تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

النزعة الإنسانية رؤية إسلامية

غريبي موراد

 

النزعة الإنسانية رؤية إسلامية..

من رصد الفكر إلى بعث الجمال

غريبي موراد*

 

* كاتب وباحث من الجزائر، البريد الإلكتروني: gmourad.2008@gmail.com

 

 

الكتاب: الإسلام والنزعة الإنسانية.. كيف نعطي النزعة الإنسانية قوة المعنى؟

المؤلف: زكي الميلاد.

الناشر: النادي الأدبي في منطقة الباحة بالتعاون مع مؤسسة الانتشار العربي في بيروت.

سنة النشر: 2013م.

 

كتاب يجذبك منذ الوهلة الأولى التي تصادف فيها عنوانه، فيثير في عقلك تساؤلات الفهم وإشكالات المصير، لتنطلق من عمق نداءاتنا للخلاص في واقعنا العربي والإسلامي، نمطه في الفكر الإسلامي ينتمي للمدرسة التجديدية، ومحله من مشروع المؤلف يتحدد في جوهر المقاربات الإسلامية التي يحاول الأستاذ زكي الميلاد رسم معالمها، والتصورات التي أنتجت هذه الأطروحات، والمقاربات مع استنهاض أو تنهيض النقد المنهجي المعمق لاستدراك مبنى وعرى وأبعاد وآفاق الفكر الإسلامي المعاصر، بخصوص النهضة والتجديد والتغيير والتاريخ والثقافة والمستقبل...

ضمن هذا المسار والتطلع، جاءت حلقة جديدة في مقاربات الإسلام في الفكر الإسلامي المعاصر مع نظريات ومواضيع ومشاريع المعرفة الإنسانية الراهنة، تحت عنوان (الإسلام والنزعة الإنسانية.. كيف نعطي النزعة الإنسانية قوة المعنى؟)، حيث كعادته الأستاذ الميلاد يركز على الضبط المنهجي والمفاهيمي، وعلى وجه الخصوص في مشروعه التداولي لمقاربات الإسلام مع الجدل المعرفي العالمي الراهن، من خلال ملاحقة قراءات واستنتاجات رواد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

سأحاول من خلال هذه المراجعة الوقوف على خريطة الكتاب وبوصلته الثقافية، لاكتشاف ماهيته وغاياته، والجدل الذي يثيره من خلال فصوله الستة، وفي أثناء نزهتنا المعرفية في ربوع الكتاب، سنحاول الإشارة إلى بعض الملاحظات الفكرية ذات العلاقة بالإشكال الرئيس للكتاب.

مبدئيًّا، لا بد من التأكيد على أن الكتاب، يعتبر من المواضيع الجديدة في دراسات الفكر الإسلامي المعاصر، بل لعله المرجع المعرفي الأهم لكل الراغبين في اكتشاف ماهية النزعة الإنسانية كموضوع حداثي وما بعد حداثي يتداول في أروقة الفلسفة والفكر الغربيين، مع مقاربة الجواب المعرفي الإسلامي الرصين حول هذه النزعة، وجدليتها مع النزعات الأخرى التي اهتم بها الدين الإسلامي، وقدم لها إجابات عديدة عبر تاريخه كله إلى يومنا هذا، وحسب أنماط ومدارس ومذاهب عدة. على هذا الأساس نستهل جولتنا الاستكشافية للكتاب.

المقدمة

تمهيداً للكتاب يرسم الأستاذ زكي الميلاد، صورة مصغرة لخريطة كتابه، بماهية الموضوع وغاياته وجدلياته ومقارباته بين مستوى النظر والعمل من جهة، وأخرى نمطية جغرافية بين مجالنا العربي - الإسلامي، والآخر المغاير المتمثل في الثقافة الأوروبية.

حيث يعبر الأستاذ زكي الميلاد في ديباجة كتابه بالقول: «يحاول هذا الكتاب أن يفتح نقاشاً حول النزعة الإنسانية في المجال الإسلامي، فاحصاً ومتتبعاً هذه النزعة في مصادرها ومنابعها الفكرية والدينية، لافتاً النظر إليها، ومنبهاً عليها، سعياً في سبيل إحيائها، وتجديد المعرفة بها، وأملاً بإعطائها قوة المعنى...»[1].

وكهندسة لخريطة الكتاب يوضح الأستاذ الميلاد، أن موضوع النزعة الإنسانية ثلاثي الأبعاد:

1- البعد القيمي والأخلاقي.

2- البعد الحقوقي والقانوني.

3- البعد الفكري والفلسفي.

ويُبيِّن أن إشكالية كتابه مزدوجة المجال، حيث سيهدف إلى الإجابة عن حقيقة النزعة الإنسانية في النظر والعمل الإسلاميين، بالإضافة إلى التنبيه إلى الخلل المنهجي في العديد من الدراسات العربية التي تجاهلت وتغافلت عن هذه النزعة في الإسلام والثقافة الإسلامية، وراحت تفتش عنها في الثقافة الأوروبية.

الفصل الأول: المجال الإسلامي المعاصر والنزعة الإنسانية

بعد المقدمة ينتقل بنا الأستاذ الميلاد مباشرة بأسلوب الباحث المتأمل من خلال الفصل الأول الذي عنونه بـ: (المجال الإسلامي المعاصر.. والنزعة الإنسانية)، عبر ثلاث دوائر منهجية معرفية تعكس لنا الإشكال والمادة البحثية والمدخل التحليلي النقدي.

الدائرة الأولى: تطرق فيها الأستاذ الميلاد إلى تلك الإشارة التي ذكرها المفكر الإسلامي مالك بن نبي، في كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، حيث لا يفهم منه أنه تأثر أو قلد هاملتون جيب في أطروحة ومنهجية كتابه السابق الذكر، من هذه الإشارة انطلق المؤلف الأستاذ زكي الميلاد للتساؤل: عن وجود هذه النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، ومدى تبلورها وتحددها في ثقافة المسلمين قديماً وحديثاً، كما تبلورت وتحددت في ثقافة الغربيين!

بل يذهب الأستاذ الميلاد إلى أبعد من ذلك، عبر مقاربة حديث هاملتون جيب حول الاتجاه الإنساني في الحركة الإسلامية الحديثة، والذي اعترض عليه مالك بن نبي، وعقب الأستاذ الميلاد على ذلك بالقول: ولعل الذي أراد أن يقوله جيب، هو أن الثقافة الأوروبية ابتكرت لنفسها ومن داخلها نزعة إنسانية، هذه النزعة لم تظهر في الثقافة الإسلامية، ولم يتم التعرف إليها من داخلها، وبالطريقة التي تشكلت في الثقافة الأوروبية، وبالتأثير الذي كان لهذه النزعة الإنسانية في حركة الأفكار والفلسفات والآداب والفنون والسياسات في أوروبا، وفي تغيير وتجديد التاريخ الأوروبي الحديث، كما يؤكد ذلك المؤرخون والباحثون والأدباء، والأوروبيون أنفسهم...[2]

إلى أن يصل المؤلف بكل وضوح، إلى سؤال يطرح في المجال الإسلامي بإلحاح: لماذا لم تتبلور لدينا نزعة إنسانية؟ وتتحدد بوصفها نسقاً فلسفيًّا وأخلاقيًّا في الثقافة الإسلامية، مع ما تحتفظ به هذه الثقافة من ثراء لا يوصف في هذا الشأن، وما يمكن أن تساهم به في إلهام وارتقاء مثل هذه النزعة الإنسانية[3].

كما يستظهر ملامح هذه الدعوة التي يختزنها السؤال، أن الحاجة إلى هذه النزعة الإنسانية، ليس بقصد التعبير عنها بطريقة دفاعية أو تبريرية، وإنما بقصد أن تتحول إلى نسق أخلاقي وقيمي، تشع منه قيم التسامح والكرامة والمساواة وحقوق الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه ولسانه ودينه ومذهبه، وهذا ما يفترض أن تنهض به ثقافات العالم اليوم، لكي تعيد الاعتبار لقيمة الإنسان بما هو إنسان[4].

الدائرة الثانية: عبر تحديد أنماط الكتابة حول النزعة الإنسانية في ساحة الفكر الإسلامي، والتي عدها في ثلاثة أنماط كل منها يتضمن محاولتين، وهي على النحو الآتي:

النمط الأول: ويمكن تسميتها بالكتابات النقدية لظاهرة الاحتكار الغربي للنزعة الإنسانية، وتمثلت في محاولتي الدكتور علي شريعتي والدكتور هشام جعيط.

النمط الثاني: ويمكن تسميتها بالكتابات الإسقاطية للنزعة الإنسانية الغربية الخاصة على المجال العربي والإسلامي، وأهم محاولتين في هذا النمط هما للدكتور محمد أركون والدكتور صادق جلال العظم.

النمط الثالث: الكتابات الإسلامية العامة حول النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، والتي تتحدد في محاولة الدكتور مصطفى السباعي والدكتور يوسف القرضاوي.

الدائرة الثالثة: هذه تعتبر زبدة ما ورد في الفصل الأول، رغم كل التعليقات والملاحظات التي أوردها المؤلف في الدائرة الثانية بخصوص النمطين الثاني والثالث من الكتابات، بل أراها مكملة لما سبق ومعبرة عن المسكوت عنه بكل موضوعية وجرأة وإنصاف، حيث استطاع المؤلف بكل روية وجد واجتهاد الوقوف على محددات أربعة حول علاقة الإسلام والفكر الإسلامي بالنزعة الإنسانية في المجال العربي:

1- الجدل الفكري القائم حول شكل وصورة العلاقة لدى غالبية الأنماط عدا المحاولة الثانية في النمط الأول.

2- استثارة الثقافة الأوروبية للثقافة الإسلامية بخصوص النزعة الإنسانية عبر تبجحها الاحتكاري لهذه النزعة، والعنصرية الهادفة إلى عزل الاتجاه الإنساني عن الأديان.

3- ضآلة الاهتمام والاشتغال المعرفي حول هذه النزعة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لدرجة عدم وجود كتاب واحد يحمل عنوانه الاقتران بين الإسلام أو الفكر الإسلامي أو الثقافة الإسلامية والنزعة الإنسانية[5].

4- تصحيح صورة الإسلام عبر إنقاذ النزعة الإنسانية فيه، ليس عبر الجوانب الفكرية فقط، ولكن كذلك الجوانب والأبعاد السلوكية والأخلاقية والاجتماعية.

الفصل الثاني: محمد أركون والنزعة الإنسانية مطالعة ونقد

خصصه المؤلف الأستاذ زكي الميلاد لمطالعة ونقد مقاربات ورؤى ومطارحات الدكتور محمد أركون حول النزعة الإنسانية، ولعل المطالع يحضره تساؤل: لماذا اكتفى الأستاذ الميلاد بسبر أغوار موضوع النزعة الإنسانية في فكر أركون فقط دون غيره؟

لقد تفطن المؤلف لهذه الملاحظة، التي قد تؤثر في الشق الموضوعي في البحث، ففي مدخل الجزء الأول من هذا الفصل، أجاب عن التساؤل السابق، مبرراً اختياره لفكر أركون دون غيره قائلاً: قدَّم الدكتور محمد أركون أوسع وأضخم المحاولات الفكرية التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، وأكثرها تراكماً وثراءً، ولعلها من أسبق المحاولات زمناً، إذ ترجع إلى ستينات القرن العشرين، حين اشتغل الدكتور أركون على هذا الموضوع في إطار رسالته للدكتوراه التي أنجزها سنة 1969م، وصدرت في كتاب بالفرنسية سنة 1970م[6].

على الرغم من قوة هذا التبرير للمؤلف الأستاذ الميلاد، لكن من قبيل استكمال الرؤية والصورة، لأنني شخصيًّا أدرك جيداً أن هذا الخيار من قبل المؤلف ليس تجاهلاً للمحاولات الأخرى، ولكنه تمهيد لدراسات قادمة خاصة بالمحاولات كلها، أو لعله اجتهاد منه بضرورة بحث الأولى والأضخم في كل المحاولات، كمبادرة لاستقطاب باحثين ومفكرين آخرين للاهتمام بالموضوع، والاشتغال على أحد المحاولات الأخرى.

أما ما وددت التنبيه إليه، أنه لا يمكن الاستناد فقط إلى سعة وضخامة وتراكم وثراء هذه المحاولة، لأنه من ناحية هناك جدلية حول هذا النمط من الكتابة، إما على مستوى الآليات والمناهج والمقومات، وكذا النتائج والمقاربات، من ناحية مقابلة قد نجد في محاولات أخرى رغم ضآلتها وعموميتها وقدمها، النفع الكثير على مستوى المادة والأسس والمقومات في رفد البحوث والدراسات المنتظرة، في المدى القريب لموضوع النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي بما يتناسب وروح الإسلام ومشروعه الحضاري الإنساني.

عوداً للجزء الأول من الفصل الثاني، استطاع الكاتب الأستاذ الميلاد، مقاربة تطور رؤية أركون لموضوع النزعة الإنسانية في مجال الفكر العربي والإسلامي، وحدد المؤلف أيضاً وبكل نباهة معالم التغير في هذه الرؤية، كل ذلك من خلال كتابي الدكتور أركون: (نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي)، و(معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية)، حيث اكتفى الأستاذ الميلاد بذكر سبع مقاربات فارقة في رؤية أركون للنزعة الإنسانية هي:

1- عبور أركون من حالة المكتشف إلى المناضل المدافع عن الأنسنة في السياقات الإسلامية.

2- انتقال النزعة الإنسانية عند أركون من الأيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا -إن صح التعبير-.

3- الأنسنة في الثقافة الإسلامية لدى أركون من التاريخ نحو الحاضر.

4- الرؤية الأركونية للنزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، من بيروقراطية البحث العلمي إلى التحرر الفكري.

5- أركون من أحادية النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي إلى تعددها.

6- من البحث عن النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي إلى البحث عن نزعة إنسانية كونية أو شمولية.

7- تأثير المناخ الفكري والسياسي في تطور وتغير الرؤية الأركونية للنزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي.

بعد هذا التحديد يركز الأستاذ الميلاد في الجزء الثاني من هذا الفصل، على تبيان أسس أطروحة أركون حول النزعة الإنسانية في المجال العربي، والتي يراها المؤلف في أساسين مترابطين:

1- البرهنة على ظهور النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية في القرن (4هـ - 10م)، يعني قبل أن تظهر في الحضارة الأوروبية بعدة قرون.

2- التنقيب والتحليل في حيثيات ضمور النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي في القرن (5هـ -11م)، والتنظير لكيفية بعث الأنسنة في السياقات الإسلامية من جديد.

وفي خضم الإيضاح للأساس الثاني، حاول المؤلف الوقوف على بعض المحددات لما وراء هذه الرؤية الأركونية مجتهداً تارة، مستشهداً أخرى، بمقتطفات من الكتاب الثاني بأقوال للدكتور أركون أو شروح مترجم الكتاب هاشم صالح.

على المنوال المنهجي ذاته، نصادف مرة أخرى نفس عنوان الدائرة الثالثة من الفصل الأول، ليحلق بنا المؤلف الأستاذ الميلاد في عالم اللحاظ والنقد والتي تحددت بإيجاز في النقاط الآتية:

1- مديونية المعنى الإنسانوي للغرب في رؤية أركون، مما يعكس دفاع أركون عن مركزية الإنسان كما في الغرب العلماني.

2- الرؤية الأركونية للنزعة الإنسانية لا تخلو من بذور الابتعاد عن الدين.

3- وقوع أركون في الأيديولوجيا رغم هروبه منها، عبر ربطه بين الأنسنة والعلمنة.

4- اغتراب واستغراق أركون في معاقل الفكر الأوروبي، غلق عليه باب استلهام النزعة الإنسانية من منابع القرآن الكريم.

5- إظهار أركون نوعاً من التعالي على المثقفين والباحثين الذين بذلوا جهداً لدراسة النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي.

واستخلاصاً لكل ما سبق يختزل المؤلف الرؤية الأركونية، بأنها محاولة إسقاطية للنزعة الإنسانية التي ظهرت في الفكر الأوروبي على المجال العربي والإسلامي، مستطرداً أنه يبقى البحث مشرعاً في الكشف عن النزعة الإنسانية في التصور الإسلامي، وهذا ما سيترجمه رؤية اجتهادية في أحد الفصول القادمة.

الفصل الثالث: المجال الغربي والنزعة الإنسانية مطالعة ونقد

في المحطة الأولى من الجزء الثالث يعرج بنا المؤلف الأستاذ زكي الميلاد، في آفاق وآثار تطور الفكر الغربي الأوروبي، والتي لا يمكن استيعاب أبعادها دون التوقف عند النزعة الإنسانية التي نقلت الحياة الأوروبية من عصور الظلام إلى عصور الأنوار، وصولاً إلى عصر الحداثة.

وفي السياق ذاته يُبيِّن المؤلف مدى تأثير هذه النزعة الإنسانية في عمق الحياة الأوروبية بكل تفاصيلها، بل أكثر من ذلك حتى في الحياة الإنسانية كلها، من خلال عدة نقاط:

1- تحسين نوعية الحياة وحماية حقوق الإنسان من التعسف والانتهاك.

2- تغيير الرؤية إلى العالم وابتكار منظومة جديدة من القيم.

3- فتح نقاشات و تأملات واسعة ومعمقة حول الإنسان.

4- إلهام الإنسان الثقة بنفسه وقدراته.

في المحطة الثانية من هذا الفصل، ينقلنا المؤلف من ضفة المديح السابقة للنزعة الإنسانية وأثرها وتأثيرها في عمق الحياة الأوروبية، إلى ضفة النقد داخل المجال الغربي من خلال تعداد عدة أنماط للنقد:

1- نقد الأبعاد النظرية والمفاهيمية العامة للنزعة الإنسانية الغربية، حيث انتخب المؤلف النقد الوارد بكتاب الباحث الأمريكي كرين بريتون (تشكيل العقل الحديث).

2- نقد الأبعاد الثقافية والإيمانية في النزعة الإنسانية الغربية، وفي هذا النمط اعتمد المؤلف على مطارحات ورؤى أستاذ الاجتماعيات في جامعة لاترب الأسترالية جون كارول، الواردة في كتابه: (حطام الثقافة الغربية.. رؤية جديدة في النزعة الإنسانية).

3- نقد الأبعاد الموضوعية والسلوكية في النزعة الإنسانية الغربية، وترتكز نماذج هذا النمط على التساؤلات النابعة من المفارقة الحاصلة بين تجليات النزعة الإنسانية في الحياة الغربية وما حصل في الحربين العالميتين، حيث يأتي في مقدمة هذه التساؤلات: أين ذهبت هذه النزعة الإنسانية، وكيف غابت واختفت! ولماذا لم تستطع أن تحمي أوروبا من هذه الحروب...؟[7]، ومن بين كل نماذج هذا النمط، يختار الكاتب الأستاذ زكي الميلاد، التجربة النقدية لعميد الفلسفة الوجودية مارتن هيدغر.

بعدما سبق يكمل الأستاذ الميلاد مشوار الفحص للنزعة الإنسانية في المجال الغربي عبر طرق البعد الخارجي للنقد في المحطة الثالثة من هذا الفصل، حيث تطرق المؤلف لنماذج بعجالة، وحدد ثلاث ملاحظات نقدية جوهرية بخصوص العلاقة بين الغرب والنزعة الإنسانية وماهيتها.

الفصل الرابع: القرآن الكريم والنزعة الإنسانية

في هذا الفصل نقرأ اشتغالاً معرفيًّا رائعاً، ومبادرة استراتيجية بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر، حيث نرى المؤلف يأخذنا في رحلة استطلاعية بحثية مهمة في رحاب القرآن الكريم، فمدخل هذا الفصل بمثابة تمهيد وتهيئة لتجاوز المناهج الحجاجية التي لا ترى علاقة بين ما هو إلهي وما هو إنساني، أو تلك التي تحاول إسقاط الموقف الديني المسيحي خلال القرون الوسطى على الموقف الديني الإسلامي، وعلى هذا الأساس، ومن خلال المدخل الجدلي المهم ينطلق المؤلف، في قراءة رؤية الدكتور هشام جعيط في مناقشته للنزعة الإنسانية في القرآن الكريم بمقاله: النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام، الذي ضمه في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية)، منوهاً الأستاذ الميلاد بأن سبب اختياره لهذه الرؤية دون غيرها، كون خلفياتها البحثية والاستكشافية جاءت خالية من الانحيازات الفكرية والأيديولوجية.

واستكمالاً للملامح الخاصة بالنزعة الإنسانية في القرآن الكريم، التي أوردها الدكتور هشام جعيط في رؤيته، خصص الأستاذ الميلاد خاتمة الفصل الرابع لملاحظات دقيقة تتعلق بالعناصر والملامح والمكونات للنزعة الإنسانية في القرآن الكريم.

الفصل الخامس: الإنسان في القرآن.. لماذا ذمَّ القرآن الإنسان؟

في هذا الفصل نلاحظ المؤلف يُوسِّع ويُعمِّق الأفق البحثي الذي فتحه بالفصل الرابع، فعنوان هذا الفصل: (الإنسان في القرآن الكريم.. لماذا ذمَّ القرآن الإنسان؟) يثير دفائن العقول، حيث ركَّز المؤلف البحث في القرآن الكريم من خلال تعداد الآيات، والنقاش الجدلي المعمق لما قد يرد في أذهان المهتمين بالنزعة الإنسانية عندما يجدون هذه الرؤية النقدية الذمية المتكاثرة التي قد توحي بنزعة تشاؤمية للإنسان في القرآن الكريم، ليعبر بالقارئ والباحث نحو بناء الرؤية والصورة، بعد التوصيف والتحديد لحيز المسألة، من خلال ملاحظات معرفية دقيقة تساعد في استيعاب ماهية النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، وعمقها البنيوي - النظري والعملي.

الفصل السادس: الفكر الإسلامي المعاصر وعلم الجمال

في هذا الفصل قد ينتاب القارئ شيء من الذهول والغرابة، ما علاقة علم الجمال بمسألة النزعة الإنسانية؟ لكن الأجمل في هذا الفصل أن المؤلف جعله خاتمة توجيهية للقارئ والباحث، فمبحث الجمال والتوجيه الجمالي عند مالك بن نبي، والجمال كقيمة وجودية وإنسانية، كلها منبهات ومثيرات مهمة لإحياء النباهة الفكرية الإسلامية للإطار النظري العام في النزعة الإنسانية من جهة، وللمباحث الجوهرية في موضوع النزعة الإنسانية كل مبحث كإطار خاص، بالإضافة إلى البعد العلمي العملي أو التطبيقي الذي يتعلق بالعمران والتنمية المستدامة، وما هنالك مما يبرهن على فاعلية روح النزعة الإنسانية في واقعنا العربي والإسلامي.

أما بعد..

بكل موضوعية وعرفان، هذا الكتاب بمثابة مؤشر استراتيجي عن تطور الاشتغال المعرفي الرصين في الفكر الإسلامي المعاصر، وبلا مبالغة هذا التأليف للأستاذ زكي الميلاد أعتبره شخصيًّا مدخلاً مهمًّا لبناء ملامح وآفاق المعرفة الإنسانية في الإسلام، حيث استطاع الكاتب أن يبني رؤية جديدة في عمق الفكر الإسلامي المعاصر كعادته من خلال مقاربات وملاحظات وردود، بالإضافة إلى المنبهات المعرفية والتوجيهية مع المبادرة بشق طريق جديد نحو المعرفة على ضوء الحكمة الإسلامية المنفتحة على الله والإنسان والحياة والتاريخ والعلم.

بالرغم من أن الكتاب أعطى إشعاعاً معرفيًّا بمعنى النزعة الإنسانية، لكن تظل بعض الأبعاد بحاجة لتعمّق بحثي، وجدل علمي، ليعرف المعنى قوته بالواقع العربي - الإسلامي، من خلال تجديد الرؤية المعرفية بالمراجعة والتهذيب والتطوير ضمن مشروع ميلاد منظومة ثقافية إسلامية معاصرة، قادرة على إنتاج الأجوبة عن أسئلة الواقع الملحة.

ويبقى هذا الكتاب (الإسلام والنزعة الإنسانية)، محطة أساسية في مشروع إحياء النزعة الإنسانية في الإسلام.

والله من وراء القصد.

 

 

 

 

 

 

 



[1] زكي الميلاد، الإسلام و النزعة الإنسانية، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2013م، بيروت- لبنان، ص7.

[2] المصدر السابق، ص 15.

[3] م. س، ص16.

[4] م. س، ص 17.

[5] إشارة غير مباشرة إلى أحد أهم الدوافع لكتابة هذا الكتاب.

[6] م. س، ص39.

[7] م. س، ص77.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة