تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تأصيل العلوم الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر

عبدالحليم مهورباشة

 

تأصيل العلوم الاجتماعية

في الفكر العربي المعاصر

عبد الحليم مهورباشة*

* أستاذ مساعد بقسم علم الاجتماع بجامعة سطيف 2، البريد الإلكتروني:

halim-bacha@hotmail.fr

 

 

استهلال

بعد حصول معظم الأقطار العربية على استقلالها السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، سارعت النخب السياسية المشكَّلة فيها حديثاً، بتأسيس الدول الوطنية على الطريقة الأوروبية، فأوكلت لها مهمة التنمية والتحديث، ورفعت نخب هذه المرحلة شعارات التقدم والتطور والنهضة، رغم تباين مرجعياتها الفكرية ومنطلقاتها الأيديولوجية، فأنشأت الكليات والمعاهد والجامعات كمؤسسات معرفية لتساهم في التنوير ونشر القيم المدنية المعاصرة، وإعداد اليد العاملة المؤهلة، وإطارات المستقبل.

وكان الأمل فيها كبيراً، لأن معظم المفكرين العرب أرجعوا تخلّف المجتمعات العربية إلى المجال التربوي والعلمي، فقامت بزرع أكاديمي للعلوم الاجتماعية في مختلف الجامعات، أي تولى في البداية التأسيسية لها المستعمر بتدريسها وبلغته (فرنسية، إنجليزية).

وبعد تخرُّج النخب العربية قامت هي بدلاً عنه في المرحلة الثانية، وترجمت العديد من كتب وإسهامات الرواد الأوائل لهذه العلوم، وكان دافعهم الأساس في ذلك، أن تساهم هذه العلوم التي تُعنى بالسلوك الإنساني، في حل معضلة التخلف والانحطاط التي تعاني منها الأمة الإسلامية، فازدهرت أكاديميًّا وفعلت المشهد الثقافي نسبيًّا، لكن طبيعة النظم السياسية خاصة العسكرية منها التي حكمت الدول العربية الفاعلة كمصر، الجزائر، العراق، سوريا، السودان، حدَّت من حرية المشتغلين بها، وضيَّقت على البحوث والدراسات الاجتماعية ما عدا ما يخدم توجهاتها كالماركسية في طابعها الاشتراكي، فأصبحت مهمتها كعلم الاجتماع أنموذجاً، الدعاية والتعبئة الشعبية، وأيديولوجيًّا مواجهة المعارضة السياسية وعلى رأسها الإسلاميين، والدفاع عن خيارات الزمر الحاكمة، فبدأ يخفت صوتها ويتراجع خطابها المعرفي الذي كان يغلب عليه النقد اللاذع للأوضاع القائمة.

واستمرت في ترهلها إلى غاية تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، أي تبنت معظم الدول العربية الخيار اللبرالي في الاقتصاد، واستهدف أمنها القومي بتوجيه ضربة عسكرية للعراق، والتطبيع العربي مع إسرائيل وفق تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، وبرز فاعلون جدد في الساحة السياسية على رأسهم الحركات الإسلامية بشقيها الراديكالي الذي واجه الحكومات المحلية أو السلمي الذي اندمج في العمل الحزبي.

وازدهرت في المقابل حركة علمية تدعو إلى أسلمة المعرفة وعلى رأسها أسلمة العلوم الاجتماعية، من خلال جهود فردية أو مؤسساتية كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، أو في شكل عقد مؤتمرات وندوات تسعى لعملية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، للتمكين من عملية التجديد الحضاري، تحت دعوى الكشف عن المضامين الإلحادية والعلمانية لهذا العلوم، والكشف عن عجزها عن دراسة المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية.

فبدأ الستار يرفع عن العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، أي دخلت في أزمة حقيقية، جزء منها صدر له من الحقل المعرفي الغربي (الانتقادات الفلسفية لمشروع الحداثة الغربية: هبرماس، ألتوسير، فوكو،.. بالتركيز على الجوانب الأخلاقية في المعرفة ومحدودية العقل الأداتي)، وفق معادلة التبعية المعرفية، والجزء الآخر: الأول على المستوى العملي التطبيقي، فبعد مهمة الدعاية التي كانت تقوم بها، لم تعد الطبقات الأوليجاركية الحاكمة في العالم العربي وفي زمن العولمة، بحاجة لمن يدافع عن خياراتها أو يبرر مواقفها.

أما على المستوى المعرفي، فباعتبار العلوم الاجتماعية الغربية التي انبثقت عن فلسفة التنوير كعلوم تبحث في السلوك الإنساني وتدرس الظواهر الاجتماعية، معتمدة على المداخل المنهجية الوضعية التي تدعو للتحلي بالموضوعية التامة بالتجرد من الأهواء والأفكار المسبقة (الدين المسيحي) عند إجراء البحوث الاجتماعية كنظيرتها في العلوم الطبيعية.

وباعتبارها أحد الأشكال التعبيرية للحداثة الغربية، التي ظهرت مع الرأسمالية كنظام اقتصادي، وكنمط معرفي وقيمي مرتبط بها، ما إن نقلت إلى العالم العربي ذي الخصوصية الثقافية والحضارية المختلفة جذريًّا عن العالم الغربي لم تؤتِ أؤكلها المعرفي، بل أدت إلى تكوين نخب تعاني من ازدواجية ثقافية (علمانية، إيمانية)، تصارع ذاتها أكثر من العمل على التحكم في موضوع بحثها هذا من جهة، ومن سلم بيقينية مناهجها الوضعية من جهة أخرى، فأصبحت كأدوات معرفية تستنطق الواقع الاجتماعي، لتعيد رسمه في مخيلة مفكريها، أو تنتج استشراقاً إمبريقيًّا مفضوحاً؟

لذلك ألا يعبر واقع هذه العلوم عن أزمة معرفية ذات أبعاد مترابطة ومتداخلة، فالممارسة الأكاديمية ظلت تخونها في كل مرة، والتساؤل المطروح: هل الأزمة أزمة منهج ذي بعد قيمي أخلاقي لهذه العلوم، أم أزمة عقل عربي مترهل منذ قرون لم يستطع استيعابها؟ أم هي أزمة تنظير لواقع مفترض، ستُشكِّله التنمية في يوم ما؟

ألا تحتاج هذا العلوم إن كانت علوماً بالمعنى المعرفي، إلى إعادة النظر وإلى قراءة متأنية لمضامينها الأيديولوجية، وقواعدها الإبستمولوجية التي تنطلق منها، وعن وظيفتها ودورها في هذه اللحظة الزمنية الحرجة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، وإعادة ربطها بموروثنا الحضاري (مقدمة بن خلدون).

لذلك جاءت هذه الدراسة لمحاولة الوقوف على أسباب أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي، والفرضيات التفسيرية التي قدمها الفكر العربي المعاصر لهذه الأزمة، وكيفية حلها من خلال تأصيل للعلوم الاجتماعية من وجهة نظر وضعية علموية، باعتبار المعرفة الاجتماعية المعاصرة معرفة عالمية وليست مقتصرة على الغرب.

وبالإمكان الإسهام في هذه العلوم بإدخال المتغير المحلي في نظريات العلوم الاجتماعية، أو من وجهة نظر التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، من خلال إبراز الرؤية العقائدية التوحيدية الإسلامية في المعرفة الاجتماعية، انطلاقاً من التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة، وطبيعة النظام الاجتماعي الإسلامي المراد تشكيله لتحقيق التوحيد والاستخلاف والشهود الحضاري في الأرض، وعن الدور الذي ستضطلع به العلوم الاجتماعية في عملية بناء للمشروع الحضاري للأمة الإسلامية.

أولاً: مؤشرات عن أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي

في البداية نُعطي مؤشرات عن وضع العلوم الاجتماعية في العالم العربي، من خلال التقرير الذي نشرته اليونسكو سنة 1999م تحت عنوان: العلوم الاجتماعية في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وجاء فيه: إنه ثمة اثنتان من أبرز العوامل المؤثرة في تشكيل مسار والوضع الراهن للعلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هما المال والسياسة، واعتبرت أن ظهور سياسيات مواتية للبحث في العلوم الاجتماعية هو الذي سيساهم في بلورة دور وموقع للعلوم الاجتماعية في البلدان العربية، لذلك قدَّم التقرير عرضاً سلبيًّا لواقع العلوم الاجتماعية في العالم العربي.

والنتائج نفسها أعيد التأكيد عليها من خلال تقرير سنة 2000م، التقييمي لليونسكو، حيث تبدو العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية مقارنة بمحاولات التجديد البحثي في الصين، وتحسن أوضاعها في تركيا، في وضع متأخر على الرغم من الجهود المبذولة، في بعض البلدان العربية، وأشارت التقارير إلى خمس مؤشرات توضح واقع الأزمة في العلوم الاجتماعية في العالم العربي وهي[1]:

1- مؤشر الفجوة المتنامية بين التنامي الكمي للعلوم الاجتماعية والجودة النوعية للبحوث: يلاحظ أن كليات العلوم الاجتماعية أصبحت في مختلف الجامعات العربية في الوقت الحالي، بينما كانت لا تتعدى أربعة أو خمسة كليات في الخمسينات من القرن الماضي، لكن هذا التحول الكمي في عدد الدارسين للعلوم الاجتماعية والمؤسسات البحثية لم ترافقه بالضرورة الجودة والنوعية في التكوين، وطبيعة الأبحاث والدراسات، وكيفية استخدامها في تنمية المجتمعات، فوفق الإحصائيات الخاصة بالمقالات الواسعة الانتشار، والتي تضم ما يزيد عن أربعين إشارة، فإنه لا نجد سوى الكويت والجزائر ومصر والإمارات والسعودية، وبمعدل مقال لكل بلد.

2- مؤشر الفجوة بين تعليم العلوم الاجتماعية وتراكم الخبرة البحثية: ترجع إلى عاملين رئيسين: ضعف مستوى التراكم المعرفي والعملي، وضعف مستويات التوطين للعلوم الاجتماعية في العالم العربي.

3- مؤشر الفجوة بين أجيال الباحثين ونتائجهم في العلوم الاجتماعية في العالم العربي.

4- مؤشر الفجوة الرقمية في البحث في العلوم الاجتماعية.

أما عن آخر تقرير لمنظمة اليونسكو الذي صدر في سنة 2010م، تناول وضع العلوم الاجتماعية في مجتمعات الشمال والجنوب، فأشار محمود الذوادي إلى أن التقرير أوضح أن هناك هوة معرفية واسعة في إنتاج المعرفة في العلوم الاجتماعية بين المجتمعات الغربية المتقدمة ومجتمعات الدول النامية، إذ تهيمن الأولى على الإنتاج المعرفي، بينما الثانية ومن بينها الدول العربية فهي مستوردة لهذه المنتجات المعرفية، وصنف التقرير المجتمعات العربية في الأبحاث والتوجهات الفكرية والمنهجية إلى أربعة أنواع[2]:

1- في المجتمعات الخليجية يسود النموذج الإنجلوساكسوني في الأبحاث، فيطغى المنهج العلمي على العلوم الاجتماعية الخليجية، وهي تُلبِّي الحاجات الضرورية لتلك المجتمعات، فعلم الاجتماع في الخليج يحرص أن يكون في المقام الأول نوع من الهندسة الاجتماعية.

2- أما حركة العلوم الاجتماعية في مصر وسوريا والعراق، فيصفها التقرير بأنها أولت الأهمية للتنمية الاقتصادية، وقد تضخم في الأخير عدد الجامعات والكليات، التي لا تكاد تساهم في ميدان البحث من جهة، وساعدت على تدني التعليم العالي من جهة أخرى، لكن هل يعقل أن نربط في هذا التقرير الذي يدعي العلمية بين دراسة وضعية التعليم العالي في مصر والعراق هذا الأخير الذي كان يزخر تحت نير الاحتلال وعدم الاستقرار الأمني، بالإضافة إلى المقارنة بين مناخ الحرية السياسية في مصر وسوريا أين نلحظ حركة ولو بطيئة للعلوم الاجتماعية في مصر بالمقارنة بسوريا.

3- تبنَّت الجزائر والمغرب وتونس النموذج الأوربي، والفرنسي بالتحديد في العلوم الاجتماعية، بسبب انتشار اللغة الفرنسية في هذه البلدان، وسهولة الاتصال بالمراكز البحثية الفرنسية.

4- وأخيراً يذكر التقرير وضع البحوث في العلوم الاجتماعية في الأردن ولبنان، فمعظم الجامعات في هذين البلدين هي جامعات خاصة وحديثة عهد، وذات مساهمة قليلة في البحث العلمي.

رغم الأخطاء المنهجية التي ارتكبت في هذا التقرير وعدم وصفها الجيد لوضع العلوم الاجتماعية في العالم العربي، إلى أنها كمؤشرات تدل على تدني مستوي هذه العلوم في العالم العربي، وعلى تأخرنا الحضاري لغياب الباحتين العرب الذين لم يتناولوا هذه العلوم بالنقد والتشريح، ولو على المستوى الكمي الإحصائي، فعلى الأقل نضبط قاعدة بيانية عن هذه العلوم ثم نشرح وضعيتها، إضافة إلى تلك الهوة بين المؤسسات الجامعية والواقع الاجتماعي والاقتصادي في العالم العربي، أي يتم تخريج الآلاف من الطلبة سنويًّا بشهادات لا علاقة لها بسوق العمل.

في الأخير يُمكننا أن نُعطي المؤشرات التالية عن واقع العلوم الاجتماعية في الجزائر:

1- التنامي الكمي لعدد الدارسين في العلوم الاجتماعية ومرافقه، من تزايد في عدد كليات العلوم الاجتماعية في معظم الجامعات الجزائرية.

2- يلتحق في الغالب بكليات العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية في معظم الجامعات الجزائرية باستثناء علم الاقتصاد الذي لديه كليات خاصة به، الطلبة ذوي المعدلات المتدنية في البكالوريا، والذين لم يسعفهم الحظ في الالتحاق بالكليات العلمية، أو كنتيجة حتمية للتخصصات الأدبية التي درسوها في مساراتهم التعليمية.

3- هشاشة التكوين البيداغوجي لغياب الكفاءات العلمية، التي تتمكَّن من الربط بين الدراسات النظرية في العلوم الاجتماعية والواقع الاجتماعي الجزائري، إضافة إلى غياب مراكز بحثية تتبنى الدراسات الأكاديمية التي تجرى على شكل دكتوراه للاستفادة منها في السياسات العامة وتنمية المجتمع.

4- التمثلات السلبية التي يحملها الطلبة في الجزائر عن العلوم الاجتماعية: كسهولة الحصول على الشهادات دون بذل مجهودات معرفية، حيث تكاد تنعدم نسبة الرسوب في بعض الأقسام كعلم الاجتماع، والعلوم الاجتماعية، لا دور ولا مستقبل لها في المجتمع الجزائري، لا جدوى علمية معرفية من دراسة العلوم الاجتماعية.

5- النظرة الدونية التي يحملها بعض الإداريون في الجامعات الجزائرية، خاصة ذوي التكوين العلمي في العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية، تتحوَّل هذه النظرة إلى ممارسات بيروقراطية كالتضييق على إجراء الملتقيات العلمية وحصول الباحثين في العلوم الاجتماعية على المنح الدراسية وغيرها.

ثانياً: فرضيات تفسير أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي

انطلاقاً من المؤشرات والتقارير التي تصدرها المؤسسات الدولية أو المحلية عن واقع العلوم الاجتماعية في العالم العربي، والتي تؤكد في مجملها الوضعية الكارثية لهذه العلوم في العالم العربي، رغم الاختلاف في درجة الأزمة المعرفية للعلوم الاجتماعية من بلد عربي إلى آخر، إضافة إلى الدراسات التي تشخص أزمة العلوم الاجتماعية أو التي تشخص الأزمة في أحد فروعها: كعلم الاجتماع، علم النفس علم الاقتصاد وغيرها، نتوصل إلى أن الفكر العربي المعاصر صاغ فرضيتين توصفان وتفسران أزمة العلوم الاجتماعية وكيفية حلها على النحو التالي:

الفرضية الأولى

إن أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي ترجع إلى المستوى المعرفي الإبستمولوجي: من خلال عدم قدرة العقل العربي على استيعاب مناهج ومفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الغربية، التي تعتبر بمثابة إحدى منجزات الحداثة الغربية، ولاستيعابها يجب تحرير العقل العربي من الميتافيزيقا الدينية التي تحكمه وتشلّه عن التفكير، والقيام بعمليات علمنة وعقلنة واسعة في المجتمع العربي، ويستعير أصحاب هذا الاتجاه من أفكار فلسفة التنوير في القرن 18م مفاهيم عن: الوضعية والمنهج العلمي والعلمانية، ويسلمون بعالمية مفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الغربية.

أما على المستوى الواقعي الإمبريقي: فسبب الأزمة برأيهم يعود إلى الجمود والتخلُّف والانحطاط الحضاري الذي يعاني منه المجتمع العربي، وأبرز مؤشراته الاستبداد السياسي الذي يخنق المعرفة الاجتماعية ويضيّق على الباحثين فيها لثني المجتمع العربي عن التحرر والمطالبة بحقوقه، أما حل الأزمة فيتمثل في: نقد العلوم الاجتماعية الغربية لتأصيلها بتوسيع المفاهيم والنظريات الاجتماعية الغربية لتستوعب الواقع المحلي للمجتمع العربي، ودور العلوم الاجتماعية يتمثَّل في تحرير العقل والإنسان العربي لدفع به في حلبة التاريخ للانخراط الإيجابي في الحداثة العالمية أو ما يعرف اليوم بالعولمة.

الفرضية الثانية

إن أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي: هي أزمة معرفة إبستمولوجية تتبدى في طبيعة المناهج والمفاهيم والنظريات التي تبلورت حول الإنسان والمجتمع الغربي، وهي محكومة بالبعد التاريخي والتطورات التي عرفتها هذه المجتمعات، وهي غير قادرة على استيعاب الواقع الاجتماعي العربي.

وإصلاح هذه العلوم يتم من خلال: نقد العلوم الاجتماعية الغربية بإثبات نسبيتها ومركزيتها، وتبيان أن المقدمات المنطقية التي انطلقت منها العلوم الاجتماعية الغربية تختلف عن التصورات الإسلامية عن الإنسان والكون والوجود والحياة.

والحل يتمثَّل في الدعوة إلى تأصيل العلوم الاجتماعية انطلاقاً من الرؤية المعرفية الإسلامية، وأن تتم الاستفادة من المناهج العلمية الغربية عمليًّا في الدراسات الإمبريقية من خلال الأدوات البحثية التي طورتها لرصد ودراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وكيفية الاستفادة من الدراسات الاجتماعية في مجال تنمية المجتمع العربي والسياسات العامة.

انطلاقاً من هاتين الفرضيتين نتناول التأصيل كمفهوم معرفي حسب وجهة نظر كل فريق.

ثالثاً: تأصيل العلوم الاجتماعية من وجهة نظر علموية وضعية

ينطلق أصحاب هذا الاتجاه في نظرتهم لعملية التأصيل المعرفي للعلوم الاجتماعية، من نظرتهم الشاملة للفكر العربي المعاصر الذي برأيهم يُعاني من أزمة على المستوى المعرفي الإبستمولوجي، تتمظهر هذه الأزمة في العقل العربي وعدم قدرته على اكتساب المعارف الحديثة.

أزمة عقل قوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى نظم معرفية متنافرة، تجمَّدت فيها الحياة باكتساح الطرق الصوفية ورؤاها السحرية للساحة الاجتماعية الثقافية اكتساحاً شاملاً، بالإضافة إلى أنها أزمة ثقافية ارتبطت منذ بداية تشكُّلها بالسياسة، فكانت السياسة فيها على العلم هي العنصر المحرك ممَّا جعلها تخضع باستمرار لمطالب السياسة، وتتأثر بإخفاقها وتنحط بانحطاطها.

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى حد اعتبار العقلية العربية عقلية ماضوية غارقة في زمن الماضي من التاريخ الإسلامي العربي، تعيد إحياؤه في كل مناسبة، وتطرح إشكالاته المعبأة بحمل صراع التاريخ للنقاش والجدل، وهنا يطرحون إشكالية التراث العربي الإسلامي الذي يصل بالمتطرفين من هذا الاتجاه بالدعوة إلى تجاوزه كلية والعمل على تصفيته، وبالمعتدلين إلى إجراء عملية نقدية لهذا التراث بتخليصه من المعارف السحرية والميتافيزيقية، والاستفادة من عناصره العقلانية لتأسيس معرفة معاصرة، وبرأيهم العلوم الاجتماعية المعاصرة ما هي إلَّا أحد العلوم التي رافقت نشأتها الحداثة الغربية، حيث تعتبر علوم الإنسان والمجتمع نتاج مجتمعات بشرية محددة تماماً في لحظة معينة من تطورها التاريخي، «إنها المجتمعات الغربية، هذه العلوم ليست إلَّا جواباً ملائماً لحاجيات المعرفة الناتجة عن العمران والتصنيع السريع الذي شهدته المجتمعات الغربية، كما أنها بصفتها ممارسة ذهنية وفكرية تنضاف إلى المكتسبات والفتوحات المتتالية في الغرب منذ القرن 16م، أما الفكر العربي والإسلامي لم يشارك في أي جزء من هذا المسار الفكري الطويل الذي ابتدأ منذ القرن 16م، لقد انكفأ على ذاته داخل منهجية سكولاتيكية، اقتباسية واجترارية»[3].

إن التحيز المنهجي لهذا الفريق للحقل المعرفي الغربي باعتباره النموذج المهيمن والقابل للتكرار في مجتمعات غير غربية ومن بينها المجتمعات العربية، يؤكد أصحابه على عالمية الفكر الاجتماعي لكن مع إمكانية تدعيمه بالخصوصيات المحلية للمجتمعات المعاصرة، من خلال الانخراط الجدي في عملية المثاقفة الحضارية بين المجتمعات المعاصرة.

والتأصيل هنا للعلوم الاجتماعية لا علاقة له بالأصالة، كما درج على استعمالها عند استدعاء الزوج المفهومي أصالة/ معاصرة، «إنه أولاً وقبل كل شيء مسعى نظري، يروم إلى تأكيد كونية العلوم والمعارف التي تتوخَّى تعيين قواعد للظواهر الإنسانية بالانطلاق من المبدأ التاريخاني العام الذي يقبل مبدأ التشابه النسبي والتاريخي للظواهر الإنسانية، ويقبل نتيجة ذلك إمكانية المثاقفة رغم صعوبة شروطها ومتطلباتها»[4].

ويقترح أصحاب التأصيل العلموي الوضعي للعلوم الاجتماعية، توافر شروط عند القيام بعملية التأصيل تتمثل في[5]:

1- المستوى التاريخي للتأصيل: وهو يرتبط بمشروع تدعيم الحداثة السياسية والثقافية والمجتمعية في الأقطار العربية، بما يمهد لعقلنة المجتمع وعقلنة البحث في الظواهر الإنسانية، بواسطة إسناده بالمؤسسة بل بالمؤسسات الحاضنة والراعية لإرادة في البحث تتجه لإبداع ما يساهم في حل إشكالاتنا، وتطوير أوضاعنا بوسائل البحث العلمي المختلفة والمتنوعة.

2- الاستيعاب الإيجابي والنقدي لمرجعيات العلوم الاجتماعية الغربية: وإذا كانت خطوة الاستيعاب المتمثلة في الفهم والتعقل أساسية في باب التعلم من مرجعيات الآخرين، فإن خطوة النقد المرتبطة بها تعمل على تتميمها، وتمكن المحاور من وعي الفوارق، وهو الأمر الذي يهيئ لإمكانية المشاركة في إعادة إنتاج المفاهيم والنظريات بإدخال المتغير الذاتي، حيث يؤدي النقد في النهاية إلى انطلاق مشروع في التركيب الجديد، مشروع إعادة الإنتاج القادر على استيعاب الظواهر المحلية ضمن صيرورة ومنظور النظريات المحصلة في تاريخ الممارسة العلمية كما تبلورت في التاريخ.

3- توسيع مجال النظريات ومحتوى المفاهيم، بإدخال معطيات الخصوصي والمحلي، وهنا إبراز نقطة أساسية تتعلق بالدفاع على كونية النماذج المعرفية في مجال العلوم الإنسانية، إلَّا أن هذا الدفاع يقتضي تأكيد أمرين اثنين: أولهما يتعلق بنسبية النتائج المحصلة في هذا المجال كما تبلورت وتتبلور في تاريخ تطور العلوم الإنسانية في الغرب، وثانيهما يشير إلى أن استحضار المتغير المحلي (الظواهر الإنسانية المتعلقة بواقعنا في العالم العربي على سبيل المثال)، يمنح النماذج العلمية المذكورة رجحاناً أكبر، بل إنه يوسع أفق هذه النماذج في اتجاه شمولية أكبر، وكفاءة تعميمية أكثر نجاعة، وهو الأمر الذي يمنح هذه النماذج المعرفية قوة نظرية، تفوق القوة التي امتلكتها عندما كانت تستطيع تفسير معطيات التاريخ الأوروبي الخاص.

ولا تتوقف هذه الشروط عند المستوى المعرفي الإبستمولوجي لتأصيل العلوم الاجتماعية دونما تحديث للواقع الاجتماعي العربي، فيرى أصحاب هذا الاتجاه العلاقة الارتباطية بين العلوم الاجتماعية والحداثة السياسية، ويوضحون أن هناك ارتباط لنشأة العلوم الاجتماعية الغربية في القرن التاسع عشر بالمسألة الاجتماعية للعمال.

إضافة إلى تأثر العلوم الاجتماعية في ممارساتها النظرية والتطبيقية بنوع النظام السياسي الذي تعمل في ظله، «فالعلوم الاجتماعية في المجتمعات العربية تواجه عملية العولمة على مستويات عديدة ليس فقط الاقتصاد والإعلام، بل على المستوى المعرفي حيث تقارب المعارف والعلوم وتداخلت لدرجة قد تلغي ما يسمى بالتخصصات الدقيقة، واستبدالها بتكامل العلم والمعرفة التي أصبحت غير تخصصية، لكن الواقع العربي في ميدان العلوم الاجتماعية مختلف، إذ إن التخصص الدقيق يصل إلى درجة التفتيت ليس لأسباب معرفية أو فكرية ولكنه مرتبط بالوظيفة والمهنة والتنافس الإدراي وسباق الامتيازات، وأكد عدد من الاجتماعيين على فكر الأزمة في العلوم الاجتماعية في البلدان العربية، والتي تتمثل في الفقر النظري والتفسير المغترب، والوصول إلى نتائج منفصلة عن الواقع في معطياته المجتمعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية»[6].

في الأخير يتَّخذ أصحاب الاتجاه العلموي الوضعي موقفاً رافضاً لأدلجة العلوم الاجتماعية تحت مسمى إسلامية العلوم الاجتماعية، حيث يعتبرونها بمثابة دعوة يغلب عليها الطابع الأيديولوجي النضالي، ويعتبرونها خطاباً رغبويًّا أكثر منه خطاباً معرفيًّا، يحاول التأسيس لمشروعيته عن طريق مهاجمة الغرب الاستعماري، حيث يخلط أصحابه بين الوجه القبيح للاستعمار الغربي، ومنجزاته المعرفية التي ساهمت فيها الإنسانية جمعاء، بدأ من الحضارة اليونانية وصولاً إلى الحضارة الإسلامية.

وهو خطاب احتجاجي يبرر مزيداً من الفشل في السيطرة على الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي العربي، لأنه برأيهم يعمل على مهاجمة العقل والإعلاء من القيمة التأويلية للنص الديني، وإدخال متغيِّر المعيارية بدلاً من الموضوعية في دراسة الظواهر في العلوم الاجتماعية، «وتحريم تجريم النظم السياسية؛ لذلك سمحت الحكومات العربية لناشطيه بإقامة الندوات والمؤتمرات، ويعتبرون هذا التحالف موضوعيًّا على مستوى المعرفة مع السلطة القائمة، ومن هذا الباب إسلامية المعرفة تشكل عقبة في كل تنمية لمعرفة ممكنة بالمجتمعات الإسلامية، وخطراً على البحث العلمي عندما تصبح سلطة؛ وذلك لما يصحبها من هيمنة»[7].

رابعاً: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

1- إسلامية المعرفة

ينطلق الداعون إلى إسلامية المعرفة من تقرير مفاده أن الفكر الإسلامي التقليدي، ونظيره الغربي الحديث يعيشان أزمة، أسهم في تعميقها واستمرارها الخلط المفاهيمي، وغياب الرؤية التوحيدية الكلية، وقد حدَّت الأزمة الفكرية بالنسبة للأولى في الأدوات المنهجية المستخدمة فيه، وبالنسبة إلى للفكر الغربي في الرؤى الوضعية التي تهيمن على كل مجلاته.

ويرى منظرو إسلامية المعرفة أن تجاوز هذه الأزمة بشعبتيها، يعد شرطاً لتوفير البديل المعرفي الإسلامي، وهو ما لا يمكن أن يتم إلَّا بعد إعادة صياغة فكرية لكلا الفكرين اعتماداً على جهاز مفاهيمي مغاير يُراعي مبادئ الإسلام وتصوراته المتعلقة بالإنسان والكون والحياة[8].

انطلاقاً من هذا سنصوغ عدة تعار يف لإسلامية المعرفة عند بعض عناصر هذا الاتجاه على النحو التالي:

قدم الفاروقي تعريفاً لأسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة بأنها[9]: «إعادة صياغة المعرفة على أساس من علاقة الإسلام بها، أي إعادة تحديد وترتيب المعلومات، وإعادة النظر في استنتاجات هذه المعلومات وترابطها، وإعادة تقويم النتائج، وإعادة تصور الأهداف، وأن يتم ذلك بطريقة تمكّن من إغناء وخدمة قضية الإسلام».

وقد بيَّن الفاروقي أن تحقيق تلك الأهداف يمكن أن يتم من خلال:

1- فهم واستيعاب العلوم الحديثة في أرقى حالات تطورها والتمكّن منها، وتحليل واقع تلك العلوم نقديًّا لتقدير جوانب القوة والضعف فيها من وجهة نظر الإسلام.

2- فهم واستيعاب إسهامات التراث المنطلق من فهم المسلمين للكتاب والسُّنة في مختلف العصور، وتقدير جوانب القوة والضعف فيه، في ضوء حاجة المسلمين في الوقت الحاضر، وفي ضوء متطلبات المعرفة الحديثة.

3- القيام بتلك القفزة الابتكارية الرائدة اللازمة لإيجاد «تركيبة» تجمع بين معطيات التراث الإسلامي ونتائج العلوم العصرية.

أما عماد الدين خليل فقد عرف أسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة بأنها تعني[10] «ممارسة النشاط المعرفي كشفاً، وتجميعاً، وتركيباً، وتوصيلاً، ونشراً من زاوية التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان»، ثم بيَّن مقصوده من النشاط المعرفي بقوله: «تسليط العقل البشري –أو بعبارة أدق القدرات العقلية البشرية– على الظواهر المادية والحيوية والروحية والإنسانية في مدى الكون والعالم والحياة»,

كما أوضح أن المعرفة «إنما هي مجرد وجه آخر من وجوه حياة الإنسان التي ينبغي أن توجَّه إسلاميًّا... وذلك من أجل أن تصبح الحياة البشرية بكافة أنشطتها وصيغها إسلامية التوجُّه، إسلامية الممارسة، إسلامية المفردات... إن إسلامية المعرفة ها هنا لا تعني فقط الدعوة لتحقيق الوفاق بين معطيات العلوم الإنسانية، وبين المطالب الدينية على مستوى التطبيق، وإنما تعني قبل هذا وبعده احتواء كافة الأنشطة المعرفية الإنسانية على المستويين النظري والتطبيقي معاً، من أجل جعلها تتحقق في دائرة القناعات الإيمانية، وتشكّل وفق مطالبها وتصوراتها الشاملة».

يقول أبو القاسم حاج حمد: إن إسلامية المعرفة[11]: «عنوان مركب من (إسلامية) و(معرفة) في حين أن (الإسلامية) فيما يراها الناس (تخصيص ديني) في مقابل (معرفة) هي عامة غير قابلة للتخصيص، وليس التخصيص الديني فقط، وإنما تتَّسع لعديد من المناهج، وتستبطن العديد من الأيديولوجيات. فتركيب المعرفة على الإسلامية يحمل تخصيصاً وتحديداً بوصف هذه المعرفة الإسلامية مفارقة لغيرها على مستوى المناهج الأخرى، فهل يمكن مصادرة الإنتاج البشري العام لصالح معرفة خاصة؟...!».

غير أن ثمة مساحة واسعة تعجُّ بالعديد المتنوع من أنماط المعرفة، ما بين الذين يؤمنون بالغيب والذين يستنبطون المادية الجدلية، فالعقل الطبيعي وإن كانت المادية من أبرز تطوراته ونهاياته، إلَّا أنه أسس لأنماط معرفية انتقائية واختيارية وتوفيقية زاوجت مثلاً بين (جدل الطبيعة) و(جدل الإنسان)، في محاولة منها للحد من استلاب الجبرية المادية الطبيعية للإنسان، وتحقيق قدر من الحرية له بوصفه كائناً فاعلاً مريداً يمكنه التمرد على جبرية الطبيعة وشروطها المطلقة، وقد أفضى هذا الاتجاه إلى الليبرالية والوجودية والمدارس الإنسانية بشكل عام، وهذا كله في إطار النشاط الطبيعي، وهذا التوجه في إطار إعادة تقويم العلاقة بين جدل الإنسان وجدل الطبيعة لإيجاد مساحة للإنسان ضمن نشاط العقل الطبيعي، يوازيه جهد آخر مختلف لإعادة تقويم العلاقة بين جدل الإنسان وجدل الغيب بحثاً عن ذات المساحة الحرة للإنسان...».

انطلاقاً من فكرة أسلمة المعرفة تم التوجُّه إلى تأصيل العلوم الاجتماعية باعتبارها[12]: «.. علوم الإنسان والمجتمع، والإسلام هو فلسفة الإنسان والمجتمع، وفي أحكامه وقيمه ومبادئه ومناهجه، التي تتَّصف بتوازن حضاري دقيق، وتكامل شامل وترابط عضوي، فالإسلام فيه الفلسفة وفيه الأخلاق والقانون والنظرية والمنهج، وهذه الأبعاد تجمع في منظومة مترابطة بصورة دقيقة ومتوازنة، فالفلسفة لا تنفصل عن الأخلاق والأخلاق لا تنفصل عن القانون، والنظرية عن المنهج، وهكذا في رابطة الفلسفة والقانون،..».

2- مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

الأصل في اللغة: يأتي بعدة معانٍ، منها الأصل للشيء وجمعه أصول، وهو ما يُبنى عليه غيره حسيًّا ومعنويًّا، وأصل الشيء أساسه الذي يقوم علية الشيء ومنشؤه الذي ينبت منه، وتأصيل الشيء إثبات أصله، يقال: رجل أصيل ثابت الرأي والعقل، وأصل الشجرة جذورها[13].

وهناك عدة تعاريف لمفهوم التأصيل الإسلامي لدى أصحاب هذا الاتجاه أولها: تعريف اللجنة الدائمة للتأصيل الإسلامي في عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في ندوة مفهوم التأصيل الإسلامي[14]: «... إبراز الأسس الإسلامية التي تقوم عليها هذه العلوم من خلال جمعها أو استنباطها من مصادر الشريعة وقواعدها الكلية وضوابطها العامة، ودراسة هذه الموضوعات وهذه العلوم دراسة تقوم على الأسس السابقة، وتستفيد ممَّا توصل إليه العلماء المسلمون وغيرهم من نتائج ونظريات وآراء لا تتعارض مع تلك الأسس...».

يعرف رجب إبراهيم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه[15]: «عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد كمصدر للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي كإطار نظري لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميميات الإمبريقية (الواقعية)، وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة».

يعرف إسماعيل الفاروقي التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية[16]: «إن إضفاء الصفة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، يجب أن يعمل على إظهار علاقة الحقيقة موضع الدراسة مع ذلك الوجه أو تلك الناحية من النمط الإلهي المتصلة بها، ونظراً لأن النمط الإلهي يعد المعيار الذي يجب أن تعمل الحقيقة على إحلاله، فإن تحليل الأمر الواقع يجب أن يبدأ بفعل ما يجب أن يكون عليه الأشياء، ولما كان العالم الغربي لا يستطيع أن يكون نزعاً لانتقاء الأهداف أو الغايات الجوهرية للمجتمع، بل ينتقد الوسائل فقط بسبب التزامه الواعي بتصور الأشياء وليس تأييدها، فإن عالم الاجتماعي المسلم بخلاف ذلك فنظراً لعدم تركه للنواحي القيمية في دراسة الشؤون الإنسانية، فهو يكون نزاعاً لانتقاد الحقيقة في ضوء النمط الإلهي، فالحقيقة ليست أكثر من تفهم ذكي للطبيعة متمثلة في التقارير والتجارب العلمية أو تفهما للوحي الإلهي الممثل في القرآن وكلاهما من صنع الله».

يعرف محمد أمزيان التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية[17]: «إن المعنى الحقيقي لأسلمه العلوم الاجتماعية يتمثَّل في ضرورة حضور العقل الإسلامي في التحليل والتفسير، وإخضاع الأفكار الاجتماعية للمذهبية الإسلامية، وجعل الخلفية العقائدية حاضرة في طرح القضايا الاجتماعية سواء تعلَّق الأمر بقضايا التراث العربي الإسلامي أو بمشكلات المجتمع العربي الإسلامي أو بقضايا إنسانية عامة، وعلى هذا الأساس يمكن أن نميّز عموماً بين وجهتين من النظر إلى أسلمة العلوم الاجتماعية: الأولى تقوم على أساس موضوعي، أي ربط أسلمة العلوم الاجتماعية بالمواضيع المتصلة بالإسلام تراثاً وواقعاً وفكراً، والثانية تقوم على أساس منهجي عقائدي أي ربط أسلمة العلوم الاجتماعية بالعقائد الإسلامية».

ويعرف عبد الحميد أبو سليمان إسلامية العلوم الاجتماعية بـ[18]: «أن إسلامية العلوم الاجتماعية والإنسانية كالتربية والسياسة والاقتصاد وعلم الإدارة والإعلام، وفلسفة هذه العلوم كلها، هي مجالات تقوم في أساسها على فرضيات العلوم السلوكية ونتائج أبحاثها، ومفاهيمها الخاصة بطبيعة الإنسان ومعنى وجوده وحاجاته وأنماط سلوكه وتصرفاته، فإذا لم تقرّر في هذه المجلات أولاً المفاهيم والفرضيات الإسلامية ومقومات المنظور الإسلامي، فلا سبيل إلى إسلامية كاملة صحيحة مستقيمة لأي علم منها،...».

انطلاقاً من التعاريف التي ذكرناها نرى أن التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو كما أطلق عيها البعض اسم: التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية أو إسلامية العلوم الاجتماعية، يجب أن تتوافر فيه ثلاثة شروط حسب أصحاب هذا الاتجاه كالآتي:

1- الانطلاق من إدراك واضح لأبعاد «التصور الإسلامي» أو «الرؤية الإسلامية للعالم» للإنسان والمجتمع والكون والمنبثق من الوحي الرباني ممثلاً في: الكتاب والسُّنة، ولما يتضمنه تراث الإسلام ما يرتبط بتخصصات العلوم الاجتماعية المعاصرة (علم العمران البشري، علم النفس، علم التاريخ،...)، مع نظرة نقدية لإسهامات علماء المسلمين حول قضاياه.

2- استيعاب «العلوم الحديثة» في أرقى صورها، مع القدرة على نقدها، والاستفادة منها، وتجاوزها بشكل بناء كلما اقتضى الأمر ذلك.

3- إيجاد «تكامل حقيقي» بين معطيات التصور الإسلامي من جانب، وبين إسهامات العلوم الحديثة من جانب آخر، وليس مجرد الجمع أو التجاوز المكاني أو حتى المزج بينهما دون وحدة حقيقية.

في الأخير يرى أصحاب هذا الاتجاه أن فكرة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية هي مطلب معرفي مؤسس إبسيتميًّا سواء بالعودة إلى الخصوصي أو من خلال أزمة العلوم الاجتماعية الغربية.

وعلى سبيل المثال توقع والرشتان وعد العلوم الاجتماعية عبر ثلاثة توقعات ممكنة للقرن الواحد والعشرين وهي في نظره:

1- توقع إعادة توحيد إبستمولوجي لما يدعى الثقافتين أي التوحيد إبستيمولوجيًّا العلوم والإنسانيات.

2- توقع إعادة توحيد تنظيمي وإعادة تقسيم للعلوم الاجتماعية.

3- توقع أن يكون للعلوم الاجتماعية دور مركزي في عالم المعرفة.

انطلاقاً ممَّا سبق يرى أصحاب هذا الاتجاه: أن أسبقية الثقافة العربية الإسلامية على المستويين الفكري والتطبيقي إلى تبني الرؤية الإبستمولوجية لتوحيد المعارف والعلوم، ويرون أن فكرة عالمية العلوم الاجتماعية التي يتبناها أصحاب المداخل العضوية في العلوم الاجتماعية قد تجازوها الزمن، وكشف الواقع عن بطلان هذه الدعوة بعد قرن من التقليد للمجتمعات الغربية في الحالات الاقتصادية والسياسية دون أن يحدث تطور حضاري، بل العكس أدت إلى اغتراب ثقافي، وتكوين باحثين لا علاقة روحية لهم بواقع مجتمعاتهم.

خاتمة

في الأخير وممَّا لا يدع مجالاً للشك أن العلوم الاجتماعية في العالم العربي تعاني أزمة معرفية، تحتاج إلى جهد معرفي ووعي إبستمولوجي بآليات تشكل نظرياتها ومناهجها في الحقل المعرفي الغربي، فبرغم من محاولات التأصيل المعرفي سواء التي مارسها أصحاب الاتجاه الوضعي العلموي من منطلق أن المعرفة الغربية معرفة عالمية تحتاج فقط إلى ضرورة استيعابها من مبدأ النقد للإسهام الحضاري، مع العمل على تحديث الواقع الاجتماعي العربي للاندماج في الحداثة التي أصبحت تحمل خاصية الكونية.

أو أصحاب اتجاه إسلامية المعرفة الذين كان لهم وعي أكبر بمعضلة أو إشكالية العلاقة بين المعرفة الاجتماعية والنموذج المعرفي الذي تولدت عنه، وهو برأيهم نموذج علماني مادي يُهمين على النسق الحضاري الغربي، فإن الأكيد أن المهمة ستبقى باقية؛ لأن العقل الإسلامي مطالب ببذل المزيد من الجهود المعرفية، والوعي الإبستمولوجي بآليات اشتغال العقل الغربي في حقل العلوم الاجتماعية، ليتمكَّن من استيعاب منجزاته المنهاجية والعلمية، ثم يعمل على تجاوزها.

وإلَّا لظل محاصراً من جهة بالتراث الإسلامي الذي تكلست بعض أدواته المنهجية، ومحاصراً من الجهة الأخرى بالعقل الغربي الذي يسلبه إرادة التحرُّر المعرفي حتى يظل خاضعاً له وفق معادلة التبعية الإدراكية والمعرفية، لأنه من مؤشرات التقارير الدولية أو التقارير المحلية تتَّضح أزمة مأسسة العلوم الاجتماعية في العالم العربي التي هي امتداد أو تمظهر للأزمة الإبستمولوجية لهذه العلوم، وفق مفارقة عجيبة التنامي الكمي لعدد الدارسين لها في مقابل التردي المعرفي لخطاباتها العلمية.

إضافة إلى غياب التساؤل عن طبيعة ودور العلوم الاجتماعية في المجتمعات العربية، فيما يظل العامل السياسي في العالم العربي له دور في الضعف الذي تعاني منه العلوم الاجتماعية لغياب الحريات الأكاديمية في التعاطي مع المواضيع الإنسانية، بالإضافة إلى انعدام أشكال الدعم المالي لإجراء البحوث الاجتماعية، لذلك سيظل في المستقبل القريب ترهل هذه العلوم، وسيقع العبء الأكبر لعملية التوطين المعرفي للعلوم الاجتماعية على المشتغلين في مختلف حقولها لإخراجها من الأزمة التي تعاني منها.

 

 

 

 

 

 



[1] عبد الوهاب بن حفيظ، مستقبل العلوم الاجتماعية في العالم العربي من خلال بعض المؤشرات، أوراق: مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، عدد 1، تونس 2008، ص34 - 37.

[2] محمود الذواذي، وضع العلوم الاجتماعية في تقرير اليونسكو 2010، مجلة إضافات، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 14/ ربيع 2011، ص191 - 192.

[3] محمد أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة: هشام صالح، المركز الثقافي العربي، المغرب - الدار البيضاء، ط2، 1996، ص25.

[4] كمال عبد اللطيف، التأويل والمفارقة نحو تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي، المركز الثقافي العربي، المغرب - الدار البيضاء، 1987، ص87.

[5] المرجع السابق، ص111.

[6] حيدر إبراهيم، النسبي والعام في علم اجتماع المجتمعات العربية، ملامح المستقبل الممكن، أوراق: مركز الدراسات الاجتماعية والاقتصادية، عدد 1، تونس، 2008، ص19.

[7] زواوي بغورة، الخطاب الفكري في الجزائر بين النقد والتأسيس، دار القصبة للنشر والتوزيع، 2002، ص101.

[8] أبو بكر محمد إبراهيم، مفهوم التكامل المعرفي وعلاقته بحركة إسلامية المعرفة، س11، العدد4، خريف 2005، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية، ص13.

[9] إسماعيل الفاروقي، إسلامية المعرفة –المبادئ العامة- خطة عمل - الانجازات، ط1، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان،2001، ص54.

[10] عماد الدين خليل، مدخل إلى إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية، 1990، ص15.

[11] حاج حمد أبو القاسم، إبستمولوجية المعرفة الكونية: إسلامية المعرفة والمنهج، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط1، 2004، ص17.

[12] طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، ص127.

[13] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الجيل، بيروت، 1408، ص68.

[14] مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: «ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية»، الرياض: جامعة محمد بن سعود الإسلامية - عمادة البحث العلمي، 1987.

[15] رجب طيب إبراهيم، التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، عالم الكتاب، الرياض، ص41.

[16] إسماعيل الفاروقي، صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية، المسلم المعاصر، العدد 20، 1980، ص35.

[17] محمد أمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية، 1991، ص213.

[18] محمود الذواذي، علم الاجتماع العربي: مساءلة ومحاكمة كبير علماء الاجتماع، مجلة إضافات، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، عدد 16، 2011، ص185.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة