تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

جدليات الجماعة والأمة .. في المجال الإسلامي الشيعي الحديث والمعاصر

زكي الميلاد

 

جدليات الجماعة والأمة..

في المجال الإسلامي الشيعي الحديث والمعاصر

زكي الميلاد*

* البريد الإلكتروني: almilad@almilad.org

 

 

 

- 1 -
الأطروحة.. الرؤية والصورة

الأطروحة التي أحاول أن أقرر لها في هذه المطالعة، تتحدَّد على النحو الآتي: أن المسلمين الشيعة يتقدَّمون كلَّما اتَّجهوا نحو فكرة الأمة، ويتراجعون كلَّما اتَّجهوا نحو فكرة الجماعة، والاتِّجاه نحو فكرة الأمة يأتي تعبيراً عن حالة من النهوض والتقدُّم، والاتِّجاه نحو فكرة الجماعة يأتي تعبيراً عن حالة من التراجع والانكماش.

في الاتِّجاه نحو فكرة الأمة تبرز وتتجلَّى ملامح الشعور بالثقة، والرغبة في الانفتاح والتواصل، والإحساس بالمصير والمستقبل المشترك، والحاجة إلى تخطِّي كل مظاهر وأشكال التجزئة والانقسام، والتعالي على رواسب وحساسيات الماضي والتاريخ.

بينما في الاتجاه نحو فكرة الجماعة تبرز وتتجلَّى ملامح الشعور بالخشية والخوف، والرغبة في حماية الذات، والإحساس بحفظ الهوية وتماسك الكيان، والابتلاء بنزعات القطيعة والانغلاق، وتأكيد ما يعزز كل أشكال وصور التمايز.

وحسب هذه الأطروحة، إن الاتِّجاه نحو فكرة الأمة هو الذي يُعزِّز تماسك الجماعة ويحفظ كيانها، بينما الاتِّجاه نحو فكرة الجماعة قد يتسبب في إرباك تماسك الجماعة، وخلخلة كيانها.

وتعليل ذلك، أن الاتِّجاه نحو فكرة الأمة يجعل الجماعة تنظر إلى ذاتها من خلال الفضاء الواسع، فضاء الأمة الممتد على مدى جغرافيتها الطبيعية والسكانية، من طنجة في الغرب إلى جاكرتا في الشرق، وبالشكل الذي يفتح عليها هامشاً واسعاً من الحركة، ويفك عنها حالة الحصار أو حالة الشعور بالحصار.

في حين أن الاتِّجاه نحو فكرة الجماعة يضع الجماعة أمام الأفق الضيق، ويجعل نظرها يتركز إلى داخلها، بطريقة تثار معها الحساسيات والانقسامات الحادة، وقد تُثير معها حتى النزاعات التي تظهر عادة في وضعيات الانغلاق والانكماش، بسبب الاحتكاكات التي تحصل نتيجة الهوامش الضيقة.

وما تريد هذه الأطروحة تأكيده أن الاتِّجاه نحو فكرة الأمة -كان وما زال- يمثل اتجاهاً قائماً ومؤثراً في المجال الإسلامي الشيعي، وممتداً من الأزمنة الوسيطة إلى الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وهو الاتِّجاه الذي عرف بنزعته الإصلاحية والتجديدية، وبدعوته إلى الانفتاح والتواصل بين المسلمين كافة مذاهب ومجتمعات، سعياً وتحقيقاً لمفهوم الأمة الجامعة، وتمثُّلاً وتجلياً لمفهوم الأمة الواحدة، التي تظلل وتحمي مجتمعات المسلمين كافة، على امتداد جغرافياتهم الطبيعية والسكانية، وعلى اختلاف وتنوُّع لغاتهم وألسنتهم، أعراقهم وقومياتهم، مذاهبهم ومدارسهم.

وقد عبَّر هذا الاتِّجاه عن نفسه، ليس من خلال أفكار ومواقف عادية وعابرة، أو مُجتزأة ومبتورة، تكون قابلة للنسيان والاندثار، ومُعرَّضةً للتلاشي والاضمحلال مع مرور الوقت، وتعاقب الأيام، أو تكون قابلة للجدل والنقاش في صدقيتها وجديتها، وإنما من خلال خطوات لها صفة التأسيس والتقعيد في مجال العلوم والمعارف، ومن خلال مبادرات لها صفة الحركة والنهوض، ومن خلال أشخاص وأعلام لهم صفة التأثير والاعتبار في تاريخ تطور حركة الإصلاح والتجديد في المجال العربي والإسلامي الحديث والمعاصر.

- 2 -
جدلية الجماعة والأمة في المجال الإسلامي العام

ظهرت جدلية الجماعة والأمة وعرفت في ساحة المسلمين مع تشكُّل وتكوُّن ما عرف بالفِرق والجماعات الفكرية والاجتماعية، وتعزَّزت هذه الجدلية وترسَّخت مع بقاء وثبات هذه الفِرق والجماعات التي ترتد في أصولها الفكرية والتاريخية إلى عصور الإسلام الأولى، وذلك بعد انقسام المسلمين إلى فرق وجماعات، تبلورت وتحدَّدت في مذاهب فقهية وكلامية، وجد فيها المسلمون في عصورهم الحديثة أنها من تجليات ظاهرة التنوُّع والتعدُّد في ساحة الإسلام والمسلمين.

وخلال التاريخ الفكري للمسلمين ظهرت الكثير من الفرق والجماعات، الصغيرة والكبيرة، وقد وصلت حسب كتاب (جامع الفرق والمذاهب الإسلامية) إلى ما يزيد على مائتين فرقة وجماعة[1].

واللافت في الأمر أن ما من فرقة وجماعة ظهرت إلَّا وانقسمت على نفسها انقسامات عدة، لعوامل وأسباب ترجع تارة إلى الأشخاص، وتارة إلى الآراء والأفكار، وتارة إلى اختلاف الأمكنة والبيئات والمدن، وتارة إلى الصراعات والنزاعات الفكرية والسياسية، وبقي هذا الحال قائماً ومستمراً لقرون عدة.

ومع أن الكثير من هذه الفرق والجماعات قد تلاشت واضمحلت، والكثير منها نسيت وطمست، ولم يعد لها ذكر وذاكرة منذ قرون عدة، إلَّا أن هذه الظاهرة كشفت عن مدى شدة وسعة الانقسام الفكري الحاصل بين المسلمين.

ومن أكثر ما يلفت النظر إلى هذه الظاهرة أنها حصلت في العصور القريبة من تاريخ الإسلام، وذلك بسبب الاختلافات والصراعات والفتن المبكرة والعنيفة التي ظهرت في ساحة المسلمين آنذاك.

ومن أشد ما لفت الانتباه إلى ظاهرة الانقسام بين الجماعات في ساحة المسلمين، وتقديم فكرة الجماعة وتغليبها على فكرة الأمة، هو حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، هذا الحديث المختلف والمتنازع عليه سنداً ومتناً، يُعدُّ من أكثر الأحاديث التي ضربت وأضرَّت فكرة الأمة وأطاحت بها، وكأن الإسلام جاء لتكوين جماعة أو فرقة تكون هي الفرقة الناجية، ولم يأتِ لتكوين أمة تكون أمة جامعة لكل المسلمين.

وكان من نتائج هذا الحديث المثير للجدل أن ترتَّب عليه نشوء أدب خاص بات يُعنى بالبحث عن الفرق وتعدادها في ساحة المسلمين، والكشف عمَّا بين هذه الفرق من فروقات، صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو باطنة، حادثة أو أصيلة.

ومن أشهر المؤلفات التي وصلتنا في نطاق هذا الأدب، ثلاثة مؤلفات تتجلَّى من عناوينها، وهي: كتاب (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/ 1037م)، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي (384-456هـ/ 994-1063م)، وكتاب (الملل والنحل) لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني (479-548هـ).

ومن شدة العناية بهذا النمط من الأدب حاول الشهرستاني أن يضع قانوناً يُبنى عليه -حسب قوله- في تعداد الفرق الإسلامية، وأشار إلى هذا القانون في المقدمة الثانية من المقدمات الخمس التي افتتح بها كتابه، وحملت هذه المقدمة عنوان (في تعيين قانون يُبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية).

وعن هذا القانون والحاجة إليه يقول الشهرستاني: «اعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه، أن ليس كل من تميَّز عن غيره بمقالة ما، في مسألة ما، عُدَّ صاحب مقالة. وإلَّا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلاً معدوداً في عداد أصحاب المقالات، فلا بد إذن من ضابط في مسائل هي أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافاً يعتبر مقالة، ويُعدُّ صاحبه صاحب مقالة.

وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلَّا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف اتَّفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر، فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، وتقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي الأصول الكبار»[2].

وإذا كانت هناك حاجة فعلية لمثل هذا القانون، نتيجة توسع الانشغال والاهتمام بدراسة وتعداد الفرق الإسلامية، بسبب تزايد وتشعب هذه الفرق، فإن الحاجة الأكثر أهمية وأولوية كانت لوضع قانون يحفظ للأمة وحدتها وتماسكها، ويتَّخذ من مفهوم الأمة الجامعة أساساً ومرتكزاً ونهجاً يكون ثابتاً وراسخاً، لا يجوز تخطيه، أو الخروج عليه، أو الانتقاص منه.

وكان من السهولة الالتفات لهذا القانون، وإدراك الحاجة إليه، في ظل ما كانت تشهده الأمة من انقسامات على نفسها، وتحوُّلها إلى فِرق وجماعات متباعدة ومتخاصمة، ومنشغلة بالكشف عن الفروقات فيما بينها، لتحقيق الغلبة والانتصار، وكسب الفوز بالفرقة الناجية، كل ذلك بدل الانشغال بالكشف عن الجوامع والمشتركات بين هذه الفرق والجماعات، لتحقيق الغلبة والانتصار لمفهوم الأمة الجامعة، والأمة الناجية بدل الفرقة الناجية.

كما كان من الممكن الالتفات لهذا القانون أيضاً، حين العودة إلى النص القرآني الذي لفت الانتباه بشدة لفكرة الأمة، وكرَّر استعمال هذه التسمية بصيغة المفرد أكثر من خمسين مرة، في خمس وعشرين سورة مكية ومدنية، من سورة البقرة إلى سورة الأحقاف.

ومن أكثر ما يلفت الانتباه في استعمال تسمية الأمة في النص القرآني، آمران هما:

الأمر الأول: أن النص القرآني في جميع آياته، من أول القرآن إلى نهايته، لم يستعمل تسمية الجماعة قط.

الأمر الثاني: أن النص القرآني استعمل تسمية الأمة في مكان استعمال تسمية الجماعة، وأعطى الجماعة تسمية الأمة، وهذه كانت واحدة من معاني استعمال كلمة أمة في النص القرآني.

ومن الآيات التي دلَّت على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[3].

وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}[4].

ولا شك في أن هذه الإشارة بالغة المعنى، من جهة حقلها الدلالي، في إعطاء كلمة الأمة سمة التفضيل من جهة، وسمة الترجيح على كلمة الجماعة من جهة أخرى.

وهذا التفضيل والترجيح بهذا الظهور البياني، لا يمكن النظر له بعيداً عن مقصد القرآن الكلي في بناء وتكوين الأمة الوسط، مصداقاً لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[5].

وبناء وتكوين الأمة الخيرية، مصداقاً لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[6].

وبناء وتكوين الأمة الواحدة، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[7]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[8].

الأمر الذي يعني أن القرآن الكريم جاء لبناء وتكوين أمة، وليس لبناء وتكوين جماعة، وهذا ما كان ينبغي الالتفات والتنبيه إليه، وتحويله إلى مقصد ثابت على مستوى النظر، وإلى نهج واضح على مستوى العمل.

وفي المحصلة، إن الإقرار والاعتراف بوجود الفرق والجماعات في ساحة المسلمين، لا ينبغي أن يغلب فكرة الجماعة على فكرة الأمة، والانتصار لفكرة الجماعة على حساب فكرة الأمة، ولا التنبُّه لفكرة الجماعة، والتغافل عن فكرة الأمة، بسبب تأثير التاريخ الطويل من الانقسام والنزاع بين هذه الفرق والجماعات.

- 3 -
جدلية الجماعة والأمة في المجال الشيعي

إن جدلية الجماعة والأمة هي أكثر وضوحاً في المجال الإسلامي الشيعي، وذلك نظراً لطبيعة التاريخ الذي عاصره المسلمون الشيعة، وحكم مسيرتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية لفترات طويلة، وامتد تأثيره حتى في طريقة النظر لأنفسهم، وبشكل يدفع بهم إلى الالتفات دائماً لفكرة الجماعة التي كانت مهددة في وجودها، وفي أمنها وسلامتها، وحفظ كيانها.

والملاحظ بصورة عامة، أن المسلمين الشيعة غالباً ما كانوا يوضعون في الموقف الذي يجعلهم ينظرون لأنفسهم في إطار فكرة الجماعة، لا في إطار فكرة الأمة، ويدفعون إلى هذا الموقف دفعاً، برغبتهم أو دون رغبتهم، بإرادتهم أو دون إرادتهم، وذلك بحكم مواقفهم الفكرية والسياسية المغايرة، التي جعلتهم غالباً في خط المواجهة والمعارضة، وخارج مؤسسة الحكم.

كما أن النظرة العامة التي تشكَّلت حول المسلمين الشيعة قديماً وحديثاً، كانت تضعهم خارج نطاق فكرة الأمة، وذلك من خلال التشكيك في عقيدتهم وإيمانهم، وتصويرهم كما لو أنهم فرقة منشقة عن كيان الأمة، وتصنيفهم في دائرة أهل الأهواء والبدع، وهناك من حكم عليهم بالضلال، والخروج عن سبيل المؤمنين، واتِّهامهم بالأعمال الشركية، والتعامل معهم وفق قاعدة هجر المبتدع، القاعدة التي اتَّخذت من القطيعة والتباعد أصلاً وأساساً.

هذه هي الصورة النمطية التي ظلَّت متوارثة عن المسلمين الشيعة، لكنها الصورة التي لا تستند إلى علم ودراية، وتكشف كيف أن المسلمين ظلوا يجهلون بعضهم بعضاً، ولا يسعون لرفع هذا الجهل، مع أنهم يحفظون ويكررون ما روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: «الناس أعداء ما جهلوا»، وروي عنه أيضاً قوله: «الجهل فساد كل أمر»، و«الجهل أصل كل شر»[9].

وفي تأكيده لهذه الحالة ونقده لها، يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد: «لا يكاد أكثر المثقفين غير المتخصصين من أهل السنة، يعرفون عن الشيعة إلَّا أنهم طائفة أسرفت في التشيع لعلي بن أبي طالب، وترى أنه كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر، وأنهم فوق ذلك أصحاب بدع يخالفون بها مذهب أهل السنة، ويخرج بها المتطرفون منهم عن دائرة الإسلام الصحيح»[10].

وحين توقف أمام هذه الحالة، الكاتب المصري فهمي هويدي كاشفاً لها، ومستغرباً منها، كتب يقول كل: «من قدر له أن يطوف بأرجاء العالم العربي، لا بد أنه صادف بعضاً من آثار موقف اللامعرفة والتوجس من جانب أهل السنة تجاه الشيعة، حتى أنني سمعت من ينتسب إلى العلم والسلف في دولة عربية شقيقة، يصنف عقائد الشيعة ليس فقط باعتبارها خروجاً عن الإسلام، ولكن بحسبانها شيئاً أدنى من عقائد أهل الكتاب والصابئة والمجوس والوثنيين!»[11].

أمام هذه الصورة النمطية المتوارثة والمشوهة، وجد المسلمون الشيعة أنفسهم دائماً في موقف الدفاع عن الذات، ونفي التُّهم والتشكيكات، والعمل على تصحيح الصورة، والمطالبة بحقهم في البقاء والوجود، وجميع هذه المواقف والحالات تندرج وتتأطر في نطاق فكرة الجماعة، وبشكل يجعل فكرة الجماعة هي الفكرة الغالبة في ساحة المسلمين الشيعة، بإرادتهم أو من دون إرادتهم.

ومن جانب آخر، إن هذه الصورة النمطية المشوهة كانت وما زالت تُمثِّل موقفاً فكريًّا وسلوكيًّا طارداً للمسلمين الشيعة من دائرة فكرة الأمة، بمعنى أن الموقف الفكري والسلوكي الموجه والممارس مع المسلمين الشيعة، لم يكن يُقرِّبهم من فكرة الأمة، ويشجِّعهم ويستوعبهم من هذه الجهة، من خلال الاعتراف لهم بوجودهم، وبحقهم في الاجتهاد والاختلاف الفكري، والتعايش والتفاهم معهم على قاعدة مبدأ التعدُّد والتنوُّع ضمن دائرة الإسلام.

 

- 4 -
التقية.. وجدلية الجماعة والأمة

يُعدُّ مفهوم التقية أحد أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً وسجالاً في تاريخ تطور العلاقات الفكرية والاجتماعية بين المسلمين السنة والشيعة، وأحد أكثر المفاهيم أيضاً التي وضعت المسلمين الشيعة في دائرة الالتباس وسوء الفهم، وطالما تم توظيف هذا المفهوم لتوجيه الاتهام للمسلمين الشيعة، والتشهير بهم، والتشنيع عليهم، وتصويرهم على غير حقيقتهم، كما لو أنهم جماعة يتعمدون الغموض والكتمان على طريقة الجماعات السرية والباطنية، أو كما لو أنهم جماعة غير قابلة على الفهم، أو من الصعب فهمهم على حقيقتهم، وكل هذه تصويرات وتوظيفات لا أساس لها من الصحة، في نظر عموم المسلمين الشيعة.

وحقيقة الأمر أن التقية تتصل من جهة بفكرة الجماعة، وتتصل من جهة أخرى بفكرة الأمة، تتصل بفكرة الجماعة، من جهة أن التقية هي سلوك يتَّبعه جميع العقلاء بما هم عقلاء من أهل جميع المذاهب والديانات قديماً وحديثاً، والعقلاء يلجؤون لهذا السلوك عند الاضطرار الشديد، وفي حالة الظروف الخاصة والقاهرة، لغرض الدفاع عن الذات، والحفاظ على الحياة، والحق في البقاء، وتجنُّباً للخطر والضرر الذي لا يحتمل، وهذا ما تقرره جميع الشرائع والديانات، ويقول به جميع العقلاء والحكماء، وبموجب قانون الحقوق فإن حق الحياة مقدم على جميع الحقوق الأخرى.

وتأكيداً لهذا المعنى يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (1295-1373هـ/ 1876-1954م): «من الأمور التي يشنع بها بعض الناس على الشيعة ويزدري عليهم بها، قولهم بالتقية جهلاً منهم بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها، ولو تثبتوا في الأمر، وتريثوا في الحكم، وصبروا لعرفوا أن التقية التي تقول بها الشيعة لا تختص بهم ولم ينفردوا بها، بل هو أمر ضرورة العقول، وعليه جبلة الطباع وغرائز البشر، وشريعة الإسلام في أسس أحكامها وجوهريات مشروعياتها تماشي العقل والعلم جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، رائدها العلم، وقائدها العقل، ولا تنفك عنهما قيد شعرة، ومن ضرورة العقول، وغرائز النفوس، أن كل إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه، والمحافظة على حياته، وهي أعز الأشياء عليه، وأحبها إليه، نعم قد يهون بذلها في سبيل الشرف وحفظ الكرامة وصيانة الحق ومهانة الباطل، أما في غير أمثال هذه المقاصد الشريفة، والغايات المقدسة، فالتغرير بها، وإلقاؤها في مظان الهلكة، ومواطن الخطر، سفه وحماقة لا يرتضيه عقل ولا شرع، وقد أجازت شريعة الإسلام المقدسة للمسلم، في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه، إخفاء الحق، والعمل به سرًّا»[12].

وحين توقف الدكتور أحمد كمال أبو المجد أمام هذه الرأي أظهر توافقاً معه، واستشهاداً به، وحسب قوله: «والتقية في معناها العام أن يضمر المسلم غير ما يُعلن دفاعاً عن نفسه، واتقاء لخطر لا يقدر على دفعه، إذ قد أجازت شريعة الإسلام المقدسة للمسلم في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحق والعمل به سرًّا، ريثما تنتصر دولة الحق وتغلب على الباطل، كما أشار إليه جل شأنه {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.

والحق أن هذا المسلك الدفاعي في مواجهة الخطر الداهم ليس ممَّا ينفرد به الشيعة، ولكنهم لجؤوا إليه لما تعرضوا له منذ بداية الحكم الأموي من اضطهاد وتضييق وأذى، وقد لخَّص ذلك العلامة محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله: «والتعيير بالتقية ليس على الشيعة، بل على من سلبهم موهبة الحرية، وألجأهم إلى العمل بالتقية.

كما أنه من التجني، أن يصور مسلك الشيعة في عمومه، بأنه مسلك يتعمد التقية، ويركن إليها»[13].

وفي سياق هذا الرأي توافقاً وتطابقاً، ما ذهب إليه فهمي هويدي بقوله: «مسألة التقية بمعنى التعامل بظاهر مختلف عن الباطن، ليست بدعة شيعية كما يظن كثيرون، ولكنه سلوك له أصل في الإسلام، والكلمة مشتقة من العبارة القرآنية {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، أي إذا كان ذلك ضروريًّا لتوقي ضرر لا يحتمل... نعم هناك ضوابط وشروط للتقية فصَّل فيها الفقهاء، لا مجال للخوص فيها هنا، لكن النقطة التي تعنينا أن المبدأ تُقرِّه تعاليم الإسلام، وليس مقصوراً على الشيعة وحدهم»[14].

وتتصل التقية بفكرة الأمة، من جهة أن التقية تعني تقديم ما هو عام على ما هو خاص، وجعل ما هو عام راجحاً على ما هو خاص، في الموارد التي تقتضي تقديم العام على الخاص، وترجيح العام على الخاص، وذلك بعدم التجاهر وإشهار بعض الطقوس والسلوكيات الخاصة في المجال العام، بقصد أن يظهر المسلمون بمظهر التفاهم والتوافق والتآلف.

والفرق بين المعنى الأول الذي تتصل فيه التقية بفكرة الجماعة، وهذا المعنى الذي تتصل فيه التقية بفكرة الأمة، أن المعنى الأول يأتي بدافع الاضطرار، ومع حصول الضرر الراجح، بينما المعنى الثاني يأتي بدافع الاختيار، ومع حصول النفع الراجح.

وفي نطاق هذا المعنى، بربط التقية بفكرة الأمة، يمكن الإشارة إلى الأقوال الآتية:

القول الأول: وأشار إليه السيد هبة الدين الشهرستاني (1301-1386هـ/1884-1967م)، عند حديثه عن الغرض من التقية، بقوله: إن التقية جاءت لغرض «صيانة النفس والنفيس والمحافظة على الوداد والأخوة مع سائر إخوانهم المسلمين، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكيلا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في الجامعة الإسلامية، فيوسعوا الخلاف بين الأمة المحمدية»[15].

القول الثاني: وأشار إليه الشيخ محمد رضا المظفر (1322-1383هـ/ 1904-1964م)، الذي يرى أن حكمة التقية عند المسلمين الإمامية، جاءت «دفعاً للضرر عنهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولما لشعثهم»[16].

القول الثالث: وأشار إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1354-1421هـ/  1936-2001م)، الذي يرى أن تشريع التقية يهدف إلى تحقيق أمرين، أحدهما «حفظ حالة التجانس والتلاحم في المجتمع الإسلامي بين جميع الفئات المذهبية وغيرها، وعدم التسبب -نتيجة للموقف المذهبي- في حدوث نزاعات وتوترات مذهبية - طائفية، سياسية واجتماعية»[17].

القول الرابع: وأشار إليه السيد محمد حسين فضل الله (1354-1431هـ/ 1935-2010م)، الذي يرى أن التقية تأتي في «الحالة التي قد تفرض فيها المصلحة الإسلامية العليا، تجاوز بعض الشروط الخاصة لبعض الأحكام الشرعية، بحيث تتقدم الأهمية الكبرى للواقع الإسلامي الذي يراد حمايته، على كل هذه المفردات الشرعية»[18].

القول الخامس: وأشار إليه الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني، الذي يرى أن «التقية في الإسلام تدور إذا تعارضت المصالح الخاصة لمذهب ما، مع المصالح الإسلامية، وجب تقديم المصالح الإسلامية بالتنسيق مع سائر المسلمين»[19].

الإشارة إلى هذه الأقوال كان بقصد تأكيد تعاضدها، وكيف أنها تُمثِّل اتِّجاهاً ومساراً قائماً ومتجلياً، خاصة وأن هذه الأقوال تتصل بأزمنة متفرقة، وتنتمي إلى أمكنة متعددة هي العراق ولبنان وإيران، وصدرت عن أشخاص لهم وزنهم واعتبارهم الفكري والإصلاحي.

وما يؤكد الحاجة للإشارة إلى هذه الأقوال، كون أن المعنى المتحصل منها، والمتصل بربط التقية بفكرة الأمة، هو من المعاني الغائبة عن الإدراك عند نخب المسلمين السنة، فضلاً عن جمهورهم، ولا يلتفت إليه عادة، ولم أجد اقتراباً منه، وإشارة إليه في الكتابات التي رجعت إليها، مع تطرق هذه الكتابات ومناقشتها لفكرة التقية عند المسلمين الإمامية.

- 5 -
جمال الدين الأفغاني.. والعبور من الجماعة إلى الأمة

من المحطات التاريخية المهمة التي لا بد من التوقف عندها، ودراستها والنظر فيها عند البحث عن جدليات الجماعة والأمة في المجال الإسلامي الشيعي، المحطة التي ظهر فيها السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/ 1838-1897م)، ومثَّل فيها نموذجاً قلَّ نظيره في العبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة.

وفي عصره كان الأفغاني أحد أكثر الرجال دفاعاً عن الأمة والأمة الجامعة، بل وأحد أكثر الرجال تمثُّلاً لفكرة الأمة الجامعة، التي اتَّخذ منها ساحة لحركته ونشاطه، حتى عُرفت حركته الإصلاحية الرائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي بحركة الجامعة الإسلامية، ومدرسة الجامعة الإسلامية، وهو المفهوم الذي أثار بشدة حفيظة الغربيين المستعمرين، لأنهم وجدوا فيه دعوة الشعوب الإسلامية للتكتل والاتحاد في مواجهتهم، ومقاومة نفوذهم واستعمارهم، وهذا ما كان يخيفهم ويثير حساسيتهم.

والمدهش في الأفغاني أنه استطاع أن يبعث روحاً في الأمة على اختلاف تنوُّعها وتعدُّدها المذهبي والقومي واللغوي، وعلى امتداد مساحتها المكانية والجغرافية، روحاً دفع بها الأمة نحو اليقظة والنهوض، وعرف عصره بعصر النهضة والإصلاح.

واعترف له المؤرخون والباحثون، عرباً ومسلمين ومستشرقين، بهذا الدور النهضوي والإصلاحي الرائد والكبير، وهم الذين تعمَّدوا المبالغة في الأوصاف التي أطلقوها عليه، بين من وصفه بموقظ الشرق مثل عبد الرحمن الرافعي في كتابه (جمال الدين الأفغاني باعث الشرق)، ومن وصفه بحكيم الشرق مثل قدري قلعجي في كتابه (جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق)، وبين من وصفه بباعث النهضة الفكرية في الشرق مثل محمد سلام مدكور في كتابه (جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق).

واعتبره مالك بن نبي (1323-1393هـ/ 1905-1973م)، بأنه باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وبطلها الأسطوري في العصر الحديث[20]، ووصفه المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (1895-1971م)، بالرائد الكبير للنهضة الإسلامية الحديثة في القرن التاسع عشر[21].

هذا الدور الإصلاحي الكبير الذي نهض به الأفغاني مثَّل أحد صور إسهامات المجال الإسلامي الشيعي في الدفاع عن الأمة والأمة الجامعة، والانحياز لهذه الفكرة، والتمسك بها، بوصفها تُمثِّل خياراً ونهجاً وسبيلاً لا بد من الالتزام به، على طريق بناء مستقبلنا الإسلامي الحضاري المشترك.

ومن جانب آخر، كشف هذا الدور الإصلاحي الكبير عن مدى حضور فكرة الأمة في المجال الإسلامي الشيعي، الفكرة التي ولدت رجلاً إصلاحيًّا مثل الأفغاني، وجد أن دوره لا ينبغي أن ينحصر ويتضيق في نطاق الجماعة، بل يجب أن يتسع ويمتد إلى نطاق الأمة التي كانت مهددة في كيانها الجامع، ومعرضة لمخاطر التجزئة والتقسيم، أمام صعود القوة الأوروبية الطامحة والطامعة للهيمنة والسيطرة، على المناطق العربية والإسلامية الغنية بالثروات الطبيعية.

كما كشف هذا الدور أيضاً عن إحدى الخبرات التاريخية المهمة المتصلة بالمجال الإسلامي الشيعي، والتي تجلَّت فيها فكرة الأمة والأمة الجامعة بأعلى درجاتها تميزاً وتفوقاً، وعدت من الخبرات النموذجية التي نادراً ما يجود بها التاريخ الإنساني، فقد مثَّل الأفغاني في عصره روح الأمة والأمة الجامعة، وكان مشعاً بهذه الروح المتوهجة في شخصيته ومواقفه وأفكاره، ومؤثراً بهذه الروح على غيره، وعلى من حوله، وظل محافظاً على هذا الوهج إلى نهاية مشوار حياته.

ولا أدل على ذلك من الوصف الذي أطلقه عليه مالك بن نبي، حين وصفه بأنه يمثل ضمير العالم الإسلامي، ومذكراً بكلام الكاتب الجزائري علي الهمامي، الذي قال عن الأفغاني: «لسوف تذكر البلاد الإسلامية جميعاً اسم جمال الدين، كما تذكر بلاد اليونان اسم هوميروس بين الخالدين من أبنائها»[22].

وستظل الحاجة قائمة ومستمرة لتذكر هذه الخبرة التاريخية للأفغاني، من أجل إحياء فكرة الأمة الجامعة، وتجديد الصلة بهذه الفكرة في المجال الشيعي خاصة، وفي المجال الإسلامي عامة، وأيضاً لأجل تسهيل وتشجيع إمكانية العبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة.

وتتأكد هذه الحاجة اليوم، في ظل ما يحصل من انقسامات خطيرة تباعد بين المسلمين مذاهب ومجتمعات، وتعرّض ساحتهم إلى التمزق والتنازع والتطاحن، وتشيع بينهم الكراهية والقطيعة والانغلاق، وبعدما أخذت تعصف بينهم رياح الفتن المذهبية البغيضة، ووصل الحال بالبعض إلى الرغبة في القتل، عن طريق التفجيرات العمياء، التي ضربت في الأسواق والمدارس والمساجد والكنائس وغيرها، ولسان حال العقلاء يقول: إننا بحاجة إلى أفغاني جديد، يعيد ربط المسلمين بأمتهم الجامعة.

- 6 -
فكرة التقريب بين المذاهب.. والعبور من الجماعة إلى الأمة

ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ظهر في ساحة المسلمين مفهومان أساسيان لهما علاقة بمجال وحدة المسلمين، وهما مفهوم الجامعة الإسلامية الذي كان المفهوم الأبرز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومفهوم التقريب بين المذاهب الذي كان المفهوم الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين.

فكرة التقريب من الناحية التاريخية هي فكرة التي حلَّت مكان فكرة الجامعة الإسلامية في مجال العلاقة بين المسلمين، وذلك بعد تلاشي دولة الخلافة العثمانية، وغياب السيد جمال الدين الأفغاني الذي ارتبطت به فكرة الجامعة الإسلامية، وكان المحرك لها، والمتمثل لروحها، بمعنى أن التقريب هي الفكرة التي اكتسبت أوسع شهرة بعد فكرة الجامعة الإسلامية، ومن جانب آخر فإن فكرة التقريب جاءت امتداداً لفكرة الجامعة الإسلامية، واستمرارا للنهج الفكري والإصلاحي الذي عبّرت عنه فكرة الجامعة الإسلامية.

وكما ارتبطت فكرة الجامعة الإسلامية بالأفغاني، ارتبطت فكرة التقريب بين المذاهب بالشيخ محمد تقي القمي (1910-1990م)، الذي عمل على تأسيس أول جماعة للتقريب في العصر الحديث، ظهرت في النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين في القاهرة.

وتكفي في هذا الشأن شهادة شيخ الأزهر في عصره الشيخ محمود شلتوت (1310-1383هـ/ 1893-1963م)، الذي رافق تجربة دار التقريب منذ انطلاقتها، وكان أحد المؤسسيين لها، ومن الوجوه البارزة فيها، فحين تحدث عن قصة هذه التجربة، ونشأتها الأولى كتب يقول: «كنت أود لو كتب قصة التقريب أحد غير أخي الإمام المصلح محمد تقي القمي، ليستطيع أن يتحدث عن ذلك العالم المجاهد الذي لا يتحدث عن نفسه، ولا عمَّا لاقاه في سبيل دعوته، وهو أول من دعا إلى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها إلى هذا البلد، بلد الأزهر الشريف، فعاش معها وإلى جوارها منذ غرسها بذرة مرجوة على بركة الله، وظل يتعهدها السقي والرعاية بما آتاه الله من عبقرية وإخلاص، وعلم غزير، وشخصية قوية، وصبر على الغير، وثبات على صروف الدهر، حتى رآها شجرة سامقة الأصول باسقة الفروع تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون في هذا البلد وفي غيره»[23].

وانخرط في هذه التجربة وساندها وعاضدها جمع من ألمع رجال الدين المصلحين الشيعة في العراق ولبنان وإيران، الذين صدرت منهم مواقف ورسائل داعمة ومؤيدة، ونشروا كتابات مهمة في هذا الشأن، وتابعوا نشاطات هذه التجربة بتفاعل واهتمام، وكان في طليعة هؤلاء المرجع الديني السيد حسين البروجردي (1292-1380هـ/ 1875-1961م) في إيران، والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في العراق، والسيد عبد الحسين شرف الدين (1290-1377هـ/1873-1957م) في لبنان.

وهؤلاء الثلاثة تحديداً، هم الذين خصهم الشيخ شلتوت بالذكر من جهة المساندة والمشاركة، وحسب قوله: لعلِّي «كنت أستطيع أن أتحدث عن صور لكثيرين ممن وهبوا أنفسهم لهذه الدعوة الإسلامية، ووقفوا عليها جهودهم، وآمنوا بالتقريب سبيلاً إلى دعم قوة المسلمين، وإبراز محاسن الإسلام، وغير هؤلاء كثيرون ممن سبقونا إلى لقاء الله من أئمة الفكر في شتى البلاد الإسلامية الذين انضموا إلى التقريب، وبذلوا جهودهم لنشر مبادئه، وساجلناهم علماً بعلم، ورأياً برأي، وتبادلنا وإياهم كثيراً من الرسائل والمشروعات والمقترحات، وفي مقدمتهم المغفور له الإمام الأكبر الحاج آقا حسين البروجردي أحسن الله في الجنة مثواه، والمغفور لهما الإمامان الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي رضي الله عنهما.

لقد تلقى أولئك الأعلام دعوة التقريب في أول نشأتها، ففتحوا لها قلوبهم وعقولهم، وأصفوها أكرم جهودهم، حتى ذهبوا إلى ربهم راضين مرضيين، وأن لهم تاريخاً يذكر، وفضلاً يجب أن يسجل ويؤثر، وغير هؤلاء كثير، ولسنا بصدد العد والإحصاء»[24].

والملاحظ بصورة عامة، أن المسلمين الشيعة هم الذين بادروا وحركوا فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكانوا الرواد في هذا الطريق، وقدموا نتاجاً فكريًّا ثريًّا ولامعاً يصلح أن يؤرخ له من هذه الجهة، نتاجاً مثَّل رصيداً مهمًّا في تدعيم الموقف والمسلك الإصلاحي عند الشيعة خاصة، وعند المسلمين عامة.

وعند النظر في تفسير هذا الموقف من جهة المقاصد والغايات، يمكن القول: إنه يتحدَّد في أمرين متلازمين، الأمر الأول يتصل بتصحيح الصورة النمطية المتوارثة والمشوهة عن المسلمين الشيعة، والأمر الثاني يتصل بالرغبة في العبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة، والالتحام بالأمة والاندماج معها، وذلك من خلال تعزيز المعرفة والتعارف بين أتباع المذاهب الإسلامية، وإحياء قيم التآخي والتفاهم والتآلف، وتوثيق روابط الأخوة الإسلامية، وتعزيز القواسم المشتركة والتوافقات العامة، ونبذ كل أشكال التعصب والتباعد والتفرق.

والشاهد في هذا الأمر، أن فكرة الأمة والارتباط بهذه الفكرة مثَّلت دافعاً أساسيًّا عند المسلمين الشيعة نحو تبني وتحريك فكرة التقريب في ساحة المسلمين، الفكرة التي بقت وما زالت قائمة مع ما يحيط بها من تحديات وإشكاليات وتشكيكات، ظهرت وصاحبت هذه الفكرة منذ انبعاثها، لكنها صمدت وبقت وستظل باقية، مستندة في بقائها وثباتها على أصول الإسلام العامة، وروح الأخوة الإسلامية، وفكرة الأمة الجامعة، والمستقبل المشترك.

أما الذين حاربوا هذه الفكرة، ووقفوا ضدها فقد صنفهم الشيخ شلتوت إلى أصناف، وحسب قوله: «حارب هذه الفكرة ضيقوا الأفق، كما حاربها صنف آخر من ذوي الأغراض الخاصة السيئة، ولا تخلوا أية أمة من هذا الصنف من الناس، حاربها الذين يجدون في التفرّق ضامناً لبقائهم وعيشهم، وحاربها ذوو النفوس المريضة، وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصة، هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات مفرقة لها أساليبها المباشرة وغير المباشرة في مقاومة أية حركة إصلاحية، والوقوف في سبيل كل عمل يضمن شمل المسلمين، ويجمع كلمتهم. كانوا يهاجمون الفكرة كل على طريقته، ويسممون الجو بقدر استطاعتهم، بغية القضاء على تلك الدعوة الواضحة المبادئ والأركان، القائمة على العلم والدراسة والبحث، الداعية إلى فتح المجال أمام الدليل من أي أفق طلع»[25].

- 7 -
قضية فلسطين.. والعبور من الجماعة إلى الأمة

في العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديداً منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران مطلع ثمانينات القرن العشرين، حصل تطور مهم وكبير في شكل علاقة المسلمين الشيعة بقضية فلسطين، لعله التطور الأهم في تاريخ علاقة المسلمين الشيعة بهذه القضية في العصر الحديث، فقد ظهر هؤلاء في الموقف المساند والمناصر والداعم بشدة للقضية الفلسطينية، وبصورة لفت وأثار انتباه الجميع، ووضع هذا الموقف في دائرة الضوء والاهتمام.

كما ظهر هؤلاء أيضاً، في الموقف الذي يضعهم ضمن ما عرف بتيار المقاومة والممانعة المساند بشدة للقضية الفلسطينية، والرافض بشدة للمشروع الإسرائيلي في فلسطين والمنطقة العربية والإسلامية عامة، وهذا ما يعرفه الفلسطينيون قبل غيرهم بوصفهم الصديق، وما يعرفه الإسرائيليون أيضاً بوصفهم العدو، الذين يعتبرون إيران وحزب الله يمثلون لهم أكبر وأخطر تهديد لوجود كيانهم المحتل ومستقبله.

وما حصل لإسرائيل في لبنان مثَّل لهم أكبر شعور بالهزيمة، وقلب صورتها، صورة الدولة القوية، وصورة جيشها الذي لا يقهر، وهذا من أكثر ما تخشاه إسرائيل التي لا تتحمل الشعور بالهزيمة، الشعور الذي سيكون من الصعب عليها محوه أو نسيانه إلى زمن غير قصير، فهي لا تريد أن تسجل في تاريخها، ويعرف عنها الأجيال القادمة، أنها تعرضت لهزيمة من العرب، ومن جماعة صغيرة وليس من دولة قوية، وخطر ذلك أنه يضع إسرائيل أمام بداية مسار التقهقر.

إلى جانب أن إسرائيل لا تحتمل اهتزاز صورة الدولة القوية في رؤيتها إلى ذاتها، ورؤية العالم لها، وهي التي ظلت تقدّم نفسها إلى شعبها، وإلى العالم الغربي بوصفها الدولة القوية التي هزمت جيوش العرب مجتمعة في جميع حروبها، وهكذا بالنسبة لصورة جيشها الذي عززت فيه روح الجيش الذي لا يُقهر، لكونها الكيان الذي اعتمد على الجيش في قيامه، بخلاف ما كان سائداً من أن الجيش لا يقوم إلَّا بعد قيام الدولة.

وقد برهن المسلمون الشيعة بهذه المواقف الساندة، وبهذه الانتصارات العظيمة، أنهم يقفون مع الأمة صفاً واحداً للدفاع عن قضية المسلمين الأولى قصية فلسطين، ومواجهة العدو المشترك للمسلمين كافة العدو الإسرائيلي، وكانوا فعلاً بحاجة إلى هذه المواقف والانتصارات التي تضعهم في قلب الأمة، وتجعل منهم جزءاً أصيلاً وفاعلاً في نسيج الأمة الواحدة والجامعة.

- 8 -
الشيخ شمس الدين.. وتغليب فكرة الأمة

يعد الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1354-1421هـ/ 1936-2001م)، أحد أكثر رجال الدين الشيعة المعاصرين تأكيداً على فكرة الأمة والأمة الواحدة، الفكرة التي ظلت حاضرة في أحاديثه ومحاضراته، وفي كتاباته ودراساته الفكرية والفقهية، ومثَّلت له مبدأً ثابتاً، وإطاراً مرجعيًّا يستند إليه، وينطلق منه، ويحتكم إليه، ويفاضل به.

ومن شدة عنايته وقناعته بفكرة الأمة، ابتكر الشيخ شمس الدين نظرية تتصل بمجال الفقه السياسي الإسلامي، أطلق عليها نظرية (ولاية الأمة على نفسها)، وهي النظرية التي تحمس لها، وتمسك بها، ودافع عنها، ورأى في هذه النظرية كشفاً فقهيًّا، وأنه أول من توصل إليها، وتحدث عنها، وحسب قوله: «لقد وفقنا الله تعالى لكشف فقهي في هذا المجال، لا نعرف في حدود اطِّلاعنا، من سبقنا إليه من الفقهاء، والحمد لله والشكر له على كل نعمة ظاهرة وباطنة، إن نظريتنا الفقهية السياسية لمشروع الدولة، تقوم على نظرية ولاية الأمة على نفسها»[26].

كما يعد الشيخ شمس الدين أيضاً أحد أكثر رجال الدين الشيعة المعاصرين، تنبُّهاً وتأكيداً على ضرورة انتقال المسلمين الشيعة من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة، ومن العمل في إطار الجماعة إلى العمل في إطار الأمة، وكان شديد الوعي والإدراك بهذه القضية، التي ظل يدفع بها، ويُنبِّه عليها، ويعمل من أجلها.

هذا الوعي والإدراك نشأ وتعزز عند الشيخ شمس الدين، بحكم موقعه في رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، الذي أتاح له من جهة تكوين المعرفة بواقع وأحوال المسلمين الشيعة في مناطقهم ومجتمعاتهم العربية والإسلامية، كما أتاح له من جهة أخرى إمكانية التواصل مع شريحة كبيرة من المسلمين السنة رجال دين ومفكرين وسياسيين وشخصيات عامة.

إلى جانب أن طبيعة المجتمع اللبناني، والحياة اللبنانية بصورة عامة، أسهمت في نشأة وتعزيز هذا الوعي والإدراك عند الشيخ شمس الدين، فالمجتمع اللبناني المنقسم في داخله إلى طوائف وجماعات وكيانات لها طبيعة مذهبية، وما تولدت منه من حساسيات واحتكاكات، ونزاعات وحروب، الوضع الذي ظل يلفت الانتباه دائماً إلى ضرورة الانتقال من هذا الانقسام الطائفي، والخروج من دائرة الطائفة والجماعة، إلى دائرة الأمة والكيان الجامع.

يضاف إلى ذلك، أن الثقافة المنفتحة عند الشيخ شمس الدين، وتجربته الفكرية والثقافية التي اتَّسمت بالانفتاح والتواصل مع النخب الفكرية والدينية الشيعية والسنية وحتى المسيحية، أسهمت كذلك في تكوُّن ذلك الوعي والإدراك.

وفي نطاق هذا المنحى، بادر الشيخ شمس الدين إلى طرح العديد من الرؤى والأفكار التي تدفع باتِّجاه التحوُّل والعبور من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة، ومن هذه الرؤى والأفكار اعتباره أن قضية وحدة الأمة هي من المقدسات، وليست من السياسات، أي إنها بمنزلة التكاليف الشرعية مثل الصلاة والصوم والزكاة، وعلى هذا الأساس فنحن مكلفون -حسب رأيه- بوحدة الأمة[27].

ويتصل بهذا الموقف الفقهي نقده لما أسماه بالسياسات التي دمَّرت شعور المسلم العادي بأنه جزء من أمة، ورسَّخت فيه الشعور الذي يصور له بأنه جزء من طائفة، أو جزء من مذهب، وهذا خلاف المسلمات الفقهية السياسية -حسب قوله- في وحدة دار الإسلام، ووحدة أمة الإسلام[28].

ولتصحيح هذا الشعور عند الإنسان المسلم العادي، اقترح الشيخ شمس الدين إدراج مادة الأمة الإسلامية بوصفها مادة أساسية في جميع مراحل التعليم من الابتدائية إلى الجامعة، لتكوين ذهنية المسلم بطريقة واعية في ارتباطه بالأمة الإسلامية[29].

وإدراكاً منه بطبيعة التعقيدات التي تحيط بهذه القضية، اقترح سنة 1987م إنشاء مركز دراسات للوحدة الإسلامية، يتخصص في دراسة قضايا الوحدة الإسلامية بعمق ومسؤولية وواقعية، وبعيداً عمَّا أسماه روح المحاباة، أو الخوف، أو الانخداع بالحلم السحري[30].

وحينما توجَّه في دراساته وأبحاثه نحو الفقه، لم يهمل الشيخ شمس الدين هذه القضية، فقد دعا سنة 1990م لوضع باب فقهي خاص بوحدة الأمة، يبحث عن حدود وحدة الأمة وإطارها، والعلاقة بين وحدة الأمة والتنوُّع القومي واللغوي في المجتمعات الإسلامية، وما مدى إلزامية هذه الوحدة على المستوى الحقوقي والقانوني الإسلامي العام[31].

وفي هذا النطاق كذلك، أكد الشيخ شمس الدين على مبدأ الأخوة الإسلامية في أن يكون دليلاً للفقيه عند بحث واستنباط أحكام العلاقات بين المسلمين جماعات وأفراداً، فهذا المبدأ حسب تقديره ثابت بالنسبة لجميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وانتقد من جهة أخرى الفتاوى التي لا تلاحظ مبدأ علاقة الأمة التفاعلية، وعلاقة المجتمع التفاعلية بين أفراده، فتعطي حقوقاً، وتشرع أوضاعاً للأفراد، بمعزل عن مدى تأثير ذلك في وحدة ومصالح الأمة[32].

إلى جانب ذلك حاول الشيخ شمس الدين أن يضع ميثاقاً إسلاميًّا لقضايا الوحدة والتقريب، وأراد من هذا الميثاق أن يكون مشروع رؤية تنهض بها هيئة إسلامية تُعنى بهذه القضايا، وحمل هذا الميثاق عنوان (صياغة أولية لميثاق تأسيسي لهيئة قضايا الوحدة والتقريب)، وحدد الأساس الأول في هذا الميثاق بقوله: «إن المسلمين اتفقوا على أمر جامع يوحدهم في دائرة الإسلام، وعلى هذا الأساس يتشكل منهم جميعاً كيان الأمة، وينتزع من هذا الواقع مفهوم الأمة الإسلامية، الذي ثبت له في الشرع أحكام شرعية وضعية وتكليفية. إن الثوابت الكبرى في الإسلام التي أجمع المسلمون على الإيمان بها، والالتزام بها هي أساس الإسلام، إذ إن المسلم هو من آمن والتزم بها، وأن من أنكرها أو أنكر بعضها ليس مسلماً، وهذه مواضع وفاق بين المسلمين، وبهذا يتبين أن الواقع التنظيمي للأمة هو الوحدة».

وحينما بحث في موضوع الجهاد من ناحية فقهية استدلالية، توصَّل الشيخ شمس الدين -حسب قوله- إلى أن «الجهاد هو تشريع للأمة وليس للأفراد، ولكن العقلية الفردية التي حكمت على الفقهاء أن يروا في خطابات الجهاد ما سموه الخطاب الكفائي، أي حكم الأفراد. ولقد توصلت إلى رأي مفاده أن خطابات الجهاد ليست واجبات كفائية بل هي واجبات عينية، ولكن ليس على الأفراد وإنما على الأمة»[33].

وفي هذا السياق جاء كتابه (جهاد الأمة)، والذي تقصَّد فيه الشيخ شمس الدين أن يبرز فكرة الأمة في عنوانه، وليؤكد علاقة الجهاد بفكرة الأمة، وقد سمعته في أكثر من مناسبة يتحدث باهتمام عن هذا الكتاب، وأنه يتضمن ابتكارات جديدة، محورها ربط الجهاد بفكرة الأمة.

ويتصل بهذا المحنى أيضاً دعوته إلى ما أطلق عليه مصالحة الأمة مع نفسها، لتكون في مستوى مواجهة المشروع الصهيوني، وانسجاماً وتوافقاً مع هذا المسلك في مصالحة الأمة مع نفسها، جاء تأكيد الشيخ شمس الدين على ضرورة اندماج المسلمين الشيعة في أوطانهم، الضرورة التي أكدها وباهتمام في كتابه (الوصايا)، بقوله: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم، وفي مجتمعاتهم، وفي أوطانهم، وأَلَّا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص، وأَلَّا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصًّا يميزهم عن غيرهم»[34].

هذه الرؤى والأفكار والمواقف أكسبت الشيخ شمس الدين وخطابه الفكري تميزاً، خاصة من جهة الانفتاح والتواصل مع فكرة الأمة، الفكرة التي حاول الانتصار لها، وتغليبها على فكرة الجماعة.

هذه بعض المحطات المهمة والمؤثرة والمتعاقبة زمنيًّا، والتي تكشف عن أن الاتِّجاه نحو فكرة الأمة كان حاضراً وممتداً ومؤثراً في ساحة الفكر الإسلامي الشيعي، وجاء هذا الكشف بقصد تأكيد الأطروحة التي تقدم فكرة الأمة على فكرة الجماعة، واعتبار أن فكرة الأمة هي الخيار والاختيار الصائب الذي يضمن للمسلمين الشيعة تقدمهم في المجالين الخاص والعام، ويفتح لهم أفق الأمة الواسع، ويخرجهم من أفق الجماعة الضيق، وأن لا خشية على أنفسهم من هذه الجهة، بل الخشية حين يتراجعون عن هذا الخيار، وينظرون لأنفسهم من منظور الجماعة، وبعيداً عن منظور الأمة.

 

 

 

الإسلام

وجدلية الإيمان والحرية والمسؤولية

محمد محفوظ

ﷺ مفتتح

ثمة مفاهيم ومصطلحات ثرية من الناحية الفلسفية والمعرفية والسياسية، إذ إن البحث في مضمونها وآفاقها، يوصل الباحث إلى تخوم علوم ومعارف وتخصصات علمية عديدة.. ولعل من هذه المفاهيم الثرية والغنية بحمولتها الفلسفية والمعرفية والسياسية مفاهيم الحرية والعدالة والمسؤولية، فهي من المفاهيم التي تُشكِّل حجر الأساس في منظومة الكثير من القيم والمبادئ الفرعية.

ولا يمكن أن نبحث أي مبحث فلسفي أو معرفي أو سياسي، دون الاقتراب من مضامين هذه المفاهيم. بل هناك العديد من النظريات والمذاهب الوضعية التي تَشكَّل واكتمل بناؤها المعرفي على قاعدة هذه المفاهيم، وإن بعض التباين أو الاختلاف بين هذه النظريات والمذاهب الوضعية يعود إلى التباين والاختلاف في طبيعة العلاقة بين مفهوم الحرية ومفهوم العدالة؛ فالحرية في بعدها الفردي تعني أن يعيش الإنسان الفرد حرًّا، أي دون قيد أو شرط يحدُّ أو يعوق حريته، أما إذا نظرنا إلى الحرية بمعنى مجموع الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية فنحن هنا بحاجة إلى تدابير أخلاقية ومؤسسية لحفظ حقوق الناس الذين يُشكِّلون مجتمعاً واحداً، وهذا لا يتحقق دون العدالة. فالحرية كقيمة متداخلة في أبعادها وآفاقها مع العدالة كقيمة وممارسة، ولا يمكن على مستوى الواقع الخارجي من تحقيق أحدهما دون الآخر، فالحرية هي حجر الأساس لمفهوم العدالة، إذ لا عدالة دون حرية، كما أن العدالة هي التي تغني مضمون الحرية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ لا حرية حقيقية في أي تجربة إنسانية دون عدالة.كما أنه لا حرية حقيقية ولا عدالة ناجزة دون مسؤولية ذاتية.

وحتى تتضح صورة العلاقة بين الحرية والعدالة نقترب من المفاهيم والمعاني المتداولة لمفهوم الحرية؛ إذ ذكرت تعريفات عديدة للحرية وأوصلها (آيزايا برلين) في كتابه (حدود الحرية) إلى مئتي تعريف، إلَّا أن الجامع المشترك بين أغلب هذه التعريفات هو إزالة المعوقات من طريق اختيار الإنسان، وهو يقول في تعريفه لها: «إنني أعد الحرية فقدان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته»، ويرى في موضع آخر من الكتاب أنها تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة الفرد وأعماله. فالحرية وفق (آيزايا برلين) هي جزء من الذات البشرية، أي إن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، لأنها جوهر الإنسان، وهو (أي الإنسان) موجود ساعٍ نحوها،وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته. وحرية الأفراد بطبيعة الحال ليست مطلقة، لأننا لو أطلقنا حرية الأفراد فإن مجموع هذه الحريات ستتعارض وتتناقض مما يحول دون أن يعيش أحد مع أحد، أي إننا لا نستطيع أن نؤسس مجتمع، والمجتمعات الإنسانية لا تتأسس إلَّا على قاعدة التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين؛ إذ إن المجموع الإنساني يحتاج إلى صيانة وضمان حرياته الفردية، ولكن على نحو لا تضر بمصالح الآخرين النوعية، والمظلة التي تستظل بها مصالح الآخرين النوعية هي قيمة العدالة. وطبقاً لرؤية (جون ستيورات مل) فإن العدالة تتطلب تنعُّم الأفراد بالحد الأقل من الحرية، ومن هنا يجب في بعض الأحيان -ولو عن طريق الإجبار – منع صيرورة حرية بعض الأفراد مخلة بالحريات للآخرين. ويتحدث (آيزايا برلين) في كتابه الآنف الذكر عن هذه الحقيقة بقوله: «تنقلب الحرية السلبية أحياناً إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنف هذا مانعاً للحرية. نعم، إن الحرية اللا محدودة للرأسماليين تُفضي إلى إفناء حرية العمال، والحرية اللا محدودة لأصحاب المصانع، أو الآباء والأمهات، تؤدي إلى استخدام الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري. لا شك في أنه تنبغي حماية الضعفاء أمام الأقوياء والحد من حرية الأقوياء على هذا الشكل، ففي كل حالة يتحقق فيها القدر الكافي من الحرية الإيجابية لا بد من الإنقاص من الحرية السلبية، أي إنه يجب أن يكون هناك نوع من التعادل بين هذين الأمرين حتى لا يجري أي تحريف للأصول المبرهنة»، فللإنسان كامل الحرية في قناعاته وأفكاره واختياراته، ولكن ليس له الحق في التعدي على قناعات الآخرين واختياراتهم، وإذا كانت اختياراته تضر بالآخرين فإنه، ومن منطلق العلاقة الحميمة بين الحرية والعدالة، يمنع من اختياره الضار إلى المجتمع لصيانة قيمة العدالة. فالعلاقة جدُّ دقيقة بين الحرية والعدالة، وعليه لا يصح باسم المجتمع امتهان كرامة الإنسان الفرد أو التعدي على حريته، كما أنه لا يصح باسم حرية الإنسان التعدي على حريات الآخرين، فالحرية قيمة إنسانية كبرى ولا تُحدُّ إلَّا بقيمة إنسانية كبرى مثلها وهي العدالة.

من هنا لا يصح ولا يجوز لأي إنسان أن يجبر الآخرين على القبول بعقيدة معينة أو فكرة محددة، فمن حق الإنسان (أي إنسان) حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي أحد أن يفرض رأيه أو عقيدته عليه، فاللإنسان كامل الحق في الاختيار، وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اختياره، فالله سبحانه وتعال وهبنا حق الاختيار في ظل المسؤولية، فلنا حق الاختيار وفق الإرادة الربانية، وعلينا أن نتحمل كامل المسؤولية في الدنيا والآخرة لاختيارنا. والله سبحانه وتعالى لم يمنح أحد سلطة اتخاذ القرارات والتدابير نيابة عن أحد، فللإنسان كامل الحق والحرية في الاعتقاد والاختيار، ولكن ممارسة هذه الحرية تكون في نطاق العدالة والمسؤولية؛ لهذا هو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره وعمله، وبهذا نخرج الإنسان من دائرة القوانين الجبرية وندخله في دائرة الحرية والمسؤولية، فهو حر ومسؤول في آن واحد.

وفي تقديرنا، إن المجتمعات التي تتمكن من صياغة العلاقة على نحو دقيق بين الحرية والعدالة، هي المجتمعات التي تنعم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأسباب ذاتية أو موضوعية من صياغة العلاقة بين الحرية والعدالة على نحو إيجابي، فهي مجتمعات ستعاني من صعوبات كبرى في استقرارها وأمنها الاجتماعي والعام.

فعلى قاعدة الحرية بكل حمولتها القيمية وآفاقها الإنسانية يتحقق الإيمان العميق. بمعنى أن الإنسان كلما ازداد عبودية لله تعالى بوصفه القوة المطلقة والقادرة على كل شيء، تحرر هذا الإنسان من عبودية العباد، وانعتق من كل الأغلال والإكراهات، لأنه اتصل وتعلق قلبيًّا وسلوكيًّا بقدرة لا متناهية، تمده، ويستمد منها القوة للتحرر المعنوي والمادي من كل الأغلال والقيود.

فالإيمان الحقيقي لا يُبنى إلَّا على قاعدة الحرية والقدرة على الاختيار، وبالتالي فإن الإنسان وحده هو الذي يتحمل مسؤولية خياراته وقراراته؛ فالعلاقة بين قيم الإيمان والحرية والمسؤولية وفق الرؤية الإسلامية علاقة عميقة ومتداخلة، ولا يمكن التفكيك بينهما، فالحرية هي التي تعيد للإنسان إنسانيته، وهي التي تقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لكون الإيمان وتشريعاته منسجمة وفطرة التكوين المركوزة في الإنسان، وبالتالي فإن هذا الإنسان الذي يصنع حريته ويمارس اختياره هو وحده من يتحمل مسؤولية اختياره.

والمسؤولية هنا مسؤولية ذاتية، بمعنى أن الإنسان الذي يتحرر من كل الضغوط والأغلال، ويمارس حريته بوعي، ويقرر خياراته بقصد، هو وحده من يتحمل كل المسؤوليات المتعلقة بخياراته وقراراته. وفي هذا السياق قد تكون قيمة العدالة هي الوجه الآخر لقيمة المسؤولية، أي لكوننا مسؤولين عن اختياراتنا فالله سبحانه وتعالى سيحاسبنا على ضوء هذه الاختيارات الحرة، وهذا هو عين العدالة. بمعنى أن الإنسان لا يحاسب إلَّا على أعماله الذاتية، التي اتخذها بحرية تامة، ودون إكراهات وضغوطات.

لذلك نستطيع القول: إنه كلما تعمَّق الوعي السليم بمعاني الحرية الإنسانية تقدمنا إلى الأمام في هذا المسار الصعب والتاريخي. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يدعو الإنسان المسلم إلى رفض القوى التي تحول دون رؤية الحق والحقيقة. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[35]. وقال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[36].

فالإنسان المسلم مطالب قرآنيًّا بالتحرر من كل أنواع التسلط، حتى يتسنى له اكتشاف الحقيقة، وتحديد المواقف، وتشكيل القناعات استناداً على الفكر الحر.

والتاريخ الإنساني في مسيرته الطويلة، هو عبارة في أحد وجوهه، عن تاريخ الكفاح الإنساني للانعتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية والكرامة. فالحرية ليست ضد الأخلاق، وإنما هي صنوها وهي أس الأخلاق الاجتماعية، وهي مع القوانين والضوابط المنسجمة وفطرة الإنسان ووجدانه، وهي شرط تحقيق المجتمع التاريخي ومحرك الفعل الحضاري، وهي أساس استقلال المجتمع كونه سيداً على نفسه ومصائره المتعددة.

وحتى التعرُّف إلى الدين والدعوة إليه، تعتمد على حرية الاختيار المتجسدة في السبيل الموصل إلى الدين القائم على نفي الإكراه وعلى الاقتناع والدفع بالتي هي أحسن بعيداً عن التشنج والقهر والقسر وكل أشكال الإكراه. قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[37].

والإيمان بالله سبحانه وتعالى يتأسس على قاعدة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان عن فعله وكسبه، بحيث تكون ممارساته قائمة على اختياراته. قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[38]. وهذا السلوك والمنحى الذي لا يناقض العدالة في الدنيا والآخرة، ولا يفارق الحرية في مستوياتها المتعددة في المجتمع، هو الذي يجعل الإنسان فاعلاً، مختاراً، حرًّا، مسؤولاً عن اختياراته وأفعاله.

والحرية في الاختيار لا تعني -بأي حال من الأحوال- عدم تحمل المسؤولية، والهروب من آثار اختياراته وقناعاته. قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[39]. فالإنسان ينبغي أن ينطلق في تحديد اختياراته من موقع التفكير والتأمل العميق، وذلك لأنه المسؤول الوحيد عن اختياراته. فإذا كانت سيئة أدت به إلى المزيد من الخضوع للأهواء والشهوات، وهذا هو طريق جهنم. وإذا كانت حسنة كان فيها نجاته في الدارين. فالحرية لا تعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها دون ضوابط أخلاقية وقانونية. فإن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لا تسمى حرية، وإنما تحللاً وافتئاتاً على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية. فالحرية ليست تحقيق اللذة، وإنما تحقيق الحقوق والواجبات في كل الدوائر والمجالات والمساحات.

وبداية الحرية في المنظور الإسلامي هي نفس الإنسان، فينبغي لها أن تتحرَّر من كل القيود والأغلال والأهواء والنوازع التي تحول دون حريته وانعتاقه الحقيقي. فالحرية قبل أن تكون سلوكاً سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، هي قدرة نفسية تتخلص من كل الأغلال والقيود، ومن النزعات المخالفة لقيمة الحرية.

وهذا يعني «أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة. وهو قادر على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة.. ومنحه، في نطاق ذلك، الإرادة الحرة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيداً عن كل ضغط تكويني. فإذا اختار الشر كان الشر فعله، من خلال الأدوات التي منحها الله له... فليس الشر مخلوقاً لله بنحو المباشرة، وليس مراداً له بنحو الرضا. ولكنه فعل الإنسان، من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب، فتقتضي أن يوجد المسبب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به، مع توفر الشروط الأخرى لوجوده. وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها، ومن جملتها إرادة الإنسان واختياره، فلا جبر للإنسان لأن الخيط الأول في المسألة مربوط بيده وهو حرية الإرادة، ولا تفويض له، لأن الخيط الثاني، وهو وسائل القدرة بيد الله، فهو القادر أن يبقيها حيث شاء، وأن يزيلها حيث يريد»[40].

فحجر الأساس في الحرية أنها لا تنجز إلَّا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة. والحرية وفق هذا المنظور هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعاً في البناء والعمران.

والمحيط الذي يحارب الحوار هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و«عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب»[41].

وفي المقابل نستطيع القول: إنه «بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاءً لوجود الآخر، ونفياً لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وأن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فرداً ما، فكراً ما، زعيماً ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية»[42].

ﷺ الحرية وحق الاختلاف

لا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم. وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولاً للجميع.

«فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني، وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لا بد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقًّا، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من ظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري، وكما تتجلَّى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلَّى بين الجماعات أيضاً. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة»[43].

ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصاً أو عيباً بشريًّا يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيس من قيمة الحرية والقدرة على الاختيار. حيث إن «الحرية أساس، والسلطة قيد ولكنها ضرورة اجتماع. ولكي تقوم السلطة دون الإخلال بأساس الحرية لا بد من أن تكون قيود السلطة مشتقة من قواعد الحرية. حيث لا يجوز تقييد الأخيرة إلَّا بقواعدها وليس بإرادة خارجة عنها. وبهذا التحديد تغدو شرعية السلطة ثمرة لاختيار البشر الحر في تعيينها. وإذ ذاك يغدو الاختلاف (حقًّا) مصوناً بشرعية السلطة نفسها، وبنفيه تنفي السلطة شرعيتها أي تنفي ذاتها»[44].

والإيمان الديني لا يمكنه التخلي تماماً عن أي تعاون مع الأفكار والمبادئ العقلية، ففهم القضايا والمفاهيم الدينية، وإيصالها رسالتها إلى الإنسان والعالم بطريقة مقنعة ومفهومة لكل الناس، يستدعي التوسل بوسائل عقلية والتواصل المباشر مع كل القضايا العقلية؛ لهذا لا يوجد على المستوى الواقعي مفكر ديني سواء كان مسلماً أو مسيحيًّا يرفض العقل على نحو الإطلاق، فشخصيات مثل وترتوليان وبيتر دامين، ولوثر، وباسكال التي تعد من ألد أعداء العقلانية، لم ترفض العلاقة بين الإيمان والعقل رفضاً أساسيًّا وحاسماً، وإنما اتخذت نمطاً معيناً من العقلانية، وفي المقابل في أنصار النص الديني لم يهدفوا عزل العقل عن مساحات الدين نهائيًّا.

«ومن المهم القول: إن للعقل استخدامات مختلفة، وفيما يتَّصل بعلاقته بالدين يمكن تصور ستة أدوار ومواقف متباينة له، وهي:

1- دور العقل في مقام فهم معاني القضايا والعبارات الدينية.

2- دوره في مقام استنباط القضايا الدينية من النصوص المقدسة.

3- دوره في مقام التنسيق والملائمة بين العقل والدين.

4- دوره في مقام تعليم القضايا الدينية.

5- دوره في مقام الدفاع عن القضايا الدينية.

6- دوره في مقام إثبات القضايا الدينية وتسويغها»[45].

فدائماً الإنسان المؤمن وانطلاقاً من فلسفة الحياة وفق منظوره الإيماني، يرغب ويطمح أن تكون حياته بأطوارها المتعددة منسجمة وإيمانه وغير متطابقة مع حياة غير المتدين أو المؤمن، وهذا لن يتأتَّى على الصعيد الواقعي دون الحرية التي توفر للإيمان فلسفة شاملة للحياة، وتخلق لديه الإرادة الإنسانية المستديمة لتحويل مفردات وحقائق إيمانه إلى واقع معيش.. و«إن غسل التعميد بالنسبة إلى المسيحي، وذكر الشهادتين بالنسبة للمسلم، بداية طريقهم إلى طلب الحقيقة، فهذه الممارسات تعني وضع الأقدام في الطريق والشروع بالخطوات الأولى، ولا تفيد الوصول إلى الغاية»[46].

فثمة آصرة لا انفصام لها بين الإيمان والعقل، بمعنى آخر بعث الله للبشر حجتين: إحداهما حجة ظاهرة والثانية حجة باطنة، وبالتالي فالعقل والرسول كلاهما من سنخ واحد، ويصبان في سياق واحد، والعلاقة بين العقل والوحي كالعلاقة بين العين والنظارات، وليست من قبيل علاقات التضاد.

لهذا فإن المطلوب باستمرار أن يعرض الإيمان الديني للإنسان (الفرد) دوماً على النقد والعقل النقدي، والغاية من هذا النقد هي تنقية الإيمان، ورفع الحجب، والوصول إلى الطبقات العميقة من التجربة والإيمان الدينيين، وهذا يعني على المستوى الواقعي والمعرفي أن هناك قابلية للإيمان على التحول والتطور من خلال التجارب الروحية والمعرفية والإنسانية، فالعقل بكل تجلياته يساهم مساهمة فعلية في صناعة الإيمان، أَوَلَم يُبعث الأنبياء العظام لتذكير العقل وإحياء مكتسباته الإنسانية «ويثيروا لهم دفائن العقول»؛ لهذا كان الأنبياء جميعاً يدعون الناس إلى الإيمان، ويستخدمون في دعوتهم كل البراهين والحكم البيِّنة. ومن الجلي أن الشيء إذا لم يكن معقولاً يقبل البرهنة فلن يقبل الدعوة العقلية. وتأسيساً على هذه الرؤية فإن للمعارف العصرية والعقلية الراهنة مدخلية أساسية في تكوين الإيمان، أي إن «الركائز الفكرية لكل إنسان، والتي بواسطتها تُفهم فكرة الله وتُفسر، أو يتضح معنى الرسول ودورة النبوة، تستمد من العلوم والمعارف المتوفرة في كل عصر.. هذه العلوم والمعارف، أي المعارف الموجودة للعالم، سواء كانت معارف فلسفية أم تجريبية، هي الأدوات الوحيدة التي تجعل تصورات الإنسان وتصديقاته حول الله والرسول ممكنة، وأسس الفكر الديني لدى الإنسان لا ترتوي إلَّا من هذا المنهل»[47]. وهذا لا ينفي قدرة الإنسان من خلال فطرته المركوزة أن يتعرف إلى الخالق سبحانه من خلال إزالة أستار الغفلة والحجب المختلفة عن قلب وفطرة الإنسان السوي. وانطلاقاً من معنى الإيمان المفتوح على كل التجارب الذاتية والمعرفية فإن هذا الإيمان يتمحور حول حرية الإنسان؛ لأن الإيمان -كما اتضح أعلاه- هو عمل اختياري يقوم به الإنسان بفضل إرادته وحريته.

فالإيمان هو وليد اختيار الإنسان الحر دون إكراه أو تعسف من أحد، ولهذا فإن اختيارات الإنسان وخياراته في مختلف المجالات هو وحده الذي يتحمل مسؤوليتها. وبهذا يتشكل الثالوث الذهبي في الوجود الإنساني (الإيمان – الحرية – المسؤولية)، فأنت حر في عقائدك ومعتقداتك وخياراتك، وبمقدار حريتك أنت مسؤول عنها، وتتحمل وحدك مسؤولية اختيارك.

وحتى تتضح العلاقة الجدلية بين هذه الحقائق (الإيمان – الحرية – المسؤولية) نحاول أن نوضح النقاط التالية:

1- معنى الإنسان الحر، وطبيعة علاقته بمفهوم الحرية.

2- معنى الفردية، وطبيعة علاقتها بالإيمان والمسؤولية.

3- الحرية والفكر الآخر.

ﷺ في معنى الإنسان الحر

كل البشر الأسوياء يعشقون الحرية، ويأملونها، ويطمحون إليها. وكلهم أيضاً يرفضون الرق والعبودية وجعل الأغلال على حياتهم وعقولهم، ويأنفون من كل المحاولات التي تسعى للتضييق على حرية الإنسان أو تقييدها؛ وذلك لأن الحرية والقدرة على الحركة والاختيار منسجمة وفطرة الإنسان، وكل الحقائق والممارسات المضادة لذلك هي محل نبذ ورفض من قبل الإنسان؛ لأنها مخالفة لفطرته ومفارقة لطبيعته الإنسانية السوية.

فالحرية بالنسبة إلى الإنسان هي جزء من طبيعته وفطرته؛ لذلك فإن جميع البشر الأسوياء، بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم وأيدلوجياتهم ومناطقهم، ينشدون الحرية ويتطلعون إليها على المستويين الفردي والجماعي.

والحرية في هذا السياق، سواء في بعدها النظري أو بعدها التطبيقي، ليست مشروعاً ناجزاً، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. ومن يتعامل مع الحرية في مستوياتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية بوصفها حالة مكتملة أو ناجزة، فإنه لن يتمكن من تعميقها في واقعه الاجتماعي والعام، فهي دائماً بحاجة إلى الإرادة الإنسانية المستديمة التي تعمل وتكافح من أجل تعزيز حقائقها في الفضاء الاجتماعي. وبمقدار ما تتوافر الإرادة الإنسانية الجمعية بالقدر ذاته ينعم الإنسان فرداً وجماعة ببركات وخيرات الحرية.

لهذا فإن الحرية دائماً وفي كل التجارب الإنسانية والتاريخية، ليست ادِّعاءً يُدَّعى، أو لقلقة لسان، وإنما هي رؤية وممارسة تتَّجه دوماً صوب إنسانية الإنسان، وإزالة كل الركام الذي يحول دون ممارسة الإنسان لحريته وإنسانيته.

وإن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الإصلاحية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: أن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف.

لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي مرهون بحرية الإنسان وفاعليته الحضارية التي لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي دون أفق الحرية والإصلاح.

من هنا فإنه لا حرية دون أحرار، ولا ديمقراطية دون ديمقراطيين.

وإن كل حرية بلا أحرار حرية شكلية، وأن كل ديمقراطية دون ديمقراطيين هي شكلية وفوقية أيضاً.

ﷺ الفردية والحرية أية علاقة

ثمة سؤال عميق ومركزي يُثار باستمرار في الدائرتين العربية والإسلامية، مفاده: لماذا لم نتمكن كشعوب وتجارب ثقافية وسياسية عديدة، من بناء مؤسسات عامة مستقرة، بحيث تنتقل مسؤولية إدارتها وتسييرها من جيل لآخر، بحيث ينطلق الجيل الجديد في إدارة هذه المؤسسة من نقطة النهاية التي وصل إليها الجيل السابق؟

وهل عدم قدرتنا على بناء العمل المؤسسي وطغيان الأعمال الشخصية والفردية، وقدرة بعض الذوات الشخصية على التهام المؤسسة وتوظيفها بما يخدم مصالحه وأغراضه الخاصة والشخصية، هو بفعل عوامل ثقافية أو بسبب طبيعة التربية والتنشئة الاجتماعية، أم هناك أسباب أخرى تحول دون قدرتنا على بناء عمل مؤسسي مستقر وثابت؟. ولماذا تمكنت الشعوب الغربية من بناء مؤسسات مستقرة في كل حقول الحياة، بحيث انتقلت من طور حضاري إلى طور آخر أكثر تميزاً وحيوية وحضارة؟.

في تقديرنا، أن الإجابة العميقة والدقيقة حول أسباب عدم قدرتنا على بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، تتجاوز مصالح الأفراد الضيقة، وتعمل من أجل المصالح العامة والموضوعية، هو أحد المداخل الضرورية لاكتشاف طبيعة الخلل الذي تعانيه مجتمعاتنا على أكثر من صعيد ومستوى.

فالتجربة الغربية الحديثة استطاعت أن تتخلص من حروبها الدينية والقومية، وتبني لنفسها نظاماً استيعابيًّا لكل تنوعها وقومياتها، بحيث تحوَّلت شعوب الدول الغربية من شعوب متخاصمة ومتحاربة بعضها مع بعض، إلى شعوب متعاونة بعضها مع بعض، ومتنافسة في طريق البناء والتقدم والعمران.

ونحن لا زلنا كشعوب عربية وإسلامية، نرزح تحت نير خلافاتنا ونزاعاتنا الدينية والمذهبية والقومية، ولا يلوح في الأفق أية قدرة حضارية لدينا لتجاوز هذه المحنة وحروبها بكل تداعياتها الكارثية ومآزقها الراهنة والمستقبلية، كما أن التجربة الغربية تمكّنت من صياغة رؤيتها الحضارية للسياسة وإدارة الدول وفق نسق حضاري – ديمقراطي، تجاوزت من خلاله نزعات الاحتكار والهيمنة والغطرسة واختزال الدولة في شخص الإمبراطور، فانتقلت -بفعل عوامل عديدة- من دولة الإمبراطور إلى دولة المؤسسات، ومن نظرية الحق الإلهي الذي كانت تحتكره الكنيسة إلى نظرية العقد الاجتماعي، التي تسمح وتطالب الشعب والمجتمع بممارسة دوره في اختيار حكامه وشكل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

بينما لا زلنا نحن لم نتجاوز خلافاتنا التاريخية، ولا زلنا أسرى حروب وأحقاد آبائنا وأجدادنا.

لماذا استطاعت الشعوب الغربية أن تُغيِّر وضعها الحضاري وتنتقل إلى مرحلة أخرى، بحيث أضحت اليوم هي رائدة التقدم والتطور في أغلب مجالات الحياة؟

ولماذا لم نتمكن نحن أن نتجاوز عيوبنا ومآزقنا، ولماذا لا زلنا أسرى تخلفنا وتقهقرنا الحضاري؟

يبدو لي أن أحد الأسباب العميقة لهذه المفارقة الحضارية هو التالي:

أن الشعوب الغربية استطاعت عبر ثقافتها وتقاليدها الاجتماعية وأنظمتها السياسية أن تعيد الاعتبار للفرد/ المواطن في الشعوب الغربية، بعد أن ألغته الكنيسة بفعل نظامها الشمولي وكرهها للحرية ومزاولة الأفراد لمسؤولياتهم العامة.

ولقد أجاد الأستاذ (لويس دومون) في رصد حركة التطور الفكري والأيديولوجي تجاه مفهوم الفردانية في التجربة الغربية في كتابه الموسوم بـ(مقالات في الفردانية – منظور أنثروبولوجي للأيديولوجية الحديثة) والذي قامت المنظمة العربية للترجمة بترجمته وطباعته. فالتحول الحضاري في التجربة الغربية بدأ انطلاقته مع بداية التحول الأيديولوجي باتجاه الرؤية والموقف من الفرد والفردانية كمفهوم ودور وموقع.

فالفردية التي مورست على نحو إيجابي في التجربة الغربية، بعيداً عن الأثرة والأنانية والتفلُّت من الأنظمة والقوانين، هي التي قادت التجربة الغربية إلى اجتراح فرادتها، وبناء مؤسساتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية على أسس صلبة، بحيث ضمنت لهذه الشعوب الاستقرار السياسي مع حيوية اجتماعية ودينامية علمية، تراكمت فيه الخبرة والتجربة والعطاء، فأنتجت مؤسسات ذات جذور عميقة في مجتمعها، وحريصة على مصالحه الكبرى والاستراتيجية. فالفردية ليست نكراناً للذات، أو إعداماً لطموحاتها وآمالها القريبة والبعيدة، وإنما هي حضور دائم وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها، مع قانون شفاف وواضح، ويساوي بين الجميع، ولا يُحابي أحداً.

فالطموحات الفردية قادت إلى الاكتشاف والإنجاز والابتكار والاختراع والجد والاجتهاد في البناء والعمران.

والقانون العادل ضمن حقوق الجميع، ومنع التعديات، وحال دون الطغيان والاستئثار، فكانت النتيجة: التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي، والاستقرار السياسي والمدني وتداول مؤسسي للسلطة والقوة بين مختلف مكونات النخب في التجربة الغربية.

فالفردية وفق المفهوم الحضاري هي أحد العوامل الأساسية التي قادت الغرب للتطور وصناعة المنجزات الحضارية الرائدة.

من هنا فإننا نعتقد أن الطريق إلى بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا وتجربتنا، يتطلب العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الفردية في بيئتنا الثقافية والاجتماعية؛ لأن قمع الأفراد وقتل طموحاتهم وتطلعاتهم لا يفضي إلى بناء مؤسسات، بل يؤدي إلى سديم بشري، ليس قادراً على فعل شيء ذي بال على الصعيد الحضاري والمؤسسي.

ونكران الذات كقيمة لا تؤسس لحيوية مستديمة ودينامية قادرة على اجتراح فرادتها التاريخية. وإنما هي قادرة على تكرار تجارب الآخرين دون روحها وحيويتها، واستنساخ خطوات الآخرين ومبادراتهم دون ظرفها الاجتماعي والتاريخي، ودون الكتلة التاريخية التي تقف وراءها وتمدها بأمصال الحياة والحيوية والإنجاز.

فالعلاقة جدُّ ضرورية وحيوية بين إعادة الاعتبار إلى الفردية وممارستها على نحو إيجابي وحضاري والعمل المؤسسي. فالمؤسسات لا تُبنى على أنقاض الأفراد، بل تبنى على حضورهم وشهودهم وفعاليتهم الذاتية.

وحينما تغيب الفردية يبقى السديم البشري، ولا يمكن للسديم البشري أن يبني مؤسسة، أو يشيد تجربة متميزة.

والفردانية الحديثة في التجارب الحضارية المعاصرة، هي عنصر الحيوية والفعالية فيها، كما أنها منصة الانطلاق للإبداع والابتكار والتميز.

وحينما ندعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية، فإننا ندرك أهمية أن تمارس هذه الفردية على نحو إيجابي بعيداً عن الأنانية والانحباس في المصالح الضيقة.

والممارسة الإيجابية تستند إلى قيمة المسؤولية الذاتية والعمل الصالح، وأن الله سبحانه وتعالى لن يُثيبنا على عمل غيرنا، وإنما على عملنا، وإن الحساب الأخروي سيطال أعمالنا وأدوارنا بعيداً عن أي اعتبار آخر. فإذا أردنا الفلاح الدنيوي والأخروي، ينبغي علينا كآحاد أن نقوم بدورنا في هذه الحياة، ونتحمل مسؤولية وجودنا. هذا في البيئة والخلفية الفلسفية والثقافية لممارسة الفردية على نحو إيجابي.

فتعالوا جميعاً إذا أردنا النجاح، واجتراح تجربتنا الذاتية، وبناء مؤسسات تتجاوز حدود ومصالح الأشخاص الضيقة، أو التي تدور مدار هؤلاء الأشخاص، أن نعيد الاعتبار للفرد في مجتمعنا، ونتعامل معه بوصفه هو حجر الأساس في كل مشروع.

وحدها الفردية الإيجابية هي التي تهيئ الأرضية والمناخ لصناعة الفعل المؤسسي المتميز والمستقر في فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي.

ﷺ الحرية والفكر الآخر

من الطبيعي القول: إن كل إنسان يحمل فكراً وثقافة فهو سيعتز بهما، ويدافع عنهما، بصرف النظر عن قناعة الآخرين بهذا الفكر أو هذه الثقافة؛ فالإنسان بطبعه نزَّاع إلى الاعتزاز بفكره وثقافته والتقاليد والأعراف المترتبة عليهما.

وهذا الاعتزاز هو الذي يقوده للعمل على تعميم هذا الفكر، وتوسيع دائرة المؤمنين بالثقافة التي يحملها.

والبشر جميعاً يشتركون في هذه الحقيقة. فالإنسان بصرف النظر عن دينه أو معتقده أو بيئته الثقافية والحضارية، يعتز بأفكاره ويدافع عنها ويوضح بركاتها، ويسوق حسناتها.

وفي سياق اعتزاز الإنسان بفكره يعمل عبر وسائل عديدة إلى تعميمه، ودعوة الآخرين إلى تبني الأفكار ذاتها.

وهذه الطبيعة ليست محصورة في إنسان دون آخر، أو بيئة ثقافية دون أخرى، فالإنسان بطبعه يريد ويتمنى ويتطلع أن يحمل كل الناس الأفكار التي يحملها، ويتبنى كل البشر الثقافة التي يتبناها. وعلى الصعيد الواقعي والإنساني تتزاحم هذه الإرادات، وتتناقض هذه الدعوات، فكل إنسان وأمة يعمل على تعميم ثقافته ونمطه الحضاري، مما يولد الصدام والمواجهة، وإن تعددت أساليب الصدام والمواجهة، تبعاً لطبيعة الثقافة وبيئتها الاجتماعية والحضارية وأولوياتها.

وبفعل هذا الصدام سيعمل بعض الأطراف، للاستفادة من القوة لفرض رأيه أو تعزيز منطقه وثقافته، وبالقوة ذاتها يمنع الطرف الآخر من بيان وتوضيح رأيه وثقافته.

وهذه الممارسة الإقصائية تأخذ أشكالاً عديدة ومسوغات متنوعة، فتارة يتم الحديث عن أنه لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية. فباسم الديمقراطية نُقصي الآخرين، ونقمع أفكارهم، ونمنعهم من ممارسة حقوقهم العامة، لكونهم في نظرنا من أعداء وخصوم الديمقراطية.

وتارة باسم مجابهة الباطل والضلال تتم عمليات الحرب الفكرية ومشروعات الإقصاء والتهميش. فنحن نحارب الفكر الفلاني لكونه في نظرنا من الباطل الذي يجب محاربته، وهكذا يتم قمع فكر الآخر، تحت عناوين ويافطات، لا تمت بصلة إلى المعرفة والثقافة والفكر.

فلا يمكن الدفاع عن الحق بالباطل، ومن يلجأ للدفاع عن حقه وفكره بأساليب ووسائل باطلة هو يشوه فكره، ويحرمه من حيويته وفعاليته.

فالجدال بغير التي هي أحسن لا يُفضي إلَّا إلى المزيد من الجحود والبعد عن الفكر الذي تدافع عنه بوسائل لا تنسجم وطبيعة الفكر الذي تحمل. فالإنسان الذي لا يمتلك الثقافة والعلم الواسع، فإنه يدافع عن قناعاته بطريقة تضر بها حاضراً ومستقبلاً، فالأفكار لا تُقمع، والقناعات لا تُصادر، مهما كانت قناعتنا بها، ومن يقمع فكر الآخرين لأي اعتبار كان، فإنه يحوله إلى فكر مظلوم ومضطهد، سيتعاطف معه الناس وسيدافعون عنه بوسائلهم المتاحة.

لهذا فإننا نعتقد أننا نُعطي للفكرة الخطأ قوتها حينما نمنعها من حريتها، ونمارس بحقها عمليات القمع والحضر والمنع.

فالأفكار لا تمنع وتقمع، وإنما تناقش بالأساليب العلمية والموضوعية، ويتم الحوار معها بعيداً عن نزعة الإلغاء والمنع.

فـ«أعطِ الحرية للباطل تُحجِّمه، وأعطِ الحرية للضلال تُحاصره؛ لأن الباطل عندما يتحرك في ساحة من الساحات، فإن هناك أكثر من فكر يواجهه، ويمنعه من أن يفرض نفسه على المشاعر الحميمة للناس، فيكون مجرَّد فكر، قد يقبله الآخرون وقد لا يقبلونه، ولكن إذا اضطهدته، ومنعت الناس من أن يقرؤوه، ولاحقت الذين يلتزمونه بشكل أو بآخر، فإن معنى ذلك أن الباطل سوف يأخذ معنى الشهادة، وسيكون (الفكر الشهيد) الذي لا يحمل أية قداسة للشهادة؛ لأن الناس يتعاطفون مع المضطهدين سواء مع الفكر المضطهد، أو مع الحب المضطهد، أو مع العاطفة المضطهدة.

إنني أتصور أن الإنسان الذي يملك قوة الانتماء لفكره، هو إنسان لا يخاف من الفكر الآخر؛ لأن الذين يخافون من الفكر الآخر هم الذين لا يثقون بأفكارهم، وهم الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عنها؛ لذلك، لينطلق كل إنسان ليدافع عن فكره في مواجهة الفكر الآخر، ولن تكون النتيجة سلبية لصاحب الفكر في هذا المجال»[48].

ودائماً الفكر الضعيف هو الذي يحتاج إلى ممارسة الظلم والعسف تجاه الفكر المقابل.

أما الفكر القوي فهو لا يخاف من الحرية والحوار، ونصاعته ومتانته، لا تبرز إلَّا في ظل الحرية التي تتناقش فيه الأفكار بحرية، وتتحاور فيه الثقافات بدون تعسف وافتئات.

فالفكر القوي يصل إلى كل الساحات من خلال غناه وثرائه، لا من خلال وسائل المنع والقمع والحضر، والفكر الضعيف هو وحده الذي يحتاج إلى القمع والقوة لفرض قناعاته على الآخرين؛ لهذا كله فإننا نرى أن التعامل مع الفكر الآخر ينبغي أن ينطلق من أساس الحرية، وحقه في التعبير عن نفسه وقناعاته في ظل القانون، وأن عمليات المنع والحضر هي مضادة للحرية الفكرية وطبيعة الاشتغال الثقافي والعقلي.

فللفكر الآخر حقه الطبيعي في التعريف بنفسه، وبيان متبنياته، وللآخرين حق النقد والمناقشة والتقويم والتفكيك.

فالقيم الحاكمة بين الأفكار وأهلها هي قيم الحرية والاحترام والنقد والتمحيص.

أما المنع والقمع والحضر فإنها ممارسات تميت الحياة الفكرية والثقافية، وتؤدي إلى غرس بذور أمراض خطيرة ومزمنة في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ومن الضروري في هذا الإطار أن نتجاوز حالة الرهاب التي قد تصيبنا أو تصيب بعض مكوناتنا من الفكر الآخر ووسائطه الثقافية المختلفة. فالرهاب من الفكر الآخر لا ينتج إلَّا منطق المنع والإقصاء وإطلاق الحروب على الفكر الآخر، أما الحرية والانفتاح والتواصل، مع الفكر الآخر، فهو يُغني الساحة، ويُهذِّب الأفكار ويطوِّرها، ويحول دون عسكرة الحياة الثقافية والعلمية.

فالفكر الآخر لا يُخاف منه، وإنما ينبغي الحوار معه، والانفتاح على قضاياه، والتواصل مع مبانيه ومرتكزاته، حتى نتمكَّن من استيعابه والحؤول دون تطرُّفه واندفاعه نحو الدهاليز المظلمة، التي تحوِّله من فكر إلى حقائق بشرية، تمارس التشدد والتطرف على قاعدة أن أفكارها لم يُسمح لها بالوجود بالوسائل السلمية والحضارية.

فلكيلا ينزلق المجتمع صوب التطرف نحن أحوج ما نكون إلى قيمة الانفتاح والحوار مع الفكر الآخر بعيداً عن الرهاب ونزعات الإقصاء والنبذ.

وجماع القول: حين التأمل في النصوص التأسيسية للإسلام نجدها تعتمد بشكل أساس على قيمة الحرية، وتعتبرها هي القيمة الأساسية التي تمنح تصرفات الإنسان معناها الحقيقي والجوهري. فلا عبرة لتصرفات الإنسان التي يقوم بها تحت الإكراه، كما أنه لا عبرة لأي ممارسة يقوم بها الإنسان دون حرية واختيار.

فالتصور الإسلامي للإنسان قائم على حريته وقدرته على الاختيار {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»[49].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] انظر: عبد الأمير مهنا وعلي خريس، جامع الفرق والمذاهب الإسلامية، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992م.

[2] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد عبد القادر الفاضلي، صيدا - بيروت: المكتبة العصرية، 2003م، ص9-10.

[3] سورة الأعراف، آية: 164.

[4] سورة القصص، آية: 23.

[5] سورة البقرة، آية: 143.

[6] سورة آل عمران، آية: 110.

[7] سورة الأنبياء، آية: 92.

[8] سورة المؤمنون، آية: 52.

[9] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، قم: دار الحديث، 1422هـ، ج2، ص608-615.

[10] أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، القاهرة: دار الشروق، 1988م، ص270.

[11] فهمي هويدي، أزمة الوعي الديني، صنعاء: دار الحكمة، 1988م، ص281.

[12] محمد الحسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، القاهرة: مكتبة النافذة، 2006م، ص158.

[13] أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، مصدر سابق، ص281.

[14] فهمي هويدي، أزمة الوعي الديني، مصدر سابق، ص288.

[15] زكي الميلاد، خطاب الوحدة الإسلامية.. مساهمات الفكر الإصلاحي الشيعي، بيروت: دار الصفوة، 1996م، ص118.

[16] محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، 2004م، ص130.

[17] محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1992م، ص221.

[18] زكي الميلاد، خطاب الوحدة الإسلامية، مصدر سابق، ص118.

[19] التوحيد، طهران، مجلة فكرية، السنة العاشرة، العدد 55، أكتوبر - نوفمبر 1991م، ص99.

[20] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص52.

[21] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1966م، ص33.

[22] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص52.

[23] حسان عبد الله حسان متولي، كشاف مجلة رسالة الإسلام، بيروت: الدار الإسلامية، 2005م، ص14.

[24] حسان عبد الله حسان متولي، المصدر نفسه، ص16.

[25] حسان عبد الله حسان متولي، المصدر نفسه، ص 17.

[26] محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، مصدر سابق، ص351.

[27] محمد مهدي شمس الدين، حوار فكري، مجلة الكلمة، بيروت، السنة الأولى، العدد الخامس، خريف 1994م - 1415هـ، ص124.

[28] محمد مهدي شمس الدين، دراسات ومواقف في الدين والسياسة والمجتمع، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1993م، ج3، ص255.

[29] محمد مهدي شمس الدين، المصدر نفسه، ص265.

[30] محمد مهدي شمس الدين، المصدر نفسه، ص268.

[31] محمد مهدي شمس الدين، حوار فكري، مجلة الكلمة، مصدر سابق، ص125.

[32] عبد الجبار الرفاعي، إعداد وحوار: مقاصد الشريعة، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص26 - 27.

[33] محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999م، ص88.

[34] محمد مهدي شمس الدين. الوصايا، بيروت: دار النهار، 2002م، ص27.

[35] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (170).

[36] القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية (104).

[37] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (256).

[38] القرآن الكريم، سورة البلد، الآية (8-10).

[39] مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق دار الفكر، الطبعة الأولى، 1991م، ص147.

[40] القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية (29-31).

[41] جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، ص266، بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994م.

[42] المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[43] مجلة المنطلق، العدد 115، ربيع - صيف 1996م/1417هـ، ص13.

[44] مجلة المنطلق، المصدر السابق، ص17.

[45] محمد جعفري، العقل والدين في تصورات المستنيرين الدينيين المعاصرين، ترجمة حيدر نجف، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2010م، ص 24.

[46] مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، ترجمة عبد الجبار الرفاعي وحيدر نجف، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، الطبعة الأولى، 2012م، ص 7 - 8.

[47] محمد مجتهد شبستري، مدخل إلى علم الكلام الجديد، بيروت: دار الهادي، الطبعة الأولى، 2000م، ص 33.

[48] السيد محمد حسين فضل الله، كتاب الندوة الجزء الرابع، بيروت: دار الملاك، الطبعة الثانية، 2000م ، ص159.

[49] القران الكريم، سورة الإنسان، الآية 3.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة