تحقيق هذه الغايات والمقاصد طرح المفكر طه عبد الرحمن مشروعه الفلسفي: «الفلسفة الحية»، الذي يروم من خلاله بيان كيف يمكن للإنسان العربي من الخروج من التيهان الفكري والوهن العقلي الذي أصاب الهوية العربية المسلمة، وهو يضع لأجل ذلك الاستراتيجية التالية:

تجديد العقل والمنهج

ضرورة وضع منهجية تمكن العقل العربي من الوقوف على مكامن الضعف في بنيته الفكرية، فلو أن المسلمين «حصلوا ملكة منهجية عمل التغلغل في تجربة الإيمان على فتح آفاقها، لتمكنوا من إقامة فكر إسلامي متجدد»[16]، قادر على أن يبدع أنساق فلسفية نوعية ويأتي بالمختلف المتجدد.

إنتاج المفاهيم المأصولة:

لا بد من إبداع مفاهيم أصيلة، فالواقع «أن المجتمع المسلم ما لم يهتدِ إلى إبداع مفاهيمه أو إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه ابتداء فلا مطمح في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول فيه»[17]، فالفكر لا يقوم له مبنى ولا يستقيم له معنى ما لم ينشئ مفاهيمه ومصطلحاته الذاتية الخاصة.

ضبط المفاهيم وتدقيقها:

إن تجديد الخطاب الفلسفي الإسلامي لا يتحقق إلا بإخضاع التصورات والمقولات الفلسفية للتدقيق والمراجعة النقدية، «فأكبر مانع للابتكار الفلسفي هو تقديس القول الفلسفي الأصلي[18] أي الإغريقي القديم والأوروبي الحديث فقد تم التعامل مع القول الفلسفي كما لو أنه نص ديني مقدس»[19].

وهذا ما عمل المفكر طه عبد الرحمن على إثباته من خلال إخضاع القول الفلسفي لعمليات التطويع وإعادة البناء، وذلك لاعتقاده الجازم بأن الضبط الدقيق للمفاهيم بالإضافة إلى الكشف عن آليات إنتاجها كفيل بوضع المفهوم في عمق المشروع الفلسفي المراد بناؤه.

وهكذا نستنتج مع طه عبد الرحمن أن قوة الخطاب الفلسفي واستمراريته، إنما تكتسب بقدر إدراك العقل لما يجب التفكير فيه أولًا، وتوليده لمفاهيم فلسفية مأصولة وجديدة ثانيًا، ذلك أن التفكير الفلسفي حينما يتأسس على المفاهيم يؤسس لمنظومة مفاهيمية واصطلاحية تستخدم في إنتاج سياقات معرفية وحقول فكرية جديدة وخلاقة على الدوام، لكن ما هي الأبعاد التجديدية التي تحملها عملية رصد المفاهيم وبنائها ضمن المشروع الطاهوي؟

الرهان التأثيلي.. التأصيل الفلسفي لصناعة المفاهيم

يعدّ مشروع بناء المفاهيم وتجديدها من التحديات المعرفية الكبيرة التي يطرحها الفيلسوف طه عبد الرحمن ضمن مشروعه الفلسفي الحضاري، ذلك أن الرهان الحقيقي لتخليص الخطاب الفلسفي العربي الإسلامي من الجمود والخمود –في اعتقاده- لا يتأتّى إلا بتجديد الموروث المفاهيمي العربي الإسلامي وتأصيله.

وهو في هذا السياق يقول: «آن الأوان لكي نخوض المعركة الاصطلاحية معركة نواجه فيها مصطلحات الفضاء الفلسفي... فإن قوة الاصطلاح غدت لا تقل عن قوة السلاح وإلا فهي تزيد عليها»[20]، ومع ذلك «ما زال المتفلسف العربي لا يجرؤ لحد الآن أن يُضيف إلى المفاهيم الفلسفية التي يصنعها غيره مفاهيم يصنعها من عنده»[21]، فالمفاهيم وحدها تفتح مغاليق الممارسة الفلسفية وتمكن العقلانية العربية الإسلامية من إنتاج التفلسف الحي.

وعليه بات من الضروري بذل الجهد الفلسفي انطلاقًا من إنشاء جهاز مفاهيمي ذاتي وخاص يضاهي الأجهزة المفاهيمية الغربية في القوة والجدارة، ويتمايز عنها جذريًّا في الوقت ذاته، حيث إن «النمط المعرفي الحديث غير مناسب، إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية»[22]، لما يوجد من تباين وانفصام بينه وبين النمط المعرفي الإسلامي سواء فيما يتعلّق بالأسس والمنطلقات الفكرية، أو من حيث المرجعيات العقدية والقيمية، ومن ثمة لا بد من إعادة النظر في النموذج المفاهيمي الغربي والتحرر من سطوته والتأسيس في المقابل لترسانة مفاهيمية منتجة وغير مقلدة نابعة من عمق الهوية الإسلامية.

لقد أدرك الغرب من القدم قيمة الاشتغال على المفاهيم والاعتداد بها فكريًّا لصناعة الأنساق الفلسفية، ذلك أنه «ومنذ سقراط يسعى الفلاسفة إلى إتقان اللغة التي يستخدمونها، ويربطون التأمل الفلسفي بتجديد المعاني والكلمات والمفاهيم المستعملة»[23]، وظل طلب المفاهيم والاجتهاد في تخريجها متواصلًا إلى اليوم، حيث إن «العالم لا يفتأ يشهد اختراع مفاهيم حضارية جديدة لا تلبث أن تسري في المجتمعات سريان النار في الهشيم منشئة بذلك فضاء اصطلاحيا كونيًّا»[24].

ولكن ومع أن المفهوم هو المدخل الأساسي الذي يستطيع الفيلسوف أن يدخل بواسطته إلى الفلسفة[25]، ما زال هذا الشأن الفكري مغيّبًا في الممارسة الفلسفية العربية الإسلامية، وما زال المتفلسف العربي «-وآسفاه!- يقول طه عبد الرحمن إلى حد الآن لا يجرؤ، أو بالأحرى لا يقدر على إنشاء خطاب فلسفي متميز بشأن مفاهيم لم يقم غيره من فلاسفة الغرب بالتفلسف بصددها؛ لأنه لا يتصور المشروعية الفلسفية إلا لما جاء على قانون الغرب في القول والفكر»[26]، فالنموذج الفلسفي الغربي بقي مهيمنًا على الأطروحات الفكرية والعقلانية العربية، وعُدّ النموذج الأكمل والأوحد الذي يعتد به في الدراسات الفلسفية، الأمر الذي سبّب تعذّر التفلسف واستحالته.

وبناء على ذلك يرى المفكر طه عبد الرحمن أنه وجب على المتفلسف العربي المسلم إعادة النظر في النماذج المفاهيمية الغربية وإخضاعها للنقد والتمحيص، ومن ثمة الانخراط في الفضاء المفهومي الكوني؛ إذ يقول[27]: «لا يمكن للمجتمع المسلم أن يبقى بمنأى عن هذا الفضاء المفهومي، بل لا مفر من أن يندمج فيه إن طوعًا أو كرهًا». وبذلك تحمل المفاهيم -وفقًا للمنظور الطهائي- إمكانات تحرير وتجديد الفكر الإسلامي وإبقائه قريبًا من الدرس الفلسفي.

ولأن الابنية الفلسفية لا يتم تشييدها خارج المفاهيم، وجب استنطاق كل لفظ والقبض على كل معنى، وهو ما لا يتحقق إلا باختراق أسوار اللغة على اعتبار أنها «أحد الألغاز العظيمة في التاريخ الإنساني»[28]، والمفاهيم الفلسفية، كيف لا «والمقال الفلسفي بضعة من اللغة الطبيعية يجري عليه ما يجري عليها، فلا مضامينه بمعزل عن تأثير محتويات هذه اللغة ولا مناهجه بمنأى عن توجيه وسائلها»[29]، ضف إلى ذلك أن «حدس الحقيقة الموضوعية لا يكون إلا بتوسطها»[30]، وعليه ينبغي «الوقوف على الأسباب اللغوية التي يتوسل بها في إنشاء واستثمار المفاهيم الفلسفية في أصولها»[31].

وإذا كان طه عبد الرحمن يحث على الاشتغال مفاهيميًّا –بما يتوافق مع المقتضيات التداولية العربية الإسلامية- فإنه يروم من وراء هذا الاشتغال صناعة خطاب فلسفي غير مسبوق، خطاب يختلف كليًّا عن ذلك الخطاب المنقول، ذلك النظر الفلسفي الذي لا يطلب المفاهيم إلا كما طلبها غيره.

هذا يعني أنه من الضروري البحث عن طرق «الاشتغال بمفاهيم لها أسباب في مجالنا التداولي الإسلامي العربي دون أن تكون لها بالضرورة أسباب في مجالات تداولية أخرى غير عربية أو غير إسلامية»[32]، وتلك ضرورة فلسفية قصوى «فما لم يستطع العربي أن يبدع المفاهيم من عنده ويبدع العلاقات فيما بينها، ويبدع صيغ الاستنتاج من هذه العلاقات التي أقامها بين هذه المفاهيم فلن يكون فيلسوفًا»[33].

إن الخصوصية التي يقول بها طه عبد الرحمن في وصل عملية بناء المفاهيم وتحديد قواعد التأسيس لها بالمجال التداولي الخاص (والذي يسميه: «المأصول التداولي»)، «تجعل النظر العقلي الفلسفي يتكثر ويتنوع في كونيته»[34]، وذلك لأن المتفلسف العربي الذي يشتغل على المفاهيم ضمن هذا المجال المأصول –أي المجال التداولي العربي الإسلامي- يمتلك حيازة الدراية بأسبابها التداولية، كما يكون عارفًا بأصولها الطبيعية، وهذا الأمر يتيح له ضرب الأمثلة عليها وكذا إقامة الدليل عليها وفتح آفاق توسيعها[35].

ومن ثمة تكون هذه المفاهيم المأصولة منتجة ومبدعة عكس ما يتعلق بالمفاهيم المنقولة التي ترتبط بمجال تداولي مغاير للخصوصية الإسلامية، وبالتالي يبقى العمل عليها عقيما وغي ذي جدوى.

لكن على الرغم من أن «الإبداع بالمفاهيم المأصولة يكون أنسب وأوفر من الإبداع بالمفاهيم المنقولة»[36]، إلا أن هناك إمكانية لاستثمار هذا النوع الأخير من المفاهيم وجعلها مفاهيم مشروعة وهذا إذا استعاض الفيلسوف عن النقل الحرفي وتميز «بالتصرف في المنقول الفلسفي، صورة ومحتوى، كما تميز بإنشاء الوصف الفلسفي لما قد يخالف هذا المنقول»[37]، وذلك مؤداه أنه «لا ينقل من النص الأصلي إلا ما يناسب الأصول التداولية التي أخذ بها المتلقي»[38]، وهكذا يظهر -إذن- أنه من الضروري إحداث تعديلات وتحويرات على المفاهيم المنقولة كيما تبلغ مرحلة النضج وتصبح لها دلالة وهوية وبالتالي تمتلك الصلاحية للاستعمال والتداول.

إن الترجمة الحرفية عاجزة في جوهرها عن إعطاء المعاني المطلوبة[39]، وذلك لأنها تفتقد إلى لحظة الانتماء إلى المجال التداولي الأصلي، ومن ثمة تؤدي إلى مفاهيم فارغة ومصطلحات جوفاء تفتقد إلى القوة الدلالية والضبط المنطقي، وهي من وجه آخر تتمسك بحرفية المضمون أو حرفية اللفظ[40]، وبالتالي تتسبب في امتناع المضمون الفلسفي الأصلي المراد، وهذا يعني ضرورة التصرف في اللفظ كما في المضمون، وهو ما يدعوه طه عبد الرحمن بالترجمة التأصيلية.

لقد أبان المفكر طه عبد الرحمن عن أسباب الإخفاق في بناء المفاهيم الفلسفية وتخريجها بطرق تقليدية، والتي ترجع -في رأيه- أساسًا إلى اعتقاد المتفلسفة العرب بأن «القول الفلسفي المنقول إليهم إنما هو عبارة محضة، فلما طلبوها فيه، وقعوا في الأخذ بإشارته، غير أنهم يظنون أنهم أخذوا بالعبارة»[41]، ذلك أن «القول الفلسفي الواحد فيه من العبارة بقدر ما فيه من الإشارة وأن عبارته تتوسل بإشارته»[42]، غير أن إشارته مضمرة، ومن ثمة التبس عليهم الأمر ووقعوا في خطأ الخلط بين الجانب العباري والجانب الإشاري، وعلى هذا يوضح طه عبد الرحمن بأن إعادة الإنتاجية للمفهوم الفلسفي لا تكون إلا بالعمل انطلاقًا من أنه معنى يجتمع فيه الجانب الإشاري إلى الجانب العباري.

إن الرهان في تأصيل المفاهيم وتخليصها من مأزق الاستنساخ الأعمى والمحاكاة الحرفية -وبلغة طه عبد الرحمن- لا يتحقق إلا بـ«القوام التأثيلي» [التأصيلي للمفهوم الفلسفي]، ويراد به تزويد الجانب الاصطلاحي من المفهوم بجانب إشاري يربطه بالمجال التداولي للفيلسوف، وهنا ينبّهنا طه عبد الرحمن إلى أن المفهوم الفلسفي ليس تصورًا يتمحّض فيه الجانب العباري ولا ذوقًا يتمحّض فيه الجانب الإشاري، وإنما هو معنى يجتمع فيه الجانب الإشاري إلى الجانب العباري[43]، وهذا يعني أن إعادة الإبداع للمفهوم الفلسفي وإطلاق إنتاجيته لا تكون إلا بتعقب المضمون الإشاري فيه.

إن التأثيل بهذا المعنى لا يعني أكثر من الوصل بالأصل، كما يعني ترسيم حدود معينة للمجال التداولي، ينتسب إليها -دون غيرها- المفهوم الفلسفي ولا يعمل إلا داخل قواعدها التأثيلية وأطرها اللغوية. وهو ما يقتضي أن يكون واضع المفهوم الفلسفي قد أتى فعل الاصطلاح عليه (أي المفهوم) وفق مبادئ المجال التداولي الذي ينتسب إليه، «إذ يجوز ألا يكون المفهوم الفلسفي في إحدى اللغتين هو عينه في اللغة الأخرى»[44].

وهكذا سواء تعلّق الأمر بإنتاج المفاهيم أو بإعادة إنتاجها، ينبغي على المشتغلين -من منظور طه عبد الرحمن- الأخذ بعين الاعتبار الفروقات الجوهرية الموجودة بين الألسن الطبيعية والمجالات التداولية، وهذا «من شأنه أن يجدد ويغني على الدوام الإمكانات الاستشكالية والاستدلالية التي تتعلق بهذه المفاهيم»[45]، فمتى أدرك الفيلسوف المسلم هذه المقتضيات وصان صلته بمجاله التداولي العربي الإسلامي، انفتحت له إمكانات استثمار المفاهيم الفلسفية، وأمكن له تجاوز الأنظمة المفاهيمية الغربية، إذ إن تأصيل المفاهيم واتخاذها طابعًا كليانيًّا مرهون بتأثيلها اللغوي وسياقها التداولي الأدبي.

لكن هل هذا المجال اللغوي والدلالي المخصوص كاف وحده لتصنيع المفاهيم والارتقاء بها إلى مصاف المفاهيم الفلسفية العميقة، والخطابات الفلسفية النوعية؟

قوام المفاهيم.. من تأصيلية المبنى إلى قيمية المعنى

لا ينحصر العمل الفلسفي -من منظور طه عبد الرحمن- على بناء المفاهيم والمصطلحات وتأثيلها، وإنما يتعدى ذلك إلى ضرورة تضمينها قيما معينة، وذلك لاعتقاده بأن شحن المفاهيم بالقيم ضمان لاستمراريتها وبعث التجديد فيها.

إن المصطلح الذي يريد طه عبد الرحمن الاشتغال عليه في حقل الفكر العربي الإسلامي هو مصطلح حامل لقيمة ما، أي معتد بمنظومة القيم التي يدور في فلكها، وهو بذلك إنما يريد أن يجعل من القيمة موجهًا دلاليًّا لمعنى مصطلح أو مفهوم ما، ومسارًا من مسارات تاريخ كامن في اللغة.

إن القيم[46] هي التي تضبط المفاهيم وتمنحها إمكاناتها الدائمة على التجاوز والإبداع، وبالتالي تنتشلها من الرتابة وراهنية التداول، والمفاهيم بدورها مرآة عاكسة لمنظومة القيم والمعايير التي تكونها وتؤسسها[47]، ومن ثمة ينبغي أن ندرك أنه ليس هناك أي فصل في الخطاب الفلسفي بين بنائه المفاهيمي ونسقه القيمي.

إن المفهوم هو «الكلي الذي ينتظر تطويره الذي سيكون لغاية ما، يكون في الحقيقة فقط»[48]، لكن وضوح هذا المفهوم لا يمكن أن يكون مضمونًا مطلقًا، إذا لم نحدد إراديًّا الأطر المعرفية والفلسفية التي تشكله وتعبر عن مقاصده، ويزيد من صعوبة ذلك أن المقال الفلسفي «لا يُظهر خفية، ولا يكشف عن مطويّه، ولا يجلو عن ألفاظه للمعاني والمعتقدات والمقاصد، ولا يميز بين مستوياته»[49]، مما يستلزم فضلًا عن تأثيله اللغوي إضفاء قيم خاصة ونسق من المعايير التي تبقى لصيقة به بشكل مطلق في مختلف الأحوال التي يخضع لها.

والخطاب الفلسفي من هذا المنظور، «ليس نسقًا مغلقًا من الرموز والإشارات والدلالات، وإنما هو خطاب مثبت ومفتوح لا تنفك عنه القراءة والنقد والتواصل الفكري وتداول المفاهيم»[50]، غير أنه بحاجة إلى معايير قيمية لاستنطاق شفراته واستيضاح معانيه ومن ثمة إجلاء مضامينه.

وفي هذا السياق يطرح كل من سبينوزا وكلادينوس مسألة فهم النص من وجهة نظر قيمية وأكسيولوجية، إذ يعتقدان أن «فهم النص هو فهم حقيقة النص الفلسفي، لكن لا يخلو هذا الفهم من معايير لغوية وفنية وحتى نفسية التي تحاول فك العقد المبهمة التي ينطوي عليها مثل مسألة المعجزات في النص المقدس»[51].

ولأن الخطاب الفلسفي لا يُختبر إلا في الشغل والإنتاج[52]، ينبغي تزويد المفاهيم والمصطلحات بأقصى قدر ممكن من القيم سيما المنقول منها؛ وذلك لأن «المفروض في المفاهيم المنقولة أن تكون ثمرة العمل الحاصل في مجال تداولي غي المجال العربي، فتبقى هذه المفاهيم حاملة لخصوصية هذا المجال الأجنبي.. وما لم تزُل عنها هذه الخصوصية الأجنبية وتُستبدل مكانها خصوصية المجال التداولي العربي، فإن الجمود يدخلها من كل جانب، حتى تصبح ضارة بغيرها من المفاهيم غير المنقولة، فضلًا عن أنها تورث المتفلسف العربي روح التقليد والتبعية، لذا يحتاج هذا المتفلسف إلى تزويدها بالقيم التي تنقل إليها الصبغة العملية لمجاله التداولي»[53]. وبهذا يتبدى أن إعادة الاستقلالية والإنتاج للمفاهيم لا تقتصر على «القوام التأثيلي» وإنما تتعداه إلى «القوام القيمي»[54] الذي يجعلها معدة للاستثمار وتمتلك الجاهزية للإنتاج والإبداع.

وفي هذا السياق يؤكد طه عبد الرحمن على ضرورة اعتماد «خطة التقويم» التي من شأنها أن تزيد فرص الإبداع الفلسفي، وهو يقول في هذا الصدد: «خطة التقويم التي تعتمدها القومة الفلسفية العربية تقتضي الجمع بين هذين المعنيين: «إزالة الاعوجاج» و«التزود بالقيم»، ونصوغ مضمون الخطة على الشكل الآتي: لِنعملْ على أن تتمتع المفاهيم بأقصى قدر من الحركية داخل مجالك التداولي عن طريق وصلها بقيمه العملية»[55]، وعليه فإن القوام [التأثيلي-القيمي] هو الذي يفضي إلى تأصيل وإنماء الموروث المفاهيمي العربي الإسلامي.

وتأسيسًا على ما سبق يجب تحري الفروقات الجوهرية الموجودة بين الأنساق القيمية والمنظومات المفاهيمية، والأخذ بعين الاعتبار أن القيم لا تشكل نسقًا مكتملًا ولا نظامًا متجانسًا، إذ قد يعتمد النسق الواحد على قيم متعارضة ومتناقضة، والتي تتغيّر حسب الأزمنة والأمكنة الاجتماعية، ومنه ينبغي الاحتراز والحذر عند نقل المفاهيم الفلسفية من فضاء مفهومي إلى آخر، وإحكام الصلة بين هذه المفاهيم وطابعها القيمي وسياقها التداولي، لكن ما هي القيم التي من المفروض أن يحملها المفهوم ويتقوم بوجودها؟ ولماذا؟

القيم العقدية والأخلاقية[56]

يضع المفكر طه عبد الرحمن مستوى العقيدة الدينية على رأس كل المستويات التي تورث الاستقلال للفلسفة الإسلامية، وتمكنها من إبداع حقائق وطرائق لم يسبق لغيرها من الفلسفات أن توصّلت إليها. وهو في ذلك يقول: «إن الإسلام دين يعمّ المجتمع العالمي كله كما يعمّ التاريخ الإنساني كله»[57]، وخلاصة ذلك أن التفلسف السليم لا يتم إلا انطلاقًا من التسلّح بأدوات إسلامية محضة والاعتداد بالقيم الدالة على الخصوصية الإسلامية.

غير أن هذا الثراء الحقيقي للتفلسف لا يتكشف إلا من خلال إقامة فلسفة مستوحاة من عمق الأخلاق الإسلامية، وهذا لما تُوفره المنظومة القيمية من فرض للإسهام «في تجديد الفكر الديني الإسلامي، مما يؤهله لمواجهة التحديات الفكرية التي ما فتئت الحضارة الحديثة تتمخض عنها»[58].

حيث إن الأخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، كما أن القيمة الأخلاقية أسبق على غيرها من القيم، ضف إلى ذلك أن ماهية الإنسان تحددها الأخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعًا للأخلاق[59]، وهو ما يستلزم -على وجه الخصوص- «وضع نظرية أخلاقية إسلامية مستمدة من صميم ذلك الفكر، نظرية تفلح في التصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة»[60]، وقصارى القول أنه يُشترط في الفلسفة الإسلامية حتى تكون عميقة وفاعلة أن تكون مؤسسة على الأخلاق الإسلامية الموصولة بأسباب الدين الإسلامي الحنيف.

ولأن الفلسفة لا تعبر عن نفسها إلا في لغة المفهوم، يرى طه عبد الرحمن أن أقرب الطرق التي توصل إلى الإبداع الفلسفي هو إنتاج المفاهيم التي لها أسباب في مجالنا التداولي الإسلامي العربي[61]، و«تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة»[62]، وهو ما يؤدي إلى صناعة مفاهيم تتوافق مع خصوصية النسق العقدي والقيمي الإسلامي ومن ثمة تحصين الخطاب الفلسفي ضد الاستحالة والاستنفاذ.

وبهذا المعنى، فإن «الفيلسوف المسلم، متى صان صلته بالمجال التداولي الخاص به، تزوّد من القيم العقدية واللغوية والمعرفية التي يتضمنها هذا المجال»[63]، وبالتالي لا يُجبر على تلقي المفاهيم المخترعة من غيره، وإنما يكون معترضًا عليها وفاعلًا في مضامينها، سيما مع ما تُوفره اللغة العربية من إمكانات لاستشكال المفاهيم وتأثيلها[64]، وذاك هو الغرض المطلوب فتكون الفلسفة الإسلامية ذات تحصيل ذاتي بهويتها العقدية المخصوصة ونظامها القيمي المحدد.

القيم التاريخية

إن التاريخ بوصفه حاملًا قيميًّا، ديمنته الحفاظ على الموروث الفلسفي المفاهيمي، من أفكار ومصطلحات، موجّه أساسي لصوغ المفاهيم وتحديدها؛ وذلك لأن «التاريخ يقصي اللاعقلاني»[65]، كما أن ربط القول الفلسفي بشروطه التاريخية «نسبة محددة لأمة من الأمم ولحضارتها وعبارة عن أخص خصوصياتها، أعني مقومات هويتها»[66]، وبهذا تُطرح ضرورة ربط القيم بإطارها التاريخي الذي تتحرك فيه، ومن ثمة شحن المفاهيم الفلسفية بهذه الأطر والقيم.

وعليه ينبغي «وضع أفكار العقل والمعرفة والفلسفة على التوالي في منظور تاريخي»[67]، وهو ما يعني عمليًّا أن يكون «المدلول اللغوي عبارة عن الرصيد العملي التاريخي الذي يحمله هذا اللفظ»[68]، مما يجعل الباحث مطالبًا بقراءة التراث والإصغاء إلى رموزه وحكاياه، وكذا استدعاء حزمة من الخبرات الماضية والتجارب التاريخية لإحداث حركة نقل جذرية قابلة لتوليد مفاهيم ذات أبعاد ومضامين جديدة.

وفي هذا المنحى يؤكد المفكر طه عبد الرحمن على ضرورة «التعامل مع التراث كحقيقة تاريخية لا يمكن الانفصال عنها ولا تقسيمها»[69]، شريطة أن يكون التوسل فيه بأدوات «مأصولة» ولا يُصار إلى تقويمه بأدوات منقولة[70]، كما يدعو من جهة أخرى إلى الاغتراف مما هو حداثي، حيث إن المفاهيم التي ينشدها «فيها المأخوذ من التراث بقدر ما فيها المأخوذ من الحداثة، إذ كنا واثقين -الكلام لطه عبد الرحمن- بأن المفهوم الفلسفي الذي لا توجد فيه بضعة من تاريخنا لا يمكن أن يثمر ولا بالأحرى أن يبدع؛ لأن الأصل في المفهوم الفلسفي أن يكون موصولًا بالزمان الماضي لأصله»[71]، ويحمل في الوقت ذاته عينًا من حاضره، وهو ما لا يتحقق إلا في سياق الممارسة الفلسفية التي تربط مقاصد المفهوم الفلسفي بإطاره المعرفي والتاريخي.

إن الاهتمام بتاريخية المفاهيم «ومعرفة السياق التاريخي والظروف الزمكانية التي نشأت فيه تلك المفاهيم يعدّ عملًا واعيًا وذا فائدة عميقة، لإدراك مدى تطور حركة المفاهيم في الإطار المعرفي العربي والإسلامي»[72].

أما إغفال تاريخية المفاهيم، فيؤدي إلى اجتثاث المفاهيم الغربية وانتزاعها من سياقها المعرفي الغربي ومن ثمة محاولة تبيئتها عنوة مع إغفال حركة تطورها الطبيعية وسياقها الاجتماعي والحضاري، وهكذا فإن تأصيل المفاهيم وصنع مصطلحات لا صِنوَ لها لا يتم إلَّا على قاعدة الهوية التاريخية، والأخذ في الحسبان سياقات المنظومة التاريخية ورموزها.

ولهذا كله -يجزم طه عبد الرحمن- بالقول: إنه «لا خروج للمتفلسف العربي من التقليد إلا بأن يأتي في قوله الفلسفي بهذه الأزمان الثلاثة.. فيحمله مفهومه أثرًا من ماضيه ويحمل تعريفه عينًا من حاضره، ويحمل دليله أفقًا من مسقبل»[73]، ذلك أن «الفلسفة بقدر ما ترجع إلى أصولها النهائية، فإنها تتعلّق بماهيتها»[74]، وما المفهوم إذاك إلا تحديد للهوية العربية الإسلامية بعناصرها القيمية والحضارية، وتفعيل لدورها الفكري في التأسيس الفلسفي.

منطق القيم

إن توليد المفاهيم الجديدة يحتاج إلى التدليل والتبرير، وهذا ما يوفره المناطقة الذين «لا يفلتون من هذه القاعدة، يحاججون لتبرير إبداعهم لمفاهيم جديدة، رمزيات جديدة، للبرهنة والدفاع عن نظرية ما»[75].

وهم يعمدون إلى هذه المحاججة لا لأنهم مختلفون في وجهات النظر التي يتبنّونها، وفي الدرجات المختلفة لقيمهم فقط، ولكن لأن المفاهيم والمصطلحات لا تحمل نفس الدلالة أو تعريفا موحدًا، حتى إن المضمون الفلسفي «ليتقلب في أحوال فيكون في نهاية النص غيره في بدايته»[76]، ولأن الفكر يريد أن ينتج شيئًا مفيدًا ويكتسب قوة في الإبداع ماثلة، يتعيّن عليه صعود الطريق الذي ينزله العلم حيث في أسفله يقيم المنطق الذي يضيف إلى الوظائف العلمية وظائف منطقية يُنتظر منها أن تشكّل طبقة جديدة من المفاهيم[77].

إن المنطق نفسه يترك المفهومات الفلسفية تولد من جديد[78]، وفي هذا الإطار يلح طه عبد الرحمن على أن تزدوج «الفلسفة بالمنطق، باعتباره المنهج الذي يوصلها إلى الحقائق التي تطلبها»[79].

وتوظيف هذه الفعالية المنطقية منوط بتوسيع النظر حول المفاهيم والبحث في قيمتها لأن المنطق «هو أدق العلوم قاطبة، إذ ليس في العلوم ما بلغ مبلغه في ضبط موضوعه ولا في تقنين منهجه»[80]، فبواسطة الأداء المنطقي تتحدّد الدلالات المفهومية وقواعد التقويم المفهومي، كما يتحقّق التحليل المنطقي للعبارات والبناءات اللغوية[81]، وفي هذا المستوى يكون المفهوم الفلسفي أمام محاكمة عقلية صارمة، تراجع أحكامه ومعانيه، وتدقق مضامينه وأفكاره.

«إن العقلانية غالبًا ما تأخذ بفكرة أن ما ليس منطقيًّا لا بد أن يكون مزيّفًا وأنه لا يمكن أن تقوم له قائمة»[82]، ومن ثمة ينبغي شحذ كل الأدوات العقلية والآليات المنطقية المناسبة التي توسع من أفق صناعة المفاهيم وبناء دلالاتها المأصولة.

وفي صميم هذا الطرح يبين طه عبد الرحمن، بوضوح وبدقة، الطريقة التي يتبعها في وضع مفاهيمه[83] وصوغ أحكامه، حيث أنه يعتمد على قاعدتين منهجيتين نقديتين تثبتان بالنقد والدليل صحة أو فساد المفاهيم [النقد الإثباتي-النقد الإبطالي]، وذلك من أجل اختبار وضعها المنطقي، وتحديد المأصول من المنقول، وبناء على ذلك يتحدد إنتاجها في مجالها التداولي الأصلي أو إعادة إنتاجها في غير هذا المجال[84]، وكل واحدة منها تفيد في تبديد الغموض والضبابية عنها وفي استخراج النتائج المثمرة منها.

وبهذا يتضح أن نجاح «خطة التقويم» التي توجب حفظ الصلة بين المفاهيم الفلسفية وبين القيم التي توجه العمل في المجال التداولي الخاص، لا يتحقق إلا بتفعيل الآليات المنطقية والقواعد الاستدلالية التي تؤدي إلى تأسيس فلسفي ممنهج ومضبوط للمفاهيم والمصطلحات وتمنحها المناعة العقلية المقصودة والوظيفة الحجاجية المطلوبة في نطاق الخطاب الفلسفي حتى تحوز قوامها المتآلف ونظامها المتسق وتصبح قادرة على الأداء الفلسفي.

إذن، ومن خلال ما تقدم، نجد أن بناء المفاهيم وتكوينها -عند طه عبد الرحمن- محكوم بجملة من القيم والمعايير التي تندغم وظيفيًّا عبر التوافق الموجود بين القوام القيمي المستند إلى المنظومة العقدية والأخلاقية والأصول التاريخية التراثية والقوام التأثيلي القائم أساسًا على الاستثمار اللغوي والضبط المنطقي، وفي هذا المنحى بالذات تتخذ المفاهيم عمقها الفلسفي ويصبح «المفهوم: «هوية»، وبأدق تعبير «هوية كونية» تعبر عن خصائص الفكر العربي الإسلامي وتتفاعل مع تطورات الواقع المعاصر.

إن إشكالية المصطلح لدى المفكر طه عبد الرحمن هي إشكالية نابعة من هاجس حضاري وتاريخي، وليست مجرد بحث نظري يبحث عن معادلات في المعنى والدلالة مع الإنتاج الاصطلاحي والمفاهيمي للفكر العربي، فطه عبد الرحمن لم يكتفِ بقبول المفاهيم والتسليم بها، وإنما اشتغل عليها وبها في فهم وتأويل التراث العربي الإسلامي وأبدع مفاهيم جديدة، وهو بذلك أحد الشخصيات الفلسفية المهمة جدًّا في الفكر العربي الإسلامي، التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من التدارس والتقصي.

 

 

 



[1] طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص26.

[2] المرجع نفسه، ص15.

[3] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2013، ص07.

[4] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1997، ص09.

[5] المرجع نفسه، ص10.

[6] طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص18.

[7] طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص ص 21، 22.

[8] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة ج2، القول الفلسفي كتاب المفهوم والتأثيل، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999، ص 13.

[9] لقد عالج هذه القضية غير واحد من المفكرين العرب والمسلمين، ومن بين هؤلاء الدكتور أبو يعرب المرزوقي الذي قدّم دراسة مهمة، بحث من خلالها عن الشروط الضرورية والكافية لإيجاد فكر فلسفي عربي بعنوان: نحو فلسفة عربية متميزة. ولمزيد من الإسهاب والتفصيل راجع: أبو يعرب المرزوقي، طيب تزيني، آفاق فلسفة عربية معاصرة، بيروت-دمشق: دار الفكر المعاصر، دار الفكر، ط1، 2001، ص 29 وما بعدها.

[10] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص21.

[11] المرجع نفسه، ص22.

[12] طه عبد الرحمن روح الحداثة، مرجع سابق، ص11.

[13] محمد محفوظ، الإسلام الغرب وحوار المستقبل، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1998، ص174.

[14] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص12.

[15] المرجع نفسه، ص13.

[16] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، مرجع سابق، ص10.

[17] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص11.

[18] في سياق متصل يرى الدكتور أبو يعرب المرزوقي أن القول الفلسفي استعير من بيئته الأصلية وكأنه قول تام. ولمعلومات أوفى راجع: أبو يعرب المرزوقي وطيب تزيني، آفاق فلسفة عربية معاصرة، مرجع سابق، ص19.

[19] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص119.

[20] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص 79.

[21] المرجع نفسه، ص77.

[22] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000، ص111.

[23] Jean-Gérard Rossi, «La philosophie analytique», L’Harmattan, Paris, 2002, P04.

[24] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص266.

[25] Bertrand Michèle, « Le statut de la religion chez Max et Engels, éditions sociales, Paris, 1979, P38.

[26] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص122.

[27] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص266.

[28] هانز جورج غادمير، بداية الفلسفة، ترجمة: علي حاكم صالح، حسن ناظم، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2002، ص12.

[29] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الدار البيضاء: المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، ط1، 1987، ص57.

[30] Ernest Cassirer, «Logique des sciences de la culture», traduit de l’allemand par Jean Carro, CERF, Paris, 1991, P91.

[31] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، القول الفلسفي: كتاب المفهوم والتأثيل، مرجع سابق، ص119.

[32] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص121.

[33] المرجع نفسه، ص155.

[34] طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2012، ص44.

[35] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص ص 78- 79.

[36] المرجع نفسه، ص79.

[37] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 1، الفلسفة والترجمة، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1997، ص386.

[38] المرجع نفسه، ص510.

[39] Michel Charles, Rhétorique de la lecture, Seuil, Paris, 1977, P54.

[40] يؤدي الإسقاط الحرفي للفظ إلى تطويل القول الفلسفي العربي بما يخلق نشازًا في صيغته التركيبية، كما يؤدي الإسقاط الحرفي للمضمون إلى هشاشة المفهوم الفلسفي وضعف معناه، وفي هذا الإطار يرى طه عبد الرحمن أن أسباب تعميق تقديس القول الفلسفي واستنساخه حرفيًّا ترجع أساسًا إلى قدسية القرآن الكريم في المجال التداولي العربي والتي أسقطها المتفلسفة العرب على القول الفلسفي. راجع: طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص 119.

[41] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص14,

[42] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[43] المرجع نفسه ، ص 126.

[44] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص 184.

[45] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[46] يرى طه عبد الرحمن أن «القيمة» تفيد: «المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهد في الإتيان بأفعاله على مقتضاه»، أي إنه المعنى الذي يجمع بين استحقاقين اثنين: استحقاق التوجه إليه واستحقاق التطبيق له. انظر: طه عبد الرحمن، تعددية القيم: ما معناها؟ وما حدودها؟ ، سلسلة الدروس الافتتاحية (الدرس الثالث)، جامعة القاضي عياض، مراكش: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط1، أكتوبر 2001، ص11. 

[47] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص ص 75- 76.

[48] Jean Hyppolite, Logique et existence, PUF, Paris, 1961, P59.

[49] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص57. 

[50] Hans Georg Gadamer, La philosophie herméneutique, PUF, Paris, 1996, P32.

[51] Vattimo Giani, La fin de la modernité, nihilisme et  herméneutique de la culture postmoderne, Pris, seuil, 1987, P32.

[52] رولان بارت، هسهسة اللغة، ترجمة: منذر عياشي، حلب: مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1999، ص87.

[53] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص ص 74 - 75.

[54] القوام التأثيلي للمفهوم الفلسفي -كما سبق وأن وضّحنا- هو جانبه الإشاري الذي يربطه بالمجال التداولي للفيلسوف، أما القوام المقصود في هذا المقام فهو عبارة عن مجموعة القيم التي تمد الفيلسوف العربي بالهمة والفكرة القادرتين على مواجهة القيم الغربية ولهذا آثرنا استخدام: «القوام القيمي». ينظر: طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص129. وطه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص80.

[55] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص 74.

[56] يؤكد طه عبد الرحمن على أن الأخلاق في أصولها مصدرها الدين، فيُحدث منها العقل بإحدى آلياته الاستدلالية فروعًا. (راجع: طه عبد الرحمن، تعددية القيم: ما مداها؟ وما حدودها؟، مرجع سابق، ص37). ولذلك آثرنا ربط النسق العقدي الإسلامي بالنظام القيمي الأخلاقي في سياق حديثنا عن القيم التي يُشحن بها المفهوم الفلسفي.  

[57] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص53.

[58] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص171.

[59] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص ص 15، 16.

[60] طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص171.

[61] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص50.

[62] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص50.

[63] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص50.

[64] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص ص266، 267. وانظر أيضا: طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص145.

[65] Maurice Merleau-Ponty, Les aventures de la dialectique, Gallimard, 1955, P33.

[66] أبو يعرب المرزوقي وطيب تزيني، آفاق فلسفة عربية معاصرة، مرجع سابق، ص22.

[67] ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009، ص58.

[68] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص42.

[69] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص19. 

[70] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 1994، ص12. 

[71] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2، مرجع سابق، ص16.

[72] محمد محفوظ، الإسلام والغرب وحوار المستقبل، مرجع سابق، ص148.

[73] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة2، مرجع سابق، ص16.

[74] إدموند هوسرل، الفلسفة علما دقيقا، ترجمة: محمود رجب، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002، ص104.

[75] Pierre Oléron, L’argumentation, PUF, Paris, 1983, P35.

[76] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص 57.

[77] جيل دولوز وفيليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟ ترجمة: جورج سعدا، بيروت-باريس: دار عويدات الدولية، 1993، ص145.

[78] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[79] طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، مرجع سابق، ص17.

[80] المرجع نفسه، ص85.

[81] طه عبد الرحمن، المنطق والنحو الصوري، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 1983، ص27 وص42.

[82] ديان مكدونيل، مقدمة في نظريات الخطاب، ترجمة: عز الدين إسماعيل، القاهرة: المكتبة الأكادمية، ط1، 2001، ص129.

[83] لقد خالف المفكر طه عبد الرحمن عادة التقليد السائدة وأبدع مفاهيم إجرائية من داخل التراث الإسلامي العربي، مثل: «التداول»، «التقريب التداولي».. إلخ قاصدًا استثمارها في توصيف وتحليل الآليات المنطقية والأدوات المنهجية التي استعملها علماء المسلمين في إنشاء هذا التراث. [طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص3].

[84] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص ص13-14.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة