تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

لقاء حول تعارف الحضارات

غريبي مراد

إعداد: غريبي مراد*

* كاتب وباحث من الجزائر.

 

 

 

لقاء حول تعارف الحضارات

فيجامعةعبدالحميدبنباديسفيالجزائر

 

تُعرف قوة الحضارات من خلال قدرتها على مد جسور التواصل بين الثقافات وتغيير حياة البشر، بحيث يبنون أواصر جديدة في شبكة التعاون والحوار والتواصل، ومن يهتم بثقافات الشعوب ويطالع شتى فنون ومناهج ومناهل الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع الاقتصاد والدين والفلسفة، يمكنه أن يروي الكثير ويؤسس للعديد من الرؤى الهادفة لربط أواصر بني الإنسان. ولعل الغالب في الدراسات والقراءات والنظريات حول الحضارات وعلاقاتها، هي عناوين: الحوار، التعاون والصدام إلى ما هنالك من توصيفات و نهايات وصل إليها مفكرو الغرب و الشرق.

ضمن هذا السياق و راهنية إشكاليات و مشكلات الحضارة في المجال العلمي العربي والإسلامي، كانت هناك مناسبة استثنائية تحدث للمرة الأولى بجامعة رائد الإصلاح الديني في الجزائر العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة مستغانم في الغرب الجزائري، حيث قامت كلية العلوم الاجتماعية بالجامعة بدعوة الأستاذ زكي الميلاد، ضمن زيارة علمية لجامعة وهران (كلية العلوم الاجتماعية - قسم الفلسفة)، لإلقاء محاضرة حول نظريته الخاصة حول الحضارات، والتي أسماها «تعارف الحضارات»، وكان عنوان المحاضرة: «لماذا تَعَارُف الحضارات؟»، ألقيت المحاضرة في قاعة المحاضرات الخاصة بكلية العلوم الاجتماعية صباح يوم الأربعاء 21 نوفمبر 2012م، حضرها ثلة من طلبة مستوى ما بعد التدرج في تخصصات الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وبعض الأساتذة و الباحثين من الكلية، قدَّم المحاضرة وعرَّف بالمحاضر الدكتور إبراهيم أحمد رئيس قسم الفلسفة.

استهل الأستاذ زكي الميلاد محاضرته، برسم خريطة طريق تفكيك وسبر أغوار نظرية «تعارف الحضارات»، والتي حددها في ثلاثة أبعاد:

• الفحص والنقد.

• الأصل والمثال.

• القياس والاختبار.

انطلق الأستاذ زكي الميلاد من فكرة حوار الحضارات كما وصلتنا في المجال العربي والإسلامي، حيث ركَّز على مجال تداولها في محطتها الأبرز والتي عبر عنها المفكر الفرنسي روجيه غارودي، في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، هذه المحطة يعتبرها الأستاذ الميلاد هي الأهم والأساس، حيث استطرد في شرحها وتبيان تشكّلها وسيرورتها كما اكتملت معالمها في كتاب المفكر غارودي «حوار الحضارات».

حدد الأستاذ الميلاد تطور هذه النظرية في ثلاثة أطوار هي:

الطور الأول: دعوة غارودي لحوار بين المسيحية و الماركسية، كان ذلك عندما انتقل غارودي من المسيحية إلى الماركسية، حيث أراد من هذا الحوار بناء العلاقة بين التحرّر والإيمان، التحرَّر الذي تُمثّله الماركسية، والإيمان الذي تُمثّله المسيحية.

الطور الثاني: الدعوة إلى الحوار بين الحضارات، وذلك بعد أن وجد غارودي أن الحوار بين الماركسيين والمسيحيين سوف يظل إقليميًّا حسب تعبيره، ولن يتقدَّم إلَّا في نطاق منطقة ثقافية واحدة، وهي منطقة الغرب، ووجد من الضرورة التحوُّل نحو إدارة هذا الحوار على مستوى الحضارات.

الطور الثالث: الدعوة إلى الحوار بين الغرب والإسلام، والتي شرحها غارودي في كتابيه (وعود الإسلام)، و(الإسلام في الغرب.. قرطبة عاصمة الروح والفكر).

بعد ذلك انتهى الأستاذ زكي الميلاد إلى أنه كان في قناعة غارودي أن العقبة الرئيسة التي تقف في وجه حوار الحضارات هي النظرة التي حملها الغرب منذ مئات السنين عن الإسلام. حيث ركّز الأستاذ الميلاد في تفكيك هذه الرؤية الغارودية من خلال قراءة سريعة للكتاب الشهير لغارودي «حوار الحضارات» بالإضافة إلى استدلالات الأستاذ بحملات الاستشراق ونظرة الغرب للحضارات الأخرى وبخاصة الإسلامية.

كما عبّر الأستاذ عن الحنكة النقدية عند غارودي قائلاً: فقد اكتشف غارودي بفكره النقدي، ومعرفته الواسعة، وانفتاحه على الثقافات غير الأوروبية، وجود أزمة حضارية عميقة في الغرب والحضارة الغربية، ولا سبيل لتجاوز هذه الأزمة وتداركها في نظره، إلَّا بالانفتاح على الحضارات الأخرى غير الأوروبية، والتحاوُر معها، والتعلُّم منها، لاكتشاف ما يُسميه بالفرص المفقودة، والأبعاد الإنسانية والأخلاقية المطلوبة، التي نمت في الحضارات والثقافات غير الأوروبية.

وأضاف: أن غارودي أرجع جذور هذه الأزمة في الغرب إلى عصر النهضة الذي ولدت معه الرأسمالية والاستعمار معاً، وما صاحبه من تنكُّر وهدم لجميع الثقافات غير الأوروبية، فقد اتَّبعت الحضارة الغربية في نموِّها وتقدُّمها من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن العشرين، طريقة أوصلتها -كما يعتقد غارودي- إلى أزمة داخلية عميقة، حدودها في ثلاثة أبعاد رئيسة، شرحها في كتابه: (حوار الحضارات)، وهي:

1- رجحان جانب الفعل والعمل، بالشكل الذي يتحوَّل فيه الإنسان إلى مجرَّد آلة للإنتاج والاستهلاك، ويفقد جوهره المعنوي والأخلاقي.

2- رجحان جانب العقل، واعتباره قادراً على حل جميع المشكلات، بحيث لا توجد مشكلات حقيقية إلَّا تلك التي يستطيع العلم حلّها، والنتيجة بعد ذلك هي عدم القدرة على تحديد الغايات الحقيقية، والسيطرة على الوسائل.

3- رجحان جانب الكم، وجعله معياراً ومقياساً لا نهائيًّا، بحيث يصبح النمو باعتباره نموًّا كميًّا صرفاً في الإنتاج والاستهلاك.

وخلص الأستاذ الميلاد بعد عرضه قراءته لكتاب (حوار الحضارات) إلى أن غارودي يرى أن حضارة تقوم على هذه الأبعاد الثلاثة، هي حضارة مؤهلة للانتحار.

ثم عقَّب الأستاذ زكي الميلاد منبهاً الحضور إلى أن هذه الفكرة التي رسمها غارودي لحوار الحضارات، أراد أن يُخاطب بها الغرب بصورة أساسية، لذلك فهي تنتمي وتصنف على النظريات الغربية، التي تنطلق من نقد التجربة الغربية والحضارة الغربية. وكون هذه الفكرة تنتمي وتصنف على النظريات الغربية، لا يعني ذلك بالضرورة نقداً لها، أو رفضاً أو إسقاطاً، وإنما القصد هو تحديد طبيعة الفضاء المعرفي والمرجعي لهذه النظرية، وفهم غاياتها ومقاصدها، وكيفية التعامل معها.

بعد كل تلك الاستفاضة والقراءات المتعدِّدة لكل الأبعاد والآفاق التداولية لمقولة حوار الحضارات، ازدادت المحاضرة حساسية وحماسة ودقة، عندما وضع الأستاذ الميلاد نقطة ليطرح سؤالاً منهجيًّا، أثار دفينة عقول الحضور بخصوص المقولة، ونبه إلى أن فكرة حوار الحضارات لم تخضع للفحص المعرفي من حيث بُنية المفهوم وتركبيته، ليفصح الأستاذ عن أن التداول الواسع لمفهوم حوار الحضارات، أدخله في دائرة الفحص المعرفي، للنظر في بنيته وتركيبته اللغوية والمعرفية، وهذه هي أول مرة يحصل فيها فحص هذا المفهوم في المجال العربي.

ونتيجة لهذا الفحص بدأ النقد يتَّجه لهذا المفهوم، ويتعدَّد في جهات مختلفة، فمن جهة تركيبة هذا المفهوم وطريقة صياغته واختراعه.

وبالتالي يطرح سؤاله المنهجي الدقيق: هل الحضارات تتحاور حتى يمكن القول بتحاور الحضارات؟

وإذا رجعنا إلى الدراسات التاريخية المقارنة بين الحضارات، وهي الأساس، هل استخدم الباحثون في هذه الدراسات والمتخصصون في هذا الحقل مفهوم حوار الحضارات؟

وهنا عَبَرَ الأستاذ زكي الميلاد بالحضور من مرحلة الفحص والنقد إلى مرحلة الأصل والمثال، هذه المرحلة التي شدّت كل الحضور لمركزيتها وأيضاً الأسلوب الخطابي الإرشادي للأستاذ الميلاد، حيث استطاع أن يصنع رونقاً معرفيًّا رائعاً من خلال لمساته البيانية حول الآية القرآنية التي تستند إليها نظريته «تعارف الحضارات»، وهو المفكر الإسلامي الذي عرفته ضليعاً في ثقافة تدبُّر القرآن وما هنالك من دراسات قرآنية له حول الوحدة والتسامح والتعصب والتعاون والحوار وغيرها الكثير...

هكذا تتلاقى خيوط أفكار هذه المحاضرة في عقدة ضخمة يتعرَّض لها الأستاذ الميلاد بالقول:

فكرة تعارف الحضارات تستند إلى أصل من القرآن الكريم، الذي هو الأصل الأول وأصل الأصول كما يقول أهل الأصول.

وهذا الأصل يتحدَّد في آية التعارف الواردة في سورة الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

والتأمل الفاحص لهذه الآية، يكشف لنا عن حقائق كلية ذات أبعاد إنسانية عامة، نتوصَّل منها لمفهوم نصطلح عليه بتعارف الحضارات، والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده وإبرازه والنصَّ عليه، من خلال سياق وخطاب يؤكد قيمته وجوهريته، لأن يكون مفهوماً أساسيًّا، وذلك بالاستناد إلى الحقائق التالية:

أولاً: الخطاب في سورة الحجرات مُتوجِّه بشكل صريح إلى المؤمنين في بداية السورة وفي خاتمتها، باعتبارها من السور المدنية، إلَّا في هذه الآية الثالثة عشرة حيث توجَّه الخطاب إلى الناس كافة بصيغة (يا أيها الناس)، الأمر الذي جعل بعض المفسرين يعتبر هذه الآية مكية، وكون الخطاب مُتوجِّهاً إلى الناس كافة، فهو ناظر إليهم بكل تنوُّعهم وتعدُّدهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإلى غير ذلك من تمايزات ومفارقات.

ثانياً: التذكير بوحدة الأصل الإنساني في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}، فالناس مع كل اختلافاتهم وتعددياتهم وتباعدهم في المكان والأوطان، إنما يرجعون في جذورهم إلى أصل إنساني واحد. والقصد من ذلك أن يُدرك الناس هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها كقاعدة إنسانية وأخلاقية في نظرتهم لأنفسهم، وفي نظرة كل أمة وحضارة إلى غيرها، كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض الممتدة.

ثالثاً: الإقرار بالتنوُّع الإنساني في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}، وهذه حقيقة اجتماعية، وقانون تاريخي، فالله سبحانه وتعالى بسط الأرض بهذه المساحة الشاسعة لكي يتوزَّع الناس فيها شعوباً وقبائل، ويعيشوا في بيئات وجغرافيات ومناخات وقوميات مختلفة ومُتعدِّدة، لكي يعمروا هذه الأرض، ويكتشفوا كنوزها وخيراتها، ويتبادلوا ثرواتها، ويجعلوا منها بيتاً مشتركاً وآمناً ومُتمدِّناً للجميع، علماً أن القرآن الكريم لم يذكر في كل آياته عبارة (شعوباً وقبائل) إلَّا في هذه الآية.

رابعاً: خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوُّع بين البشر، فما هو شكل العلاقة بين الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا الشأن، يتقدَّم مفهوم التعارف {لِتَعَارَفُوا}. ولأن التعارف بين شعوب وقبائل، أي بين مجتمعات وجماعات، لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات، الاستعمال الذي نتوصَّل منه إلى مفهوم واصطلاح (تعارف الحضارات).

خامساً: إذا انطلقنا من قاعدة التفاضل والمقارنة لنتساءل، لماذا لم تستخدم الآية كلمة ليتحاوروا، أو ليتوحَّدوا، أو ليتعاونوا، إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة (لتعارفوا)؟

وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يُؤسِّس لتلك المفاهيم المذكورة (الحوار، الوحدة، التعاون)، ويُحدِّد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يُحافظ على فاعليتها وتطوُّرها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب. أما من جهة السلب فإن التعارف كمفهوم وفاعلية بإمكانه أن يُزيل مسببات النزاع والصدام.

إلى هنا، ما زال الأمر يبدو حتى الآن، حسب الأستاذ الميلاد، وكأنه بعيد المنال والإدراك، وبحاجة للانتقال به إلى المرحلة الثالثة، يعني القياس والاختبار، حيث يقول: قياس وجهات النظر حول هذه الفكرة بعد الإعلان عنها، واختبارها في المجال التداولي.

بعجالة رسم الأستاذ زكي الميلاد منحنى سيرورة نظريته المسماة «تعارف الحضارات» حتى يومنا هذا، منطلقاً من سنة إعلان ميلاد الفكرة حيث أرّخ لها كالآتي:

في صيف سنة 1997م، نشرت دراسة في مجلة الكلمة بعنوان (تعارف الحضارات)، وكان هذا الإعلان الأول عن هذه الفكرة. ولا أخفي أنني أظهرت حماساً لهذه الفكرة ودفاعاً وتبشيراً، ودعوت إلى مناقشتها وإنمائها ورفدها، والتضامن من أجلها.

وفي سنة 1999م، نشرت الدراسة مجدداً في مجلة رسالة التقريب في طهران.

وفي سنة 1999م أيضاً نشرت كتاباً بعنوان (المسألة الحضارية)، ضمَّنته الدراسة المذكورة، وهذا الكتاب جرت حوله العديد من المراجعات التي ركَّزت كثيراً على فكرة تعارف الحضارات.

وفي سنة 2000م، جرت نقاشات مهمة حول هذه الفكرة في ندوة عقدت بدمشق بعنوان (كيف ندخل سنة حوار الحضارات؟)، وكانت الدكتورة نادية مصطفى هي التي أثارت النقاش حولها.

وفي سنة 2002م، قدَّمت ورقة بعنوان: (من حوار الحضارات إلى تعارف الحضارات)، في ندوة دولية كبرى عُقدت في الرياض، حضرها كوكبة كبيرة من الباحثين والمفكرين.

وضمن سياق التأريخ والسيرورة، هناك القياس والاختبار للنظرية وما عرفته من تداول معرفي واستثمار في مجال التربية والثقافة وما هنالك من مجالات تتعلَّق بمسائل الحضارة كلها، فقد ذكر الأستاذ الميلاد عدة أمثلة من التداول المعرفي لنظريته:

في سنة 2003م، كتب الدكتور محمد مراح من الجزائر دراسة نشرتها له مجلة الكلمة بعنوان (نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات).

وفي سنة 2006م، أعددت كتاباً بعنوان تعارف الحضارات صدر عن دار الفكر بدمشق، جمعتُ فيه الكتابات التي كتبت حول هذه الفكرة بمشاركة كتاب من مصر وسوريا والعراق والكويت والمغرب والجزائر والسعودية. وهذا الكتاب بدوره جدَّد النقاش حول الفكرة، ولفت انتباه الآخرين لها.

وفي سنة 2007م، نُوقشت رسالة ماجستير في كلية الآداب قسم الفلسفة جامعة بغداد بعنوان (تعارف الحضارات.. الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر)، أعدَّها الباحث علي المحمداوي. وصدرت هذه الرسالة في كتاب سنة 2010م

وفي سنة 2009م أُدرجت الفكرة في المُقرَّر الدراسي لمادة التاريخ في دولة الإمارات العربية، الصف الحادي عشر، الجزء الأول. وهي تُدَّرس في إطار الحديث عن نظريات التفاعل الحضاري، التي تحدَّدت في أربع نظريات هي: نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر صمويل هنتينغتون، نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر روجيه غارودي، نظرية نهاية التاريخ من وجهة نظر فرانسيس فوكوياما، نظرية تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميلاد.

وفي شهر مايو 2011م، نظَّمت مكتبة الإسكندرية في مدينة الإسكندرية المصرية مؤتمراً دوليًّا بعنوان (تعارف الحضارات)، عُقد بالتعاون مع مركز الحوار في الأزهر الشريف، ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في جامعة القاهرة، وجاء هذا المؤتمر بطلب واقتراح مني.

وفي ديسمبر 2011م، نوقشت في تونس رسالة دكتوراه أعدتها الباحثة التونسية سارة حكيمي، الفصل الرابع والأخير في الرسالة كان حول تعارف الحضارات.

وما زالت هناك رسائل جامعية ومشاريع أخرى لديَّ معرفة بها يجري العمل عليها في الجزائر والمغرب ودول أخرى.

وأما الكتابات عن هذه الفكرة فهي متواصلة ومستمرة في معظم الدول العربية، وعندي رصد وملاحقة لكل ما يُكتب ويُنشر حول هذه الفكرة.

بعد هذه الرحلة الممتعة والخلَّاقة للوعي والنباهة والباعثة للمنهج التواصلي مع النظريات والمقولات عبر العالم ككل، وخاصة الوافدة إلينا من العالم الغربي، كعادته البيداغوجية التنظيمية المحكمة سواء في الخطابة أو الكتابة أو النقد، أوجز الأستاذ الميلاد محاضرته في خمس نقاط أساسية، وهي على النحو التالي:

أولاً: إن فكرة تعارف الحضارات تجاوزت مرحلة الاختبار، وأصبحت فكرة معروفة على نطاق واسع، ودخلت المجال التداولي، وبات يجري الحديث عنها بوصفها تُمثِّل نظرية ثالثة.

ثانياً: إن فكرة تعارف الحضارات هي أكثر دقةً وضبطاً وإحكاماً وحتى ثراءً وتخلُّقاً من فكرة حوار الحضارات، من النواحي البيانية واللسانية والمفهومية.

ثالثاً: إن فكرة تعارف الحضارات هي أقرب تعبيراً وتمثُّلاً لوجهة النظر الإسلامية في مجال الحضارات وصور العلاقات بينها.

رابعاً: إن تعارف الحضارات هو الذي كان يُؤدي إلى توارث الحضارات وتعاقبها في التاريخ الإنساني.

خامساً: إن تعارف الحضارات هو الذي يُؤسِّس لكل أشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات من الحوار إلى التعاون والتواصل وغيرها، وهو الذي يمنع الصدام والنزاع والحروب بينها.

بعدما انتهى الأستاذ زكي الميلاد من إلقاء محاضرته التي استغرقت ساعة وخمس دقائق تقريباً، فُتِح باب النقاش للحضور، وكان هناك تفاعل كبير من الطلبة والباحثين مع مضمون المحاضرة، حيث طُرحت أسئلة عديدة حول المفاهيم وتداخلها ومستقبل النظرية وما هنالك مما يتعلَّق بإمكانات الإبداع من خلال مجال التداول المعرفي لمفهوم التعارف وما هي المقاربات التي يُمكنها تحديدها بين مفاهيم: التعارف والحوار والتعايش والتعاون.

و بهذا الصدد نبَّه الأستاذ الميلاد إلى أن الحديث عن مفهوم التعايش يعني الاقتراب من آخر نقطة في علاقة الناس بعضهم مع بعض، واستطرد خلال إجاباته عن أسئلة الحضور، أنه -للأسف- عالمنا العربي عالم محبط، لا يُؤمن بالمفاهيم التي تُصنَّع ضمن مجاله، سوى تلك الوافدة من الغرب، وهي مفاهيم جديدة لا تُختبر مع مفاهيم أخرى، وإنما يتم استهلاكها بلا فحص أو اختبار لصحتها وفاعليتها في مجالنا، وأضاف: إن التعارف هو المعرفة والاعتراف معاً.

واختتمت الندوة، بكلمة للمحاضر الأستاذ زكي الميلاد، شكر فيها أسرة جامعة الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة مستغانم، على منحه هذه الفرصة لزيارتها واللقاء بالطلبة الباحثين والأساتذة وكادر كلية العلوم الاجتماعية، آملاً أن يكون قد قدَّم ولو النزر اليسير من المعرفة والوعي، داعياً الطلبة والباحثين للجد والاجتهاد في طلب العلم والمعرفة وخدمة الوطن والأمة والانسانية، وبدورهم الطلبة والأساتذة عبَّروا عن شكرهم الجزيل لقبول الأستاذ زكي الميلاد دعوتهم وتشرفوا بالتعرف عليه عن قرب، كما اقترح بعض الأساتذة أن تخصص بعض الرسائل الجامعية لهذه السنة بكلية العلوم الاجتماعية، لدراسة نظرية تعارف الحضارات، آملين أن يستضيفوا الأستاذ زكي الميلاد في مناسبات علمية قادمة بجامعة العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس.

بكلمة: لقد شقَّ الأستاذ زكي الميلاد، من خلال محاضرته التعريفية التمهيدية لنظريته حول تعارف الحضارات، الطريق نحو بناء ثقافة جديدة قادرة على مواكبة العصر والانفتاح على الإنجازات والاستفادة منها، حيث ركَّز -بدقة المتابع والفاحص والناقد والمُنظِّر- على أن العلوم الإنسانية والثقافية تؤدّي دوراً مهمًّا في مجمل الحياة العلمية، فتخلق آصرة مُثلى وموائمة بين التجديد الثقافي والمجتمع، ليُصبح البحث العلمي هو النواة في مشروع البناء الحضاري الجديد.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة