تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

بول ريكور .. والإرث الفينومنولوجي

عبدالله عبداللاوي

بول ريكور.. والإرث الفينومنولوجـي

 

الدكتور عبدالله عبد اللاوي*

* قسم الفلسفة - جامعة وهران.

 

 

- 1 -

لقد قدم بول ريكور في مشروعه الفلسفي تطويراً مهمًّا على مفهوم التأويل أو الهيرمونيطيقا، بعد أن كانت محصورة ومرتبطة باللاهوت والدراسات الخاصة بقراءة الكتب المقدسة، ثم تحوَّل إلى نظرية في علم القراءة يمكن ممارستها لقراءة النصوص بأنواعها المختلفة، ومن ثم أصبح التأويل ممارسة نقدية ستأخذ أبعاداً مختلفة وجديدة مع الدراسات النقدية الحديثة والمعاصرة.

وتتمثَّل قيمة التأويل عند ريكور في قيامه على منظور منهجي ومعرفي ينطلق من دينامية التفاعل بين مختلف فروع المعرفة الإنسانية والاجتماعية، بغية تقديم مقاربات تقبض على الأسئلة الأنطولوجية الكبرى، خصوصاً مع استقلالية العلوم الإنسانية في النصف الثاني من القرن 19 عشر وبداية القرن العشرين، محاولة بذلك بناء حقلها النظري والمفاهيمي، ولكن الطموحات العلموية والوضعية جعلتها أمام أسئلة إبستمولوجية عميقة. متعلقة أساساً بالحقيقة والموضوعية والذاتية... مما دفع إلى التساؤل حول القيمة العلمية والعملية للمناهج المطبقة على هذه العلوم. وتعدّدها فتح باب النقاش واسعاً، بهدف التأكد فيما إذا كانت هذه المناهج ترتقي إلى درجة التفسير والنظرية في محاكاتها لمناهج العلوم الطبيعية.

في محاولة لتجاوز هذه الأزمة، جاءت تأويليات كثيرة، وكان لها دور في نقد العلوم الإنسانية التي تمر الآن بثورة اتجاه مناهجها، هدفها، إعادة النظر في مدى نجاعتها. لذا تميّزت فلسفة بول ريكور وتأويليته بحوار دائم مع التقاليد الفلسفية، حوار مستمد أساس من الفينومنولوجيا، وميزة ذلك أن هذا التقليد لا ينبغي أن يكون انتقائيًّا، بل على العكس من ذلك نجده يتَّكئ على ما أسماه بول ريكور «بالتأمل الملموس» «la réflexion «concrète، ما يدعونا مباشرة إلى التخلِّي عن تلك الراديكالية الديكارتية العزيزة على «هوسرل» «E. Husserl»: «ليس هناك فهم مباشر من الذات بنفسها، وليس هناك إدراك داخلي، فالطريق القصير للوعي لا أستطيع بواسطته تملّك رغبتي في الوجود، إلَّا بواسطة الطريق الطويل لتأويل العلامات، باختصار: فرضيتي في العمل هي التأمل في الملموس، معنى ذلك الكوجتيو منتشر وموزع بواسطة كل الكون العلامي L’univers des signes»[1].

رغم أن ريكور يبقى في تحليلاته فينومنولوجيًّا يصف الوضعيات التي تكوّن معنى التجربة الإنسانية، إلَّا أنه لا يعتمد على الفكرة الهوسرلية حول الوعي كفضاء مطلق للحقيقة.

يعني هذا، أن الذات لا تعرف بشكل كامل عن طريق التأمل المباشر، لأن نشاطها يوجد في وضعيات أخرى، في الأعمال والأفعال والموضوعات التي هي عالم الثقافة. كما يمر فهم الذات أيضاً بتحليل العالم الرمزي والثقافي، أين يجد الوعي آثار نشاطه الخاص الذي تحوّل إلى خارج عنه، يقول بول ريكور: «نبتعد، إذن، عن اختزال الفكر إلى الوعي المباشر؛ لأنه بصورة مباشرة وواحدية يظهر الاتجاه الفينومنولوجي من الاتجاه الطبيعي، ويفتك الوعي من الكائن، نأخذ نحن الانعطاف détour الطويل للرموز ونبحث عن الاختزال ضمن شروط الإمكان في العلاقات الدالة والوظيفة الرمزية من حيث هي كذلك»[2].

إن إشكالية الرمزية هي التي تشد كل البحوث الأولى لبول ريكور عن الإرادة والشر والندم... وهي ما ميّزتها أطروحاته عن فينومنولوجيا الإرادة، إلى التأويل، ولاحقاً مع الأطروحات الجديدة إلى مسألة السرد.

تكون إحدى مهمات الفلسفة، ربط مختلف طرائق التأويل وتبيان إمكانات وحدود كل واحدة منها، ومن ثم هدف كل واحدة منها في المقاربة الاختلافية التي تقدمها للوجود الإنساني لأن هذا الأخير في نظر ريكور تطرح: «وحدته في اللغة إشكالاً»[3].

لهذا نجد التأويل عند ريكور سيأخذ حواراً كبيراً بين مختلف التقاليد والطرائق التأويلية وبالخصوص الفينومنولوجيا والتحليل النفسي والبنيوية، إن ممارسة هذا الانعطاف يشرح كيف أن ريكور لا يعرض مباشرة فكره وأطروحاته الفلسفية، لكنه يبنيها انطلاقاً من اختيار عدة طرائق لفك رموز الوجود الإنساني.

من أجل كل هذا، سيعمل بول ريكور لحل إشكالية صراع التأويلات، سيحور نوعين ونمطين للتأويل يوجدان في تعارض تام مع القراءة الفينومنولوجية، وهما التحليل النفسي والبنيوية، وهذان الطريقان يتجاوزان مفهوم الوعي لتأويل الوجود الإنساني، فبالنسبة إلى التحليل النفسي قدّم الوعي بحالة اللاوعي، وبالتالي يوجد المعنى في الرغبة اللاواعية. أما بالنسبة للبنيوية التي تُعطي الأولوية للحدث بوصفه بنية وتزامناً لنظام العلامات، وهذا ما يسميه ريكور بتأويل الشك le soupçon ممثلة أساساً بماركس وفرويد ونيتشه.

عن جهود ريكور -رغم اتِّكائه كثيراً على الفينومنولوجيا والتراث الهوسرلي- إلَّا أنه يعمل على قلب ميراث «هوسرل». لأجل الوصول لشفافية الذات الفاعلة مع نفسها، ومن هنا استخلاص إبيستمولوجية أنطولوجية جديدة للفهم من خلال اكتشاف حق سبق الكينونة في العالم بالنسبة لأي مشروع للتأسيس، ومن ثم يصل بول ريكور إلى نتيجة بالغة الأهمية من الناحية الإبيستمولوجية وهي أنه: «لا يوجد فهم للذات من دون أن يكون موسطاً بعلامات، أو رموز، أو نصوص، ويتطابق فهم الذات في نهاية الأمر مع التأويل المطبق على هذه المصطلحات الوسيطة، ذلك أن الانتقال من إحداها إلى الأخرى يجعل الهيرمينوطيقا تتحرّر تدريجيًّا من المثالية التي حاول هوسرل أن يُماهي بها الظهرية»[4].

من أجل هذا، سيعمد بول ريكور لوضع برنامج كبير من أجل التحرّر من أسر فينومنولوجيا «هوسرل» لا في شقها التأويلي، ولكن في شقها المثالي، التي ظن هوسرل أنها أساسية للفينومنولوجيا ذلك: «أن الفينومنولوجيا، أولاً وقبل كل شيء، هي التي تُثبث في رأي ريكور على مبدئها الأساسي وهو القصدية، أي إن معنى الوعي يقع خارج الوعي. فالوعي خارج نفسه... موجَّه نحو معنى، هذا ما يتضمنه الكشف المحوري للفينومنولوجيا. وثانياً: إن الافتراض الفينومنولوجي الأساسي للهرمينوطيقا هو أن كل سؤال عن أي نوع من الوجود هو سؤال عن معنى هذا الوجود، يترتب على ذلك أن الفينومنولوجيا التأويلية عبارة عن استخدام جميع المناهج التأويلية للهيرمنيوطيقا من أجل تحقيق الغاية الأساسية للفينومنولوجيا»[5].

- 2 -

يتبيَّن من ذلك أن ريكور لا يرفض البتة الفينومنولوجيا ولكنه يرفض التفسير المثالي لها، والذي يعتمد على الفهم الحدسي والمباشر لماهية الظواهر، فالاهتمام الدائم بفهم الوعي والفعل البشريين يتطلَّب التفاتاً كبيراً من خلال العلامات والرموز والنصوص والآثار والأعمال الفنية والإبداعية والمؤسسات.

وعلى هذا تتلخص مراحل هذا البرنامج، التحرّر بالنسبة لريكور، فيما يلي:

1- الوساطة بالعلامات: اللغة بالنسبة لريكور شرط كل تجربة بشرية، وقد أوضح ذلك هيغل في كتابه ظاهراتية الروح. واستخرج فرويد من ذلك نتيجة، وهي أن التجربة الانفعالية تنتقل عبر اللغة والتحليل النفسي علاج بالكلام، فهناك حوار بين الرغبة والكلام، وما دام الكلام مفهوم عند المتكلم قبل التلفظ به، فإن أقصر سبيل بين الذات وذاتها هو كلام الآخر الذي يجعلني أجتاز فضاء العلامات المفتوح.

2- الوساطة بالرموز: العبارات ذات المعنى المزدوج التي خلَّفتها الثقافات التقليدية، وهنا يختلط الرمز بالاستعارة الحية، وقد حاول ريكور متابعة رمزية الشر، التي عادة ما تُبنى على عبارات مزدوجة المعنى مثل: الدنس، السقوط، الانحراف، واختزال الهيرمينوطيقا في تأويلية الرموز، أي تفسير المعنى الثانوي والمستتر، ثم تجاوز هذا التحديد الضيق فيما بعد لسببين:

أ- ظهر له أن الرمزية التقليدية لا تبين عن مواردها من تعدد المعاني إلَّا في سياقات خاصة، مثل أن تكون على صعيد نص كامل كقصيدة شعرية.

ب- إن الرمزية نفسها تعطي -فيما بعد- مجالاً لتأويلات متنافسة ومتصارعة، وهذا أيضاً يظهر على مستوى النص.

3- الوساطة بالنصوص: تقصر مجال التأويل على مجال الكتابة والأدب على حساب الثقافات الشفاهية، إلَّا أن ما يُقيِّده في التعريف في الامتداد يكسبه الكثافة بالكتابة، بحيث يكتسب الخطاب استقلالاً ذاتيًّا دلاليًّا ثلاثيًّا تجاه: قصد المتكلم/ تلقي حضور البسطاء/تجاه الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تُنتجه[6].

إن الهيرمنيوطيقا، التي يقترحها بول ريكور، أو بالأحرى هذا النوع من فلسفة التفسير التي تقوم بإدراكها لمضامين الخطاب والحقول الدلالية للنصوص، على مفهوم التاريخ لا من حيث هو مجرد إطار معرفي، وإنما كعنصر أساسي وحيوي لاستقراء مادة التفسير التي غالباً ما تتشكَّل في صورة تراث روحي حي ومُتجدِّد، لا تنقطع الروابط بينه وبين المفسر.

- 3 -

يختلف ريكور عن رواد الهيرمينوطيقا من أمثال «شلايرماخر» «Schleirmacher» و«دلتي» «Dilthey» بالقدر الذي يتجاوز فيه المجال المعرفي الضيق للنصوص التراثية في علاقتها بتطور فقه اللغة الكلاسيكية والعلوم التاريخية، وبالقدر الذي فيه قضية التفسير وفهم التاريخ كجزء من مجال أوسع هو مجال الفهم، مرتكزاً في ذلك على الجوانب النفسية والحياتية والتاريخية واللغوية، التي تتجاذب النص في علاقته الحية المُتجدِّدة بضمير المفسر.

وهنا يكمن اعتماد بول ريكور وإقامة منهجه في الفهم والتفسير على أسس فينومنولوجية، ومن ثم اقترابه من أكبر فلاسفة الوجود المعاصرين ونقصد به «هيدغر» Heidegger وابتعاده عنه في الوقت نفسه. إنه يقترب منه بالقدر الذي يسعى كل منهما إلى استخلاص «أنطولوجيا الفهم» التي تقوم عليها جذور التربية الفكرية في الفلسفة الغربية.

ويبتعد ريكور عن هيدجر الذي سعى فيه إلى اكتشاف الفهم كصيغة من صيغ الكائن «DASEIN»، والتي يعني بها هيدجر «أن الإنسان مفكر فيه انطلاقاً من طريقة وجوده وليس فقط من اعتباره وعياً، وهنا يكمن كذلك اختلاف هيدجر عن هوسرل»[7].

بينما يحاول ريكور تأسيس هذا الفهم من النصوص، وتفسيره انطلاقاً من رؤية معينة للحياة، لذلك إذا كان تحليل الكائن هو الأساس عند هيدجر لإدراك هذه الأنطولوجيا ما دام الفهم هو إحدى سمات هذا الكائن، فإن «إينتمولوجيا التفسير القائمة على أساس من التاريخ والتحليل النفسي والدراسة الظواهرية، هي السبل الضرورية بالنسبة لبول ريكور، للقبض عليها.

إن ما يسعى إليه ريكور هو تأسيس معرفة الوجود كمعرفة حية. ولكن ليس الوجود المباشر أو الخالص كما هو الشأن عند هيدجر، وإنما الوجود الدال أو المرموز ما دام أن الوجود منذ نشأته لا يخرج عن معنى كونه في ثقافة الإنسان، وبمعنى من المعاني كان ريكور يهدف إلى تأسيس أنثروبولوجيا فلسفية: «تهدف إلى الإمساك بالإنسان في كليته، أي من جهة ما هو عارف وفاعل ومنفعل، غير أن الأنثروبولوجيا الفلسفية عنده لا تعني أن هناك حقيقة واحدة تخترق الوجود الإنساني بمختلف دوائره، وبتعبير آخر فإن الحديث عن أنثروبولوجيا فلسفية يتضمن باستمرار القول بوجود حقيقة ما تكتنف الوجود الإنساني، سواء وضعنا هذه الحقيقة في دائرة العمل أو المعرفة أو الاعتقاد... وصراع التأويلات يستند باستمرار إلى ادِّعاء قول حقيقة ما حول الوجود الإنساني، غير أن هذا الوجود لا يخضع حسب ريكور للون من الحقيقة المطلقة»[8].

وتعنى هذه الأنثروبولوجيا -حسب بول ريكور- بالثقافة التي تتَّصل بالتراث الروحي الغربي، وما يتعلَّق به من رموز أساسية، وأشكال تاريخية هي بمثابة اختيارات وتطبيقات لا تخلو أحياناً من تحريفات وتعديلات لهذه الرموز نفسها، وليس من شك في أن ضرورة التفسير تتولَّد من ازدواجية الرموز التي غالباً ما تتجاوز حدود اللغة لتنفتح على الحياة. فالرمز من حيث تكوينه السيمانطيقي، يدل على معنى «مباشر» يردُّنا بدوره على معنى مجازي تتعدَّد ارتباطاته الروحية والنفسية والأنطولوجية، ولكن في حدود هذه العلاقة نفسها التي تربط بين المعنى الأساسي ومتعدداته بطريقة ضمنية أو غير مباشرة.

إن الهيرومينوطيقا -مع ريكور- لم تعد تهتم بالذات المتكلمة أو الكاتبة، أو تطابق بين عبقرية القارئ وعبقرية الكاتب الغائب عن النص هو نفسه أصبح سؤالاً هيرومنيوطيقيًّا، أما الذاتية الأخرى فهي من صنع القراءة والنص، وحاملة للانتظارات التي من خلالها يقترب القارئ من النص ويتلقَّاه.

وإذا كانت التأويلية تخلَّصت من أولوية الذاتية، ذاتية القارئ أو الكاتب، فما هي مهامها؟ إن من أولى مهامها البحث داخل النص نفسه، من جهة عن الدينامية الداخلية الكامنة وراء تَبَنْيُن العمل الأدبي، ومن جهة أخرى البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته ويولد علماً يكون فعلاً هو شيء النص اللامحدود، والدينامية الداخلية والإنقذاف الخارجي يكونان ما يسميه «عمل النص» ومهمة التأويل إعادة تشييد هذا العمل المزدوج للنص»[9].

- 4 -

بهذه المهمة، التي حدَّدها بول ريكور للهيرومنطيقا، كانت جميع تحليلاته الرامية إلى القبض على تمفصل الفهم بالتفسير وتوثيقها على مستوى ما اسماه معنى العمل وتحليل كل من المحكي والاستعارة وجاهد على جبهتين:

1- دحض لا عقلانية لهم مباشرة ومدركة على أنها بمثابة توسيع لمجال نصوص استبطانية من خلال تحلق الذات الفاعلة داخل وعي غريب في حالة المجابهة، ويبقى هذا الوهم الرومنسي بوجود رابطة فطرية بين الذاتين لأنساق العلامات التي لا تميز الخطاب بل اللغة، وهذا يولّد الوهم الموضوعي بوجود موضوعية نصية مغلقة على نفسها[10].

عارض ريكور هذين الموقفين بجدلية الفهم والتفسير، الفهم كقدرة على أن نُعيد بأنفسنا ومع أنفسنا على تبنين النص، والتفسير عملية من الدرجة الثانية، وتمثل في توضيح السنن المنحدرة من عمل التبنين هذا الذي يرافقه القارئ.

إن مهمة الفلسفة عند ريكور هي تأسيس تعددية المناهج واللاتماسك الإبيستمولوجي بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان. بين نمط كينونة الطبيعة ونمط كينونة الفكر. ويحاول استخلاص التشابه بين الإشكاليات الثلاثة: النص - الفعل - التاريخ، ومصير الفلسفة مرهون بقدرتها على التحاق فكرة المنهج نفسها بتصور أصيل للغاية عن علاقتنا الحقيقية بالأشياء والكائنات[11].

1- نظرية النص: في داخل العلامات، لقد ظهرت شروحات جديدة تنتهي إلى السيميولوجيا واللسانية، في رحم التكوين البنيوي الذي يربط بين وحدات خفية، وليس على التسلسلات المنطقية بين أحداث وأطوار. لقد تم اكتشاف الأساس الصوتي وطبق معجم اللغات الطبيعية المؤسس وامتداده إلى الخطاب. وباسم موضوعية النص تُقصى كل علاقة ذاتية ويعتبر كل تحليل موضوعي غريب عن الفهم.

الشرح فهم، طورته الأسئلة والأجوبة، عكس الآثار التي قطعت صلتها مع قصدية المؤلف والقُرَّاء الأصيلين، فالخطاب يستدعي سيرورة معقدة على الدوام، تتعلَّق بتشخيص الأشياء للذات، المستمر بالتدوين ومنتهي في الترميزات.

2- نظرية الفعل: هي خصوصية أنجلوسكسونية، تحت تأثيرات فيتجنشتين وأوستين أنتجت التفرع (شرح/ فهم). فكانت لنظرية ألعاب الكلام حضور قوي، وتم رفض الربط بين لعبة الكلام بالسبب والفاعل، علاقة الفاعلين بالفعل، كالبنية والباعث، بين باعث يصدر عن فهم عقلاني عامة، وسببية تطالب بأن تشرح لا أن تفهم.

يشبه الفعل البشري النص، فهو يجسد الانفصال عن الفاعل ويترك أثراً ما، علامة معينة، يثبت في مجرى الأشياء ويغدو أرشيفا ووثيقة، ونظرية الفعل تتيح فرصة نقاش جدل الفهم والشرح، ومرجع بعض النصوص هو الفعل والمحاكة الأرسطية وهي محاكاة خلاقة للفعل البشري وأن الشعر يظهر الناس كفاعلين.

3- نظرية التاريخ: التاريخ نوع من أنواع الحكي، محكي حقيقي، مقارنة مع المحكيات الأسطورية أو المحكيات التخييلية التي تمثّلها الروايات والقصص، كما أن هناك معسكرين متعارضين في نظرية التاريخ:

1- احتجاج مؤرخي اللغة الفرنسية المضاد للوضعية، مثل «ريمون أرون» على اعتبارات أن المنهج التاريخي يعتمد على أفعال بشرية يحكمها مقاصد مشاريع ومحفزات يتعيّن فهمها على اتصال ما على تحايل شبيه بذلك الذي نفهم به، في الحياة اليومية، مقاصد ومحفزات الغير، وتبعاً لهذه الحجة، ليس التاريخ سوى امتداد لفهم الغير.

2- والسمة الثاني استحالة الفهم بخلاف المعرفة الموضوعية لحوادث الطبيعة، إن التاريخ يقوم على إعادة تنشيط، إعادة تفكير الماضي في الفكر الحاضر للمؤرخ، التاريخ يبدأ عندما نكفّ عن الفهم مباشرة ونشرع في إعادة بناء سلسلة المسبقات حسب التمفصلات المختلفة للمحفزات والأسباب التي يتعلّل بها فاعلوا التاريخ.

يصل بول ريكور -بعد تلاقي النظريات الثلاث (النص/ الفعل/ التاريخ) في جدل الشرح والفهم- إلى ما يلي:

1- على المستوى الإبيستمولوجي، يقرر أنه لا يوجد منهجان: منهج الشرح ومنهج الفهم، الشرح وحده منهجي، أما الفهم لحظة تتشكَّل في علوم التأويل مع لحظة الشرح المنهجية، ففي الحد الذي تكون فيه الإجراءات الشارحة للعلوم الإنسانية متجانسة مع إجراءات علوم الطبيعة يكون تماسك العلوم مضموناً، لكن في الحد الذي يأتي فيه الفهم بمكون نوعي، سواء في هيئة العلامة (النص) أو فهم المقاصد والمحفزات (الفعل) أو القدرة على متابعة محكي ما (التاريخ)، هنا يتعذّر تجاوز اللاتماسك بين منطقتي المعرفة.

2- عبر الحجة ذاتها يقود التفكير الإبستمولوجي على الظروف الأنطولوجية للجدل بين الشرح والفهم، وإذا كانت الفلسفة تنشغل بالفهم، لأنه يظهر انتماء كينونتنا إلى كينونة سابقة على كل موضوعة وعلى كل معارضة موضوع ما لذات ما.

هذا ما دفع، بول ريكور، إلى إقامة تحليلية للذات عمادها الحوار المنهجي المرن، هو ما أضفى على الأفكار هوية متفتحة.

 

 

 

 

 



[1] P. Ricœur / le conflit des interprétations. Ed. Seuil. Paris. P 169.

[2] P. Ricoeur / op. cit. P 253.

[3] P. RICŒUR/ le confit des interprétations. Op. cit P19

[4] بول ريكور، من النص إلى الفعل، ترجمة محمد برادة - حسان بورقية، عين - القاهرة، ط1/ 2001، ص 22.

[5] عادل مصطفي مدخل إلى الهيرمنيوطيقا، دار النهضة العربية، ط1 - بيروت 2004، ص 331.

[6] بوي ريكور، من النص إلى الفعل، مرجع سبق ذكره، ص 21.

[7] Philpe Huneman/ Introduction à la phénoménologie/ Armand colin. Paris. 1997. P51.

[8] حسن بن حسن، النظرية التأويلية عند بول ريكور، منشو رات الاختلاف، ط 2،  2003، ص 16.

[9] بول ريكور، من النص إلى الفعل، ص 21 وما بعدها.

[10] بول ريكور، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[11] اعتمدنا في بحث هذه الإشكاليات (النص/ الفعل/ التاريخ) على بول ريكور، من النص إلى الفعل، مرجع سبق ذكره، ص 125 و ما بعدها.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة