تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

إشكالية التلقي والتأويل .. في بحوث الاعلام المعاصر

بن دنيا فطيمة

إشكالية التلقي والتأويل..

في بحوث الإعلام المعاصرة

بن دنيــا فطيمـة*

* أستاذة باحثة بقسم علوم الإعلام والاتصال، عضو بمخبر الفلسفة والعلوم الإنسانية بكلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم – الجزائر. البريد الإلكتروني: bendenia_itfc@yahoo.fr

 

 

* مقدمــــة

لقد وجدت نظرية التلقي في الأدب صداها في حقل الممارسات الإعلامية، فنتيجة لتطور البحوث الاتصالية وبالخصوص بحوث قياس جمهور وسائل الإعلام، أصبح لزاماً إضفاء صفة الشرعية لمفهوم التلقي الذي أصبح يُعْنَى بالصيرورات المختلفة لإنتاج المعاني والتأويلات التي يبنيها الأفراد.

ومن جهة أخرى، فإذا كانت هناك دراسات تعنى بتحليل المضمون للخطاب الإعلامي والدراسات السميولوجية التي تهتم بإبراز المعاني والترابطات الداخلية للنصوص؛ فإنّ نظرية التلقي ما هي إلَّا نظرية تندرج ضمن الحقول المعرفية الحديثة التي أعطت دفعاً قويًّا للاهتمام بالقارئ (المتلقي) الذي كان ينظر إليه في التقاليد سواء الأدبية أو الإعلامية بأنه عنصر سلبي ليس له دور في التفاعل والتعامل مع النص كما يريد وإنشاء دلالات مثلما يفهمها، ولكن النظرة الحديثة أعطت له دور الفاعل الحقيقي والمشارك في إنتاج الدلالة والمعنى عندما يواجه عملاً ما: أدباً أو إعلاماً أو فناً.

وعلى هذا الأساس كانت الانطلاقة من مدرسة كوستانس بألمانيا على يد العالم ياوس hans robert yauss. ثم تبعه بعد ذلك مواطنه آيزر wolfgang iser الذي تبنى آراء ياوس لبلورة مفهوم جديد يحتفي بالعلاقة المتبادلة بين النص والقارئ، وكذا التركيز على أساس أن الفهم الحقيقي للنص ينبثق من القارئ، حيث إن أي نص بما فيه النصوص الإعلامية على اختلاف أنواعها لا تكتمل معانيها إلَّا من خلال القراءة المتمثلة في المشاركة الفعالة بين النص والقارئ، هذا الأخير الذي يتمتع بكل الحق في إضفاء معاني للنصوص التي يتلقاها، فمن خلال فعل القراءة يستطيع القارئ أن يستخرج المعاني من النص أو استخراج ما أراد منتج النص التعبير عنه، ولا يتحقق ذلك إلَّا من خلال تفاعل القارئ مع النص واستنطاقه والولوج إلى عوالمه المختلفة وكذا محاولة تحليل جزيئات النص المختلفة وتفكيك شفراته لكي يعيد تفسيرها وتأويلها من جديد وفق فهمه لمضمون النص حسب مستواه الفكري والثقافي.

* أولاً: مدخل مفاهيمي

1- مفهوم التلقـــي

يشتق مصطلح التلقي من الفعل اللاتيني Recipere بمعنى تلقى واستقبل، فهو مفهوم حديث نسبيا في الخطاب النقدي، تبنته نظرية التلقي الألمانية التي ركزت على البعد التاريخي لعملية التلقي واستخدمه المنظرون الأنجلوساكسون في المجال اللغوي والإعلامي وفي حقل الفنون في مرحلة لاحقة[1].

ويقال في العربية: تلقاه، أي استقبله، والتلقي هو الاستقبال -كما حكاه الأزهري- وفلان يتلقى فلاناً أي يستقبله[2]، ويقال في الإنجليزية: «réception» أي استقبال أو تلقٍّ، ويقال: «réceptive» أي متلقٍّ أو مُستقبِل.

ولكن التمايز في الدلالة بين مفهوم الاستقبال ومفهوم التلقي يكمن في طبيعة الاستعمال عند العرب، فالكثير الغالب في الاستعمالات العربية هو استخدام مادة «التلقي» بمشتقاتها مضافة إلى النص سواء أكان النص خبراً أو حديثاً أو خطاباً، وحسبنا في هذا أن القرآن الكريم عوَّل على هذه المادة في أناقته التعبيرية، ولم يستخدم مادة «الاستقبال» في هذا المجال[3]، ففي أجل مواطن التلقي لأشرف النصوص، يقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}[4]، ومنه قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}[5]، فدلالة الاستعمال القرآني لمادة التلقي مع النص تنبه إلى ما قد يكون لهذه المادة من إيحاءات وإشارات إلى عملية التفاعل النفسي والذهني مع النص، حيث ترد لفظة «التلقي» مرادفة أحياناً لمعنى الفهم والفطنة.

ومن هنا يظهر جليًّا أنه ورد لفظ التلقي في القرآن الكريم بدلاً من لفظ استقبال، حيث قد يدل أو يشير إلى عملية التفاعل النفسي مع النص. كما نجد أن الدراسات الحديثة ركزت على لفظ التلقي، وهذا ما نجده شائعاً عند كل من (ياوس) و(إيزر)، حيث يعتبر هذا اللفظ هو الجامع لألفاظ القراءة والاستجابة والاستقبال[6].

ومن المرجح أن يكون لمصطلح «نظرية الاستقبال (التلقي)» réception théorie وقع غريب لدى المتكلمين بالإنجليزية، الذين لم يواجهوه من قبل. ووفقاً لما أشار إليه هانز روبرت ياوس H. R. Jauss، في عام 1979 مازحاً وهو من كبار رواد هذا التيار البحثي: ربما بدت المسائل المتعلقة بالاستقبال أنسب إلى الإدارة الفندقية منها إلى الأدب[7].

من جانبه يحدد المنظر الألماني كلاين Ulrich Klein مصطلح التلقي في معجم علم الآداب على أنه استقبال أدبي يتم وفق أربعة عناصر، هي: إعادة الإنتاج، التكييف، الاستيعاب، التقييم النقدي[8]. في حين يرى ياوس أن التلقي هو عمليات إنجاز تعليمات معينة من خلال عملية إدراك موجه يمكن استيعابها من خلال فهم البواعث التي تكمن خلفها والإشارات التي تحركها.

ويعرف التلقي أيضاً على أنه اللحظة الذي تتكون فيها دلالات ومعاني نص معين من طرف الجمهور[9]، وفي السياق نفسه يجدر بنا أن نشير إلى أن مفهوم التلقي حديث نسبيًّا وقد أخذ عبر تطوره معاني متعددة، فهو يدل على كيفية تعامل مجموعة ما مع أعمال كاتب أو مؤلف أو فنان أو مدرسة أو تيار أو أسلوب عبر التاريخ، ويشير أيضاً إلى العناصر التي تتحكم في خلق جمهور ما للعمل الفني.

وبالرغم من تعدد التعاريف لمصطلح التلقي إلَّا أننا نجد بعض المداخل النظرية لجمالية التلقي تشير إلى أنه ثمة إشكال منهجي في تدقيق الفواصل بين مصطلحات تبدو متداخلة المفاهيم، حيث لا يجب الخلط بين مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه[10].

ونخلص للقول: إن التلقي هو اللحظة التي يتم فيها تشكيل دلالات النص من قبل أفراد الجمهور، أو سيرورة إنتاج المعاني من قبل المتلقي وتأويلها.

2- مفهوم الهرمنيوطيقا

إن الأصل الاشتقاقي لمصطلح الهرمنيوطيقا Hermeneutics يرجع إلى الفعل اليوناني Hermeneuein الذي يترجم عادة بالفعل يفسر Interpret، ومنه الاسم Hermeneia أو التفسير Interpretation [11].

وتعني كلمة الهرمنيوطيقا l’herméneutique علم أو فن التأويل، وإذا أردنا أن نستخدم عبارة أدق، قلنا مع شلايرماخر schleiermacher: إنها تعني «فن امتلاك كل الشروط الضرورية للفهم»[12].

والواقع أن مفهوم «الهرمنيوطيقا» ينطوي على مجموعة من المفاهيم «الفرعية» أو «المقابلة» التي تشير إلى أصناف مختلفة من العمليات التأويلية الممارسة على النصوص كالفهم والتفسير والشرح والتأويل والترجمة والتطبيق... إلخ. وهذه الفعاليات الهرمنيوطيقية نجدها أحياناً مختلفة ومتمايزة وأحياناً متطابقة ومتماثلة وأحياناً متداخلة ومتكاملة. فشلايرماخر مثلاً يقصي التأويل ويضع الفهم في مركز الممارسة الهرمنيوطيقية على أساس أن التأويل يبحث فقط عن المعنى الحرفي أو المجازي، في حين أن المطلوب هو «فهم» خطاب الآخر في غيريته، أي في تفرده. أما دلتاي Wilhelm Dilthey فقد جعل «التأويل» شكلاً خاصًّا من أشكال «الفهم» وحالة جزئية منه، ويميز بينهما وبين «التفسير» تمييزاً كاملاً بحيث يناقض كل طرف منهما الآخر ويستبعده كلية. إن التفسير في نظر دلتاي هو المنهج العلمي الذي تتميز به المدارس والعلوم الوضعية، في حين يشكل الفهم أو التأويل « المنهج العلمي» المناسب لحقل الفكر والعلوم الإنسانية. فالعالم الطبيعي «يفسر» مادته، أما علوم الفكر فهي في حاجة إلى «فهم» أو«تأويل»، ولا يمكن إطلاقاً لأي منهج من المنهجين أن يطبق على الحقل المقابل[13].

غير أن بول ريكور Paul ricoeur يحاول على العكس من دلتاي، التقليل من حدة التناقض والتعارض بين مقولتي التفسير والتأويل، ويبحث عن التكامل المتبادل بينهما، ويشير ريكور في هذا الصدد إلى أن مفهوم التفسير «قد خضع لتحويل أساسي نقله من مجاله الأصلي الذي وضعه فيه دلتاي إلى مجال جديد. فلم يعد مقتبساً أصلاً من علوم الطبيعة، ولكن من النماذج اللسانية الخالصة»[14].

فنحن «نفسر» النص أولاً بدراسة علاقاته الداخلية وتحديد بنياته الخاصة، ثم «نؤوله» بعد ذلك بأن نمنح لهذه العلاقات والبنيات دلالة معينة. وهذا ما جعل ريكور يعتد بإنجازات البنيوية التي وفرت لنا الأسس المنهجية العلمية لتحليل مكونات النص الداخلية (أي لتفسيره)، ويدعو في الوقت نفسه إلى ضرورة تجاوز هذه المرحلة وعدم التوقف عندها: علينا أن نعطي دلالة ما لهذه النتائج التفسيرية (أي علينا أن نؤولها) وإلَّا كانت عديمة الجدوى. وهكذا يجد التفسير تتمته في التأويل، ويجد التأويل أساسه العلمي ومرتكزه الموضوعي في التفسير[15].

أما هايدجر فإنه ينظر إلى «الفهم» باعتباره مكوناً لكينونة الكائن وباعتباره كيفية أساسية لوجوده ولمقاربته للعالم ولذاته، أما «التأويل» فيقتضي الإمساك بهذا الفهم وإخراجه إلى دائرة الوعي والإدراك. ورغم أن بول ريكور يطابق أكثر فأكثر، في كتابه صراع التأويلات بين مفهومي الهرمنيوطيقا والتأويل، إلَّا أنه كان يحرص في البداية على إعطاء مفهوم الهرمنيوطيقا نوعاً من الشمولية مقارنة بمفهوم التأويل، ذلك أن هذا الأخير يرتبط في نظره بالتفسير النصي المباشر في معناه الدقيق، أما الهرمنيوطيقا فإنها «تحرك المسألة العامة للفهم» بالمعنى الواسع لفهم العلامات أيًّا كانت هذه العلامات أو أيًّا كان الخطاب الذي تشكله. ومن هنا يكون التأويل المهتم بالمسائل التقنية للتفسير النصي الملموس حالة جزئية من «الفهم» الذي يثير المسائل الأعم للدلالة واللغة[16].

3- مفهوم التأويل

تشتق كلمة التأويل في اللغة العربية من فعل أول الشيء تأويلاً بمعنى أرجعه وأوَّل الرؤية فسَّرها وعبّر عنها، وأوَّل الكلام يعني دبَّره وقدَّره وفسَّره[17]، ويعتبر التأويل بمثابة عملية بحث مستمرة عن أمثل شكل للفهم والاستيعاب، على اعتبار أن كل فهم يفتح طريقاً إلى التساؤل وإلى تنشيط الفكر، فالتأويل محكوم بعملية استطلاع الحقيقة السرية أو المعنى المختفي وراء الإشارات والتعبيرات المختلفة، فلا يكفي فقط تفكيك الرموز وإنما يجب البحث عن المعنى الكامن في النص من أجل تقديم قراءات ومعاني أخرى.

في هذا الصدد يرى أمبرتو إيكو أن التأويل هو تلك التخمينات والتفسيرات التي يقدمها المتلقي نتيجة تلقيه للرسالة الإعلامية وذلك من خلال الكشف عن المعنى الخفي للرسالة[18]، ويرى كذلك إيكو أن التأويل هو تفاعل مع نص العالم أو تفاعل مع عالم النص عبر إنتاج نصوص أخرى، وحسب جورج غادامير نجد أن هناك ثلاث مراحل في علم التأويل: الفهم compréhension والتفسير interpretation، والتطبيق application [19]، ومن الضروري أن كل ممارسة تأويلية تحقق وحدة هذه اللحظات الثلاث من خلال ميادين موضوعه، مهما اختلفت. وهو يرى أن التأويل هو الشكل الجلي للفهم. هذا الانصهار للفهم والتأويل، بالمقابل، أدى في الهيرمينوطيقا إلى إبعاد التطبيق –بوصفه عنصراً ضروريًّا ضمن مراحل العملية التأويلية- نهائيًّا من سياق الهرمنيوطيقا.

لذا، يضيف غادامير: فنحن مطالبون، لا بإرفاق الفهم والتأويل بعضهما لبعض فحسب، بل أيضاً، برد الاعتبار لـ«التطبيق»، وجعله ضمن مسار موحد معهما. فلا تأويل خارج الفهم وما الفهم في المحصلة إلَّا تطبيق ما[20].

وفي هذا المجال، نجد هانز روبرت ياوس يشيد بفضل غادامر في التأكيد على ضرورة التوحيد بين اللحظات الثلاث: الفهم، التأويل، التطبيق، في كل ممارسة تأويلية[21].

وإجمالاً يمكن القول بأن التأويل يتطور بتطور فعل القراءة ومهما تكن الإجراءات أو الخطوات التي يتبعها فهو يستهدف استخلاص المعنى الذي هو الخطوة الأولى نحو الفهم، وبناء المرجعية التي هي الخطوة الأولى للتفسير.

* ثانياً: نظرية التلـقي

جاءت نظرية التلقي كرد فعل للتطورات العقلية والأدبية في ألمانيا الغربية خلال الستينات، وانبثقت من مشاركين في الاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تقام بجامعة «كوستانس» والتي طبعت بعدها ضمن سلسلات عنوانها «الشعرية والتأويل»[22].

ولعل من أهم مرتكزات هذا الاتجاه البحثي هو أن القارئ هو المحور الأهم في عملية التلقي، وعلاقته بالنص ليست علاقة جبرية موظفة لخدمة نظام أو طبقة كما في الماركسية، وليست علاقة سلبية كما في المذهب الرمزي وإنما هي علاقة حرة غير مقيدة. أما صاحب النص فقد أهملت النظرية دوره في عملية التلقي، بمعنى أن دراسة أحواله النفسية والتاريخية ليست أمراً ضروريًّا يعتمد عليه المتلقي في تعامله مع النص. فالنظرية تشير في مجموعها إلى تحول هام في عملية التلقي من صاحب الإنتاج إلى النص والقارئ.

وبالتالي، تستبعد هذه النظرية دراسة النص على أساس منهج يهتم بحياة الكاتب؛ لأن النص في ذاته أو في ارتباطه بصاحبه لا يمثل -عندهم- فنًّا ما لم يخضع لعملية الإدراك، «فالإدراك وليس الخلق... الاستقبال وليس النتاج هو العنصر المنشئ للفن»، وهذا يتم بواسطة القارئ خلال تفاعله مع النص، ولكي يتحقق التفاعل بالصورة التي يرونها كان تركيزهم على أهمية الدور الواسع الذي ينهض به القارئ عبر مجموعة من الإجراءات المنظمة في عملية القراءة[23].

في السياق نفسه وفيما يخص الجذور التاريخية والمرتكزات التأسيسية لنظرية التلقي فنجد روبرت هولب قد وقف عند خمسة من المصادر الفكرية التي رآها مؤثرة في ظهور هذه النظرية ورواجها، هي[24] «الشكلانية الروسية»، و«بنيوية براغ»و«ظواهرية رومان إنجاردن»، و«هرمنيوطيقا هانز -جورج غادامير-» و«سوسيولوجيا الأدب»، وقد كان لهذه المصادر تأثير مباشر في منظري مدرسة كونستانس في ألمانيا الغربية آنذاك، الذين كان لهم الفضل في رواج النظرية، ومن استحق عملهم مراجعة أشمل، في ضوء ما يتعلق بتلك المصادر الخمسة، الخاصة بموضوع التلقي أو العلاقة بصفة عامة بين القارئ والنص.

ففيما يتصل بالمدرسة الشكلانية توقف المؤلف في نظريتهم الأدبية عند جملة من العناصر كان لها تعلقها بنظرية التلقي، كالأداة الفنية وما تحدثه من تغريب للتصورات في العمل الأدبي، وكالوقوف على سيرة الكاتب وفاعليتها لدى المتلقي.

وفيما يتصل بإنجاردن كان كتابه «الخبرة بالعمل الفني الأدبي» الذي ظهر في ألمانيا عام 1968 لافتاً لأصحاب نظرية التلقي من حيث اهتمامه بالعلاقة بين النص والقارئ. لقد رفض إنجاردن فلسفته الظواهرية ثنائية الواقع والمثال في تحليل المعرفة ورأى أن العمل الفني يقع خارج هذه الثنائية، فلا هو معين بصورة نهائية، ولا هو مستقل بذاته، ولكنه يعتمد على الوعي، ويتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عمًّا تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها. ومن ثم فإن العمل الفني الأدبي في حاجة دائماً إلى هذا النشاط الإنساني الذي يعمل فيه القارئ خياله كذلك من أجل أن يكمل العمل ويحققه عيانيًّا[25].

أما مدرسة براغ البنيوية فقد وقف هولب على أعمال أهم منظر للأدب فيها وهو جان موكاروفسكي تلك الأعمال الممهدة لنظرية التلقي، ذلك بأن موكاروفسكي لم يفصل العمل الأدبي بما هو بنية عن النسق التاريخي وعن مرجعياته التاريخية... وبهذا الوصف يتوجه إلى متلق هو نفسه نتاج للعلاقات الاجتماعية المتغيرة وبهذا المتلقي للعمل وليس بمنشئه، يناط فهم المقصد الفني الكامن في العمل.

ثم ينتقل هولب إلى جادامير وموقفه من المنهج العلمي وانحيازه إلى النشاط التفسيري -الهرمنيوطيقي- بأركانه الثلاثة، على أساس أنه المرتكز الصالح لتحديد إمكانية الرؤية وسعيه نحو تأسيس وعي ذي طابع تاريخي عملي، هو قبل كل شيء وعي بالموقف التفسيري، وتطويره لمصطلحين كان لهما أهميتهما لدى رواد نظرية التلقي، هما «التاريخ العملي» و«أفق الفهم».

ومن هذا التوجه الهرمنيوطيقي ينتقل هولب إلى التوجه الاجتماعي النفسي عند لوفينتال وتناوله مشكلة العلاقة بين العمل والمتلقي على هذا الأساس. ثم يعرج هولب على جوليان هيرش وما لفت إليه النظر في دراسة تاريخ الأدب من ضرورة التركيز لا على الأعمال ومنشئيها بل على الآثار التي أحدثها هؤلاء المنشئون في زمنهم وبعد زمنهم، في نفوس المتلقين الذين يدركون قيمة تلك الأعمال ويقررونها. ثم ينهي هولب هذا الاستعراض التاريخي بوقفة من شوكنج، الذي قدَّم بديلاً من البدائل القليلة للأفكار السائدة عن تاريخ الأدب، من شأنه أن يمهد الطريق كذلك لنظرية التلقي، وذلك عندما ركز دراسته على سوسيولوجيا الذوق، ففي هذا التوجه لم يعد المؤلف وعمله الأدبي يحتلان مكان الصدارة، بل انصرف الاهتمام أساساً إلى المتلقي وإلى الظروف الاجتماعية التي تم فيها التلقي[26].

هذه هي جملة التوجهات التي يمكن أن تكون ممهدة لظهور النموذج النقدي الحديث ممثلاً في نظرية التلقي.

* ثالثاً: أنموذج التلقي في بحوث الإعلام والاتصال

استمدت دراسات التلقي إشكاليتها انطلاقاً من السياق العام للتيارات النقدية وخاصة المدرسة الألمانية التي طورت نظرة نقدية حول علاقة النص الأدبي بالقارئ، وتحول الاهتمام من جمالية التأثير إلى جمالية التلقي.

ويلتقي أيضاً هذا الطرح مع منظور مدرسة فرانكفورت ومركز برمينغهام للدراسات الثقافية المعاصرة في بريطانيا[27] وما قدمه استوارت هل Stuart hall من تدعيم لهذه الدراسات، من خلال نموذجه «الترميز وفك الترميز»، الذي ركّز من خلاله على الإمساك بمؤشرات تأويل الجمهور للرسائل الإعلامية انطلاقاً من متغيرات النوع والانتماء الطبقي والاجتماعي.

وقد كان لزاماً الانتقال من النموذج الذي يفسر فعل وسائل الإعلام انطلاقاً من المصدر إلى النموذج الذي يكتشف أهمية المتلقي، بمعنى من نموذج أحادي الاتجاه إلى نموذج تحاوري لعملية الاتصال، وأصبح من الضروري الربط بين النص الإعلامي والمتلقي، هذا الأخير الذي يمكن له تقديم دلالات ومعاني تختلف مع ما يريده صاحب النص، فهناك تباين شديد بين سياقات التلقي بسبب تعدد المدونات، كما أن الجماعات التأويلية والمصادر الثقافية المشتركة تؤثر في عملية فك الرموز.

في السياق نفسه، نجد أن هذا التيار البحثي قد طوَّر مجال البحث في كل من دراسة الجمهور وكذا تحليل المحتوى –تحليل المحتوى من طرف الجمهور-، وذلك انطلاقاً من معطيات إمبريقية، وبهذا الشكل تسمح بحوث التلقي بتقريب الباحثين بالأشخاص الفعليين والحقيقيين المكونيين للجمهور[28].

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الباحث رولان بارت هو أهم من ساهم في تثبيت فكرة الاهتمام بدراسة القارئ على حساب المؤلف الذي ظل ولفترة طويلة هو الملك، فمن خلال كتابه «موت المؤلف» ركّز رولان بارت على ضرورة إعطاء الحق الكامل والمطلق للقارئ في القراءة والتفسير، إذ ينبغي على سلطة المؤلف أن تزول لأنه لا بد وأن يتحرر القارئ من كل القيود، لذا لا بد من الاهتمام بالقارئ والتعرف على القراءات التي يقدمها للنصوص، و في هذا المجال يقول الباحث دانيال دايان Daniel Dayen: دراسات التلقي لا تتكلم عن الجمهور[29]، ولا على اسم الجمهور، هي تعطي الكلمة للجمهور[30].

وإذا ما تحدثنا عن تيار الدراسات الثقافية فنجده قد انبثق عن مركز الدراسات الثقافية المعاصرة Centre of Contemporary Cultural Studies cccs الذي تأسس سنة 1964 في جامعة برمينغهام في إنجلترا.

ويهتم هذا المركز بالأشكال والممارسات والمؤسسات الثقافية وعلاقتها بالمجتمع والتغير الاجتماعي، وكان ريتشارد هوغارت Richard Hoggart أول مدير له، وقد خلفه في هذا المنصب الجامايكي الأصل ستيوارت هال سنة 1968، وهي السنة نفسه التي عين فيها نائباً للمدير العام لليونسكو.

وقد عرف المركز أوج قوته خلال هذه الفترة، التي تزامنت مع نهضة اليسار الجديد، ويستمد مركز برمينغهام أفكاره التأسيسية من كتابات هوغارت والمؤرخ إدوارد ب. تومسون Edward P»[31].

وقد كان ريتشارد هوغارت Richard Hoggart قد نشر سنة 1957 كتاباً حمل عنوان استخدامات محو الأمية The Uses of literacy [32] الذي ترجم إلى الفرنسية سنة1970 تحت عنوان ثقافة الفقير la culture du pauvre. وقد ضمنه صاحبه الذي يعود في أصوله الاجتماعية إلى الطبقة العمالية، تحليلاته للتغيرات التي أصابت نمط حياة وممارسات الطبقة العمالية في مجالات العمل والحياة الجنسية والعائلة والترفيه.

وقد اعتمد في تحليله لسلوكات المتلقين على موضوع الثقافة الجماهيرية. وعلى ختلاف زملائه يمكن أن نجده قد تأثر بالنزعة الماركسية[33].

والفكرة الأساسية التي يقول بها هوقار في كتابه «ثقافة الفقراء» تكمن في التأكيد على أنه يجب دراسة الجمهور في مختلف أشكاله وأساليبه الحياتية. وذلك من خلال تحليل إثنوغرافي دقيق يساعد على معرفة كيف تنظم حياة الجماعة محل الدراسة، من أجل فهم كيف يتعامل الجمهور مع المنتجات الثقافية والتي تفرز مواقف خاصة.

من جانب آخر يعتبر نموذج استوارت هال الترميز وفك الترميز Encoding/ Decoding من بين أهم الأعمال المؤسسة لنظرية التلقي، فمن خلال هذا النموذج يبين لنا هال الطريقة التي تؤول بها الرموز المتضمنة في المواد والرسائل الإعلامية من طرف من يتلقونها[34].

ومن أجل فهم التلقي يجب تحليل سيرورة التشفير(الإنتاج) وفك التشفير (التأويل من طرف المتلقي)، كما ركز على تحليل ومعرفة العلاقات بين بنيات السلطة السياسية والاقتصادية، وكذا الأيديولوجية الموظفة من طرف وسائل الإعلام وأشكال الثقافة الشعبية[35].

في السياق نفسه يرى هال أن للمتلقي ثلاث مواقف مفترضة يمكن أن يتخذها إزاء النص، يمكنه أن يقدم قراءة تتوافق مع ما أراده صاحب النص، ويمكنه تقديم قراءة تفاوضية بحيث يوافق على عناصر المعنى المهيمن ويرفض البعض الآخر، كما يمكنه أن يتعارض مع المعنى المهيمن.

في المجال نفسه، نجد أن من بين أهم المساهمات في دراسات التلقي أعمال الباحث البريطاني دافيد مورلي David Morley الذي انطلق في بحوثه من النتائج التي توصل إليها ستيوارت هل، حيث ركَّز على ضرورة الاهتمام بالسياق الذي تتم فيه عملية التلقي، واستبدل مفهوم فك الترميز بمفهوم سياق المشاهدة وبالتحديد السياق العائلي، إذ يشير إلى ضرورة الاهتمام بالتماثل والاختلاف بين العائلات، كما يركز مورلي على الحركية العائلية، إذ أصبحت –حسبه- الوحدة القاعدية هي العائلة وليس الفرد[36]، أما منهجيًّا فيتبع مورلي المناهج الإثنوغرافية التي تسمح بملاحظة التفاعلات فيما بين أفراد العائلة أمام شاشة التلفزيون عن طريق الملاحظة بالمشاركة.

* خاتمـــــة

تعد بحوث جمهور وسائل الإعلام من أهم المجالات البحثية في حقل بحوث الإعلام والاتصال، لأن الجمهور هو المستهدف الأساسي في العملية الإعلامية التي لا تكتمل أركانها دون تلقي رسائلها.

وإذا كانت المقاربة التقليدية للجمهور تنظر إليه على أساس أنه متلقٍّ سلبي -وهذا لم يعد صحيحاً- فإن دراسات الجمهور الجديدة اتجهت نحو اعتبار الجمهور متلقياً نشيطاً له دوره الفعّال في المشاركة والتفاعل، ويتمتع بقدرة أكبر على التحكم في المضامين الإعلامية، كما أنه يقوم بتقديم قراءات متعددة للرسائل التي يستقبلها مما يساهم في إتمام بنية النص.

هذا ما يتوافق وأهداف دراسات التلقي التي جاءت لتهتم بالأبعاد التفسيرية والتأويلية للرسالة، عن طريق التركيز على الجمهور وعملية صنع وتشكل المعنى، وكيف أن أفراد الجمهور يبنون وبفعالية معاني ودلالات لمختلف الرسائل الإعلامية بدلاً من أن يستوعبوا معاني محددة مسبقاً من طرف منتج الرسالة، فالمعنى هو نتيجة تفاعل بين القارئ ونص الرسالة.

ونخلص للقول: إننا نعيش اليوم في عالمنا العربي ضمن بيئة إعلامية جديدة، تحتم على دارسي الإعلام الاهتمام أكثر بعنصر الجمهور وفق مقاربات ومنهجيات بحثية قادرة أكثر على فهم هذا الجمهور وكيفية تفاعله وإنتاجه لمعاني الرسائل الإعلامية، على اختلاف أنواعها، بعيداً عن البحوث الإحصائية التي تربعت ولوقت طويل على عرش بحوث جمهور وسائل الإعلام.

فقد أصبح من الضروري ألَّا تهتم هذه البحوث فقط بالمتلقي، وإنما يجب التعرف على الكيفية التي يمكن أن يستنبط من خلالها المعنى من النص، وكذلك الظروف التي ينتج فيها المعنى.

 

 

 

 

 

 



[1] مخلوف بوكروح، التلقي في الثقافة والإعلام، القاهرة: دار مقامات للنشر والتوزيع، 2011، ص 25.

[2] محمود عباس عبد الواحد، قراءة النص وجماليات التلقي، مصر: دار الفكر العربي، ط1، 1996، ص 13.

[3] المرجع نفسه،ص ص 13 - 14.

[4] سورة النمل، الآية 6.

[5] سورة البقرة، الآية 37.

[6] جمال العيفة، القراءة والمشاهدة في عصر تكنولوجيا الاتصال السمعية البصرية: دراسة ميدانية على عينة من طلبة جامعة باجي مختار - عنابة، الجزائر: المجلة الجزائرية للاتصال، العدد 19، 2005، ص 127 - 128.

[7] روبرت هولب، نظرية التلقي.. مقدمة نقدية، تر: عز الدين إسماعيل، مصر: المكتبة الأكاديمية، ط1، 2000، ص25.

[8] ابن نكاع بن دهيبة، مجلة كتابات معاصرة، لبنان، العدد 63 المجلد 16، 2007 ص 125.

[9] Rémy Rieffel. Sociologie des médias. Ellipses, paris. 2001. p 133

[10] مخلوف بوكروح، أثر تكنولوجيا الاتصال في تلقي الخطاب الفني، مجلة فكر ومجتمع، الجزائر: طاكسيج.كوم للدراسات والنشر والتوزيع، العدد الثاني، 2009، ص 10.

[11] ماهر عبد المحسن حسن، جادامر مفهوم الوعي الجمالي في الهرمنيوطيقا الفلسفية، لبنان: دار التنوير، 2009، ص 55.

[12] عبد الغني بارة، الهرمنيوطيقا والفلسفة.. نحو مشروع عقل تأويلي، لبنان: دار العربية للعلوم ناشرون، 2008، من ص 86 إلى ص 96.

[13] عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، لبنان: الدارالعربية للعلوم –ناشرون، ط1، 2007، ص 18.

[14] المرجع نفسه، ص19.

[15] بول ريكور، النص والتأويل، تر: منصف عبد الحق، مقال ضمن: مجلة العرب والفكر العالمي، لبنان: مركز الإنماء القومي، العدد الثالث، 1988، ص36.

[16] Paul Ricoeur. Le conflit des interprétations. Essais d’herméneutique. Seuil. 1969. p 8

[17] عبد القادر الزاكي، من النموذج النصي إلى النموذج التفاعلي للقراءة، نظرية التلقي، إشكالات وتطبيقات، سلسلة ندوات ومناظرات، الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، رقم 24 - 1992، ص49.

[18] إمبرتو ايكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، تر: سعيد بنكراد، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000، ص77-117.

[19] هانز روبرت ياوس، علم التأويل الأدبي، تر: بسام بركة، مقال ضمن مجلة العرب والفكر العالمي، مرجع سبق ذكره، ص 54.

[20] عبد الغني بارة، ص ص 127-128.

[21] Hans Robert Jauss. Pour une herméneutique littéraire. P 15

[22] بشرى موسى صالح، نظرية التلقي.. أصول وتطبيقات، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001، ط1، ص42.

[23] عباس محمود عبدالواحد، قراءة النص وجماليات التلقي، مصر: دار للفكر العربي، ط1، 1996، ص18.

[24] عبد الناصر حسن محمد، نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، القاهرة: المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، 1999، ص 78.

[25] روبرت هولب، نظرية التلقي، تر: عز الدين إسماعيل، مرجع سبق ذكره، ص13.

[26] المرجع نفسه، ص 14.

[27] Armand MATTELART -Erik NEVEUCULTURAL STUDIES’ STORIES La domestication d’une pensée sauvage, Réseaux n° 80 CNET – 1996.p4

[28] Jean Lohisse. La communication. De la transmission a la relation. Paris. Deboeck.2009/ p124

[29] علي قسايسية، المنطلقات النظرية والمنهجية لدراسات التلقي، رسالة دكتوراه، قسم علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر، 2007، ص 65. انظر أيضاً:

- Daniel Cefai – Dominique Pasquier. Les sens des public. Paris. Puf. 2003.

- H.chavenon-J,m Brignier, Mesures l’audience des médias , Dunod, paris 2002.

[30] Brigitte Le Grignon. Du côté du public. Usages et réceptions de la télévision Economica, «Etudes Politiques», 2003.P3.

[31] أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، تر: نصر الدين لعياضي والصادق رابح، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، ط1، 2005.ص 118.

[32] Armand Mattelard_ Eric Neveu. Introduction aux Cultural studies. La découverte. Paris. 2008. p 66.

[33] Rémy Rieffel. Sociologie des médias.opcit. P 131.

[34] Pascale Goetschel, François Jost et Myriam Tsikounas lire, voir, entendre. La réception des objets médiatiques, Publisor. Paris.p 25

[35] Stuart HALL, Codage/Décodage, Réseaux, N°68, CENT, 1994

[36] David Morley. LA RÉCEPTION DES TRAVAUX SUR LA RÉCEPTION - Retour sur «Le Public de Nationwide» Traduit de l›anglais par Daniel Dayan. HERMÈS 11 - 12, 1992. p32

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة