تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

جدل الإنساني والتقنية

توفيق بن ولهة

 

جدل الإنساني والتقنية

 

توفيق بن ولهة*

* قسم الفلسفة، جامعة سطيف 2 - الجزائر. البريد الإلكتروني: toufik34200@gmail.com

 

 

-1-
في معنى الإنساني

قد يكون الحديث اليوم عن «الإنساني» Humanité في الخطاب المعاصر أكثر حضورًا وتداولاً من الحديث عن «الإنسان» L’homme في حد ذاته، مع أن هذه الاستعمالات المستقلة لهذه اللّفظة ليست منسجمة على الإطلاق، وذلك لاختلاف حقول المعرفة التي يصاغ فيها هذا المفهوم، سواء في السياسة، الاقتصاد، الأخلاق، البيولوجيا... وما يهمنا في هذه المطالعة هو الإنساني في بعده البيولوجي.

فمهما حاولت مختلف التعاريف تجاوز طبيعة الإنسان البيولوجية، من خلال نعته بالفكر أو الصنع أو حتى التكلم[1]، إلاّ أنها لم تستطع نزع تلك الصبغة الطبيعية التي هي عبارة عن مجموعة من المزايا يشترك فيها جميع الناس، ومنها الحياة الحيوانية[2]، التي لا يفصلها عنه سوى الجنس النوعي، أما باقي المقولات بحسب كليات أرسطو فهي مشتركة، فمن غير المعقول أو المنطقي إذًا أن نتكلم عن الإنسان بعيدًا عن حياته الجسدية أو عن حيواته، بما أنه كائن حي قبل كل نشاط يقوم به، فلم يكن الإنسان الغابر إذًا إنسانًا بالمعنى المعاصر، إنه ينتمي إلى ما قبل تاريخ الإنسان، إنه يستبق بالفن والشعر والتاريخ والعلم والتقنية ظهور إنسان ينبغي تجدده، ينبغي خلقه باطراد، وهو يعلن بثقافته أن الصناعي ينبذ الطبيعة[3]، ومع هذا يبقى الإنساني ثاوي فيه مهما تغيرت درجات تطوره.

وقد يكون هذا ما أثار حنق الفيلسوف الفرنسي جورج كانغلام G.Canguilhem على علم النفس عندما تغاضى عن هذا الجانب، وفصله بين نوعين من أنواع الدراسة: (علم النفس التجريبي) الذي يهتم جزء كبير منه بدراسة السلوك الحيواني، أما القسم الثاني والذي يضم (علم النفس العيادي) ويركز في دراسته على ما يصدر على الإنسان من سلوكيات، باعتباره كائن ثرثار أو كتوم، كائن اجتماعي أو غير اجتماعي، ويتساءل هنا كانغلام: «وهل يمكن عندئذ أن نتحدث بصورة دقيقة عن نظرية عامة في السلوك طالما لم نحل مسألة معرفة ما إذا كان ثمة قطيعة أو تواصل بين اللغة البشرية واللغة الحيوانية، وبين المجتمع البشري والمجتمع الحيواني؟»[4].

تلك الأسئلة التي قد تتخفى عنا في كثير من الأحيان، هي التي ستشكل الخط الفاصل بين الحيوان والإنسان، سواء في سلوكه أو لغته أو علاقاته، تجعلنا بمقتضاها نطلق على تجمع ما على أنه مجتمع حيواني، وتجمع آخر على أنه مجتمع إنساني.

كما أن استحضار مصطلح «إنساني» أمام التقنية لا يتعلق باختيار مفاهيمي متأثر بعصر دون آخر، وإنما يمس هذا الأمر حقيقة كنه الإنسان، الذي لم يبقَ ذلك الكائن المفكر فقط، أو كما نعته «ديكارت» R.Descartes بأنه ذلك الكائن الذي يفكر ويتذهن ويشك ويدرك.

إن معظم هذه التعاريف الكلاسيكية لمفهوم الإنسان قد صارت غير مناسبة لفهم أنفسنا، ومن ثمة توجب علينا البحث عن تعاريف جديدة أكثر إيفاءً بخصائص الظاهرة الإنسانية، خاصة بعد ولوج العلوم التي تدرس الإنسان مرحلة العلمية.

ومن هنا يأتي استعمالنا لمصطلح الإنساني مُضمرًا لادِّعاء منهجي يلمح إلى أن الفلسفة لم تستطع أن تفي به إلى حد الآن، فمن مفارقات شؤون الفلسفة أنها كثيرًا ما تعد بتطليق الأحكام المسبقة، وتقسم بأن تهجر الدوغمائيات وتتحرر من التّقليد، لتخلص إلى الحقيقة المحضة في ضرورتها الصارمة وكونيتها التامة ويقينها الذي ينتفي معه كل شك، ولكنها سرعان ما تباغتنا بعودة المطعون فيه والتوكيد على استقامته والانتصار إليه، وكأن تلك الحالة مجرد تقنية استيعاب، تستمد سلطتها من الموروث الفكري لتحصر الإنسان في إطار الذات المفكرة، وجليٌّ أن تلك العملية تمس جهة ما من وجود الإنسان، لا طبيعته ومظهره، بما أنه كائن يؤدي وظائفه الحيوية، ويتوقف عن الوجود إذا توقفت هذه الوظائف.

بالرغم من أن الإنسان أكثر الكائنات حداثة، إلَّا أنه كذلك كائن تركت صيرورته المولودة له في بنيته النّهائية، علامات مسيرته الفيزيولوجية، لأن الإنسان بالنسبة إلى نفسه هو مجموع وثائقه العضوية، وبمجرد أن ينظر إلى ذاته فإنه بإمكانه أن يعيد بناء جزء مهم من طريق العودة إلى أصوله، فهو تكرار لنسخ وجدت منذ الأزل، أي تلخيص مختصر لسلالته الحيوانية.

لذلك نلح هنا بأن الكائن الإنساني لم يعرف بعد، فهو لا يتحدَّد فقط من خلال التاريخ ولا من خلال ما أنجز من أعمال سواء كانت مادية أو معنوية، بل إن ما نريد الإشارة إليه هنا يكون قد يشاطرنا فيه جون جاك روسو J.J.Rousseau في نص بارز من التقديم الذي افتتح به مؤلفه «خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر» إذ يقول فيه: «أكثر المعارف الإنسانية نفعًا وأقلها تقدمًا من بينها جميعًا إنما ما بدا لي على أنه المعرفة بالإنسان»[5]، فالإنساني نسخة مكررة من نموذج وجد منذ الأزل، وما تحتاجه منا إلَّا أن نعرفها من جديد.

وهنا تشد انتباهنا كلمة تكرار، والتي تأخذ معنى جديد كليًّا في الدراسات الحديثة للإنساني، لأنه طالما ظلت فكرة سلالة حيوانية تدريجية يتوجها الإنسان تلازم شعور ولا شعور الطبيعيين والفلاسفة، فإن الحيوانية بصفة عامة هي التي كانت تمرينًا على الإنسانية، بالمعنى الحقيقي للكلمة[6].

وهذا لا يعني انتقاصا من قيمته السامية التي صيرها لنفسه، وإنما هي إشارة مخصوصة إلى ذلك الجانب الذي نُريد تغييبه، أو المسكوت عنه في حديثنا عن الإنسان، رغم حضوره الفعلي في حياتنا اليومية، وقد يعود هذا التفريق بين الجانبين إلى عشرين قرناً من الزمان، فحسب «لوك فيري L.Ferry» كان هناك تقابل حاد بين العالم المعقول والعالم المحسوس، بين جمال الأفكار والمثل وقبح الغرائز، بين الفكر والمادة، بين النفس والجسد.

ولهذا كان لزاماً علينا القيام بمحاكمة لرد الاعتبار[7]، فولادة الإنسان وكينونته بيولوجية قبل أي فكرة يكوّنها، فالجسد قبل العقل، لأنه لا يمكن أن نستطيع تغيير وظيفة أي عضو من أعضاء الجسد، لكن نستطيع تغيير طريقة التفكير، فليس من الممكن أن نعيش دون طبيعتنا التي تذكرنا دائماً بأن هناك شيئاً بيولوجيًّا يحركنا، هذا الجانب الذي نهتم به فقط عندما نمرض أو بالأحرى عندما يتعطَّل عن أداء وظيفته، فالإنساني حاضر في الإنسان على عدة أوجه، والذي يريد تغييب هذا المعنى فهو يمارس الهروب من حقيقته، متشبثاً بالمصطنع أو ما ندعوه بالتقنية، فما حقيقة التقنية؟ وما علاقتها بتغييب هذا الحضور؟

-2-
في معنى التقنية

قبل الحديث عن تلك العلاقة الثنائية التي نُريد أن ننسجها بين الإنساني والتقنية، علينا أولاً أن نُجري نوعاً من التدقيق في حفريات مصطلح التقنية، لنطّلع على أصول هذه العلاقة، والتي تمكننا من ضبط تمشيها وفق نظرة كرونولوجية، تسهل علينا فيما بعد فهم علاقتها بالإنساني.

يرجع مصطلح التقنية في الأصل إلى الفعل اليوناني techné، ومصدره الفعل القديم teuchô والذي نجده مستعملاً لدى شعراء اليونان القدامى ومن بينهم هوميروس Homére الذي استعمله كمرادف للفعل «صنع» fabriquer أو «أنتج» produire، وقد استعمل كذلك ولو بشكل نادر كلمة teuchos بمعنى وسيلة أو أداة outil، فالتقنية عند هوميروس هي أقرب إلى القول بأنها امتداد للفعل، وليست الوسيلة المادية التي أنجز بها أو أنجزها[8]، ومشتقها tuktos بمعنى «مبني بشكل جيد»، «جيد الصنع» أو بمعنى « عمل متقن»، أما كلمة tekton ومعناها في الأصل نجَّار أو حِرفي، فقد عنى بها هوميروس الحرفيين والعمال بشكل عام، وفي وقت لاحق أصبحت مرادفة للصانع le maitre، وtechné تحيل كذلك إلى «الإنتاج» أو «المواد المصنعة»، ثم عممت على كل فعل منتج حتى وإن لم يكن ماديًّا، وهذا لأن الأمر مرتبط بالفعل المنفذ أو «الفعل الفعال» [9]le faire efficace، واستعمل هذا المصطلح بعد ذلك من طرف أفلاطون Platon الذي جعله مرادفاً تقريبًا للمعرفة أو الفن، فالتقنية أصبحت عنده لا تعني فعل الصانع فقط، بل تعني كذلك أيضاً الفن والفنون الجميلة، لأن التقنية جزء من فعل الإنتاج، إنها صناعة أو إنتاج شعري بالمعنى الأسمى للكلمة Poietique والذي يحوي لمسة معرفية، وذلك ما قصده أفلاطون حينما فرَّق بين التجربة بمعرفة والتجربة دون معرفة، كالتفريق في قيمة الأغذية بين الطبيب والطاهي[10].

أما أرسطو Aristote فقد أسس مفهوم التقنية techné اعتماداً على فعل الخلق pioiésis والصنع، أي إيجاد وسيلة أو أداة تمكن الفرد من حل مشكلة ما بوسيلة ملموسة، وهو مأخوذ من الفعل poiêô الذي لديه مدلولان: يصنع ويخلق، وقد استعمل هوميروس الكلمة بمدلولها الأول «يصنع، يبني، ينتج» وهو مرادف لكلمة teuchô، أما مدلول كلمة الخلق créer فقد بدأ استعماله في المرحلة الكلاسيكية الأخيرة، وكان ذلك مع أفلاطون الذي أعطى المفهوم الكامل لمصطلح pioiésis ويقصد به نقل الشيء من العدم إلى الوجود[11].

فالتقنية في الفكر اليوناني كانت تعني تجميع عناصر من المواد الموجودة وإعطائها شكل جديد يمكن استغلاله، وقد ذكر هوميروس في الإلياذة بأن زيوس Zeus ليكوّن عاصفة يجمع أجزاءها الموجودة، وبذلك تكون الآلهة هي المالكة الأصلية لطبيعة التقنية[12].

لكن أرسطو فيما بعد في كتابه «اليتافيزيقا» أعاد ربط كلمة techné بالكلمة اليونانية hexis-poiètikè والتي تعني الخلق الإبداعي، فهي شبيهة بمعنى البراكسيس praxis ولكن تختلف عنها في أنها عبارة عن عمل يعطي نتيجة ergon [13]، وبإمكان هذا المنتج أن يستقل عن النشاط أو العمل الذي أفرزه، فهو بذلك يركز على النتيجة الحاصلة دون الاهتمام بالأسباب أو النشاط الذي أفرزها.

ولو جئنا إلى العصر الحديث فإنّا نجد بأن مصطلح التقنية technique قد اتَّخذ منحى مغاير تماماً من حيث المفهوم لما قصده اليونان، فديكارت Descartes يعتبر التقنية امتداد للمعرفة الموضوعية، وهي التي تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة، لأنها تُمثِّل النشاط الفعلي المؤثر، الذي يحدد للإنسان مكانته في هذا الوجود، لذا يجب التركيز عليها وتدريسها «عوضاً عن هذه الفلسفة النظرية التي تدرس بالمدارس... فإذا عرفنا من خلالها ما للنار، والماء، والهواء، والكواكب والسماوات، وكل الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال، لا تقل تمييزاً عن مختلف الحرف والصناعات، استطعنا أن نستخدمها بالكيفية نفسها في كل الأعمال التي تلائمنا، وأن نجعل بذلك أنفسنا أسيادًا للطبيعة ومتملكين لها»[14].

وهذا يعني أن نموذج المعرفة، بما في ذلك معرفة الطبيعة، انتقل من السماء إلى الأرض، وذلك من خلال الاهتمام بالحياة اليومية للإنسان وانشغاله الآني، وتأكيد سيطرته على الوسط الطبيعي الذي يتعامل معه مباشرة، أي من معرفة نموذج الصناعة كما عند اليونان، ومعرفة الصانع وأسباب الصناعة كما عند ابن رشد، إلى معرفة التقنية البشرية والأهداف التي تحققها، لأن المعرفة بهذا المعنى عند ديكارت تصبح عملية –تقنية- أكثر منها نظرية، والمفهوم نفسه تقريباً نجده عند الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون F.Bacon في كتابه «الأورغانون الجديد»، فالأعمال والاكتشافات الهامة التي حدثت منذ بداية النهضة، وشارك فيها الاثنان -ديكارت وبيكون- تُبيِّن سطوة التقنية، فهي بمثابة العصا التي تُطوِّع شراسة الطبيعة وتعنُّتها، وهي التي جعلت من الإنسان سيدًا لها[15].

ومع هذا فإن ألكسندر كويريه A. Koyré عندما يجري مقارنة بين ديكارت وبيكون حول مفهومهما للتقنية، يرى بأنهما يختلفان من حيث إن الأول يجعل النظرية أو العلم ينفذ إلى داخل الفعل، ويعمل على تحويل الذكاء النّظري إلى تطبيق فعلي، أي إمكانية دمج التقنية كتطبيق والفيزياء كتنظير، وتجد هذه الإمكانية تعبيراً وضماناً لها في هذه الظاهرة المتمثلة في أن الفعل الذي به يفكك الذكاء آلة ويعيد تركيبها، والذي يمكنه فهم تفاصيلها ومعرفة هيكلها ووظيفتها ومختلف دواليبها، متماثل تمام التماثل مع الفعل الذي به يفكك معادلة رياضية، ويفهم هيكلها وعناصرها، أما بيكون فإنه يكتفي بمنح الفكر شرف ترتيب ما تنتجه اليد من تقنية، والعمل على تسجيله[16]، وهذا ينسجم مع طبيعة مذهبه الذي يعلي من دور التجربة ويضع من دور العقل.

فإذا ما وصلنا إلى المرحلة المعاصرة، كان علينا تتبع نمو هذا المصطلح وفق ما تقتضيه منا هذه المعالجة، لأن التقنية يمكن أن يتغيَّر مفهومها في هذا العصر حسب الزاوية التي ننظر من خلالها للموضوع الذي تتضمنه ويتَّجه إليه تأمُّل الفلاسفة وتحليلاتهم لها، فهناك تكنوفوبيا Technophobie اليوم في معالجة مسألة التقنية من طرف الفلاسفة، ومن بين هؤلاء هيدغر M. Heidegger و ماركيوز H.Marcuse مرورًا بهابرماس J.Habermas [17].

ولا نجد فقط هنا آراء الفلاسفة، فيمكن أن تنفذ آراء المشتغلين في الحقل التقني كذلك، من مهندسين وصناع وحرفيين وفنانين... فآراء كل هؤلاء قد تُعطي بعدًا آخرًا للتقنية.

وسنقتصر هنا على الإشارة إلى تلك الدراسات التي وضعت التقنية في مقابل الإنساني كجسد له وظائفه، ومن بين هذه الدراسات تلك الدراسة المتميزة التي قدَّمها ألفريد إسبيناس A.Espinas، حيث ربط بينها وبين فعل الاستطاعة، أو العمل التطبيقي للإنسان[18]، فقد اعتبر التقنية استمرار وإضفاء خارج العضو، وقد استخدمها الإنسان لإطالة أطرافه، دون أن يخطر في باله البتة تقريبًا أن يلاحظ بنيتها، ولا أن يبحث كيف تتكيف أجزاؤها المختلفة مع هدفها تكيفًا جيدًا تمامًا، ولهذا اعتبر إسبيناس التقنية بمثابة إضفاء للأطراف من أجل إطالتها، بل إضفاء المفاصل التي تربط الأطراف بعضها ببعض مع الجذع، وتتيح لفاعلها تحقيق حركات محدودة دون حركات أخرى.

أما الفيلسوف الألماني أرنست كاب E.Kaap فيعتبر أهم من تناول مسألة التقنية حسب جورج كانغلام، والذي طرحها لأول مرة سنة 1877 في كتابه «فلسفة التقنية» Philosophie der technik [19]، من زاوية اهتمامه بالآلات والأسلحة بوصفها مجرد أنواع مختلفة من الكيانات العضوية، وبذلك تكون التقنية امتداد لنشاط العضوية[20]، ومن هنا كان وصفه للسكة الحديدية باعتبارها مجرَّد تجسيد للنظام الدائري الذي تُشكِّله العضوية، سواء الأوعية الدموية أو الأمعاء..، والتلغراف باعتباره مجرَّد امتداد للجهاز العصبي[21]، فلا اختلاف بين التقنية والعضوية إلَّا في طبيعة التكوين.

ولو عدنا إلى أهم فيلسوف ارتبط اسمه بالتقنية في الفلسفة المعاصرة ألا وهو هيدغر فإنّا نجده قد طرحها من وجهة نظر وجودية، حيث أعطى بعدًا آخر للكلمة اليونانية techné، فهي لا تعني عنده أي عمل مقدم أو حتى الطريقة التي يقدم بها، ولا تكمن كذلك في استخدام الموارد أو الوسائل، وإنما هي طريقة للكشف أو الانكشاف dévoilement [22].

فما علاقة ماهية التقنية بالانكشاف؟ يجيب هيدغر «إنها تلتقي معه في كل شيء، لأن كل إنتاج يجد أساسه في الانكشاف... في مجال الانكشاف تدخل الغايات والوسائل والأداتية أيضاً»[23].

وهذا يعتبر البعد الأساسي للتقنية، فإذا دققنا بهدوء، سؤالنا، وطرحناه وفق صيغة تكون أقرب إلى ملامسة الماهية أكثر من تركيزها على المظهر، فنقول: ما هي بالضبط هذه التقنية المفهومة كوسيلة؟ عندئذ سنصل إلى الانكشاف، الذي يجعل المتخفي يظهر عيانًا، ويكون ذلك من خلال تحريض الطبيعة على استخراج طاقتها الكامنة.

وهكذا فالتقنية هي إنتاج بمعنى انكشاف لا إنتاج بمعنى الصنع، ولا يمكن أن تكون التقنية وسيلة فحسب عند هيدغر، بل هي نمط من الانكشاف، إذا اعتبرناها كذلك، سينفتح لنا بالنسبة لماهية التقنية مجال مخالف تماماً، أي مجال الحقيقة، ولو أن ماهيتها ستبقى متخفية عنا لأنها لم تكتمل بعد.

رغم هذا فإن المحاولة التي خضناها من أجل البحث عن مفهوم التقنية عند الفلاسفة، جعلتنا ندرك أن المفهوم الذي يتخذه موضوع التقنية يتحدَّد بحسب الزاوية التي نقف فيها والطريقة التي ننظر بها إليها، وقد نتجنب جمع الكثير من الأوصاف والمفاهيم للتقنية، إن نحن وقفنا وسط هذه الزوايا، دون أن تكون لنا خلفية توجّه حكمنا عليها.

فتبدو لنا التقنية من ذلك بأنها ذات خصائص معينة، نُسخِّر بها وسائل منظمة، نُؤثِّر بها في البيئة المادية والاجتماعية، ونعمل من خلالها على أنسنة الطبيعة، لتكون أكثر ملائمة للعيش، سواء بتطويعها أو تغييرها، بما أن صورتها البدائية قد تفشل في أداء مهمتها، وذلك ما يجعلنا نكتشف ما حجب علينا، فالتقنية كفعل أو كوسيلة لم تكن لتوجد إلَّا من خلال علاقتها بالإنساني «بما أن مكانته في مثل هذا الكوسموس Cosmos مكانة مركزية، فهو يحتل قمة هرم تراتب الأحياء، باعتبار أن عقله، مرآة النّظام، هو الذي يُمكّنه من تأمُّل الكل، إنه يعرف العالم ويعرف في الوقت ذاته كيف أن كل شيء في العالم له علاقة به»[24].

وهذه العلاقة التي تربط الإنساني بالتقنية كانت المنفذ الذي جعل الفيلسوف الفرنسي جورج كانغلام يعالج هذه المشكلة، فهو يعتبرها تواصل واستمرار للوظيفة المعيارية Fonction Normative للحياة، فمثلاً الإنسان ابتكر المكتبة للأرشيف وتخزين المعلومات، كامتداد واستمرار لوظيفة الذاكرة الدماغية ذات القدرة المحدودة على التخزين[25].

ولعل هذا ما جعلها تسيطر على الكثير من النشاط الإنساني، الوضع الذي جعل الإنسان يعيش خارج الطبيعي، أي خارج الحتميات التي تحكم ظواهر الطبيعة، مما جعلها تكشف الغامض في قلب الكائن البشري، وتعمل على شل قدرته على التحرر من الآلية التي هيمنت بشكل مطلق على عالمه، ولعل هذا يقرأ عند الكثير من الفلاسفة الذين تناولوا هذه المشكلة، لكن الشيء الذي جعلهم يختلفون في تحديد طبيعة التقنية هو اختلاف الزوايا التي ينظرون من خلالها إليها.

وبما أن التقنية تشمل مجموعة المفاهيم السابقة، فهي تبقى مخصصة لإحداث بعض النتائج المعتبرة النافعة[26]، لأنها تشمل كل طريقة نافعة تحدث أثرًا يمكن معاينته، أما عن مصدرها يضيف لالاند: «والتقنية تتناقلها الأجيال بالتعليم الفردي، بالدربة أو التجربة، وهي تشمل كل المناهج المنظمة التي ترتكز على معرفة عملية مطابقة، وهذا يؤكد أن التقنية منبعها الممارسة والتدريب، بالتناقل الشفوي لأسرار المهنة ولكل المهارات اليدوية»[27].

وهذا التدريب يكون متزامناً مع وعي ومعرفة متروية، وهذا التعريف يتعارض مع الممارسات البسيطة أو العادات التي تستتب تلقائيًّا، وقبل أي تحليل.

والتقنية قد تشمل جملة المبادئ أو الوسائل التي تعين على إنجاز شيء أو تحقيق غاية، وتقوم على أسس علمية مضبوطة، وهذا قد يقربنا من مفهوم التقنية عند فلاسفة الإسلام فهي تضم العلم والصناعة أو الفن، حيث جعلوا من الفقه والمنطق والنحو علوم صناعية، فابن سينا يصف العلم الطبيعي بالصناعة النظرية[28].

أما التهانوي فيقول عنها: إنها «في عرف العامة هي العلم الحاصل بمزاولة العمل كالخياطة والحياكة، مما يتوقَّف حصولها بالمزاولة... وفي عرف الخاصة هي العلم المتعلق بكيفية الفعل فيكون المقصود منه العلم، سواء حصل بمزاولة العمل أم لا، كعلم الفقه والمنطق والنحو»[29].

وقد يكون هذا التعريف أقرب إلى المعنى الذي قصدته «ديدي جوليا» D.Julia في معجمها حيث تقول فيه: إن التقنية تضم كل صناعة، وقد تكون هذه الصناعة يدوية من طرف حرفيين، أو صناعة آلية تستعمل فيها الماكينة[30]، وبذلك أصبحت التقنية شيئًا فشيئًا تتعلَّق بالموضوع المنتج أو المصنوع وابتعدت عن معناها الأول الذي كان مرتبط بالفعل في حد ذاته techné.

لقد أصبح يُنظر للتقنية ككيان خاص منفصل عن الفعل الإنساني، لأنها كونت لنفسها ماهية، وستبقى تُؤدِّي عملها حتى وإن توقَّف الفعل، ومع هذا فإن تلك الماهية متخفية عنا ما دامت تغير من مظهرها كل مرة، وقد تغلغلت في كل مناحي الحياة الإنسانية، وأصبحنا عندما نتكلَّم عن التقنية معناه أننا نتحدَّث عن قواعد السلوك البشري، القائم على معرفة علمية للوقائع الأخلاقية والاجتماعية، والحقيقة أن الفكرة المقصودة هنا متعلقة بـ«الفن العقلاني» أو «فن أخلاقي عقلاني»[31]، فكل تقدُّم تقني يأتي ننعشه بدراسات جديدة تحاول تقديم مساهمتها الحاسمة في إضفاء الطابع النسبي على كل قانون أخلاقي.

ولعلنا نجد في أصل هذه النسبوية تساؤلات مشروعة حول الحدود التي يجب أن تتوقَّف فيها التقنية أمام خصوصية الإنساني، وكذا مدى مشروعية تلك الدعوات التي تلح على عدم وضع حدود دوغمائية أمام فتوحات التقنية، رغم أن هذه الفكرة التي تدعو التقنية إلى التدخل في خصوصية الإنساني خاصة في الطب ليست بالجديدة، بل تعود إلى العصور الغابرة، عصور بداية ممارسة فن الاستطباب.

ولكن التدخل المفرط لوسائل التقنية في الطب الحديث جعل المشكلة تعود إلى الواجهة من زاوية أخلاقية، فالتراتب الذي ستحصل عليه الوسيلة التقنية المستعملة في البحث عن الشفاء هو المعنى الذي سيسود تناول المشكلات الطبية المعاصرة، والتي تغيب معها طبيعة الإنساني في الإنسان، فالطب تأثر بمنطق العلوم التجريبية سواء الفيزياء أو الكيمياء، مستعملاً الكثير من مصطلحاتها كالحتمية، جعله ذلك ينفي الذاتية عن المرض بما أنه معاناة، آلام، حيث يحتاج الطب لأن يكون إنساني لا تقني.

 

 

 



[1] يعرف الإنسان بكثير من الصفات، على أنه إنسان صانع، إنسان عالم – مفكر، إنسان متكلم، إنسان اقتصادي،... (انظر: أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، ج1، ترجمة: خليل أحمد خليل، لبنان: منشورات عويدات، ط1، 2001، ص 563).

[2] أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، ج1، مرجع سابق، ص570.

[3] جان ماري أوزياس، الفلسفة والتقنيات، ترجمة: عادل العوا، لبنان: منشورات عويدات، 1983، ص13.

[4] G. Canguilhem: Etudes d’histoire et de philosophie des sciences, Librairie Philosophique j.Vrin, Paris, 6 édition augmentée, 1994, p 367.

[5] جون جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة: بولس غانم، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2009، ص 51.

[6] G. Canguilhem: Etudes d’histoire et de philosophie des sciences, Op-cit, p116.

[7] لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة: محمد هشام، المغرب: أفريقيا الشرق، ط 2002، ص141.

[8] C. Castoriadis: Les carrefours du labyrinthe v1, édition du Seuil, Paris, 1978, pp 222-223.

[9] Ibid: p223.

[10] انظر: أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة: عن الفرنسية محمد حسن ظاظا، مراجعة: علي سامي النّشار، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص ص54-55.

[11] C. Castoriadis: Les carrefours du labyrinthe v1, Op. cit, p 224.

[12] Homère: Iliade, tradition par E.Bareste, Lavigne libraire, paris, 1843, pp34-38.

[13] Aristote: Métaphysique, tradition J.Tricot, Librairie Philosophique j.Vrin, Paris, 1974, Ө,2,1046 b5-8.

[14] روني ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة: عمر الشارني، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص ص 340-341.

[15] F. Bacon: Novum organum (1620), traduire par E. Burnouf classique, Paris, p 01.

[16] A. Koyré: Etudes d’histoire de la pensée philosophique, Edition Gallimard, Paris, 1971, p346.

[17] S.Auroux, Y.Well: Dictionnaire des auteures et des thèmes de la philosophie; Hachette édition; édition revue et augmentée, Paris, 1991, p 47.

[18] G.Canguilhem: La connaissance de la vie, Librairie Philosophique j.Vrin, Paris, 10éme édition, 1992, pp 122-123.

[19] Ibid. p123.

[20] E.Kaap: Principes D›une Philosophie De La Technique, traduire par G.Chamayou , Librairie Philosophique j.Vrin, Paris, 2007, p22.

[21] محمد مجدي الجزيري، الفلسفة بين الأسطورة والتكنولوجيا، دار الوفاء للطباعة والنشر، 2002، ص243.

[22] M. Heidegger: Essais et Cohérences, Paris, Gallimard, 1958, pp19-20.

[23] مارتن هيدغر، ماهية التقنية، ترجمة: محمد سبيلا، الموقع الإلكتروني:

05/02/12 http://www.mohamed-sabila.com/nossos2.html

[24] جورج كانغلام، دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها، ترجمة: محمد بن ساسي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص 76.

[25] F. Dagognet: Philosophie biologique. Paris, P.U.F, 1962, p 60.

[26] أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، مرجع سابق، ج3، ص 1428.

[27] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[28] إبراهيم مدكور، المعجم الفلسفي، الهيئة. مصر، المؤسسة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983، ص53.

[29] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[30] D.Julia: Dictionnair de la philosophie, Imprimerie Herissey, Paris, 1980, p294.

[31] أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، مرجع سابق، ج3، ص ص 1428-1429.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة