تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المعرفة العلمية والأزمة .. قراءة في البنية والتحول

فوعيش جمال الدين

المعرفة العلمية والأزمة..

قراءة في البنية والتحول

الدكتور ڤوعيش جمال الدين*

* أستاذ محاضر، جامعة الجزائر 2، قسم الفلسفة.

 

 

* تقديم

مثّل العلم ولا يزال في اللاوعي الجمعي للإنسانية، ما كان يمثله النهج الأسطوري قديماً فيه، فالأسطورة كانت تشكّل الموروث الذي تبنى عليه وتنتظم باتّجاهه كافة المعارف والتصورات. وكان كافة أفراد المجتمع، يشكّلون «خيوطاً متداخلة» في نسيج الأسطورة الذي لا حدود لاتّساعه. بل إنّ «الآلهة» نفسها، كانت تخضع لسحر هذا العالم الأساطيري.

وهكذا كانت الأسطورة بكل ما يحوم حولها من أعراف وطقوس وعبادات، تمثل بحد ذاتها، ذلك «البطل» الكامن في أعماق كل إنسان، القادر على تحدي الكائنات –بل وحتى الآلهة– للوصول إلى هدفه. بل إنّها كانت تصوّر بكل تفاصيلها ذلك الصراع المتفجّر في أعماق الإنسانية بين الظاهر والباطن، بين ما يدرك وما لا يدرك. وفي اللاوعي المشترك للإنسانية، كانت الأسطورة تثبت باستمرار إيماناً متعاظماً بقدرة الإنسان، وبقوى كلّية تحكم وجوده وتسيّر الطبيعة من حوله. لقد كانت الأسطورة والعبادات القديمة وكافة معارف وعلوم «الإنسان الأول» عبارة عن انعكاسات نفسية ناجمة عن توترات بين العقل والنفس، لكنّها كانت نذيرة ولادة منظور جديد للإدراك يتفتّح فيه العقل عن مقدرات شمولية متناغمة ومقدرات النفس البشرية. وكانت الأسطورة كذلك، نموذجاً سيكولوجيًّا في جوهره، لا تتعدى نسبة تدخل العقل فيه حدود التفسير الذي كانت تتقبّله النفس.

وكما الأسطورة قديماً كذلك هو العلم اليوم، هو ركيزة؛ أي منهج معرفي جديد. في حين، بات يشمل بأبحاثه وبنتائجه كافة مظاهر الطبيعة والكائنات، فإنّه لا يزال يعكس ذلك البحث المعرفي وإرادة كسر حواجز المجهول (Unknown). وعليه، فقد حلّ العلم بجدارة محل الأسطورة في تمثيله للبطولة المعرفية، فهو منقّب في كل شيء، وطامح إلى كل شيء، وواطئ لكل أرض. ولهذا، فهو يتحدى الطبيعة بدوره، لكنّه يتحدى أيضاً الإنسان نفسه بكل تراثه الأخلاقي والنفساني والتاريخي.

ذلك أنّ «أخلاق العلم» (Morale of Science) تختلف عن أخلاق الأسطورة؛ العلم هو كذلك رد فعل على «السلوكات الأزموية» في الإنسان، لكنه ردّ غالباً ما يطغى فيه العقل على النفس، بدلاً من نموّهما معاً بـ«شكل متوازن». وهكذا، على الرغم من الإنجازات الكبرى التي عهدت إلى المعرفة النفسية عبر القرون، «تجاهل العلم» أهمية النفس الإنسانية، بل وعمل على إخضاعها له. فليس من عارف في الإنسان سوى عقله، وليس من قادر على بناء «أسطورة حقيقية»؛ أسطورة قائمة على منجزات محسوسة، سوى العلم. لكن الأسطورة، كانت تسجيلاً لصراع الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة، وكانت تستخلص التناغم من هذا الصراع. فكانت، في جوهرها، أسطورة داخلية يعيشها الإنسان، وتعبّر عن صراع حقيقي فيه لتحقيق تفتح الوعي.

ولهذا، كانت الأسطورة «تهبه» حرية داخلية، هي حرية أخلاقية، تدعم وجوده النفسي بالدرجة الأولى وتوازن هذا الوجود مع البيئة التي تكتنفه. أمّا العلم، فلم يشأ أن يترك لغير العقل أن يخط على صفحات النفس الإنسانية أسطورته. فهو القادر للسيطرة على الطبيعة وعلى استخلاص ثرواتها وعلى فهم ألغازها واستغلالها، لا بل وعلى فهم النفس الإنسانية أيضاً بحصر المعنى. وهكذا، تحوّل صراع الإنسان المعرفي مع الطبيعة إلى أزمة قائمة بذاتها، وتحوّل تناغمه مع نفسه إلى تنافر مستمر.

إنّ الإنسان لا يستطيع أن يشعر بالتوازن وهو يرى أنّه «موجّه معرفيًّا» باتّجاه وحيد، فطبيعة الإنسان طبيعة تعددية، ولهذا فهو يريد أن يرى الوحدة من خلال عالم الكثرة. لكن العلم يمنعه من تمثل هذه الوحدة فيه، إذ ينهج به عن طريق العقل فقط إلى رؤية الكثرة في الكثرة، وبذلك فإنّه يخل بالتوازن الأساسي في الإنسان بين عقله ونفسه.

ولا شك في أنّ المعرفة السيكولوجية كانت تمر كذلك عبر العصور بأزمات مختلفة، لكنّها كانت تؤدي دوماً إلى تجدد الأسطورة (أي الوعي الأسطوري). بل إنّ نكسات الحروب مثلاً، كانت كثيراً ما تتحول إلى «نصر أسطوري» يداوي جراح النفس. وهكذا، كانت هذه الأزمات، تتحول إلى أسطورة «إيجابية - داعمة»، وتنتهي إلى تفتح جديد على صعيد العقل[1].

إنّ القرون الطويلة التي عرفتها الصين مثلاً من الازدهار المعرفي، كانت تصعيداً مستمراً لأسطورة نفسية دائمة التجدد في مدارسها الروحية، وانتهت بالوصول إلى توازن نفسي/ عقلي، نجم عنه إنجاز علمي/ معرفي متميّز تاخم القرن العشرين. ولم يكن التقليد الفلسفي/ الميتافيزيائي ليشكّل عائقاً إبستيمولوجيًّا أمام التقدم المعرفي/ العقلي، بل كانت كل خطوة علمية جديدة تشكّل فرصة لتصعيد ذلك التوتر الداخلي ولإيجاد علاقة تناغمية إبداعية جديدة بين العقل والنفس. وقد استمرت الحضارة الصينية على هذا النحو دون انقطاع ثقافي يذكر. وينطبق الأمر نفسه على الهند وبلاد فارس والشرق القديم، ومصر واليونان وعلى حضارات أمريكا القديمة، إنّما ضمن انقطاعات ثقافية واسعة.

عند قراءة أساطير المايا والأزتيك (Maya and Aztec) مثلاً، لا يمكن النظر إليها كخرافات شعوب بدائية لا تستحق المقارنة بالإنجازات العلمية الحالية، فهذه الأساطير كانت تشكّل -على المستوى السيكولوجي- ركائز حيّة للتفاعل مع الطبيعة والوجود ولفهم الإنسان والكون. ولم يكن تطوير هذه الأساطير ليشكّل عائقاً على الصعيد النفسي، بل إغناءً ضروريًّا له. إنّ الأضاحي البشرية ومختلف القرابين، التي كان يقدّمها الهنود أو المصريون أو الأزتيك، هي بمثابة رمز لمعاناة تلك الشعوب والتحفّز النفسي الذي كان يلازمها ويتصعّد فيها لتحقيق قفزة جريئة على مستوى إدراك حقيقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

قد «يحرم العلم» الإنسان من روح المشاركة (Participation Spirit)، ومن شفافية أسطورته النفسية. وقد يحرمه كذلك، من المشاركة في همّ وجودي يجمعه مع بني جنسه، وفي شعور إنساني عام، وفي معرفة الحقيقة بمنظورها النفسي/ العقلي المتوازن.

فقد قلّص الهم الوجودي إلى حاجة استهلاكية، والمشاركة في المعرفة، تحوّلت إلى تخصصات وفروع متباينة، تزيد من تباعد الإنسان عن الإنسان، وحتى الشعور الإنساني أصبح «خبراً إعلاميًّا».

لقد «شقّ العلم لنفسه» طريقاً مختلفاً في فهم الطبيعة، إنّه طريق من يريد أن يستغل الطبيعة ويسيطر عليها، لا من يريد فهمها والتناغم معها. ولهذا، فقد أهمل -إلى حد كبير- القيم النفسية والأخلاقية، وسعى إلى بسط سيادته المصطنعة. فمن منظور نفسي – تاريخي، نرى كيف أنّ خطاب العلم المعاصر، لا ينفكّ يستعجل الإنجازات المتراكمة، وقد يكون «استعجاله» ذاك سوى تعويض نفسي لشعور متزايد بنقص معارفه، أمام الزخم الهائل من التساؤلات التي تؤدي أبحاثه إلى الكشف عنها، والتي تطرح مسائل أكثر فأكثر عمقاً وتعقيداً.

لقد «أهمل العلم» عنصر الزمن، كـ«مرشد حقيقي» إلى المعرفة وأراد تخطيه، فالمعرفة الأصيلة كانت دائماً معرفة بطيئة في تسارعها، لأنّ هذا التسارع كان موكلاً للطبيعة، أو بالأحرى، كان جزءاً منها. ولأنّ الانتظام النفسي مع الطبيعة، وعدم الشعور بالفوقية في التعامل معها، كان يوفر للإنسان شرطاً دقيقاً وجوهريًّا لاتّباع إيقاعها الخاص في التطور.

خرج العلم المعاصر عن هذا الإيقاع، وبدا أنّه فقد اللحن الأساسي تدريجيًّا، وباتت جملته اللحنية عبارة عن تراكم معلوماتي لا تصوغه أيّة أسطورة على الإطلاق. ولئن «لم يع» العلم في بداياته تسارع خطواته وعدم اتّساقها مع التطور النفسي والكلّي وعدم تناغمها ضمن حد أدنى مع الطبيعة، فإنّ عليه اليوم أن يعي ذلك، لا بل وأن يتّخذ موقفاً حاسماً تجاهه.

إذا كان العلم على المستويات السابقة (اجتماعيًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا)، لا يستطيع تمييز تقدّمه المعرفي عن تقدّمه التقني، فلا شك في أنّه سيقع في أزمة معرفية كبرى، بدأت بوادرها تلوح في الأفق. فالإنسان إمّا أن يكوّن العارف وموضوع المعرفة معاً، أو أن يكون مجرد أداة اختبار. وبين الحالة الأولى التي تطرح نظريًّا، والحالة الثانية التي تطبّق عمليًّا، تتّسع المسافة ويزداد الشقاق.

أصبح العلم اليوم ينحو إلى «تصنيع الإنسان» وفق مقاييس مفترضة، كما يسعى إلى تشكيل حقيقة علمية تتآلف فيها المعلومات والنظريات والقوى المعروفة. فمعرفة الجوهر لم تعد تشكّل بالنسبة له المرشد الحقيقي في بحثه، أو حتى أنّ هذه المعرفة تتلاشى تدريجيًّا لتحل محلها معرفة اختبارية إحصائية خالصة. وبالتالي، فإنّ القيمة المعرفية بذاتها تتضاءل، في حين تنمو مكانها قيمة اختبارية. وهذه الأخيرة لا تكون بالضرورة محرضاً معرفيًّا، بل إنّ لجوء العلماء بشكل متزايد إلى قواعد الاختبار والإحصاء يزيد من إضعاف مقدرته الحدسية.

من ناحية أخرى، فإنّ البرهان في الإطار التجريبي لا يحتّم تقدماً في الإطار المعرفي، ومع أنّ التجربة يمكن أن تظل باعثاً حيًّا لنظريات جديدة، لكن التجربة بذاتها لا تكفي لبناء أيّة نظرية ما لم يدعمها حدس ورؤيا العالم. فضلاً عن ذلك، فإنّ التجربة، كبرهان معرفي، تفقد قيمتها الفعلية عندما يتعلّق الأمر بأسئلة جوهرية حول المادة أو الطاقة أو الحياة. ثم أليس أنّ جلاء مفهوم ما يتطلب تطوراً على الصعيد الإنساني نفسه، نفسيًّا ومنطقيًّا، بل وفسيولوجيًّا أحياناً، قبل أيّة محاولة لفهم تجريبي له؟

الأزمة لا زالت قائمة: إنّها أزمة التشخيص (Representation) في علم البيولوجيا النظرية، وهي في أساسها أزمة ذات منحى فلسفي قائم على التساؤل حول كيفية توصيف كائن حيّ؟ فوصف الواقع الفيزيائي، بكيفية علمية، بحاجة إلى بعض الأبنية الفكرية القائمة على بعض المبادئ العامة، التي تشكّل في مجملها ما يسمّى بـالنظرية العلمية. لكن البيولوجيا -بصفته علم أحياء– لا يملك العتاد القاعدي الذي ملكه علم الفيزياء، والذي يسمح بتناول صورة مجردة للمواضيع التي يدرسها. طبعاً كل نموذج خاص، يعمل على وصف وتشخيص طريقة عمل أيّ جهاز معيّن (Organ) فـقانون كيميائي ما يسمح بـشرح تفاعل ما، لكن الإشكال يظهر عندما نفتقد لمبدأ يسمح بتوظيف نماذج خاصة بمنظور فيزيائي، لأنّ النماذج الفيزيائية تخضع لتغيّر غير متوقع، ولا يمكن وضع نوع من الرزنامة العلمية لجدولة تعاقبها المستمر...[2]

وبناءً على هذا الطرح، تبقى آفاق المعرفة الإنسانية بدون إطار نظري أو تجريبي، بل يعوزها باعث داخلي أهم بما لا يقاس من أيّة عوامل خارجية، كالتجربة أو الظاهرة. والحق أنّ العلماء اليوم، قد يفقدون شيئاً فشيئاً من روح المغامرة إزاء الكون، والهاجس المعرفي في داخله سرعان ما يقلّص بعد تخصّصات متلاحقة إلى مجرد فضول اختصاصي أو وظيفي. وهكذا تحل المبادرة الضعيفة، المحكومة بمنهجيات آلية وإحصائية قاتلة، محل روح المغامرة التي كانت سبباً مباشراً من أسباب انطلاقة العلم. ويكمن سبب هذا التحول في انعدام النظرة الشمولية لدى العلماء، أو غيابها إلى حد كبير. والمغامرة المعرفية ليست وليدة نظرة ضيّقة ولا تولد من تربية منهجية محددة بعوامل صارمة. بل هي صراع مستمر من أجل تخطي الحواجز؛ وهي بحاجة دائماً إلى عوامل سيكولوجية تشجّع على تدفقها واستمرارها.

إنّ الوضع الحالي للعلم ومناهجه في العالم لا يشجع كثيراً على ذلك، والسبب الجوهري الذي أدى إلى هذا الوضع هو تخلخل البنية النفسية/ العقلية لدى هؤلاء العلماء. فالبحث العلمي لم يعد تعبيراً عن ارتقاء متوازن للنفس وللعقل في صيرورة تطورهما، بل مجرد انعكاس باهت في معظم الأحيان للغليان النفسي والجموح العقلي ضمن إطار تجزيئي محدود للموضوع المدروس. ولئن كانت ثمة استثناءات قليلة، فإنّما هي التي كان يعوّل عليها دائماً في فتح الآفاق المعرفية الجديدة. إنّ روح المغامرة عند العلماء هذه، كانت تكمن دوما في البحث عن حلول شمولية وكلّية.

حيث كانت البنية النفسية/ العقلية للعالم حتى مطلع القرن العشرين، تقريباً بنية شمولية تبحث عن صيغ كلّية، وتعتمد، بالتالي، على حدس ناجم بالتأكيد عن توازن نفسي/ عقلي.

إنّ هذا التوازن، هو شرط أساسي لحث روح المغامرة المعرفية، وبالتالي، لتحقيق أيّ إنجاز معرفي. وغنيّ عن القول، أنّ هذا التوازن ينبض بإيقاع الطبيعة، ولا يمكن، بالتالي، أن يولّد معرفة تزيغ في جوهرها عن هذا الإيقاع. وهذا، يفسّر لنا إلى حد كبير تواتر الإنجازات المعرفية الكبرى مع تحولات أساسية في صيرورة التطور الإنساني.

كان كپلر، على سبيل المثال، «منجّماً»، أي أنّه كان منسجماً في بنيته الداخلية مع رؤية كلّية للوجود. وقد استطاع صياغة «قوانينه» في حركة الأجسام السماوية، ليس فقط بسبب تمحيصه ودراسته لكواكب المجموعة الشمسية، بل لأنّه ارتكز أصلاً على يقين الرائي في حدسه للقانون «المختبئ» خلف قناع الظاهرة.

لقد استعمل خياله الرياضي، حيث قال في مؤلفه (سر العالم) (Le secret du monde): «إنّ أول شيء خلقه الله كان هو الجسم، وإذا دققنا النظر جيّداً في التعريف، سنجد أنّ الله بدأ بالجسم كأول خلق، لكن لماذا؟ أقول: إنّ القضية الأساس هي الكم ثم تأتي الماهية (Essence)، وهنا يكتمل الجسم لأداء وظيفته»[3].

يريد أن يقول كپلر، في اعتقادنا، أنّ الله خلق الكم (Quantity) لتحقيق التعارض بين المنحني (Curve) والمستقيم (Right)، حيث أرجع المنحني لله والمستقيم للخلق. وبهذا يمكن بناء نوع من الواقعية الرياضية المنسجمة مع مقاربة الشكل (أشكال الاستقامة والانحناء). وانطلاقاً من أفكار كپلر، ستظهر أولى بوادر الهندسة التحليلية، التي تعمل على «اختزال» التمثل الحدسي لهذه الأشكال وتعبيرهم الجبري.

كذلك، كان نيوتن –الباحث في الخيمياء (Alchemy)– يرى أنّ الكون، عبارة عن علائق متبادلة ومتداخلة بين كافة عناصره، الأمر الذي وفّر له أن يحدس قانون الجاذبية. والأمر ذاته، ينطبق على أينشتاين، الذي أبحر في مغامرته حتى حدودها القصوى وطرح نظرية أقل ما يقال فيها أنّها اتّخذت صبغة كونية. أمّا هايزنبرغ، فقد أراد منذ بدء تعلقه بالفيزياء أن يعرف الجوهر، ولم يحبّذ في البداية اقتراح أستاذه عليه البدء بتجارب جزئية، لم يكن يعرف أنّها يمكن أن تساهم في بناء نظرية كونية.

وعلى هذا المستوى من البحث، سنجد لاحقاً، أنّ أعمال پلانك وبور وديراك وپاولي وغيرهم، كانت أعمالاً جوهرية وكلّية في مضمونها، بما اشتقته من التجارب الجزئية من نظريات كلّية. ولئن بلغ العلم يوماً مرحلة أبعد بكثير من هذه النظريات، لكنّه سيظل يلتفت دون شك إلى ما قدمه بناة النظرية الكوانتية من تصورات تشمل الوجود كلّه.

مع أنّ العقود الأخيرة، تفتقر إلى علماء حاولوا تقديم «نظريات شاملة» تتمتع بروح المغامرة (Adventure Spirit)، لكن بعض الأعمال الجريئة تركت بصمتها دون شك على مسيرة العلم، مثل أعمال عبد السلام وغلاشو وواينبرغ، في إطار «محاولات توحيد» القوتين النووية الضعيفة والكهرطيسية. ومع أنّ عبد السلام وواينبرغ، اعتمدا اعتماداً أساسيًّا على الدراسات الإحصائية، ولم يطرحا تصوراً شاملاً لتوحيد القوى الأربع في الطبيعة، لكنّهما خاضاً مع ذلك ميداناً شائكاً وكان هدفهما في النهاية كبيراً.

ويمكن محاولة الاعتراف بضرورة استمرار الأعمال التجريبية والإحصائية والرصدية، إذا كان الهدف الرئيسي منها في نهاية الأمر طرح «تصور كلّي». فيستطيع الإنسان مثلاً، أن يستشف أهمية ذلك من الدراسات الإيكولوجية المتخصّصة التي تعطينا في مجملها تصوراً كلّيًّا عن دينامية الأرض.

ورغم ذلك، نعود لنؤكد أنّنا نحتاج في المسيرة المعرفية إلى المغامرة أولاً، ولعلّنا نجد في نظرية الأوتار الفائقة[4] (Superstrings Theory)، التي طرحت مؤخراً كمقاربة محتملة لوجودنا، مغامرة كبرى قد تقودنا إلى «عوالم جديدة». لكن ثمة فروعاً كثيرة لا تزال بحاجة إلى مغامرات من هذا الضرب، كعلوم الحياة والتاريخ. نحن نلاحظ في الطب، مثلاً، انحساراً رهيباً لروح البحث الشامل ولفهم الإنسان ككل، لصالح عمليات دقيقة وأبحاث آلية وتفسيرات لا تخلو من «السذاجة»، عندما ترتكز على المنظور المادي الفظ وحده، لفهم الحياة بكلّيتها.

إنّنا لنجد في بعض العلوم كلّية الطابع، مثل الرياضيات النظرية وعلم نشأة الكون، تعويضا هاما عن نقص هذه «الروح الكلية» في العلوم الأخرى، ومحورا حقيقيا لأيّ تقدم حقيقي على المستوى المعرفي. كذلك، فإنّ علم النفس التكاملي، يشكّل معلما بارزا في إطار النظرة الإنسانية المعرفية.

ولا شك في أنّ ك.غ. يونغ[5] (C.G. Yung) [1875م-1961م]، الذي حاول وضع لبنة أساسية في بنائنا المعرفي، عندما حاول بلورة نظرتنا الكلية للتاريخ وللتطور النفسي للإنسان، فأشار إلى العلاقة بين «العقلية الكلاسيكية» والإلحاح النفسي الذي يدعوه باللاوعي الجمعي. إنّ هذا اللاوعي الجمعي، هو الذي يحتفظ لنا بالأمل الكبير بأنّ يوم «المعرفة الأشمل» قادم لا محالة، ذلك أنّ لا وعينا الجمعي هو تاريخنا الحقيقي، وهو أسطورتنا الأولى التي لا تنفكّ تتجدد مع كل علم أو فلسفة، وهو في النهاية مغامرتنا المعرفية الكبرى.

كذلك نجد اليوم، تياراً علميًّا واعياً ظلّ يلاحظ هذا الشقاق بين العلم المعرفي والعلم التجزيئي أو التجريبي. ولسنا نغالي إذا قلنا: إنّ هذا التيار يشكّل بذرة المعرفة المستقبلية للإنسان. ونذكر من ممثليه د. بوهم وإ. پريغوجين وف. كاپرا ور. شيلدريك وغيرهم. ولا يفصل هذا التيار «المعرفة القديمة» -وليست العتيقة- عن المعرفة الجديدة، بل يغذي الثانية بالأولى، ويفهم الأولى في ضوء الثانية.

إنّه تيار يحمل لنا الأمل بإمكانية النهوض وتصحيح المسار، ومع ذلك، فإنّ العلم مطالب معرفيًّا، باتّخاذ قرار حاسم وصريح، تجاه منهجه ككل، وتجاه كافة جوانب تأثيره، ومنه سيعبّر العلم عن مستوى وعي، جدير بمنهج باحث عن الحقيقة.

* العلم وعلم إدارة الأزمات

لكن ما بنية الأزمة، وكيف سبيل إدارتها؟

على الرغم من أنّ الأزمات، قد بدأت مع بداية ظهور الحياة الأولى على الأرض، إلاّ أنّ إدارة الأزمات، لم تتبلور علماً، مفاهيمه وأصوله، إلاّ في النصف الثاني من القرن العشرين. ومرّت دراسة الأزمات بمرحلتين. انتهت أولاهما بعد الحرب العالمية الثانية، وتركّزت دراساتها في السرد التاريخي للأحداث، واستخلاص دروسها المستفادة. أمّا المرحلة الثانية، فقد بدأت في ستينيات القرن العشرين، وتطورت فيها الدراسات، حتى شملت المناهج، وأدوات التحليل العلمي، والاقتراب التدريجي، والانتماء إلى العلوم السياسية.

ويعدّ علم إدارة الأزمات من العلوم الإنسانية حديثة النشأة، حيث أبرزت أهميته التغيّرات العالمية، التي أخلّت بموازين القوى، الإقليمية والعالمية، وأوجبت رصدها وتحليل حركتها واتّجاهاتها. ومن ثم، يكون علم إدارة الأزمات، هو «علم المستقبل»، إذ يعمل على التكيّف مع المتغيّرات، وتحريك الثوابت وقوى الفعل المختلفة، ذات التأثير، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك الثقافي. وإذا كان ذلك العلم من العلوم المستقلة بذاتها، إلاّ أنّه، في الوقت نفسه، يتّصل اتّصالاً مباشراً بالعلوم الإنسانية.

تتعدد أسباب الأزمات بتعدد الصراعات وتنوّعها، فقد تكون لعوامل اقتصادية أو اجتماعية، ناجمة عن ازدياد الفوارق الاجتماعية بين طبقات المجتمع. وتكون عواملها سياسية، قوامها التفاخر القومي والديني في المجتمعات ذات الأعراق والديانات المختلفة، أو الصراعات الحزبية والثقافية، وعدم المشاركة السياسية. كذلك، قد يكون سبب الصراع، في مجتمع ما، هو تباين قيمه ومبادئه، والذي يؤول إلى تنافر إيديولوجي، بين الطوائف الاجتماعية المتباينة، أو بين نظام الحكم والشعب. وبذلك، تتّضح معالم الصراع الداخلي، وتأخذ شكلاً من أشكال المقاومة، حينما تفتقد تسويته الآليات الملائمة والفاعلة، فضلاً عن القدرة على تحقيق التوازن الاجتماعي في الدولة، ما يفقد الحكم شرعيته، ويشعر أبناء المجتمع بالتمزق، وفقدان الهوية، والاغتراب. وبذلك، تكون الأزمة مرحلة من مراحل الصراع، الذي تتّسم به عمليات التفاعل الناشط، أينما وجدت الحياة، وفي أيّ صورة من صورها المختلفة[6].

وظهرت إدارة الأزمات، منذ القدم، من خلال الممارسة العملية؛ فكانت مظهراً من مظاهر تعامل الإنسان مع المواقف الحرجة، التي يواجهها، في إطار مسمّيات، أي مثل: الحنكة، والخبرة الدبلوماسية، وكفاءة القيادة. وكانت هذه الممارسات، هي الاختبار الحقيقي لقدرته على مواجهة الأزمات، وتعامله مع المواقف الصعبة، التي تتمخّض بتفجّر طاقاته الإبداعية.

ولقد اهتدت الجماعات الإنسانية في وقت مبكر من تاريخها، إلى أسلوب آخر، غير الصراع والتنافس، يمكّنها من المحافظة على بقائها واستمرارها وتطورها. وإذا كان مبدأ البقاء للأقوى، قد ساد المراحل الأولى لنشأة الإنسانية، وأودى ببعض الجماعات، المتصارعة على المراعي ومصادر المياه، فإنّ الإنسان، قد تبيّن أنّ التعاون، واقتسام الموارد المتاحة، هما أفضل من الصراع، الذي يعرض الإنسانية لخطر الفناء.

نشأ اصطلاح إدارة الأزمات، في الأصل، من خلال علم الإدارة العامة؛ وذلك للإشارة إلى دور الدولة في مواجهة الكوارث المفاجئة، والظروف الطارئة، مثل: الزلازل والفيضانات والأوبئة والحرائق، والصراعات المسلّحة، والحروب الشاملة. وما لبث أن نما بصفته علماً، ولاسيما في مجال العلاقات الدولية، للإشارة إلى أسلوب إدارة السياسة الخارجية، في مواجهة المواقف الدولية المتوترة. وسرعان ما ازدهر في إطار علم الإدارة، بكونه «أسلوباً جديداً»، تبنّته الأجهزة الحكومية، والمنظمات العامة، لإنجاز مهام عاجلة، وضرورية، أو لحل المواقف الطارئة.

ومن خلال تحقيق تلك المهام، ظهرت إدارة المشروعات، أو فكرة غرفة العمليات، الرامية إلى إدارة المشاكل الحادّة، المتفجّرة، فهي إذا، إدارة أزمات، وتمثّل أحد فروع أو آليات الإدارة، مثل: الإدارة بالأهداف، أو الإدارة العلمية. وبتبلور أسلوب إدارة الأزمات، بدأت تتّضح إمكانية تحويله إلى نمط متكامل، ذي وحدة وظيفية متكاملة، لمعالجة مواقف محددة، تتمثّل في الأزمات والمشاكل الصعبة. ليصبح، بذلك، نمطاً إداريًّا محدد الخصائص، له آلياته الخاصة، لمواجهة تلك المتعددة، والمتتالية، والمتزامنة منها.

اهتم علم الإدارة بتحديد مفهوم الأزمة في علاقته بكافة الجوانب الخاصة بإدارة التنظيم وشروط نجاحه واستمراره، وفي هذا المجال يمكن تقسيم الدراسات في مجال إدارة الأزمات إلى دراسات تناولت إدارة الأزمات بوجه عام، ودراسات تناولت موضوع التخطيط والاستعداد للأزمات ودراسات اهتمت بمديري الأزمات (Managers of Crisis)، وتأثيرهم على قرارات الأزمة، ودراسات اهتمت بعملية اتّخاذ القرارات أثناء الأزمات، إلى جانب مباحث تناولت إمكانية توفير المعلومات وعمليات الاتصال أثناء الأزمات[7].

لقد كان هناك اهتمام بالغ، من جانب المتخصّصين، وعلماء الإدارة العامة، في العصر الحالي، الذي يتّسم بظاهرة المؤسسات، إذ تبنى السياسات العامة للنظم السياسية المعاصرة، للحفاظ على استمرارية سيادة الدولة، وضمان هويتها وأمنها القومي. كما يوجد دور أساسي للسياسات التنموية، في التخطيط والتطوير الإداري، لتأصيل سبل النمو والرفاهية. ويكمّل ذلك الدور السياسات العامة، المتعلّقة بالتوجّهات المستقبلية، واستقراء الأزمات المحتملة؛ إضافة إلى استنتاج التحديات، التي قد تفرضها الأزمة، سواء كانت تحديات سياسية أو إدارية.

واهتم علم إدارة الأزمات بتحديد مفهوم الأزمة، في علاقته بالجوانب كافة، الخاصة بالإدارة وشروط النجاح. ولذلك، تنوّعت الدراسات في مجال إدارة الأزمات، وتعدد اهتماماتها، فمنها ما تناول إدارة الأزمات بعامة، وثمّة ما تناول موضوعات التخطيط والاستعداد لمواجهتها، ودراسات اهتمت بعملية اتخاذ القرارات أثناءها. وأخرى تخصّصت بأسلوب توفير المعلومات، وعملية الاتصالات، إبّان الأزمة. ومن ثم، تعددت مفاهيمها، وتركز بعضها في موقف الأزمة، أو نتائجها، الإيجابية أو السلبية.

وفي هذا الإطار، كان الاهتمام بالإجراءات الوقائية، أو الاستجابة المطلوبة. وتحدد مفهوم الأزمة، من وجهة نظر علم الإدارة، بأنّه حالة أو موقف، يتّسم بالتهديد الشديد للمصالح والأهداف الجوهرية؛ وكذلك، يتّسم بضغط الوقت، أو الضغط الزمني. ولذلك، فإنّ الوقت المتاح لمتّخذ القرار، قبل وقوع الأضرار المحتملة وتفاقمها، يكون محدوداً جدًّا، ويتأثر، أساساً، بخصائصه وسماته، ومستوى الضغط الذي يشعر به.

إدارة الأزمات مسألة قائمة بحد ذاتها منذ القدم، وكانت مظهراً من مظاهر التعامل الإنساني مع المواقف الطارئة أو الحرجة التي واجهها الإنسان بعد أن جوبه بتحدي الطبيعة أو غيره من البشر. ولم تكن تعرف آنئذ باسم إدارة الأزمات، وإنّما عرفت تسميات أخرى مثل براعة القيادة، أو حسن الإدارة. وكانت هذه الممارسة هي المحك الحقيقي لقدرة الإنسان على مواجهة الأزمات، والتعامل مع المواقف الحرجة بما تفجره من طاقات إبداعية، و«تستفزّ قدراته» على الابتكار.

وبعد تقدير الأزمة وتحديدها تحديداً دقيقاً، يقوم «مدير إدارة الأزمة» بمساعدة معاونيه، بتحليل حالة الأزمة وعناصرها المختلفة ومكوناتها، بهدف اكتشاف المصالح الكامنة وراء صنع الأزمة، والأهداف الحقيقية غير المعلنة التي يسعون لتحقيقها. و من هنا، يتم تحليل الموقف (أو حالة الأزمة)، المركب إلى أجزائه البسيطة، ثم إعادة تركيبه بشكل منتظم، بحيث يتم التوصل إلى معلومات جديدة، عن صنع حالة الأزمة وكيفية معالجتها.

وفي هذه المرحلة، يتم استخدام [النماذج الرياضية] (Mathematical Paradigms) لقياس حالة الأزمة وتحليلها، الأمر الذي دعا إليه هيدغر في كتابه (ما الميتافيزيقا؟) حيث قال: «إنّ التحديد المسبق لطبيعة الأزمة بوجه عام، يتم وفق مفاهيم رياضية أساسية(...)؛ هذه المفاهيم ستوضح مثلاً، ما طبيعة المكان، الزمن، الحركة، القوة... أي كل مسببات الأزمات على اختلافها»[8]. ويعتمد هذا بالطبع، على «الاختيار الدقيق» لأدوات القياس والتحليل.

يشير كذلك هيدغر، إلى ضرورة التمييز بين أنماط الأزمات، فمنها ما هي مؤسسة على نشاط عقلاني (Begrudung) وهي أزمة ذات طبيعة معرفية، يتم دراسة أسبابها على مستوى الأفكار، ومنها ما تنزع إلى النشاط الحسي (الإبداعي) أو كما يسمّيها بـ(Grudung)، والتي تظهر على مستوى تعقد علائقها الداخلية؛ وهي علائق ذات «طبيعة أنطولوجية». يريد هيدغر تأكيد فرضية ضرورية، مفادها أنّ الأزمة هي الأخرى، تكبر وتنمو مع الموجودات.

وعلى أيّة حال، فإنّ إدارة الأزمات هي ليست وسيلة «جديدة» في العلاقات الدولية، بل كانت في صميم آلية التوازن في أوروبا مثلاً، حيث «نجحت» الدبلوماسية المتعددة الجانب في الحفاظ على السلام قبل حروب نابليون (Ier Napoléon) [1769-1821م] وبعدها، وحتى لغاية اندلاع الحرب الكونية الأولى.

أمّا الواضح من هذا، فهو أنّه لو فرضنا جدلاً، إمكان استخدام أسلحة نووية من دول تملكه (دولة نووية) ضد دول لا تملكه (دولة غير نووية)، هي أكبر من حالة استعمال دولة نووية ضد دولة نووية أخرى، لأنّه في الحالة الأولى سيسجّل البقاء، و بكل الاعتبارات، للدولة النووية مع إمكان تأثرها من قريب أو بعيد بتلك «الضربة»، وخصوصاً إذا كانت الدولة المستهدفة قريبة من حدودها، بينما في الحالة الثانية، الدولتان معرضتان للفناء.

أمّا المستويات الثلاثة لإدارة الأزمات فهي:

أولاً: الأساس الاستراتيجي

إنّ «نجاح» علم إدارة الأزمات، يعني بوضوح تطبيق سياسة متوسطة أو طويلة الأمد تمنع بموجبه، نشوء الأزمات أو امتدادها، أو تلافي تلك الأزمات قبل تفاقمها.

وتتطلب إدارة الأزمات المعاصرة، ملاحظة «دقيقة» ودائمة، للسياسة الدولية وللسياسات الاقتصادية والاجتماعية.

كما أنّ تحليل أهداف السياسات الداخلية للدول أو التجمعات البشرية على اختلافها، يجب أن تقيّم في ضوء التغيّرات الحاصلة ضمنها. وإنّ الوصول إلى المعلومات، ليس وحسب هو عمل مخابرات وتجسّس، بل ممكن الوصول إليها عبر التحليل الصحيح للمواد المنشورة، والمتيسّرة للجميع في مختلف الإبداعات الإنسانية من أفكار ونظريات وافتراضات...

من هنا، فإنّ التعرّف المسبق بواقع الأزمات ممكن أن يسمح بمنع حصول تلك الأزمات، أو على الأقل يساعد بأن تكون آثارها أقل «كارثية». وهذا الشكل، هو ما يطلق عليه الأساس الاستراتيجي، وهو مهم جدًّا لفلسفة إدارة الأزمات[9].

إنّ الخيار الاستراتيجي، يجب أن يكون طويل الأمد، بحيث تحدّد التقنيات المطلوبة وتتقارب القطاعات المفروض عملها مع بعض، في أثناء إدارة الأزمة. وإنّ وضع الخطط المسبقة والشاملة، والمساهمة القصوى من جميع القطاعات تضمن تحقيق الأهداف المرجوة وهي بالتالي أهداف سياسية، لأنّ الأولويات السياسية سوف تحدد و تحكم أيّ عمل عسكري يتّخذ في أثناء الأزمة. ومع أنّ هذا المفهوم، ممكن ألاّ يكون مقبولاً لدى القادة العسكريين، الذين يشعرون بأنّ الاعتبارات العسكرية، يجب أن تسود في حالة الأزمة.

ثانياً: التخطيط للطوارئ

هي مرحلة رسم السيناريوهات ووضع الخطط وحشد القوى لمواجهة الأزمة والتصدي لها. في البداية، يتم وضع مختلف الأطراف والقوى التي تمّ حشدها من قبل «صانعي» الأزمة، و تحديد بؤر التوتر وأماكن الصراع، ومناطق الغليان بصفتها جميعاً «مناطق ساخنة». ومن خلال هذه الرؤية «العلمية» الشاملة والمحيطة بعملية الأزمة وبالأطراف المتعددة المرتبطة بها، يتمّ رسم خريطة التحرك، وذلك بتحديد الأماكن الأكثر «أمناً» والمحصنة تماماً، لاتّخاذها كمناطق ارتكاز وقواعد للانطلاق.

وفضلاً عن ذلك، يجب تحديد أسباب الأزمة المتّصلة بالنظام؛ أي رموز النظام أو رموز القيادة في الكيان الإداري الذي يمكن التضحية به، وإعداده لهذه التضحية، و التمهيد لدخول رمز جديد له شعبية، ترتاح إليه، قوى صنع الأزمة.

وتحديد خطة امتصاص الأزمة الحالية عن طريق الاستجابة لبعض المطالب، والتوافق مرحليًّا مع قوى صنع أيّة أزمة كانت[10].

كما أنّ توزيع الأدوار على «قوى» مقاومة الأزمة، وعلى وجه الخصوص، على أعضاء فريق المهام الذي تم تكليفه بمهمة التدخل المباشر لمعالجة الأزمة.

سيسمح باستيعاب كل فرد للخطة العامة الموضوعة، وكذلك من التتابع الزمني للمهام وفقاً للسيناريو الموضوع لمعالجة كل من إفرازات الأزمة والقوى الصانعة لها، من أجل السيطرة على مسرح الأزمة بشكل فعال.

ثالثاً: نطاق العمليات

إنّ نجاح إدارة الأزمة تعتمد على الوقت، فالأزمات على اختلافها، تتألف من ثلاثة مكوّنات هي: المفاجأة، التهديد الخطير للقيم المهمة، والوقت القصير المتاح لاتّخاذ القرار، وعلى الآلية الإدارية، وعلى العمليات. فإنّ الانخراط السريع أو ما يطلق عليه بالتدخل لمعالجة الأزمة، واتّخاذ القرارات السريعة لصنّاع القرار، وهو فريق عمل متجانس يعرف بعضه البعض الآخر، و يعمل بسرعة قصوى وبفاعلية أكبر من الحالات العادية والروتينية، وكان فريق المهمات الأميركي لإدارة الأزمة الكوبية يتألف من سبعة عشر (17) شخصاً.

من خلال المعرفة والإحاطة الشاملة بـالسيناريوهات البديلة، والسيناريو المعتمد والمجاز للتدخل في الأزمة، وإسناد المهام وتوزيع الأدوار على فريق المهام، ويكون مدير إدارة الأزمات قد حدّد «كل شيء»، ووضع لكل عنصر الاحتمالات وفقاً لاتّجاهات محددة.

وتتم معالجة الأزمة على أنّها مجموعة مهام: أساسية وثانوية وتكميلية. أين الفعل؟

فالمهام الأساسية تقوم على الصدام والدحر والمواجهة السريعة والعنيفة والامتصاص والاستيعاب والاستنزاف.

في حين أنّ المهام الثانوية تقوم على عمليات تهيئة المسارات، وإعداد مسرح الأزمة، وتقديم الدعم والتأييد لفريق المهام الخاصة لمعالجة الأزمة، بشكل علني مؤثر أو بشكل سري وفقاً لما تقتضيه وتحتاجه الحالة.

أمّا الوظائف الجمالية أو التجميلية (Esthetic Functions)، فهي تقوم على إزالة الآثار والانطباعات السيّئة التي تركها فريق المهام «الخاص بمعالجة الأزمة» في مسرح الأزمة، وتحسين هذه الانطباعات، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.

* إدارة الأزمات والإدارة بالأزمات

لكن ثمّة قضية يجب ذكرها في هذا الباب، وهي ضرورة التمييز بين مصطلحين، رغم تقاربهما الوظيفي، فهما يختلفان على المستوى الإجرائي؛ مفهوم إدارة الأزمات والإدارة بالأزمات (Management by Crisis)؛ فالإدارة بالأزمات، هي فعل يهدف إلى توقف نشاط من الأنشطة أو انقطاعه، أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع بحيث يؤدي إلى إحداث تغيّر في هذا النشاط أو (الوضع لصالح مدبّره)[11].

ومن الأمثلة على ذلك، تفتعل (بدلاً من تخلق) دولة أحياناً مشكلة ما على الحدود مع إحدى جاراتها لإحداث أزمة تهدف من ورائها إلى ترسيم الحدود أو الحصول على مكاسب معيّنة على المستوى السياسي.

والواقع، أنّ الإدارة بالأزمات يقابله أسلوب آخر من قبل الطرف المقابل وهو إدارة الأزمات. إذ إنّ هذا الموقف المتأزم الذي أوجده (خلقه) الطرف الأول يستدعي قيام الخصم بتكثيف جميع إمكاناته، و تسخير كامل قواه للخروج من هذه الأزمة بمكاسب أو بأقل الخسائر، لكن النتائج ليست دائماً مرضية لمن «خلق» الأزمة.

إذاً، الإدارة بالأزمات يقابلها إدارة الأزمات، وقد تنجح الأولى وتخفق الثانية، وقد يحدث العكس، بل وقد «يخسر» الطرفان وأحياناً قد يكسب الجميع.

وتعتبر الأزمة في المرتبة الرابعة من الأطوار المتتالية لتطور النزاع، فالطور الأول يكون بشكل (حالة، موقف) يعبّر عنه بشكل تنازعي. أمّا الطور الثاني، فقد يطرح ردّ فعل الأطراف على ادعاءات معلنة، وتظهر في شكل نزاع سياسي أو قانوني. أمّا الطور الثالث، فهو انجرار الأطراف إلى تعقيد للعلاقات المباشرة و غير المباشرة، بحيث ينشأ شكل من النزاع طابعه «سياسي - إعلامي - دعائي»، ولكن يصبح الحديث، يدور عن قابلية هذا النزاع لتهديد حفظ السلم والأمن الدوليين.

أمّا الطور الرابع، فهو أزمة سياسية دولية، من شأن استمرارها أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدوليين، وتستخدم الأطراف المتنازعة كل ما تملك من وسائل إيديولوجية واقتصادية وسياسية. بيد أنّ الطور الخامس، هو انتقال أحد الأطراف إلى الاستعمال الفعلي للقوة العسكرية بأهداف تظاهرية أو بنطاق محدود، منها حشد للقوات المسلحة أو تهديد باستعمال القوة. والطور السادس هو النزاع المسلح؛ أي لجوء أحد الأطرف إلى استخدام القوة.

من هنا، فإنّ مهمة التشخيص الدقيق لا تنصرف فقط إلى معرفة أسباب وبواعث نشوء الأزمة، والعوامل التي ساعدت عليها، ولكن بالضرورة إلى تحديد كيفية معالجتها، ومتى وأين تتم معالجة الأزمة، ومن يتولى أمر التعامل معها، وما تحتاجه عملية إدارة الأزمة من معلومات واتصالات وأدوات مساندة، للتعامل مع الأحداث «الأزموية»، ووقف تصاعدها، واحتواء الضغط الأزموي المتحذف فحذف عنها... إلخ.

تعد الأزمة إثر ذلك، بمثابة مرض فجائي أصاب إنساناً معيّناً و يهدد حياته ويحتاج إلى معالجة سريعة وحاسمة. ولن نستطع تحقيق أيّ من هذه الأهداف، دون تشخيص حالة «المريض»، ليس فقط لمعرفة ما المرض الذي أصابه، ولكن أيضاً لمعرفة مدى قدرة «المريض» على تحمّل «العلاج» المقترح، والبدائل المناسبة للتعامل مع الحالة المرضية على أقصى درجة من السرعة، والكفاءة؛ وهي أمور كلّها، تمارس تحت ضغط الأزمة.

وتستخدم في تشخيص الأزمات، عدة مناهج أساسية، كالمنهج الوصفي التحليلي (Descryptive and Analytical Method)، الذي يقوم على تحديد مظاهر الأزمة وملامحها العامة، والنتائج التي أفرزتها و تأثيرها في الوضع العام في الدولة أو التنظيم الاجتماعي. وينتهي هذا المنهج، بتوصيف الأزمة وعرض أبعادها وجوانبها، والمرحلة التي وصلت إليها والتداعيات التي قد تصل إليها.

وفضلاً عن ذلك، يمكن استخدام المنهج التاريخي (Historic Method)، الذي يعمل وفقاً لنظرية أو مقاربة؛ أنّ أي أزمة من الأزمات، لا تظهر بصفة فجائية وليست وليدة اللحظة، ولكنّها، نتاج تفاعل أسباب وعوامل نشأت قبل ظهور الأزمة تاريخيًّا.

وعليه، فإنّ أي تعامل مع هذه الأزمة، يجب أن يبنى أساساً على «معرفة كاملة» بالماضي التاريخي وكيفية تطورها، فالتعمّق في تشخيص الأزمة، وردها إلى أصولها التاريخية الحقيقية، هو المقدمة الضرورية لطرح فرضية المعالجة.

ونجد كذلك، منهج الدراسات المقارنة (Comparative Study Method)، الذي يدرس الأزمات التي تمتد في الماضي، ومقارنتها موضوعيًّا بالأزمات التي نواجهها في الحاضر. ومن خلال الدراسة المقارنة، تتبيّن أوجه الاتّفاق، وأوجه الاختلاف، ومن ثم تتم تجربة استخدام «العلاج» فيما اتفق و«نجح» في الماضي، واستحداث علاج فيما اختلف في الحاضر[12].

هل يمكن الحديث اليوم عن «دستور» التعامل مع الأزمات؟

وهي تمثل «دستور مبادئ»، يتعيّن على كل متّخذ قرار (قد يكون العالم أو الفيلسوف أو المنظّر)، أن يعيه جيداً عند التعامل مع أيّ أزمة تواجهه، وألَّا يتناسى أو يتجاهل إحدى هذه المبادئ التي هي شديدة الأهمية والخطورة، نحو توخي الهدف والاحتفاظ بحرية الحركة وعنصر التفوق في السيطرة على الأحداث والاقتصاد في استخدام القوة... إلخ.

ويعتمد تطبيق هذه المبادئ، على توافر روح معنوية مرتفعة ورباطة جأش، وهدوء أعصاب، وتماسك تام خلال أحرج المواقف، وقدرة عالية على امتصاص الصدمات ذات الطابع العنيف المتحذفة عن الأزمات الكاسحة.

وفيه من فلاسفة العلوم المعاصرين، من يُرجع ظهور الأزمات وتجذّرها في أوساط الجماعة العلمية إلى طبيعة المجتمع نفسه؟

نجد كارل پوپر (Karl Popper) [1902م- 1994م] في كتابه (المجتمع العلمي وأعدائه) يشرح بنوع من التفصيل هذا الطرح؛ فالمجتمع المغلق (Closed Society) حسب وجهة نظره هو كل مجتمع «سحري» أو «قبلي»، والمجتمع المفتوح (Open Society) هو الذي يضم أفراد يواجهون قرارات شخصية. يمكن مقارنة مجتمع مغلق خاص مثلاً بهيئة أو تنظيم، كما يمكن التطبيق عليه، بشكل واسع النظرية البيولوجية للدولة، فالنظرية التنظيمية للدولة يمكن أن تندرج ضمن المجتمع المغلق، لأنّ ارتباط أعضائها بالمجموع محدد بقواعد لا متغيّرة، شأنها شأن جهاز حيّ. وبالتالي، لا يمكن تناولها في إطار مجتمع مفتوح، فهي متميّزة بمنافسة شديدة بين أعضائها ويمكنها أن تصل إلى حد الصراع بين الطبقات. وبتطبيقها على مجتمعنا، تعتبر النظرية التنظيمية أو العضوية (Organic)؛ أسلوب مقنّع يدعو للعودة إلى القبلية.

يقول پوپر: «حسب معرفتي، مصطلحي (مجتمع مفتوح) (مجتمع مغلق) استعملا لأول مرة من طرف الفيلسوف الفرنسي أونري برغسون (Bergson Henri) في كتابه (منبعي الأخلاق والدين) (Les deux sources de la morale et de la religion) (...) لكن تعريفي لهما يختلف عن تعريفه، لأنّ تعريفي قائم على تمييز عقلاني، فالمجتمع المغلق قائم على الإيمان بالطابوهات السحرية (Taboos Magical)، بينما المجتمع المفتوح يتميّز بقدرة الإنسان على بناء نوع من الحكم النقدي على هذه الطابوهات، واستغلال ذكائه قبل اتّخاذه لأيّ قرار»[13].

ثمّ إنّ الانتقال من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح يُعتبر من الثورات الكبرى التي عرفتها الإنسانية. فالطابع البيولوجي للمجتمع الأول يكفي لتوضيح قيمة المسار المنجز، ولهذا، عندما نذكر بأنّ الحضارة الغربية «وُلِدت» باليونان، نريد أن نقول: إنّ بلاد اليونان تعتبر مصدر ثورة أساسية، ونحن، حسب ما يبدو، لا زلنا في بداياتها. لقد وُجد سقراط (Socrates) [470 - 399 ق.م] الذي علّمنا كيف نؤمن بالعقل، مبتعدين عن الدوغمائية (Dogmatism)، وعلّمنا كذلك، أنّ أساس العلم هو النقد (The Citics).

إنّ جميع الأزمات اللاحقة التي «حامت» حول إشكالية: ما طبيعة خلق الكون؟ تعتبر، على وجه العموم، أزمات أساسية بالنسبة للفلاسفة الأيّونيين الأوائل الذين حاولوا رد أصل الكون إلى عنصري الماء (Water) والهواء (Air). فإذا افترضنا أنّهم نظروا إلى العالم كبناء، الإشكال التكميلي سيتمثل في معرفة ماهية التصميم الأفقي. ومنه، يظهر عدم اهتمام طاليس (Thalès) [625-547 ق.م] إلاّ بالمواد التي يفترض أنّها شكّلت هذا العالم، واختلف معه جميع الفلاسفة اللاحقين (منهم أنكسمندر (Aneximandre) [611-547 ق.م]) وهنا بدأت الأزمات تتعقد وتتشابك حول مسألة في رسم خارطة الأرض، ومسائل أخرى أكثر تعقيداً...

هذا المثال وغيره، يجبرنا على التفكير في التعامل مع الأزمات، وإدارتها «إدارة علمية رشيدة»، بنوع من تقدير «الموقف الأزموي»؛ ويقصد بتقدير الموقف الأزموي، تحديد جملة التصرفات التي قامت بها قوى صنع الأزمة، وقوى كبحها، تقدير مكونات هذه التصرفات وما وصلت إليه الأزمة من نتائج، وردود أفعال، وآراء ومواقف محيطة مؤثرة أو متأثرة بها. ويشمل تقدير الموقف أيضاً، تحليلات لمضمون العلاقات، ومكوّنات القوة للطرفين، ومصادر الوصول إلى النتائج الحالية، وأسباب نشوء الموقف الراهن، وروافد تطوره، وعلاقات المصالح، والصراع، التي ارتبطت به أو بعدت عنه.

وبعد تقدير الموقف الأزموي وتحديده تحديداً دقيقاً، يقوم «مدير الأزمة» بتحليل الموقف الأزموي، ويتم التحليل بهدف الاستدلال وصولاً إلى «اليقين»: عن طريق التمييز الواضح بين عناصر الموقف الأزموي، لتوضيح عناصر الأزمة، وممّا تتركب، وتقسيمها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء، ليتسنّى له إدراكها بأقصى وضوح ممكن، ومن هنا، يتم تحليل الموقف الأزموي المركب إلى أجزائه البسيطة، ثم إعادة تركيبه بشكل منتظم، بحيث يتم التوصل إلى معلومات جديدة عن صنع الموقف، وكيفية معالجته.

ثم تأتي مرحلة «رسم الخطاطات» ووضع البرامج، وحشد القوى لمواجهة الأزمة والتصدي لها، وقبل أن يتم هذا بكامله، يتم رسم الخريطة العامة لمسرح عمليات الأزمات بوضعه الحالي، مع إجراء كافة التغيّرات التي تتم عليه أولاً بأول.

وعلى هذا المسح، يتم وضع كافة الأطراف والقوى التي تم حشدها من قبل صانعي الأزمة ومن جانب مقاومي الأزمة، وتحديد بؤر التوتر وأماكن الصراع، ومناطق الغليان، باعتبارها جميعاً «مناطق ساخنة». ومن خلال هذه الرؤية العلمية الشاملة المحيطة بأبعاد «المسرح» الأزموي، وزوايا الرؤية المتعددة للأطراف المتعلقة المرتبطة بالأزمة.

وأيًّا ما كانت العملية التخطيطية، فإنّه نتيجة للضغط الأزموي وما تتّسم به العملية الأزموية، من عدم وفرة الوقت الكافي للتخطيط، يلجأ متخذ القرار إلى مجموعة «السيناريوهات الجاهزة» (Ready Made) التي أعدت من قبل، لمواجهة المواقف الأزموية الصعبة واستخدامها، أو إجراء تعديل طفيف عليها لتكون صالحة للاستخدام الفعلي. ومن خلال المعرفة و«الإحاطة الشاملة» بـ«السيناريوهات البديلة» (Alternative Scenarios)، والسيناريو المعتمد والمجاز للتدخل في الأزمة، وإسناد المهام، ووضع لكل عنصر احتمالاته، وحسب اتجاهاته، ثم اتّخذ القرار.وتتمم المعالجة الأزموية، مجموعة مهام أساسية ومهام ثانوية، إلى جانب مهام تكميلية - تجميلية. والمهام الأساسية، تقوم على «الصدام» و«المواجهة العنيفة»، وتحويل المسار الخاص بـ«قوى» صنع الأزمة.

في حين أنّ المهمات الثانوية تنصرف إلى عمليات تهيئة المسارات وتأمين الإمدادات وحماية قوى مواجهة الأزمات وتوفير المساندة والمؤازرة لها. أمّا المهام التكميلية التجميلية فتنصرف أساساً إلى معالجة الآثار الجانبية السلبية المترتبة عن الصدام مع قوى صنع الأزمة، وامتصاص أيّ ما من شأنه أن يوجد غضباً أو خوفاً أو رعباً في المجتمع الذي حدثت فيه المواجهة الأزموية.

* خلاصة

نستخلص ممّا سبق، أنّ الأزمة كمفهوم فلسفي عام، تطور في أوروبا في مطلع القرن العشرين، ثمّ تبلور في النصف الثاني منه؛ فكان بمعنى إطار «انفصام للنظام»، للظاهرة أو للحظة الآنية (وتصبح لحظة حاسمة)، هذا الانفصام سيمسُّ، بشكل خطير، التطور المنتظم للـسيرورة...

وأصبحت الأزمة، موضوعاً لتأمل فلسفي أساسي في العصر الحديث؛ موضوع نابع عن سوء إدراك لـ«لـقرار أو الوثبة» (Jump)، الأمر الذي سيحدث «لحظات صعبة» و «مراحل مصيرية» في إطار عمق المغامرة الجدلية للشعور (Dialectical Adventure of Conscience). ففي طريقها نحو «الكمال»، ستلاقي الروح نوعا من الشك و اليأس، وهنا ستأخذ الأزمة مكاناً لها في عمق «التجربة الفلسفية»، لتصبح في نهاية المطاف، أزمة العقل الإنساني.

لكن، في الوقت المعاصر، تظهر الأزمة في صورة العجز عن تحقيق السلام العالمي أو الاستقرار الدولي، و تحوّلت إلى موضوعة عامة ومفردة إعلامية، بعد أن كانت جدلاً نخبويًّا فلسفيًّا، مع أواخره، مقترنة بالأحادية القطبية (الإمبريالية)، وانتشار الصراعات والأزمات. وفي خضم ما أفرزته الحرب الباردة، انعكست مظاهر الأزمة في مختلف جوانب الحياة والثقافة الإنسانية، ليصبح الإنسان يتحدث عن أزمة وجودية، فلسفية وأخلاقية، أو بالأحرى عن أزمة وجود وهوية.

في هذا الإطار، يلزم البحث في جوانب الأزمة «الحقيقية» الشاملة، والعمل الجادّ لتحقيق نتائج مقبولة، عكس الانبهار بنتائج العلم و وسائله التقنية، وقد وصل هذا الانبهار إلى درجة ظهور «توجهات فكرية علموية» تتطلّع لتجعل من العلم ونموذجه المنهجي التجريبي، الوسيلة الوحيدة لـ«إنتاج الحقيقة» وقياسها. وتنادي بضرورة تشميل هذا النموذج، على مختلف ظواهر الكينونة و الوجود، و منها الوجود الإنساني أيضاً.

بيد أنّ الإشكالات التي ستثار هي: هل العلم (الفيزياء) قادر حقًّا على ممارسة هذا الدور؟ هل بإمكانه أن يستجيب للإشكالات التي تهجس بداخل العقل والوجدان الإنساني؟ هل يستطيع أن يسد حاجة الإنسان إلى الفهم في مختلف مجالات الكينونة والحياة؟

ليست وظيفة العلم إنتاج المعنى فحسب، إنّما دوره محدود في قراءة أجزاء الوجود ووصف علائقه. أمّا الجواب عن استفهام المعنى الكلي، فيحتاج إلى رؤية كلية. هذه الكلية في الرؤية، هي ما نجد فلاسفة عديدين، يشيرون إلى «استحالة إنجازها» بالمقاييس العلمية التجريبية.

وفي السياق ذاته، يمكن إدراج الموقف النقدي الذي أنجزه هيدغر في تحليله للعلم و التقنية، حتى انتهى إلى إعلان مقولته الشهيرة: «إنّ العلم لا يفكر». إنّ المساءلات التي تشغل الوعي الإنساني من أنواع ومجالات مختلفة، مثل محاولة فهم الوجود في ظواهره وعلاقاته، لا تنحصر في أجزاء الكينونة المادية، بل ثمة أسئلة تخص الوجود في كليته، وهي مساءلات، نابعة عن الوعي الإنساني منذ وجوده إلى الآن. إنّها مساءلات تخص الانشغالات الميتافيزيقية الكبرى:

نشأة الكون؟ وأصل الحياة؟ والبعد الوجودي؟ وأسطورتي الموت والانبعاث...؟ وليست هذه الأسئلة مجرد كلام مجتر، قابل للمجاوزة، عن طريق نتائج الوضعية المنطقية المرتكزة على رؤيتها الحسية للغة، بل هي أسئلة ضرورية، تعبّر عن حاجة تلازم الكائن الإنساني، عن وحدة هذه الأسئلة، وعمق الانشغال بها في الوعي الإنساني.

لابد للكائن الإنساني من تحصيل إجابة عن الأسئلة الأنطولوجية الكبرى، والتفكير العلمي ليس في مستطاعه -إلى اليوم على الأقل- «الإجابة عنها»، لأنّ أزمته، كامنة في أدواته المنهجية «القاصرة» عن تناول كلية الوجود.

لذا، فكل ما بإمكانه، هو أن يعطينا «حقائق جزئية» عن ظواهر الكون والحياة، ثم يأتي دور الوعي الفلسفي والديني لأداء وظيفته من بعد. وشيوع هذه النزعة (نزعة تفسير الظواهر الروحية بـ«منطق تجريبي/ تقنوي»)، سيؤدي بالعقل العلمي إلى أزمة كارثية؛ هي أزمة أخطر بكثير من أزمة الموضوع أو المنهج، إنّها أزمة غياب المعنى، أي غياب معنى الوجود والحياة، الأمر الذي سيخلص إلى العدمية (Nihilism)، وتعتبر «أزمة المعنى»، أخطر أزمة يمكن أن تلحق بحضارة ما، لأنّها أزمة تلحق بروح الإنسان وماهيته ومصيره...

 

 

 


 



[1] Russel R. Dynes,Eugene Hass, Administrative,methodolgical and theroetical problems of disaster research peprinted from Undian Sociologic al bulletin 4,(1967),p.: 225. 

[2] Chauvet(Gilbert),La vie dans la matière-Le rôle de l›espace en biologie-, Flammarion, Paris,(1995),p.p.: 150 - 151. 

[3] Kepler(Johannes),Le secret du monde,éd. A. Segonds Belles Lettres,France,(1984),Chapitre 2.

[4] هي مجموعة من الأفكار الحديثة حول تركيب الكون تستند إلى معادلات رياضية معقدة، تنص هذه المجموعة من الأفكار على أنّ الأشياء مكوّنة من أوتار حلقية مفتوحة متناهية في الصغر لا سمك لها. وأنّ الوحدة البنائية الأساسية للدقائق العنصرية، من إلكترونات وبروتونات ونيترونات وكواركات، عبارة عن أوتار حلقية من الطاقة تجعلها في حالة من عدم الاستقرار الدائم وفق تواترات مختلفة. وإنّ هذه الأوتار تتذبذب، فتصدر نغمات تتحدد وفقها طبيعة وخصائص الجسيمات الأكبر منها مثل البروتون والنيوترون والإلكترون. إنّ أهم نقطة في هذه النظرية، هي أخذها لكافة قوى الطبيعة: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية، فتوحدها في قوة واحدة ونظرية واحدة، تسمى النظرية الأم. وتهدف نظرية الأوتار الفائقة، إلى وصف المادة، على أنّها حالات اهتزاز مختلفة لوتر أساسي، وتحاول الجمع بين ميكانيكا الكم؛ التي تفسر القوى الأساسية المؤثرة في عالم الصغائر(القوة النووية الضعيفة، القوة الكهرمغنطيسية، القوة النووية القوية)، وبين النظرية النسبية العامة؛ التي تفسر قوة الجاذبية في عالم الكبائر ضمن نظرية واحدة، وتفترض أنّ الكون هو عالم ذو عشرة أو أحد عشر بعداً، على خلاف الأبعاد الأربعة التي نحس بها. وأنّ هناك ستة (6) أو سبعة (7) أبعاد أخرى، إضافة لأبعاد عالمنا الثلاثة مع الزمن، وهي غير محسوسة وملتفة حول نفسها. أمّا هذه النظرية الجديدة، تعتقد أنّ الكون مركب من (26) بعداً، اختزلت فيما بعد إلى عشرة (10) أبعاد. ولتوضيح هذه الفكرة، يستعمل بعض العلماء، مثال خرطوم رش الماء، فعندما ينظر للخرطوم من بعيد لا ترى سوى خط متعرّج، لكن بفحصه عن كثب، يظهر أنّه عبارة عن جسم في ثلاثة أبعاد، حيث أنّ الأبعاد الجديدة ملتفة على نفسها في جزء صغير جدًّا.

[5] محلّل نفساني سويسري، يعتبر مؤسس (مدرسة علم النفس التحليلي) القائمة على وجود اللاشعور الجمعي (Collective Unconscious)، وبحث حول إمكانية وجود وحدة روحية فردانية. وقد اقترح تفسير حول الميولات الإنسانية انطلاقاً من مفهوم أوسع لـ«الطاقة الخلاّقة» أو «الطاقة الضرورية» المضمرة لجميع الرغبات من رغبة الجوع إلى رغبة التثاقف. وفي سنة 1921م، صدر له كتاب نفيس بعنوان: ‹أصناف سيكولوجية› (Psychohlogical Types)؛ وفيه ميّز يونغ بين نوعين من الشخصية: شخصية انطوائية (Introvert) ذات ليبيدو (Libido) موجّه نحو الحياة الخارجية، وشخصية منبسطة (Extrovert) والتي تملك ليبيدو موجّه نحو العالم الخارجي. ليذهب إلى تفريع هذه الثنائية نحو أربعة (4) وظائف تعمل على «توجيه» الشعور، وهي: الإحساس، الفكر، الحدس والعاطفة. لكن الفكرة الأساسية في جميع كتب يونغ هي (اللاشعور الجمعي) الذي يحوي الإحساسات والأفكار والذاكرة البدائية للإنسانية، الموروثة عن تطور النوع البشري. كما يجمع هذا اللاشعور صنفا من «النماذج» (Archétypes) الكامنة في المعنى الرمزي، والتي سنجدها في الديانات والأساطير... وتظهر بالمقابل في الاستيهامات والرغبات (Fantasms) والأحلام. ومن بين هذه النماذج المقترحة نجد (الأنيما) (Anima)؛ أي الطبيعة الأنثوية الموجودة في لاشعور الرجل، و(الأنيموس) (Animus)، مقابله الموجود في اللاشعور الأنثوي. وقد نظرت «المقاربة اليونغية» إلى مختلف أوجه الشخصية البشرية، بمنظور روحي أو صوفي.

[6] John(Ramee),Crisis management: looking for the warningsings,Management Solutions, (1987), p.p.: 5-6.

[7] شريف (منى صلاح الدين)، إدارة الأزمات: الوسيلة للبقاء، القاهرة، البيان للطباعة والنشر، (1998م)، ص: 23- 24.

[8] Heidegger (Martin), Qu›est ce que la métaphysique?, trad.Corbin (Henry), Gallimard,Paris, (1938), p.: 57. 

[9] Conrad(Smith),Media and Arocalypsa,Greenwood press,London,(1992),p.p.: 19 - 20. 

[10] Ibidem,p.p.: 20-21.

[11] الخضيري (محمد أحمد)، إدارة الأزمات، القاهرة، مكتبة مدبولي، (بدون تاريخ)، ط.2،ص: 53.

[12] المرجع السابق، ص. ص.:54-55.

[13] Popper (Karl), La société ouverte et ses énnemis-Tome1; l›ascendant de Platon, trad. Par: Bernard (Jacqueline)et Monod(Philippe), Seuil, Paris,(1979),p.p.:167.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة