تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلاميون والمشاركة في الانتخابات ..

محمد تهامي دكير

الإسلاميون والمشاركة في الانتخابات

هل هي خطوة باتجاه أسلمة النظام السياسي؟

محمد تهامي ذكير

«أما كيف يتأتَّى هذا التغيير، فليس له من سبيل في نظام ديموقراطي إلَّا السعي في الانتخابات.. ثم نُسلِّم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين يُحبون ويُقدِّرون أن ينهضوا بصرح نظام البلاد على أسس الإسلام وهدي الكتاب والسنة..».

المفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي

 

 الفكر السياسي الإسلامي المعاصر
والموقف من الديموقراطية الغربية: من الرفض إلى الممارسة

الذي يتتبَّع أدبيات الفكر السياسي الاسلامي، منذ النصف الأول من القرن الماضي، أي بعد سقوط الخلافة العثمانية، وبداية ظهور وإنشاء الدولة الوطنية القطرية، كما رسمت جغرافيتها السياسية معاهدة سايس-بيكو، يلاحظ حجم التطوُّرالذي عرفه التنظير والتأصيل الإسلامي في هذا المجال، فقد استوعب الفكر السياسي الإسلامي مفهوم الدولة القطرية الجديدة القائمة على أنقاض إمبراطورية الخلافة، دون أن يتخلَّى عن حلم استعادة دولة الأمة (الخلافة).

لكن هذا الفكر ورموزه سرعان ما انخرطا في سجالات ونقاشات ارتبطت بتداعيات قيام ونشوء وأهداف الدولة القطرية، التي لم تكن سوى استنساخاً مُشوَّهاً للنموذج الغربي، القائم على الفصل بين الدين والدولة، والتشريع الوضعي، واختيار وفاعلية القوى السياسية داخل المجتمع، ومفهوم الدولة المدنية التي تسعى لتحقيق الرفاه المادي للمجتمع وتحقيق الأمن السياسي والإجتماعي، بالإضافة إلى الاعتماد على آليات إجرائية تتعلَّق بطبيعة العمل السياسي، وكيفية الوصول إلى السلطة، وتقسيم السلط، ووجود دساتير وأحزاب وانتخابات ومجالس تشريعية، وغيرها من الآليات التي كشف عنها التطوُّر السياسي للدولة والمجتمع في الغرب.

كل هذه المفاهيم والقضايا المُتعلِّقة بالدولة والعمل السياسي كانت –كما قلت قبل قليل– محل سجال ونقاش بين الكتَّاب والمفكرين الإسلاميين، حيث انتهى الأمر بهم إلى تأصيل الكثير من هذه المفاهيم والآليات الإجرائية وتبنِّيها، وإن تباينت مواقفهم وطرق تأصيلهم، سواء بالاستيعاب والأخذ باعتبارها تجربة إنسانية رائدة لا يوجد أي مانع عقلي أو ديني من الاستفادة منها، أومن خلال تقديم البديل المنسجم مع الهوية والتراث، الذي يضمن الحقوق السياسية ويُواجه جميع أوجه الاستبداد السياسي، وإن نظريًّا على الأقل..؟؟

هذا السجال والنقاش الفكري - السياسي، وما نتج عنه من آراء ومواقف، كشف عن حجم التباين في النظر إلى مفهوم الدولة وأهدافها والآليات الإجرائية للعمل السياسي وممارسة الحكم.

مثلاً، ففي الوقت الذي رفض البعض النظام السياسي الديموقراطي، وحاول التأسيس لنظرية سياسية إسلامية جوهرها الشورى، باعتبارها قاعدة النظام السياسي الإسلامي وركيزته[1]؛ في هذا الوقت نجد البعض الآخر يرفض هذا التأسيس، ويرى أن الشورى بوصفها نظاماً سياسيًّا يتضمَّن القواعد التي تُنظِّم مشاركة المواطنين في الحكم، وكيفية مراقبة الحكام ومحاسبتهم -كما يقول د. فوزي أدهم–؛ غير موجودة لا في النصوص ولا في التطبيق، وكل ما في الأمر هو أن لَبْساً لفظيًّا حمل بعض الفقهاء على تحميل اللفظ ما لا يحتمل، في حين أن الشورى، بوصفها نظاماً سياسيًّا، لم تعرف مكاناً إلَّا في أذهان من روَّج لها ونادى بها[2].

هذا السجال الفكري - الديني شمل العديد من المفاهيم السياسية بين الرفض المطلق لكل ما يأتي من الغرب شكلاً ومضموناً، والاستيعاب والتأصيل لبعض المفاهيم الأخرى باعتبارها منتجاً عقليًّا وتجربةً إنسانيةً.

ومع انخراط بعض التيارات الإسلامية في مشروع الدولة الوطنية، ودخولهم اللعبة الديموقراطية، ومشاركتهم في الانتخابات، حيث وصلوا –جزئيًّا– إلى السلطة التنفيذية اليوم في أكثر من دولة وخصوصاً بعد الثورات العربية، بعدما شاركوا في السلطة التشريعية (البرلمانات) إثر النجاحات المهمة التي حقَّقها التيار الإسلامي السياسي في الانتخابات البرلمانية في أكثر من دولة، أقول: بعد كل ذلك، ومع هذا الوضع الجديد، ومع خوض الإسلاميين في هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر؛ بدأ الحديث من جديد، وانطلقت الحوارات في وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة لمناقشة موضوع النظام السياسي الإسلامي وطبيعته، وموقف الإسلام من الديموقراطية؟ وهل يؤمن الإسلاميون فعلاً بالديموقراطية، أم أنهم يستفيدون منها فقط للوصول إلى الحكم والسلطة ثم ينقلبون عليها بعد السيطرة والتمكُّن من أسلمة المجتمع ومؤسساته السياسية؟

وهل سيتمكَّن الإسلاميون فعلاً من تحقيق ذلك؟ أم نحن أمام تجربة جديدة ستكشف عن أسلمة النظام السياسي في إطار التجربة أولاً، وثانياً من خلال الاستفادة من الآليات الإجرائية الديموقراطية، كما هو الحال مع تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية التي استطاعت أن تقدم نموذجاً فريداً، حيث يحكم الولي الفقيه بالشريعة في إطار مؤسسات سياسية (دستور، وانتخابات، وفصل بين السلطات، ومجلس للشورى، ورئاسة منتخبة من طرف الشعب، حكومة ومجالس منتخبة.. إلخ).

قبل الحديث عن نتائج هذه التجربة الإسلامية وما ستؤول إليه، والتحديات التي يجب الالتفات إليها، والمخاطر التي يُمكن أن تُصيب المشروع الإسلامي السياسي إذا ما فشلت هذه التجارب في تحقيق مضمون الشعارات التي رُفعت أثناء الحملات الانتخابية (الإسلام هو الحل)، سنتحدث -باختصار– عن السجال الفكري النظري الذي دار حول الموقف من الديموقراطية خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن، والذي بدا وكأن تجربة مشاركة الإسلاميين في السلطة اليوم قد تجاوزته. فحتى أشد الناس رفضاً للديموقراطية البارحة، ونقصد بهم الحركات السلفية، نراهم اليوم يدخلون اللعبة السياسية ويُنشئون الأحزاب، ويُشاركون في البرلمانات وفي السلطة التنفيذية إلى جانب التيارات العلمانية.

بل ينخرطون في لعبة العلاقات الدولية المعقدة..

وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الفكر السياسي الإسلامي أمام لحظة جديدة ومتقدمة، فبعد التنظير لسنين خلت، نحن اليوم أما تجارب على أرض الواقع ستترك بصماتها –بلا شك– على المستوى التنظيري تأصيلاً وإبداعاً.

الرافضون للديموقراطية

انبرى عدد كبير من المفكرين الإسلاميين ومنظري التيارات والحركات الإسلامية والدعاة، للرد على الدعوات المطالبة بتبني وتطبيق النظام الديموقراطي في العالمين العربي والإسلامي، وتراوحت الردود بين الرفض المطلق للديموقراطية شكلاً ومضموناً، والاعتراض على بعض الجوانب مع الإبقاء على التوجس من منابعها وأصولها الفلسفية والحضارية.

ففي نظر عدد من رموز التيارات السلفية (الديموقراطية نظام كفر)[3]، وهي بضاعة غربية مُحرَّمة لا يجوز استيرادها، ولا حاجة للمسلمين بها؛ لأنها جزء من مشروع غربي يهدف إلى فصل الإسلام عن الحياة العامة، ويعمل على نشر الإلحاد والفساد الأخلاقي بين المسلمين. أما محمد قطب، وهو من منظري الحركة الإسلامية في مصر، فيرى أن الديموقراطية هي فتنة كبرى، فتنة يقع فيها كثير من الدعاة اليوم كما وقع بعضهم في فتنة الاشتراكية من قبل، ويضيف: أقول للدعاة الذين ينادون بالديموقراطية: إن الديموقراطية بصورتها الموجودة عليها اليوم في الأرض لن توصلهم إلى الإسلام[4].

وهذا الموقف الرافض للديموقراطية ينطلق من عدة منطلقات:

المنطلق الأول: الإيمان بأن الإسلام نظام حياة متكامل، ولديه تشريعاته وآليات تطبيقها في جميع المجالات، لذلك فلا حاجة للمسلمين لاستيراد القوانين والأنظمة السياسية أو غيرها من الأنظمة من الحضارة الغربية، وباختصار «إننا لسنا في حاجة إلى ديموقراطيتهم للوصول إلى تأمين الأمن والعدل والسعادة للإنسان؛ لأن الذي بين أيدينا يُغنينا عن الركام الذي بيدهم..»[5].

بالإضافة إلى أن الأنظمة الديموقراطية في بلاد المسلمين هي المعول الذي يسعى الغرب من خلاله لاستئصال الإسلام في أبعاده العقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخلقية، وتغريب الأمة وإبعادها عن دينها وتاريخها وأخلاقها وحضارتها[6].

المنطلق الثاني: في الديموقراطية مصدر السيادة والتشريع هو للإنسان (المجتمع)، بينما السيادة والحاكمية وحق التشريع في الإسلام هو لله عز وجل والشريعة المنزلة، لذلك فالقبول بالديموقراطية هو اعتراف بالقوانين الوضعية التي تتناقض أحكامها مع أحكام الشريعة الإسلامية في أحيان كثيرة.

المنطلق الثالث: في الديموقراطية الحرية الشخصية مقدسة لدرجة أنها تُعطي الإنسان الحق في الكفر والإلحاد وتغيير دينه، والتحلّل من القيم الدينية والروحية، بل فعل أي شيء يريده بعيداً عن مراعاة الحلال والحرام. وهذا يتناقض مع الاسلام وشريعته القائمة على نظام الحلال والحرام، والالتزام بقيم الإيمان ومبادئ الدين وشريعته.

لذلك ومن خلال هذه المنطلقات فالاعتراف بالديموقراطية والقبول بها والسعي لتطبيقها في الدول العربية والإسلامية، هو بمثابة إعلان حرب على الإسلام وعقائده وشريعته. وقد استدل أصحاب هذا الموقف بمجموعة من الآيات والأحاديث وأقوال السلف من الصحابة وأئمة المذاهب، ومن الآيات التي استدلوا بها لرفض الديموقراطية نذكر:

- {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} سورة المائدة:50.

- {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} سورة المائدة، الآية 49.

- {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} سورة الجاثية،الآية 18.

- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} سورة المائدة: 44.

- ويتساءل عدد من أقطاب التيار الرافض للديموقراطية، لماذا نستورد أو نقتبس الديموقراطية الغربية ما دام للإسلام نظامه السياسي الخاص به، نظام يرتكز على البيعة والشورى، والنظام الشوروي أعم وأوسع من الديموقراطية، أو على حد تعبير الباحث توفيق الشاوي: «الشورى أعلى مراتب الديموقراطية».

وأخيراً يرى أغلب الرافضين للديموقراطية أن الشعوب الإسلامية لم تحصد من جرَّاء محاولات تطبيق الديموقراطية الغربية سوى الكوارث والخيبات والاغتراب، واستلاب الهوية، والبعد عن الإسلام وقيمه ومبادئه الأصيلة.

هذه باختصار نماذج من أهم مواقف وآراء واعتراضات الرافضين لاقتباس الديمقراطية الغريبة في الساحة العربية والإسلامية، والمرتكزات النظرية للرفض، والمبررات الدينية والفكرية والواقعية للعداء للديموقراطية.

لكن هناك ملاحظة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن أغلب الرافضين للديموقراطية والمعادين لها هم من التيارات السلفية (أتباع المذهب الحنبلي والتيميين – نسبة لابن تيمية الحراني الحنبلي)، ومعهم أنصار الأنظمة الاستبدادية من علماء ودعاة ينتمون لباقي المذاهب الأخرى.

ولا بد هنا من التمييز بين هؤلاء ومن يرفض الديموقراطية لأنها في نظره تعتبر رمزاً لمشروع غربي مارس -ولا يزال– القهر والإذلال بحق الشعوب العربية والمسلمة، ومن ثَمَّ فإن موقف الرفض للديموقراطية من جانب هؤلاء لا ينبغي أن يُفهم باعتباره رفضاً لذاتها، ولكنه في حقيقة الأمر رفض للمشروع الذي تُمثِّله، أي المشروع الغربي الذي يسعى للهيمنة على مقدرات الشعوب المسلمة وإلحاقها بالمركزالغربي كدول فاقدة للهوية الحضارية وللاستقلال السياسي والاقتصادي.

المدافعون عن الديموقراطية

إلى جانب المواقف الرافضة للنظام الديموقراطي –سواء أكان الرفض مطلقاً أم جزئيًّا– ظهرت على الساحة الإسلامية مواقف كثيرة تُؤيِّد الاستفادة و اقتباس النظام الديموقراطي، وتنظر إلى الديموقراطية باعتبارها نظاماً سياسيًّا -توصَّلت إليه البشرية بعد معاناة طويلة مع الاستبداد والطغيان– يُنظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويُحدِّد كيفية الوصول إلى السلطة وانتقالها من شخص إلى آخر بسلاسة ودون صراعات دموية، كما يحول دون تمركز السلطات بيد شخص واحد، ويقدم «الدواء الشافي لمعالجة داء السلطان المطلق لجهاز الدولة وجنون السلطة»[7].

وبالتالي فالقبول بالديموقراطية هو لهذه الحيثيات والأهداف، ولكون الديموقراطية وسيلة مبتكرة للقضاء على الاستبداد ليس إلَّا.

لذلك لم يجد المدافعون عن الاستفادة واقتباس الديموقراطية أيَّ محذور للدفاع عنها والدعوة لتطبيقها مع بعض التحفظات.

يقول الشيخ يوسف القرضاوي، وهو من شيوخ الحركة الإسلامية المصرية المعاصرين، في معرض رده على من يدَّعي أن الديموقراطية من قبيل الكفر: «الغريب أن بعض الناس يحكم على الديموقراطية بأنها منكر صُراح، أو كُفر مباح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان. إن جوهر الديموقراطية –بعيداً عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية– أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألَّا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألَّا يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها، فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل. هذا هو جوهر الديموقراطية الحقيقية -في نظر د. القرضاوي- التي وجدت البشرية لها صيغاً وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة واستقلال القضاء... إلخ.

فهل الديموقراطية، في جوهرها الذي ذكرناه -يتساءل د. القرضاوي– تُنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأيّ دليل من مُحكمات الكتاب والسُّنَّة يدل على هذه الدعوى؟[8]

ويُجيب د. القرضاوي: الواقع أن الذي يتأمَّل جوهر الديموقراطية يجد أنه من صميم الإسلام[9].

كما دافع الشيخ محمد الغزالي بشدة عن الديموقراطية، لأنها في نظره ليست ديناً في مقابل الإسلام، وإنما هي آليات إجرائية وتنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ننظر إليه لنطالع كيف توافرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على السواء، وكيف شيّدت أسواراً قانونية لمنع الفرد من أن يطغى، ولتشجيع المخالف على أن يقول بملء فمه: لا يخشى سجناً ولا اعتقالاً[10].

ومن جهته يتحدّث الأستاذ فهمي هويدي عن مُسوِّغات ومبررات الدعوة لاقتباس النظام الديموقراطي من طرف الإسلاميين قائلاً: «نحن مع القائلين بأن ما تُمثِّله الديموقراطية من قيم، وما توفره من ضمانات، يظل أفضل ما هو متاح لتحقيق المشاركة السياسية وحماية الحريات في الظرف الراهن، وبرغم أية سوءات أو مثالب تعتريها، فإنها -بعيوبها تلك- تفوق بما لا يُحصى من المراحل غيرها من أنظمة الحكم ومناهج السياسة»[11].

وهذا ما يوافقه عليه كذلك الباحث محمد محفوظ –وهو من المؤيدين لاقتباس الديموقراطية–، الذي يرى أن رفض الديموقراطية والاشتغال بالبحث في جذورها الفلسفية، سيُؤدي بنا إلى الارتماء في أحضان الاستبداد السياسي، والقبول بوضع انتهاكات حقوق الإنسان العربي والمسلم على نطاق واسع، لذلك يؤكّد المحفوظ جازماً: «إننا لا يمكن أن نتقدّم ونتطوّر كعرب ومسلمين إلَّا بجناحي الإسلام والديموقراطية»[12].

هذه عيِّنة من مواقف المؤيدين للديموقراطية ومبررات قبولهم بها ودفاعهم عنها، ومن خلالها يظهر عدم اهتمامهم بمناقشة جذورها الفلسفية والفكرية، ولا خلفياتها الثقافية والحضارية، ولا كونها جزءاً من مشروع غربي حضاري يتناقض مع الإسلام وشريعته، وإنما نظروا إليها باعتبارها آلية ووسيلة فقط لتنظيم العمل السياسي، ولضمان الحقوق السياسية للمواطن، بالإضافة –وهذا هو الأهم– مواجهة واقتلاع جذور الاستبداد السياسي الذي –كما يقول الشيخ محمد الغزالي– «أكل ديننا ودنيانا»[13].

إذن فالدفاع عن الديموقراطية والدعوة لاقتباسها إنما يأتي كردّ فعل ضد الطغيان السياسي الذي أكل الأخضر واليابس، ويقف عائقاً أمام تقدُّم الأمة وتحرُّرها من براثن التخلُّف والانحطاط، ومع عدم وجود نظام سياسي إسلامي بديل، وعدم قدرة الفكر السياسي الإسلامي أن يجعل من الشورى نظاماً سياسيًّا له آلياته الواضحة، فليس هناك من بديل سوى الاقتباس والاستفادة من الديموقراطية الغربية مع الإبقاء على بعض التحفُّظات القابلة للمناقشة، مثل الموقف من التعدُّدية الحزبية، وطبيعة المعارضة السياسية داخل الدولة الإسلامية، وحدود الحريات الشخصية، ومدى تدخُّل نُوَّاب الأمة في التشريع، وغيرها من القضايا التي تحتاج إلى المزيد من المناقشة والبحث والتأصيل[14].

وهذه القناعة التي سيطرت على عقول عدد من أتباع الحركات الإسلامية، هي التي دفعت بهم إلى القبول بالدخول في اللعبة الديموقراطية داخل بلدانهم، وشجّعهم على المشاركة في الانتخابات التشريعية والبرلمانية. وهذا ما أثار بدوره سجالات حادة داخل الأوساط الإسلامية والحركية بين مؤيّد ورافض، حيث تجاوز النقاش والجدل القبول المبدئي أو الاعتراض على الديموقراطية إلى الدخول في مناقشة الجدوى من المشاركة في هذه الانتخابات وهل سيحقق الإسلاميون المشاركون فيها أهدافهم وعلى رأسها الوصول إلى السلطة عبر صنايدق الاقتراع، ومن ثم تحقيق التغيير المنشود نحو إقامة الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي.

فيما يلي سنستعرض نماذج من المواقف والآراء التي أسفر عنها الجدل بين المؤيدين والرافضين للمشاركة في الانتخابات التشريعية.

1- الرافضون للمشاركة

إذا كان الرافضون للديموقراطية يعتبرونها كُفراً وبضاعة غربية محرَّمة لا يجوز استيرادها، فإنهم يعتبرون المشاركة في الانتخابات هي كذلك محرمة وغير جائزة شرعاً، لأنها:

- اعتراف صريح بأنظمة سياسية جاهلية، وبالقوانين الوضعية التي تحتكم إليها هذه الديموقراطية، وهذا اعتراف بالطاغوت وبالحكم الجاهلي وقد أمرنا بالكفر به، يقول السيد قطب وهومن كبار منظري الحركة الإسلامية في مصر: المشاركة هي في صالح الأنظمة الجاهلية، كما أنه لا يمكن الالتقاء مع الجاهلية في منتصف الطريق.. بينما المطلوب القطيعة مع الجاهلية «فليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج»[15].

- فكرة التعددية الحزبية لا أصل لها في الإسلام أو الشريعة، وكذلك الحرية الحزبية التي تسمح بوجود أحزاب لا دينية.

- البرلمانات في الغرب تُشرِّع قوانين مخالفة للفطرة وللأديان والقيم، وتُضفي صفة الحق والشرعية على الشذوذ الجنسي والزنا وإباحة الربا، وغيرها من التشريعات المخالفة للشرائع السماوية بوضوح، والبرلمانات في العالم العربي والإسلامي هي كذلك شرَّعت الكثير من القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية؛ حيث أحلت الحلال وحرمت الحلال.

- مشاركة الإسلاميين في برلمانات مُتعدِّدة الأحزاب والتيارات الفكرية، هي مشاركة لأهل الإلحاد والكفر والعلمانيين والعملاء للاستعمار.. وغيرهم. وبالتالي فقد تُصبح المشاركة بمثابة «شهادة زور في قلب السلطات الحاكمة»[16]، خصوصاً عندما تُصادق البرلمانات على قرارات تعتبر خيانة للإسلام والمسلمين، مثل المصادقة على الاعتراف بالكيان الصهيوني ومعاهدات السلام معه، كما حدث في مصر والأردن، أو تُشرِّع قوانين تنتهك مصالح الشعب وتربط سياسته واقتصاد البلد بالغرب الاستعماري.

- المشاركة في الانتخابات والخضوع لنتائجها، تُلغي عمليًّا المشروع الإسلامي لإقامة الدولة الإسلامية من خلال ذوبان الإسلاميين في دوائر ومؤسسات الأنظمة السياسية الحاكمة.

- جميع المصالح التي يتوخَّاها دعاة المشاركة هي مخالفة لضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، وإذا كان الهدف هو التغيير السياسي والاجتماعي، فإن هذه المشاركة تُخالف منهج الأنبياء في التغيير.

- المشاركة في الانتخابات من طرف الإسلاميين لا تُعتبر فقط دعماً سياسيًّا لهذه الأنظمة الاستبدادية واستغلالاً للكفاءات الإسلامية، لاستمرار هذه الأنظمة وتحسين وجهها الاستبدادي أمام شعوبها والعالم، وإنما مشاركة رموز الحركات الإسلامية في هذه الانتخابات قد يُعطي انطباعاً لدى جماهير المسلمين بأن الأنظمة الاستبدادية والجاهلية تتمتَّع بالشرعية، ولكن تحتاج إلى بعض الإصلاحات فقط[17].

وهذا يخلق بلبلة لدى عوام المسلمين –كما يقول الشيخ عبد الرحمن– في الموقف من الحكومات القائمة هل هي عادلة أم مستبدة؟ وهنا يطرح سؤال كبير: إذا كان النظام على حق فلماذا يطالبون بتغييره؟ وإذا كان على باطل فلماذا يشاركون فيه؟[18].

- المشاركة في أحسن الأحوال تُعتبر سعياً لتحقيق بعض الأهداف الإسلامية، وفي نظر المفكر الإسلامي سعيد حوى، لايمكن وضع اليد مع غير الإسلاميين مهما كان نوع المصلحة التي يتوهمها الآخرون[19].

وأخيراً، يعتقد الكثير ممن يرفضون المشاركة في الانتخابات، بأن التمثيل النيابي سواء في البرلمانات الغربية أو العربية، مجرد مسرحية وتمثيلية على الشعوب؛ لأن من بيدهم السلطة في الحقيقة وعلى أرض الواقع في الديموقراطيات الغربية، هم أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى المتعدّدة الجنسيات، والمسيطرون على وسائل الإعلام التي تتحكّم في توجيه الرأي العام الشعبي.

لذلك لا جدوى من مشاركة الإسلاميين في هذه الانتخابات لأنهم لن يحققوا شيئاً من أهدافهم، ما دامت السلطة السياسية بيد الاستبداد والإمكانات الاقتصادية والإعلامية بيد الرأسمالية المتحالفة معه، وكلاهما يناهضان المشروع الإسلامي ولن يسمحا له بالتحقق على أرض الواقع[20].

وفي مقابل هذا الرفض للديموقراطية وللمشاركة في الانتخابات النيابية، يُطالب هؤلاء الرافضون بتطبيق نظام الشورى الإسلامية، الذي يعتبرونه أفضل وأشمل من النظام الديموقراطي.

أمام هذه الاعتراضات والمبررات الرافضة للمشاركة، كان هناك في المقابل دفاع شديد عن المشاركة، من طرف عدد من رموز الحركة الإسلامية ومفكريها وشيوخها. وقد قدَّم هؤلاء أدلتهم ومبرّراتهم كذلك. وفيما يلي عيّنات من مواقف المؤيدين للمشاركة في الانتخابات النيابية والتشريعية.

2- أدلة المؤيدين للمشاركة في الانتخابات

في محاولة للتأصيل الشرعي للمشاركة في برلمانات تحت سيطرة الاستبداد السياسي (الحاكم الظالم) إلتجأ المؤيدون للمشاركة إلى التراث الفقهي، فوجدوا فتاوى قديمة لعدد من الفقهاء تُبيح المشاركة في عمل السلطان الجائر، وتولّي بعض أعماله، إذا كان الهدف هو تحقيق ونشر العدل قدر الإمكان وتخفيف الظلم والعدوان على المسلمين؛ «لأن رفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية»[21].

أما الشيخ يوسف القرضاوي، وهو من المدافعين عن الديموقراطية، فينطلق من فقه التوازنات، ليؤكد على أنه: «إذا وجد الإسلاميون أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي الاشتراك جاز ذلك».

وقد شخَّص الإسلاميون أوجه عدة للمصلحة فقرّروا المشاركة في الانتخابات، بل تولّوا مسؤوليات سياسية وتنفيذية في ظل أنظمة تنقصها الشرعية الدينية في نظرهم.

فالدكتور حسن الترابي، وهو من زعماء الحركة الإسلامية السودانية، يرى أن المشاركة في نظام حكم غير شرعي لها أهداف استراتيجية، فليس الهدف إصلاحها أو تحويلها إلى الإسلام، وإنما «اغتنام فرصة المشاركة لبناء صفّها وتطوير حركتها الإسلامية، التي هي معقد الآمال في الإصلاح الإسلامي الشافي»[22].

الهدف نفسه تقريباً أفصح عنه راشد الغنوشي (زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس) عندما طالب الحركة الإسلامية بأن «تخوض المعارك الانتخابية وتضع مواطئ أقدام لها في البرلمان ومؤسسات المجتمع كالبلديات، وتشارك في الحكم ولو جزئيًّا، لتدريب أفرادها على إدارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الإسلامية..[23].

وفي سياق هذه المشاركة –كذلك– تتمكَّن الحركة الإسلامية من تقديم اختياراتها للنموذج الاجتماعي الذي تسعى إلى إقامته.

من جهته رد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر –عندما كانوا مشاركين في البرلمان المصري– على شبهة قيام البرلمانات العربية بتشريع قوانين مخالفة للإسلام، بقوله: «لا يعني دخولنا مجلس الشعب موافقتنا على كل مواد الدستور وعلى كل القوانين القائمة، ولكننا نرفض كل مادة في الدستور تخالف شرع الله، ولا نُقرّ أي قانون مخالف لشريعة الله، ونسعى لإلغاء كل هذه المواد والقوانين المخالفة، لتحلّ الشريعة كاملة محلها»[24].

أما الداعية فتحي يكن (زعيم الجماعة الإسلامية في لبنان سابقاً)، فتحدّث عن مبررات مشاركة حركته في الانتخابات اللبنانية، والهدف من هذه المشاركة، وهي: «رفع الظلم عن المسلمين، واستنقاد حقوقهم، ووقف التآمر الذي يهدف إلى استئصالهم، وتدعيم مواقفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليكونوا أقدر على التحدّي وعلى الصمود في وجه محاولات التذويب والتغريب..»[25].

أما بخصوص الرد على شبهة الاعتراف بالقوانين الوضعية ومشاركة غير الإسلاميين، فقد ردّ الداعية يكن على ذلك بأن القضية تتعلّق بمشاركة مسلمين في العمل السياسي، وليس مشاركة الإسلام النظم الوضعية، لكن الإسلام سيستفيد من هذه المشاركة عبر الدفاع عنه وعن شريعته داخل قبّة البرلمان، وحماية الدعوة إليه، ومراقبة السلطة التشريعية والوقوف في وجه كل تشريع مخالف له.. بالإضافة طبعاً إلى الدفاع عن حقوق المسلمين بشكل عام وأبناء الحركة الإسلامية بوجه خاص.

إلى جانب هذه المصالح هناك مصلحة أخرى تتجاوز هذه المصالح لأهميتها، لكن المشاركين في الانتخابات من الإسلاميين لا يتحدثون عنها كثيراً، وهي حلم الوصول إلى السلطة واستلام الحكم في الدول العربية والإسلامية عبر صناديق الانتخابات؛ وذلك لتجنب تعميق حالة الخوف والهواجس الموجودة لدى خصومهم من أهل السلطة والأحزاب العلمانية.

لكن عدداً من رموز الحركة الإسلامية لم يجدوا حرجاً في التعبير عن هذا الهدف والطموح، فهذا أبو الأعلى المودودي (وهو من شيوخ الحركة الإسلامية الباكستانية) يؤكد أنه بالإمكان أن نوجّه الناس إلى انتخاب الإسلاميين وأهل الصلاح، وبعد الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، «نسلم مقاليد الحكم والسلطة إلى رجال صالحين يحبون ويقدرون أن ينهضوا بصرح نظام البلاد على أسس الإسلام وهدي الكتاب والسنة..»[26].

تجربة ديموقراطية إسلامية في طريقها للتبلور

بعد استعراض أقوال ومواقف كلا الطرفين، الرافضين لاقتباس النظام الديموقراطي والمدافعين عنه، وبعد التعرف على طبيعة السجال الفكري الإسلامي – الإسلامي، في موضوع الديموقراطية وطبيعة النظام الإسلامي المطلوب، وبعد وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في عدد من الدول عبر صناديق الاقتراع.

يمكن الحديث عن مجموعة من الخلاصات والاستنتاجات والتقييمات التي أسفر عنها هذا السجال الفكري السياسي، وتكشف كذلك عن تطور الفكر السياسي الإسلامي (السني على وجه الخصوص) وتحركه باتجاه البحث لبلورة نظام سياسي إسلامي جديد ومعاصر، أو لنقل ديموقراطية إسلامية –مع تحفظ البعض على هذه التسمية- على المستويين النظري والواقعي.

وفيما يلي أهم هذ الخلاصات والهواجس:

1- رغم الاعتراضات القوية على النظام الديموقراطي وفتاوى التحريم والرفض من طرف تيارات إسلامية لها مناصروها على أرض الواقع الديني والسياسي، إلَّا أن انخراط أغلب الإسلاميين في اللعبة الديموقراطية، جعلهم يتجاوزون هذه المواقف النظرية من الديموقراطية، ويقتنعون أن لا خيار أمامهم لمواجهة الاستبداد السياسي إلَّا بتبني النظام الديموقراطي، وهذا ما اعترف به صراحة كبار رموز الحركة الإسلامية، (مفكرين وقادة حركيين)، يقول عبد الكريم مطيع (من زعماء الحركة الإسلامية المغربية) وهو يدعو للمشاركة في الانتخابات المغربية: «إنها –أي الإنتخابات التشريعية– على عِلَّاتها أقصى ما هو متاح للأمة حاليًّا، ولا بد من أن نُحقِّق بها ما تتَّسع له من مكاسب، ونحفظ بها ما نستطيع حفظه من ثوابت»[27].

لكن بشرط «أن يحرص الجميع على الترشيح واختيار التقي الورع اليقظ الكفء، وأن يكون أهم أهداف المرشحين حفظ ثوابت الأمة وبسط أجنحة الحرية والمساواة والأمن والعدل في ربوع الوطن وبين أهله..»[28].

- اقتنع الإسلاميون –قبل نجاح الثورات العربية- أن إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة في دولهم، أمر دونه صعاب جمة، إن لم يكن مستحيلاً في الظروف الحالية، لكن الديموقراطية تقدّم لهم هذه الفرصة ولو جزئيًّا، فعبر صناديق الانتخاب والاقتراع، يمكن لهم الوصول إلى السلطة، وهذا ما وقع فعلاً في عدد من الدول العربية والإسلامية، مستفيدين من جاذبية الشعار الذي يرفعونه «الإسلام هو الحل، والعودة إلى الإسلام»، وهذه الشعارات لا تزال مُغرية للشعوب المسلمة، أمام فشل الأنظمة العلمانية الحاكمة في تحقيق أي نهضة أو تقدّم أو تطلّع جماهيري.

- المشاركة في الانتخابات والوصول الجزئي للحكم والسلطة، هي فرصة للإسلاميين كذلك لتدريب أفرادهم –كما قال الشيخ الغنوشي- على إدارة المؤسسات وعلى قيادة الجماهير وتعبئتها وتوعيتها بأهداف الحركة الإسلامية، لكن هذا التدريب على السلطة لن يكتب له النجاح دون العمل على الإنضاج النظري للمشروع الإسلامي في جميع المجالات، وخصوصاً في المجال السياسي، وإلَّا سيُكرر الإسلاميون أنفسهم ويحلّ بهم الجفاف الفكري فتتحجَّر تجربتهم؛ لأن الوصول إلى السلطة هو بداية الطريق لتحقيق المشروع الإسلامي وليس نهايته.

وعلى الإسلاميين (من أهل السنة على وجه الخصوص) أن يتخلَّصوا من حلم نموذج (الخلافة التاريخية) الثاوي في ذاكرتهم، فهذا النموذج انتهى بما له وبما عليه، ولن يعود إلى الواقع مجدداً!!

- استلام السلطة عبر صناديق الانتخابات في ظل أنظمة استبدادية علمانية تابعة للغرب، لن يجعل مهمة الإسلاميين في تحقيق أهدافهم سهلة أو ميسّرة، فالاستبداد السياسي والتيارات العلمانية والغرب، لن يسمحوا للإسلاميين بتحقيق أهدافهم بأسلمة المجتمع وتطبيق الشريعة وتحقيق النهضة على جميع الأصعدة.

- ولدينا نموذج واضح على هذا الرأي، فقد وصل الإسلاميون إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب في تركيا، لكن لم يتمكّنوا لحد الآن من إلغاء قانون منع الحجاب في الإدارات والجامعة!!

- وخلال العقود الأخيرة تمكَّن الإسلاميون من دخول البرلمانات في كل من مصر والأردن والمغرب، لكن المحصول كان متواضعاً جدًّا، وهذا ما دفع الرافضين للمشاركة لرفضها؛ لأن لا جدوى منها ولا نتائج إيجابية لها.

نعم يستطيع الإسلاميون إذا ما وصلوا إلى السلطة، إغلاق مقاهي بيع الخمور وبيوت الدعارة، أو إضفاء بعض المظاهر الإسلامية على مؤسسات المجتمع ومرافق الدولة، لكن ما تنتظره المجتمعات العربية والمسلمة أكثر بكثير من تغيير هذه المظاهر، هناك أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية، عميقة ومستعصية وتحتاج إلى حلول جذرية في إطار نظام سياسي إسلامي عادل وضامن للحقوق.

لذلك على الإسلاميين الذين استلموا السلطة في عدد من الدول العربية -بعد نجاح الثورات الأخيرة وسقوط بعض رؤوس الاستبداد العربي– أن يُفكِّروا في بلورة نظام سياسي إسلامي تحصل في ظله الشعوب العربية على جميع حقوقها السياسية، وفي الوقت نفسه التفكير بجد لإيجاد أنظمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية.. إلخ، تحقّق ما تصبو إليه هذه الشعوب من تقدّم واستقلال سياسي واقتصادي وتطوّر علمي ومعرفي.

أما إذا فشل الإسلاميون في تحقيق ذلك، فستنفضُّ من حولهم الشعوب، وكما أوصلتهم صناديق الانتخابات إلى السلطة، فستلفظهم هذه الصناديق خارج السلطة والتاريخ.

وسيكون الخاسر الأكبر هو الإسلام السياسي، أو الوجه السياسي للإسلام.. وسيفقد شعار (الإسلام هو الحل) بريقه إلى حين!

- هناك أسئلة لا بد للإسلاميين من الإجابة عنها، وخصومهم لا يفتؤون يطرحونها ليل نهار، هل الإسلاميون يؤمنون فعلاً بآليات الديموقراطية، ويؤمنون فعلاً بصناديق الانتخاب، وحق الناس في اختيار من يحكمهم ويسوسهم، والتداول السلمي للسلطة، أم سيستغلون الديموقراطية للوصول إلى السلطة ثم سينقلبون عليها، ويُنشئون أنظمة سياسية استبدادية جديدة تحت عناوين ومسميات جديدة؟

إلى حد الآن أجوبة الإسلاميين عن هذا التساؤل المشروع ضبابية وغير واضحة!

وتجربتهم في السلطة ومواقفهم من بعض القضايا التي تهمّ الأمة ملتبسة، لكن مع ذلك لا يمكن التسرّع بالحكم على هذه التجربة الوليدة والمحفوفة بالمخاطر والتحديات.

والسبب -في نظرنا– هو أن شكل الديموقراطية الإسلامية، أو النموذج الإسلامي الديموقراطي أو الشوروي كما يفضّل البعض، لم تتَّضح معالمه إلى حدِّ الآن في ذهن وفكر منظري الحركات الإسلامية ورموزها الفكرية والدينية.

لذلك على الإسلاميين -وبعد تطوّر تجربتهم السياسية من الرفض للديموقراطية إلى الاقتناع باقتباسها ثم المشاركة في الانتخابات والوصول الجزئي للسلطة، وصولاً إلى استلام السلطة في عدد من الدول العربية– أن يستفيدوا من هذه التجربة وأن يُنضجوها فكريًّا، وان يجتهدوا في إيجاد نظرية سياسية إسلامية (ديموقراطية إسلامية) متكاملة العناصر على المستوى النظري على الأقل، وأن يُقدِّموها للشعوب المسلمة نموذجاً سياسيًّا إسلاميًّا يُمكن أن يُشكِّل البديل الإسلامي للديموقراطية الغربية.

وليشرع الإسلاميون في تنفيذه وتطبيقه على أرض الواقع، وليتحملوا مسؤولية هذه التجربة على أرض الواقع.

كما فعل الإسلاميون (الشيعة) في إيران، لقد خاضوا تجربة مهمّة ومتفرّدة، فخلال مئة سنة، تطوّر الفكر السياسي الشيعي، وخطا خطوات مهمّة على المستويين النظري والواقعي.

من الانتظار السلبي للإمام المهدي (عليه السلام)، ليقيم دولة العدل الإلهية على الأرض، إلى التفكير في التمهيد لها عبر تقييد الاستبداد السياسي الشاهنشاهي، فمن خلال المشروطة تمكّن الفقهاء الشيعة من تقديم نظرية سياسية تستفيد من الديموقراطية وتتمكَّن من محاصرة الاستبداد عبر إيجاد دستور ومجلس نيابي ومشاركة لفقهاء يُشرفون على الأحكام الصادرة عنه كي لا تُخالف الشريعة الإسلامية، وصولاً إلى رفض النظام الشاهنشاهي والثورة عليه والدعوة إلى استلام الإسلاميين السلطة والحكم في إيران، عبر ثورة شعبية إسلامية قادها فقيه مرجع قدَّم لهذه الثورة نظرية سياسية – إسلامية هي ولاية الفقيه، وانطلاقاً منها تمكَّن من إيجاد نظام سياسي يتميّز بالأصالة (ولاية وقيادة الفقيه المجتهد)، ومستفيداً من آليات الديموقراطية (دستور، انتخاب، مجالس منتخبة، فصل بين السلطات.. إلخ) والدمج بينهما تحت عنوان: الجمهورية الإسلامية.

هذا النموذج المتفرّد استطاع خلال ثلاثة عقود –ومع الحصار والمضايقات والحروب– أن يحقّق للشعب الإيراني المسلم الكثير مما يطمح إليه، الاستقلال السياسي، الاكتفاء الذاتي في أكثر من مجال، التنمية الاقتصادية والصناعية والعلمية التي اعترف بها العالم.. إلخ، وهاهي الجمهورية الإسلامية اليوم تدخل نادي الدول النووية، وقد بدأ علماؤها بغزو الفضاء.

لذلك فعلى الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم أو التي تستعد للوصول إلى السلطة أو من يطمح للسلطة من الإسلاميين، على الجميع الاستفادة من هذه التجربة المتفرّدة والتي استطاعت أن تتجذّر في الواقع وهي في طريقها للتبلور كنظرية إسلامية ابتكرها وابتدعها العقل الإسلامي الشيعي.. فالحكمة ضالة المسلم.

وكما تمت الاستفادة من النموذج الديموقراطي الغربي، فهناك نموذج على أرض الواقع استطاع أن يمزج بين الأصالة الإسلامية وآليات الحداثة المعاصرة، وقد تراكمت لديه عبر التجربة خبرة جيدة في إدارة الحكم وممارسة السلطة، وهومستعد لتقديم تجربته لمن يهتم بها.

وأخيراً على الإسلاميين الذين استلموا الحكم مؤخراً، أن يُدركوا جيداً مخاطر هذه التجربة وتداعياتها، فالشعوب المسلمة تنتظر منهم النجاح وإجاد الحلول الجذرية للأزمات المستعصية، ولن تغفر لهم كما لن تتقبّل أي تبرير مهما كان واقعيًّا إذا هم –لا سامح الله– فشلوا في تحقيق بعض من مضامين شعارهم المغري: الإسلام هو الحل..!

 



[1] يقول د. مهدي فضل الله: إذا كان لكل نظام مبدأ أوركيزة يقوم عليها، فإن ركيزة النظام السياسي الإسلامي هي الشورى.. انظر: الشورى طبيعة الحاكمية في الإسلام، بيروت: دار الأندلس، ط1- 1984م، ص 53.

[2] انظر: مقالة له بعنوان: نحو مفهوم جديد للشورى في الإسلام، مجلة المنهاج البيروتية، عدد 12 ص 104-105.

[3] هذا عنوان لكتاب، للكاتب عبد القديم زلوم، وهو من أشد المناهضين للنظام الديموقراطي.

[4] محمد قطب، لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة، نقلاً عن دراسة للشيخ د. عبدالله حلاق، الإسلاميون والمشاركة السياسية في الحكم، ضمن كتاب: الإسلاميون والمشاركة في مجتمع متنوع، ص44.

[5] انظر: محمد دكير، تطور الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ضمن: الدين والسياسة، بيروت دار الغدير، ط1 - 2003م، ص22.

[6] انظر: محمد دكير، تطور الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، م-س، ص21.

[7] انظر: تعريف إدغار موران للديموقراطية في: النهج: إنسانية البشرية، ترجمة هناء صبحي، صدر عن كلمة أبو ظبي، ط1- 2009م، ص212.

[8] انظر: فهمي هويدي، الإسلام والديموقراطية، مجلة المستقبل العربي، عدد 166، بتاريخ 12/ 1992م، ص28، نقلاً عن فتاوى معاصرة.

[9] المصدر السابق، وانظر: محمد دكير، تطور الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، مصدر سابق.

[10] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص211، أنظر: فهمي هويدي، مصدر سابق، ص 26.

[11] الإسلام والديموقراطية، المصدر السابق، ص8

[12] أنظر: الإسلام ورهانات الديموقراطية، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1- 2002م، ص34.

[13] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، مصدر سابق، ص211.

[14] انظر: محمد دكير، تطوُّر الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، مصدر سابق، ص25.

[15] في ظلال القرآن، ج6، ص3992.

[16] انظر: الشيخ عبدالله حلاق، مصدر سابق، ص60. وهذا رأي الشيخ حسن قاطرجي رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي في بيروت.

[17] انظر: عبدالله حلاق، مصدر سابق، ص 85.

[18] المصدر السابق، ص51.

[19] انظر: جند الله ثقافةً وأخلاقاً، نقلاً عن الشيخ عبدالله حلاق، مصدر سابق، ص 44-45.

[20] للمزيد من التعرف على آراء المناهضين للديموقراطية والرافضين للمشاركة، انظر: الإسلاميون وسراب الديموقراطية: دراسة أصولية لمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية، عبد الغني بن محمد الرحال، الناشر: المؤتمن، الرياض، ط1 - 1413هجرية.

[21] انظر: فتاوى ابن تيمية، ج3، ص 360، نقلاً عن الشيخ عبدالله حلاق، مصدر سابق.

[22] انظر: الحركة الإسلامية في السودان، ص199.

[23] الغنوشي، محاور إسلامية، نقلاً عن الحلاق، مصدر سابق، ص41.

[24] المجلة العربية، الرياض عدد 132 بتاريخ آب 1988م، نقلاً عن الشيخ عبدالله حلاق، مصدر سابق، ص73.

[25] د. فتحي يكن، أبجديات التصور الإسلامي الحركي.

[26] انظر كتابه: نحو ثورة سلمية، ص 105، نقلا ًعن الشيخ عبدالله الحلاق، م.س، ص70.

[27] مقال لنور الدين لشهب بعنوان: مطيع يدعو الإسلاميين المغاربة للتفاخر والوحدة والمشاركة في الانتخابات، بتاريخ 5-9-2011م.

[28] المصدر السابق.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة