تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

القواعد اللغوية في الحجاج الفقهي

أحمد غاوش

 

القواعد اللغوية في الحجاج الفقهي

 

إعداد: الدكتور أحمد غاوش*

* باحث مغربي.

 

 

 

 

نوقشت هذه الرسالة برحاب كلية اللغة العربية بمراكش التابعة لجامعة القرويين، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في موضوع: القواعد اللغوية في الحجاج الفقهي، وقد جرت أطوار المناقشة بتاريخ: 29 أكتوبر 2010، وتكونت اللجنة العلمية للمناقشة من السادة الأساتذة: د. محمد عز الدين المعيار الإدريسي، ود. الحسين أطبيب، ود. عبد الجليل هنوش، ود. مصطفى أبو حازم، وقد تم منح الطالب درجة الدكتوراه بميزة: مشرف جدًّا، وفيما يأتي التقرير الذي تقدَّم به الباحث أمام اللجنة العلمية للتعريف ببحثه وأهم محاوره:

إن الدارس للفقه الإسلامي، والمطلعَ على تاريخه ومساراته، يدرك أن التفقهَ الشرعيَّ في مختلف أدواره ومراحله، لم ينفك عن الحجاج والمناظرة والجدل والمحاورة؛ فمنذ العصر الأول كانت المناظرةُ منتهى مقصود العلماء ودأبَهم في صغير القضايا وكبيرها. وكانت مجالس المناظرة طقساً ثابتاً في التقاليد الثقافية الإسلامية؛ فكانت تُعقد على نحو راتب بين المتفقهين باعتبارها جزءاً من المنهاج الدراسي، وإحدى الوسائل المعتمدة لشحذ أذهان الطلبة، وتفتيق مواهبهم الفكرية، وتمرينهم على النظر النقدي العميق[1].

ولقد بلغ من مكانة الحجاج وأهميته في البيئة الفقهية أن المناقبيين والتراجمة ليحلون ترجمات الفقهاء بالتنبيه على نَفَسهم الحجاجي المتين، والإشارة إلى قوتهم في المحاججة، والإلماع إلى قدرتهم على قهر المخالف ومغالبته بقوة الحجة، وحسن ترتيب المحاورة، فمثلاً تصادفك في كتب طبقات الفقهاء ومناقبهم أمثال هذه العبارات: «كان زاهدًا ورعاً محجاجاً مجتهداً غواصاً على دقائق الفقه»[2]. أو: «كان مناظراً صاحب حجة»[3]. أو: « وكان بحاثاً مناظراً مفحماً للخصوم»[4]. أو: «وكان فقيهاً فاضلاً مناظراً جَدِلاً»[5].

والمتتبع لحجاج الفقهاء بمظاهره وأنواعه يستنتج أنهم قد اعتمدوا سبلاً متنوعة للاستدلال، وتوسّلوا بعلوم ومعارف مختلفة في الاحتجاج، ويظهر له بغير كبير عناء في التأمل أن اللغةَ العربية وقواعدَها، كانت إحدى العُمَد التي استند إليها الفقهاء من جميع المذاهب لإظهار قوة أدلتهم، وإبراز الراجحية والتقديم في اختياراتهم وأقوالهم.

وعلى المستوى الشخصي تبيَّن لي ذلك في أجلى الصور عندما اشتغلت في مرحلة دبلوم الدراسات العليا على القواعد اللغوية التي رجّح بها الفقهاء مذاهبهم، فعلى الرغم من أن مجال الدراسة كان محصوراً في كتاب واحد لا يعدّ من المطولات هو: (بدايةُ المجتهد ونهايةُ المقتصد) لابن رشد الحفيد، إلَّا أنني استخرجت كمًّا كبيراً من قواعد اللغة المضمنة في الاستدلالات الفقهية، الأمر الذي لا يبقى معه مجال للارتياب في قوة الرابطة وعمق العلاقة بين الفقه واللغة...

والملحوظ أن نظرية الحجاج قد أضحت من أكثر النظريات تداولاً ودراسة في مختلف فروع العلوم الإنسانية، وأن العقود الأخيرة شهدت انتعاشاً جديداً في الدرس الحجاجي ضمن ميادين الفلسفة والاجتماع والبلاغة والأدب... إلَّا أن الدراسات الشرعية عموماً والفقهية منها على وجه التخصيص ظلَّت بمنأى عن كل هذه النهضة الفكرية، وأكاد أجزم أن الدراسات التي تتناول الحجاج الفقهي من الجانبين النظري والعملي شبه منعدمة، فإنني على طول التتبع لم أعثر على ما يقارب الموضوع، أو يتناوله إلَّا من طريق عرضي لا غَناء فيه، من أجل ذلك عقدت العزم على إنجاز بحث يُغطي هذا الفراغ ويسده: نظريًّا باقتراح مفاهيم فقهية وأصولية للحجاج، وتطبيقيًّا بتقديم عدد مهم من الشواهد العملية التي تؤكد ما تم تأصيله، واخترت له عنوان: «القواعد اللغوية في الحجاج الفقهي».

وليس إدراج مصطلح «الحجاج» في عنوان هذه الدراسة، واعتماد مفهومه العام في تصور موضوعات فقهية وشرعية من قبيل الاغترار بشائع الأفكار، أو تلقّف الدعوات السيارة الغريبة، والدخول بها على حرم علومنا الإسلامية، وإنما هو تلقٍ للحكمة أنّى وجدت، وتجديد في أسلوب التعامل مع تراثنا الفقهي، واقتباس لصالح المناهج والأساليب لا نجاوز به حدود القراءة المستجَدة المستأنفة لموروثنا الفقهي، بمعنى أننا نسعى إلى قراءته بعيون جديدة، لا أننا نختلق له ما ليس فيه، أو ننسب إليه ما ليس منه، أو نفتري عليه ما ليس له به صلة ونسب...

ولم تسعَ هذه الدراسة إلى استقدام هذا المفهوم اعتباطاً، وإنما للاستفادة مما يمنحه من العموم والشمول الذين لا يخلوان من ضبط ووضوح، الأمر الذي سيساعدنا على جمع شتات ما هو موجود فعلاً في ثنايا المتن الفقهي في باب واحد، وتنظيم ما هو متناثر من كلام الفقهاء وبحوثهم تحت عنوان جامع.

والغرض الأساس لهذه الدراسة هو تحقيق جملة أمور يقع في موقع الصدر منها ما يأتي:

1.      البحث في الفعاليات الحجاجية التي استعملها الفقهاء في بحثهم الشرعي، ورصدُ التقنيات الإقناعية التي اعتمدوها لتثبيت مبانيهم الفقهية، والذودِ عن حياضها في معتركات الخصوم، ورفعِ شأنها فوق مقامات الأقران والمخالفين.

2.      محاولة تركيب نظرية في البحث الفقهي يمكن تسميتها: نظرية الحجاج الفقهي، نروم بها جمع شتات الموضوعات والمباحث المندرجة تحت عنوان المحاججة بأنواع من الأدلة المعتبرة في ميزان أصول الفقه، والمقبولة في مناهجِ الاستدلال الشرعية، وطرقِ الحجاج الفقهية...

3.      تتبع القواعد اللغوية التي توسَّلها الفقهاء في مقامات الاحتجاج عن آرائهم الفقهية، وتصنيفُها تحت عناوين جامعة، ثم البحث لها عن تطبيقاتها الفروعية إغناءً للبحث القواعدي، وإثراءً له بمادة ظلت مغيبة في حقل الدراسات الفقهية المعاصرة بحكم انصراف الفقهاء إلى العناية بالقواعد الفقهية الصرفة دون قريناتها اللغوية.

 المفاهيم الكبرى للدراسة

قد حاولت هذه الدراسة النهوض بمهمة جمع شتات جملة من المفاهيم والمصطلحات الفقهية التي يصدق عليها وصف الحجاج، وتصلح لأن تُشكّل بمجموعها نظرية متكاملة تنتظم في سلكها المظاهر الحجاجية في إطار الفقه الإسلامي نظراً وتطبيقاً، فكان أن وقفت على عدد منها، وهذا أنموذج لأهمها:

أولاً: الحجاج الفقهي

سعت الدراسة إلى اقتراح مفهوم علمي للحجاج في بعده الفقهي، فعلى الرغم من أن الحجاج بكل صوره وأبعاده حاضر بعمق واتساع في الدرس الفقهي والأصولي، إلَّا أننا لا نجد من المُتقدّمين، ولا حتى من المتأخّرين، أحداً تناوله بالتعريف، نظراً لأنه ليس بالمصطلح المتداول على لسان أهل الفقه، بل لا نعرف أحداً سبق إلى استعماله على الوضع الاصطلاحي الذي يقترحه هذا البحث، وإن كانت مدلولاته قائمة الذات مكتملة العناصر في المدونة الفقهية بمكونيها: الأصولي والفروعي.

فالحجاج باعتباره عملية إقناعية تهدف إلى البيان، أو الإفحام، أو المدافعة عن الرأي موجود في كتابات الفقهاء بصور كثيرة، وألوان مختلفة، ويمكن الجزم -دون مجازفة- بأنه يمثل نظرية متكاملة بمفاهيمها، وأركانها، وشروطها، وقواعدها، وضوابطها... لا تحتاج إلَّا إلى جهود علمية تنصرف إلى الجمع والتنسيق والترتيب، لتجتمع لدينا واحدة من النظريات الكبرى في الفقه وأصوله من المناسب أن تسمى: «نظرية الحجاج الفقهي» تندرج في سلكها فنون من حجاج الفقهاء من قبيل: الترجيح، والتخريج، والمناظرة، والجدل، وآداب البحث، وعلم الخلاف...

ثانياً: الترجيح الفقهي

يخصص الأصوليون في جل كتبهم باباً للترجيح يُسمّونه أحياناً كتاب التراجيح، ويخصصونه للبحث في مفهومه، وقواعد، وشروطه... ويفردون جانباً كبيراً منه لذكر الأنحاء التي يقع منها الترجيح بين المتعارضات...

وغني عن البيان أن الترجيحَ ملازمٌ للحجاج ضرورةً؛ إذ لا معنى للترجيح إلَّا أن يكون تقويةً لرأي فقهي معيَّن على مقابله، وإبرازاً لمكامن الغلبة والمزية فيه، فالمرجِّح لا يقدم على تغليب أحد المتعارضين لديه، إلَّا بعد ظهور الراجحية في أحدهما، تجعله يقويه بالأدلة والحجج من جانب، وبإزالة الاعتراضات وغلق المداخل من جهة مقابلة، ولذا كان طريقُه غلبةَ الظن، فلا يدخل أصلا في تقوية ما طريقُه القطع.

والقاعدة عند الأصوليين أن الترجيح لا يكون بين المعلومات، أي القطعيات والأدلة اليقينية؛ لأن بها من الوضوح والبيان ما يجعلها في غنى عن كل ضروب الحجاج الظنية.

ثالثاً: التخريج الفقهي

إن علم التخريج الفقهي جاء ليُعيد أصول الفقه بنظرياته وقواعده إلى رحاب الفقه بفروعه ومناظراته وحجاجه، وذلك بعد أن استقر الحال عند الأصوليين، من المتكلمين خصوصاً، على اطِّراح الفروع والأمثلة الفقهية، والانصراف عنها إلى بناء النظريات، ودراسة أدلة الاستدلال الإجمالية، شعارهم في ذلك قول الجويني: «حق الأصولي ألَّا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع، ولا يلتزمَ مذهباً مخصوصاً في المسائل المظنونة الشرعية»[6].

ووصلت محاولات الفصل بين الفقه وأصوله مدى بعيداً عند الإمام الرازي حين يرى أن موضوع علم الأصول هو دراسة الأدلة من حيث الإجمال دون التفات إلى تطبيقها في فروع الفقه، يقول: «وقولنا (على طريق الإجمال) أردنا به بيانَ كونِ تلك الأدلة أدلةً، ألا ترى أنا إنما نتكلَّم في أصول الفقه في بيان أن الإجماعَ دليلٌ، فأما أنه وُجِد الإجماعُ في هذه المسألة، فذلك لا يذكر في أصول الفقه»[7].

ولقد لاحظ الزنجانيُّ بُعْدَ الشقة بين من استقل من «علماء الأصول بذكر الأصول المجردة، وعلماء الفروع بنقل المسائل المبددة من غير تنبيه على كيفية استنادها إلى تلك الأصول...»[8].

فتقريباً لمِا تباعد من شطري الفقه الإسلامي ألَّف كتابه، وكأنه والمؤلفين مثله في هذا الفن نهضوا لسد فراغ عظيم في التدوين الأصولي الكلامي، عن طريق إرجاع الفروع إلى أصولها، وربط النظريات بتطبيقاتها، سدًّا لباب الاعتراضات، ونفياً للتهم والشبهات.

من أجل ذلك، نلاحظ أن أهم المؤلفين في علم التخريج على سبيل الاستقلال كانوا من المنتمين إلى مدرسة المتكلمين الأصولية، ولا سيما من الشافعية، وأما أصحاب مدرسة الفقهاء؛ فلم يكونوا بحاجة إلى التخريج بقدر حاجة نظرائهم؛ لأن أصولهم مبتناة على الفروع الفقهية أساساً.

وبذلك تتبيَّن قوَّة الارتباط بين كل فعل تخريجي والحجاج، فإن الفقيه حين يخرج الفرع الفقهي على قاعد شرعية أو دليل معتبر، إنما يهدف بالأساس إلى إبراز مكامن القوة فيما اختاره من المذهب، ونفي تهمة الخلو من الدليل التي يمكن أن تُلصق به من قبل خصومه، فتضعف رأيَه وتسقطه، فكأنه يقول بلسان الحال: هذا دليلي فأين دليلُكم؟...

فالتخريج الفقهي إذن، باب عظيم من أبواب الحجاج؛ إذ هو بناء للمذاهب الفقهية على الأصول والقواعد الشرعية ذواتِ الفضل والمزية مما يُكسبها قوّةً ورجحاناً يتعيَّن على المخالف إما الإذعان له، أو منعُه وعدمُ التسليم به، قطعاً لمسالك الاستدلال والاحتجاج على الخصم...

رابعاً: المناظرة الفقهية

سعت الدراسة إلى تحديد معنى دقيق ومبتكر للمناظرة الفقهية باعتبارها مفهوماً شاملاً يندرج تحت مظلته جملةٌ من الأساليب الحجاجية، وأنماطٌ من ضروب الجدل والمدافعة عن الرأي والمذهب، ويدخل فيه ألوان من استعمال العقل، وإشغال النظر في أمر من الأمور؛ فيندرج تحته: «المحاورة» و«المباحثة» و«المذاكرة» وغيرُها من أنواع التفاعل الفكري بين طرفين...

والمناظرة بهذا المعنى لا تستلزم في أصل مفهومها القصدَ إلى المنازعة، والسعيَ إلى تصحيح الرأي الموافق وإبطال مناقضه، وإن كان ذلك يعدّ أيضاً تجلياً من تجلياتها؛ فالجدل، والخلافيات، وفنون التخريج والترجيح، والتقوية والتضعيف... كل ذلك داخل تحت المفهوم الواسع للمناظرة، وهو: مبادلة النظر بين طرفين، أو أكثر.

رابعاً: القواعد اللغوية

تحقيقاً لمطلب التراكم المعرفي أعتقد أن كل دراسة جادة لموضوع القواعد نظريةً أو تطبيقاً، وإن كانت في مجال غير الفقه الإسلامي، مطالبةٌ بأن تكمل المسار من حيث انتهى إليه البحث عند المشتغلين بالبحث الفقهي، دفعاً للجهود درجاتٍ أعلى ينبني بعضها فوق بعض...

والسبب الموضوعي لذلك أن التقعيد الفقهي -ولا سيما عند المعاصرين- قد خطا خطوات عملاقة على المستويين النظري والعملي لا نجد لها نظيراً في بقية العلوم المنتسبة إلى دائرة الشريعة ولغتها، ويشهد على هذا التقدّم الكم الوافر من الدراسات الجامعية والبحوث الأكاديمية التي اتَّخذت من القواعد الفقهية موضوعاً لها...

واستحضارا لهذا المعطى اعتمد البحث في اقتراح تعريف علمي للقاعدة اللغوية على التعريفات الدقيقة التي قدّمها الباحثون في الدراسات الفقهية، ثم حاول بعد ذلك تبيئتها في المحيط اللغوي والدراسات اللسانية.

 خطة إنجاز العمل

إن هذا العمل يحاول الجمع بين النظرية والتطبيق، وقد استلزم ذلك أن يتكوَّن من بابين، أولهما مفرد لمعالجةِ نظرية الحجاج في الفقه الإسلامي تأصيلاً وتأثيلاً، وبسطِ مفهومها لغةً واصطلاحاً وفروقاً، ومدِّ القول في أنواعها وخصائصها ومميزاتها... وقد انقسمت فصول هذا الباب إلى ما يأتي:

أ- الفصل الأول: في مفهوم الحجاج تناولت فيه الحجاج من الزاويتين اللغوية والاصطلاحية، وبيَّنت فيه مفهومه في الفقه الإسلامي مع إبراز المميزات التي يختص بها، وتحديد موقعه في الأصول والفروع.

ب- الفصل الثاني: في أنواع الحجاج الفقهي، وقد استلزمت طبيعة هذا الفصل أن يكون أطول من غيره؛ لكونه معنيًّا بالتحديد الدقيق للمفاهيم الأساس للدراسة، من قبيل: الترجيح، والتخريج، والمناظرة، مع ما يتطلَّبه ذلك من تبيان الفروق المميزة لهذه المفاهيم عن غيرها، والتمثيل العملي لبعضها زيادة في التوضيح والبيان.

ج- الفصل الثالث: في العلاقة بين القواعد اللغوية والحجاج الفقهي، تعرَّضت فيه لمفهوم القاعدة على نحو من الاختصار والتركيز أتجنب به التَّكرار الممل للمباحث التقليدية التي بات كل بحث في القواعد يعرّج عليها من قبيل: الفروق بين القاعدة والضابط، والقاعدة الأصولية، والنظرية الفقهية، والأشباه والنظائر.

وأما ثاني البابين فهو مُخلَّص لعرض القواعد اللغوية التي يُوردها الفقهاء، والجدليون منهم خصوصاً، لتقوية مذهب معين، أو ترجيح قول مختار، أو تخريج رأي مشهور، أو مناظرة خصم في مسألة مختلف فيها.

وكان هذا الباب وشكل تقسيمه إحدى المعضلات التي ظلَّت تشغلني مدة ليست باليسيرة، وقد ظللت مدةً حيرانَ بين مسلكين لم أستطع الترجيح بينهما بسهولة، أولهما يُغلّب الجانب التطبيقي تكون فيه القواعد مرتبةً على الأبواب الفقهية، وهو مسلك خبرته في بحث دبلوم الدراسات العليا المعمّقة، حيث كان ترتيب القواعد اللغوية الترجيحية مرتباً على الأبواب الفقهية.

أما ثانيهما، فهو إلى النظر أقرب، وإن كان هو أيضاً لا يخلو من تطبيق يتجلَّى في التمثيل الفروعي للقواعد المستخرجة، إلَّا أنه بدل الترتيب على الأبواب الفقهية أعمد إلى ترتيب القواعد داخل فصول كبرى من قبيل: قواعد الترجيح باللغة، وقواعد التخريج على اللغة، وقواعد الجدل والمناظرة باللغة، ثم أورد ما يندرج تحت هاته العناوين من قواعد لغوية مع أمثلتها التطبيقية.

وبعد أخذ ورد، وتقدّم وتأخّر تبيّن لي أن التصنيف الأخير أمتن وأحكم، وهو بطبيعة الموضوع أليق وأنسب، فاخترته في نهاية المطاف، وكانت النتيجة تصميم الباب على النحو الآتي:

أ- الفصل الأول: أفردته لإيراد القواعد اللغوية التي تندرج تحت معنى الترجيح الفقهي، وقسَّمته إلى المباحث الآتية: المبحث الأول: قواعد معجمية في الترجيح المبحث، الثاني: الترجيح بالقواعد الصرفية، الثالث: الترجيح بالقواعد النحوية، المبحث الرابع: الترجيح بالقواعد البلاغية.

ب- الفصل الثاني: خصّصته لإيراد القواعد التي تدخل تحت مفهوم التخريج الفقهي. وقسّمته إلى المباحث الآتية: المبحث الأول: قواعد في حروف المعاني، المبحث الثاني: قواعد في الاستثناء، المبحث الثالث: قواعد في الشرط، المبحث الرابع: قواعد في الضمائر.

ج- الفصل الثالث: ضممت إليه القواعد المستعملة في أحد فنون المناظرة الفقهية، المبحث الأول: المعارضة الفقهية بالقواعد اللغوية، المبحث الثاني: القلب بقواعد اللغة، المبحث الثالث: الممانعة بقواعد اللغة.

وقد قدّمت لبابي الدراسة بمقدمة عامة، ثم أردفتها بتمهيد حاولت أن أُوطِّئ به للموضوع من منطلق عام يتمحور حول طبيعة العلاقة بين الدراسات الفقهية والدراسات اللغوية، مركزاً على ملحظ التفاعل بين المجالين، وممثلاً لبعض الجديد الذي قدّمه الفقه للبحث اللغوي، وقد تكوَّن هذا التمهيد من المبحث الأول: حدود العلاقة بين اللغة والفقه، والمبحث الثاني: خصوصية الدراسات الفقهية للغة، والمبحث الثالث: من جديد الأصوليين في البحث اللغوي.

وكانت نهاية المطاف في أركان هذا العمل خاتمة ضمَّنتها أهم الخلاصات التي توصَّل إليها البحث في قسميه، ثم ثنيت بالتوصيات والآفاق المتوقعة للبحث في مستقبل الدرس الفقهي المعاصر.

 أهم الخلاصات والنتائج

بتوفيق الله نجحت الدراسة في تحقيق طرف كبير من أهدافها المرسومة لها أولاً، وخير ما يدل على ذلك عدد النتائج والخلاصات العلمية التي توصَّلت إليها، ومن جملتها:

1- العلاقة بين اللغة والفقه أصولاً وفروعاً علاقة وطيدة، بحيث نكاد نجزم باستحالة الفصل بين الحقلين المعرفيين.

2- تعامل الفقهاء والأصوليين مع اللغة لم يكن من باب التقليد والتكرار المحض لما توصَّل إليه اللغويون، بل كانت لهم رؤيتهم المُتفرِّدة لمسائل اللغة، وإسهاماتهم الاجتهادية في تقرير جملة من مباحثها:

1.      من المباحث التي مثَّلنا بها على جديد الأصوليين في البحث اللغوي قضية المعنى السلبي للكلام، وأصل الاشتقاق...

2.      نظرية الحجاج متداولة في حقول معرفية كثيرة تناولنا منها الفلسفة والبلاغة والفقه، إلَّا أنها تظلّ من حيث الجوهر واحدة في جميع تلك الحقول، وترجع الاختلافات في التصور إلى جوانب ثانوية لا تأثير لها على نحو جلي.

3.      الحجاج الفقهي وعاء نظري يستوعب مجمل الصور والمظاهر الحوارية الجدالية في الفقه الإسلامي من الترجيح إلى التخريج، ومن المناظرة إلى المحاورة، ومن الجدل إلى المحاججة، فكل عمل فقهي دفاعي إقناعي صالح للاندراج تحت سقف النظرية.

4.      قدم البحث جملة من الخصائص التي يتميَّز بها حجاج الفقه، وتتمحور حول: ظنية الدليل، واحتمالية النتيجة، وسلامة القصد، وهي عناوين كبرى أُدغمت فيها فروع كثيرة من قبيل: الموقف الأصولي من الأدلة الفقهية بناء على معياري القطع والظن، وأصل مراعاة الخلاف وعلاقته بالاحتمال في الاستنتاج الفقهي...

5.      يحتل الحجاج موقعاً متميزاً في الفكر الأصولي يظهر ذلك فيما خلفه علماء هذا الفن من ثروة علمية مضمنة في التواليف والمصنفات الحجاجية، وأيضاً في المساحة التي استأثرت بها هذه الفعالية العقلية ضمن موضوعات علم الأصول، ولا سيما ضمن النظريات التي يتكون منها، وتؤول إليها أبوابه وأبحاثه.

6.      الترجيح مظهر بارز للحجاج الفقهي، وقد حاول البحث تحقيق القول في مفهومه الاصطلاحي، وتمكَّن من ذلك بعد مناقشة للتعريفات والاتجاهات بين من يجعله صفة للأدلة، ومن يجعله عملاً للمجتهد، ومن يحاول الجمع بين النظرتين...

7.      بيان الفروق بين المصطلحات طريق قوي لتجلية مفهوماتها، وإظهار استقلالها أو اتصالها، وقد كانت المعالجة الفارقية أسلوب الدراسة للتعامل مع المفاهيم العُمَد في الموضوع، وبخصوص الترجيح ميَّزنا بينه وبين: الاختيار، وغلبة الظن...

8.      بالنظر إلى أن الدراسة معقودة لتبيان العلاقة بين اللغة والحجاج الفقهي، فقد بيَّنت في مبحث خاص أوجه الترجيح اللغوية، أي ما يقع به الترجيح اعتماداً على العوامل اللغوية، وقد جاء فيه على سبيل التمثيل: ترجيح رواية الأعلم باللغة على غيره، والفصيح على الركيك، وما هو من لسان الشارع من غير تغيير على ما هو من لسانه مع التغيير، والأحسن سياقة على غيره.

9.      التخريج في الاصطلاح أثرى وأغنى منه في اللغة والمعجم، وقد بينا الأنواع التي ينطلق عليها هذا المصطلح في العلوم الإسلامية، وأفردنا إطلاقاته الفقهية بمزيد توقف وتحليل، لنخلص إلى المفهوم العام المعتمد في الدراسة.

10.    جرياً على منهج التفريق العلمي بين المصطلحات فرَّقت الدراسة بين التخريج الفقهي وما يقاربه من مصطلحات مثل: أسباب الاختلاف، وتحرير محل النزاع.

11.    إن إحدى الدعاوى الرئيسة لهذه الدراسة هي أن التخريج ضلع أساس في نظرية الحجاج الفقهي، وقد أقمت الحجة على هذه الدعوى في مبحث توصَّل إلى ارتباط نشأة التخريج بظروف الحجاج الفقهي، وأنه يمثّل جانب البناء الذي يُعدّ إحدى صورتي الحجاج عند أهل الأصول، وأن له مدخلاً عظيماً في باب الترجيح...

12.    يمثل التخريج محاولةً قام بها بعض الفقهاء لإعادة أصول الفقه إلى رحاب الفقه بكل ما ينطوي عليه جدل ومحاججة واعتراضات وردود تنطلق أساساً من الفروع صعوداً إلى القواعد والأصول.

13.    التأليف في التخريج الفقهي شاهد مبين على عمق الارتباط الذي يجمع هذا العلم بالحجاج، وقد طلبنا الدليل العملي على ذلك من ثلاثة كتب تخريجية هي: تأسيس النظر للدبوسي، وتخريج الأصول على الفروع للزنجاني، والتمهيد للأسنوي.

14.    المناظرة مفهوم عام تدخل تحته صنوف متنوعة من المحاورات منها: الجدل، والمحادثة، والنظر الفردي القائم على الحوار الداخلي...وليس من شرطها طلب الغلبة في الحوار...

15.    تختلف المناظرة من حيث العموم والخصوص مع مصطلحات ومفاهيم شديدة القرب منها، وقد اجتهد البحث في التماس الفروق المائزة بين المناظرة والجدل، وعلم الخلاف، وآداب البحث، فكان أن توصل إلى فروق جوهرية قد يكون سباقاً إليها.

16.    استعمل الفقهاء ألواناً من فنون وتقنيات المناظرة، وكان في الطليعة منها: المعارضة، والقلب، والممانعة، فاخترنا التمثيل بها على حجاج الفقهاء من هذا الطريق، وتم التعريف بها والتمثيل لها على حسب ما يقتضيه المقام.

17.    على الرغم من ارتباط هذه الفنون بباب القياس في أكثر الكتابات الأصولية، فإن تتبّع تطبيقاتها فقهيًّا أوصلنا إلى أنها تقنيات حجاجية عامة لا تختص بباب معين من الأبواب، بل يمكن استعمالها حيثما توافرت عناصرها الموضوعية.

18.    لا تختلف القاعدة اللغوية عن القاعدة الفقهية في المفهوم لكن في الأمثلة والماصدقات، بل لا يختلف مفهوم القاعدة في سائر العلوم.

19.    التقعيد الفقهي متقدم جدًّا نظريًّا وعمليًّا على التقعيد في بقية العلوم ومن ذلك التقعيد اللغوي، لذلك رأينا ضرورة الاستناد إلى الدراسات الفقهية في هذا المجال لتوضيح مفهوم القاعدة اللغوية تحقيقاً لمبدأ التراكم الذي لا تطوُّر للعلوم إلَّا به، واستثماراً للمنجز المعرفي الحاصل عند الفقهاء.

20.    اقترحت الدراسة تعريفاً للقاعدة اللغوية جاء فيه أنها: قضية كلية لغوية منطبقة على جزئياتها اللغوية؛ إما بجهة الاطِّراد، أو الأغلبية. وقد رجونا أن يكون جامعاً مانعاً سليماً من العيوب والإيرادات...

21.    تخلصاً من الجدل الطويل حول مقومات القاعدة ركَّزنا على الشروط الضرورية لاعتبار القاعدة وهي: الاستيعاب الأكثري، والمطابقة، والتجريد.

22.    القاعدة اللغوية حجة معتبرة في الحجاج الفقهي؛ لأن الشريعة عربية اللغة، والقاعدة تمثل الحكم الكلي الضابط لصحيح اللغة، فالاستناد إليها استناد إلى المعهود المقبول من اللغة...

23.    الدليل اللفظي منتج للحجة خلافاً للرازي ومن تابعه، وقد تحصَّل من المناقشة أن التشكيكَ في قطعية النقل اللغوي، وفي الطرق المعتمدة لاستنتاج العدميات لا يقوم على أسس صحيحة، وقد تم تبيين وجوه البطلان فيه.

24.    علم اللغة المتجلّي في القواعد والكليات يُعدّ بمثابة القانون المرجعي الذي يُؤدِّي الاعتصام به إلى السداد في النطق والفهم والاستنباط، وقد تم تشبيهها بقواعد المرور التي تعصم المارين من الحوادث...

25.    اعتبارات حجية القاعدة اللغوية في الحجاج الفقهي كثيرة، أهمها:عربية النص الشرعي، وضرورتها للحؤول دون التأويل الفاسد للنص، وكونها تعبيراً عن الغالب الأعم في اللغة وما خالفها يسمى شاذًّا، وأخيراً معياريتها التي نضمن بها الوقوف على صحيح اللغة وضعيفها...

26.    تختلف حالات استعمال القاعدة في الفقه ما بين إفادة القطع حين تكون حكماً لغويًّا متَّفقاً عليه، أو إفادة الظن الراجح إذا ابتُنيت على استقراء ناقص، أو يُراد بها الاستئناس فقط إذا كانت ضعيفة المأخذ...

27.    استعمل الفقهاء من مختلف المدارس القواعد اللغوية في الترجيح الفقهي بين الأدلة المتعارضة.

هذه أمثلة للنتائج التي توصَّل إليها البحث اقتصرت عليها تمثيلاً بها واستدلالاً منها على بقيتها، وإلَّا فإن استقصاءَ جميع الخلاصات والنتائج مخرجٌ لهذا التقديم عن طوره، ومتجاوزٌ به غايتَه ومقصودَه...

وبعد، فهذا عمل حسبُ صاحبه أنه بذل فيه قصارى جهده، واستفرغ فيه وسعه وطاقته، وإني -بعد ذلك- لا أدَّعي له الكمال، ولا أبرئه من النقصان، بل أستغفر الله العظيم ابتداء وانتهاء مما قد يكون وقع فيه من الوهم، ومما قد يحتويه من زلل القلم، وأستميح العذر مسبقاً في كل ما داخلني خلال إعداده من الذهول والغفلة والنسيان؛ فإن كلَّ من خطَّ شيئاً بقلمه ولو مع بالغ التأني والتؤدة، وطويل النظر وإمعان الفكرة قلَّما ينفكّ عن شيء من السهو أوالخطأ في القول والتصوّر، وذلك لأن الله جل وعلا أبى العصمة إلَّا لكتابه المنزل، ووحيه المرتّل.

وفي الختام، أمد يد الضراعة إلى مجيب المضطر إذا دعاه سائلاً إياه أن يُلهمنا التوفيق في الاختيار، والإخلاص في القصد، والسداد في القول، والصواب في العمل، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 



[1] انظر أحاديث وأخباراً مختلفة عن المجالس الراتبة للمناظرة الفقهية في المصادر الآتية: طبقات الفقهاء الشافعية ، ابن الصلاح (1/ 351)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (10/ 17)، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر (3 / 168)، ذيل تاريخ بغداد، ابن النجار البغدادي (2/ 197)، طبقات الفقهاء، ص: 3.

[2] السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/ 221).

[3] سير أعلام النبلاء (15/ 373).

[4] المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/ 405).

[5] طبقات الحنفية (2/ 64).

[6] البرهان في أصول الفقه (2/ 35). وقال الإسنوي: «المعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمالي ككون الإجماع حجة، وكون الأمر للوجوب». نهاية السول شرح منهاج الوصول (1/ 13).

[7] المحصول للرازي (1/ 95).

[8] تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، ص: 35.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة