تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التسامح روح الثقافة الإسلامية

حميدة حمايدي

 

التّسامح روح الثّقافة الإسلاميّة..

محمّد الطّاهر بن عاشور أنموذجاً

حميدة حمايدي*

* كاتبة من تونس.

 

 

 

 

- 1 -

شهدت مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعاصرة انتشار ظواهر العنف والتّعصّب والانغلاق، وهي ظواهر غريبة عن ثقافتنا الإسلاميّة غذّتها بعض الأحقاد الخارجية الزّائفة، والممارسات العنيفة الّتي أساءت إلى الثّقافة الإسلاميّة وشحنتها بمفاهيم ومصطلحات غريبة عنها.

لقد رفض المثقّفون التّونسيون المسلمون على مرّ الزّمن أيّ شكل من أشكال العنف والتّعصّب، ممّا جعل هذه الثّقافة يُشهد لها بإنتاجها لثقافة التّسامح، وتعدُّ أيضاً أنموذجاً أثيراً فريداً في العالم بأسره.

وإنّه من واجبنا في الوقت الرّاهن الانطلاق من أنفسنا وتقويم ما أُفسد وأُتلف لتظلّ ثقافتنا الإسلاميّة نقية صافية، لقد شهدت المجتمعات الإسلامية اعتداءات خارجية سافرة استهدفت رموز الدّين الإسلامي وتكرّرت في حقب تاريخية معلومة، إلّا أنّ المسلمين تمكّنوا من التّخلّص منها، وخلّدوا بسالتهم على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة.

وسنُخصّص هذه المقالة لبيان بعض مظاهر التّسامح الإسلامي من خلال مدوّنة الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور، وإبراز مدى وعي الشّيخ ابن عاشور بثقافة التّسامح وثقافة الاختلاف، وإلى أيِّ حدٍّ آمن بضرورة نبذ العنف والتّعصب رغم اشتداد الاعتداء الأجنبي الأوروبي المسيحي على ديار الإسلام؟

خصَّ أغلب المستشرقين والسّاسة ورجال الدّين الأوروبيين -الذّين تعزَّز وجودهم زمن محمّد الطّاهر بن عاشور بديار الإسلام مغرباً ومشرقاً- المسلمين بالتّعصّب والعنف والغطرسة... لقد قويت شوكة هذه النّعوت إبّان الاستعمار الأوروبي؛ إذ لم تعدّ المواجهات الإسلاميّة فعلاً طبيعيًّا غايته ردّ سطوة الآخر المغتصب واستعادة حرمة الأنا المنتهكة، بل إنّ أيَّ شكل من أشكال مواجهة التّصدّي للاستعمار عُدَّ عُنفاً واعتداءً سافراً نابعاً من «ثقافة القرآن».

وقد نصّب ابن عاشور (ت 1972) نفسه للردّ على المكائد والدّسائس الخارجية، ووظّف قدراته وحكمته للردّ على ادّعاءاتهم وأباطيلهم في مؤلّفات غزيرة الفائدة، وبيّن أنّ تصدِّي المسلمين للاستعمار الأوروبي منزّه من أن يكون مظهراً من مظاهر التّعصّب والعنف، بل هو مظهر من مظاهر حماية الهويّة الثّقافية الإسلاميّة بديار انتشر منها الإسلام مشرقاً ومغرباً.

لقد وظّف الاستعمار المشاريع التّبشيرية لطمس الخصوصيات الدّينية للتّونسيين وسلبهم مقوّماتهم الثّقافيّة، ولكن إرادة فرنسا تقويض أركان الدّين الإسلامي بهدف تركيز أقوى لنفوذها في إفريقيا الشّماليّة واجهها ابن عاشور بالرصانة والحكمة، وسعى إلى الدّفاع عن الثّقافة الإسلامية، وتّأكيد أنّ جوهرها تكريس التّسامح الثّقافي.

وآمن ابن عاشور أنّه «من أكبر الأسباب في تقدّم الأمّة بعلومها وقبولها لرتبة التّنور وأهليتها للاختراع في معلوماتها، أن تشبّ على احترام الآراء... وقد كان للمسلمين من ذلك الحظ الّذي لم يكن لغيرهم من التّسامح والتّساهل مع الأفكار... شهد بذلك التّاريخ إلّا المتعصبين منهم»[1]. لقد كان الشيخ ابن عاشور واعياً وعياً بليغاً بأنّ الأحقاد الاستعمارية لم تحترم الخصوصيات الثّقافية لديار الإسلام، ولم تسعَ إلى نشر قيم الحوار والتّسامح، بيد أنّه ذكّر المسلمين أنّ القرآن والسنّة علّما المسلمين «أنّ الاختلاف ضروري في جبلة البشر»، واستدلّ ابن عاشور بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...}[2]، وقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[3].

كان ابن عاشور واعياً بأنّ الأوروبيين يتوسّلون بحق التّعبير عن رؤاهم وأفكارهم في حرية تامة، وتفطّن إلى أنّهم يتعمَّدون تسريب أفكار باطلة، الهدف منها إثارة البلبلة والفوضى، ودعا ابن عاشور صراحة إلى نبذ العنف والاضطهاد مع المُسيئين للمسلمين، وحثّ المسلمين على ضرورة ضبط النّفس، وعدم الانصياع لما رسمه أعداء الإسلام الذين أرادوا إرباك المسلمين وجعلهم يتلهَّون عن شؤونهم ببثّ الفوضى وإشعال نار الفتن.

واستظهر الشّيخ ابن عاشور، الّذي عاش ويلات المؤتمر الأفخرستي سنة 1930 بتونس، وفعاليات الاحتفال بخمسينية فرنسا بتونس، وَمِئَويَّة الاستعمار الفرنسي بالجزائر عام 1931، وما ترتّب عن ذلك من تقديس لرموز ثقافة الصّليب (بناء المعابد والكنائس وتشييد تماثيل لرموز كنسية مثل تمثال الكاردينال لافيجري قبالة جامع الزيتونة ممسكاً بالصّليب متوعداً تدمير الثّقافة الإسلامية...)، وتدنيس لرموز ثقافة الإسلام (تضييق الحصار على المثقفين والمناضلين بالمستعمرات وخارجها والإساءة للمساجد والجوامع في وضح النّهار، ومحاولة طمس خصوصيات اللغة العربية...) بتحذيره تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[4]، مذكّراً المسلمين بضرورة توخّي اللّين ونبذ البطش عند الرّدّ على المشركين عندما يعتدوا على مقدّساتهم، وألَّا يردّوا بعنف أشدّ حتّى لا يقعوا بالمحذور، فيشتدّ ردّ فعل المشركين ويغالوا في سبّ الله جلّ جلاله وسبّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

- 2 -

لقد أحيت السّياسة الاستعمارية ثنائية الإسلام في مقابل المسيحيّة، وشدّت وثاق الطّرف الأوّل من الثّنائية بالرّذيلة والأذى، وألصقوا به التّهم، وعدّوه سليل إرث فاسد لا هدف له إلّا إلحاق الأذى بالمخالف للثّقافة المحمديّة التّي هي أفظع ما أنتجته الإنسانية على حدّ زعمها، ولكن آمن ابن عاشور أنّ الدّعوة المحمديّة أرادها الله تطهيراً للإنسانيّة، إلّا أنّ ذلك لا ينفي ضرورة توخّي أسساً نبيلةً أجلّها التّسامح وإرساء روح التّحاور بين المسلمين ومن خالفهم.

وقد بدا ابن عاشور موضوعيًّا فاعترف بوجود تجاوزات وحالات من العنف والتّعصّب، إلّا أنّه بيّن أنّ المسلمين وجدوا ذواتهم مدفوعين إلى ذلك النّهج، «إذ حملهم على تناسي التّسامح الإسلامي ما يلاقيهم به بعض أهل الملل الأخرى من صلابة المعاملة، وسوء الطّوية، وتبيين الشّرّ، وتربصّ الدّوائر، واستغلال ما للمسلمين من تسامح لتحصيل فوائدهم، وإدخال الرّزايا للمسلمين ممّا يبعث المسلمين إلى أخذ الحذر والمعاملة بالمثل طيلة القرون حتّى أنساهم تسامحهم»[5].

اعتنى ابن عاشور عنايةً فائقةً بمسائل التّسامح والتّعصب التّي اشتدّت في ظرفيّة تاريخيّة حرجة جدًّا، تميّزت بسيطرة الاستعمار الأجنبي على الدّيار الإسلاميّة عامّة وعلى دياره الأمّ خاصّة. وبيّن مظاهر التّسامح الإسلامي بين الأهالي المسلمين والمستعمرين غير المسلمين، وأشاد بمبدأ التّسامح الّذي شرّعه الإسلام مع أهل الدّيانات الأخرى، وبيَّن براءة الثّقافة الإسلاميّة من اتّهامات أعداء الإسلام. وتحدّث ابن عاشور عن «السّماحة –الّتي هي– من أكبر صفات الإسلام الكائنة وسط بين طرفي إفراط وتفريط... فرجع معنى السّماحة إلى التّيسير المعتدل، وهي معنى اليسر الموصوف به الإسلام»[6]، مؤكّداً إيمان المسلمين إيماناً قاطعاً بضرورة مشاركة غيرهم –المختلفين عنهم- الحياة الإنسانية في جميع مستوياتها في كنف الاحترام والتّسامح، «فلقد كان أهل الأديان منذ عرف التّاريخ يجعلون الدّين جامعة ومانعة، أي كما يجعلونه جامعاً للمتدينين به في المودّة وحسن المعاشرة والعصبيّة كذلك يجعلونه مانعاً من الامتزاج والمعاشرة مع المتدينين بغير دينهم... ثمّ تنشب بينهم الكراهيّة ثمّ الغلظة ثمّ البطش بأولئك المخالفين... أمّا الإسلام فمع ما دعا إليه أتباعه من جعله الدّين هو الجامعة العظمى الّتي تضمحلّ أمامها سائر الجامعات إذا خالفتها، فهو لم يجعل تلك الجامعة سبباً للاعتداء على غير الدّاخل فيها... فجعل التّسامح من أصول نظامه»[7].

لقد بيّن ابن عاشور أنّ اللّه فرّق في أغلب السّور القرآنيّة بين الملل باختلاف الأديان كما نهى اللّه الرّسول عن استعمال الجبر والإكراه لإلزام المخالف للدّين الإسلامي أو المشرك باللّه بنطق الشّهادتين. وأكّد أيضاً دحض الدّين الإسلامي للتّعصب وتعنيف الآخر لإرغامه على الاهتداء للإسلام، بل إنّه يؤكّد ضرورة الإيمان بالتّسامح مع الأديان المخالفة للدّين الإسلامي، ومن بين الآيات الدّالة على ذلك ذكر قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}»[8].

فالتّسامح أصل من أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام، وأثبت ابن عاشور أنّ ثقافة التّسامح نابعة من جوهر الثّقافة الإسلاميّة؛ إذ إنّ «قاعدة هذه الأسس هي القاعدة الفكريّة النّفسيّة، وتلك هي أنّ القرآن وكلام الرّسول... يعلّم المسلمين أنّ الاختلاف ضروري في جبلّة البشر، وأنّه من طبع اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة، وهذا المبدأ إذا تخلّق بالمرء أصبح ينظر إلى الاختلاف نظرة إلى تفكير جبلّي... لا نظرة إلى الأمر العدواني المثير للغضب»[9]، واستشهد الشيخ بقول الرّحمن: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين}»[10].

- 3 -

إنّ التّسامح مع المختلف للأنا على علاقة جدليّة بإصلاح التّفكير ومكارم الأخلاق اللّذين هما بدورهما من أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام. وأبرز ابن عاشور أنّ «المسلمين مازجوا أُمماً مختلفة الأديان دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب ومجوس الفرس وصابئة العراق ويهود أريحا، فكانوا مع الجميع على أحسن ما يُعامل به العشيرُ عشيره، فتعلّموا منهم وعلّموهم، وترجموا كتب علومهم، وجعلوا لهم الحريّة في استبقاء رسومهم واستبقوا لهم عوائدهم المتولّدة من أديانهم؟»[11].

وذكر الشّيخ ابن عاشور في مؤلّف (روح التّحرر في القرآن) تصرُّف المسلمين مع أهل مصر وفارس والمغرب أيّام الفتح؛ إذ «لم يفرضوا معتقداتهم الدّينيّة على الشّعوب الخاضعة منذ مدّة قريبة لسلطتهم، فاحترموا معتقداتها، ولم يفرضوا عليها إلّا الجزية»[12].

وزيادة على ذلك بيّن ابن عاشور أنّ القرآن لم يخصّ خطابه بفرد معيّن أو مجموعة دون غيرها لها صفات خَلْقيّة وخُلُقيّة مخصوصة مثل «الألوان والصّور والسّلائل والمواطن»[13] و«اللّغات ومحاسن الصّور والأنساب والأقطار»[14]. ولم تؤسّس السّنة بدورها ثقافة إسلامية متعصّبة لا تعترف بالآخر وتعمد إلى إقصائه وزهق حياته إذا لم يرضخ لتعاليم الثّقافة الإسلامية وقيمها، ممّا يلزم معتنقي الدّين الإسلامي بالإيمان بهذه التّعاليم السّمحة الّتي نشرها الإسلام.

إنّ خطاب القرآن خطاب جامع وشامل حاول أن يستوعب كلّ الفروق ومظاهر التّمايز اللّذين أفرزتهما الأنظمة الاجتماعيّة والسّياسيّة السّابقة للإسلام. لقد تعرّض القرآن في العديد من السّور إلى بيان علاقة المسلم بغيره من المخالفين له في العقيدة، داعياً إيّاه إلى ضرورة التّسامح وعدم التّعصّب وإجبار الآخر على اعتناق الدّين الإسلامي عنوة. وقد استجاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره في خطبة الوداع إلى إرادة الله، فبيّن أنّه «لا فضل لعربيّ على عجميّ إلَّا بالتّقوى»، ممّا يؤكّد أنّ «التّعصّب لا علاقة له بروح الإسلام»[15].

وآمن ابن عاشور أنّ المسلمين عليهم الاقتداء بسيرة الرّسول الأكرم، والتّحلّي بما يُرضي الخالق، والحرص على عدم عصيانه بإلحاق الأذى بالعصاة من خلقة وتولّي حسابهم في الدّنيا حساباً يعود بالوبال على المسلمين أنفسهم. فالله العادل يُفرّق في كتابه السّماوي المقدّس بين المؤمن به وبشرائعه والمشرك والمسيء للشّرائع الإسلامية، ووفقاً للإيمان أو الفسوق سيكون الجزاء الأخروي.

حاول محمّد الطّاهر ابن عاشور مثل غيره من المفكّرين والفقهاء المسلمين إبراز عدم تعارض الدّين الإسلامي مع ثقافة الاختلاف ومع مبادئ حقوق الإنسان الّتي آمن بها الأوروبيون والّذين خالوا أنفسهم أنّهم سيعلّمونها للمسلمين وسينشرونها بينهم، متناسين أنّ الدّين الإسلامي كرّم الإنسان عقلاً وجسداً، وحفظ كرامته على مستوى الفرد والمجموعة مراعياً كلّ الفروق والاختلافات.

والحقيقة أنّ طرح هذه الإشكاليات تكثّف خاصّة منذ النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر مدفوعاً بالتّصادم الحضاري الكائن بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي المسيحي، وزادت هذه الدّراسات تأجّجاً خلال القرن العشرين، هادفة إلى إثبات الهوية الإسلامية، ساعية إلى تأكيد أسبقية الإسلام في تكريم الجنس البشري، باحثة عن الأسباب الّتي رجعت بالمسلمين عن ذلك التّقويم الباهر وصلاح أحوالهم زمن أوج الحضارة الإسلامية «حتّى يعودوا كما بدؤوا من كمال الارتقاء»[16].

لقد حنّط أغلب المبشّرين والمستشرقين ثنائيّة تعصّب المسلمين في مقابل تسامح المسيحيين، وآمنوا إيماناً قاطعاً أنّ ثقافة التّسامح تنعدم بهذه الدّيار الإسلامية التّي يُرفض فيها الاختلاف الثّقافي والدّيني خاصّة. وقد عمد الأوروبيون والأمريكيون إلى استفزاز الشّعوب الإسلامية، وإلى الإساءة إلى رموزهم الثّقافية، متوسّلين بذلك لإيقاعهم في الفوضى والعنف، وإظهار انغلاق الثقافة الإسلامية، وإيمانها بالعنف، وإقصاء المخالف لها، لكن من واجبنا التّيقظ وحسن الردّ عن هذه الأفكار الخاطئة المشؤومة، وإثبات أنّ الدّيار الإسلاميّة يطيب فيها العيش والوئام والسّلم ولا تُنتهك فيها الحرمات، ولا يُساء فيها إلى معتنقي الدّيانات المختلفة عن الإسلام.

وإنّ الواجب يحتّم علينا الوفاء لثقافتنا الإسلاميّة، والتّصدّي للممارسات المبتذلة والمفتعلة الّتي دنّست ثقافتنا الإسلاميّة الضّاربة بجذورها في العطاء والانفتاح على الآخر والتّحاور معه دون تصادم أو عنف... كما أنّه من واجبنا نشر الإسلام فكراً وممارسةً بسلوكنا الطّيب والكريم وبحكمتنا الّتي كرّمنا الله بها باعتناقنا للإسلام، وإثبات أنّ الثّقافة الإسلامية بيئة مثالية حقّقت المصالحة والانسجام والسّماحة بين مكوناتها الاجتماعية ومن خالفها من بيئات أخرى.

وإنّ رهان الثّقافة الإسلامية حديثاً وراهناً على «ثقافة الاختلاف» لم يتأتّ من العدم، بل هو إفراز لما أنتجه المفكرون والأدباء والفلاسفة والسّاسة المسلمون... مهتدين بالأنوار الإلهية منذ قرون طويلة، ووقع تبنّيه من طرف الخاصّة والعامّة تبنِّياً واعياً ومسؤولاً.

 

 

 



[1] محمد الطاهر بن عاشور، مقال: احترام الأفكار، مجلة السعادة العظمى، ع18، م1، رمضان 1322هـ.

[2] سورة الكهف، الآية 29.

[3] سورة الحج، الآيات 67 - 69.

[4] سورة الأنعام، الآية 17.

[5] ابن عاشور، محمد الطاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الشّركة التونسية للتّوزيع + الدار العربية للكتاب : تونس+ ليبيا، 1977، ص228.

[6] ابن عاشور، محمد الطاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص26.

[7] ابن عاشور، محمد الطاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 229.

[8] سورة العنكبوت،آية 46.

[9] ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 230.

[10] سورة هود، الآية 118.

[11] ابن عاشور، محمد الطاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص232.

[12] الثّعالبي، عبد العزيز روح التّحرر في القرآن، ص 138.

[13] ابن عاشور، محمّد الطّاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية، ص95.

[14] ابن عاشور، محمّد الطّاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 150.

[15] الثّعالبي، عبد العزيز. روح التّحرر في القرآن، ص87.

[16] ابن عاشور، محمّد الطّاهر. أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام، ص5.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة