تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإصلاح المعرفي والتغريب عند النخب الفكرية في دول الأركان : مصر ، تركيا ، إيران

حسان عبدالله حسان

الإصلاح المعرفي والتغريب

عند النخب الفكرية في دول الأركان: مصر، تركيا، إيران

الدكتور حسان عبداللَّـه حسان*

* كاتب وباحث من مصر.

 

 

 

 

حدود الدراسة وإطار المعالجة

فكرة «الإصلاح» من الأفكار الأصيلة في المنهج الإسلامي، وترتبط في جانبها العمراني بأسباب وعوامل بناء الأمة وإخراجها من الظلمات إلى النور، ومن الانحراف إلى السوية، ومن الإفراط والتفريط إلى الوسطية والاعتدال، ومن الجمود والتقليد إلى التطور والتجديد، ومن الجور والفساد إلى الصلاح والإصلاح، وقد تعرَّضت أمتنا منذ ما يزيد عن قرنين إلى محاولات لتغييبها، واستهداف استقامتها الحضارية، وفعلها الصالح الحضاري، وقد أصيبت الأمة في بعض جوانبها التي تتصل بالبناء المعرفي للعقل المسلم، نتيجة لعوامل داخلية وأخرى خارجية، وقد تمثل النوع الأول في سيادة الجمود، وانسداد باب الاجتهاد، وهيمنة عقلية التقليد وغياب عقلية الإبداع والعمران.

وكان المشروع الفكري الغربي الذي تمدَّد في العالم الإسلامي نتيجة تداعي الخلافة العثمانية ثم إعلان سقوطها عام 1926م، والذي برز متفوقاً في إنتاجه المادي والعلمي العامل الأقوى والأكبر أثراً لظهور سؤال «الإصلاح» في الفضاء المعرفي الإسلامي الحديث والمعاصر.

تحمل هذه الدراسة مفهومين أساسين هما «الإصلاح المعرفي» و«التغريب»، نشير فيما يلي إلى بعض من معانيهما.

«الإصلاح» في اللغة من «صلح» ضد الفساد، ونقيضه، وإزالته (إزالة الفساد)[1]، والصلاح -أيضاً- يعني «الاستقامة» و«السلامة من العيب»[2]. وقد قوبل «الصلاح» في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة[3].

ويرى السيد عمر «أن مفهوم الإصلاح في القرآن واحد من مفاهيم المنظومة المفتاحية الجامعة بين الأفكار والأشخاص والأشياء، وهو مقابل لمفهوم الإفساد. وقد يُدعى المفسد أنه مصلح؛ مما يجعلنا أمام نوعين من الإصلاح: الإصلاح الدعيّ، والإصلاح التوحيدي. الأول: ضال ومراوغ واسم على غير مسمى، والثاني: هو وحده الجدير باسمه، وهو مفتاح الاستقامة، والتمكين، والعزة، والتزكية، والعمران في الدنيا، والفوز في الآخرة»[4].

واستعرض محمد بريش اثنين وعشرين موضوعاً لـ«الإصلاح» في القرآن الكريم بدلالات متعددة، استنتج منها «أن الإصلاح في المجتمع المتمثل لتعاليم القرآن الكريم، يمارس على كافة الأصعدة فرديًّا وجماعيًّا، فهو سمة المجتمع المؤمن ومشروعه المفتوح والمستمر. فالإصلاح من المنظور القرآني شمولي، عميق الجذور في الذات الفردية والجماعية، يستوجب المراجعة الدائمة وإعادة التزود والموائمة، فهو يجرى في شرايينها مجرى الدم؛ إذ لا مجال لبقاء العضو الميت إذا ما استنفذت الطاقات لإعادة الحياة له، ولا حل إلَّا بتره خشية سريان الموت إلى كافة الذات»[5].

ويرى عبد الحميد أبو سليمان أن «الإصلاح» إنما هو مبدأ وغاية فطرية سوية لا تنفصم عن الرؤية القرآنية الحضارية لمشروع الوجود الإنساني على الأرض»[6].

ومن ناحية أخرى فإن الإصلاح يتضمن معنيين رئيسين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي: الأول يعني إزالة الفساد والظلم والانحراف القائم، أما المعنى الآخر فيتمثل في البناء لأسس الحق والعدل والسوية، وهو الشعار الذي رفعه شعيب (عليه السلام) مع قومه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] مبتغياً «الترك» لما هم عليه كاملاً و «الأخذ» بما جاء به كاملاً. فنهج الإصلاح ليس كما يتوهم البعض تغيير في بعض جوانب البناء القائم والإبقاء على البعض الآخر؛ ولكنه تغيير كامل من الجذور يمتد إلى الفروع والتفاصيل.

وارتبط مفهوم «الإصلاح» في الفكر الحديث بحركة «الإصلاح الديني» في أوروبا ضد هيمنة الكنيسة والإقطاع وتسلطهما على العقل الإنساني والعمران البشري في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، وقد ظهرت هذه الحركة مع ظهور المذهب البروتستانتي مقابل المذهب الكاثوليكي المهيمن على الحياة الكنسية آنذاك.

أما في العالم الإسلامي فقد ارتبط مفهوم «الإصلاح» في العصر الحديث بالجانب المادي العسكري، كما ظهر في تجربة السلطان سليم الثالث (1761) ومحمد علي (1769)، وناصر الدين شاه (1831) باقتباس «التعليم العسكري» من النمط الغربي.

ويلاحظ أن مصطلح «الإصلاح» لم يكن له وجود عند المفكرين المسلمين في بداية المواجهة مع الفكر الغربي وحضارته، بل مالوا إلى استخدام وتبنى مفهوم «التجديد»[7]. وهو ما دفع رضوان زيادة للتساؤل «لماذا استبعد تماماً لفظ الإصلاح Reform لحساب مصطلح التجديد Reconstruction،...ويرد ذلك إلى عاملين، الأول: ما جاء في الأدبيات الدينية عن «التجديد»[8]، والثاني: قراءة تجربة الإصلاح الديني المسيحي»[9].

ويوصف «المعرفي» -الشطر الثاني للإصلاح- بأنه يتعامل مع الظاهرة من منظور كلي ونهائي[10]، وقصدنا هنا بـ«المعرفي» هو مستوى الإصلاح الذي يتعامل مع كليات النموذج المعرفي التوحيدي (المفاهيم والتصورات والمدركات وطرائق التفكير ومصادره...).

وإجرائيًّا نقصد بالإصلاح المعرفي: الجهود الفكرية التي توجهت صوب «الأسس المعرفية» في مجالين أساسيين، الأول: نقد وتفنيد الفكر الغربي الوافد ورده إلى أصوله؛ وذلك لبيان اختلافه وتناقضه مع النموذج المعرفي الحضاري التوحيدي. والمجال الثاني: بناء القيم والتصورات والمفاهيم والمدركات وطرق وأساليب التفكير من أجل تأسيسات منهجية في المجالات الأساسية لـ«المستوى المعرفي التوحيدي والحضاري».

والمتغير الثاني لهذه الدراسة هو «التغريب» وهو واحد من المفاهيم التي تعبر عن تأثيرات الفكر الوافد في العصر الحديث مثل: الاستلاب، الغزو الثقافي، الهيمنة الثقافية... وقد اخترنا «التغريب» لمقاربته في معجمنا اللغوي من المعنى الذي نقصده أو في كثير من جوانبه حيث يشير إلى: حالة الغربة/ الانفصال/ الارتحال/ النزوح/ الغياب/ الاختفاء/ البعد...

ويبدو «التغريب» الأكثر فاعلية في العوامل التي أدت إلى هيمنة سؤال الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، وذلك لما أنتجه مشروعه الفكري من تباينات حادة في العقل المسلم وفي تصوراته ومفاهيمه انعكست بدورها على منظومته الفكرية وطريقة تصوره للأحداث والوقائع وتفسيره لها، وهو ما يشير إليه طارق البشري بقوله: «إن من أخطر وجوه الإفساد القيمي في هذا الشأن، أن ما كان يعتبر عاملاً داخليًّا صار يعتبر عاملاً خارجيًّا في تقويم أحداث التاريخ نفسه، وانعكس الوضع، فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر، صار يُعامل أحياناً كما لو كان عاملاً داخليًّا، وذلك عندما ينظر إليه البعض عنصراً مساهماً وباعثاً للنهوض والتقدم. وقد جرى له هذا التقويم تحت إملاء المفهوم السائد عن «وحدة العصر» بالمعنى الأممي والحضاري، وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب، والالتحاق المعنيُّ هنا ليس التحاقاً ماديًّا ولا سياسيًّا ولا اقتصاديًّا، ولكنه التحاق يتعلق بالوعي»[11].

ويضيف البشري أيضاً موضحاً اتصال واستمرار حركة التغريب وتغييب الوعي وتحقيق الانفصال عن الجذور والتاريخ والتشتت الحضاري بقوله: «وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن «المعاصرة» أو «وحدة العصر الحديث» بمعناها الأممي والحضاري هي من أسس ما يُروَّج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعي بالذات. وهي من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري. ولا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز، ويرعى صالحنا الحضاري والمادي، ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا، فيُعيد تشكيله على غير ما قام في الواقع الماضي. كما أنه يقيم التبعية والتجزؤ، لا في الواقع وحده ولكنه يقيمها في الوعي ذاته»[12].

كما سار المشروع التغريبي عبر نسق منهجي يهدف إلى استيعاب النخب العلمية المنتمية إلى الثقافات الأخرى عبر عدة آليات هي: التثاقف (تحقيق رغبة رحيل المهاجر من ثقافته إلى قيم الغرب، ومن سلوكيات ثقافته الأصلية، إلى قيم الغرب وسلوكياته) والتدامج (التحول الفعلي إلى ثقافة الغرب وسلوكياته)، والتشتيت (الفقدان الكامل للهوية الأصلية)[13]، وهو ما يتوافق مع وجهة النظر الغربية لمعنى التغريب، والذي يعنى «أنه يجب على أي دولة تريد أن تصبح غنية وقوية، أن تتعلم كيف تعيش وتفكر مثل الغرب»[14].

أما التغريب في نظر المفكرين المسلمين فيهدف إلى «خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية، وتسيُّدها على حضارات الأمم ولا سيما الحضارة الإسلامية»[15].

ويخلص فهمي جدعان إلى أن دعوة «التغريبيين» تكمن في الخروج من الدائرة العربية والإسلامية خروجاً كاملاً أو شبه كامل، وهذا الخروج يتبلور بصفة خاصة في التبني الكامل للقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للمدنية الغربية وفي الدعوة صراحة للارتباط بأوروبا والتبعية لها[16]، ويشير جلال آل أحمد إلى أن التغريب «مجموعة من الأعراض تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ»[17].

والتغريب بما تقدم يمكن وصفه بأنه تلك العملية التي تعرض فيها العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر -ولا زال- من محاولة لفرض المشروع المعرفي الغربي القائم على تبني القيم المادية، والنظرة المادية للمعرفة والكون، وتمثلاتها في ميادين الفكر والعلوم الإنسانية والطبيعة، والتصورات الأساسية حول الله والإنسان والكون، على العقل والوجدان المسلم، بهدف استبدال النموذج المعرفي الغربي بالنموذج المعرفي التوحيدي.

أما «النماذج الإصلاحية» المختارة في هذه الدراسة فهي: مصطفى صبري (شيخ الإسلام في الدولة العثمانية (1869 – 1954)، والإمام محمد عبده (1849 - 1905م)، والدكتور علي شريعتي (1933 - 1977).

وهذه النماذج فضلاً عن أنها تمثل روافد فكرية متعددة كان لها تأثيرها الواضح في الحضارة الإسلامية؛ فإنها أيضاً كانت نواة لتأسيس مدارس فكرية إصلاحية في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر يمكن رصدها وتتبعها في دراسات أخرى لتأمل الترابط والتكامل للفكر الإصلاحي المعاصر، وذلك في ضوء النظرة الكلية (التي تطمح هذه الدراسة إلى تقديمها) لحركة الإصلاح في العالم الإسلامي.

وتنطلق هذه الدراسة من مقولة أساسية هي: أن المشكلة الجوهرية التي تواجه أمتنا هي مشكلة «الوعي المعرفي» الذي يُشَكَّل عبر المؤسسات الحضارية للأمة؛ إلَّا أن عمل هذه المؤسسات مرهون بصحة وسلامة العقل المسلم؛ لذا فإن المأمول في جهود المفكرين والمصلحين العناية بتصحيح التصورات والمفاهيم التي تقوم عليها بنية العقل المسلم والتي تعرضت إلى تشويه وخلط عبر القرنين الماضيين، ومن هنا فإن الجهود الإصلاحية ينبغي أن تتجه إلى العقل المسلم ومنظومته المعرفية لإعادة اكتشاف نموذجه المعرفي الحضاري المتميز والمتفرد، وتصحيح ما علق به من تشوُّهات وانحرافات معرفية ومنهجية.

ومن الدراسات التي عالجت مضامين حركة الإصلاح المعرفية دراسة فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام[18]، وهدفت هذه الدراسة إلى تقديم صورة لإسهامات المفكرين العرب المسلمين الحديثة عبر فترة زمنية تبلغ قرناً كاملاً (1850 – 1950)، وذلك من خلال تحليل الإسهامات الفكرية التي قدَّمها هؤلاء المفكرون، والتي يعتبرها صاحب الدراسة «الأساس الصوري الأوَّلى لمشروع يستهدف العالم العربي كله». وتنطلق الدراسة من اعتقاد بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلَّا في دوائر محدودة جدًّا، وأن الطرح الصحيح لهذا الفكر يكمن في القول: إن الهواجس الحديثة قد ظلَّت مطلة باستمرار، في القطاع الكبير من تجلياته.. أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول وطرحوا مفهوم النهضة العربية على أسس مقطوعة الصلة بالأصول فلم تتوجَّه إليهم الدراسة؛ لأن الدراسة بالأساس تبحث في المنطلقات العربية للتقدم.

تناولت الدراسة أكثر من أربعين مفكراً عربيًّا مسلماً، بحثت في إسهاماتهم عن «أسس التقدم» ومنطلقاته ومبادئه، تلك التي بدأت -كما يذكر صاحب الدراسة- «مع ابن خلدون لا مدافع نابليون». وقد طرحت هذه الأسس تحت عناوين: ميتافيزيقا التقدم، الحقيقة والتاريخ، الدخول في الأزمنة الحديثة، التوحيد المحرر، دروب الفعل، القيم، نظرة إلى الوراء، نظرة إلى الأمام.وقد توصلت الدراسة إلى عدة نتائج أهمها: أن التحول الحادث في مفهوم التوحيد الكلاسيكي قد انتهى، في الأعمال الحديثة، إلى صيغة دينامية حية صريحة كفت فيها العقيدة على أن تكون مبادئ فلسفية، وأصبح الدين ذا وظيفة اجتماعية صريحة اتخذت أحياناً شكل الوظيفة السياسية الخالصة. كما أبرزت الدراسة أيضاً اتفاق المفكرين على أن العالم العربي لن يستطيع أن يتقدم إلَّا إذا وضع حدًّا لحالة «الفصام النكد» بين الدين والدولة أو الإسلام والدولة.

أما دراسة ماجدة مخلوف «الإصلاح والتجديد في تركيا»[19] فقد حاولت تتبُّع حركات الإصلاح في تركيا خلال القرنين الـ 19 – 20، وقد أكدت الدراسة أن المشكلة التي يعيشها المسلمون من القرن التاسع عشر الميلادي، تكمن في محاولة الوصول إلى صيغة تحقق لهم المواءمة بين موروثهم الثقافي والحضاري، وبين الغرب بثقافته وحضارته.

وتشير صاحبة الدراسة أنه في ضوء هذه الإشكالية، فإن تتبع محاولات الإصلاح ثم التجديد التي تمت في الدولة العثمانية، بدءاً من القرن الثامن عشر حتى قيام الجمهورية التركية في الربع الأول من القرن العشرين، تشير إلى أمرين ثابتين: الأول أن محاولات الإصلاح، ثم التحديث، ثم تغيير الأساس أو التجديد في الدولة العثمانية، ثم الانسلاخ الكامل من جلدها، كلها نبعت من النخبة على أثر هزائم الدولة العثمانية العسكرية في حروبها مع القوة الأوروبية، أي إنها جاءت كرد فعل على الهزائم العسكرية ثم المعنوية. وكأن رد الفعل يتزايد بعد كل هزيمة عسكرية بشكل مضطرد يدفع بالدولة العثمانية من الأصالة إلى التغريب. والثاني أن محاولات الإصلاح والتجديد كانت كلها عبارة عن تجاذب بين طرفين هما الإسلام والعلمانية.

ومن الدراسات التي انشغلت بمداخل الإصلاح ومنهجياته دراسة السيد عمر «مداخل الإصلاح في الأمة: جدالات الديني والسياسي»[20]. اهتمت هذه الدراسة بتحديد مداخل الإصلاح في مجالين أساسيين، هما: المجال الديني، والمجال السياسي. وقد صنفت مداخل الإصلاح إلى فئات ثلاث: مداخل الإصلاح التوحيدية، مداخل الإصلاح الوافدة، والتابعة، ومداخل الإصلاح المختلطة التي تجمع بين المدخلين الأولين. قسمت الدراسة مداخل الإصلاح التوحيدي إلى ستة مداخل هي: المدخل المقاصدي للإصلاح في الأمة، ومدخل التبنى المشروط للخيار الديمقراطي، ومدخل منهاجية إسلامية المعرفة، ومدخل منهج النظر للإصلاح، والمدخل الأصولي للإصلاح، ومدخل الكمنويلث الإسلامي للإصلاح.

أما مداخل الإصلاح الوافدة والتابعة فقد صُنفت في أربعة مداخل وهي: مدخل الأصوليات الغربية المعاصرة للإصلاح في الأمة، مدخل المفاصلة بين الدين الإسلامي والسياسي، مدخل اختزال الدين في البعد الروحي، مدخل تخليق هويات إقليمية مضادة للعروبة والإسلامية. والمداخل المختلطة للإصلاح قسمتها الدراسة إلى أربعة أقسام: مدخل الدستورية الإسلامية المضمون الغربية الوعاء، ومدخل تغيير طبيعية المؤسسة السياسية، ومدخل جدلية الإسلام الجامع، والمدخل الحركي للإصلاح في الأمة.

وقد اهتمت الدراسة ببيان المباني والأسس التي تقوم عليها المداخل المتضمنة داخل هذه الفئات الثلاث، وتحديد إشكالاتها ومقولاتها الأساسية وعوامل نشأتها وأبعادها في الفضاء الفكري.

وقد توصَّلت الدراسة إلى نتيجة رأت أنها أهم ما يمكن الخروج به من رسم هذه الخريطة الأولية لمداخل الإصلاح في الأمة وهي «أن الأنظمة الحاكمة، والقوى السياسية بكافة توجهاتها بما فيها القوى الإسلامية، قد نحت في مبادرتها للإصلاح باتجاه المبادرات الوافدة، أكثر من توجهها نحو مداخل الإصلاح التوحيدية، على الرغم من كل ما أوردته من انتقادات للمبادرات الوافدة. كما أن المدارس الفكرية لا تزال بحاجة إلى فك أسر المفاهيم الإسلامية وإعادة بنائها من الأرضية الإسلامية، من موقع المبادرة، وإعادة بناء الإدراك الإسلامي لعالم المفاهيم. وأكدت الدراسة أن الإصلاح الحقيقي يستدعي في آن واحد: ضرورة الإبداع المصطلحي والاستقلال، والتفوُّق المصطلحي على الصعيدين الكيفي والكمي. وأهم مصطلح هو مصطلح الذات.

وهناك أدبيات أخرى اهتمت بمسيرة الإصلاح الإسلامي ومضامينه الفكرية والمعرفية، ومشاريعه وحركاته الاجتماعية والسياسية، مثل دراسة «الشهود الحضاري للأمة الإسلامية» لعبد المجيد النجار[21]، التي تضمَّنت دراسة حركات النهضة الإسلامية خلال قرنين ونصف القرن، وذلك للبحث عن إجابة تساؤل: لماذا لم تبلغ تلك الحركات أهدافها؟ وقد قسَّم دراسته إلى ثلاث أقسام: الأول يتناول قضية فقه التحضر الإسلامي، والثاني عوامل التحضر الإٍسلامي، والقسم الثالث مشاريع الإشهاد الحضاري.

وكذلك دراسة أنور الزغبي[22] «مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي»، والتي حاولت تتبُّع المسألة المعرفية في مسيرة الفكر الإسلامي في أبعادها التاريخية، والعوامل التي أثرت فيها، من عصور الريادة وصولاً إلى سيرة التراجع والنكوص ثم سيرة الاستعادة واليقظة والنهضة، مستعرضاً تيارات الفكر الإسلامي بدءاً من المتكلمين والفقهاء وصولاً بجهود اليقظة والإصلاح في العصر الحديث.

 أهمية الدراسة وأهدافها

تأتي الدراسة الحالية في إطار الاتجاه المنهجي الذي يقوم على:

1- مقاومة نهج التجزئة والتفتت والمذهبية والتعصب -الذي هو أحد نتاجات حركة التغريب- في قراءة المشهد الفكري الإسلامي ونتاجاته المعرفية ورؤيته الحضارية.

2- إدراك لحقيقة مفهوم «الأمة الوسط الجامع» مهما اختلفت روافد الأمة: اللغوية والعرقية والمذهبية؛ إلَّا أنها في نهاية الأمر تنبع من معين واحد هو (التوحيد)، و تحمل همًّا واحداً هو الهم (الرسالي الحضاري)، وتسعى إلى تحقيق مقصد واحد هو (الاستخلاف) بكافة معانيه ومضامينه القيمية والتوحيدية.

3- تعضيد النظرة التكاملية لأمتنا ونموذجها الحضاري المُتفرِّد، وجهود مفكريها التي تُشكِّل نسقاً فكريًّا متكاملاً رغم التعدّد والتنوّع الكائن في سياقات نشأتهم الفكرية.

أما الهدف العام لهذه الدراسة فهو تحقيق مقاربة لبناء نسق معرفي توحيدي للإصلاح. أما الأهداف التفصيلية فهي:

1- البحث عن العلاقة بين «الأسس المعرفية» في جهود المصلحين الذين عيَّنتهم الدراسة، وبيان مدى مساهمة هذه الجهود في إعادة اكتشاف النموذج المعرفي التوحيدي وطرق تفعيله.

2- الإسهام في بلورة «منحى معرفي» يتم من خلاله إدراك أعمال المصلحين والمفكرين في العالم الإسلامي.

3- خلق وعي بحثي بأهمية «البعد المعرفي» في حركة الإصلاح، ومن ثم ضرورة الكشف عنه في الإنتاج الفكري لرواد الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

4- تحفيز الباحثين لطرح صورة شاملة للمشهد الفكري الإسلامي، وذلك لأن الأمة مهما تعدَّدت أوطانها وغلبتها الدولة القطرية، إلَّا أنها تظل أمة بمفهومها القرآني (الوسط الجامع)؛ بل والاستراتيجي أيضاً، فما عاناه العالم الإسلامي في القرن الـ 18 في تركيا، هو نفسه ما عاناه في مصر وإيران،...

5- لفت الانتباه إلى «الناظم الفكري» للإصلاح (داخل المدرسة الإسلامية)، وعلى تكاملية الأفكار الإصلاحية، في ضوء هذا «الناظم الفكري»، بما يُمَكِّن من بناء نسق معرفي توحيدي للإصلاح.

 منهج الدراسة وأقسامها

تعتمد الدراسة على منهج «التحليل والتركيب» للإنتاج الفكري الإصلاحي الذي قدَّمه المفكرون في نتاجاتهم العلمية، وطرحه في إطارين: الأول: إطار المقاومة لحركة «التغريب» ومعالجة آثارها وجوانبها المتعددة التي أحدثها في العقل المسلم وبنيته المعرفية. والثاني: إطار الاكتشاف والبناء والتشييد لعناصر «النموذج المعرفي التوحيدي» (المفاهيم، التصورات، المدركات، طرق التفكير)، وبيان لدورها الفاعل في البناء الحضاري المنشود.

وقد سارت الدراسة في تناولها لجهود المفكرين (النماذج المختارة) للدراسة بطريقة أفقية، وهو ما يتوافق مع اتجاه الدراسة في تحقيق مقاربة معرفية للمشهد الفكري الإسلامي.

وتنقسم هذه الدراسة إلى أربعة أقسام ومقدمة وخاتمة، القسم الأول: يتناول التغريب وضرورات الإصلاح.. مدخل معرفي، والثاني: التصور الفكري للأزمة عند النماذج الإصلاحية المختارة، والثالث: المنهجية المعرفية لمعالجة الأزمة الحضارية للأمة المسلمة، الرابع: المجال الحيوي وتشغيل المنهجية المعرفية لتلك النماذج الإصلاحية في البناء المعرفي التوحيدي.

 المبحث الأول: التغريب وضرورات الإصلاح.. مدخل معرفي

لإدراك مفهوم «الإصلاح المعرفي» ومضامينه وضرورته في العالم الإسلامي، ينبغي أولاً: رصد وتحليل المشهد الفكري والثقافي العام في العالم الإسلامي إبان القرن الثامن العشر، وهو القرن الذي شهد بدايات حركة الإصلاح المعرفي التي تزامنت مع النهضة الأوروبية العلمية والصناعية، كما أن بدايات القرن الثامن عشر شهدت تشكيل الأفكار الأساسية في هذا المشهد والخطوط العريضة لمعالم «الإصلاح المعرفي» في الفكر الإسلامي.

تــركــيـا

يبدأ المشهد الفكري من حالة الضعف الذاتي[23] الذي كانت تعاني منه الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر دون أن يكون هناك إدراك حقيقي من قِبَل السلطة الحاكمة لهذا الضعف، ويرجع ذلك لعاملين، الأول: أن التفوق الأوروبي لم يكن بارزاً بالصورة التي تُشكِّل خطراً واضحاً على الدولة العثمانية والذي برز لاحقاً في القرن التاسع عشر، والثاني: يتمثل في كون الدولة العثمانية لا تزال في تصنيف الدول العظمى (أو الإمبراطوريات الكبرى)، هذا التصنيف الذي بدأ في التراجع في التاريخ المذكور.

غير أن عدداً من المؤرخين المعاصرين الذين درسوا التاريخ العثماني وجدوا بعضاً من الرسائل التي وُجِّهت إلى السلاطين في فترة مبكرة -قبل «تفكيك الخلافة 1926م»- تُنذر بالمخاطر الفكرية والتراجع في العلوم والتقنية داخل دولة الخلافة، ومن الرسائل المهمة في هذا الصدد رسالة «أصول الحِكَم في نظام العالم»[24]، وقد تضمَّنت هذه الرسالة ثلاثة محاور في استراتيجية قيام الحضارات وانهيارها، إحداها: مؤسسة السلطنة التي بدأت بالانكماش والانزواء عن الحياة السياسية، وثانيها: تعطيل الشورى والاستبداد بالرأي، وثالثها: هو الوضع المتراجع للمؤسسة العسكرية العثمانية لاسيما ما يتعلق بجمود العقلية العسكرية وعدم قبولها للتحديث في مجال استخدام الأسلحة الحديثة واقتباس أساليب الحرب المتطورة.

وأيضاً ما قدمه «قوجي بك» الذى شرح في رسالة مختصرة للسلطان مراد الرابع (1623 – 1640م) المجالات التي يظهر فيها الضعف وينتشر الفساد. كما كتب –أيضاً- «حاجي خليفة» رسالة بعنوان «دستور العمل لإصلاح الخلل»، ركَّز فيها على الجوانب الاقتصادية والإدارية التي يتبدَّى فيها الخلل والفساد. وكتب «حسين هزار فن» كتاباً بعنوان «تلخيص البيان في قوانين آل عثمان»، حمل فيه بقسوة على أولئك الذين يخرقون النظام ويُفسدون، ولم ينجُ من نقده واتهامه أعلى رجال السلطة والإدارة[25].

واستمرت هذه الرسائل حتى عهد السلطان عبد الحميد الثاني والذي طلب من أحد العلماء وهو «أحمد جودت باشا» (1822 – 1895) أن يكتب له تقريراً يوضح فيه أحوال الدولة العثمانية، ومطالب الإصلاح فيها، ومواطن الخلل. وأكد جودت باشا في هذا التقرير على جوانب الضعف التي أصابت الدولة العثمانية عبر عصور مختلفة عاشها، ورأى حالة التغريب والتغرّب الذي بدأ يدب في أوصال دولة الخلافة، وفي جوانبها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد نبَّه جودت باشا في هذا التقرير إلى «أن إصلاح الدولة العثمانية ينبغي أن يتم في إطار الشريعة والتكوين الإسلامي للدولة، مع الاستفادة من التقدُّم العلمي الذى حقَّقته أوروبا، والاستفادة من منجزات الحضارة الأوروبية المادية، دون قيمها وأسسها الفكرية والثقافية، وأن تستفيد من النظم العسكرية والإدارية لكن بما يناسب أصولها ولا يتعارض مع الشرع، وأنه من الضروري، أن يتمسَّك رجال الدولة بالمحافظة على العرف والتقاليد بوصفها ضوابط لا يمكن تجاهلها»[26].

وهناك رسائل أخرى تثبت بما لا يدع مجالاً للريبة أنه كان هناك وعياً ذاتيًّا بمسألة الإصلاح لدى العلماء والمفكرين، توجهوا برسائلهم إلى أهل السلطان، الذين لم يُولوا هذه الرسائل اهتماماتهم، ثم توجَّه بعضهم إلى الإصلاح عبر الخارج الأوروبي ومن خلال «التغريب» أحد مبتكرات التفوق الأوروبي والتراجع العثماني.

مع تنامي الضعف داخل الدولة العثمانية واستمرار التفوُّق المادي الأوروبي في الصعود، لم يجد السلاطين العثمانيون إلَّا الخيار الأقرب والأسهل في تصورهم لمعالجة القصور والضعف من ناحية، واللحاق بالصعود الأوروبي أو تقليل الهوة من ناحية أخرى، وكان هذا الخيار هو «النقل والاقتباس»، أو استيراد أفكار النهضة والتقدم بدلاً من معالجة المثالب والعيوب الذاتية، وقد بدأ استخدام هذا النهج فيما يتعلق بالمجال العسكري، والذي لاقت فيه الإمبراطورية هزائم متعدّدة من الداخل والخارج، وكانت هذه البداية في عهد السلطان مصطفى الثالث (1757 – 1773م) حيث «تم استحضار النموذج الأوروبي الحديث، واستمر هذا الاهتمام بالمجال العسكري أساساً لسلاطين الدولة العثمانية –لتستطيع الدفاع عن نفسها وسط إرهاصات التفوق العسكري الأوروبي– وذلك حتى مجيء السلطان محمود الثاني، حيث شملت إصلاحاته جوانب إدارية وتعليمية أخرى على النظام الأوروبي»[27].

كما مسَّ التغريب «مظاهر الحياة الاجتماعية في الدولة العثمانية، وتبدَّلت العادات والمظاهر الاجتماعية لمسايرة الحياة الغربية والنمط الأوروبي، وتبنَّت الارستقراطية العثمانية أسلوب الحياة الأوروبية، وبدأت الطبقة العليا من الأتراك في ارتداء الزي الأوروبي، واستقدام الموسيقى الأوروبية، وتأثيث البيوت على النسق الأوروبي»[28].

كما تغلغل «التغريب» داخل نظام القيم الذي لم يسلم منه، «حيث أُلزم الموظفون بارتداء الملابس الأوروبية مع لبس الطربوش، وفي القرن التاسع عشر دخلت الفنون الموسيقية، مع مجيء أوركسترات أوروبية، واستيراد الآلات الموسيقية، وانتشرت موضة البيانو بين سيدات الطبقة الارستقراطية، بل إن الأمر وصل إلى حد تأثر الموسيقى التقليدية بالألحان الغربية... كما شهدت الزخرفة والعمارة الغربيتان توسعاً سريعاً...»[29].

وتمثلت النقلة النوعية لحركة «التغريب» فيما عُرف في الدولة العثمانية بحركة «التنظيمات» أو «خط كلخانة» (1839)، حيث انتقلت مشروعات التغريب، إلى يد رجال الدولة من الإصلاحيين المؤمنين بالغرب، وعلى الرغم من أن خط كلخانة يؤكد أن عدم الانقياد إلى الشرع الشريف كان السبب فيما أصاب الدولة خلال القرون الماضية من تدهور وضعف وأن المقصود من هذا الخط هو إحياء الدين والدولة والملة. ومع ما يحتويه هذا المرسوم من مبادئ كان يجب على الدولة العثمانية الأخذ بها من أجل تدعيم البناء الداخلي للدولة، وهو ما ظهر أيضاً في الخط الهمايوني (1856)، إلا أن هذه المراسيم كانت سبيلاً للاعتماد الكامل على القانون الأوروبي وفتح الباب لميدان استيراد الأفكار التي كان يختص به النموذج المعرفي الإسلامي وتميّزه وتشكّل البناء العقلي لأفراده.

ومن الانعكاسات الفكرية المهمة في ميدان الفكر الإسلامي آنذاك ظهور محاولات لتقنين الفقه الإسلامي، ومحاولة طرحه في صورة تلائم الأوضاع والمتغيرات الجديدة، لاسيما بعد قيام المحاكم النظامية في تركيا، فتشكّلت لجنة من بعض الفقهاء برئاسة وزير العدلية لصياغة مجموعة من أحكام المسائل الشرعية على هيئة يسهل الرجوع إليها مثل القوانين، وأنتجت هذه اللجنة مجلة «الأحكام العدلية»، وقد صنّفت مجموعة من الأحكام مختارة من المذهب الحنفي، وقامت الإدارة العثمانية باعتمادها كأول قانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي.

وقد شكّلت «الأحكام العدلية» باعتبارها أول تقنين رسمي للأحكام الشرعية اتجاهاً عامًّا لتقنين وتنظير الفقه الإسلامي لمواجهة الواقع المتغيّر من جهة، وكردّ فعل على حركة الجمود الفقهي من ناحية أخرى، والذي أتاح للقوانين الأوروبية العمل في المجتمع الإسلامي[30].

وفيما يتعلّق بنظام التعليم المسؤول عن التشكيل المعرفي للإنسان داخل المجتمع، وفي ضوء التغلغل الواضح لحركة التغريب؛ نجد -وكما يشير جوستين ماكارثي- أن التغيير (الناتج عن التغريب) الأكثر تأثيراً نتج عن النظام التربوي الأوروبي، «فكتب الحساب والمثلثات الضرورية للهندسة العسكرية والمدفعية كانت مكتوبة باللغات الأوروبية، وخاصة الفرنسية لغة القرن التاسع عشر في أوروبا، والتعليمات لتشغيل الآلات وكتيبات التصليح كانت أيضاً باللغات الأوروبية»[31]، «كما بدّل السلطان محمود التوجّه الألسني للحكومة، أعطيت مكاتب الحكومة تعليمات بفتح أكثر المدارس نجاحاً مكتب الترجمة التابع لوزارة الخارجية الذى أسس عام 1833م. ولم يخرج هذا المكتب مترجمين فحسب، وإنما ساهم في تدريب الإداريين الذين اكتسبوا توجّهات غربية. وفتحت اللغة أمام الإداريين العثمانيين وكبار الرسميين باب الثقافة الأوروبية، وبسرعة أصبح خريجو مكتب الترجمة قادة السلطة التنفيذية في الدولة»[32].

ومن ناحية أخرى نلاحظ أنه -وفي ظل الاهتمام بالتعليم العسكري في بدء الاتصال بالغرب- لم يتم الالتفات إلى التعليم الديني، «فالنظام التعليمي الحديث تمركز في مجالين، أحدهما عسكري والآخر مدني، هدفه مد الجيش والإدارة بالكوادر اللازمة لهما وفي حدود حاجة الدولة للعمالة في كل قطاع. وكان التعليم العسكري أيسر منالاً في ولايات العراق والشام من التعليم المدني الذى كان القبول فيه يتطلب فرزاً اجتماعيًّا دقيقاً جعله قاصراً على أبناء الأعيان، بينما ظلّت المدارس الدينية الإسلامية تقدّم لطلابها الثقافة الدينية التقليدية، اعتماداً على ما كان لديها من أوقاف تدرّ عليها من أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى، وظلت تلك المدارس – في معظمها –تقدّم تعليماً دينيًّا لم يتأثر بالاتجاهات الإصلاحية الحديثة، وإلى جانب هذين النظامين قام نظام تعليمي ثالث، قدّمته مدارس الإرساليات التبشيرية على اختلاف مذاهبها[33].

كما انتشرت المدارس العلمانية التي تخرّج أصحاب المهن اللازمة لتلبية احتياجات الجيش الجديد الذي كوّنه باسم العساكر المحمدية المنصورة، واحتياجات المجتمع، كما تأسست المدارس الإعدادية (الرشيدية) لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، والمدارس الفنية لتنشئة الموظفين، ومدرسة الحربية لتنشئه الضباط، وأنشئت المؤسسات التي تهتم بالشؤون الصحية والطبية في الدولة[34].

وأدخلت اللغة الفرنسية إلى المدارس إلى جانب اللغة التركية في المدارس التي يلتحق بها أفراد الأقليات غير المسلمين والأتراك من أبناء الأسر الميسورة. وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية فرنسية في غالبيتها، وتدار من جانب المبشرين، وظهرت مؤسسات علمية على نسق أوروبي مثل «مجلس المعارف»، الذي قام على غرار الأكاديميات الفرنسية لإعداد الكتب التي ستدرس في الجامعة المزمع تأسيسها، والغرض الأصلي منها إيجاد شكل أكاديمي يحقق اتصالاً بالحياة الفكرية والعلمية الأوروبية.

وافتتحت الجامعة وكانت تسمى دار الفنون 1286هـ/ 1869م، وسار هذا جنباً إلى جنب مع التعليم الديني الموجود في المدارس والكتاتيب، وهو القاعدة بالنسبة للمناطق الريفية البعيدة عن تأثير المثقفين العثمانيين آنذاك. ومن أهم التغيرات التي أتت بها التنظيمات –أيضاً– استخدام الأقليات في مجال التعليم مما يعد أمراً جديداً في تاريخ الدولة التركية[35].

وفي ظل السلطان عبد العزيز (1861 – 1876م) بدأ التعليم العام الواسع النطاق لتخريج موظفين، وشملت بنيته: تعليم أولي، مخصص من حيث المبدأ للأطفال اعتباراً من السادسة من العمر؛ مدارس أولية عليا، كليات. وقد أنشئ الليسيه الأول في جالاتا – سراي عام 1868م، وكان يجرى تدريس الفرنسية فيه، وقد أصبح بؤرة لتفريغ مثقفين وموظفين، وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية (فرنسية في غالبيتها وتدار من جانب رهبانيات كاثوليكية)، وكان يتردد عليها في آن واحد أفراد من الأقليات وأتراك من الأسر الميسورة الحال.

وقد أتيح للبنات، لأول مرة، الحصول على تعليم حديث على النمط الأوروبي[36]. وكذلك أيضاً حدث في عهد السلطان عبد المجيد (1839 – 1861م) الذي عرف بتبنيه الكامل لمشروع التغريب، حيث تحولت في عهده مؤسسات الثقافة التركية إلى مؤسسات تُبشّر بالمشروع المعرفي الغربي، وتأسست في عهده في إسطنبول أول جامعة حديثة، حيث يحذو تعليم العلوم حذواً أوروبيًّا، كما أمر بإنشاء أكاديمية العلوم العثمانية (أنجومين – أي دانيش) عام 1850م.

ومن أبرز رموز التغريب ودعاته في تركيا رشيد باشا (1800 - 1858م)، إبراهيم شناسي (1826 - 1871م)، ضيا باشا (1825 - 1880م) ، نامق كمال (1840 - 1888م)، مدحت باشا (1822 - 1885م)، عبدالله جودت.

ثم كان بعد ذلك الحدث الأكبر في تاريخ العالم الإسلامي منذ نشأة دولة المدينة (622م) وهو إعلان تفكيك الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك، والتي في ضوئها انقسم العالم الإسلامي إلى قسمين أساسيين تجاه مسألة الإصلاح، الأول: اعتمد النمط الأوروبي عن طريق «النقل والاقتباس»، والثاني: اعتمد في توجهاته الإصلاحية على أصالة المجتمع الإسلامي ونموذجه المعرفي المستمد من العقيدة؛ ومن هنا اكتمل شكل الازدواجية المعرفية واتخذت شكلاً إيديولوجيًّا شقّت من خلالها النسق المعرفي الإسلامي إلى نصفين، نصف تبنى المشروع الغربي في مبانيه وأصوله وفروعه، ونصف تبنى مواجهته.

مــصــــر

أما في مصر وعلى الرغم من وجود حركة فتية أرادت أن تتخطى التراجع والضعف الكائن في دولة الخلافة؛ إلَّا أنه -وبسبب ما واجه هذه الحركة من عوائق- لم يكتب لها النجاح، وتعرض العقل المصري للتغريب مثل باقي دول العالم الإسلامي، فمنذ الحملة الفرنسية (1798م) تعرضت مصر لموجة كبيرة من التغريب، بدأت بعلماء ومفكري الحملة الفرنسية الذين جاؤوا للتبشير بالفكر والثقافة والقيم الغربية[37]. ويشير فهمي جدعان إلى أهم أشكال التغريب في مصر وهي[38]:

أولاً: التغريب بالمعنى الخاص الضيق لهذه الكلمة، أي بمعنى نبذ الشرق والعرب والإسلام واللحاق مباشرة بالمدنية الغربية بكل حسناتها وسيئاتها، وأبرز من مثّل هذا الاتجاه «أحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، ومحمود عزمي»، الذين ارتبط التغريب عندهم بمفهوم «القومية المصرية» أو «الفرعونية» الضيق، المعادي صراحة لكل انتماء عربي وإسلامي وشرقي تاريخي أو ديني أو أدبي، ولم يكن العداء للعربية (الفصحى) ومعركة «القديم والحديث» إلَّا وجهاً لظاهرة التغريب.

ثانياً: الليبرالية، وهي الدعوة إلى تحرر العقول من كل سلطة عقلية سابقة، والنظر إلى موضوعات المعرفة والمجتمع والإنسان نظرة عقلية متفردة مدعومة بالفكر الوضعي الخالص. وممن ارتبط اسمهم بهذه الأفكار «إسماعيل مظهر، وطه حسين».

ثالثاً: العلمنة، وتبلورت في الدعوة الصريحة إلى تأسيس الدستور على «القانون الوضعي»، وتأسيس «الدولة على قواعد عصرية غربية» ليس للدين الإسلامي أي دور فيه، أو بتعبير مشهور «فصل الدين عن الدولة»، وممن ارتبط اسمهم بهذه الاتجاه «علي عبدالرازق».

ونلاحظ أن الإشكالية المعرفية الكبرى التي واجهت العقل المصري، وكانت مصدراً لمعاناته الفكرية، تكمن في تلك الازدواجية التي بدأت تتكوّن مع إيجاد نظامين للتعليم مسؤولين عن تشكيل البنية المعرفية للعقل المصري، هما: التعليم المدني -الذي بدأ مع تجربة محمد علي- والذي يقوم على اتباع النمط الغربي، والتعليم الديني الذي أصبح بجموده، وانسداد روافد الاجتهاد فيه، وفشل محاولات إصلاحه؛ عبئاً وليس حلًّا للواقع الراهن، وفي ضوء ذلك «بدأت مصر تعرف ذلك الازدواج الخطير بين نمطين من الثقافة: ثقافة دينية تقليدية جامدة، وثقافة علمية غربية متجددة، وكان لهذا أسوأ الآثار والشرور التي عانت منها مصر، فقد فتتت من وحدة الفكر بين أبناء المجتمع، وخلقت أخدوداً ثقافيًّا قلَّ من كانوا يستطيعون عبوره»[39].

ونتيجة لسياسة الابتعاث إلى أوروبا في ضوء غياب التحصين المعرفي من جهة، واستقدام الأوروبيين لاستخدامهم في وضع البرامج الثقافية والتربوية في مصر من جهة أخرى؛ تكونت في مصر بيئة خصبة للتغريب، ظهرت فيها كافة أفكار ودعوات المشروع المعرفي الغربي، من الدعوة إلى العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، وتحرير المرأة، والدعوة إلى السفور ومحاربة الحجاب، والتبشير بسيادة الفلسفة المادية، وتبني نظرية دارون في النشوء والارتقاء (شبلي شميل1850م، وإسماعيل مظهر 1891م، وسلامة موسى1887م).

كما ظهرت الدعوة إلى الانسلاخ عن قيم الأمة وتراثها، واللحاق بأوروبا والسير على خطاها، وأخذ كل ما فيها بحلوها ومرها (طه حسين 1889م)، والدعوة إلى الحرية والتحرر من القيم الإسلامية، ونشر دعوات تمزيق وحدة الأمة مثل الوطنية والقومية (أحمد لطفي السيد 1872م)، كل ذلك شكّل بيئة لترسيخ أفكار التغريب وتوطين مفاهيمه، وكان لذلك تأثيره الواضح على النظام المعرفي والتربوي في مصر، يشير علي خليل مصطفى إلى أهم آثار حركة التغريب على الفكر التربوي في مصر فيما يلي[40]:

1- ازدواجية النظام التعليمي بين تعليم ديني وتعليم مدني، فأصبح يعاني من الفصام الاجتماعي والفصام الشخصي.

2- ترديد أفكار الغرب واعتماد الدراسات التربوية على الفكر الغربي اعتماداً كاملاً، مما كان له أثر بالغ، فقد أقام التعليم المصري على أساس غربي، وعامل الشخصية المصرية المسلمة على أنها شخصية غربية تماماً.

3- محاولة إقصاء اللغة العربية، سواء كان ذلك عن طريق إحلال اللغة الإنجليزية مكانها كما حاول «دنلوب»، أو بإضعافها عن طريق الدعوة إلى استخدام اللغة العامية، بما يفصل الإنسان المسلم عن عقيدته القرآنية وولائه للإسلام.

4- عزلة التربية والتعليم عن المجتمع وقضاياه ومشكلاته الحقيقية.

إيــــــران

وفي إيران كان للحرب الإيرانية الروسية وما تبعها من هزيمة للإيرانيين ومعاهدة تركمان چاى (1828م) -التي سنت بموجبها امتيازات كثيرة للأجانب- دور كبير في التوجّه نحو النمط الغربي في وسائل الحرب وفنونها. ولم يعد لدى الإيرانيين من خيار سوى إعداد جيش على الطراز الحديث، فأنشؤوا مدرسة «دار الفنون» في منتصف القرن التاسع عشر (1851م) في عهد الدولة القاجارية، وتضمنت في دورتها الأولى «سبعة أقسام» هي: الرياضة والهندسة، والطب والجراحة، والصيدلة، وعلوم المعارف، وثلاثة أقسام أخرى خاصة بـ«علوم العسكرية»[41].

وعلى الرغم من استقدام مدرسين أجانب لهذه العلوم، وانتقاء الطلاب من غير المدارس الدينية، والتحوّل الإداري والقانوني الذي شهدته مدرسة «دار الفنون»؛ إلا أنه لم يعترض أحد من علماء الدين «الروحانيون»، وذلك لرغبتهم في إعداد جيش قوي يتم به مواجهة الروس مرة أخرى، إلا أنه لم يتم التعايش مع مدرسة «دار الفنون» من قبل رجال الدين إلَّا لفترة محدودة انتهت ببدء الدورة الثانية لهذه المدرسة (1859م) التي تأسست فيها مجموعة من الأقسام الدراسية الأخرى، تهتم بتشكيل القيم، وتتدخل في الثقافة والأخلاق، وهذه الأقسام هي «المسرح والتمثيل»، «النحت والتصوير»، و«الموسيقي»[42].

وفي هذه المرحلة بدأ الصراع بين رجال الدين كمدافعين عن التعليم التقليدي (الديني) وما يحمله من قيم وخصائص، وفئة «المتغرّبين» الذين درسوا في أوروبا هذه العلوم الجديدة وعادوا لتدريسها في مدرسة دار الفنون وما تبعها من مدارس أخرى على ذات النمط الغربي. فبعد نصف قرن تم إنشاء عدد من المدارس المشابهة، فأنشئت مدرسة الحقوق والعلوم السياسية (1899م) ومدة الدراسة فيها 4 سنوات وتنتمي إلى التعليم العالي، ثم أنشئت في عام (1908م) مدرسة الطب ومدة الدراسة فيها (5) سنوات، كما أنشئت المدرسة العالية للزراعة والحرف المهنية عام (1922م)، ومدرسة المهندسين عام (1926 م)، والمدرسة البيطرية عام (1932م).

ويعتبر الإيرانيون افتتاح «دار الفنون» واستقدام معلمين ومناهج ودراسات غربية من العوامل المؤثرة والفعالة في انتشار وترويج الفكر الغربي في إيران، لا سيما فيما يتصل بمنظومة القيم والثقافة. وقد وصل عدد الخريجين خلال أربع سنوات 1100 طالبٍ، وكان أغلبهم من أسر معروفة، وذات نفوذ كبير، وشغل أغلبهم مناصب عليا في الدولة، وكانوا في الوقت نفسه يسعون لنشر الثقافة الغربية[43].

ومن النتائج المهمة لإنشاء دار الفنون ما صاحبها من إنشاء دور للنشر والطباعة، وتأسيس الصحف، وهو التطور الجديد على الحياة الثقافية في إيران في ذلك الوقت، على الرغم من المحاولات السابقة لميرزا صالح الشيرازي في إنشاء الصحف، إلَّا أنه مع نشأة دار الفنون تأسست دور الطباعة والنشر بصورة أسرع، وقد صدرت في البداية ثلاث صحف: الصحيفة العلمية، الصحيفة الرسمية الحكومية، والصحيفة القومية. كما كان لاستقدام مدرسين أجانب دوره في الاتجاه نحو الترجمة وتعلم اللغة الفرنسية، وهي لغة التعليم الأولى في مدرسة دار الفنون، ثم تبعتها اللغة الإيطالية والألمانية، كما أصبحت هذه اللغات تدخل ضمن المنهج والمقرر الدراسي للمدرسة وما تبعها من مدارس أنشئت على النمط الغربي نفسه. هذا بالإضافة إلى دور هؤلاء المعلمين في نشر القيم والثقافة الغربية داخل قاعات الدرس للطلاب الذين لم يتلقوا أي نوع من التعليم الديني، كما أن مدرسة دار الفنون في منهجها ومقرراتها غاب فيها –أيضاً – الدرس الديني.

وفي هذه الأثناء ظهر جيل جديد من المثقفين الإيرانيين الذين تبّنوا (الفكر الغربي)، وتمثّلوا أفكاره، لا سيما ما يتعلق بالنظرة إلى الدين ومهامه ووظائفه في حياة الإنسان، لدرجة وصلت إلى معاداة الدين، باعتباره أسّ التخلّف، كما فعل التنويريون الغربيون مع الدين المسيحي؛ «فقد تأثر الجيل الأول من تيار التنوير الإيراني بروحية معاداة الدين والمؤسسة الدينية التي كانت سائدة في أوروبا. ومن هنا اتخذ هؤلاء موقفاً معادياً من الدين، وتوجهوا نحو الأصول القومية، فقفزوا إلى الوراء ليتجاوزوا الإسلام بوصفه مرحلة تاريخية دخيلة من عمر إيران والإيرانيين، ويعودوا إلى تاريخ الأجداد الساسانيين»[44].

وقد ارتبطت المؤسسات التعليمية الحديثة، ومصطلح المستنيرين بمن يروجون للفكر الغربي وباستعداء الدين واستبعاده من حركة النهضة الإيرانية، ومن ذلك ما كتبه جلال أحمد عن هذه الحالة فيما أسماه «درخمت وخيانة روشنفكران» (المستنيرون خدمة وخيانة)، والمصطلح يشير بوضوح إلى هؤلاء الذين يميلون للغرب ويرجحون أفكاره وينقلونها.

وعلى الرغم من محاولات السلطة الحاكمة منذ إنشاء مدرسة «دار الفنون» إقصاء المعرفة الدينية أو تحويلها إلى معارف ضمن التعليم الحديث «إلَّا أنه -وحسب الإحصاء الرسمي لعام 1966م- بلغ تعداد رجال الدين العاملين في إيران أكثر من 12 ألف شخص، 174 منهم من العنصر النسائي، وبعد سبع سنوات ارتفع الرقم الأول إلى 15 ألف شخص، أما المدارس الدينية فقد وصل تعدادها إلى 299مدرسة، تضم حوالي 140 ألف طالب، كان أكثر من 6 آلاف منهم في مدينة قم وحدها»[45].

وفي عهد الدولة البهلوية (1924 - 1979م) يدخل التعليم في إيران مرحلة جديدة، حيث بدأ عهد إنشاء الجامعات، حيث أنشئت جامعة طهران عام (1313هـ.ش-1924م)، والتي مثّلت نقطة تحوّل في تاريخ التعليم في إيران، وتم بها تأسيس (6) كليات هي «كلية علوم المعقول والمنقول»، «كلية العلوم الطبيعية والرياضية»، «كلية الآداب والعلوم التربوية»، «كلية الطب»، «كلية الحقوق والعلوم السياسية»، «الكلية الفنية والمهنية».

وبعد حوالي 30 عاماً من إنشاء جامعة طهران، تم تأسيس المجلس المركزي للجامعات في حوالي عام (1344هـ.ش - 1965م) بهدف دراسة وبحث أوضاع الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في إيران، ثم تم تأسيس وزارة العلوم والتعليم العالي عام (1346هـ.ش - 1968م) بهدف تحديد وتنظيم أمور الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ثم إنشاء «المجلس المركزي للتعليم»، «مجلس النشر والطبع»، «مجلس التعليم الطبي»، وكل هذه المجالس كانت تابعة لوزارة التعليم العالي. ومع أهمية هذه المؤسسات لحركة النهضة إلَّا أن إقصاء الدين والمعارف الدينية منها جعلها ترتبط في أذهان الإيرانيين بعملية التغريب؛ فضلاً عن أن الذين يعملون بهذه المؤسسات كان يغلب عليهم الطابع الثقافي والفكري الغربي واستبعاد الدين، كما ذكرنا سابقاً.

ولم تتوقف محاولات السلطة في سبيل هذا الإقصاء، حيث اتخذ الشاه مجموعة من الإجراءات التي كان من شأنها تقليص المدارس الدينية، حتى وصل عدد طلابها في أواخر عهده إلى 784 طالباً. ويشير بعض الباحثين الإيرانيين إلى أن الأهداف الحقيقية لإنشاء الجامعة الإيرانية تتحدد في «توفير الكوادر الفنية والتخصصية التي تسد احتياجات الجهاز الحكومي في الدولة، بالإضافة إلى النواحي العسكرية والصناعية، وذلك من خلال تأسيس أقسام دراسية وتخصصية توفر القوة الإنسانية المدربة في هذه الميادين والتي لم تكن موجودة في الحوزة العلمية أو نسق التعلم الديني الحوزوي»[46].

ويذكر صديق أن الهدف الأصلي من تأسيس الجامعة هو «تخريج نخبة بيروقراطية حكومية لسد احتياجات الجهاز الإداري المستحدث من قبل رضا شاه بهلوي، والذي نقله من أوروبا»[47]، أما سلطان نزداد فيرى أن جامعة طهران أنشئت بغرض «الترويج للقيم والثقافة الغربية، وإقصاء كل ما هو مقدّس وديني في المجتمع الإيراني»[48].

وقد قابلت الجامعة التعليم الديني (الحوزة) ليس فقط في النسق والنظام التعليمي وشروطه وطريقته الجديدة؛ بل أيضاً من حيث الاتجاه الفكري، فما لبثت الثقافة الغربية -وبالتحديد الماركسية- من التغلغل في الوسط الجامعي بجميع عناصره: الأساتذة، المقررات والمناهج العلمية، الطلاب، حتى إن بعض الإحصاءات تشير إلى «أن أكثر من 80% من طلاب الجامعة الإيرانية في الفترة من (1941 – 1953) كانوا ينتمون فعليًّا إلى حزب توده الشيوعي»[49].

ويشير جلال آل أحمد في كتابه «نزعة التغريب» إلى دور الجامعة الإيرانية في الترويج للفكرة الغربية وخدمة مصالح الشاه فيقول: «... أما الجامعة الوطنية فهي حانوت المستنيرين المتغربين العائدين من الخارج.. وقد دعاهم لافتتاح هذا الحانوت الخاص، كثرة ما شاهدوه وسمعوه من ترهات التقاليد المتحجرة في جامعة طهران. فلم يأنفوا من التوسل بمسؤولين من هذا النوع لتأسيس هذه الجامعة... أما جامعة طهران والتي من المفروض أن تكون مركزاً ضخماً للأبحاث العلمية والدراسات المعمقة.. فنجد الفروع الجامعية الخاصة بالتقنية والصناعة والميكانيكا (كليات العلوم الصناعية) لا تخرّج في النهاية سوى حرفيين جيدين للصناعات الغربية، ولا أثر فيها للبحوث العلمية الحديثة، أو الاكتشافات والاختراعات، ولا حلول للمشكلات القائمة، ولا أي شيء آخر ليس ثم سوى مصلحي ومشغلي المكائن والصناعات الغربية»[50].

وقد حاول رضا خان (1878 - 1944م) إنشاء بديل في الجامعة الإيرانية للتعليم الديني عن الحوزة، فأسس كلية «المعقول والمنقول» بهدف تربية جيل جديد من رجال الدين على العلوم الحديثة، بما يمكنه من مزاحمة رجال الدين في الحوزة.

كان استبداد رضا خان واعتداده القومي إيذاناً بولادة جيل جديد من القوميين يعتقدون أن سر تقدم الغرب يكمن في تطور مؤسساته السياسية، وبالتالي يقتضي اللحاق به تأسيس دولة مركزية قوية تقوم على أساس ثقافة سياسية جديدة مقتبسة من الغرب المتقدم. ومن هنا استندت دعوة رضا خان على ركيزتين، هما: «الحداثة، والقومية... وقد حظيت سياسة رضا خان في مواجهة علماء الحوزة ومحاربة التقاليد والقيم الإسلامية بتأييد كل من الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، وقد كان مدافعاً صريحاً، بل ومؤيداً لكل من يهاجم الحوزة وعلماء الدين في منشوراته أو صحافته»[51].

ولم يستطع رضا خان استبدال ثقافة المجتمع الإيراني بثقافة جديدة بالكامل، ولكنه على الرغم من ذلك استطاع إحداث «ازدواجية ثقافية»، أو على الأقل أوجد أرضيتها المؤسسة لها، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات التي اعتمدها، ومنها «أمره بنزع حجاب النساء، اعتداؤه على الحوزة وعلماء الدين، إحياؤه لتاريخ إيران ما قبل الإسلام، تأسيسه لنظام قضائي جديد مستقل عن المحاكم الشرعية التقليدية، تأسيسه لنظام تعليمي جديد، إقراره لقوانين جديدة، إقراره للمركزية السياسية، وغير ذلك من الإجراءات التي كانت تهدف في روحها إلى مواجهة الحوزة والمؤسسة الدينية، ومن جهة مصدرها كانت مستوحاة من تجربة أتاتورك في تركيا»[52].

كما ظهرت النزعة التغريبية في التعليم في عهد الشاه رضا خان في البعثات التعليمية التي كان يرسلها الشاه إلى أوروبا، ثم توفير مناصب لهؤلاء الطلاب في المؤسسة التعليمية، «كما حاول الشاه مجابهة النزعة الدينية في إيران والتي كانت تقودها مدارس الحوزة العلمية، ففرض الملابس العصرية على رجال الدين لا سيما القبعة البهلوية، وحظر لباس رجال الدين إلا بعد الحصول على إذن رسمي بذلك، وألغى بعض المناسبات الدينية وأصبح الذهاب إلى الحج بتصريح خاص، وقلّص عدد المدارس الدينية، واتهم رجال الدين بالتخلف والخرافة»[53].

ومن مظاهر التغريب –أيضاً – «صدور مرسوم ملكي في 7 يناير1935 بتحريم الحجاب على المرأة في إيران، وحظره على التلميذات والمعلمات في أثناء الدرس»[54].

واتجه الشاه -أيضاً- إلى تبني النزعة القومية في التعليم من خلال القيام بعملية «تفريس التعليم»، وذلك عن طريق «فرض اللغة الفارسية على جميع المدارس الموجودة في إيران حتى التي يقطن غالبيتها عرب، كما أصبح لحزب النهضة القومي في إيران دور مهم في وضع المناهج والمقررات الدراسية، ونشر الأفكار القومية عند الناشئة في مراحل التعليم المختلفة»[55]، «وترجيح العنصرية القومية على الديانة الإسلامية في تعريف الهوية الوطنية الإيرانية في التاريخ ماضياً وحاضراً، وإعطاء الأهمية القصوى لإيران «القديمة»، ومدح الأفكار والأهداف المسيطرة في تلك الفترة، من دون ذكر السلبيات والمفاسد السياسية والاجتماعية لها»[56].

وفي عام 1976م تحدَّى الشاه رجال الدين وقام بتغيير التقويم الإسلامي الرسمي الذي كان يبدأ من هجرة النبي من مكة إلى المدينة إلى ولادة الإمبراطورية الأخمينية قبل ألفين وخمسمائة سنة، «كانت لدى الشاه رغبة في الرجوع إلى ما قبل الإسلام، وأراد أن يلتحق بنسب قورش -مؤسس هذه الإمبراطورية- لكي يخفف من الطابع الإسلامي للشعب الإيراني»[57]، وكان هدف الشاه من هذه السياسات «ربط إيران بالحضارة الغربية وبالنظام العلماني الذي كان بالضرورة على حساب سلطة رجال الدين»[58].

نخلص من هذا المشهد إلى أن محاولات التغريب أرادت أن تنفذ إلى تصورات العقل المسلم ونظامه القيمي، وأنها حاولت اختراق بناء الثقافة الإسلامية وحصنها، وقد أحدث ذلك مجموعة من الخروقات في البناء المعرفي الإسلامي، كان أبرزها تلك الازدواجية المعرفية التي أحدثت انقساماً في العقل المسلم لم يلتئم بعد، وشقت نظامه المعرفي ونسقه الفكري إلى نصفين أطلقت على أحدهما ديني، والآخر دنيوي، وابتدعت محاولات التغريب صراعاً لم يكن له وجود في الواقع الإسلامي وحضارته: بين الدين والحياة، والدين والتقدم، والدين والعلم.

ومن ثم جاءت هذه الدراسة لإلقاء الضوء على بعض الجهود التي حاولت القضاء على مكونات هذا الصراع، والتأكيد على العناصر المعرفية للحضارة الإسلامية في تكاملها وانسجامها في ضوء النموذج المعرفي التوحيدي.

 المبحث الثاني: التصور الفكري للأزمة الحضارية

أولاً: مصطفى صبري «شيخ الإسلام» (1869 – 1954)[59]

ينطلق «مصطفى صبري» في بناء رؤيته المعرفية للإصلاح من تحديد دقيق للعوامل التي أدت إلى الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية آنذاك، والعوامل التي يراها الأكثر تأثيراً في تخلف المسلمين يشير إليها في عدة محاور هي: محور التقليد للغرب وما تبعه من انتشار واسع لحركة وتيار التغريب بين «المجددون المسلمون»، وكتب فيه مؤلفه «ديني – مجددلر»، «مجددو الدين»، والمحور الثاني: الفساد الأخلاقي والتربوي والعلمي، والثالث: محور فصل الدين عن السياسة.

ويذكر في هذا الصدد قوله: «السبب الحقيقي لتأخر المسلمين منذ زمان فساد أخلاقهم وضعف إيمانهم بالقدر وقوة جهلهم... ومن جملة الأسباب عدم وقوف كل أحد منهم عند حده فيتدخل بعلوم من لا صلة له بها ولا يتركها لعلمائها ولاسيما العلوم الدينية، التي أصبح حماها عرضة للناس يدخله من يشاء ويركض برجله في طوله وعرضه، من غير حاجة إلى استئهال له وقضاء عمر في دراسته، في حين أن الغرب آمن بنظام التخصص وأسس بنيان رقيه عليه، ومن لم يبالِ بهذا النظام ورّط نفسه ولا يضع حداً لما يقع فيه من الأخطاء»[60].

ويذكر أن خطته الإصلاحية ترمي إلى إصلاح الجانب الثقافي والمعرفي، وذلك لأن الخلل في هذا الجانب جعل العقل المسلم يرتبط بعقل الغرب وتصوراته ومفاهيمه، ومن ثم فخطته تتحدد في العمل على «الانصراف عن تقليد الغربيين الذى دب دبيبه وهبت عاصفته ثم رست ورسخت في أدمغة كتابنا العصريين وبعض علماء الدين... و-أيضاً – نترك التقليد في العقلية الدينية وتقدير صلتها بالعلم في معناه الصحيح، فنملك استقلالنا في العقيدة التي هي أساس الأعمال الصالحة والتي يتقدم استقلالها على الاستقلال السياسي للأمم الإسلامية، والمسلم المتعلم إنما يكون مسلماً متعلماً بالاستقلال في العقيدة الدينية، ولا يجوز للمسلم المتعلم تقليد غيره من المسلمين في العقيدة، فما ظنك بتقليد غير المسلمين»[61].

ومن ناحية أخرى فإن فصل الدين عن الدولة أنقص من الإسلام جزءًا من طبيعته الاجتماعية والسياسية، وهو ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان، «فإن فصل الدين عن الدولة أضر بالإسلام من غيره من الأديان؛ لكون الإسلام لا ينحصر في العبادات، بل يعم نظره المعاملات والعقوبات وكل ما يدخل في اختصاص المحاكم والوزارات ومجالس النواب والشيوخ، فهو عبادة وشريعة وتنفيذ ودفاع... فالإسلام ينطوي على كل ما تحتاج إليه الدولة والأمة من القوانين، فهو مستغنٍ بنفسه عن غيره، لا يدانيه في هذه الخصلة أي ملة»[62].

هذه باختصار ملامح الأزمة الحضارية كما تصورها «مصطفى صبري»، والتي تتمحور في: التغريب، الفساد الأخلاقي والتربوي، وفصل الدين عن شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو ما حاول معالجته في رؤيته المعرفية التي حاول فيها تقديم بناء فكري يعالج فيه هذه الأزمة في عدة ميادين: الإنسان المسلم وتصوراته، الأمة المسلمة ونظمها الاجتماعية والسياسية، التهديد الخارجي واختراقاته الثقافية وشبهاته الفكرية والعقدية.

ثانياً: محمد عبده (1849- 1905م)[63]

رغم الظهور الواضح للغرب في الإنتاج الفكري لـ«محمد عبده» كما في (الإسلام بين العلم والمدنية) الذي تضمن ردوداً مثّلت الأركان الأساسية في مشروعه الإصلاحي، و(الإسلام والنصرانية) الذي تضمن –أيضاً– تفنيداً لتكوينات عقلية عصر النهضة الأوروبية. وقد مثلت هذه –أيضاً– تقعيداً لمقارنة الأصول المعرفية التي يقوم عليها كلٌّ من النموذج المعرفي الإسلامي، والنموذج المعرفي الغربي... رغم كل ذلك إلا أن «محمد عبده» لم يجعل من الغرب «مطية» يضع عليها أسباب التراجع والتخلف للأمة.

اتجه «محمد عبده» إلى البحث في الذات المسلمة وما وراءها، وتكويناتها محاولاً ليس فقط التعرف على أسباب أزمتها؛ بل أيضاً إدراك نوافذ إصلاحها. وكان «الدين» هو العامل المشترك في الوجهين السابقين (الأزمة والإصلاح). وبالتحديد الموقف من «الدين» ومكانته ووظيفته المعرفية في العقل المسلم وطرائق فهمه ومنهجية تناوله، «فالدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، ويسيح به في الأرض ويصعد به إلى أطباق السماء، ليقف به على أثر من آثار الله، أو يكشف به سرًّا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكماً من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء، وتبلغ من التمتع بها ما تريد. فلما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدريج»[64].

إن توقف «الدين» عن وظيفته كان بسبب «جمود» العقل المسلم، و«الجمود» هو الذي رآه «محمد عبده» تفسيراً «داخليًّا» و«ذاتيًّا» لحالة التراجع والتقهقر الحضاري للأمة، و«الجمود» في اللغة ضد: الحركة، والتدفق، والخصب، والنماء، والجود[65].

ويقصد «محمد عبده» بجمود العقل هنا: أن العقل المسلم قد توقف وثبت في مكانه، ولم يَعُد قادراً على الحركة والتدفق الفكري، بما أفقده النماء والخصب المنتظر الناتج عن إعمال العقل في النظر في دينه ومتطلبات معاشه. وغياب «حركة العقل» أنتجت هذا «الجمود» الذي هيمن على الحياة الفكرية والاجتماعية للمسلمين فأصابها «السكون» و«اللا فعل» و«اللا عمل».

وقد صنف «محمد عبده» –بعد إجمال– المجالات التي أصابها الجمود في المشهد الإسلامي. ومنها: «الجمود في اللغة» أو ما يمكن وصفه بالأزمة اللغوية المعرفية، فاللغة ليست فقط أداة تعبير ولكنها –أيضاً- وعاء تفكير، ويرى علماء اجتماع اللغة أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين حالة اللغة وحال المجتمع، «فاللغة ظاهرة اجتماعية ترتبط بناها ارتباطاً وثيقاً بين الفكر السائد في مجتمع معين، وهو ما يؤكد افتراض العلاقة الطردية بين التخلف في مجال اللغة والتخلف الحضاري»[66].

ولهذا نعى «محمد عبده» غياب التطوير عن اللغة، وإهمال البحث فيها، والارتقاء بها لتحقيق مواءمتها للعصر، حيث إن لكل عصر لغته، وهذا ما لم تعتد به الأجيال اللاحقة من أهلها. «...وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه وهو غير مبالٍ بسلفه الأول؛ بل ولا بما كان يحفُ بالقول من أحوال الزمان، فهو لا ينظر إلا للفظ وما يعطيه، فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بُعده عن أهلها، حتى وصل حال الناس إلى ما نراهم عليه اليوم: جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في النحو وفنون البلاغة، وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها، فدرست علوم الأولين وبادت بضاعتهم»[67].

كما نبَّه «محمد عبده» إلى غلق باب الاجتهاد وغياب «العقل المسلم» عن النظر والاستنباط في مصادر التشريع (القرآن والسنة)، والركون، بل والانكفاء والتسليم الكامل لفقهٍ أدَّى دوره في سياقات اجتماعية مختلفة أُنشئ من أجلها وليس من أجلنا نحن، ومن ثم فإن وقوع «العقل المسلم» في أسر «الماضي الفقهي» وفي «كهفه» أدَّى إلى انحسار الشريعة، وفقدان الثقة بها والتماس الحق في غيرها، وسمى ذلك «الجمود في الشريعة».

هذا الجمود في فهم أحكام الشريعة جر إلى عُسر حمل الناس على قبولها: كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاماً سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها[68].

ويرفض «محمد عبده» هيمنة التقليد المذهبي للآراء الفقهية، التي نتجت في زمن مختلف وفي مكان مختلف عن الأوضاع المعاصرة والوقوف عليها، هذه الآراء التي بلغت حد التقديس عند الفقهاء المحدثين الذين يصرون على «الوقوف عند عبارات المصنفين على تباينها واختلافها واضطراب الآراء فيها»[69].

ويعد «الجمود الفقهي» أكثر أشكال الأزمة الحضارية خطورة، وذلك لأنه يؤدي إلى «الانفصال» المزدوج، الأول: انفصال المسلم عن عقيدته التي يرى فيها ضعفاً لحل مشكلاته الحيوية المعاصرة والمعاشة واللجوء إلى غيرها للحصول على هذا «الحل» أو «الحق»، والثاني: الانفصال عن الواقع المعاش والتخلف عنه لصالح واقع آخر يبعد عنه عشرات القرون؛ لذا فإن «محمد عبده» يرى ضرورة الفصل بين الوحي والتراث البشري من ناحية الارتباط بالعبادة والتقديس، «لا بد من التفريق بين التراث البشري، والوحي الإلهي الذي كان مصدر نشوء وانطلاق هذا التراث في فترة التكوين»[70].

ومن مظاهر الأزمة الحضارية -أيضاً- «الأزمة التربوية»، فقد أشار «محمد عبده» إلى «الجمود في التعليم» الذي أنشأ لنا أنماطاً متعددة من التعليم: الديني، والمدني، والأجنبي، وكل من هذه الأنماط قد أضر الأمة إما في عقيدتها أو معارفها وعلومها، أو في شخصيتها وطريقة تفكيرها. ثم أشار إلى حالة «الأمة» التي رأى في تفرقها وتمزقها أكبر جنايات «الجمود» عليها، ذلك الجمود الناتج عن عاملين: الأول: التمذهب الذي فرّق الأمة ومزّق أواصر وحدتها، ويقول في ذلك: «وأعظم ما في هذه الجناية -أي الجمود على الاجتماع الإسلامي- جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرّق المذاهب والشيع في الدين»[71]. أما العامل الثاني فهو انفصال شرط «الأعلمية» و«الفقاهة» في الدين عن الرياسة السياسية، «...كانت الملة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم. وبدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون G»[72].

كما حَمَلَ «محمد عبده» على الحكام ودورهم في الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة، وذلك بقدرتهم على إخراجها من الحالة التي هي فيها، لما لهم من سلطة وحكم وتأثير وقدرة، إلَّا أن عدم قدرتهم على «الفهم» الحقيقي لدورهم ودور «الحكومة» في حياة المجتمع أدَّى إلى مشاركتهم في حدوث هذه الأزمة وكانوا سبباً لها، ويقول في هذا الصدد: «أما الحكام، وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة ولم يفهموا من معنى الحكم إلَّا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلاً، ولا يستشيرون كتاباً، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا الأخلاق كافة بما حملوها على النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظُلم وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إلَّا حل بها العذاب»[73].

ثالثاً: علي شريعتي (1933-1977م)[74]

الأزمة عند شريعتي أزمتان: أزمة أمة وأزمة مذهب، إلَّا أن تشابك الأسباب وتداخل العوامل التي أدَّت إلى الأزمتين لا يساعد على تحقيق الانفصال بينهما في كتابات شريعتي وفكره، فهو تارة ينتقل من الأمة إلى المذهب وأخرى من المذهب إلى الأمة، في حال اتصال وجدل صاعد وهابط، للبحث في عناصر الأزمة وتحديدها، وإدراك مظاهرها. مؤكداً على وحدة الأزمة للذات المسلمة، وعابراً بفكره من مذهبه إلى أمته.

يرى شريعتي أن هناك عاملان للأزمة: أحدهما خارجي، يتمثل في الغرب الرأسمالي الذى يستهدف في برنامجه الشرق كله، بهدف تحويله من حيث الشكل والمظهر إلى النمط الثقافي الغربي، ببث –بحسب شريعتي– «الروح المادية الحقيرة» و«فلسفة أصالة الاستهلاك»، وذلك من خلال تسخير كافة وسائله وإمكاناته المادية والفكرية والنفسية، «من قوة العلم والفلسفة والتقنية والفن والأدب، وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، وسلاح الحرب والسلام والسياسة، وذلك بهدف تنازل الأمم كلها عن أصالتها وخصائصها المعنوية والتاريخية والدينية والقومية التي تشكّل شخصيتها واستقلالها»[75].

التهديد الذي يُنَبِّه عليه شريعتي وبنى عليه هاجسه الحضاري هو رغبة الغرب في سحق الهوية والثقافة، وتحقيق الهيمنة الكاملة، وقولبة الإنسان غير الغربي في صورة غربية، وتحطيم كل حصون الاستقلال والتميز الحضاري، «بحيث تصبح البشرية كلها في قالب واحد مفروض عليها... ذوي طابع واحد وروح واحدة وحاجة واحدة وأسلوب حياة واحد وقناعة وفكر واحد، ويصيرون مستهلكين متشابهين في ظل النظام القاروني العالمي»[76].

أما العامل الآخر فهو داخلي، ورآه شريعتي بأنه الأكثر خطورة في أزمتنا الحضارية؛ لأن العدو الداخلي –الذي يكون من الدين نفسه– يكون أكثر تأثيراً وامتداداً، فالإسلام لم يهزم في معركة خارجية ولكنه هزم داخليًّا، فالداخل بقصد أو دون قصد عن علم أو جهل كان يحقق أهداف الغرب في إضعاف الأمة وسحق هويتها، وأحد أبرز هذا الداخل ما أسماهم شريعتي بـ«أشباه المثقفين» أو «المثقف المزيف»، فالاستعمار احتاج إلى فئة تقوم بدور المثقفين في المجتمع المسلم تتبنى الرؤية الغربية ومنهجها المادي دون أن تدرك حقيقتها أو غايتها، «... وكان دور أشباه المثقفين –الذين ارتدوا ملابس المثقفين ومساحيقهم وأقنعتهم وموسيقاهم وأدوارهم وأطوارهم وأقنعتهم وبيانهم– أكثر يسراً، فقد كان دورهم هو إشاعة الأفكار الأوروبية المنتقاة والعقائد الإفرنجية، وترويج أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية والأخلاق والسلوك الغربي، وتجديد وتغيير خيرة أبناء الجيل الشاب والمتعلم في المجتمعات غير الأوروبية إلى أشباه الأوروبيين، داخل المجتمع، وذلك من أجل إيجاد قاعدة نفوذ ودخول وجسر اتصال وتفاهم مع الغربي، وبالتالي التسخير الثقافي والسياسي والاقتصادي لقلاع «التعصب» المحكمة!.. هذه هي حركة التشبه الاستعمارية التي قامت تحت أسماء كاذبة كالتقدم والتطور والثقافة، وبدأت بأول شرط للتمدن والتشبه الأوروبي المتقدم وصاحب الفكر العلمي الجديد وهو: الثورة على التاريخ والثقافة وكل الأصول وبصورة خاصة إلغاء كل القيم الفنية والتقليدية والأخلاقية للتشبه، وكانت أول خطوة على هذا الطريق محاربة الإيمان الديني ونشر نوع من عدم التعصب المطلق، وأعلنت هذه الحركة أن العلوم الحديثة قد جعلت الدين في أوروبا نوعاً من الخرافة»[77].

وهنا يستدعي شريعتي البعد الحضاري لحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «من تشبَّه بقوم فهو منهم» وعمقه الاجتماعي، «ويقسم المستعمر الأوروبي الأمة المستعمرة إلى جناحين وصفين اجتماعيين وثقافيين متضادين في الفكر والروح والحياة هما: الأهالي الأصليون، أي جماهير الشعب الذين يبقون كما كانوا وهم الذين نصفهم بالقدم أو التدين وغير ذلك، والمتشبهون، أي المتشبهون بالأوروبيين، وهم الذين نسميهم بالمتجددين والمعاصرين والمتفرنجين؛ بل ونطلق عليهم المثقفين والمرآة المعاصرة والرجل المعاصر»[78]. ويصف شريعتي هذا المعنى للمثقفين بأنه معنى مزيف يعلي من قيمة المتغرب بإطلاق لقب «المثقف» عليه، بينما شريعتي يطلق عليه اسم «المتشبِّه» الذي ليس له جذور أو أصل أو هوية أو تميز، «إنه ليس أوروبيًّا ولا آسيويًّا ولا أفريقيًّا، لا غربيًّا ولا شرقيًّا، لا متقدماً ولا متجدداً؛ بل هو لا شيء»[79].

والطرف الداخلي الآخر لهؤلاء المتغربين، هم «الروحانيون المزيفون» الذين يقومون بدور تمثيلي آخر وإن بدا متناقضاً إلَّا أنه يتكامل ويتَّحد ويتَّجه إلى المقصد نفسه في إضعاف الأمة واستسلامها وتراجعها الحضاري والثقافي، «... وفي نفس الوقت وعلى نفس خشبة المسرح وفي عرض مقابل يوجد ممثلون آخرون ذوو شكل متناقض يؤدون عرضاً معاكساً، والوجوه هنا جميعها وجوه القديسين ورجال الدين، وحديثهم يدور عن الله واليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والوحي والنبوة، والقرآن والإمامة والولاية، والتقوى والروحانية والمعنويةـ والأخلاق والزهد والرياضة الروحية، والإعراض عن الدنيا والزخارف المادية!! إن دور هؤلاء أكثر صعوبة وتعقيداً، إنه دور ديالكتيكي!! إن على هؤلاء الفنانين أن يقضوا على الدين بجانب ترويجه والدعاية له!! ويخفون حقائق الدين وفكر روَّاده وكتَّابه، ويمنعون العقول من معرفة ذلك من خلال تعظيم الشعائر الدينية العظيمة وتقديس الكتاب السماوي والتبرك به»[80].

وعند شريعتي يؤدي هذان الطرفان «أشباه المثقفين» و«الروحانيون المزيفون» وما يدور بينهما من «حرب مصطنعة» في النهاية الدور نفسه في تغييب الوعي الحضاري للأمة وتزييفه، الأمر الذي أوجد قطيعة معرفية واجتماعية بين المسلم وحقيقة دينه ومنابع فكره ومباني عقيدته. وهذه هي حقيقة الأزمة كما يراها شريعتي، وهي تغييب الوعي على يد «المتغرب» و«المتشبه» من ناحية، و«المتجهل الديني» من ناحية أخرى، وهو ما أوجد صراعاً مزيفاً داخل الأمة بين «... العامي والعالِم المعاصر، والجامعي ورجل السوق، والشيخ والشاب، والمتعلم القديم والجديد، والعالم الديني وغير الديني، وشغل بالخصومة ساعدي الجسد الواحد وجناحي الطائر الواحد، في مواجهة الخصم اليقظ والمهاجم المحتال والقوي، وشغلنا بحرب التقدم والتطور، وبالتعصب الجاهل شبه الديني، وبالتعصب الأكثر جهلاً ضد الدين وطرح مسائل فرعية وذهنية وانحرافية من أجل التغاضي عن الواقعيات العينية والآلام الواقعية التي تتعلق بإيماننا ومجتمعنا ومصيرنا الحالي والمستقبلي، وشغل مثقفينا الجدد باسم الثقافة ومثقفينا القدامى باسم القضايا الدينية بطريقة أخرى»[81].

ويحدد شريعتي الميادين التي أثر فيها التغريب وأعوانه من الداخل بشكل واضح، وهي ميادين الأفكار، والعقائد، والسلوك، وذلك «بفعل الاستبداد السياسي والديني، والنظم الطبقية، والثقافات الأجنبية، والعملاء الداخليين، والمتعصبين الجهلة، وخطط الاستعمار في أفكارنا وعقائدنا وعاداتنا وعلاقاتنا الاجتماعية ورؤيتنا الفكرية، ونهجنا الأخلاقي والتربوي الإسلامي»[82].

ويصور شريعتي حالة «الجمود الديني» في عدم قدرة «الدين» على القيام بدوره بفاعلية في المجتمع، وذلك لأن وسائطه «الروحانيين» يقدمونه بصورة تهدم حقيقته، ومن ثم يبدو أن هناك دينين يتصارعان: الدين المزيف والدين الحقيقي، أو كما يقول شريعتي: «إن الدين بهذه الطريقة التي يدعون إليها غالباً في المجتمع يكون عامل شللٍ للعقل، وحشواً للأذهان، وانحطاطاً للإرادة، ويأساً وتشاؤماً اجتماعيًّا وإصلاحيًّا، وتوجيه الوضع والتسليم والتحمل وتقويه عبادة الأوهام والخرافات، وتَعَوُّد على تكرار المكررات غير المعقولة والأعمال والعادات غير المفهومة، وإثارة الخوف والضعف الذى لا أساس له، وانشغالاً بأصدقاء وأعداء لا وجود لهم أو مجهولين، والخلاصة يكون عامل الانشغال بما ليس موجوداً أو ما ليس لازماً، وغفلة عما هو موجود وضروري، وبالتالي يكون هو الدين الذى يستفيد منه ثلاثة أشخاص فقط هم: فرعون وقارون وبلعم باعورا.. أما الشخص الوحيد الذى يصبح ضحية له فهو: الناس!!»[83].

ثم يشير شريعتي إلى مظهر آخر من مظاهر الأزمة الحضارية وهو الازدواجية المعرفية والثقافية التي تعيش فيها الأمة نتيجة اختراق العقل المسلم ومحاولة تشويه نسقه المعرفي التوحيدي، فيذكر: «إن جامعتنا ولدت ونمت غريبة وبعيدة عن المراكز التعليمية القديمة والموجودة، بل وعلى الرغم منها، ولم تكن ثقافتنا الجديدة متواجدة في إكمال أو استمرار الثقافة القديمة أو في مسيرة تطورها، لقد كانت ظاهرة أعطت ظهرها لثقافتنا واتجهت إلى الغرب، وهذا ما جعلهما يعيشان بعيداً عن بعضهما، وجعل جامعتنا وكأنها مؤسسات تعليمية أوروبية أقيمت حديثاً في إحدى بلاد أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، وفوق أرض بكر لا تاريخ لها. إن أحداً لا يحس بأن هذه الجامعات ترث ما لا يقل عن ألف سنة من التجارب المتصلة للجامعات، وبقيت مراكزنا للعلوم القديمة منغلقة على نفسها ولم تفتح نافذة أمام الرياح الفكرية والعلمية الجديدة، حيث لا يشعر أحد مطلقاً بأنها تجاوز الجامعات الحديثة على مدى نصف قرن، وأن الغرب جاء من كل صوب حتى اقترب من وراء الجدران القديمة للمدرسة، وقد ترك هذا البعد وهذه الغربة أثراً عميقاً على التربية الثقافية والشكل الاجتماعي لجماعة المثقفين، وشجّع ذلك على تكوين اتجاهين علميين وفكريين غريبين ومتضادين في مجتمعنا، وانحصار كل مجموعة داخل حدودها الثقافية ونظرتها الخاصة بها»[84].

أما أزمة المذهب -عند شريعتي– فتتمثل في حالة الجمود والتقليد التي أصابت أحد اتجاهات العقل الشيعي عقب اختفاء الإمام الثاني عشر، وتدشين الروايات التي تحرم الاجتهاد وتذم العقل[85] ودوره في النص الديني، ثم دخول المجتمع الشيعي إلى مرحلة جديدة هي «التقية والانتظار»، وما تبعها من تحريم العمل السياسي، وإقامة الدولة؛ بل تحريم أداء بعض الفروض كصلاة الجمعة وزكاة الخمس، وغرس الاستكانة والجمود في الحياة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى الدور السلبي الذى قامت به الدولة الصفوية (905 - 1500م).

وقد شنَّ شريعتي هجوماً كبيراً على الدولة الصفوية متهمًّا إياها بتحريف التشيع، وتكريس حالة الجمود والركون التي أصابت أحد اتجاهات العقل الشيعي لتحقيق أهداف سياسية، وأكد أن الدولة الصفوية –نتيجة لارتباطها بأوروبا وتحالفها معها للقضاء على الدولة العثمانية– جعلت التشيع في إيران مثل المسيحية في أوروبا، بجعله نوعاً من التخدير الدائم للعقل، وتحويل منهجه الثوري إلى طقوس وممارسات، يتم فيها تفريغ الشحنة النفسية والثورية بعيداً عن الهدف الأساسي، والاضطرار في ذلك أو استباحة تحوير تفسير الآيات القرآنية لصالح هذه الخرافات.

إن ما تم التركيز عليه في الحقبة الصفوية هو الشكل الظاهري لتلك الطقوس، فعملت الصفوية ما بوسعها من أجل تكريس هذه الطقوس وتوسيعها، ومن ثم سعت إلى توظيفها لأهداف سياسية تضليلية تصب في صالح أغراضها الحكومية بعيداً عن التعريف بالإسلام وتربية الناس على مفاهيمه السامية... واتخذ التشيع منحى آخر، وانسلخ عن المنحى الثوري الذى كان يعتبر من أبرز معالم هويته[86].

ومن الجدير بالذكر أن شريعتي قسّم التشيع إلى صنفين رئيسين هما: التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وذلك في ضوء المضامين والأهداف التي يسعى كلٌّ منهما لتحقيقها، ويرى أنهما لا يرتبطان بفترة زمنية أو جغرافيا مكانية؛ ولكن يرتبطان بفهم حقيقة التشيع، وهما على طرفي نقيض، الأول «العلوي» معبر عن حقيقة التشيع وجوهره وأصالة فكرته في أي زمان ومكان، والثاني «الصفوي» معبر عن انحراف التشيع وتحريفاته في كل زمان ومكان.

وينطلق شريعتي في رؤيته الإصلاحية من العامل نفسه الذي استغله «المنافقون» لتخدير الناس بالكذب والجهالة، وهو الدين ولكنه هنا «دين المسؤولية» و«دين الوعي» في مقابل «دين الاستحمار»، فالدين عنده هو المُولِّد الذاتي لإمكانات الوعي والمقاومة والثورة، وهو المحرك الأساسي نحو التغيير بما يبثّه في الناس من دافعية وأمل في تغيير الأوضاع المقلوبة، وتصحيح الانحرافات التاريخية والفكرية. والدين جملة عند شريعتي هو الفاعل الحيوي الحضاري.

إن عامل الإعجاز الذي يمكنه محو دين التخدير والجهل والفقر والاستسلام من أعماق الروح ومن صلب الحياة هو (الدين) الدين والدين فقط. وهذه هي الكلمة العجيبة التي نراها خلال حياة البشر والتي تميت وتحيي في الوقت نفسه وتُنيم وتُوقظ، وتقيّد بقيود العبودية، وتحفظ وترعى في هدوء، وتهب الحرية وتعلّم التمرُّد... وتاريخ البشر كله عبارة عن حكاية جهاد دين ضد الأديان وليس الدين ضد من لا دين له[87].

 المبحث الثالث: منهجية الإصلاح المعرفي

أولاً: مصطفى صبري

طرح مصطفى صبري مجموعة من «الأسس المعرفية» ثمثل جانباً أساسيًّا للإصلاح المعرفي عنده، وهذه الأسس هي:

1، المفاتيح المنهجية لرؤيته المعرفية: في قراءة تحليلية معرفية عامة باستخدام وحدة تحليل «الكلمة والجملة» نلاحظ أهم المفاتيح المنهجية التي مثّلت وحدات الأسس المعرفية للإنتاج الفكري لمصطفى صبري هي: (العقل، العلم، العالم، الإيمان بالغيب، الدليل العقلي، المنطق، الدليل الحسي، التجربة، الفلسفة الوضعية، وجود الله، النبوة، المعجزات، القضاء والقدر، علم الكلام، الحكومة الإسلامية، الخلافة، الدين والسياسة، الإلحاد، التغريب، الأخلاق، الإسلام والنصرانية، التشريع الإسلامي والقانون الوضعي). هذه دارت عليها أطروحات مصطفى صبري الفكرية ومناقشاته وخطته في الإصلاح المعرفي.

2- النظرة الشاملة للإسلام، حيث يؤكد أنه ليس عبادة فقط، أو دين فحسب، بل هو دين ودولة، وشريعة وقانون، وعبادة واجتماع، وعلاقة بالسماء ورابطة في الأرض، وهو ما يناقض المفهوم الغربي للدين الذي حاول المشروع التغريبي نقله إلى العقلية المسلمة؛ لذا فقد تعرّض مصطفى صبري لبيان المفهوم الشامل للإسلام لا سيما الاجتماعي والسياسي والمدني في أكثر من موضع، واستدعاه في أكثر من قضية فكرية باعتبار مبدأ «الإسلام الشامل» هو الأساس في المشروع الحضاري الإسلامي.

3- المنطلق المعرفي – الثقافي في الإصلاح في ميدان السياسة: حيث أرجع مصطفى صبري الخلل في الإعجاب بالغرب وتقليده في السياسة إلى الخلل في التكوين الثقافي، فالمسألة السياسية ترجع أساساً إلى خلل ثقافي يجب أن يبدأ الإصلاح منها. فالإصلاح الثقافي أصل الإصلاح السياسي، لهذا رتب الشيخ الأولويات في بداية عهده بمدافعة العمل السياسي الأعوج الذي يُراد فرضه على البيئة العثمانية الجديدة، ولكن لما يئس من نجاح محاولات الإصلاح السياسي المباشر سواء بطريق الحوار أو المطارحة الفكرية... مال إلى طريق الإصلاح العلمي بالتأليف والنصح المستمر للمسلمين وعلمائهم، مؤكداً أن مشكلتنا ثقافية بالدرجة الأولى، ويجب تعهدها بالإصلاح[88].

وفي هذا الاتجاه –أيضاً– حذّر من استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية (التي كانت تكتب بها اللغة التركية)، حيث رأى في ذلك تهديداً للهوية الإسلامية والتاريخ الإسلامي، بما يضر الشخصية التركية المسلمة التي تنشأ في ضوء هذا التبدل منقطعة الصلة عن ثقافتها وتاريخها الإسلامي، «وليرَ الترك الحديث من أراد أن يرى قوماً لا تاريخ لهم»[89].

4- التحرر في الحصول على المعرفة الدينية: أكد مصطفى صبري على ضرورة تحرير العقل المسلم، لا سيما فيما يتعلق بالمعرفة الدينية، وترك التقليد للغرب وللعقل المسيحي في منهجية الحصول على المعرفة الدينية، لتباين غاية المنهجين الغربي والتوحيدي، ورأى ذلك الاستقلال المنهجي أهم من السياسي، «وأن نترك التقليد في العقلية الدينية...، فنملك استقلالنا في العقيدة التي هي أساس الأعمال الصالحة، والتي استقلالها يتقدم على الاستقلال السياسي للأمم الإسلامية»[90].

5- ربط العلم بالعمل (أو العقيدة بالتطبيق)، «إذ العمل مبني على العقيدة التي لا يتعب بها الإنسان أصلاً بعد استيقانها بعقله وفهمه؛ بل تكون له منها قوة ينشرح بها صدره، ويستعين على القيام بالناحية العملية التي ليست في سهولة الناحية الاعتقادية؛ لانطوائها على تكاليف وتضحيات، وبانضمام العمل إلى العقيدة يحصل الكمال في الإسلام، وينتفع المسلم العامل بدينه في الدنيا قبل أن ينتفع به في الآخرة»[91].

6- المنهج النقدي: استخدم «مصطفى صبري» المنهج النقدي لأفكار حركات واتجاهات التجديد، حيث لم يستجب لمناهج هذه الأفكار وتصوراتها حول الأزمة الحضارية وطرق معالجتها، بل اعتبرها ناقلة ومحققة لأهداف المشروع التغريبي من خلال هذا التجديد. ويمكن تفسير مواقفه ضد هذه الحركات بأن «التجديد في القرن العشرين كان بمثابة إجابة عن سؤال لم تطرحه التربة الإسلامية، وهذا ما دعا الكثيرين داخل الحقل الإسلامي التقليدي إلى التشكك فيه والخوف من نتائجه واتهام دعاته»[92].

ونفى مصطفى صبري أن تكون حركات التجديد الموجودة هي المقصودة في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله يبعث لهذه الأمة رأس كل مائه سنة من يجدد لها دينها»؛ كون المعنى الذي يقصده العصريون من التجديد لا يتحد مع التجديد المذكور في الحديث. إن الإسلام لم يمدح التجديد في الدين قدر ما ذم البدعة فيه وحذر منها، «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». على أن أكثر ما رأينا من التجديد فإنما العامل فيه التقليد، وكم فرق بين التقليد والتجديد»[93]. وقد سمَّى أصحاب هذا الاتجاه في كتاباته بـ«الطائفة العصرية» و«المتفرنجين» و«المجددين» و«العصريين»، وبناء على هذا النهج انتقد الشيخ بشدة التفسيرات «العلمية» التي قدّمت من أصحاب هذا التيار لبعض العقائد الدينية، كما جاء عند محمد فريد وجدي في «السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة».

7- الإسلام لا يحتاج إلى إصلاح، ولكن المسلمين أنفسهم هم الذين في حاجة إلى الإصلاح، أما طبيعة هذا الإصلاح للمسلمين الذين هم في حاجة إليه فشخَّصه في البعد التربوي والنفسي الذى يفتقده المسلمون اليوم. «إن المسلمين أنفسهم في حاجة إلى الإصلاح، وأساس مرضهم ضعف القلب الناشئ من ضعف الدين، فيجب على طبيبهم الذى يتعهد مداواتهم ألَّا يسلك عكس طريقها ويزيد في إضعافه، بل يسعى لإحياء عزة النفس الإسلامية في قلوبهم، فينبغي للمسلم أن يرى ملّته فوق كل ملّة، ويتشدّد في اجتناب تقاليد تعدّ علامة أنه يرجح غير ملّته عليها بأن يتشبّه بغير المسلمين... وما إلى ذلك مما يتضمن إكبارهم واستصغار الإسلام، ضربة مهينة أيّما إهانة على عزة النفس الإسلامية، واستخفوا بمحذور هذا التقليد تحت تأثير قول المتفرنجين «لا يلزم شيء من تبديل الأزياء»[94].

8- النظر إلى المفاهيم المستوردة في ضوء سياقاتها الاجتماعية والثقافية، ومما أشار إليه في هذا الصدد مفهوم «العلم» بمعناه الغربي في العصر الحديث، والذي اقتصر في منهجه ومضمونه على الجانب الحسي المادي أو ما ثبت بالتجربة الحسية. وأكد مصطفى صبري اختلاف وتباين مفهوم «العلم» في الثقافة الغربية وفي الثقافة الإسلامية.

9- المنطق مقياس الحكم على الظواهر: يؤكد مصطفى صبري في غير موضع أن القضايا التي لا يقبلها المنطق لا تكون علمية، فكيف تتسم بالعلمية وهي غير منطقية، وهذا ما أرادت الفلسفة المادية تغييره حيث تؤكد أن لا معقول غير محسوس بينما ينحاز للدليل المنطقي الذى يستنبط دون أن يكون هناك محسوسات، لذلك فهو يرى «إبطال العلم المخالف للمنطق الذى وضعه العقلاء لتمييز صحيح الفكر من سقيمة»[95].

10- إحياء علم الكلام لحاجة المسلمين إليه، واستحداث مباحث جديدة في ضوء القضايا الفكرية التي أثارتها الفلسفات الغربية، لا سيما ما يتعلق بأحادية مفهوم العلم بمعناه «التجريبي» «الحسي»، وما نشأ عنه من هيمنة للفلسفة الوضعية وسيادتها على العقل الغربي والمتغربين في العالم الإسلامي.

ويتساءل حول ضرورة إحياء علم الكلام بقوله: «فهل للخلف من المسلمين بعد اتصالهم بفلسفة الغرب كسب للإسلام يستحق أن يسمّى علماً مدوناً يستطيع أن يصارع به حتى نفس تلك الفلسفة كما استطاع السلف مصارعة فلسفة اليونان في علم الكلام، حتى ولا شعبة من العلم المدون أو مسألة واحدة من المسائل العلمية تكون سلاحاً في أيدينا ندافع به عن ديننا عند الحاجة أو نصل إلى حقيقة من الحقائق العالية؟»[96]. كما أنه اعتبر رواج علم الكلام مؤشر لقوة الإسلام.

11- المطارحات الفكرية للآراء والأفكار والنظريات الفلسفية، اتسمت كتابات مصطفى صبري باستخدام أسلوب المحاورة والجدل الفكري للأفكار والنظريات الفلسفية، لاسيما تلك التي اختلف معها، وأفرد لها صفحات طويلة من كتاباته بنقلها بنص قائلها دون تحريف فيها، ثم يعقبها بالتعليق عليها، مفنداً لما تتضمنه من آراء وأفكار تتباين مع منهجه الفكري. ومن المفكرين والفلاسفة الذين طرح أفكارهم للجدل: من الغرب ديفيد هيوم، سبنسر، أوجست كونت، دارون. ومن الشرق: فرح أنطون، محمد فريد وجدي، محمد حسين هيكل، زكي مبارك، أحمد أمين، شبلي شميل، على عبد الرازق.

12- المنهج المقارن: استخدم مصطفى صبري هذا المنهج فيما عقده من مناقشات لموضوعات متباينة مثل: الإسلام والنصرانية، الدليل العقلي والدليل التجريبي، التشريع الإسلامي والقانون الوضعي، المرأة في الإسلام وفي المدنية الحديثة، التقليد الجائز والمحرم، الخلافة والوراثة، العلم بالمفهوم الغربي والمفهوم الإسلامي، مفهوم «الدين» في الغرب والإسلام، الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الغربية،... إلخ. وقد أعطت هذه المقارنات قوة لكتاباته، وتنقية للمفاهيم الإسلامية، وبناء تصوّر فكري واضح عن هذه القضايا والموضوعات المختلفة، من خلال إبراز أوجه التباين والاختلافات التي أظهرتها هذه المقارنات الفكرية.

13- الاستفادة والانفتاح على الفكر الإنساني بما يلائم الفكرة الإسلامية ولا يتعارض معها، لا سيما علم المنطق، وقد عاب على بعض السلف تحريم علم المنطق، ويشير إلى ذلك بقوله: «وإني أرى هذا التعييب وذاك التحريم نفسهما عيباً يجب تنزيه الإسلام -الذي يباهي بكونه دين العقل- عن مثله... فإذا كان في الفلسفة ما يؤيد الدين أو المذهب الحق في الدين فلا لوم على عالم كلامي إذا ذكرهما في الكلام استظهاراً به لدينه أو مذهبه»[97].

ثانياً: محمد عبـده

تأثرت منهجية محمد عبده في الإصلاح بعاملين أساسيين، الأول: حالة «الجمود والتقليد» التي يعيشها العالم الإسلامي منذ قرون، والتي هيمنت على العقل المسلم ومنهجيته في التفكير، والثاني: الهجمة المضادة للإسلام من الغرب واتهامه كعقيدة مضادة للتمدن، كما جاء على لسان هانوتو ورينان واللورد كرومر.

وقد حدّد محمد عبده منهجه الإصلاحي في ضوء مجموعة من الكليات التي رأى احتياج الفكر الإسلامي لها للتخلص من «الاستبداد» الفكري و«التقليد» و«التغريب»، كما رأى أن الدفعة الأساسية في عملية الإصلاح لا بد أن تكون عقلية معرفية يتم فيها تفعيل النظر العقلي ودوره في «النص الإلهي» وذلك لمواجهة «الجمود» من ناحية، والاستجابة لمستجدات الحياة من ناحية أخرى. ونشير فيما يلي إلى أهم الكليات التي طرحها محمد عبده في منهجيته للإصلاح المعرفي:

1- إصلاح علم الكلام وإعادة بناء علم التوحيد: بحيث يكون هذا العلم محققاً لغايات جديدة ترتبط بالواقع الإنساني، فيحرر الإنسان من كافة الأغلال التي تُغلّه، حتى ينطلق فرداً عاملاً إيجابيًّا في مجتمعه، ولن يكون ذلك بالوقوف بعلم التوحيد عند أساليبه التقليدية؛ بل بتفسير المشكلات العقدية تفسيراً إيجابيًّا يدفع إلى العمل، ويحثّ عليه، تفسيراً يحرر الطاقات الإنسانية ليرد إلي العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية[98].

2- إصلاح المسلمين عن طريق دينهم: ينطلق محمد عبده في مشروعه الإصلاحي من اعتقاد مهم هو أنه لا يجب الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام، وأن المسلمين هم الذين يحتاجون إلى الإصلاح وليس الدين، وهذا الإصلاح المطلوب للمسلمين يكون عن طريق مصدر قوتهم وهو «الدين»، ورأى أن «إصلاح المسلمين عن طريق دينهم أيسر وأصح من إصلاحهم عن طريق الإصلاح المعتمد على تقليد النموذج الأوروبي»[99].

3- الانسجام والمواءمة: اتخذ محمد عبده من مبدأ «الانسجام والمواءمة» نهجاً له، رأى فيه «الوحي» متوافقاً مع كافة مكونات الكون والوجود والإنسان، ففي الإسلام «تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس، على لسان نبي مرسل، بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرر بين المسلمين كافة –إلَّا من لا ثقة بعقله ولا بدينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلَّا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله، وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي به إليهم، وإرادته لاختصاصهم برسالته، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة، وكالتصديق بالرسالة نفسها»[100].

إن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزغات شياطين أو شهوات سلاطين، والقرآن شاهد على كل بعمله، قاضٍ عليه في صوابه وخطله... والكتاب أمر بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون، وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه تحصيلاً لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حكى عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، وتبشيع ما كانوا عليه من ذلك، واستتباعه لهدم معتقداتهم وإمحاء وجودهم الملي، وحقٌّ ما قال، فإن التقليد كما يكون في الحق يأتي في الباطل، وكما يكون في النافع يحصل في الضار، فهو مضلة يعذر فيها الحيوان ولا تجمل بحال الإنسان[101].

انطلاقاً من هذه الرؤية التي يقدّمها محمد عبده فإنه لم ير صراعاً بين الإسلام والتطورات العلمية الحديثة؛ بل رأى هذه التطورات والعلم الحديث نبتاً طبيعيًّا للنهج الإسلامي، «... ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أُرضعت ثدي الإسلام، وغُذِّيت بلبانه، وتربَّت في حِجره، وتقلّدت في إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة.. فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان... لابد لنا من اكتسابها وبذل المجهود في طلابها»[102].

4- مكانة العقل في بناء العقيدة: انطلق محمد عبده في تحديد مكانة العقل في البناء العقيدي من مبدأ «أن الإسلام ينطوي على بذور الدين العقلي والعلم الاجتماعي والقانون الخلقي، مما يجعله صالحاً لأن يكون أساساً للحياة الحديثة، ولأن يُوجد النخبة التي تتولي حراسته وتفسيره، فتضع بذلك أساساً لمجتمع مستقر ومتقدّم»[103].

ويؤكد -أيضاً- محمد عبده على مبادئ «الحجة» و«البرهان» التي انتهجها القرآن الكريم ليس مع المؤمنين به فقط –والذين هم أولى في الاعتبار بهذه العقلانية– ولكن مع المخالفين –أيضاً– حيث «جاء القرآن فانتهج بالدين منهجاً لم يقم عليه ما سبقه من الكتب المقدسة... لم يطلب التسليم به لمجرد أنه جاء بحكايته، ادّعى وبرهن، وحكى مذاهب المخالفين، وكرَّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من الأحكام والإتقان على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادّعاه ودعا إليه، حتى أنه في سياق قصص أحوال السابقين كان يقرر أن للخليفة سنة لا تتغير وقاعدة لا تتبدل[104] {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23].

ومن هنا فقد أشار محمد عبده بكل صراحة ووضوح إلى أصلين مهمين في نهجه المعرفي ومشروعه الإصلاحي، الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي،... والثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض»[105].

5- قبول التعدد والاختلاف: نبذ محمد عبده التقليد والجمود، ونبذ –أيضاً- أحادية التفكير، انطلاقاً من نهج الاعتقاد في «التعددية» و«الاختلاف» و«قبول الآخر» و«التسامحية»، وهي كلها مبادئ قرآنية، وفي ضوئها أشار إلى الوسطية الإسلامية كمبدأ مهيمن على «المنهج الفكري» الإسلامي، والتي تؤكد على «البعد عن تكفير المخالف»، «والنهي عن الغلو في الدين».

 6- الإصلاح الشامل: اتخذ محمد عبده التربية طريقاً للإصلاح في مشروعه الفكري، وهو ما من شأنه أن يجعل التغيير بالتدريج. ورغم تأثره بجمال الدين الأفغاني وانشغاله في بداية حياته بالمقاومة السياسية، إلَّا أنه ابتعد عن الخط السياسي تماماً ونبذه ولم يرَ فيه المنهج القويم لمشروعه الإصلاحي. ولكنه في الوقت نفسه دعا إلى الإصلاح السياسي من المدخل المعرفي -الذي نُعنى به في هذه الدراسة- لا سيما عند مناقشته لمفهوم الاستبداد، حيث «ميز محمد عبده في تأصيله لهذا المفهوم بين (الشورى) في مراحل صنع القرار السياسي، والعزم في تنفيذ القرار بعد إبرامه. ويعرف (الاستبداد المطلق) بأنه: تصرّف الواحد في الكل بإرادة مطلقة إن شاء وافق الشرع والقانون وإن شاء خالفهما. وهو محظور لمنافاته حكمة الله في التشريع... والشريعة توجب تقييد الحاكم بالسنة والقانون. وتقييده ليس مجرد علمه بالشريعة؛ بل بطائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتراقبه حتى لا يخرج عن حد الشرع أحد حاكماً كان أم محكوماً»[106].

7- نقد التراث: لم يُسَلِّم محمد عبده بكل ما جاء في التراث باعتباره نتاجاً فكريًّا بشريًّا ناتج عن التقاء «العقل» «بالوحي» في فترة زمنية وظروف اجتماعية خاصة، كانت نتائجها تختص بهذا الزمان والمكان والظرف الاجتماعي، والتراث تعبير عن مرحلة زمنية معينة لا يصلح استدعاؤها إلى مرحلة أخرى، ولكن يمكن التماس المنهج منه أي تجديد اللقاء مرة أخرى بين «الوحي» و«العقل» في زماننا المعاصر.

8- الجمع بين النظر والعمل: حيث أعطى محمد عبده التفكير النظري حقه، ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير، واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصة من عقبات الجمود والخرافة التي تصدّها عن التقدّم، وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياة بأهبة العقل البصير، والضمير الحر، والكفاية الخلقية والمادية، لمناهضة القوة المستطيلة عليها بسلاح القلم والمال، تلك القوة التي أنزلت المسلمين في العصر الحديث منزلة المغلوبين المستعبدين[107].

9- تحرير فهم القرآن من الصوارف: القرآن عند محمد عبده مرجع أساسي للإصلاح المعرفي؛ لذلك حرص على تنقية طريقة فهمه ووسائل ذلك الفهم، وعنى بالدرس القرآني، وأشار إلى ضرورة درس القرآن وتناوله بعيداً عن المتغيرات الدخيلة التي انشغل الناس بها وأكثروا منها، فحالت بينهم وبين مقاصد الكتاب وهدايته، «ويحدّد تفسير المنار ثمانية صوارف في كتب التفسير تشغل القارئ عن المقاصد القرآنية والهداية القرآنية هي: مباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكت المعاني، ومصطلحات البيان، وجدل المتكلمين، وتضمين التفسير خلاصة للعلوم الرياضية والإسرائيليات، وتخريجات الأصوليين والفقهاء، والمقلدين، وتأويلات المتعصبين للفرق والمذاهب»[108].

ثالثاً: علي شريعتي

الفكرة الأساسية في مشروع الإصلاح المعرفي عند شريعتي هي «العودة إلى الذات» واستعادتها، فهي الطريق الوحيد لتحقيق نهضة إسلامية حقيقية، وذلك بإحياء الثقافة المحلية والانطلاق من الأصالة التاريخية والمعنوية لمجتمعنا، وليس بالتلبّس بذات أخرى ذات المتشبّه به «أو الغربي»، إن شراء التكنولوجيا والتقنيات لا تصنع حضارة بل تبيدها، «إن تصدير الإنتاج في الثقافة والحضارة، أي شراء الحضارة، أي تصدير مظاهر الحضارة المتقدمة واستيرادها، هو صفقة دائماً وتكراراً لا يعود على المشتري منها إلَّا أكاذيب متكررة خدّاعة... إن المجتمعات التي تستورد الحضارة من الخارج ثم تقوم بتجميعها وتركيبها دون جذور ودون استعداد ودون تغيير للتفكير والفكر، وبدون إرساء هذه الحضارة على أسس وقواعد ثابتة من أعماق ترابها الثقافي والتاريخي والقومي، لا تصير ذات حضارة، ليس هذا فحسب، لكنها تفرّط في فرصة أن تكون يوماً ما ذات حضارة»[109].

ولتحقيق هذا الهدف قدَّم شريعتي نهجاً فكريًّا وعلميًّا ينفض عن هذه الذات ما علق بها من شوائب وانحرافات وتحريفات أُلصقت بها عبر الحوادث المختلفة، لاسيما ما علق بها من جهل وخرافة وتقليد وتغييب. ويحدّد شريعتي خطته الإصلاحية في مرحلتين أساسيتين: «المرحلة الأولى: تعريف الأمة بالعناصر المشبوهة والدجالة المغرضة، وتعرية التَّدْكين «فتح الدكاكين» والمدكنين باسم الدين، الذين يقول القرآن عنهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 34] الذين يرتدون لباس العلم والدين وهداية الأمة المقدّس، والذين يُشوّهون بألاعيبهم وتغريرهم للعامة الوجه الطاهر لعلماء الإسلام الحقيقيين الواعين الملتزمين، فيحولون بينهم وبين الأمة، ويسلمون زمام عقل ودين الجماهير بأيدي الجهل والشرك. وفي المرحلة الثانية: أدعو إلى تطهير ما أحسه دخيلاً على الدين،... من نقص وتحريف نتيجة الانحرافات والخرافات والتحجّر والتعليم السيئ التي ترسخت عبر السنتين»[110].

ويرسم شريعتي هذا النهج في عدة محاور هي: الوعي بالذات، معرفة الإسلام وإعادة اكتشافه أو ولادته من جديد، ودراسة الآخر والتعرّف عليه بوعي الذات الأصيلة القوية والغنية، ونقد التراث.

المحور الأول: الوعي بالذات؛ أو عودة الوعي أو كما يقول شريعتي: «عودة الروح»، لمجتمعنا وأمتنا لتحقيق سلامته وضمان صحته، «السبيل الوحيد للعلاج هو بعث هذه الروح في هذا الجسد الذي أصبح نصفه مشلولاً وفاسداً ونصفه الآخر أجوف كجسد بلا روح، حتى تعود الأجيال الحائرة والغريبة عن نفسها والمجتثة من كل جذورها المعنوية والثقافية، التي تهب القوام والقوة للشخصية الإنسانية لأية أمة، إلى نفسها وإلى ذاتها الثقافية وأصالتها التاريخية والأخلاقية، وتصل إلى ذاتها ووعيها، وتجد سبيلها نحو رؤية واضحة ومفتوحة ومسؤولة، بدلاً من العدمية الخطيرة والعبثية، والخواء والفراغ الروحي، والحيرة واليأس الفكري والفلسفي. وتستطيع الوقوف والصمود والسير على أقدامها وتجديد إنسانيتها المحطمة وإعادة حياتها المعنوية والثقافية»[111].

المحور الثاني: إعادة اكتشاف الإسلام، الشعار الذي أعلنه شريعتي لمشروعه الإصلاحي هو «إعادة اكتشاف الإسلام»، «أو الولادة الجديدة للإسلام» في رسالته الأولى التي تحمل العدالة والإيمان والهداية، وقدَّم في ضوء ذلك منهجاً علميًّا وعمليًّا لدراسة الإسلام ومعرفته. حيث يُؤكِّد شريعتي أنه لا يمكن معرفة الإسلام بمنهج واحد، فالإسلام ذو جوانب متعددة، عقدية وإنسانية وحضارية، والذي ينظر من زاوية واحدة لا يرى إلَّا جانب واحد من الإسلام، إلَّا أن شريعتي يرى أن هناك بُعداً غائباً في الإسلام لا يزال مجهولاً هو «البعد الاجتماعي والتاريخي والسيكولوجي، ويشتمل على مسائل ترتبط بعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم النفس. وبقي هذا البعد مجهولاً؛ لأن هذه العلوم الإنسانية علوم التاريخ والاجتماع والنفس، هي جديدة وأكثر جدة من العلوم الطبيعية»[112].

ويقرّر شريعتي أنه «من أجل دراسة الإسلام بشكل صحيح ودقيق والتعرف عليه بنظرة عصرية توجد طريقتان رئيسيتان، الطريقة الأولى: دراسة القرآن، وهو عبارة عن المبادئ والآثار الفكرية والعلمية للإسلام، الثانية: استعراض المسيرة التاريخية للإسلام، وتتبع التطورات التي حدثت فيه منذ البعثة المحمدية إلى اليوم وما حدث بينهما»[113].

ويبتعد شريعتي هنا عن التفسيرات الكلامية والفقهية القديمة في تفسير الإسلام، ويطرح منهج علم الاجتماع وأدواته «معرفة الآثار» و«المسيرة التاريخية» و«التطورات» باعتبار هذا المنهج أنسب المناهج لتفسير الإسلام تفسيراً عصريًّا في وقته الحاضر.

ويعتمد شريعتي منهجاً للمعرفة الدينية في علم الاجتماع يقوم على التصنيف والتقسيم والمقارنة من خلال خمسة أطر معرفية:

1- الإله أو الآلهة في كل دين، أي ذلك الرمز الذي وضع للعبادة عند أتباع هذا الدين.

2- نبي كل دين، أي الشخص الذي يبلغ رسالة الدين إلى الناس.

3- كتاب كل دين، أي المنهاج التشريعي الذي يأتي به هذا الدين، ويأمر أتباعه بالعمل به.

4- كيفية ظهور نبي كل دين، وخطابه في الدعوة (شكله وطريقته وأسلوبه).

5- تلامذة وحواريو كل دين، أي النماذج والوجوه التي تجسد الدين وتخرَّجت من مدرسته الفكرية والروحية.

ومن ثم فإن معرفة الإسلام تتطلَّب «معرفة الله، والقرآن ومقارنته بالكتب السماوية والدينية الأخرى، ثم معرفة شخصية نبي الإسلام ومقارنته بسائر المصلحين الكبار للبشرية على مدار التاريخ، وهكذا معرفة شخصية الإسلام البارزة، وخريجي مدرسته الفكرية والروحية، ومقارنتهم بأتباع المذاهب الأخرى وحواريي الأديان الأخرى»[114].

المحور الثالث: تحصين الذات بمعرفة الغرب، ينظر شريعتي للغرب باعتباره عاملاً مهمًّا في فهم ذاتنا، ومن ناحية أخرى يؤكِّد ضرورة التحصين الثقافي والمعرفي نحو الغرب ومعرفته أحد هذه الطرق المهمة نحو التحصين، «فمن أجل النضال ضد التغرُّب علينا أن نعرف الغرب، وهذه المعرفة تكون عن طريق قطع مرحلتين تكامليتين إلى الواقع: الأولى: المعرفة الصحيحة والعميقة بالثقافة والحضارة الأوربيتين، والثانية: المعرفة الصحيحة والعميقة بتاريخه وعلم الاجتماع الخاص به وثقافته ودينه»[115].

إن قوَّة الذات التي نعود إليها لا بد وأن تتحصن بالبعد المعرفي والذاتي نحو الغرب، ومن هنا فإن شريعتي يُعارض الانزواء أو التقوقع داخل الذات في مواجهة الغرب؛ «بل العكس تماماً. إنه لا يستطيع الصمود إلَّا من يعرف الصمود، ولا يعرف الصمود إلَّا من يعرف قدرة من يواجه جيداً»[116].

وهكذا يؤمن شريعتي بأن معرفة الغرب وإدراكه بصورة حقيقية هو جزء من وعينا ومعرفتنا لذاتنا وعودتنا لها. لذا طرح شريعتي منهجاً أو طريقاً يمكن من خلال إدراك الغرب ومعرفته أو الاطِّلاع على خطى سير الغرب[117]:

1- تاريخ الغرب، لا سيما التطور الاجتماعي وتطور الحضارة الأوروبية.

2- مسير الحركة الفكرية في الغرب، مع التركيز على العصور التي تبدأ من عصر النهضة حتى عصرنا الحاضر. وذلك من خلال دراسة الموضوعات التالية:

 أ - عصر النهضة مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية.

ب- معرفة البروتستانتينية، مع مقارنتها بالإسلام والدور الذي لعبته في تنمية الحضارة الصناعية والنضج العلمي والمادي في أوروبا.

ج- أسس البنية الفكرية والثقافية للغرب المعاصر.

د- الأحداث الاجتماعية، والمفكرين السياسيين والاجتماعيين في الغرب.

المحور الرابع: نقد التراث، اتخذ شريعتي من «نقد الذات» طريقاً لاستعادتها، وذلك من خلال تفنيد الانحرافات والتحريفات التي طرأت على التراث عند الشيعة، لا سيما ما يتعلق «بالنص الروائي» وما فيه من مبالغات وأساطير، مؤكداً أن خط النقد يعدُّ خطًّا أصيلاً في النهج الشيعي، «فكل من اطلع على كتب العلماء الكبار من الشيعة يرى بوضوح أن من أبرز سمات البحث العلمي في التراث الشيعي هو كثرة النقد والإشكال والاعتراض على آراء وأفكار بعضهم البعض... كما يمتلك التراث الشيعي طرقاً علمية وقواعد فنية دقيقة في تشخيص صحة الرواية وسقمها، ويعدّ هذا الباب والمجال العلمي من أعظم المزايا العلمية للمسلمين والشيعة على وجه خاص»[118]. ويرى أن معايير هذا النقد لا بد أن تستند إلى الأسس العلمية لعلم الحديث، وعلم الرجال، والعقل، والقرآن، وإجماع العلماء، والسنة الصحيحة.

 خاتمة الدراسة

تناولت الدراسة بالرصد والتحليل سؤال الإصلاح المعرفي عند بعض المفكرين أصحاب التوجُّه الإسلامي، وهم: مصطفى صبري، ومحمد عبده، وعلي شريعتي. وأبرزت الدراسة المستوى المعرفي لأفكارهم الإصلاحية من خلال ثلاثة محاور رئيسة هي: تصوراتهم حول الأزمة الحضارية لأمتنا، ومنهجيتهم في الإصلاح، وقضايا وإشكالات الإصلاح لديهم.

وأبرز ما توصَّلت إليه الدراسة من نتائج يتمثل في الإشارة إلى عنصرين مثلاً مدار النظرة المعرفية للإصلاح لدى هذه النماذج المختارة، وهما: الموقف من «الغرب» ومشروعه الفكري، وذلك من خلال تقديم قراءة له تختلف عن القراءة الاستلابية التغريبية وأيضاً القراءة التخويفية، فكلتا القراءتين أوقعتا العقل المسلم في مآزق ومنزلقات وتشوُّهات لم يتعافَ منها بعدُ.

وقد انطلقت هذه القراءة من «الوعي بالآخر» الذي هو أيضاً جزء من الوعي بالذات المدركة، وطرحت هذه الجهود تلك القراءة في ضوء عدة محددات هي: إدراك الفكر الغربي في ضوء سياقاته الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي تجلى فيها نموذجه المعرفي، النظر إلى المنهج الغربي انطلاقاً من النهج التوحيدي الحضاري المقابل له والمتمايز لأطروحاته، ثم الخلوص إلى العناصر المعرفية ومضامينها الكلية (المفاهيم والقيم والتصورات ومناهج النظر والتفكير) التي تُشكِّل النموذج المعرفي الغربي وتفنيدها في ضوء رؤية مرتكزة على نموذج متجاوز.

أما العنصر الثاني فهو «الدين» وهو المشترك الثاني في «الناظم الفكري» بين هؤلاء المفكرين، لا سيما ما يتعلَّق باعتباره سبيلاً ومصدراً لأي إصلاح مبتغى في الأمة ومصدر بنائها المعرفي الأول ووعاء تصوراته ومفاهيمه الأساسية، وفي هذا الإطار اتَّفقت المشاريع الإصلاحية التي طرحت في الدراسة على عدة منطلقات أساسية في مسألة الإصلاح المعرفي وهي:

1- ضرورة العودة إلى الإسلام مصدراً لبناء النهضة المنشودة ومولداً ذاتيًّا للوعي، ومرجعاً لنموذجها المعرفي التوحيدي، وهذه الضرورة ظهرت عند مصطفى صبري في (العودة إلى الإسلام الأوَّل)، وعند محمد عبده في (العودة إلى فهم السلف الأوَّل للدين)، وعند شريعتي في (العودة إلى الذات).

2- إحياء قنوات الاتِّصال والتفاعل -تلك التي انقطعت عبر قرون- بين المسلم ومنابع فكره الأصيلة «الوحي» وتفعيلها، وذلك دون وسائط أو حصون كانت حاجزاً لمباشرة العقل المسلم وظائفه الحيوية في إطار الوحي. هذه الحصون والموانع كانت عند مصطفى صبري (المعطلون لعلم الكلام، والمتغربون) وعند محمد عبده (التقليد والجمود) وعند شريعتي (الروحانيون الزائفون، والمتشبهون، والمستبدون).

3- التأكيد على إصلاح وإحياء علم الكلام وتجديد مباحثه بما يتناسب مع التحديات الفكرية والمعرفية المستجدة، والتي تتَّصل بالنموذج المعرفي الغربي ومحاولة فرض هيمنته على الثقافات والحضارات المعاصرة، بما يُحقِّق الوعي الحضاري للذات المسلمة في تفاعلها مع الغرب ومشروعه الفكري.

وفي ضوء هذا المنطلقات يمكن استنباط مجموعة من «الأسس المعرفية» قدمتها هذه الجهود لاستعادة حيوية البناء المعرفي ومعالجة تشوهاته من خلال عدة محاور:

1- إعادة اكتشاف «النموذج المعرفي التوحيدي» وعناصره الأساسية: التصورات والمفاهيم وطرق التفكير.

2- محورية الذات في «الإصلاح المعرفي» واستعادة بنائها، وهو ما يتطلَّب طريقين: التخلية ثم التحلية، التخلية مما أُلصق بها من شوائب، والتحلية بالعناصر والتصورات الأساسية في منهجنا الحضاري.

3- إصلاح منهج النظر للوحي بما يُمكِّن من استعادة اللقاء المباشر بين العقل المسلم والوحي.

4- تجديد منهج النظر في التراث، وتناوله بعيداً عن القداسة المفرطة أو الإهمال والترك الكامل.

5- تشغيل «العقل» المسلم وإحياء دوره في «الاجتهاد» كعامل أساس في بناء المنظومة الفكرية والقيمية التوحيدية وتشغيلها.

 

 



[1] ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل. لسان العرب، ج7، بيروت، دار أحياء التراث العربي، ط2، 1997، ص384.

[2] مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، إستانبول، دار الدعوة، ط2، 1960، ص 520.

[3] الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم،1992، ص489.

[4] عمر، السيد. «مداخل الإصلاح في الأمة : جدالات الديني والسياسي» في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، تقرير أمتي في العالم، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2006، ص77.

[5] بريش، محمد. «مفهوم الإصلاح أو نحو إصلاح لفهم المصطلح»، في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، مرجع سابق، ص58.

[6] أبو سليمان، أحمد عبدالحميد. الرؤية الكونية الحضارية القرآنية المنطلق الأساسي للإصلاح الإنساني، القاهرة، دار السلام، 2009 ص17.

[7] انظر: زيادة، رضوان جودت. سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2004.

[8] في إشارة إلى حديث «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها».

[9] زيادة، رضوان. الخطاب العربي حول الإصلاح، في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، مرجع سابق، ص65.

[10] المسيري، عبدالوهاب. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ج1، القاهرة، دار الشروق 1999، ص121.

[11] البشري، طارق. «الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية» في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، مرجع سابق، ص 8.

[12] البشري، طارق. «الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية»، مرجع سابق، ص 8.

[13] عمر، السيد. «مداخل الإصلاح في الأمة :جدالات الديني والسياسي»، مرجع سابق، ص105.

[14] ماكارثي، جوستين. «سياسات الإصلاح العثماني» ترجمة: عبد اللطيف الحارث، الاجتهاد، العدد 45 - 46 ، بيروت، 2000، ص63.

[15] الجندي، أنور. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي 1978، ص13، 14.

[16] جدعان، فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، ص324.

[17] آل أحمد، جلال. نزعة التغريب، ترجمة: حيدر نجف، كتاب قضايا إسلامية معاصرة (21)، 2000، ص31.

[18]جدعان، فهمي. مرجع سابق.

[19] مخلوف، ماجدة. «الإصلاح والتجديد في تركيا في القرنين 13 – 14هـ/ 19 – 20م»، مؤتمر اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، الإسكندرية 19 – 21 يناير 2009.

[20] عمر، السيد. «مداخل الإصلاح في الأمة : جدالات الديني والسياسي»، مرجع سابق.

[21] النجار، عبد المجيد عمر. «الشهود الحضاري للأمة الإسلامية (ثلاثة أجزاء)»، القاهرة، دار الغرب الإسلامي،ط2، 2006.

[22] الزغبي، أنور. «مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي»، الأردن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2007.

[23] ظهر بعد ذلك هذا الضعف في المعاهدات التي عقدتها الدولة العثمانية مع النمسا وروسيا وغيرهما بشروطهم، والتي كانت تمثّل تنازلاً في كثير من بنودها لرعايا هذه الدول، بل وتدخل هذه الدول للحصول على امتيازات أكثر لرعاياهم داخل الدولة العثمانية. كما أصبحت الامتيازات والمعاهدات التي بدأت عام 1535م ذات طابع آخر في أواخر القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر والعشرين، وكانت أولى هذه المعاهدات قد عقدت بين تركيا وفرنسا 1535م، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية في ذروة قوتها، وقد حصلت كل من بريطانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة وغيرهما من الدول الأوروبية الكبرى حينذاك على معاهدات مماثلة أو مؤكدة على هذه الامتيازات، وكان حصول روسيا على معاهدة 1774م بداية استغلال معاهدات الامتيازات بشكل يتعارض مع سلامة الدولة العثمانية، حيث إن ضعف الدولة العثمانية أعطى للدول الأوروبية فرصة للتدخل في الأمور الداخلية بحجة حماية الرعايا المسيحيين فيها، أو عن طريق منح الحماية لأعداد كبيرة من رعية السلطان، أو استغلال تلك المعاهدات في منع الرعايا الأتراك من استرداد حقوقهم من التجار الأجانب المعتمدين على تأييد القناصل (انظر نوار، عبدالعزيز سليمان. الشرق الأوسط.. مشكلاته الحديثة والمعاصرة، القاهرة، د.ن،1987، ص 146).

[24] الأقحصارى ،حسن كافي. أصول الحِكَم في نظام العالم، تحقيق: نوفان رجا الحمود، عمان، الجامعة الأردنية، 1986، ص8.

[25] انظر: زيادة، خالد. تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر،2010.

[26] مخلوف، ماجدة. تحولات الفكر والسياسة في التاريخ العثماني، رؤية أحمد جودت باشا في تقريره إلى السلطان عبد الحميد الثاني، القاهرة، دار الآفاق العربية، 2009، ص31.

[27] ياغي، إسماعيل أحمد. الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، الرياض، مكتبة العبيكان، 1996، ص149.

[28] مخلوف، ماجدة. الإصلاح والتجديد في تركيا في القرنين (13 – 14هـ/ 19 – 20م)، مرجع سابق، ص22.

[29] مانتران، روبير (إشراف). تاريخ الدولة العثمانية، جـ2، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع 1993، ص473.

[30] انظر حول مجلة الأحكام العدلية ومحاولات تقنين الفقه:

- الحسيني، فهمي (تحقيق وتعريب). درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بيروت دار الكتب العلمية 1980.

- الأشقر، عمر سليمان. تاريخ الفقه الإسلامي، عمان، دار النفائس، ط3، 1991.

- القرضاوي، يوسف. الفقه الإسلامي والتجديد، القاهرة مكتبة وهبة، ط2 ،1999.

[31] ماكارثي، جوستين. مرجع سابق، ص 64.

[32] المرجع السابق، ص 75.

[33] عباس، رؤوف. «الإصلاح العثماني الدوافع والأبعاد»، بيروت، حوار العرب، العدد الرابع، مارس2005، ص48.

[34] مخلوف، ماجدة. «الإصلاح والتجديد في تركيا»، مرجع سابق، ص20.

[35] المرجع السابق، ص22.

[36] مانتران، روبير (إشراف). مرجع سابق ،463.

[37] انظر :

 - عمارة، محمد. «الاحتفال بالاحتلال أم بالاستقلال؟»، المسلم المعاصر، القاهرة، العدد (91)، إبريل 1999، ص23.

 - عنان، ليلى. الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير، القاهرة، كتاب الهلال، العدد567، مارس 1998.

[38] جدعان، فهمي. مرجع سابق، ص 323.

[39] على، سعيد إسماعيل. تاريخ التربية والتعليم في مصر، القاهرة، عالم الكتب، 1985، ص337.

[40] مصطفى، علي خليل. أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1986، ص 242، 262 (باختصار).

[41] إشراقي، مهدي. دار الفنون گفتارى درهويت دار الفنون وجايگاه در تاريخ معاصر إيران، طهران، پژوهشكده تعليم وتربيت (2004م)، ص27.

[42] المرجع السابق، ص53.

[43] انظر: هوشنگ، نهاوندي وديگران، امير كبير ودار الفنون، طهران، كتابخانه مركزي 1354 (1675م).

[44] فر، محمد شفيعي. الأسس الفكرية للثورة الإسلامية، ترجمة : محمد حسن زراقط، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2007، ص 112.

[45] أحمد، كمال مظهر. دراسات في تاريخ إيران الحديث والمعاصر، بغداد، الأمانة العامة للشباب، 1989، ص183.

[46] گلگار، سعيد. «بررسى رابطة نظام بهلوي ودانشگاه در إيران»، فصلنامه دانشگاه اسلامى، طهران، شماره 35، سال يازدهم، شمار35، باييز 1386 (2007م)، ص127.

[47] زاده بردر، محمد شرف. انقلاب فرهنگي در دانشگاهها إيران، طهران ﭘژوهشكده امام خمينى وانقلاب إسلامي، 1383 (2004م)، ص96.

[48] سلطان نزداد، منصور. خاطرات دوسفير: اسراري از سقوط شاه ونفش آمريكا وانگيس در انقلاب إيران، طهران، نشر علم 1372 (1993م)، ص28.

[49] گلگار، سعيد. مرجع سابق، ص134.

[50] آل أحمد، جلال. نزعة التغريب، مرجع سابق، ص129 - 130.

[51] فر، محمد شفيعي. الأسس الفكرية للثورة الإسلامية، مرجع سابق، ص 112.

[52] المرجع السابق،ص 128-129.

[53] السبكي، آمال. تاريخ إيران السياسي بين ثورتين (1906 – 1979)، الكويت ،عالم المعرفة، العدد (250)، أكتوبر 1999، ص 87.

[54] معوض، أحمد. إيران المعاصرة، القاهرة، الدار العربية لنشر الثقافة العالمية، د.ت، ص 96.

[55] قطعنامه هشتمين كنفرانس ارز شيابى انقلاب آموزشى، ما هنامه آموزش وپرورش، طهران، مركز انتشارات آموزشى، شماره (174)، 1349هـ.ش (1970م). ص 13.

[56] عادل، غلام على حداد. «صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية في العلاقات العربية - الإيرانية»، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ص 281.

[57] إحسان نراقي: من بلاط الشاه إلى سجون الثورة، بيروت، دار الساقي 1992، ص49.

[58] أحمد مهابة: إيران بين التاج والعمامة، القاهرة، كتاب الحرية عدد 22، 1989، ص203.

[59] ولد مصطفى صبري عام 1869م في توقاد بالأناضول، وأصبح أستاذاً يحاضر في مسجد محمد الفاتح عام 1890م، وتولى المشيخة الإسلامية في 1919م. وكان له نشاط سياسي وفكري بارزان. من مؤلفاته العلمية «مجددو الدين»، «قيمة الاجتهادات العلمية للمجتهدين المحدثين في الإسلام» و«النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة (1924م)»، «مسألة ترجمة القرآن» (1931م) و«موقف البشر تحت سلطان القدر» (1952م)، و«قولي في المرأة (1934م)»، «القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون (1942)»، ثم موسوعته الفكرية «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين» (1950)، وتتكون من أربع مجلدات كبيرة ضمت كل آرائه الفقهية والاجتماعية والفلسفية والسياسية.

[60] مصطفى صبري. موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ج1، بيروت، دار إحياء التراث، ط2، 1981م ، ص17.

[61] مصطفى صبري. موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين ج1، بيروت، دار إحياء التراث، ط2، 1981م، ص 13.

[62] صبري، مصطفى. موقف العقل والعلم والعالم ج4، مرجع سابق ص295.

[63] ولد الإمام «محمد عبده» في عام 1266هـ - 1849م، وتلقى دروس الفقه والشريعة وحفظ القرآن الكريم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم انتقل إلى الدراسة بالأزهر عام 1865، فدرس الفقه والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وحصل على الشهادة العالمية منه عام 1877. بدأ حياته الإصلاحية مهتماً بالإصلاح عبر السياسة، وكان من المؤيدين للثورة العرابية 1882؛ لذا تم نفيه إلى بيروت ثم إلى فرنسا حيث التقى هناك بجمال الدين الأفغاني وأصدرا سويًّا العروة الوثقى التي توقفت بعد ثمانية عشر عدداً.

قام محمد عبده بكتابة وشرح عدد من الكتب منها «رسالة التوحيد»، تحقيق وشرح «البصائر القصيرية للطوسي»، تحقيق وشرح «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» للجرجاني، ونهج البلاغة للشريف الرضي، كتاب «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، وفي هذا الكتاب قام الإمام محمد عبده بإجراء مقابلة بين الدينين الإسلامي والمسيحي وأثرهما في العلم والمدنية، تقرير إصلاح المحاكم الشرعية سنة 1899. (انظر حول سيرته الذاتية: الطناحي طاهر. (عرض وتحقيق وتعليق)، مذكرات الإمام محمد عبده سيرة ذاتية، القاهرة، كتاب الهلال، العدد 507، مارس 1993).

[64] عبده، محمد. الإسلام بين العلم والمدنية، القاهرة، كتاب الهلال، العدد 114، 1960، ص169.

[65]انظر: ابن منظور،جمال الدين أبو الفضل. لسان العرب، جـ2، بيروت، دار أحياء التراث العربي، ط2، 1997، ص348.

[66] آشار، بيار. سوسيولوجيا اللغة نقلاً عن: محمد محمد يونس علي: أزمة اللغة ومشكلة التخلف في بنية العقل العربي المعاصر، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة وآدابها، ج87، ع29، ص66.

[67] عبده، محمد. الإسلام بين العلم والمدنية، مرجع سابق، ص170.

[68] المرجع السابق، ص173.

[69] المرجع السابق، ص162.

[70] العلواني، طه جابر. نحو التجديد والاجتهاد، القاهرة، دار تنوير للنشر والتوزيع، 2008، ص63.

[71] عبده، محمد. الإسلام بين العلم والمدنية،مرجع سابق، ص171.

[72] محمد عبده : انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك ، العروة الوثقى، القاهرة، دار العرب، 1957، ص34.

[73] عبده، محمد.الإسلام بين العلم والمدنية ،مرجع سابق، ص101.

[74] ولد علي بن محمد تقي شريعتي في (مزينان)، وهي قرية من قرى منطقة خراسان في إيران، وذلك في عام 1933م، أنهى دراسته الجامعية عام 1958م، وحصل على المركز الأول في قسم اللغة الفارسية وآدابها، ونظراً لذلك منحته الجامعة بعثة علمية لاستكمال دراسته بالخارج؛ فتوجه إلى فرنسا في عام 1959م ثم عاد يعمل أستاذ علم بجامعة مشهد، ثم فصل منها، أسس عام 1969 «حسينية إرشاد» التي اتخذه منها معهداً علميًّا لنشر أفكاره «العودة إلى الذات»، وقد حاول شريعتي في هذه المؤسسة تقعيد نظام تربوي إسلامي فريد يلبي احتياجات المجتمع المسلم المعاصر في النواحي الفكرية والثقافية والنهضوية. ونظراً لتمدد أفكاره بين الشباب الإيراني تم القبض عليه من قبل سلطات الشاه وسُجن ثمانية عشر شهراً، ثم سمحت له السلطة بالسفر إلى لندن عام1977، ثم وُجد مقتولاً بعد شهر من سفره. خلَّف لنا شريعتي ما يقرب من 120 مؤلفاً متعددة المناحي الفكرية، إلا أنها جميعاً تعالج مسألة الإصلاح المعرفي.

[75] شريعتي، علي. ماذا يجب عمله؟ اتحاد الجمعيات الطلابية الإسلامية في أوروبا، مركز البحوث والمعلومات، 1984، ص2.

[76] المرجع السابق، ص2.

[77] شريعتي، علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص6.

[78] المرجع السابق، ص4.

[79] المرجع السابق، نفس الصفحة.

[80] شريعتي،علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص10.

[81] شريعتي،علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص29.

[82] شريعتي، على. الأمة والإمامة، بيروت، دار الأمير، 2006، ص23.

[83] شريعتي،علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص30.

[84] شريعتي،علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص32.

[85] انظر: حسان عبدالله حسان. «إشكالية العقل عند فقهاء الشيعة بين التقليد والاجتهاد»، التسامح، سلطنة عمان، العدد 20، 2007.

[86] شريعتي، علي. التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمة: حيدر مجيد، بيروت، دار الأمير، 2002، ص219.

[87] شريعتي، علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص31.

[88] جيدل، عمار. «رائد الفكر الإسلامي الحديث: شيخ الإسلام مصطفى صبري»، القاهرة، حراء، العدد الخامس، أكتوبر - ديسمبر، 2006م.

[89] صبري، مصطفى.موقف العقل والعلم، جـ4، مرجع سابق، ص346.

[90] المرجع السابق، جـ1، ص13.

[91] المرجع السابق، ص14.

[92] زيادة، رضوان جودت. مرجع سابق، ص46.

[93] صبري، مصطفى. موقف البشر تحت سلطان القدر، القاهرة، المطبعة السلفية، 1952، ص7.

[94] المرجع السابق، ص232.

[95] صبري، مصطفى. موقف العقل والعلم ، ج1، مرجع سابق ص122.

[96] المرجع السابق،ج2، ص113.

[97] صبري، مصطفى.موقف العقل والعلم ج1، مرجع سابق، ص205.

[98] السيد، محمد صالح محمد، إعادة بناء علم التوحيد عند الأستاذ الإمام، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص24.

[99] زيادة، رضوان. «العرب وتحولات خطابهم»، الاجتهاد، بيروت، العددان 55 – 56، 2002، ص66.

[100] عبده، محمد. رسالة التوحيد ، تحقيق: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، 1994، ص19.

[101] المرجع السابق، ص32.

[102] العقاد، عباس محمود. الإمام محمد عبده.. عبقري الإصلاح والتعليم، القاهرة دار نهضة مصر للطبع والنشر، 1981،ص11.

[103] حوراني، ألبرت. الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939، ترجمة كريم عزقول، بيروت، دار النهار، ط4، 1986، ص94.

[104] عبده، محمد. رسالة التوحيد، مرجع سابق، ص18.

[105] عبده، محمد. الإسلام بين العلم والمدنية، مرجع سابق، ص119.

[106] عبده، محمد. «في الشورى والاستبداد»، الوقائع المصرية 12 ديسمبر 1881، نقلاً عن السيد عمر: «التنشئة السياسية لدى مدرسة المنار (مقاربة أولية) في: مدرسة المنار ودورها في الإصلاح الإسلامي الحديث»، القاهرة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 23.

وانظر أيضاً في هذا الصدد: عبده، محمد. «الأمة وسلطة الحاكم المستبد»، العروة الوثقى، مرجع سابق، ص104.

[107] العقاد، عباس محمود. مرجع سابق، ص174.

[108] عمر، السيد. «التنشئة السياسية لدى مدرسة المنار (مقاربة أولية)»، مرجع سابق، ص23.

[109] شريعتي، علي. مسؤولية المثقف، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، بيروت، دار الأمير، 2007، ص98 – 99.

[110] شريعتي، علي. الأمة والإمامة، مرجع سابق، ص22 – 23.

[111] شريعتي، علي. ماذا يجب عمله؟ مرجع سابق، ص29 – 30.

[112] شريعتي، علي. منهج التعرف على الإسلام، ترجمة حيدر مجيد، بيروت، دار الأمير 2004، ص11.

[113] المرجع السابق، ص14.

[114] المرجع السابق، ص16 - 17.

[115] شريعتي، علي. العودة إلى الذات، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي ط2، 1993 ص240.

[116] شريعتي، علي. بناء الذات الثورية ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، بيروت، دار الأمير، 2005، ص90.

[117] المرجع السابق، ص92.

[118] شريعتي، علي. الشيع العلوي والتشيع الصفوي، مرجع سابق، ص125.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة