شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
مالك بن نبي والتجديد الحضاري
مسعــود بوشخشوخة*
* أستاذ محاضر، المدرسة الوطنية التحضيرية للدراسات – الجزائر. البريد الإلكتروني:
saadalarabi@hotmail.fr
المقدمة
يسوقنا الحديث عن التجديد عند المفكّر مالك بن نبي إلى العودة مجدّدًا والبحث في أصول فكر هذا الأخير، ونعني هنا العودة إلى بحث مالك بن نبي في الظاهرة الحضارية التي شكّلت محور اهتمامه، وهو الأمر الذي يضفي على ممارسته الفكرية تفرّدًا بين جملة الممارسات الفكرية المعاصرة له، والأصل في هذا التفرّد الذي ميّز فكر مالك بن نبي هو اهتمامه بالإجابة عن سؤال النهضة المتعلّق بسبب تأخّر المسلمون، وتقدّم غيرهم في الوقت الذي اهتم فيه معاصروه بالبحث في الإسلام ذاته.
إنّ هذا التميّز الفكري الذي انفرد به مالك بن نبي، جعله من أبرز مجدّدي الإسلام الذي عرفه الفكر الجزائري المعاصر، خاصّة إذا تأكّد لنا أنّ مالك بن نبي ذو فكر منفتح على حضارة العصر، فجمع بهذا بين الأصالة الإسلامية والمدنية الغربية، واستطاع من خلال أطروحاته الفكرية بخصوص معنى التجديد الحضاري، أن يُسهم من منظور مغاير في تقديم التصوّر الجديد للمشروع الحضاري، الذي طالما اجتهد من قبله جمهور المفكرين في إيجاد الصيغة المثلى لذلك، وهذا حتى يتسنّى له اللحاق بركب حضارة العصر، أي تقديم مشاركة فعلية وحقيقية، عوض الاكتفاء باستيراد المنتج الحضاري الغربي، ومن ثَمَّة التكديس الشيئي.
يعني ما سبق أنّ منطلق نظرة مالك بن نبي التجديدية، قوامها إعادة النظر من جديد في المسلك الذي انتهجه جمهور المفكرين من قبله، على اعتبار أنّ تفرّد مشروعه الحضاري، عن بقية المشاريع الحضارية الأخرى، لهو دلالة واضحة على أنّ وعيه للحضارة الحديثة كان وعيًا يحيل في جوهره إلى مسألة جدُّ مهمّة، وتتعلّق في هذا السياق بضرورة فهم المسلم المعاصر للعوامل التي تبني الحضارات وتهدمها في الآن عينه.
والقصد من وراء هذا هو إمكانية تحقيق الانعتاق من سيطرة التخلّف الحضاري، الذي كان بالنسبة إلى الأمة الإسلامية بمثابة السيطرة الاستعمارية، والتغريبية بكل أشكالها فكرية أو ثقافية أو سياسية... إلخ. إذ إنّنا لو حاولنا أن نتعرّف على الداعي من وراء هذا لتبيّن لنا أنّ الأمر بالنسبة إلى مالك بن نبي هو في المقام الأول تأكيد للهوية الإسلامية.
ولأنّ الأمر كذلك، فإنّ المهمة التي أوكلها مالك بن نبي لنفسه أولًا، وللمسلمين ثانيًا هي الالتزام بقيم ومبادئ وأسس ديننا الحنيف من خلال الحرص على أهمية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة واعتمادهما، وهنا يبدو لنا أكثر وضوحًا الوجه الآخر لفكر مالك بن نبي التجديدي، الذي فتح من حيث التصوّر المسلك الواجب أخذه.
وكأنّ المرجو تحقيقه هو فتح آفاق الفكر الإسلامي المعاصر ضد الحركات التغريبية والقوى المساندة لها الراميتين إلى طمس معالم الشخصية الإسلامية. وهنا يبدو لنا أنّ مشروعية البناء الحضاري الذي يروم مالك بن نبي التأسيس له وثيق الارتباط بوضع العالم الإسلامي الحضاري، وهي حالة لا يحسد عليها، خاصة إذا ثبت لنا أنّ مالك بن نبي جعل من مهمته كمفكّر هي تجاوز رؤى سابقيه من المفكرين من جهة، والتأسيس لما يحقّق ذلك من جهة أخرى.
ولو حاولنا فهم هذا الارتباط الحاصل بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون في نظر مالك بن نبي، لتبيّن لنا أنّ الأمر في أساسه هو ضرورة القيام بمراجعة فكرية وحضارية منطلقها تلك التطوّرات والتغيّرات التي ميّزت العالم الغربي خاصة، ومثّلت في الآن عينه تلك الهوّة الفاصلة بينه وبين العالم الإسلامي.
أما مبعثها فهو الكشف من خلال هذه المراجعة على الأصول الفكرية، والمفاهيم الحقيقية كمرحلة أولى الهدف منها هو التأسيس مجدّدًا لكل ما هو حضاري يخصّ بنية المجتمع الإسلامي، أي السعي إلى تحقيق مشاركة فعلية متميّزة تؤكّد وجهة النظر الحضارية مقارنة بمثيلاتها الغربية التي تحكم تطوّرات العالم الحضارية بشقيها المادي و الفكري.
ولأنّ الأمر يتعلّق في هذا السياق بمضمون التجربة الحضارية للأمة الإسلامية، بما في ذلك وعي هذه الأخيرة بذاتها وبما يحيط بها، فإنّ المراد إضافته في هذا السياق هو ما تضيفه هذه التجربة الحضارية من مساهمة تمكّن الشخصية المسلمة من مواكبة الركب الحضاري والفكري الحاصلين في العالم الغربي المتقدّم.
وعن طريق هذا الوعي الحضاري المزدوج سيبدو لنا أنّ التجديد الذي يسعي مالك بن نبي إلى تحقيقه هو فاعلية إيجابية تغيّر من علاقة العالم الإسلامي الحضارية بالعالم الغربي، أي تنقله من موضع الاستهلاك والاستيراد الحضاري، إلى موضع المشاركة والبناء.
وهكذا فإنّ حرص مالك بن نبي واهتمامه بمسألة التجديد كما تراءى له تبعًا للوضع الحضاري المتردّي في العالم الإسلامي، هو إعادة الاعتبار وتأكيد القيمة الحضارية للتجديد وأثره في تحقيق الصورة التي ينبغي أن يكون عليها حال الإسلام والمسلمين.
ومن ثمّة فإنّ الجدير بالذكر في هذا السياق هو الإشارة، مع التأكيد على التداخل المثبت بين مفهومي الحضارة والتجديد؛ لأنّ ما تراءى لمالك بن نبي تبعًا للتخلّف والانحطاط اللذين لحقا بالأمة الإسلامية، هو في حقيقة الأمر محور رؤيته الحضارية، أي إنّ واقع الاتصال بين التجديد والحضارة، واعتبار أنّ أحدهما يكمل الآخر، سيكون المنطلق والخلفية المحورية التي سيتحرّك في فلكها المشروع الحضاري لمالك بن نبي.
توضيحًا للمعنى، فإنّ اهتمام مالك بن نبي بالتجديد وضرورته في البناء الحضاري، كان بناءً على الأهمية القصوى لذلك، وقد تجلّى هذا وانعكس في ظروف وشروط وسمات البيئة الإسلامية، إذ جاء هذا الاهتمام في مرحلة جدُّ متقدّمة من التخلّف الحضاري الذي طبع حال المجتمع الإسلامي (الأفرو آسيوي).
وعليه فإنّ مطلب التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، هو مطلب يروم من خلاله تحقيق التغيير نحو الأفضل، مع الحرص خاصة على تحقيق التجاوز لما هو كائن، ونعني هنا جملة الرؤى والنظريات الداعية إلى ذلك.
الحقيقة أنّ مثل هذه المقاربة الحضارية من الإطار العام الذي يحكم رؤية مالك بن نبي لمفهوم التجديد في علاقته بمفهوم الحضارة يأتي في إطار البحث عن صيغة علاجية جديدة للمشكل الحضاري الذي تعانيه الأمة الإسلامية، إذ سعى مالك بن نبي إلى بلورة شروط المشروع الفكري الحضاري، الذي سيكون بالنسبة إليه الوسيلة التي يقاوم بها خطر التحلّل والاندثار الحضاري الذي تعانيه الذي الأمة الإسلامية من جرّاء المرحلة الاستعمارية البغيضة وتداعياتها المختلفة على مختلف المستويات.
لذا فإنّ جهد مالك بن نبي الحضاري كان بمثابة خطّ الدفاع الأول والأساسي تجاه الهجوم الغربي الرامي إلى تفكيك وهدم معالم الشخصية الإسلامية، وهنا يتأكّد لنا أنّ الأساس في عملية النهوض الحضاري -في نظر مالك بن نبي- هو التجديد الحضاري، بمعنى أنّ الأمر سيرتبط أولًا بما هو فكري، ثم يليه ما هو مادي شيئي، وهذا على اعتبار أنّ تجديد ما هو فكري وبقاءه، يحفظ لما هو مادي البقاء وبالتالي إعادة بنائه من جديد.
ومنه فإنّ قوام التجديد الذي أسّس له مالك بن نبي، سيشمل تحديدًا الناحيتين الفكرية والمادية؛ ولذلك كان علينا أنّ نحدّد المعنى الرئيس لهذا التوجّه، على اعتبار أنّه يمثّل أساس مشروعه الحضاري، وبصيغة أكثر تحديدًا فإنّ توجّه مالك بن نبي الحضاري يسعى إلى تمَثُّل أفضل الأفكار الحضارية ذات الأصل الديني (الإسلام) وذلك بجعلها في مجرى محدّد نحو الهدف المنشود.
وفي هذا يكمن أساسًا تصوّر مالك بن نبي للتجديد، أي التوجّه الجديد للشخصية المسلمة فكريًّا وماديًّا، وانطلاقًا من هذا المفهوم والتصوّر الجديدين لمعنى التجديد سيقوم مالك بن نبي بربطها بالشروط الحضارية الخاصة بالمجتمع الإسلامي ليشكّلا معًا النسق المتكامل للتجديد الحضاري عنده.
في الواقع، إنّ الرباط العضوي الذي أقامه مالك بن نبي بين الإنسان (الشخصية المسلمة)، والإطار الذي يحوطه وبناءً على ضوء هذه الحقيقة فإنّ ما يبرز لنا في هذا السياق تحديدًا هو أهمية مفهوم التجديد كما تصوره مالك بن نبي باعتباره يشكّل القاعدة، والإطار الحضاريين اللّذَيْن يحكمان جميع مناحي الحياة الإنسانية سواء كانت فكرية أو مادية.
ولأنّ الأمر كذلك فإنّ لفكر مالك بن نبي تميّزًا في الطرح، وهو أنّه لم يكن فقط مجرّد منّظر حضاري للتجديد، بل إنّه جمع على غرار باقي المنظّرين الحضاريين بين ما هو نظري وما هو عملي، لتحقيق التجديد ومن ثمّة النهوض بالأمة الإسلامية من جديد بعد أن عرفت حالة لا تحسد عليها من الانحطاط شارك فيها الغرب المستعمر بالدرجة الأولى من جهة، وسوء تشخيص سابقيه من المنظّرين للدّاء الحقيقي الذي أصاب الأمة الإسلامية من جهة أخرى.
إنّ عدم اكتفاء مالك بن نبي بما هو كائن، وبالتالي مواصلته رسم معالم الطريق الحضاري للمسلم المعاصر انتهى به إلى تحليل تلك المشكلات المحورية التي يتقوّم بها البناء الحضاري، هذا الأخير الذي لا يعدّ في نظره كما سبق أن أشرنا تكديسًا أو تراكمًا شيئيًّا، بقدر ما هو تحليلًا نظريًّا وفكريًّا لمشكلات رئيسية تحكمه.
وهذا يعني من منظور مالك بن نبي أنّ المسألة تخصّ القيام بدراسة الإمكانات الحضارية للأمة الإسلامية، وربطها بالأهداف المرجو تحقيقها، والمعنى هنا يتعلّق بمفهوم التجديد الحضاري، الذي سيكون هذه المرة مع مالك بن نبي بحث في تلك العلاقة القائمة بين المقومات الداخلية للأمة الإسلامية، التي تؤثّر تأثيرًا مباشرًا في تحقيق البنية الحضارية الخاصة بها، ثم السعي فيما بعد إلى تحقيق الملاءمة بين مجموع القيم، والأفكار الحضارية وبين الأهداف التي تسعى الحضارة إلى تأصيلها في محيط الذات الإنسانية.
يمكن إجماله في الصيغة الآتية: ماذا عن علاقته برؤى سابقيه الحضارية (رجال الإصلاح)؟ كيف ستتمّ إعادة صياغة تصوّر مفهوم التجديد الحضاري؟ وهل بالإمكان الحديث عن جِدّة في المساهمة تؤسّس لاستمرار تصوّره؟
إنّ إفراد عدد من الصفحات للحديث عن المشروع الفكري الحضاري التجديدي للمفكّر مالك بن نبي الذي امتدّ قرابة نصف قرن، لهو مطلب عسير التحقّق، فمالك بن نبي بحقٍّ كان نموذج المفكر والمدافع والمؤسس لمطلب التجديد الحضاري. لقد دافع هذا المفكر في جبهات عدة عن الشعوب المستضعفة والمستعمرة ضد مستعمريها، وبين أثر ذلك على وضعها الحضاري، فأسّس انطلاقًا من ذلك إلى فكر حضاري إسلامي، وبيّن مدى الحاجة إلى التجديد، ومحاولة إعادة النظر والقراءة في ضوء ما هو راهن، كما كشف عن حرب حضارية مزعومة، حيث دافع وسدّد وجدّد.
وهو ما يعني أنّ هذا الجهد الفكري الذي أضافه هذا المفكر يحتاج منا تسليط الضوء عليه خاصّة إذا تأكّد لنا أنّ فكر مالك بن نبي التجديدي لم ينتهِ، ولم يتوقّف بمجرّد وفاته، بل إنّه استمر من خلال تلامذته المتأثّرين به تأثرًا مباشرًا والمنتشرين على امتداد الساحة الفكرية العربية الإسلامية. لذا كان لزامًا علينا أن نحلّل ولو باقتضاب أهم الأفكار التي تجمل فحوى مشروع مالك بن نبي التجديدي.
أولًا: مالك بن نبي ورجال الإصلاح
تعتبر مساهمة مالك بن نبي الرامية إلى تقديم رؤية إصلاحية جديدة، تحمل تصوّرًا ثوريًّا وتجاوزيًّا في الآن عينه، ونعني هنا موقفه من رؤى سابقيه رجال الإصلاح، خاصّة إذا تأكّد لنا أنّ العالم الإسلامي شهد حركات إصلاحية تدعو إلى تغيير واقع الأمة الإسلامية.
وهو الأمر الذي يُحيلنا إلى التساؤل عن موقف مالك بن نبي من هذا التنوّع في الدعوة إلى الإصلاح، الذي استهلّه بالحديث عن الحركة الوهابية ودورها في تغيير الوضع الذي آل إليه العالم الإسلامي، فالحركة الوهابية بما جاءت فيه من تركيز على فكرة التوحيد، وتنزيه العبادة عن كل ما يربطها بالماديات أمّنت دفعًا ثوريًّا ترك بصماته على كل دعاة الإصلاح بعدها، وهذا الدافع الثوري لا ينتقص من قيمة تشدّدها في بعض الجوانب الشرعية والأحكام، أو بعض المواقف المتطرّفة لبعض أتباعها ممّا أوصل بعض تصرّفاتهم إلى حدّ المغالاة[1].
وظهر في ساحة العالم الإسلامي من يدعو إلى رفض الاستعمار، وما يماثله من أفكار التخلّف، والقصد هنا هم دعاة التقليد والتغريب، يقول مالك بن نبي: «سرعان ما انبلج الفجر في الأفق يدعو فيه المؤذن إلى الفلاح، كل صباح، ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيّ على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، إنّه صوت جمال الدين الأفغاني»[2].
لقد أراد جمال الدين الأفغاني أن تكون انطلاقته في مجال العمل الإصلاحي من الأرض العربية، المهد الأول للإسلام، التي نزل القرآن بلسانها المبين، وكانت مدنها عواصم الحضارة العربية الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي، من المدينة إلى بغداد ودمشق والقاهرة و لقيروان وغيرها[3].
هكذا كانت كلمة جمال الدين الأفغاني فقد شقّت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها، فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورًا لفكرة بسيطة فكرة النهوض فسرعان ما آتت أُكُلَها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيّرت ما بأنفس الناس من تقاليد وبعثتهم إلى أسلوب في الحياة جديد. وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان، وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها و دفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر»[4].
يعني هذا أنّ دور الأفغاني الإصلاحي اقتصر في نظر مالك بن نبي على الإيقاظ والاستنهاض، أي وضع اللبنات الأولى للمشروع الإصلاحي المستقبلي التي شكّلت الإرهاصات المبكّرة للمشروعات والبرامج السياسية، يقول مالك بن نبي: «إذا لم يكن جمال الدين الأفغاني قائدًا أو فيلسوفًا للحركة الإصلاحية الحديثة، فلقد كان رائدها، حين حمل ما حمل من القلق، ونقله معه أينما حلّ، وهو القلق الذي ندين له بتلك الجهود المتواضعة في سبيل النهضة الراهنة، وكان رائدها أيضًا حين جهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي»[5].
من هنا يتّضح لنا أكثر طريق الإصلاح الذي سلكه جمال الدين الأفغاني، وهو إصلاح سياسي، حيث اعتمده طريقًا للتقدّم، ولذلك قارع السلاطين والحكّام، وأقلق عروشهم وحاربهم بلا هوادة[6].
أما عن تلميذ جمال الدين الأفغاني الذي شاركه مشروعه الإصلاحي، يقول مالك بن نبي ما نصه: «كان الشيخ عبده مصريًّا أزهريًّا، ومصر منذ عهود سحيقة أمة زراعية مرتبطة بالأرض، أي إنّها كانت على طول التاريخ مجتمعًا يتكوّن فيه الفرد وسط الجماعة، فهو لذلك مزوّد بغريزة الحياة الاجتماعية، و الأزهر من ناحية أخرى كان يمدّ الحياة الاجتماعية بعقليات متمسكة بدينها [...]، وبهذا التكوين واجه الشيخ عبده مشكلة الإصلاح، فبعد أن أدرك حقيقة المأساة الإسلامية وجد من الضروري أن ينظر إليها كمشكلة اجتماعية، على حين أنّ أستاذه جمال الدين الأفغاني ذا العقل القبلي العفوي قد تناولها من الزاوية السياسية»[7].
إنّ ما ورد في قول مالك بن نبي، يحدّد مرة أخرى طبيعة مشاركة محمد عبده الإصلاحية، ونعني هنا إذا كان الأفغاني قد ذهب مذهبًا سياسيًّا حتى يحقّق مشروعه الإصلاحي، فإنّ محمد عبده قد اعتمد الإصلاح التربوي الاجتماعي طريقًا لذلك، وقد تجسّد مشروعه في هذا الجانب من خلال إصدار مجلة «العروة الوثقى»، وهو الأمر الذي يفيد أنّ دور محمد عبده الإصلاحي لم يكن مطابقًا، وصورة أصلية لمشروع أستاذه جمال الدين الأفغاني، بقدر ما كان دورًا مكمّلًا لما بدأه أستاذه.
وفي الآن نفسه يعكس طبيعة الظروف الاجتماعية السائدة آنذاك في مصر، يقول مالك بن نبي عن الهدف الذي أراد محمد عبده تحقيقه من مشروعه الإصلاحي ما يلي: «فالفضل في نشأة الحركة الإصلاحية واتّجاهها الذي اصطبغت به يعود إلى تلك الاستعدادات الأصلية لدى الشيخ المصري [...] كان الشيخ محمد عبده يعلم علم اليقين أنّه لكي يتحقّق الإصلاح يجب أن يبدأ خطوته الأولى من الفرد»[8].
يبدو أنّ محمد عبده قد استهلّ -في نظر مالك بن نبي- مشروعه الإصلاحي بالتركيز على الفرد، ودوره في تحقيق مطلب الإصلاح الاجتماعي، ذلك أنّ إعادة الاعتبار للفرد في مجتمعه والحرص في الوقت نفسه على إعطائه مكانته الاجتماعية اللائقة به، التي تحفظ له قيمته كموجود له دوره الفاعل في المجتمع، يستدعي في المقام الأول مشاركته (الفرد) موضوع الإصلاح في هذا البناء الحضاري من خلال إصلاح نفسه، لأنّ معنى إصلاح الذات أو النفس في هذا السياق يعني، إصلاحها أخلاقيًّا.
ومن ثمّة فإنّ القصد هنا -حسب محمد عبده- هو الاهتمام بالجانب العملي لسلوك الفرد الاجتماعي، وهذا نزولًا عند قوله تعالى: {إنّ اللهَ لاَ يُغَيّرُ ماَ بقَوْمٍ حتّى يُغيّرُوا مَا بأَنْفُسَهمْ»[9]. وقد عبر ابن نبي عن مضمون هذه الآية بقوله: «إنّ الذي يردّ إلى العالم شبابه لا بد أن يكون إنسانًا جديدًا، قادرًا على حمل مسؤوليات وجوده ماديًّا وروحيًّا، كممثّل وشاهد، وإنسان ما بعد الموحّدين إنسان هرم في طريقه إلى الفناء، ولكن العالم الإسلامي على الرغم من ذلك لديه قدر كبير من هذا الشباب الضروري»[10].
ضمّ ما جاء في قول ابن نبي إلى نص الآية الكريمة، يؤكّد أنّ البناء الحضاري عنده منطلقه المجتمع الإسلامي نفسه، حيث يساهم أبناؤه في ذلك؛ لأنّ تشييد البناء الحضاري على حساب تكديس ما أنتجه الغرب، لا يعني على الإطلاق بناءً حضاريًّا.
إلَّا أنّ مالك بن نبي في الوقت نفسه يعتبر أنّ محمد عبده، قد اقترن عنده معنى الإصلاح بمسائل كان من اللائق تجنّب التطرّق إليها، يقول مالك بن نبي في هذا المعنى ما نصه: «ظنّ أنّ من الضروري إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة، حتى يمكن تغيير النفس [...] وعلم الكلام لا يتّصل بالواقع بمشكلة النفس إلَّا في ميدان العقيدة أو المبدأ، والمسلم حتى مسلم ما بعد الموحدين لم يتخلّى مطلقًا عن عقيدته، فلقد ظلّ مؤمنًا، وبعبارة أدق: ظلّ مؤمنًا متدينًا، ولكن عقيدته تجرّدت من فاعليتها؛ لأنّها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جذبية فردية وصار الإيمان إيمان فرد متحلّل من صلاته بوسطه الاجتماعي، وعليه فليست المشكلة أن نعلّم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهمّ أن نردّ إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوّتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي»[11].
هكذا، يبدو لنا موقف ابن نبي من تصوّر محمد عبده الإصلاحي، الذي أراد من خلاله إعطاء الأولوية إلى دور العقيدة الاجتماعي، وكأنّ ما يروم ابن نبي تحقيقه هو المزاوجة بين ما هو عقدي روحي، وما هو حضاري مادي، والنتيجة هي إعطاء نمط حضاري متميّز عماده التوازن الروحي - المادي[12].
وفي السياق نفسه يذهب مالك بن نبي قائلًا: «والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التجديد هذه من ناحيتها السلبية والإيجابية، إلَّا أنّ الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التجديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطّط للمستقبل بطريقة إيجابية، وهذا العمل نفسه ضروري اليوم للنهضة الإسلامية، ولعله قد أصبح منذ زمن قريب موضع بحث وتأمّل، فإنّ ريح الإصلاح التي هبّت على العالم الإسلامي منذ محمد عبده وتلامذته (كابن باديس)، بشائر ذلك التجديد السلبي الذي حاول تحطيم عللنا وعوامل انحطاطنا»[13].
وهنا يشير ابن نبي إلى ما ميّز مشاريع الإصلاح من قبله، أي انحصار معنى التجديد عندهم في جانبه السلبي، لذا نراه يُلفت الانتباه إلى ما لم يحدّد، ويعني به التجديد الإيجابي، وحسب قوله: «وأما التجديد الإيجابي فهو - وإن كان قد وُضع لنا مجمله - إلَّا أنّه لا يزال غامضًا غير محدّد»[14].
مثل هذا التأكيد الذي أتى على ذكره مالك بن نبي بخصوص معنى التجديد في جانبه الإيجابي، سيكون الدافع مرة أخرى إلى التحرّي عن موقفه من المشروع الإصلاحي الذي أسّس له المصلح عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وتحديدًا في الفترة الاستعمارية التي عاشتها الدولة آنذاك، يقول ابن نبي: «فحوالي عام 1922، بدأت في الأرض هيمنة وحركة، وكان ذلك إعلانًا لنهار جديد وبعثًا لحياة جديدة، فكأنّما هذه الأصوات استمدت من صوت جمال الدين الأفغاني قوّتها الباعثة، بل كأنّها صدى لصوته البعيد، لقد بدأت معجزة البحث تتدفّق من كلمات ابن باديس فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدّر يتحرك [...] فتحوّلت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحوّلت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب»[15].
ما أجمله بن نبي في هذا القول يفيد من جهة امتداد أثر الدعوة الإصلاحية الأفغانية إلى الجزائر، ومن جهة أخرى، وهو الأهم قيمة مشاركة ابن باديس الإصلاحية التي كرّس وجنّد من خلالها في نظر ابن نبي لتحقيق مشروعه الإصلاحي ثلّة من العلماء المسلمين الجزائريين، فكان ميلاد «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» إيذانًا لحملة إصلاحية، وبالمقابل تركّز جهد هذه الجمعية حول افتتاح المدارس، وتأسيس الصحف والمجلات، يقول مالك بن نبي بصدد هذا المعنى: «ولقد قام بتلك المهمّة على خير وجه الشيخ عبد الحميد بن باديس فاستطاع أن يخلّص الجزائر من تلك التقاليد الزائفة [...] ولكن فردًا واحداً يعجز عن القيام بتلك المهمة وحده»[16].
وحتى تتّضح لنا أكثر صورة المشاريع الإصلاحية في فكر مالك بن نبي الحضاري، نراه في سياق آخر يوجز موقفه من التيارين الإصلاحيين، التيار السلفي والتيار المحدث، أما عن التيار السلفي فيقول: «السلفي وحده هو الذي يحمل فكرة النهضة، وهو وإن لم يحقّق شروطها العلمية بصورة منهجية فإنّه على الأقل لم يضيّع هدفها الجوهري، لقد كان يعي تمامًا أوضاع بيئته، حتى ألحّ في المطالبة بأن يؤدّي كل واجبه»[17].
إنّ المفيد من هذا القول -في نظر مالك بن نبي- هو أنّ مهمة السلفي الإصلاحية تركّزت تحديدًا حول تنقية العقيدة الإسلامية، وسلوك المسلم من كل ما ألحق بهما من بدع لا أصل لها في الدين.
أما عن التيار المحدث فقد كان موقفه أكثر وضوحًا، حيث يقول: «فالحركة الحديثة [...] سبيلها الوحيد أن تجعل من المسلم زبونًا مقلدًا، دون أصالة لحضارة غربية تفتح أبواب متاجرها أكثر من أن تفتح أبواب مدارسها، مخافة أن يتعلّم التلاميذ وسائل استخدام مواهبهم في تحقيق مآربهم»[18].
والمعنى المراد قوله هو أنّ دعاة التيار المحدث ساهموا في جعل البلاد الإسلامية سوقًا للمنتج الغربي بشتّى أنواعه، شيئي أو فكري. ومن ثمّة فالتقدّم في نظر هؤلاء هو استيراد قدر الإمكان ما تنتجه الحضارة الغربية، ومحاولة جعل الرقعة الجغرافية الإسلامية نسخة لحضارة الغرب في شيئيتها وعاداتها وتقاليدها، فهم بهذا الاعتقاد الخاطئ يكونون قد سهّلوا من مهمّة المستعمر في البلاد الإسلامية.
تمعّن ما سبق التطرق إليه بخصوص موقف مالك بن نبي من المشاريع الإصلاحية التي سبقته، يكشف لنا عن أهم الحلول، والتصوّرات التي شخّصت حالة العالم الإسلامي المرضية وكيف صاغت وسوّغت الحلول لذلك، هذه الأخيرة التي انبنت على التطرّق إلى القضايا التالية: الاستعمار والجهل والفقر واختلال الاقتصاد والسياسة وغيرها من القضايا التي تعكس تخلّف الأمة الإسلامية.
ما يلاحظ على هذا هو أنّه رغم تعدّد رؤى الإصلاح، إلَّا أنّها تشترك جميعًا في نقطة واحدة، فهي من جهة دراسة مقبولة ومقنعة لأنّها طرقت وحدّدت منذ البداية موضوع الدراسة، وهو تخلّف الأمة الإسلامية، ومن جهة أخرى فقد تميّزت هذه الدراسة لا بمعالجة أزمة الأمة الإسلامية أي معالجة داء التخلّف الذي تعانيه، بقدر ما اتّجهت جهودهم وتركزت حول تشخيص الأعراض.
ولنا في مساهمة الأفغاني الإصلاحية التي رأى فيها أنّ المشكلة سياسية تحلّ بوسائل سياسية، في حين اعتبر محمد عبده أنّ الحلّ يكمن في إصلاح العقيدة، والنتيجة هي أنّ الأمة الإسلامية لم تستطع أن تتخلّص، وأن تستأصل خطر الاستعمار ونتائجه، من الأمية بأشكالها، ومن الفقر رغم غنى البيئة العربية بالمواد الأولية، ومن الظلم ومن القهر، ومن الاستعباد.
والحلّ في نظر ابن نبي يرتبط في أساسه بحل مشكلة الحضارة، وبالتالي تقديم تصوّر حضاري للتجديد غير التصوّرات الآنفة الذكر، وهو ما سنعرض له في العنصر الآتي.
ثانيًا: مالك بن بني ومشروعه الحضاري
إنّ أهمية هذا الموضوع (التجديد الحضاري)، هي من أهمية صاحبه مالك بن نبي كمفكّر له مكانته في العالم الإسلامي، إذ إنّ في مجموع مؤلفاته «سلسلة مشكلات الحضارة»، التي تعكس بصورة واضحة الارتباط الحاصل بين مفهومي الحضارة والتجديد، ما يدل على أنّ فكرة «الحضارة» التي آمن بها والتي يعتبرها الجزء الأساسي لدراسة مشكلات الشعوب[19].
إنّ نظرة مالك بن نبي وتحليله لمشكلة الحضارة على أنّها العامل الحيوي الذي في إمكانه أن يتيح فرصة التعرّف على عوامل التقهقر والانحطاط، أي على قوى الجمود داخل الحضارة، وهذا إلى جانب شروط النمو والتقدّم، تدفعنا كما يقول مالك بن نبي: «إلى أن ننتقد مسلك بعض الباحثين حين ينظرون إلى ظاهرة الحضارة منفصلة عن ظاهرة الانحطاط، وأنّ العالم الإسلامي لفي أمسّ الحاجة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة، ولهذا فإنّ ما يهمنا في المقام الأول هو أن نتأمّل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه»[20].
والمعنى -حسب مالك بن نبي- هو التخلّص من تداعيات مرحلة الانحطاط الحضاري التي طال أمدها، والانطلاق بخطى ثابتة نحو دورة تاريخية جديدة، ميزتها التجديد الحضاري؛ لأنّ مشكلة كل أمة هي في جوهرها مشكلة حضارته، وحلّ هذه الأخيرة متوقّف على فهم واستيعاب سلسلة الأحداث الإنسانية.
وهكذا فإنّ ما يحمله المشروع الفكري التجديدي لمالك بن نبي يرتكز على أسس مهمة، ونعني هنا الواقع الحضاري الراهن الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فإدراك مالك بن نبي لهذا الواقع، وسعيه إلى تقديم قراءة تجمل رؤية حضارية جديدة تختلف عن باقي الرؤى الحضارية الأخرى، يجعلنا نؤكّد منذ البداية على مدى الارتباط الحاصل بين فكر مالك بن نبي وواقع الشعوب المتخلّفة.
والأصل في هذا هو أنّ المعركة الحقيقية الآن هي معركة فكرية وحضارية، لا تقلّ أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة إن لم تكن أساسها، وإنّ الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية، كما أنّها هزيمة عسكرية، وأنّ الخطر المداهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد[21].
من هنا تكتسب رؤية مالك بن نبي مشروعية كبيرة في ذاتها، فقد كانت بحق علامة فارقة في التجديد الحضاري، ولذلك كانت دعوته إلى التركيز على النظر من جديد في مفهوم الحضارة وما يرتبط به من شروط ومفاهيم تتقاسم كلها مجتمعة مشروعه في التجديد، فقد كانت دعوة ناقد مستبصر، ومدرك للواقع وما يحويه واضعًا في الآن عينه يده على مناطق الداء التي يعاني منها المسلم المعاصر؛ لأنّ التخلّف الذي يعيشه العالم الإسلامي آنذاك، كشف عن ذلك البون الشاسع بينه، وبين العالم الغربي المتقدّم، فهو يرى في ذلك مشكلة الحضارة عنوان لحقيقة مهمّة أساسها البحث في الأسباب، والمقوّمات التي تهدي إلى سبيل تحقيق التقدّم.
من هنا يكون مالك بن نبي بصدد البحث عن مسلك للخروج من دائرة التخلّف الحضاري، خاصة أنّ عصره هو عصر مفْصَل، إنّه الوقت الملائم للتغيير وللثورة على الصعيد الكوني، وأمامنا كما هو أمام سائر القوى، أمران -حسب تعبير مالك بن نبي- لا ثالث لهما: رسالة أو خضوع[22].
وفي ضوء هذا المنظور الفكري للتجديد الحضاري المنبثق من فلسفة حضارية واعية، بدا من خلالها مالك بن نبي مفكّرًا اجتماعيًّا، ومجدّدًا إسلاميًّا أصيلًا يقترب إن لم نقل يقاسم عالم الاجتماع الموضوع والمنهج؛ لذا فإنّ ما تشغله نظريته في هذا الصدد يمثّل جانبًا مهمًّا من رؤيته الحضارية، ذلك أنّ ما ورد في إحدى تعاريفه للحضارة يحيلنا إلى ذلك.
يقول مالك بن نبي: «ويمكن تعريف الحضارة في الواقع بأنّها جملة العوامل المعنويّة والماديّة التي تتيح لمجتمع ما أن يوفّر لكلّ عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره»[23].
ولم يكتفِ مالك بن نبي بهذا التنظير حول ضرورة التجديد الحضاري في العالم الإسلامي، بل إنّه ينتقل بنا إلى رصد الواقع الحضاري العالمي على المستويين، على المستوى الغربي ممثلًا في الحضارة الغربية، أما على المستوى الإسلامي فيمثًله العالم الإسلامي، وذلك من خلال تحليله لواقع الحضارة الغربية، والسبب هو الكشف عن عناصر الأزمة التي يحياها الإنسان الغربي، وفي الآن عينه حتى يوضّح أنّ أسباب أزمة التخلّف الحضاري في العالم الإسلامي، إنما هي ناتجة عن تخلّي المسلمين عن قيمهم العقدية، وانبهارهم بفلسفات ومذاهب الغرب الخاوية.
نتيجة هذه المقابلة التي أجراها مالك بن نبي بين الواقع الغربي المتأزّم والعالم الإسلامي المتخلّف، هي الدعوة إلى الفهم الصحيح للإسلام، عقيدة أولًا ثُمَّ كشريعة قادرة على احتواء الأزمة الحضارية للمسلم المعاصر، وبالتالي عودةُ ولحاق الأمة الإسلامية بالركب الحضاري، وتحديدًا بمسارها الذي أراده لها الحق تبارك وتعالى، لأنَها الأمة التي نزل في حقها قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرجَتْ للنَاسِ تَأْمُرونَ بالمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَن المُنكَر}[24].
من هنا يمكن القول: إنّ التجديد الحضاري كما يراه ابن نبي قوامه فكرة التغيير الفاعلة، أي تغيير ما بالنفس، وذلك من أجل الإقلاع الحضاري نحو التجديد، فهي الطريق الشرعي والفطري لصناعة الحضارة والتقدّم الإنسانيين؛ لأنّ مفاتيح حلّ مشكلات التخلّف في نظره هي في الذات وليس عند الآخر.
ومن ثمّة فإنّ مسعى ابن نبي الحضاري، أي بناء مجتمع (حضارة)، يستوفي جملة الشروط الحضارية، وأهمّها على الإطلاق، أن يكون له حضارة، فأي جماعة في نظره تكتسب «صفة المجتمع عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها، وهذا يتّفق من الوجهة التاريخية لحظة انبثاق حضارة معيّنة، أما الجماعات الساكنة فإنّ لها حياة دون غاية فهي تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة. وخلاصة القول: إنّ الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع، وهدف الطبيعة هو مجرّد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدّم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية هو ما نطلق عليه اسم الحضارة»[25].
تبعًا لهذا الارتباط الذي أكّده مالك بن نبي بين مفهومي التاريخ والحضارة، فإنّ ما يجب الحرص على دوره في هذا السياق تحديدًا هو تأثير العوالم الثلاثة الآتية: عالم الأشخاص - عالم الأفكار - عالم الأشياء، يقول مالك بن نبي: «لكن هذه العوالم الثلاثة لا تعمل متفرّقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقًا لنماذج أيديولوجية في عالم الأفكار، يتمّ تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء من أجل غاية يحدّدها عالم الأشخاص [...] وكما أنّ وحدة هذا العمل التاريخي ضرورة فإنّ توافق هذه الوحدة مع الغاية منها، وهي التي تنسجم في صورة حضارة، يعد ضرورة أيضًا»[26].
يعني هذا -حسب بن نبي- أنّ صناعة التاريخ وممارسة الحق المشروع في التحضّر، يتطلّب إعطاء كل عالم من العوالم الثلاثة السابقة الذكر ما يقتضيه من شروط، ويتمّ هذا وفق مناهج علمية مدروسة مؤكّدة النتائج، فالنجاعة مطلوبة، لأنّ المشروع مشروع أمة بأكملها، وليس مشروع فرد أو جماعة ما فقط، لذلك كان لزامًا أن تحدّد الأهداف وتدرس بعمق، لتتطابق النتائج مع المقدّمات، وإلَّا كان العمل ناقصًا ومحدود الفكرة والمنهج والمسار[27].
وفي هذا السياق يذهب المفكّر عمار طالبي، موضّحًا قيمة العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، تبعًا لمواقع العالم الإسلامي، حيث يرى أنّ الفكرة في العالم الإسلامي تتّسم بضعف في أساسه المفاهيمي، ولذلك فإنّ هذا المجتمع دخل عالم الأشياء، ولم يدخل بعدُ عالم الأفكار، أي إنّه اكتشف عالم الأشياء قبل عالم الأفكار، ومثل هذا الأمر يوقعه في النزعة الشيئية التي لا يتمّ فيها الالتقاء بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، ومن ثمّة تبقى الفكرة في معزل عن سلاحها والسبب هو فقدانها فعاليتها. ومثل هذه الحقيقة التي يعانيها للأسف العالم الإسلامي عاشها وجرّبها مالك بن نبي، ولا تزال كذلك، واقعًا يرثى له، ينمّ عن فقر في الأفكار يعانيه المجتمع المسلم. ولأنّ مشكلة العالم الإسلامي، هي مشكلة أفكار (تقديم عالم الأشياء على عالم أفكار) فإنّ العالم الإسلامي يفتقر للثروة الرئيسية التي يعوّل عليها، ويفتقر أيضًا إلى ثروة المفاهيم الواضحة التي يتعيّن بها تسوية النزاعات، لا بالأسلحة ولكن بالأفكار.
الأمر الذي يعني -في نظر عمار طالبي- أنّ عالم الأفكار هو الذي يسند عالم الأشياء ويقومه، وبدونه لا يمكن أن تقوم لعالم الأشياء قائمة، و حجته في ذلك أنّ ما حدث لألمانيا خلال الحر ب العالمية الثانية من تحطيم عرفه عالم أشيائها، فقد استنفذت وسائلها وهتكت، وما بقي لها إلَّا عالم أفكارها فأعادت بناء عالم أشيائها من جديد[28].
ما يعني أنّ العنصر الفعّال الذي ساهم في نهوض الإنسان الألماني، إنما هو أفكاره وليس هذا واقعًا قائمًا على الخيال، وإنّما هو واقع حقيقي؛ إذ إنّ ما شمل هذا البلد من دمار وخراب في عالم أشيائه لم يضع له نهاية، بل إنّه استطاع بواسطة ثروته المفاهيمية أن يبني حياته الاجتماعية، وفعلًا أسّس من جديد لوضعه السياسي والاقتصادي في العالم، والعبرة التي يمكن استخلاصها من هذا المثال الحي الذي بيّن من خلاله الإنسان الألماني قيمة الأفكار على الأشياء، وبالتالي فلا يمكن إحداث أي تقديم أو تأخير في علاقة هذه العوالم فيما بينها.
وهكذا، فإنّ تفاعل الفكر مع الواقع الاجتماعي والطبيعي، ومن تفاعل مجموع الشعوب مع الطبيعة والأفكار السائدة، ينتج عنه معادلة جديدة هي دليل على نجاح عملية التحضّر، هذه المعادلة هي المقياس لتوافق الأفكار والأشخاص والأشياء، إنّها معادلة العلاقات الاجتماعية، أو الصيغة الجديدة للمجتمع التي كانت ثمرة التوافق بين هذه العوالم الثلاثة، لأنّ النجاح في تحقيق الترابط، أي تحقيق شبكة العلاقات الاجتماعية دليل على السير في طريق صنع الحضارة[29]. لذا فإنّ الفهم الخاطئ للحضارة الذي يسعى المستعمر ترسيخه في أذهان الشعوب المتخلّفة، المتمثّل في استيراد المنتج الشيئي أو الفكري من العالم الغربي المتقدّم، يحمل بذور فناء الطموح الحضاري للشعوب؛ لأنّ التخلّص من التخلّف لا يكمن في استهلاك ما تنتجه الحضارة الغربية من أشياء وأفكار، بل إنّ المشكلة -في نظر مالك بن نبي- أجملها في القول الآتي: «إنّ مشكلة الحضارة تنحلّ إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت، فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدّس المنتجات، وإنّما بأن نحلّ هذه المشكلات الثلاثة من أساسها»[30].
وفي نطاق هذا المعنى يمكن اعتبار أنّ بناء الحضارة لا يكون بتكديس المنتجات، وإنّما يكون بحلّ هذه المشاكل الثلاثة من أساسها، وهو الأمر الذي يفيد ضمنًا أنّ التجديد عند مالك بن نبي هو عملية بنائية تستهدف إقامة حضارة بواسطة نظام من العلاقات الاجتماعية أو هو تحويل الواقع الاجتماعي المتخلّف إلى مجتمع متقدّم عن طريق شبكة العلاقات الاجتماعية.
وهنا سيبدو لنا أنّ العودة إلى الدور الذي تشارك به العوالم الثلاثة في ذلك أمر لا يمكن تجاوزه، إذ إنّ التغيير الاجتماعي هو من صنع الأشخاص والأفكار والأشياء، ولا بد من وجود رابط ضروري بين هذه العوالم حتى يؤدّي التغيير الاجتماعي وظيفته، وتتحقّق الغاية الحضارية المرجوة من ذلك، ومن ثمّة فإنّ لهذا الارتباط بين هذه العوالم الذي تحقّقه شبكة العلاقات الاجتماعية، هو التحرّر من سلطة التخلّف، مع تحقيق البناء الحضاري المرغوب فيه، في جانبيه الشيئي والفكري.
يقول مالك بن نبي: «إنّ علينا أن ندرك بأنّ تكديس منتجات الحضارة الغربية لا يأتي بالحضارة [...] فالحضارة هي التي تكوّن منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكوّن حضارة، إذ من البديهي أنّ الأسباب هي التي تكوّن النتائج وليس العكس، فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي لأنّنا لو حاولنا هذه المحاولة، فإنّنا سنبقى ألف سنة ونحن نكدّس ثم لا نخرج بشيء»[31].
إذن، يبدو واضحًا من خلال ما سبق أنّ محور اهتمام مالك بن نبي سيتركّز في جانب كبير منه حول حلّ مشكلة الحضارة وما يرتبط بهذه الأخيرة من مشاكل رئيسة حصرها ابن نبي في مشاكل: الإنسان والتراب والوقت؛ لأنّ الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي -في نظره- ليست أزمة سياسية كما ذهب إلى ذلك الأفغاني، أو أزمة عقيدة كما نظّر لها محمد عبده، أو مشكلة أصالة ومعاصرة، بقدر ما هي سوء فهم للمعنى الحقيقي للحضارة؛ «لأنّ الحضارة عند مالك بن نبي إنمّا هي ثمرة لفكرة رئيسية مطبوعة على مجتمع ما قبل الحضارة تدفعه للدخول في التاريخ، والبعد الروحي عنصر أساسي في المبررات التي تدفع الإنسان وتغذّيه وتحدّد أفعاله، إنّ الفكرة قوة نفسية، إنّها إجابة للفراغ الكوني الذي يشعر به الإنسان ويغمره عند خلّوه بنفسه [...] فالإنسان الحائر المندهش يمتلك هذه الفكرة أو تلك، التي تجعله يشعر أنّ لحياته معنى، وبحضوره في هذا العالم الواسع الذي يصبح وجوده به منتظمًا، تعطيه هذه الفكرة توتّرًا وشدّة لأفعاله واتّجاها لأفكاره، ويصبح هذا الإنسان الطبيعي إنسانًا حكيمًا»[32].
بهذا الفهم لمشكلة للحضارة الذي يتداخل مع عالم الأفكار في إحدى جوانبه، لا بد من التأكيد في هذا السياق على أنّ الميزة الأساسية للحضارة، تنبع من روح الدين، إذ يوكل له دور التركيب بين عناصر الحضارة -الإنسان والتراب والوقت- والعوالم الثلاثة، إذ من غير الممكن تغييبه أو تهميش دوره، فهو ثابت، ومؤكد[33].
وهنا يتبيّن لنا أنّ عناصر الحضارة لن تجدي نفعًا في منأى عن الدين، ومن ثمّة فإنّ غيابه يعني فقدان هذه العناصر لفاعليتها الحضارية، فالعامل الحضاري حاضر في كل آن، وفي الروح الإنسانية التي تحدّد مساره، نحو تحقيق تحرّر الإنسان وكرامته، أو نحو العمل على استبعاده وتلويث أخلاقه، حتى يفقد حصانة الضمير الإيمانية التي تعصمه عن السقوط وتحفزه من أجل التقدّم[34].
في ضوء هذا المنظور للتجديد الحضاري عند ابن نبي المنبثق من فلسفة حضارية واعية، يبدو لنا أنّه سعى لإيجاد الصيغة الملائمة لبلورة فكرته القائمة على وجود المركّب الحضاري المتمثّل في العامل الديني الذي يُوجد الفرص المدعمة للناتج الحضاري المرغوب فيه، الذي يتماشى مع الغايات التي يسطّرها عالم الأشخاص، وتحقّق في الآن عينه الفاعلية والتغيير نحو الأفضل.
خاصة إذا تبيّن لنا أنّ ابن نبي قد حرص في مشروعه الحضاري على التأصيل الشرعي لصياغة علاقة الفكرة بالواقع، وتحويل الأقوال إلى أفعال، حيث إنّ العمل بعكس ذلك فيه مخالفة للأمر الإلهي، وهذا مصداق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[35].
إنّ ما جاء في الآيتين الكريمتين في علاقته بمشروع ابن نبي الحضاري، يمثّل قاعدة دينية تحثّ الفرد المسلم على الالتزام في عمله بالفكرة التي ستشكّل المشروع الحضاري الذي تَمَّ التقعيد له من منطلق القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أولًا، ثمّ واقع الأمة الإسلامية الحضاري في علاقته بالعالم الغربي المتقدّم ثانيًا؛ لأنّ اقتران الفكرة بالفعل (العمل) هو أساس التقدّم.
ويترتب على ذلك أنّ التصوّر الحضاري الذي أسّس له مالك بن نبي، يحقّق ذلك التمايز بين خصائص مجتمع حضاري عن مجتمع حضاري آخر، ومن ثمّة فإنّ رؤية ابن نبي الحضارية تروم تحقيق بناء متوافق في الوسط الاجتماعي الواحد؛ لأنّ التقدّم -كما يصورّه ابن نبي- لا يستثني فئة دون فئة أخرى في المجتمع الواحد، فهو يشمل كل أفراد المجتمع الواحد، وغير هذا لا يمكن أن يتحقّق التقدّم الحضاري.
في هذا المعنى يقول ابن نبي ما نصّه: «فالخليفة المسلم والراعي المسلم يتّصفان بسلوك واحد لأنّ جذور شخصيتهما تغور في أرض واحدة، هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية، والطبيب الإنجليزي والطبيب المسلم يختلف سلوكهما لأنّ جذورهما لا تغوص في الأرض نفسها، على الرغم من أنّ تكوينهما المهني يتمّ في إطار واحد. فلكل ثقافة وجودها الخاص، الذي تزداد معه قدرتها على التمييز كلما تغيّر المستوى الاجتماعي لجانبي الموازنة»[36].
وكأنّ المراد تأكيده في هذا السياق هو أنّ الحضارة ليست محاكاةً وتقليدًا، بل هي حركة وتغيير يقوم بهما أفراد المجتمع بأكمله، بهدف الوصول إلى غايات مسطّرة ومحدّدة؛ إذ إنّ العمل بغير هذا، أي تحقيق بناء حضاري على حساب التكديس الشيئي للحضارة، سيجعل أفراد المجتمع أفرادًا يعيشون في واقع غير واقعهم، ويفكّرون بأسلوب منافٍ للواقع الذي يعيشونه، يقول مالك بن نبي: «إنّ الكلمة لمن روح القدس، إنّها تساهم إلى حدٍّ بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد الشديد، إذ تدخل إلى سويداء قلبه، فتستقر معانيها فيه، لتحوّله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة»[37].
فأصل هذه الكلمة هو العقيدة والواقع الاجتماعي معًا، ومن ثمّة لها وزنها وأثرها الفاعلين في إحداث التغيير، أي البناء والتشييد وبالتالي تحقيق رسالة المسلم الحضارية، عكس الكلمة التي لا تحقّق سوى الهدم والتخريب، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[38].
بهذا الاقتران بين مفهومي الثقافة والحضارة الذي انتهى إليه ابن نبي تبعًا لتحليله لمشكل الأمة الإسلامية الحضاري، الذي يرتبط من جهة بخصوصية البنية الاجتماعية للمجتمع الإسلامي، ومن جهة أخرى فهو يعكس ثقافته، ذلك أنّ ابن نبي استعان في إطار معالجته لمشكل الحضارة الذي تعانيه الأمة الإسلامية ببلورة المشروع الثقافي الفكري، الذي سيكون في نظره واقي الأمة الإسلامية من خطر الانحلال الحضاري من جراء الاستعمار وتأثيراته المختلفة على جميع مستويات الحياة الاجتماعية.
لهذا فإنّ التداخل بدا منطقيًّا وضروريًّا بين مفهومي الثقافة والحضارة في فكر ابن نبي الحضاري، يقول ابن نبي عن مفهوم الثقافة هي: «مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يتلقّاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، فالثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكّل فيه الفرد طباعه وشخصيته [...] فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرّك في نطاقه الإنسان المتحضّر، وهكذا نرى أنّ هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي معطيات الإنسان ومعطيات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد»[39].
وهنا سيبدو لنا الأمر أكثر جلاء، حيث إنّ المسألة الثقافية ستلخّص في نظر ابن نبي تجربة الأمة الإسلامية بما في ذلك وعيّها بذاتها ومحيطها، فهي تشكّل من هذا المنطلق تلك الإطلالة التي تسمح وتمنح الفرد المسلم أن يكون على علم بما يجري في العالم الخارجي من تطوّر وتقدّم، ومن هنا تتحوّل هذه الصورة الثقافية التي أطّر لها ابن نبي إلى ثقافة فاعلة وإيجابية، تساهم في نقل أفراد المجتمع من حال الاستيراد الحضاري والتكديس الشيئي إلى حال المشاركة الحضارية الفاعلة.
وعليه، فإنّ مسعى المشروع الحضاري الذي أسّس له ابن نبي، حيث يشكّل وضع الأمة الإسلامية فيه الموجّه والضابط لمسار الحركة الحضارية في العالم الإسلامي والواعي للواقع، والمؤطّر لتطلّعات المستقبل، وبذلك فإنّ بناء الحضارة يكون بإعادة الاعتبار لدور المسلم، وحتى يستطيع المسلم ممارسة وأداء رسالته على أكمل وجه، فلا بد عليه أن يبدأ أولى خطوات رسالته الحضارية، بتجديد أفكاره التي تشكّل القاعدة الفكرية لما هو شيئي، وهذا وفق أهداف يحدّدها هو ذاته، بعيدًا عن وصاية المستعمر الذي يروم غرس حضارته أفكارًا وأشياء.
الخاتمة
إنّ تحليلنا المقتضب لمفهوم التجديد في فكر مالك بن نبي، انتهى بنا إلى أنّ المسلك الإصلاحي الذي انتهجه ابن نبي يؤكّد ضرورة الاتّجاه بدءًا إلى ضرورة بناء وتكوين شخصية المسلم المعاصر على أسس ومنطلقات روحية، عقدية، دينية مستمّدة من منبع الدين الإسلامي الحنيف.
كما يؤكّد أيضا الاجتهاد والعمل الذاتي دون اللجوء إلى استيراد ما هو غربي سواء كان فكريًّا أو شيئيًّا، والسبب مردّه تباين بيئتي الإسلام والغرب ثقافيًّا وحضاريًّا، إضافة إلى هذا وهو الأهم، فإنّ مشروع التجديد الحضاري الذي أسّس له ابن نبي سيحرّر الشخصية الإسلامية من سيطرة الغرب بشكل أو بآخر.
هذا، كما يمكن أن نستفيد من مفهوم التجديد في فكر ابن نبي، من خلال استثماره في حدود الرقعة الجغرافية الإسلامية، لأنّ منطلق تصوره الحضاري عماده شروط خاصة تتماشى مع البيئة الثقافية الإسلامية، ومن ثمّة فإنّ فعالية هذا التصوّر الحضاري الذي أسّس له ابن نبي ستتحقّق فعاليته مادام أنّه يرتبط بهذه البيئة.
وهنا سيبدو لنا أكثر جلاء الحلّ الذي قدّمه ابن نبي لمشكلة الحضارة، هذه الأخيرة التي تستدعي حلّ مشكلات: الإنسان والتراب والوقت، وغياب إحداها يعني اختلال توازن معادلة الحضارة (حضارة = إنسان + تراب + وقت) والأهم من هذا أنّ الإنسان هو الذي يحدّد في نهاية الأمر القيمة الاجتماعية لهذه المعادلة، لأنّ عنصري التراب والوقت لا يقومان بأي تغيير اجتماعي إذا اقتصر الأمر عليهما وحدهما، يعني هذا أنّ العنصر الفعّال في هذه المعادلة هو الإنسان، أي إنّ نهوض الأمة الإسلامية، واستعادتها لمكانتها الحضارية مرهون بقيمة أفكاره، مادام أنّ الإنسان هو محور العملية الحضارية في مشروع ابن نبي التجديدي.
ما هو أكيد أنّ الإنسان هو معيار التقدّم الحضاري، إذ إنّ صلاح المجتمع وفساده مرهون بصلاح الفرد وفساده، لذلك نرى أنّ ابن نبي يولي لمسألة الإنسان محور العملية الحضارية اهتمامًا كبيرًا في مشروعه الحضاري، كما يتّضح لنا هذا الأمر أكثر حين يجعل من عالم الأفكار المورد الفكري الذي يُنشئ عالم الأشياء، ومن دونه لا يمكن الحديث عن حضارة وليدة البيئة والشروط الإسلامية، وما يزيد المسألة يقينًا ارتباط مشروع ابن نبي بالدين كعنصر فعّال لا يمكن تجاهله أو الانتقاص من دوره في بناء الحضارة.
إنّ اهتمام ابن نبي بنهضة الأمة الإسلامية من التخلّف الذي تعيشه، هو في الحقيقة اهتمام يعكس انشغاله بمأساة شعبه، وبمعاناة الأمة الإسلامية، وبغيرته على وطنه وأمته، وقد كان مشروعه الحضاري تشخيصًا للأسباب التي انتهت بالعالم الإسلامي إلى هذا الوضع الحضاري المتردّي، مع تقديم الحلول المناسبة والملائمة لذلك.
خاصة إذا تبيّن لنا أنّ الاستعمار شارك بقسط كبير في هذا الوضع الحضاري الذي لا تحسد عليه الأمة الإسلامية، نظرًا لما تركه من مخلّفات، اعتبرت بالنسبة إلى ابن نبي بمثابة نداء للنهوض بالعالم الإسلامي والأخذ بيده نحو طريق الحضارة والتقدّم.
إنّ ابن نبي أوكل لنفسه مهمة انتشال الأمة الإسلامية من قهر التخلّف، ومن استعباد الغرب المتقدّم خاصة أنّ سابقيه من المنظرين لمشاريع التجديد في العالم الإسلامي اعتبروا أنّ الحلّ الأمثل لتجاوز هذه الأزمة الحضارية هو الحرص على استيراد قدر الإمكان المنتجات المادية للحضارة الغربية، أي حصر التقدّم الحضاري في التكديس الشيئي.
تلك هي أهم ملامح رؤية مالك بن نبي للتجديد الحضاري، ودوره في رسم الصورة الحضارية التي ينبغي أن يكون عليها حال المسلم والعالم الإسلامي، وهذا في مقابل رفض ما تقدّمه الحضارة الغربية من أفكار وأشياء التي اعتبرها ثلّة من المفكرين النموذج الواجب تقليده.
ولهذا فمفهوم التجديد في مفهوم ابن نبي يرتبط ارتباطًا عضويًّا بشروط وبخصوصية بنية المجتمع الإسلامي الحضارية، فتصوّره انبثق من رحم هذه البيئة الإسلامية، لذا فإنّ اعتبارهما وجهين لشيء واحد أمر لا مناص من الاعتراف به.
والأهم من هذا، إنّ دقة معالجته للقضايا والمشكلات الاجتماعية التي تشكّل مجتمعة مشروعه الحضاري، قد كشفت عن منهجه العلمي الدقيق الذي ميّزته التحليل والتركيب، فكان بهذا متفردًا في طريقة تناوله لأوضاع الأمة الإسلامية الحضارية، فكان المبّشر بالدور القيادي للأمة الإسلامية على سائر الأمم الأخرى، وهذا انطلاقًا من واقع ومعطيات واقعية وتاريخية.
إنّ ابن نبي، من خلال هذا التميّز في عرض وصياغة مشكلات مشروعه الحضاري، يكون قد حدّد الأدوات الفكرية الضرورية المناسبة، التي اقتضاها مفهوم التجديد عنده، الذي كانت بدايته الإنسان كمحور للتغيير، وأما نهايته فهي تحصيل التجاوب، وهو النتيجة المرجوة والمرتقبة من مفهوم التجديد في فكر مالك بن نبي، التي سيحمل لواءها من بعده تلامذته المنتشرين على امتداد الرقعة الجغرافية الإسلامية.
[1] أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرًا إصلاحيًّا، بيروت: دار النفائس، الطبعة الأولى، 1984، ص108.
[2] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي، دمشق، سوريا: دار الفكر، ط3، 1979، ص21.
[3] أسعد السحمراني، المرجع السابق، ص109.
[4] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص22.
[5] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، بيروت، لبنان: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1970، ص52.
[6] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص110.
[7] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص54.
[8] المصدر نفسه، ص54.
[9] سورة الرعد، الآية: 9.
[10] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص192.
[11] المصدر نفسه، ص55.
[12] أسعد السحمراني، المرجع السابق، ص112.
[13] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، سوريا: دار الفكر، الطبعة الرابعة، 1984، ص72.
[14] المصدر نفسه، ص72.
[15] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص23 - 24.
[16] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص60.
[17] المصدر نفسه، ص76 - 77.
[18] المصدر نفسه، ص77 - 78.
[19] آمنة تشيكو، مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وأرنولد توينبي، الجزائر العاصمة: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1989، ص9.
[20] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص82.
[21] د. حسن حنفي، التراث والتجديد، بيروت، لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة، 2002، ص176.
[22] مالك بن نبي، القضايا الكبرى، تقديم: عمر مسقاوي، بيروت: دار الفكر المعاصر، دمشق: دار الفكر، ط1، 1991، ص13.
[23] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: الدكتور بسام بركة والدكتور أحمد شعبو، إشراف وتقديم: عمر مسقاوي، بيروت: دار الفكرالمعاصر، دمشق، سوريا: دار الفكر، ط1، 2002، ص42.
[24] سورة آل عمران، الآية: 109.
[25] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، سوريا: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1974، ص16.
[26] المصدر نفسه، ص:23 - 24.
[27] بشير ضيف الله، فلسفة الحضارة في فكر مالك بن نبي، الجزائر: منشورات المجلس الإسلامي الأعلى، 2004، ص98.
[28] عمار طالبي، التجديد في الفكر عند مالك بن نبي، جريدة البصائر، العدد 435، 15 - 21 مارس 2009 ص24.
[29] أسعد السحمراني، مرجع سابق، ص147.
[30] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص45.
[31] مالك بن نبي، تأملات، دمشق، سوريا: دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1978، ص167.
[32] عمار طالبي، التجديد في الفكر عند مالك بن نبي، جريدة البصائر، مصدر سابق.
[33] بشير ضيف الله، المرجع السابق، ص73.
[34] أسعد السحمراني، المرجع السابق، ص149.
[35] سورة الصف، الآيتان:2 - 3.
[36] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص52.
[37] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص22.
[38] سورة إبراهيم، الآيات:24 - 26.
[39] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص83.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.