تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

إشكالية مستقبل العلاقة بين الحضارات .. زكي الميلاد نموذجاً

شبلي هجيرة

إشكالية مستقبل العلاقة بين الحضارات -زكي الميلاد نموذجاً-

شبلي هجـيـرة*

* باحثة من الجزائر.

 

 

 

- جامعة الحاج لخضر - باتنة - الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية، قسم العلوم الإنسانية

- رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة

- إعــداد الباحثة: شــبـلي هـجيرة

- إشــراف: أ.د. عمراني عبد المجيد

- الســنـة الجـامـعية: 2012/ 2013

 

تنصبّ هذه الدراسة أساساً على موضوع متلازم مع فلسفة الحضارة، فهو يتناول البحث في شكل من أشكال العلاقات بين الحضارات لبلوغ مستوى لائق من التعايش الثقافي والحضاري، وهي بذلك مسألة شائكة ومعقدة تقوم بوصف حركية المجتمع في سيرورته التاريخية تقدماً أو تخلفاً، ولعلّ ما يزيد المسألة تعقيداً هو اختلاف طروحات المفكرين المهتمين بالشؤون الحضارية نتيجة الاختلاف الحاصل في المرجعيات الفكرية لكل مفكر، لا سيما ونحن نعيش في عالم اجتاحته وسائل التكنولوجيا والاتصال وحوّلته إلى شبه قرية صغيرة كونية تختزل فيها الحدود الطبيعية والسياسية، وتخترق الهويات الثقافية والحضارية.

في ظل هذه المتغيرات الجديدة برزت أطروحات متعددة ومختلفة حاولت رسم صورة العلاقة بين الحضارات خاصةً بعد أن حسم الصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والليبرالية لصالح هذه الأخيرة، وهي متغيرات امتدت تأثيراتها على أحوال العالم الإسلامي وانعكست سلباً على أوضاعه وعمّقت من تبعيته وتخلفه.

تتسع دائرة النقاش أكثر بتصاعد دعوات متباينة منها ما يدعو إلى حضارة إنسانية واحدة، وهي دعوة لا تخلو من النقد كونها تكرس التبعية الحضارية بسعيها إلى صهر الحضارات الإنسانية المختلفة في قالب الحضارة الغربية (الأمريكية)، نظراً لما تمتلكه من عناصر القوة بمختلف مستوياتها، مما شكل أكبر تهديد على الخصوصيات الحضارية والثقافية لحضارات الشرق (عموماً)، وبين داعٍ لحضارات متباينة في ظل تصور التنوع والاختلاف.

في خضم هذه الدعوات سارع الغرب –تحيزاً لمركزيته– إلى صياغة جملة من النظريات التي تردد صداها في أرجاء العالم سياسيًّا وفكريًّا، مثل أطروحة هنتنغتون عن صدام الحضارات ومقولة نهاية التاريخ عند فوكوياما، وهي دعوة ترمي إلى أن يسود العالم حضارة واحدة مهيمنة في معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وهو الوجه الحقيقي للعولمة المقنعة.

في المقابل تصاعدت الدعوة إلى حوار الحضارات استناداً إلى القواسم المشتركة بينها أملاً في أن يعود ذلك بالخير والمنفعة على البشرية جمعاء.

وهي دعوات أقحم فيها الطرف الإسلامي بحكم الرؤية المغلوطة والمشوهة المتشكلة عنه في الأذهان والمبنية على أساطير ومخاوف تقليدية وحالة عدائية شاملة ترفدها صراعات دينية عرقية عسكرية واقتصادية وغيرها.

بالإضافة إلى توصيف العالم الإسلامي بالجمود والتخلف والسلبية والعنف، وكل ذلك لأن «الخطاب الغربي يؤسس العلاقة مع عالم الإسلام على أساس هيمنة الغرب وتبعية العالم الإسلامي والتحذير من المشاركة بمفهومها الواسع»[1].

في هذا الصدد حاول المفكر والباحث السعودي المعاصر زكي الميلاد التصدّي لمثل هذه الدعوات، وإبراز ما فيها من ثغرات، وما انطوت عليه من مغالطات واختزال للمسلمات تغطية للحقيقة والبيانات، حيث قدّم مساهمة فكرية رائدة تجلت في سلسلة دراسات وقراءات ونقد ومراجعات، حاول من ورائها إيجاد مخرج يعالج إشكالية مستقبل العلاقة بين الحضارات من خلال رصد محور العلاقة مع الآخر انطلاقاً من خصوصيات الحضارة الإسلامية، حيث تجلى بوضوح أن هذه العلاقة تقوم على أساس إما معرفة الآخر أو الجهل به، من هنا جاءت نظرية تعارف الحضارات، والمستنبطة من القرآن الكريم[2]، لترسم طريقاً لمستقبلنا الحضاري المشترك، حيث انفرد الميلاد بطرح خاص جدير بالدراسة والتحليل والاهتمام، حيث طرح طرحاً جديداً ومغايراً استناداً إلى منظومتنا التراثية الإسلامية تجسد في نظرية تعارف الحضارات، وهي أطروحة خلاّقة ومبدعة قامت على أساسين متكاملين:

الأول: نقدي تبلور في النقد المنهجي والبنّاء الذي وجهه الميلاد لجملة المقولات الرائجة والمتمثلة في صدام الحضارات وحوار الحضارات اللذين ينتميان إلى المجال الغربي ويتحددان به، بالإضافة إلى ظاهرة العولمة التي استحوذت على أوسع اهتمام عالمي، وهنا أراد الميلاد أن يبرز الرؤية الإسلامية للعولمة من خلال عالمية الإسلام.

الثاني: تأسيسي تجسد في دراسة ما أسماه الميلاد بآية التعارف، مستنبطاً منها العناصر التجزيئية والتركيبية المقومة لنظرية التعارف، والتي من أهدافها التخلص من رواسب الصدام والوصول بنا إلى حوار الحضارات. وبهذا تحدد مفهوم التعارف في التواصل الكوني والانفتاح العالمي على مستوى الأمم والحضارات، وربط هذا المفهوم بوحدة الأصل الإنساني وبقاعدة تنوعه وأكرمية التقوى.

* أهمية الموضوع

تستمد هذه الدراسة أهميتها من خلال:

- أن موضوع العلاقة بين الحضارات من القضايا الحساسة والمعقّدة التي يتداخل فيها الجانب العقائدي مع ما هو حضاري وثقافي، ويتشابك فيها الاقتصادي مع السياسي وحتى الأيديولوجي أحياناً أخرى، وهي أيضاً من القضايا الراهنة التي ما تزال تثير نقاشات حادة في أوساط النخب الفكرية على الصعيدين العربي والغربي، وفي المحصلة فإنه لم يتم الفصل فيها بشكل نهائي.

- إن أهمية دراسة واقع العلاقة بين الحضارات يتجلى في كونه يساهم في بناء تصور مستقبلي فعّال لتجاوز إشكالية الصدام بين الغرب والإسلام، كما يسمح لنا بتعامل حضاري راق وإيجابي مع الآخر استناداً إلى منظومتنا الفكرية الإسلامية، لأن الحضارة الإسلامية بالتحديد أمر آخذ بالظهور والانتشار في الدراسات المعاصرة سواء عند المسلمين أو حتى عند غيرهم، فالقرآن الكريم الذي شكل محور هذه الحضارة يعتبر بمثابة دستور للبشرية، بوصفه قانوناً شرعيًّا نزّل من لدن إله عليم خبير، فهو صالح لكل زمان ومكان، فقد تضمَّن كل ما يحتاجه البشر، سواء ورد ذلك نصًّا صريحاً أو إشارة أو مفهوماً، وهنا تبرز أهمية أطروحة التعارف المستنبطة من كلام الله -تعالى-.

- فضلاً عن أن مثل هذه الأطروحات هو من أشد ما تحتاجه أمتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما في أعقاب الحملات المسعورة والمحمومة التي تشنها وسائل الإعلام والدعاية المعادية للإسلام، لنخرج للعالم أمة وسطاً تحترم خصوصية الآخر وتجادل بالتي هي أحسن.

* أسباب اختيار الموضوع

على العموم فإن أسباب اختيار الموضوع ترجع إلى جملة من الأسباب ذاتية وأخرى موضوعية نجملها فيما يلي:

- بالنظر إلى المساهمين في طرح قضية العلاقة بين الحضارات، نجد أن هذا الموضوع قد أسهم في تناوله بشكل بارز المفكرون والبحاثة الغربيون، ويظهر ذلك بوضوح في نموذجي: الصراع والحوار الحضاري اللذين انبثقا من قيم غربية الأصل، لهذا كان لا بد من هندسة نموذج ينبثق من قيم غير غربية وإسلامية على وجه التحديد.

- الرغبة في تجاوز ثنائية الصدام والحوار والحدّ من تراكم السّجال الفكري حولهما للانتقال إلى رؤية ثالثة مغايرة تجنبناً سلبيات الصدام وتعزز إيجابيات الحوار عبر قيم التعارف.

- فضلاً عن ذلك ما تزخر به أقطارنا العربية من نماذج فكرية فذّة جديرة بالدراسة أمثال زكي الميلاد، وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي:

لماذا زكي الميلاد نموذجاً؟

لقد وقع اختياري لنموذج زكي الميلاد تحديداً نظراً لجملة من الأسباب، نذكر منها:

أولاً: يعدّ زكي الميلاد أحد أكثر الكتّاب مساهمة في المجال العربي بنشر كتابات ومقالات ودراسات جادة حول فكرة الحضارة وحوار الحضارات وصدام الحضارات وما يدور في هذا الفلك.

ثانياً: إن زكي الميلاد صاحب نظرية في المجال الحضاري، وهي نظرية تعارف الحضارات، والتي سيرد الحديث عنها في الفصل الثالث من هذه الرسالة بوصفها أنضج نظرية بإمكانها أن ترسم طريقاً لمستقبل العلاقة بين الحضارات، وسوف نكشف لاحقاً القيمة الكبيرة لهذه النظرية، وما يمكن أن تقدمه لنا ولمستقبلنا الحضاري، وهي النظرية التي جعلتني أختار زكي الميلاد نموذجاً.

ثالثاً: يصنف زكي الميلاد نفسه من خلال كتاباته ومؤلفاته ومواقفه في تيار المنحى الحضاري، في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وهو التيار الذي أعطى قيمة كبيرة لفكرة الحضارة وللمسألة الحضارية.

رابعاً: إن زكي الميلاد من الأسماء الجديدة الصاعدة وغير المستهلكة، وله تجربة فكرية ثرية وفاعلة، فهو يرأس مجلة فكرية رائدة (الكلمة) مضى عليها أكثر من سبعة عشر سنة، أما على مستوى المؤلفات فله رصيد يزيد على ثلاثين مؤلفاً.

خامساً: يضاف إلى ذلك فإن زكي الميلاد أحد الذين تربطهم صلة فكرية بالمفكر الجزائري مالك بن نبي، وألف كتاباً مبكراً عنه بعنوان «مالك بن نبي ومشكلات الحضارة»، وكتب عنه فصولاً ودراسات ومقالات أخرى، وقدّم لكتاب «التخلف والتنمية في فكر مالك بن نبي» للباحث الجزائري الطاهر سعود.

لهذه الأسباب تصورت أنه من واجبنا تقدير ما يطرح في الساحة الفكرية من دراسات جادة في الفكر الإسلامي عموماً والعربي منه على وجه الخصوص.

* الهدف من الدراسة

من جملة الأسباب السابقة الذكر، تبلورت أهداف الدراسة كالتالي:

- إضافة لبنة في مجال البحوث الأكاديمية تساهم في إثراء جانب من الجوانب القيمة المتعلقة بالفلسفة عموماً وبمجال فلسفة الحضارة خصوصاً.

- تحقيق قراءة علمية حول مسيرة الميلاد الفكرية، وتنظيم أفكاره المتعلقة بمجال المسألة الحضارية، حتى يتبين وجه تميزها عن غيرها.

- تحديد طبيعة تصور الميلاد للعلاقة بين الحضارات السائدة، وكيف تعامل معها لتكوين منظور عربي إسلامي قادر على احتواء وتهذيب التناقضات لتحديد كيفية التعامل مع الآخر الحضاري بالطرق الإيجابية من خلال الانفتاح على ثقافته، كما أن هذا لا يعني إلغاءها أو الذوبان فيها، والتقوقع والانعزال عنها، وفي الوقت نفسه نشر ثقافة موسعة عن قيمنا الحضارية، وفي مقدمتها التسامح والسلم والتعاون، للقضاء على مختلف رواسب صور الجهل المتبادل بين الطرفين.

- كشف مدى مراعاة الطرح الإسلامي الأصيل للخصوصيات الثقافية لدى الحضارات الأخرى في إطار الدعوة للتعارف الحضاري، لتحقيق مستقبل ذي وجه إنساني عالمي، عبر نشر الوعي بقيم التعارف، لترميم الشرخ والتصدع العظيم الذي أصاب العلاقات الحضارية.

- التأكيد على إمكانية تحقيق التعايش السلمي دون نزاع في ظل التنوع والتعدد الثقافي، لتعميم تبادل المنافع والإبداعات، لأن الإبداع ليس حكراً على شعب دون آخر، وفي المحصلة لأن الحضارة هي ثمرة سلسلة نتاج بشري مشترك.

* خطوات الدراسة

توخياً لتحقيق الأهداف السابقة تم تقسيم مادة البحث إلى مقدمة وثلاثة فصول وفي الأخير خاتمة.

- المقدمة: تضمنت أساساً أهمية وأسباب اختيار الموضوع والإشكالية التي يطرحها والهدف من البحث، مع تقسيم الدراسة والمنهج العلمي المتبع في ذلك.

- الفصل الأول: تمّ افتتاح الفصل الأول بتناول السيرة الذاتية لزكي الميلاد مع تركيزنا على مساهمته الفكرية، كما اختص بضبط المفاهيم الرئيسية لتحديد المعالم الأساسية التي ينبني عليها فكر زكي الميلاد، والمتمثلة في جملة من المفاهيم ذات المرجعية التراثية الثقافية الحضارية الإسلامية، إن التشبع بهذه المرجعية قد ألهم الميلاد استنباط نظرية جديدة في مقابل ما طرح من نظريات غربية حاولت تفسير نمط العلاقات الحضارية، وذلك تخطيطاً للمستقبل واستشراف مسارات القرن الحادي والعشرين.

- تمحور أوّل مبحث حول تحديد مفهوم الحضارة في اللغة، ثم الوقوف عند استعمالات هذا المصطلح في السياقين العربي والغربي، ثم تلاها تحديد مفهوم الحضارة عند زكي الميلاد حيث قدّم لنا مفهوماً جديداً لها تجاوز من خلاله المعنى اللغوي المتكرر في المعاجم والقواميس، من خلال إبراز الحضارة كمفهوم متميز له من الدلالة والفعالية ما يسمو به إلى الممارسة والحضور الفعّال المواكب لروح العصر وتطوراته ومتغيراته.

- جاء المبحث الثاني ليوضح معنى الثقافة عند الميلاد على وجه الخصوص، باعتبارها معلماً من معالم الصراع الحضاري الحالي من جهة، وباعتبارها أحد أهم المعاني المتقاطعة مع مدلول الحضارة عند بعض المفكرين من جهة أخرى، وهنا أيضاً يبرز تشبع الميلاد بالفكر وبالثقافة الإسلامية، حيث استنبط لنا مفهوماً جديداً للثقافة استلهمه من عملية الحفر المعرفي لمعاني الثقافة الواردة في معاجم وقواميس اللغة العربية، وفي بعض الآيات من القرآن الكريم. اكتفينا نحن في رسالتنا ببعض النماذج لأسباب منهجية بحتة، من هنا كانت الثقافة عنده طاقة روحية أخلاقية تمثل شحنة كامنة تمكّن الأمة من النهوض والتقدم.

- أما المبحث الثالث فقد تعرض إلى المسألة الحضارية التي تدخل في عمق الاهتمامات الفكرية عند زكي الميلاد، فهي تعكس منظور الرؤية للمشكلات الحضارية بهدف إيجاد حلول ممكنة تتلاءم مع التغيرات العالمية دون الانقطاع عن الماضي والاستفادة من عثراته، لهذا كانت الحاجة ماسة لصياغة مشروع حضاري إسلامي معاصر قادر على جمع شتات الأمة بهدف التخلص من آثار التخلف والخروج من هيمنة النموذج الغربي، وذلك دون إقصاء أو إلغاء للغير، وإنما من خلال تكوين وعي عالمي له خاصية التواصل مع العالم على كافة الأصعدة والمستويات لمواجهة مختلف التحديات.

- أما الفصل الثاني فقد اشتمل على مبحثين أساسيين:

- المبحث الأول: تطرق إلى معنى الصدام وخصائصه نظراً لتشابك استعماله مع مفاهيم أخرى كالنزاع والصراع، ثم تعرض لتحليل أطروحة صدام الحضارات عند أبرز دعاتها باعتبارها من أهم النظريات الغربية التي أسالت حبر الكثير من المفكرين، كونها حاولت أن تقدّم تفسيراً مركباً وكليًّا لتحولات السياسة العالمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. بالإضافة إلى الإشارة إلى نماذج فكرية أخرى سبقت هنتنغتون في طرح فكرة الصدام، لذا عرجنا على فكرة الصدام في المجال الغربي عند المستشرق برنارد لويس بوصفه الأب الروحي لهنتنغتون، الذي برّر جذور السخط الإسلامي على أنه ليس شيئاً أقل من صراع الحضارات، أما في المجال العربي فقد تناولنا الباحث المهدي المنجرة الذي اعتبر نفسه المنظر الأول لحرب الحضارات أو صدام الحضارات، ثم أعقبنا ذلك التحليل بنقد هذه الرؤى، ليس بقصد توسيع دائرة السجال حولها، و إنما لبيان المغالطات التي بنيت عليها، والأهداف المدسوسة والضمنية التي تلمح إليها وترمي إلى إيحائها وتغلغلها في الأذهان ليقبلها ويتبناها الرأي العام.

- أما المبحث الثاني: فتناول أطروحة «حوار الحضارات» بوصفها الخطاب المقابل للصدام وهو مطلب أخلاقي ضروري يحقق التعاون الفعّال والإيجابي بين بني البشر مما يؤدي إلى تجنب الصدام، وتجسّد هذا المطلب بشكل بارز في الفكر الغربي عند المفكر روجيه غارودي، حيث طرحه في شكل مشروع مستقبلي أملاً في أن يدفع بالغرب لتبني منظور مغاير للتعامل مع الأمم غير الغربية، والاعتراف بإسهاماتها والاستفادة من منجزاتها على أساس الشراكة الحضارية. بينما في المجال العربي تجسدت مقولة حوار الحضارات عند محمد خاتمي، وهي تمثل عنده بديلاً معاصراً في مقابل الأساس التقليدي المتمثل في منطق القوة والغلبة والهيمنة. كما عرجنا على أحداث 11 سبتمبر 2001 التي مثّلت منعطفاً تاريخيًّا حاسماً انعكس بالسلب على جملة المكتسبات وقضى على الطموحات التي حملها القرن الحادي والعشرين، حيث شكّل الحدث عائقاً في مسار الحوار مما أتاح الفرصة للغرب من أن يروج لمفهوم الإرهاب وإعلان العداء ضد الإسلام، ليبقى السؤال معلقاً على أي أساس تبنى العلاقات بين الحضارات هل على أساس الصراع أم الحوار؟

- أما الفصل الثالث فاشتمل على ثلاث مباحث رئيسية متكاملة:

- حيث كان المبحث الأول منه بمثابة الأرضية التي ساهمت في التأسيس لفكرة تعارف الحضارات، حيث تناول هذا المبحث أساساً قراءة في نظرية العولمة باعتبارها الوجه الآخر من خطاب الهيمنة الغربية سواء كما رسمتها مقولة فوكوياما المبشرة بانتصار الليبرالية –النموذج الأمريكي الأوحد–، أو في ظل هذا التصور الجديد الذي راج وفرض نفسه بقوة على الحياة المعاصرة في جميع مستوياتها لتوحيد الهوية وإلغاء التمايزات المختلفة، فكريًّا، علميًّا، سياسيًّا، اقتصاديًّا، ثقافيًّا، إعلاميًّا،تربويًّا، لذا كان لزاماً على الفكر الإسلامي التصدي لقهرها حفاظاً على هويته الحضارية، واحتراماً للتنوع الثقافي للأمم والشعوب الأخرى، وهنا يبرز الفكر النقدي البناء والرؤية الفكرية الثقافية والبعد النظري الواعي الخلاق الذي جسّده الميلاد في ضرورة ابتكار عولمة بديلة أكثر إيجاباً وانفتاحاً وتواصلاً، وهو ما تجسّده الرسالة الإسلامية بوصفها دعوة عالمية قوامها السّلم والتعاون والتعارف.

- بناءً على ذلك جاء المبحث الثاني من هذا الفصل ليبلور معالم فكرة تعارف الحضارات التي تنطلق من قاعدة أن تعدد أو انبعاث حضارات جديدة لا يفترض أن يؤدي إلى صدام بينها، وبذلك يتسنى لنا أن نطور مستويات الفهم في النظر إلى عالم الحضارات؛ لأن كل حضارة تشتكي من أن الصورة المتشكلة حولها في أذهان الآخرين صورة مغلوطة أو مشوهة أو سطحية، لذلك كانت الحاجة ملحة لقيام التعارف، كما تضمن هذا المبحث تحليلاً لجملة الأسس التي استند إليها الميلاد في تأسيسه لمفهوم التعارف، انطلاقاً من نقد المقولات السائدة.

تماشياً مع المسألة الحضارية التي تقتضي مواكبة العصر ومتغيراته، وتحاول إيجاد حل إسلامي أصيل، وهو ما عبّرت عنه الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات، والتي أطلق عليها فيما بعد آية التعارف، ومن ثمة خرج هذا الطرح إلى الساحة التداولية، فمصطلح التعارف شكّل مخرجاً مفاهيميًّا يبرز أصالة وخصوصية الحضارة الإسلامية، وهو مفهوم -فيما يرى الميلاد- يقترب في نسق معرفي متجاور مع مفهوم التواصل عند هابرماس.

- أما المبحث الثالث فهو يشكّل جوهر هذه الرسالة إلى جانب المبحث الثاني، فقد جاء لتسليط الضوء على نظرية التعارف مبرزاً مميزاتها، كونها نظرية تأسيسية (إنشائية) جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الشعوب والأمم، كما يجوز لنا سحب وتعميم هذا التوصيف على مستوى الحضارات.كما حدّد الميلاد مرتكزات هذه النظرية بطريقتين، الأولى: تحليلية، وفيها درس الآية في مكوناتها التجزيئية، والثانية: تركيبية، أوردها في شكل مستخلصات عامة للوقوف عند عناصر الآية ومكونات مفهوم تعارف الحضارات. كما اشتمل هذا المبحث على بواعث التعارف والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، حتى يخرج العالم من هيمنة النموذج المتطور الوحيد، ويعرف العالم تجربة التعددية الحضارية، وتطوى صفحة الصراع والصدام، لتفسح المجال لنشر منطق التعايش والتعاون والتسامح والتعارف. كما عرجنا على جملة العوائق والصعوبات التي تقف في وجه هذه النظرية، حتى يتم تجاوزها، فإن الأمر يستوجب تضافر جهود المؤمنين بقدرة التعارف على مد جسور التواصل والعمل على تذليلها توخياً لتحقيق الأهداف المرجوة. وكما هو معلوم أن النقد هو سمة كل عمل فلسفي، لذا عمدت إلى نقد نظرية التعارف، والذي تضمن في الحقيقة تأييداً لهذه النظرية في أوساط النخب الفكرية التي قابلت هذا الطرح بالترحيب، ومن ثمة عقدت حول هذه النظرية العديد من الدراسات والنقاشات والمؤتمرات والندوات الداعية إلى تفعيله.

- أما الخاتمة: ففيها عرض لأهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة في سياق الإجابة عن الإشكالية المعالجة مع التوصيات.

- ثم أخيراً ذيلنا البحث بقائمة للمصادر، راعينا فيها الترتيب الزمني، أما المراجع المعتمدة في البحث فقد رتبت حسب الترتيب الهجائي للحروف العربية، كما تم وضع فهرست للعناوين والموضوعات التي شملها البحث.

* المصادر المعتمدة

وقد اعتمدت في معالجة هذه الدراسة على جملة من المصادر الأساسية التي يأتي في مقدمتها كتاب «المسألة الحضارية» في طبعته الثانية الصادرة سنة 2008، وهو المؤلَّف الذي بسط فيه الميلاد نظرية تعارف الحضارات، وهو بدوره يقرّ بأنه من أشهر مؤلفاته التي عُرف بها في الأوساط الفكرية.

* نقد الدراسات السابقة

هناك دراسة سابقة ذات صلة بالموضوع تتمثل في رسالة ماجستير في الفلسفة بعنوان «تعارف الحضارات الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر»، قدمها الأستاذ الباحث علي عبود مالك المحمداوي بالعراق كلية الآداب، حيث أبرز المعوقات التي تقف بالضد من مشروع التعارف، والمتمثلة في الأصولية والعولمة التي لا تقبل الآخر، وتعتقد بامتلاكها للفكر الواحد والنموذج المطلق للحق، ولحل هذا العائق جاءت «فكرة التسامح» كأحد الأدوات التي يجب تفعيلها في منهجية التعارف، وهي دعوة إسلامية وإنسانية[3].

ونحن بدورنا نحاول من وراء هذه الدراسة المقدمة تكملة الجهود العلمية السابقة لفتح آفاق مجال البحث في نظرية التعارف للاستفادة من معطيات العولمة وإفرازاتها، التي ترمي إلى تنميط معالم ومظاهر الحياة المختلفة ضمن إطارها الكوني ضاربة عرض الحائط سيادة الدول وحدودها مخترقة الهوية الثقافية للمجتمعات الإنسانية، تطلعاً إلى تضافر جهود مختلف النخب الفكرية لوضع الآليات التي يفتقر إليها التعارف حتى يتسنى لنا تفعيله والانتقال به من حيز التنظير الفكري إلى حيز التطبيق العملي.

* إشكالية البحث

ينصب هذا البحث على مراجعة المشهد العالمي وما حفل به من علاقات حضارية متعددة (من صراع وحوار وغيرهما)، في ظل انبعاث الأحادية الفكرية السائدة لدى الحضارة الغربية، وانسداد مسالك التواصل بينها وبين بقية الثقافات الإنسانية المعاصرة، وعلى رأسها الإرث الثقافي للحضارة الإسلامية. من هنا فإن هذا البحث يعالج الإشكالية التالية:

- إلى أيّ مدى ساهم الميلاد في ضبط تصوّر لتعارف الحضارات يتجاوز التعارض القائم بين مأزق الصّدام ومنطق الحوار ويؤسس لعلاقات مستقبلية إيجابية بين الحضارات؟

تعتمد الإجابة عن هذه الإشكالية على البحث المتعمق في عدد من جوانب الموضوع والتي تثير عدداً من الأسئلة الفرعية، وهي:

- هل يمكن أن نراهن على مقدرة المسألة الحضارية على الرقي بمكتسبات الحضارة الإسلامية وتراثها القيمي بما يواكب تحولات العصر؟

- إذا كان الصراع هو منطق الأقوياء وهو أحد أهم دعائم منظومة الغرب الفكرية، فكيف يمكن لنا أن نهذّب ونعقلن هذا المنطق لينصت لصوت الضعفاء؟

- إذا كان الحوار مطلب إنساني وأخلاقي نبيل، فكيف نفعّل هذا المطلب في غياب شرط التكافؤ والندية؟

- ماذا يمكن لنظرية التعارف أن تقدم في مجال العلاقة بين الحضارات؟

* منهج البحث

لقد تحدّد منهج البحث المعتمد تبعاً لطبيعة الموضوع المعالج، ومن هذا المنطلق فقد اعتمدت إجمالاً على المنهج التحليلي لتوضيح الخلفيات الفكرية التي ساهمت في بروز نظرية تعارف الحضارات، وذلك من خلال تحليل جملة المفاهيم التي راجت على إثر انتهاء الحرب الباردة التي تمثلت تحديداً في مقولة نهاية التاريخ، العولمة، صراع الحضارات، حوار الحضارات، بالإضافة إلى اعتماد هذا المنهج في بسط وتحليل مفهوم الحضارة والثقافة والمسألة الحضارية، وكذا المشروع الإسلامي الحضاري المعاصر وفكرة التعارف حسب ما أوردها الميلاد، وذلك بغية تحليل ما هو مركب إلى أجزائه وعناصره الأساسية حتى يتيح لنا معرفة جميع أبعاده، ومدى تأثيرها في هذا الكل المركب لمعرفة شبكة المفاهيم الأساسية في مشروع زكي الميلاد الحضاري.

كما لا تخلو هذه الدراسة من آلية النقد الذي يعكس أهم خاصية للبحث الفلسفي، أيضاً توخياً لتحقيق عنصر الموضوعية التي تنشدها العلوم الإنسانية في البحث العلمي؛ لذا عمدت إلى نقد جل الأفكار والمفاهيم والأطروحات الواردة بهدف تبيين ما فيها من صواب من جهة، وبهدف التأسيس لبناء وتوليد أفكار ومواقف جديدة من جهة أخرى.

* صعوبات الدراسة

إن رحلة الدراسة والبحث هذه لا تخلو من مشاق وصعوبات، يمكن إجمالها في أسباب ذاتية وأخرى موضوعية:

أسباب ذاتية: تتمثل في الالتزامات الاجتماعية والمهنية كوني أشغل وظيفة أستاذة مادة الفلسفة بالطور الثانوي، ومنها الالتزامات العائلية اتجاه الأسرة على اعتبار أنني القائمة على شؤون البيت، بالإضافة إلى متطلبات البحث العلمي وما تقتضيه الرسالة من تفرغ.

أسباب موضوعية: لا شك في أن محاولة البحث في مثل هذا الموضوع من قبل باحث مبتدئ لا تخلو من صعوبة، لا سيما وأن الموضوع يندرج ضمن القضايا الجديدة والمتجددة باستمرار، والذي بات يطرح نفسه بقوة على الصعيدين العربي والغربي، وأيضاً بحكم حداثة النموذج الفكري «الميلاد»، يمكن حصر هذه الصعوبات فيما يلي:

- غياب دراسات وكتب متخصصة حول الميلاد ونظريته للتعارف الحضاري أستعين بها باستثناء بعض البحوث والمقالات المبثوثة على الإنترنت والتي تكرّر المضامين نفسها تقريباً.

- تشعب الموضوع المدروس وترامي أطرافه، حيث يبدو للوهلة الأولى –للقارئ السطحي- أن موضوع التعارف فكرة بسيطة، لكنها في الحقيقة هي نظرية تضرب بجذورها إلى عمق مختلف أنماط العلاقات الحضارية، لأن الفكرة لها طابعان: نقدي ثم تأسيسي، وهنا يكمن وجه الصعوبة في فصل هذه النظرية عن خلفياتها ومرجعياتها المؤسسة لها، مما أوقعنا –في بعض الأحيان كما سيأتي– في التكرار، لكنه تكرار وظيفي ومنهجي الغرض منه التأكيد على السياق الذي وردت فيه والغايات المرجوة.

- ويترتب على ذلك أن الميلاد في اللحظة الواحدة وفي الموضوع الواحد يمارس التنظير والنقد والتحليل والتركيب والتأريخ والفلسفة وغيرها بأسلوب سهل ممتنع؛ لذا كان التعامل مع فكره صعب المراس، ويحتاج إلى جهد كبير من التفكير والإحاطة بآليات واسعة تسمح بفهمه.

- كما أنني عانيت في بداية البحث من عدم توفر المصادر الأساسية لزكي الميلاد، سواء على مستوى المكتبات الجامعية وحتى في المعارض الوطنية والدولية التي أقيمت في السنتين الأخيرتين، مع ذلك فقد حاولت تخطي هذه الصعوبة من خلال الاتصال عبر البريد الإلكتروني بالمفكر زكي الميلاد، الذي لم يبخل عليّ بنصحه وتوجيهه، كما زودني بكل ما احتجت إليه من مصادر تتعلق بالموضوع، إلى أن قدمت الرسالة على الشكل الذي هي عليه، ولا أدعي من وراء ذلك أنني قد أحطت إحاطة شاملة بنظرية تعارف الحضارات، لكنني حاولت قدر الإمكان أن أجتهد وأن أقدم بحثاً يساهم في تسليط الضوء على جانب من جوانب الفكر الفلسفي عموماً، والمتعلق منه بفلسفة الحضارة الإسلامية خصوصاً، لإعادة ربط هذا الفكر بتجاربه المبدعة والخلاقة لعلّه يستعيد مكانته في الدورة الحضارية.

وفي الأخير أتقدم بشكري الخاص إلى كل من: الأستاذ زكي الميلاد، والأستاذ الدكتور عمراني عبد المجيد على ما بذلاه من جهد معي، كما لا يفوتني أيضا أن أشكر كل من مدّ يد العون لي من قريب أو من بعيد لإنجاز هذا البحث.

 

 

 

 

 



[1] زكي الميلاد، تركي علي الربيعو، الإسلام والغرب الحاضر والمستقبل، حوار لقرن جديد، دمشق: دار الفكر، ط2، 2001، ص 8.

[2] قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} سورة الحجرات، الآية 13.

[3] علي عبود مالك المحمداوي: تعارف الحضارات الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر، رسالة ماجستير في الفلسفة، إشراف: نبيل رشاد سعيد، جامعة بغداد، 2007، ص 4 – 5.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة