شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
عصر النهضة..
دراسات ومناقشات
زكي الميلاد
- 1 -
عصر النهضة.. ثلاث دراسات
شكل عصر النهضة في المجال العربي الحديث حقلًا دراسيًّا لنمط من الكتابات والدراسات الفكرية والتاريخية، التي حاولت بصور عديدة تسليط الضوء على هذا العصر، الموصوف تارة بعصر النهضة، وتارة بعصر اليقظة، وتارة بعصر الإصلاح، في محاولة لتجديد الصلة بهذا العصر، وجعله عصراً حاضراً في الذاكرة العربية المعاصرة.
وقد ظلت هذه الكتابات والدراسات متتابعة، على ما بينها من تباعد زمني في بعض الفترات، لكنها شهدت قدراً من الاتصال والتراكم منذ النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين، وتصاعدت بدرجة ما خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ولعل الغالب في الانطباع العربي العام، أن أهم هذه الكتابات والدراسات تحددت في ثلاثة أعمال تقريباً، عُدَّت من المراجع المهمة في هذا الشأن، واكتسبت صفة الشهرة إلى جانب صفة الريادة، وهما الصفتان اللتان ظلتا تلازمان هذه الأعمال وتصاحباها عادة، متى ما ذكرت في الكتابات العربية.
وهذه الأعمال الثلاثة بحسب تعاقبها الزمني، هي:
1- كتاب ألبرت حوراني (1334-1414هـ/1915-1993م)، الموسوم بـ(الفكر العربي في عصر النهضة) الصادر سنة 1962م.
2- كتاب هشام شرابي (1927-2005م)، الموسوم بـ(المثقفون العرب والغرب.. عصر النهضة)، الصادر سنة 1970م.
3- كتاب فهمي جدعان الموسوم بـ(أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، الصادر سنة 1979م.
ومن الانطباعات العربية الدالة على أهمية هذه الأعمال الثلاثة مجتمعة، ما أشار إليه الدكتور رضوان السيد، الذي اعتبر أن أهم الدراسات حول الفكر العربي النهضوي، هي: دراسة ألبرت حوراني (الفكر العربي في عصر النهضة)، ودراسة هشام شرابي (المثقفون العرب والغرب)، ودراسة فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام)[1].
ومثل هذا الانطباع أشار إليه أيضاً الدكتور عبدالإله بلقزيز، الذي أعطى كتاب حوراني وصف الكتاب الرائد، وشبَّه كتاب شرابي بكتاب حوراني، واعتبر كتاب جدعان من أهم الدراسات في موضوعه[2].
ومن الانطباعات التي جاءت متفرقة عن بعض هذه الأعمال الثلاثة، ما أشار إليه الدكتور هشام شرابي نفسه، الذي وصف كتاب حوراني بالكتاب الرائد، واعتبره مرجعاً لا غنى عنه لأي دراسة لتاريخ الفكر العربي الحديث[3].
ومن جهته وصف الدكتور سعيد بن سعيد العلوي كتاب جدعان، بالكتاب الممتاز[4].
ولأهمية هذه الأعمال الثلاثة، ولاعتباريتها الفكرية والتاريخية، ومنزلتها المرجعية في الدراسات العربية المعاصرة، كنا بحاجة إلى إجراء مقاربات ومقارنات وموازنات فيما بينها، وهذا ما سوف أقوم به، بطريقة استطلاعية وتحليلية ونقدية.
وقبل إجراء هذه الخطوة، لا بد من التمهيد لها بالتعريف بهذه الأعمال، حتى تتبين صورتها، وتتحدد هويتها، وتتكشف ملامحها، بالشكل الذي يجعل من الممكن إجراء مثل هذه المقاربات والمقارنات والموازنات، الاستطلاعية والتحليلية والنقدية.
- 2 -
الدراسة الأولى.. الفكر العربي في عصر النهضة
أصدر حوراني هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 1962م، وصدر في طبعة أخرى بعد إجراء بعض التصحيحات عليه سنة 1967م، وفي طبعة جديدة سنة 1970م، ثم في طبعة منقحة سنة 1983م، ترجمه إلى العربية كريم عزقول، وراجعه أديب القنطار، وصدر في بيروت عن دار النهار سنة 1972م.
بعض مواد هذا الكتاب هي محاضرات ألقاها حوراني في عدد من الجامعات العربية والبريطانية، منها: الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1956-1957م، وكلية الفنون والعلوم في بغداد سنة 1957م، ومعهد الدروس العالية في تونس سنة 1959م، وجامعة أكسفورد البريطانية سنة 1958-1959م.
يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً، حملت العناوين الآتية: (الدولة الإسلامية، الإمبراطورية العثمانية، الانطباع الأول عن أوروبا، الجيل الأول: الطهطاوي، خير الدين البستاني، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، تلامذة عبده في مصر: الإسلام والمدنية الحديثة، القومية المصرية، رشيد رضا، طلائع العثمانية: شميل وفرح أنطون، القومية العربية، طه حسين خاتمة: الماضي والمستقبل).
والغاية من تأليف هذا الكتاب حسب قول حوراني، ليست تدوين تاريخ عام، أو الحديث عن أفكار عبَّر عنها العرب، أو كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين، وإنما العناية بالفكر السياسي والاجتماعي في سياق معين، ذلك الذي أوجده التطور الأوروبي تأثيراً أو سلطةً في المنطقة العربية، في ظل النظام العالمي الحديث المنبثق من الثورة الصناعية والتقنية، ومع انتشار أفكار جديدة تتناول كيفية حياة الناس في المجتمع.
ومع تعاقب الأزمنة، غدا من الصعوبة -في نظر حوراني- تجاهل تطورات التغيير الحاصل، وعدم التحرك تجاهه بطريقة أو بأخرى، ومن دون أن تكون هناك ردات فعل متعددة، وهذا الكتاب يعالج واحدة من هذه الردات، التي تتحدد في مجابهة التحدي الذي يفرضه من جهة، قبول هذه المجتمعات بعض الأفكار وبعض مؤسسات أوروبا الحديثة، ومن جهة أخرى حاجة هذه المجتمعات للتكيف مع معتقداتها وقيمها التي تمثل أساس مشروعيتها.
ومن المؤكد في نظر حوراني أن هذا الأمر سوف يثير مشاكل من أنواع متعددة، فماذا على هؤلاء الناس أن يقبلوا؟ وإذا قبلوا هذه التحولات هل سيبقون أمناء على ما ورثوه من عقائد وقيم؟ وهل يسعهم أن يبقوا مسلمين أو عرباً؟
هذه المسائل أثيرت حولها مناقشات متواصلة وممتدة ما بين القاهرة وبيروت، وكان الهم الأساس عند حوراني، معرفة ما قيل وما كتب في هذا الشأن، ومحاولة التأريخ له.
وفي نطاق هذه المهمة، حاول حوراني أن يؤرخ لسيرة أربعة أجيال من الكتَّاب، وذلك حسب المراحل التاريخية الآتية:
المرحلة الأولى: تمتد ما بين (1830-1870م)، وفيها ظهر فريق صغير من الكتَّاب توجَّه بوعيه نحو أوروبا الحديثة، ناظراً وملتفتاً إلى الصناعة هناك والاتصالات السريعة والمؤسسات السياسية، كونها تمثل طريقة حياة ينبغي اتِّباعها، وليست نوعاً من التهديد، وبقصد تبني بعض القوانين والمؤسسات لكسب المزيد من القوة، منطلقين من خلفية أن بالإمكان تبني مثل هذه القوانين والمؤسسات من الخارج، والبقاء صادقين مع أنفسهم.
المرحلة الثانية: تمتد ما بين (1870-1900م)، أن المهمة الأساسية لكتَّاب هذا الجيل، كانت إعادة تفسير الإسلام حتى يكون متوافقاً مع الحياة في العالم الحديث، ومن أجل أن يستمد منه القوة، وأبرز من مثَّل هذه المرحلة هو الشيخ محمد عبده.
المرحلة الثالثة: تمتد ما بين (1900-1939م)، وفيها حصل الافتراق والابتعاد بين التيارين الفكريين اللذين حاول محمد عبده وغيره مصالحتهما، وهما التيار الذي يعتقد بشدة بركائز الإسلام في المجتمع، والتيار الذي يرى قبول الإسلام بوصفه مجموعة مبادئ أو على الأقل مجموعة مشاعر، لكنه يعتبر أن الحياة في المجتمع ينبغي أن تكون منظمة على أساس نظم العلمانية، واستصلح هذا الطريق جيل سابق من المسيحيين اللبنانيين، ومشى فيه بعدهم شوطاً أبعد مصريون مسلمون، ووصل إلى نهايته المنطقية في أعمال طه حسين.
المرحلة الرابعة: تبتدئ مع الحرب العالمية الثانية، التي أنهت مرحلة الصعود الأوروبي، وفتحت الطريق أمام الولايات المتحدة وروسيا، ومع انتشار التعليم، ونمو المدن، وتطور الصناعة، واستعمال طرق إعلامية جديدة، كل ذلك أدى إلى تغيير في طريقة الحياة السياسية، وأضحى الحقل السياسي أكثر اتساعاً، وبات الشعب أكثر تقبلاً للأفكار السياسية.
وحينما رجع حوراني ناظراً وفاحصاً كتابه بعد عشرين سنة، وجد أن أي كتاب لا يعبر عن موضوعه فقط، وإنما يعبر عن مرحلة كتابته أيضاً، ولاحظ أن كتابه يعبر عن وجهة نظر معينة له، ولو كان له أن يضع آنذاك كتاباً في الموضوع نفسه، لتكلم عن المفكرين أنفسهم، ومن الممكن عن آخرين أيضاً، وبالطريقة نفسها التي اتَّبعها في الكتاب، مع إضافة بعد آخر في البحث، يتعلق بكيفية وأسباب تأثير أفكار هؤلاء فيه الآخرين.
وفي إدراك حوراني، أن بالإمكان دراسة هؤلاء الكتاب بطريقة مختلفة، انطلاقاً من أن أفكارهم لا تعبر عما يعتقدون فعلاً، ولكنها تظهر وتخفي معاً مصالحهم الحقيقية، هذه النظرية عبر عنها بشدة وأناقة حسب وصف حوراني، أيلي خدوري، فعندما تكلم عن الأفغاني وعبده وآخرين، وصفهم بأنهم رجال متورطون في تسويات معقدة وغامضة، وتساءل إذا لم يكن من الأفضل افتراض ما يعمل ليس بالضرورة شبيهاً بما يقال، وما يقال علناً يمكن أن يختلف جدًّا عما هو في القناعة الشخصية.
هذه النظرية بهذه الحجة لم تقنع حوراني، وفي اعتقاده أن غموضاً كان يدور حول الأفغاني، أما فيما يتعلق بالمفكرين الآخرين ابتداء من عبده، فلا يرى عندهم أي غموض، إذا كانوا يقولون ما يفكرون به مع أخذهم الحيطة، وما كان بالإمكان نشره لا سيما في مصر وسوريا في آخر العهد العثماني كان مجاله واسعاً، وإن لم يكونوا مخلصين فإنهم كانوا يظهرون نوعاً من التوافق، مما يجعل التمييز بين تفكيرهم والبناء المنطقي عندهم ممكناً.
يضاف إلى ذاك، أن هؤلاء الكتَّاب -في نظر حوراني- كان لهم تأثير في قراء عصرهم، والأجيال اللاحقة، ولم يكن ذلك بسبب تسوياتهم الغامضة كما ظن خدوري، وإنما بسبب أفكارهم وتأثيرها.
وفي حوار معه نشر سنة 1981م، ذكر حوراني أنه لو قدر له أن يعيد النظر في كتابه آنذاك، لغيَّر فيه الكثير، ولكتب عن الفكر العربي الإسلامي في استمراريته، وليس عن الفكر الغربي الذي أثر في العرب، وما يدعوه إلى ذلك، أن أشياء عديدة قد تغيَّرت منذ أن وضع كتابه، إذ أصبح الوضع حسب قوله أشد تعقيداً، ودخلت الجماهير في العملية السياسية، مع عودة الفكر الإسلامي والمشاعر الإسلامية، وعودة الفكر الإصلاحي والاشتراكي، كل هذه المسائل كانت تجعله أن يعيد النظر فيما كتبه منذ عشرين سنة.
إلى جانب ذلك، يضيف حوراني، هناك ما كتبه ويكتبه عرب وأتراك وإيرانيون، جعله أكثر اطلاعاً على الفكر العربي الإسلامي، إذ إنه لم يقرأ –كما يقول- حين ألف كتابه، سوى دراسة واحدة لرئيف خوري حول الثورة الفرنسية[5].
ولعل أكثر ما أثار الالتباس في كتاب حوراني، هو عنوانه المتغير ما بين طبعتيه الإنجليزية والعربية، ففي طبعته الإنجليزية حمل الكتاب عنوان (الفكر العربي في عهد الليبرالية)، أو (الفكر العربي في العصر الليبرالي)، وفي طبعته العربية حمل عنوان (الفكر العربي في عصر النهضة).
والالتباس في العنوان ناشئ من كلمة الليبرالي في الطبعة الإنجليزية، وكلمة النهضة في الطبعة العربية، فهل كلمة الليبرالي عائدة إلى الفكر العربي وصفاً وتوصيفاً له، وهكذا كلمة النهضة! أم أن هاتين الكلمتين راجعتان إلى الفكر الأوروبي وصفاً وتوصيفاً!
في الانطباع العربي العام، أن كلمتي الليبرالي والنهضة عائدتين إلى الفكر العربي، وناظرتين له، وأن الكتاب أساساً جاء بقصد تسليط الضوء على المرحلة الليبرالية في الفكر العربي، أو على عصر النهضة في الفكر العربي، ومحاولة التعرف والتعريف بهذه المرحلة التاريخية، والإشادة بها، وضرورة التنبه لها، والوقوف عليها، وذلك لمزاياها الفكرية والثقافية.
وكل من تعرف إلى الكتاب ونظر فيه، تشكل عنده مثل هذا الانطباع، فحين توقف عنده الدكتور عبدالله العروي ناظراً إلى طبعته الإنجليزية ومترجماً لها بعنوان (الفكر العربي في عهد الليبرالية)، اعتبر أن حوراني يعني المرحلة الليبرالية من الفكر العربي، وليس الفكر العربي عامة أثناء العهد الليبرالي[6].
وتقصدت الإشارة هنا إلى الدكتور العروي، باعتباره الشخص الذي خصه حوراني بالذكر، وميزه عن غيره من المؤرخين والمفكرين العرب، وحسب اعتقاده أن هناك مؤرخين عرب ممتازين من حيث جمعهم لدقائق الأحداث وروايتهم لتفاصيلها، لكنه لا يرى مؤرخين مفكرين عرب، عدا القليل كعبدالله العروي في المغرب[7].
أمام هذا الانطباع السائد ولزمن طويل، والذي يكاد يحضى بدرجة الاتفاق في المجال العربي، وعلى خلافه تماماً جاء التفسير المغاير له، وليس من أي أحد، وإنما من صاحب العمل نفسه، الذي توقف عند هذه الملاحظة مرتين حسبما وجدت، مرة في مقدمة كتابه حين رجع إليه بعد عشرين سنة، ومرة ثانية في الحوار الفكري المنشور معه في مجلة المجلة سنة 1981م.
في مقدمة الكتاب، قال حوراني كلاماً ليس واضحاً تماماً، لا أعلم هل هو بسبب المؤلف أم هو من المترجم، ونص كلامه «إنني أعود في كتابي، إلى هذه الأفكار مستعملاً مع شيء من التساهل، كلمة –Liberal- ليبرالي تحرري، فأذكرها في المعنى الإنجليزي، وليس ذلك هو العنوان الأول لهذا الكتاب، ولست راضياً عن ذلك تماماً، لأن الأفكار التي لها تأثير لا تتعلق بالمؤسسات الديمقراطية، أو حقوق الإنسان فقط، وإنما بالوحدة الوطنية، وبقوتها وبسلطة الحكومات»[8].
لكنه في المرة الثانية، قال حوراني كلاماً واضحاً جدًّا، أظهر فيه اعتراضه، وعدم موافقته على عنوان كتابه بالعربية، ونص كلامه «أود أولاً أن أسجل اعتراضي على عنوان كتابي كما ورد في العربية، ففي الأصل، أي الإنجليزية عنوانه: -The Arabic Thought in the liberal Age- والتعبير العربي –النهضة- يعطي انطباعاً مختلفاً لم أقصده، وكأن المسألة مع النهضة تبدو جديدة كليًّا، ودون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة نهضة أن تعبر عنه، وقد وضعها المترجم مقابل كلمة Liberal والفرق شاسع»[9].
وقبل أن ينهي حوراني كلامه، توقف مرة ثانية أمام عنوان كتابه، رفعاً للالتباس الذي حصل قائلا: «مرة أخرى لا أوافق على عنوان كتابي بالعربية، وهذا خطأ من المترجم، أما ما قصدته تحديداً بالعنوان الإنجليزي فهو الفكر العربي في العصر الليبرالي في أوروبا».
ليس هذا فحسب، فقد أظهر حوراني ندمه حتى على اختيار عنوانه الإنجليزي، وحسب قوله: «عندما كتبت كتابي المذكور، واستخدمت عنوان: The Arabic Thought in the liberal Age لم أقصد مطلقاً أن كل الأفكار كانت ليبرالية، ولكنني قصدت الفكر العربي في عصر الهيمنة الليبرالية الغربية، على كل فقد ندمت فيما بعد لأنني وضعت هذا العنوان»[10].
مع ذلك، فإن هذا الكتاب هو الذي عرَّف بحوراني في المجال العربي، وظل يعرف به باستمرار، وذلك لشهرته الواسعة التي ما زالت ممتدة إلى اليوم، لكونه من المؤلفات القليلة والجادة التي أرَّخت لمرحلة فاصلة في تاريخ تطور العالم العربي الحديث.
والمفارقة التي وجدتها في هذا الشأن، أن كتاب (الفكر العربي) يعتبر في المجال العربي أهم وأشهر أعمال حوراني، في حين يعتبر كتابه (تاريخ الشعوب العربية)، الصادر سنة 1991م، أهم وأشهر أعمال حوراني في المجال الغربي.
- 3 -
الدراسة الثانية.. المثقفون العرب والغرب
صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية سنة 1970م، وفي وقتها كان الدكتور هشام شرابي يعمل أستاذاً في جامعة جورج تاون الأمريكية، التي منحته إجازة عن واجباته التدريسية العادية لإتمام هذا الكتاب، وفي العام نفسه أصدر الترجمة العربية للكتاب في بيروت، وضم لها مقدمة خاصة بها.
في مقدمة الترجمة العربية للكتاب، شرح شرابي أنه كتب الصفحات الأخيرة منه في أيام حزيران التي وصفها بالسوداء، وكان لديه آنذاك، كما كان لزملائه وإخوانه الأساتذة والطلبة العرب في أمريكا، اختيار واحد حسب قوله، إما الاستسلام لليأس والضياع، أو الاستمرار، وفي روتين العمل اليومي، كانت كل دقيقة مرت عليه في الساعات السبع التي كان يقضيها يوميًّا في الكتابة، تتطلب منه كل جهده وإرادته للمتابعة والاستمرار، الذي يعده نوعاً من الانتصار.
حاول شرابي في هذا الكتاب، إظهار ما اسماه التطور الأيديولوجي في العالم العربي الحديث، في ضوء التطور الاجتماعي والاقتصادي، وتبيان العلاقات الأساسية التي تربط كل فكر سياسي أو فلسفي أو ديني بالمصالح التي ينبثق منها، ويعبر عنها هذا الفكر، ليس من خلال البحث التجريدي النظري، بل بالعودة إلى التيارات والقوى التاريخية التي رسمت وشكلت تاريخ نهضتنا.
إن الهم الأساسي عند شرابي في هذا الكتاب حسب قوله، هو أن يقدم إطاراً فكريًّا يمكننا بواسطته أن نعالج واقعنا الاجتماعي والتاريخي بروح وطريقة علميتين، من أجل أن نتوصل إلى موقف نقدي تجاه تاريخنا ومجتمعنا.
ويرى شرابي أن اليقظة العربية، وهو التعبير الذي استعمله المثقفون العرب لنعت عملية التحديث، لم تكن وليدة وعي فجائي عفوي، إنما كانت نتيجة التحدي الذي فرضه الغرب على المستويات كافة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، والذي بدأ في القرن التاسع عشر، وأن هذا الكتاب في نظره، هو محاولة لدراسة هذا التحدي، وتحليل الاستجابة العربية له، على مستوى الوعي الفكري.
وفي نظر شرابي أن اليقظة العربية كعملية تحديثية، ظهرت في ظل أوضاع معينة، ومرت بمراحل محددة، وهذا الكتاب حسب قوله، سيركز على المرحلة الأولى التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر، وامتدت إلى أوائل القرن العشرين، وتحديداً ما بين (1875-1914م)، ويرى شرابي أن هذه المرحلة أساسية لأنها أرست أسلوب التطورات اللاحقة، وأثرت فيها تأثيراً عميقاً.
وباقي المراحل الأخرى، يصنفها شرابي على هذا النحو: المرحلة الثانية وتمتد ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتتميز بسيطرة الغرب المباشرة على العالم العربي، وتنتهي مع بداية الثورة العربية ضد الغرب، والمرحلة الثالثة تبدأ من نهاية الحرب العالمية الثانية، وتتضمن تحرر العالم العربي سياسيًّا من الغرب، ورفضه لقيم البرجوازية الغربية وثقافتها.
وخلال المرحلة الأولى انحصر تأثير الحضارة الغربية، والتغيير الذي أحدثه في قلب العالم العربي، أي في مصر ومنطقة الهلال الخصيب، لهذا اكتسبت تجربة التغيير الاجتماعي في هذه المنطقة جذورها العميقة، وبعد الحرب العالمية الأولى أخذ التحديث في الانتشار إلى أجزاء العالم العربي الأخرى، وما أن هدأت الحرب العالمية الثانية حتى تغلغل التحديث في أكثر أجزاء العالم العربي ابتعاداً، مثل ليبيا واليمن ومنطقة الخليج والجزيرة العربية.
وعن منهجه في البحث، يقول شرابي: إنه حاول دراسة التغيير من وجهة التاريخ الفكري، ونظر إلى مثقفي تلك المرحلة عبر أدوارهم كمعلقين على تجربة جيلهم ومفسرين لها، وليس من خلال أعمالهم، لهذا فإن دراسته تركز على الظروف التي تمت خلالها الاتصالات، وعلى الأشكال التي اتخذتها، وهذا ما دفعه إلى أن يعتني عناية خاصة، بالمكونات الاجتماعية والنفسية للأفكار.
أما الوجه المميز لهذه الدراسة، فيتحدد في نظر شرابي، في الجهد المبذول لفهم التغيير الاجتماعي في إطار صلته بالمضمون الواضح للوعي المعاصر، واعتبار أن اللجوء إلى التحليلات الاجتماعية والنفسية لهذا النمط من الدراسات، يعمق الفهم أكثر من اتِّباع الأسلوب الوصفي.
ومن ناحية البنية التركيبية، فإن الدراسة تتكون من مقدمتين وثمانية فصول، عالجت الموضوعات الآتية: (انبثاق طبقة المثقفين العرب، الأسس النظرية للنزعة الإصلاحية في الإسلام، أيديولوجية الإصلاح الإسلامي، البنية الاجتماعية والفكرية للمثقفين المسيحيين، الأيديولوجية الاجتماعية للمثقفين المسيحيين، بروز العثمانيين المسلمين، المثقفون العرب والعمل السياسي، المثقفون العرب والغرب).
- 4 -
الدراسة الثالثة.. أسس التقدم عند مفكري الإسلام
شرع الدكتور فهمي جدعان في جمع مادة كتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، منذ مطلع سنة 1973م، وعكف على صياغة صورتها الفكرية واللغوية الأولى خلال السنة الجامعية 1975-1976م، حين منحته الجامعة الأردنية إجازة تفرغ علمي قضاها في فرنسا، ثم أدخل عليها بعد ذلك تعديلات وإضافات، بلغت بها الصورة التي خرج عليها الكتاب سنة 1979م.
تقصَّد جدعان في هذا الكتاب تحليل قضية اعتبرها من أخطر القضايا التي شغلت الفكر العربي الحديث، هي قضية الترقي أو التقدم، كما تبلورت في أعمال أكثر المفكرين العرب، والتي جاءت تجسيداً لوجود وعي ذاتي أصيل وفاعل في التاريخ، وهذه القضية ربما تكون الوحيدة التي تستقطب كافة تجليات الفكر العربي الحديث، وتثوي وراء جل الفعاليات النظرية والعملية، التي حملت المثقفين العرب على تباين مواردهم ومقاصدهم، لأن يسهموا في عمليات الهدم والبناء في العالم العربي الحديث.
ولا يزعم جدعان، بأن أحداً قبله لم يلتفت إلى هذه القضية، فإن الدراسات التي تدور حول النهضة والإصلاح الاجتماعي والسياسي والديني في العالم العربي لا يسهل حصرها، لكنه لا يتردد في الزعم أن هذه الدراسات عربية أو غربية، هي غير كافية من ناحية، ولا تلتزم دوماً جانب الدقة وسلامة القصد من ناحية ثانية، وهذا لا يعني عنده أن دراسته ستكون كافية ونهائية، لكنها تطمع في أن تسد فراغاً لم يسده أحد من قبل، كما تتطلع أن تقدم فهماً لهذا الفكر أقرب إلى الدقة والأمانة، وينأى بأهله عن مظان الشبهة والزلل والتشويه.
ولا يتحرج جدعان كثيراً حسب قوله، من الإلماع إلى هذه المظان، وذلك بسبب ما تبيَّنه في أعمال الخائضين في الفكر العربي الحديث من ميل به إلى الهوى، أو من اختزال له في هذا التيار الضيق الضحل أو ذاك، أو توسع به ليحتضن كل نحلة جلَّت أو هزلت، أو من اقتطاع له من التاريخ جملة، أو إجمال له فيه كلية، بشكل يعريه ذلك الاقتطاع من أصوله، وينكر عليه هذا الإجمال تميزه وتمايزه، أو ما أشبه هذا وذاك من محاذير يقع فيها حَسَن النية أحياناً، وسيئ النية أحياناً أخرى.
وذكر جدعان أنه حرص في هذا الكتاب، على التعلق بثلاثة أمور: أولها إحياء أعمال عدد من المفكرين العرب المسلمين الذي أهملتهم الدراسات الحديثة بالإجمال إهمالاً لا يغتفر، ثانيها توسيع دائرة البحث الجغرافية بحيث تحتضن مفكري المشرق العربي ومغربه على حد سواء، ثالثها الهجر المنهجي للطريقة التشريحية الباردة في التعامل مع الثقافة العربية الإسلامية.
ومن جهة المنطلق، يرى جدعان أن الذي ينطلق منه هذا الكتاب، هو الاعتقاد بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلا في دوائر محدودة جدًّا، والطرح الصحيح لهذا الفكر -في نظره- يكمن في اعتبار أن الهواجس الحديثة قد ظلت مطلة باستمرار، في القطاع الكبير من تجلياته على وجوه الفكر العربي الكلاسيكية المختلفة.
أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول، وطرحوا مفهوم النهضة العربية الحديثة على أسس مقطوعة الصلة بالأصول، فهذا المنهج لا يرتضيه جدعان ولا يتفق معه، وحسب رأيه أننا لا نستطيع فهم الفكر العربي الحديث، إلا إذا استوعبنا مبادئ الفكر العربي السلفي ومقدماته، معتبراً أن كل محاولة لبتر هذا الفكر، لا بد أن تؤول بصاحبها إلى سوء فهم وتقدير لهذا الفكر.
لهذا حبذ جدعان الكلام على أزمنة حديثة عربية، دون الكلام على عصر حديث، ومن شأن هذا الموقف أن يقر في الأذهان فكرة تبدو لجدعان صادقة تماماً، وهي أن الأزمنة الحديثة العربية تبدأ مع ابن خلدون بالذات، لا مع مدافع نابليون التي يقال: إنها أيقظت مصر والعالم العربي من السبات العميق.
وما يعنيه جدعان بمفكري الإسلام، يتحدد في فريق معين من المثقفين، نسبتهم إلى الإسلام ليست نسبة عادية، مستقاة من الانتماء إلى دين الإسلام انتماء إرثيًّا أو جغرافيًّا أو حضاريًّا عامًّا أو ما أشبه ذلك، وإنما هم -في نظر جدعان- فريق من الكتاب أو المفكرين ينتمي معظمهم إلى فئة المثقفين المتنورين بالعلوم العصرية، بعضهم ينتمي إلى فئة الشيوخ الإصلاحيين، وقليل منهم ارتبط اسمه بحركات دينية وسياسية، وأغلبهم قد نشط نشاطاً فرديًّا خالصاً، وما يجمع بينهم اشتراكهم في الاعتقاد بأن الإسلام كدين وثقافة وحضارة، ينبغي أن يقوم بدور فعال في توجيه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ومن هذه الجهة، ميز جدعان مفكري الإسلام هؤلاء، عن فريق آخر من المفكرين الذين لا نزاع أنهم مسلمون أيضاً، لكنهم في نظره لم يخصوا الإسلام بدور فاعل في كتاباتهم ومشروعاتهم الأدبية والفكرية، أو أنهم عرفوا بمواقف لا تكترث بالإسلام، أو لا تخلو من عداء له، أو لصورة ما من صوره.
وحين توقف جدعان أمام مفهوم التقدم، تنبه إلى اعتراض، له ما يسوغه حسب قوله، وتحدد هذا الاعتراض في أن مفهوم التقدم في العصر الحديث له معنى اصطلاحي خاص لا يجوز التهاون في إطلاقه، وهذا المعنى ليس هو المعنى الشائع عند مفكري الإسلام المحدثين، الذين يصعب القول: إنهم بوصفهم مسلمين مستعدون للأخذ به، أفلا يكون الأصح إذاً أن يدور الكلام على مفهوم النهضة عند هؤلاء، لا على مفهوم التقدم؟
هذا الاعتراض في نظر جدعان وجيه، ويرى أن الخلط في المفاهيم أمر مجاف للدقة العلمية، وبالفعل اختار جميع الدارسين للفكر العربي الحديث مصطلح النهضة، ووسموا به مجمل الإنتاج الفكري في القرنين التاسع عشر والعشرين.
أمام هذا الاعتراض، اعتبر جدعان من وجه أول، أن بعض وجوه مفهوم التقدم التنويري قد لاقت صدى لا ينكر عند هؤلاء المفكرين المسلمين، ومن وجه ثانٍ أن مصطلحي التقدم والترقي قد تردد في كتابات هؤلاء المفكرين أكثر من مصطلح النهضة الذي لم يستخدم إلا قليلاً.
مع ذلك لا يبدو عند جدعان، أن ما أسماه صراع المصطلحات يعد خطيراً، وبإمكانه أن يسلم بما يطالبه به بعض الدارسين من ضرورة الكلام عن أسس النهضة، لا عن أسس التقدم، أو الإقرار بأن التقدم المقصود هنا هو في الحقيقة مجرد نهضة فحسب، وفي هذه الحالة يرى جدعان أن احتفاظه بمصطلح التقدم جاء مرتفقاً بالاستخدام العام للكلمة من ناحية، وباستخدام المفكرين العرب المسلمين أنفسهم لهذه الكلمة من ناحية ثانية.
وما يهم جدعان أن ينبه عليه، أنه لا يؤرخ للفكر العربي الحديث، فقد قصر جهده على دراسة فريق لا يستوعب كل ما انطوى عليه هذا الفكر، كما أنه لا يؤرخ تاريخاً كاملاً للمشكلة التي اختارها موضوعاً لبحثه، فإن الهم الأساسي قد تمثل عنده في اختيار أكثر الأعمال تعبيراً عن إشكالية التقدم، من أجل تحليل هذه الإشكالية، وبيان العناصر الأساسية المكونة لها.
والتحليل الذي يرتضيه جدعان لا ينفصل عن التاريخ، فقد لجأ إلى طريقة يتعانق فيها الآمر التاريخي بآمر التحليل، فلا هي بالتاريخ الخالص، ولا هي بالتحليل المتفرد بالعمق، ولكنها مزيج من الاثنين تضعنا على أرض التاريخ والمعرفة في آن واحد.
وفي الطبعة الثالثة من الكتاب الصادرة سنة 1988م، لمس جدعان إقبال جمهرة واسعة من القراء على كتابه، وبات حسب قوله قرير العين، فقد أغدق القراء والنقاد على هذا الكتاب، من التقريظ والعطف والثناء، فوق ما كان ينتظر، وكان ذلك عزاء شافياً له عن سنوات العمل المضنية التي صرفها فيه.
أما الأصوات الناقدة للكتاب، فهي ثلاثة أصوات وصفها جدعان بالمنكرة، صوت أول أخذ عليه أنه مصاب بلوثة تقدمية، وصوت ثانٍ زعم أن الروح التي سرت في الكتاب هي روح سلفية، وصوت ثلاث أداه بصره إلى ألَّا يرى في الكتاب إلا عدمية متحدرة بصاحبه من هزيمة حزيران النكدة.
وعند تحقيق جدعان في هويات أصحاب هذه الأصوات، لم يكن من العسير عليه حسب قوله، أن يتبين في الصوت الأول وجه الفقيه المعاصر المنبت الصلة بأزمنة التنوير الإسلامية البديعة، وبأزمنة التنوير الحديثة المذهلة على حد سواء.
وتبين لجدعان في الصوت الثاني، وجه واحد من الجند القدامى لماركسية آفلة، وفي الصوت الثالث وجه باطني متخف في أهاب داعية قومي غيور، قصارى أمره أن يعظ أمة العروبة موعظة التفاؤل، ويعلمها اكتساب فضيلة الطاعة، فكان ذلك وحده مسوغاً له لئلَّا يشغل نفسه بدفع شيء من هذه النقائص.
وعن طبيعة هذا العمل، يقول جدعان: إن هذا العمل هو عمل تحليلي نقدي ذو غرضين: الأول ملء فجوة عميقة في تاريخنا الفكري، والثاني الإسهام في بناء الوعي العربي الحالي والقابل وفقاً لنهج العقلانية النقدية المشخصة، وما جاوز هذين الغرضين، أو قصر عنهما يظل فرعاً لم يكن التوجه إليه، أو التوسل به، في البحث أمراً مقصوداً في ذاته ولذاته.
وما بين الطبعة الأولى من الكتاب والطبعة الثالثة، حدثت أمور كثيرة، مع ذلك يرى جدعان أن لا شيء مما حدث يبدل من واقع الأفكار والتحليلات التي اشتمل عليها الكتاب، وقصارى ما حدث لا يجاوز عملية تجذر غال في محور يمثل أحد المحاور الرئيسية التي دار عليها الكتاب، هو الأساس السياسي للتقدم.
والنظر في بعض مسائل الكتاب وقضاياه، أفضى بجدعان إلى تأملات جديدة مشرعة على المستقبل، وبدا له أن المكان الطبيعي لها هو خاتمة الكتاب، فعمد إلى هذه الخاتمة بالتعديل الجذري الواسع، جاعلاً قوامها قولاً جديداً في الإسلام والمستقبل، اقتبس أجزاءه الأساسية من كتابه (نظرية التراث) الصادر سنة 1985م.
وأما متن الكتاب، فلم يتبين لدى جدعان ما يلجئ فيه إلى أي تعديل أو تغيير جذري، ورغم أن دراسات الفكر العربي الحديث قد احتلت مكاناً بارزاً في خارطة القوى الإبداعية العربية خلال السنوات آنذاك، إلا أن جدعان متأسفاً لم يجد فيها ما يمكن أن يغني على وجه الحقيقة، الصيغة التي انتهى إليها هذا الكتاب قبل عشر سنوات.
وفي الطبعة الرابعة الصادرة سنة 2010م، اعتبر جدعان أن الكتاب بات مرجعاً أكاديميًّا وفكريًّا وثقافيًّا يحال إليه كل الذين يعنون بالإسلام في العالم العربي الحديث، وفي هذه الطبعة حذف جدعان من الكتاب مقدمة الطبعة الثالثة من دون أن يشير إلى ذلك، مع إنها احتوت على نص وجدته مهمًّا في تكوين المعرفة بالطور الفكري والتاريخي الذي تمثله الكتاب خلال حقبة ثمانينات القرن العشرين.
وأضاف جدعان لهذه الطبعة الرابعة مدخلاً، شرح فيه وجهة نظره بشأن ما طرحه عليه البعض من الحاجة إلى استئناف البحث في موضوع الكتاب، واستكمال النظر في الظواهر الإسلامية الجديدة، ليكون الكتاب متجدداً ومعاصراً للوقائع والأحداث، لكن جدعان لم ير -حسب قوله- مسوغاً إلى ذلك، محدداً ثلاثة أسباب هي:
أولاً: أن هذا الكتاب لم يقصد منه أن يكون تاريخاً للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، لا بل إنه لم يقصد أن يجرد القول في كل قول يمكن أن يكون ذا علاقة بالفكر أو العمل الإسلاميين.
ثانياً: أن الأدبيات التي ظهرت منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وجملة حركات وجماعات الإسلام السياسي ليس لها عد ولا حصر، واستحضارها في هذا الكتاب سيكون ضرباً من تكرار القول الذي لن يقدم شيئاً ذا بال.
ثالثاً: وهو الأعظم أهمية وخطراً حسب وصف جدعان، أن عقل الحركات والجماعات الإسلامية الراديكالية المعاصرة، يمثل قطيعة حاسمة في علاقته مع العقل المؤسس لأعمال مفكري الإسلام الذين نهض الكتاب لدراسة أعمالهم.
وهذه القضية تحديداً لها معنى خاص عند جدعان، وأراد من هذا المدخل التوقف عندها باهتمام، شارحاً رؤيته لهذه القطيعة التي وصفها بالحاسمة.
والكتاب في بنيته التركيبية حسب طبعته الثالثة، يتكون من مقدمتين، وستة فصول، وحسب طبعته الرابعة يتكون من مدخل ومقدمة وستة فصول، عالجت الموضوعات الآتية: (ميتافيزيقا التقدم، الحقيقة والتاريخ، الدخول في الأزمنة الحديثة، التوحيد المحرر، دروب الفعل، القيم)، وخاتمة حملت في الطبعة الثالثة عنوان (الإسلام والمستقبل)، وفي الطبعة الرابعة أصبحت من دون عنوان.
- 5 -
مقاربات وموازنات
بعد توصيف هذه الدراسات الثلاث، أصبح من الممكن إجراء المقاربات والموازنات فيما بينها، باتِّباع المنهج المقارن، بوصفه أحد المناهج المتبعة في الدراسات العلمية.
وفي هذا النطاق يمكن الكشف عن المقاربات والموازنات الآتية:
أولاً: كتب حوراني دراسته بذهنية المؤرخ، فغلب على دراسته الطابع التاريخي والتحليل التاريخي، وكتب شرابي دراسته بذهنية المفكر الأيديولوجي، فغلب على دراسته الطابع الفكري الأيديولوجي والتحليل الفكري الأيديولوجي، وكتب جدعان دراسته بذهنية الباحث، فغلب على دراسته الطابع الفكري البحثي والتحليل الفكري البحثي.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن دراسة حوراني تفوقت من ناحية إبراز العامل التاريخي، وتفوقت دراسة شرابي من ناحية إبراز العامل الأيديولوجي، وتفوقت دراسة جدعان من ناحية إبراز العامل الفكري.
حوراني غلَّب العامل التاريخي، لكونه مؤرخاً ويعرف عن نفسه بهذه الصفة، وبوصفه أستاذاً للتاريخ، ومختصاً بتاريخ المنطقة العربية، درس مادة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد حتى تقاعده سنة 1979م، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته التاريخية.
وغلَّب شرابي العامل الأيديولوجي، لكونه مفكراً مسكوناً بهاجس التغيير الاجتماعي، وبوصفه معنياً بدراسة التطور الأيديولوجي في المنطقة العربية، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته الاجتماعية.
وكشف شرابي عن هذا العامل الأيديولوجي، في مقدمة الطبعة العربية لكتابه بالقول: «حاولت في هذا الكتاب إظهار التطور الأيديولوجي في العالم العربي الحديث، في ضوء التطور الاجتماعي والاقتصادي»، وعن هاجس التغيير الاجتماعي يقول شرابي: «إن همي الأساسي في هذا الكتاب، أن أقدم إطاراً فكريًّا يمكننا بواسطته أن نعالج واقعنا الاجتماعي والتاريخي»[11].
وغلَّب جدعان العامل الفكري، لكونه باحثاً وأستاذاً للفلسفة والفكر العربي، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته الفكرية، وتوخى حين وضع كتابه أن يكون نصًّا كلاسيكيًّا في الفكر العربي الحديث، ولم يكن بصدد أن يؤرخ لهذا الفكر، وذلك لتأكيد الطابع الفكري له، وليس الطابع التاريخي.
وقد برهن هؤلاء الباحثون بهذه الدراسات الثلاث، على إمكانية دراسة عصر النهضة في المجال العربي الحديث، من خلال مداخل متعددة، منها المدخل التاريخي الذي استند إليه حوراني، ومنها المدخل الأيديولوجي الذي استند إليه شرابي، ومنها المدخل الفكري الذي استند إليه جدعان، إلى جانب مداخل أخرى يمكن الاستناد إليها أيضاً.
ثانياً: تعد دراسة حوراني أقرب في التعبير عن النزعة الليبرالية، بينما تعد دراسة شرابي أقرب في التعبير عن النزعة اليسارية، في حين تعد دراسة جدعان أقرب في التعبير عن النزعة الإسلامية.
هذه المفارقة لها تجلياتها الواضحة في الدراسات الثلاث، فالنزعة الليبرالية تجلت في دراسة حوراني من جهات عدة، وأوضح هذه التجليات ما ظهر في عنوان الطبعة الإنجليزية من الكتاب التي وردت فيه كلمة الليبرالي، وحددت موضوع الكتاب في دراسة الفكر العربي في العصر الليبرالي.
كما تجلت هذه النزعة في أطروحة الكتاب، التي اتخذت من العصر الليبرالي الأوروبي موضوعاً لها، وتحددت هذه الأطروحة في دراسة كيف تعامل الفكر العربي مع العصر الليبرالي الأوروبي! وكيف جابه تحدياته الكبيرة، وماذا أخذ منه! وما هي صور الاستجابة وأبعادها وتأثيراتها في ظل الهيمنة الطاغية لأوروبا في عصرها الليبرالي!
وهناك من رأى أن الأطروحة الرئيسية لدراسة حوراني، قائمة على أساس الكشف عن العصر الليبرالي في ساحة الفكر العربي، ومحاولة ضبط وتحديد وتسمية هذا العصر، في أزمنته وأمكنته، أفكاره ومفاهيمه، رجاله وشخصياته،
هذه الأطروحة وإن لم يصرح بها حوراني بشكل واضح في كتابه، وحتى في خارجه في أحاديثه وحواراته، ومع الاختلاف حولها عند البعض في المجال العربي من جهة صدقيتها وتماميتها، إلا أنها أقرب ما يقترب إلى الذهن عند البحث عن أطروحة الكتاب، وكل ذلك يبرز تجليات النزعة الليبرالية في الدراسة.
وعن النزعة اليسارية في دراسة شرابي، فلها تجليات واضحة وبينة، وأوضح هذه التجليات اعتماد شرابي على مفهوم الطبقة، بوصفه مفهوماً تفسيريًّا، وما يتفرع عن هذا المفهوم من تركيبات ثنائية مثل: الوعي الطبقي، النظام الطبقي، الفوارق الطبقية وغيرها، وهذا المفهوم كما هو واضح هو من صلب المفاهيم اليسارية، ويكاد يكون حكراً على الفكر اليساري ونظامه البياني، والاستناد إليه يأتي عادة في سياق الكشف عن النزعة اليسارية عند الكاتب، وبقصد التظاهر بهذه النزعة، والإشهار بها.
أما النزعة الإسلامية في دراسة جدعان، فهي أكثر وضوحاً وتجلياً، وتعد من أخص الخصائص التي تمسك بها جدعان في المفارقة بين دراسته ودراسات الآخرين، فقد تقصد حسب قوله، أن يستبعد «جل الاعتبارات التي يمكن أن يدخلها هذا البحث في حسابه، كالزعم بأن مستقبل الفكر العربي الحديث ينبغي أن يلتمس حقًّا وبتفرد، في واحد من التيارات الليبرالية أو العلمانية أو التغريبية التي لاقت صدى لا ينكر لدى بعض المفكرين العرب المحدثين في بعض فترات عصرنا الراهن، والتي لم يزل لها ذيول في بعض الأوساط الفكرية العربية في عدد من الأقطار ذات الماضي الاستعماري الغربي، أو الحاضر المفتوح على جو الثقافة الغربية البرجوازية، ومشتقاتها وارتكاساتها الفكرية أو الأيديولوجية»[12].
وهذا ما دفع جدعان في هذه الدراسة، التمهيد لفصولها الأساسية بالإلماع إلى ما بدا له وثيق الصلة بمضمونها، مما ينتمي إلى البدايات الثقافية العربية الإسلامية، وتطوراتها في العصور الأولى، والمفكرين الذين عني بدراسة أعمالهم نظر إليهم من جهة نسبتهم الفعلية إلى الإسلام.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هذه الدراسات الثلاث كشفت عن قراءات متعددة لعصر النهضة والإصلاح في المجال العربي، بين قراءة ليبرالية نزع إليها حوراني، وقراءة يسارية نزع إليها شرابي، وقراءة إسلامية نزع إليها جدعان.
ثالثاً: أعطى حوراني الفترة التي حاول دراستها صفة عصر النهضة، الصفة التي ظهرت في عنوان الطبعة العربية من كتابه، وهي الصفة نفسها التي أعطاها شرابي للفترة التي حاول دراستها، وظهرت كذلك في عنوان كتابه، في حين أعطى جدعان الفترة التي حاول دراستها صفة التقدم.
والمفارقة التي حصلت في هذا الشأن، تحددت في تغير صورة هذه الصفة بأشكال مختلفة عند هؤلاء الثلاثة، شكل من الشك عند حوراني، وشكل من التوقف عن شرابي، وشكل من الاستبدال عند جدعان.
شكل من الشك عبر عنه حوراني، حين سجل اعتراضاً على عنوان كتابه في طبعته العربية، معتبراً أن استعمال كلمة «النهضة» تعطي انطباعاً مختلفاً لم يقصده، وكأن المسألة «مع النهضة تبدو جديدة كليًّا، ومن دون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة نهضة أن تعبر عنه، وقد وضعها المترجم مقابل كلمة liberal، والفرق شاسع»[13].
وشكل من التوقف تمثل عند شرابي في مفارقة غير مفهومة، ففي عنوان كتابه استعمل كلمة النهضة، لكنه في متن الكتاب توقف عن استعمال هذه الكلمة، واستعمل مكانها كلمة اليقظة، الكلمة التي كان قاصداً ومدركاً لها، وذلك حين نبَّه عليها، ولفت الانتباه إليها في السطر الأول من مقدمة الكتاب، بقوله: «ارتبط المجتمع العربي منذ أقل من قرن ارتباطاً وثيقا بماضيه، واليوم لا يزال يناضل ليشق طريقه إلى العالم المعاصر، لم تكن اليقظة العربية، وهو التعبير الذي استعمله المثقفون العرب لنعت عملية التحديث، وليدة وعي فجائي عفوي»[14].
وفي مكان آخر من المقدمة نفسها، وتأكيداً على كلمة اليقظة، كتب شرابي يقول: «تضمنت اليقظة العربية نوعاً جديداً من الإدراك، فجلبت معها مفاهيم للتراث التقليدي، ومحاولات للتكيف مع المعطيات الجديدة».
وفي مكان ثالث من المقدمة أيضاً، كتب شرابي يقول: «أظهرت اليقظة العربية كعملية تحديثية في ظل أوضاع معينة، ومرت عبر مراحل محددة».
وكان يفترض من شرابي أن يكون متنبهاً لهذه الملاحظة من جهتين، من جهة ما حصل من اختلاف ما بين الكلمة التي وردت في العنوان، والكلمة الأخرى المستعملة في متن الكتاب، ومن جهة الحاجة إلى تفسير هذه الملاحظة لرفع هذا النوع من التباين اللفظي والمفهومي.
وشكل من الاستبدال تمثل عند جدعان، بطريقة مقصودة وواعية حين استعمل كلمة التقدم بدلاً عن كلمة النهضة، وهذا القصد والوعي يظهر عند جدعان حين يتساءل مع نفسه بالقول: أفلا يكون الأصح أن يدور الكلام على مفهوم النهضة لا على مفهوم التقدم؟
ويرى جدعان أن هذا الاعتراض وجيه، لأن الخلط في المفاهيم أمر مجاف للدقة العلمية، ولأن جميع الدارسين للفكر العربي الحديث قد اختاروا بالفعل مصطلح النهضة، ووسموا به مجمل الإنتاج الفكري في القرنين التاسع عشر والعشرين.
واستعمل جدعان مفهوم التقدم، لأنه أراد أن يميز محاولته عن محاولات الآخرين، وأن يظهر اختلافاً معهم بصورة تامة، ومن كل الجهات.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن الفترة التاريخية المعنية بالدراسة عند هؤلاء الباحثين الثلاثة، قد تعددت أوصافها، وتنوعت توصيفاتها، بين من وصفها بعصر النهضة مثل حوراني وغيره، ومن وصفها بعصر اليقظة مثل شرابي، ومن وصفها بعصر التقدم مثل جدعان، إلى جانب من وصفها بأوصاف وتوصيفات أخرى، كعصر الإصلاح وغيره.
رابعاً: في الوجهة العامة اعتنى حوراني عن قصد واختيار، بالأشخاص الذين أعطاهم صفة المهمين والمؤثرين خلال الفترة التاريخية المعنية عنده بالدراسة، واعتنى شرابي عن قصده واختيار أيضاً، بدراسة الأطر والتكوينات الاجتماعية والأيديولوجية خلال الفترة التاريخية المعنية عنده كذلك بالدراسة، في حين اعتنى جدعان عن قصده واختيار، بدراسة وتوثيق النصوص خلال الفترة التي قاربت القرن وجاوزته.
هذا القصد والاختيار عند حوراني بالأفراد والأشخاص، أشار إليه حين فرَّق بين طريقتين في كتابة تاريخ الفكر، طريقة تعتمد على كتابة تاريخ المدارس الفكرية، وطريقة ثانية تعتمد على دراسة بعض الأفراد المختارين بسبب تمثيلهم الواسع للاتجاهات والأجيال.
وكلا الطريقتين في نظر حوراني، تعتريهما بعض العيوب والثغرات، فالطريقة الأولى التي تعتمد على المدارس الفكرية، فإنها لا تلقي ضلالاً على الفروقات الفردية عند المفكرين، وتفرض وحدة في أعمالهم هي غير صحيحة، والطريقة الثانية التي تعتمد على بعض الأفراد، فإنها قد توقع في فرض وحدانية مصطنعة على فكرهم، وجعله أكثر منهجية وتوافقية مما هو عليه حقًّا، وإعطاء هؤلاء الأفراد أهمية ليسوا أهلاً لها بالضرورة.
مع ذلك فضل حوراني اختيار الطريقة الثانية، لأنها تتيح له -حسب قوله- القيام بعمل يهمه، فقد أراد تكوين المعرفة عن أولئك الأشخاص، وأصداء المفكرين الأوروبيين الذين قرؤوا لهم، أو سمعوا عنهم، لكي يكتشف إذا كان ممكناً معرفة الزمن الذي دخلت فيه أفكار هؤلاء المفكرين الأوروبيين ساحة الخطاب الثقافي العربي، ومن جهة ثانية العمل على معرفة الصلات بين هؤلاء المفكرين العرب، ووضعهم في إطار تسلسل تاريخي، حاول حوراني من خلاله أن يخط مسيرة أربعة أجيال.
وبالنسبة لشرابي فالقصد والاختيار عنده كان واضحاً، من جهة التركيز على المثقفين لا كأفراد، إنما بوصفهم يمثلون طبقة، الأمر الذي اقتضى منه دراسة تكويناتهم الاجتماعية والاقتصادية، ويكفي للدلالة على ذلك، أنه افتتح الكتاب بفضل حمل عنوان (انبثاق طبقة المثقفين العرب)، استهله بسؤال الناقد الإيطالي أنطونيو جرامشي (1891-1937م)، هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية مستقلة، أو أن لكل طبقة اجتماعية فئتها المثقفة الخاصة بها؟
هذا السؤال اعتبره شرابي أساسيًّا لهذه الدراسة، التي سوف يتعرض فيها إلى اعتماد المثقفين على طبقات أخرى، أو اتجاه هؤلاء المثقفين نحو تكوين جماعات مستقلة ذاتيًّا منسلخة عن ولاءاتها الطبقية، سيعالج ذلك شرابي -حسب قوله- في ضوء نظام طبقي كان لا يزال في طور النشوء، إذ فكرة الوعي الطبقي في شكل ضبابي وغامض[15].
وأما بالنسبة لجدعان فالقصد والاختيار عنده، من جهة التركيز على النصوص كان واضحاً وبيِّناً كذلك، فقد نبَّه في مقدمة الدراسة على أنه استكثر من النصوص، واعتبر هذا الأمر مقصوداً لذاته.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن بالإمكان دراسة عصر النهضة من خلال التركيز على الأفراد الذين مثلوا عصرهم وجيلهم، على طريقة محاولة حوراني، أو من خلال التركيز على فئات وطبقات، على طريقة محاولة شرابي، أو من خلال التركيز على نصوص، على طريقة محاولة جدعان.
خامساً: خلال الفترة التاريخية التي حاول حوراني دراستها، والممتدة ما بين (1798-1939م)، مع أنه أوصلها إلى زمن طه حسين مطلع سبعينات القرن العشرين، فإن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني خلال هذه الفترة كان منهم إسلاميون مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا وآخرون، وكان منهم وطنيون مثل مصطفى كامل وسعد زغلول وآخرون، وكان منهم قوميون مثل نجيب العازوري وساطع الحصري وآخرون، ومنهم أيضاً علمانيون مثل شبلي شميل وفرح أنطون وآخرون، ومنهم ليبراليون مثل لطفي السيد وطه حسين وآخرون.
وعن هؤلاء وإن كان بدرجة أقل من الإحاطة والتفصيل، تحدث شرابي خلال الفترة التاريخية التي حددها والممتدة ما بين (1875-1914م).
لكن الصورة تغيرت واختلفت عند جدعان، الذي تقصد حصر الأشخاص بفريق معين، وهم الذين يصدق عليهم وصف المفكرون المسلمون، وشرح جدعان ذلك بقوله: «إن مفهوم مفكري الإسلام يحيل في هذا الكتاب صراحة، إلى الكتّاب العرب الذين تقع تجاربهم الفكرية الأصيلة الصميمية في مجمل الفعاليات الإسلامية، أو في هذه الفعالية أو تلك منها، أولئك الكتَّاب الذين قدموا إسهاماً قويًّا، مستلهماً من الدور الذي رأوا أن الإسلام من حيث هو دين وحضارة، مدعو لأن يحتله في قضية التقدم»[16].
وفي رأي جدعان وهو يتمم كلامه «إن هذا التحديد يسوغ إلى حد كبير الإحجام عن الخوض في أعمال كتاب أو مفكرين، كان بعض القراء يرجون الالتقاء بهم في هذا الكتاب، كما يسوغ أيضاً التقاء بعض القراء الآخرين، بكتاب قد يرون أنهم لم يخدموا قضية التقدم في العالم العربي الحديث، أو أنهم خلفوا وراءهم ذكرى تبعث على الجدل، ويهمني أن أنبه هنا، إلى أن عملية اختيار النماذج المدروسة، لم تخضع إطلاقاً لتوطئ شخصي من جانبي، وإنما أملتها علي رغبتي في الاستجابة للتحديد الذي يتقبل المسلمين أو الإسلاميين المحافظين، مثلما يتقبل المسلمين أو الإسلاميين الثوريين»[17].
إلى جانب ذلك، أظهر جدعان موقفاً متحيزاً لهذا الفريق من المفكرين المسلمين، مصطفاً معه في التصدي لما أسماه جبهات الليبراليين والتغريبيين والعلمانيين، وحسب قوله: «ينبغي ألَّا يدهشنا كثيراً انصراف المفكرين المسلمين، إلى المواقف الدفاعية والتسويغية في هذه الفترة، فقد كانوا يتصدون لجبهات كثيرة، فهناك الليبراليون من ناحية، والتغريبيون من ناحية ثانية، والعلمانيون المسيحيون خاصة من ناحية ثالثة، ومن بعدهم مسلمون أصابتهم هم بدورهم روح العلمنة، فشقُّوا الصفوف، وخلع بعضهم الجبة ليرتدي ثوباً لم يكن يختلف في نظر المسلمين من معاصريه، وممن جاؤوا بعده عن ثوب يهوذا الذي خان سيده»[18].
وهذه الفترة التي يعنيها جدعان، هي التي تلت الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية، والتي ظهر فيها -حسب قول جدعان- نشاط الإرساليات التبشيرية، والمطاعن التي وجهها كتاب غربيون ومسيحيون إلى الإسلام.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هناك من حاول دراسة عصر النهضة بالعودة إلى أشخاص ينتمون لنزعات واتجاهات متعددة، إسلامية ووطنية وقومية وليبرالية وعلمانية، كمحاولة حوراني، أو بالعودة إلى طبقات وأيديولوجيات متعددة، إسلامية وقومية وعلمانية، كمحاولة شرابي، أو بالعودة إلى أشخاص ينتمون حصراً إلى مفكري الإسلام كمحاولة جدعان.
سادساً: إن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني على امتداد قرن ونصف قرن من تاريخ عصر النهضة، هؤلاء الأشخاص جميعهم من الرجال، ولم يؤرخ لأحد من النساء، والقدر الذي أشار إليه في كتابه الذي يقع في ترجمته العربية، في أكثر من أربعمائة صفحة، كان مجرد ذكر عابر لاسمين من الأسماء النسائية، هن الأميرة نازلي صاحبة الصالون السياسي الذي حضره سعد زغلول في وقت من الأوقات، وهو الصالون الذي اعتبره حوراني أول صالون سياسي في الشرق الأدنى الحديث.
والاسم النسائي الثاني هي هدى شعراوي، وجاءت الإشارة إليها، حين اعتبر حوراني أن فكرة مناصرة المرأة أصبحت منذ قاسم أمين، هاجس التفكير الوطني في مصر، وعدت الأيام التي سارعت فيه النساء بقيادة هدى شعراوي إلى خلع الحجاب، والاشتراك في الحياة العامة، في عداد الأيام الوطنية الخالدة حسب قول حوراني[19].
وتكرر هذا الحال مع شرابي، الذي لم يأتِ على ذكر أحد من النساء، وهو يؤرخ لفترة تمتد إلى نصف قرن وتزيد، من تاريخ عصر النهضة في المجال العربي الحديث، وحتى عندما وصل إلى قاسم أمين متحدثاً عن كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، لم يأتِ شرابي على ذكر أحد من الأسماء النسائية.
وانفرد جدعان من هذه الجهة، واعتنى بالإشارة إلى عدد من الأسماء النسائية البارزة، من هذه الأسماء اللبنانية زينب فواز (1262-1332هـ/1846-1914م)، التي اعتبر جدعان أن كتاباتها تظل من أبرز الأعمال النسائية، عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ومن هذه الأسماء أيضاً، المصرية ملك حفني ناصف (1304-1337هـ/ 1886-1918م)، التي اعتبرها جدعان أنها كانت من الإصلاحيين القلائل الذين يمتازون بعمق الحساسية، وبقوة الشعور المشخص، والاستجابة لحس الواقع.
ومن هذه الأسماء كذلك، اللبنانية نظيرة زين الدين (1326-1396/ 1908-1976م)، التي عرفت بكتابيها (السفور والحجاب) الصادر سنة 1928م، و(الفتاة والشيوخ) الصادر سنة 1929م.
إلى جانب هذه الأسماء التي عرف بها جدعان، وتوقف عندها مستطلعاً أعمالها وكتاباتها، هناك أسماء أخرى أتى على ذكرها فقط، مثل: (عائشة التيمورية، ومي زيادة، وهدى شعراوي، وخديجة المغربية الأسيوطية، وفاطمة ابنة المؤرخ أحمد جودت باشا).
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هناك من أرَّخ لتاريخ عصر النهضة ناظراً إلى الرجال فقط من دون الالتفات إلى النساء، مثل حوراني وشرابي، وهناك من أرَّخ ملتفتاً إلى دور النساء مثل جدعان.
سابعاً: من الناحية الدينية فإن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني بعضهم كان من المسلمين، والبعض الآخر كان من المسيحيين، واستند حوراني في الحديث عن المسيحيين إلى ثلاثة خلفيات أساسية هي:
1- يرى حوراني أن أهم النقاشات التي جرت في المنطقة العربية حول الفكر الأوروبي -قوانين ومؤسسات وأفكار– حصلت بصورة أساسية ومتواصلة في القاهرة وبيروت، وهذا ما جعل حوراني يهتم بهذين المكانين المرتبطين بعلاقات وثيقة على مستويات متعددة، خاصة بعد هجرة الكتَّاب اللبنانيين والسوريين إلى مصر، وكان أبرزهم من المسيحيين.
2- يعتقد حوراني أن أكثرية الكتَّاب اللامعين في بيروت، كانت تنتسب إلى الطوائف المسيحية في لبنان وسوريا.
3- في نظر حوراني أن المسيحيين كانوا يتفاعلون مع الثقافة الأوروبية أكثر من المفكرين المسلمين، الأمر الذي يسهم في توضيح بعض صور العلاقات مع الفكر الأوروبي، الذي هو موضوع دراسته.
وفي هذا النطاق، تحدث حوراني عن بطرس البستاني (1819-1883م)، الذي أصدر مجلة الجنان في الفترة ما بين (1870-1886م)، وجرجي زيدان (1861-1914م)، مؤسس مجلة الهلال، ويعقوب صروف (1852-1927م)، وفارس نمر (1856-1951م)، مؤسسا مجلة المقتطف، وفرنسيس مراش (1836-1873م)، وشبلي شميل (1850-1917م)، وفرح أنطون (1874-1922م)، بالإضافة إلى آخرين.
وبدرجة أكبر من العناية والاهتمام تحدث شرابي، الذي تعمد على ما يبدو لفت الانتباه كثيرا لدور المسيحيين العرب، إذ خصص فصلين كاملين للحديث عنهم في كتابه الذي يتكون من ثمانية فصول، وظل يُذكِّر بهم، بأقوالهم ومواقفهم حتى في الفصول الأخرى، مبرزاً تميزهم العقلاني والأيديولوجي والاجتماعي.
والملاحظ أن شرابي نظر إلى المسيحيين العرب بوصفهم يمثلون حالة خاصة، متمايزين في أفكارهم ومواقفهم عن باقي الفئات الأخرى، خاصة من جهة العلاقة مع أوروبا والفكر الأوروبي.
ومن الإشارات الدالة على ذلك عند شرابي، قوله: «إن الصفة المميزة للنظرة المسيحية لا تكمن فقط في كون المثقفين المسيحيين، برغم الاختلافات الفردية، أدركوا وتمسكوا بالقيم والأهداف المستمدة من الغرب، بل إنهم عملوا على ربط المسيحيين العرب بالغرب حضاريًّا، وهكذا فإن تبايناً أساسيًّا فرض حاله في موقف المسيحيين العرب من محيطهم الإسلامي، وفي المقابل ظل المسلمون ذوو القناعات العلمانية المشابهة في شكل أساسي، نافرين من الغرب، لقد أكد المسلم العلماني برغم تمسكه بالقيم الغربية والأفكار المعاصرة، على هويته الإسلامية المستقلة»[20].
هذا الموقف اختلف معه، وافترق عنه جدعان، الذي حصر عمله قاصداً ومتعمداً بمفكري الإسلام، ومستبعداً الحديث عن المسيحيين، أفكارهم وأعمالهم، أدوارهم وأنشطتهم، بالطريقة التي أرَّخ لها كلٌّ من حوراني وشرابي.
لا بل إن جدعان تعامل مع الطرف المسيحي بمنطق النقد والاتهام، وظهر ذلك في العديد من المواقف، فعند حديثه ودفاعه عن انصراف المفكرين المسلمين إلى المواقف الدفاعية والتسويغية، خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، اعتبر جدعان أنهم كانوا يتصدون لجبهات كثيرة، فهناك الليبراليون من ناحية، والتغريبيون من ناحية ثانية، إلى جانب هؤلاء، هناك العلمانيون المسيحيون خاصة[21].
وعند نقده وذمه لظاهرة التغريب، أدرج جدعان في نطاق هذه الظاهرة ما أسماه بالعلمنة، التي تبلورت -حسب قوله- في الدعوة الصريحة إلى تأسيس الدستور على القانون الوضعي، وتأسيس الدولة على قواعد عصرية غربية ليس للدين الإسلامي أي دور فيها، واعتبر جدعان أن جميع المفكرين المسيحيين العرب هم من الذين روَّجوا لهذه الدعوة، إلى جانب الفرنسي هانوتو والإنجليزي كرومر[22].
وما لم يصرح به جدعان في كتابه، أنه لم يكن راضياً على الطريقة التي أرَّخ بها حوراني للمسيحيين، واعتبر متحفظاً أن حوراني تعمَّد إبراز دور المسيحيين، وتسليط الضوء عليهم، والإعلاء من شأنهم، وشكلت هذه الملاحظة عنده، أحد الدوافع الأساسية لأن ينهض بعمل يركز فيه بشكل أساسي على أعمال المفكرين المسلمين حصراً وتحديداً، وبالصورة التي ظهرت في كتابه المعروف.
هذه لعلها أبرز المقاربات والموازنات المنهجية والنقدية، التي تفرق وتفارق بين الدراسات الثلاث لكل من حوراني وشرابي وجدعان.
- 6 -
ملاحظات ونقد
بعد هذه المقاربات والموازنات لتلك الدراسات، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية والنقاشية، ومنها:
أولاً: في دراسة حوراني هناك بقايا أثر للاستشراق، مع أنه -حسب قوله- لا يحب تعبير الاستشراق، ويعتبر نفسه مؤرخاً اجتماعيًّا وفكريًّا، يستخدم المقاييس الأوروبية الغربية في دراساته، ويرى أن معظم الدراسات التاريخية المهمة حول العرب هي ذات مصدر أوروبي وأمريكي.
ومن ملامح أثر الاستشراق في دراسة حوراني، تعقُّب الكشف عن تأثيرات الفكر الأوروبي في ساحة الفكر العربي، وفي المفكرين العرب، وكيف أثر فيهم وفي مجتمعاتهم، وكيف غيَّر من نمط علاقتهم بالدين والثقافة والأخلاق التي يعتقدون ويتمسكون بها.
وهذه الملاحظة طالما كانت موضع عناية واهتمام المستشرقين الأوروبيين، ظهرت وتجلت في الكثير من أعمالهم ودراساتهم، وباتت من الملامح والسمات الكاشفة عنهم، والمعرفة بهم، والمميزة لهم.
وقد وقفت على هذه الملاحظة في دراسة حوراني، وتتبعتها، وحددت مواطنها، ووجدت أنها تكررت مرات عدة، وفي مناسبات مختلفة، ومن هذه المرات، الاقتران الذي أشار إليه حوراني بين مدرسة الشيخ محمد عبده وعنايتها بفكرة التربية، وبين كتاب الفرنسي إدمون ديمولان (1852-1907م)، الموسوم بـ(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الصادر سنة 1897م، وحسب قول حوراني: «كان من المألوف في مدرسة محمد عبده القول بأن الوسيلة الفعالة الوحيدة للنضج القومي، والاستقلال الحقيقي، إنما هي التربية، وقد وجدت هذه الفكرة في أواخر القرن، تأييداً قويًّا لها في كتاب فرنسي أصبح الآن منسيًّا، لكنه أحدث ضجة كبيرة في ذلك الحين هو «مصادر تفوق الأنجلو سكسون» لديمولان»[23].
ومن هذه المرات أيضاً، حديث حوراني عن تأثر لطفي السيد ورفاقه بالتفكير الأوروبي، وحسب قوله: «إن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوروبي، الأول هو التفكير الذي عبر عنه، بطرق مختلفة، كل من كونت ورينان ومل وسبنسر ودركهيام، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس ولا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، واتساع أفق الحرية الفردية، وازدياد التخصص والتشابك، وحلول العلاقات القائمة على التعاقد الحر، والمصلحة الفردية محل العلاقات القائمة على العادات والأوضاع الراهنة، والثاني هو تفكير غوستاف لوبون الذي جذب إليه المفكرين العرب، عرضاً، لثنائه الجمِّ على العرب لمساهمتهم في المدنية»[24].
ووجهة النظر في هذه الملاحظة، أنها تضع الفكر العربي والإسلامي في موضع المتأثر والتابع، وفي موقع الفرع والطرف، وتضع في المقابل الفكر الأوروبي في موضع المؤثر والمتبوع، وفي موقع الأصل والمركز، وهذه واحدة من ركائز السياسات الثقافية للاستشراق الأوروبي.
ثانياً: امتزج في دراسة حوراني التاريخ الثقافي بالتاريخ السياسي، وطغى في بعض الحالات التاريخ السياسي على التاريخ الثقافي، وحصل ما يشبه الإسهاب والاستغراق في بعض التفاصيل السياسية، التي كادت تظهر الكتاب بغلبة الطابع السياسي عليه، وبالشكل الذي يخرجه عن كونه كتاباً في التاريخ الثقافي، أو ما بين الثقافي والسياسي.
ومن الحالات التي ظهرت فيها مثل هذه الملاحظة، وتغلبت، حديث حوراني عن سعد زغلول (1857-1927م)، والإسهاب في التفاصيل السياسية، وهكذا عند الحديث عن القومية العربية، التي توسع في الحديث عنها شارحاً التاريخ السياسي العربي آنذاك، بنوع من الإسهاب والاستغراق، الذي يناسب كتاباً في السياسة والتاريخ السياسي، وليس كتاباً في تاريخ الفكر العربي.
ولعل أقرب تفسير لهذه الملاحظة، يتحدد في أمرين، الأمر الأول له علاقة بالجانب الفني، والأمر الثاني له علاقة بالجانب العلمي. في الجانب الفني يرجع إلى كون أن بعض فصول كتاب حوراني هي في الأصل محاضرات، وقدمت على صورة محاضرات، في جامعات عربية وبريطانية، والإسهاب والاستغراق في التفاصيل، يحصل عادة في المحاضرات الشفهية.
وبشأن الجانب العلمي، يرجع إلى كون أن حوراني كان أستاذاً للتاريخ، وتاريخ الشرق الأوسط الحديث تحديداً، الأمر الذي يجعل من الممكن حصول مثل ذلك الإسهاب والاستغراق في التاريخ السياسي.
ثالثاً: في كتابه (العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين)، اعتبر الدكتور عبدالإله بلقزيز أن حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة)، شدد من جهة في اعتبار الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، وأخرج من جهة أخرى الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وإدخاله في خانة الفكر السلفي.
وهذا ما انتقده بلقزيز، وليس صحيحاً في نظره أن الفكر الليبرالي العربي وحده الذي عرف منسوباً من العقلانية والتنوير، من دون سائر تيارات الفكر العربي الأخرى، ويرى بلقزيز أن في العقود الثلاثة الأخيرة، صدرت دراسات حاولت أن تعيد رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي المعاصر، بالانفتاح المنهجي على سائر نصوصه وتياراته، وتصحيح الرؤية الأيديولوجية الناحية منحى إقصاء الفكر الإصلاحي الإسلامي من رحاب العقلانية، بفرض النظر إليه بوصفه لحظة من لحظاتها، ومن أهم هذه الدراسات عنده كتاب فهمي جدعان (أسس التقدم)[25].
هذا الرأي يستدعي النقاش من جهتين، الجهة الأولى هناك شك في مقولة: إن حوراني اعتبر الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، والأقرب أنه درس تاريخ الفكر العربي بصورة عامة في العصر الليبرالي الأوروبي، ولم يكن بصدد دراسة تاريخ الفكر الليبرالي العربي، أو النظر إلى الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً.
الجهة الثانية: هناك إرسال في القول بأن حوراني أخرج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وأدخله في خانة الفكر السلفي! في مطالعتي لكتاب حوراني لم يتكشف لي هذا الأمر، ولم أجد من الشواهد والدلائل ما تشير إليه، وتدل عليه، كما أن بلقزيز نفسه لم يذكر شواهد ودلائل توثق رأيه، وتبرهن عليه، وهذا ما جعل قوله أقرب إلى الإرسال منه إلى البرهان.
رابعاً: بالنسبة لدراسة شرابي، فقد غلب عليها الطابع الأيديولوجي من جهات عدة، بنيةً ومكوناتٍ، شكلاً ومضموناً، تفسيراً وتحليلاً، لغةً وبياناً، وهذا ما لم يخفه شرابي أو يتكتم عليه، إلى درجة أنه جعل من كلمة أيديولوجيا واحدة من أكثر الكلمات حضوراً وتداولاً في كتابه، وبالشكل الذي أصبح من الممكن النظر إلى هذه الكلمة بوصفها واحدة من الكلمات المفتاحية في الكتاب، خاصة وأنها وردت في عناوين فصلين من فصول الكتاب الثمانية.
شرابي الذي أبرز هذا الطابع الأيديولوجي في كتابه، كان مدركاً وملتفتاً له، واعياً ومتبصراً به، ومتخذاً منه اتجاهاً لكتابه، الذي حاول فيه -حسب قوله- إظهار التطور الأيديولوجي في العالم العربي الحديث.
وبسبب هذا الطابع الأيديولوجي، اعتنى شرابي كثيراً بالتحليلات النظرية والفكرية، ولم يطابقها بمواقف ونماذج عملية وتجريبية، تصدقها وتبرهن عليها. وبسبب هذا الطابع أيضاً، استند شرابي إلى منهج تحليلي يرتكز على الأحكام التقويمية غير المسندة بالحقائق والوقائع.
واللافت في الأمر، أن شرابي حين تحدث عن أيديولوجية الإصلاح الإسلامي في الفصل الثالث من كتابه، منتقداً الإصلاح الإسلامي من هذه الجهة الأيديولوجية، افتتح الفصل بهذا النقد، مصدراً الحكم قبل إثبات الواقعة، بخلاف النهج العلمي الذي يقدم إثبات الواقعة قبل إصدار الحكم.
فقد انتقد شرابي المصلحين المسلمين، من جهة اعتمادهم المتزايد على التفسيرات الأيديولوجية، معتبراً أن السبب الذي دفعهم إلى ذلك لم يكن عجزهم عن رؤية الحقائق، بقدر ما كان عدم توفر فهم منظم لهذه الحقائق، مستنداً إلى مقولة عالم الاجتماع المجري كارل مانهايم (1893-1947م)، الذي يرى أن العجز عن مواجهة الحقائق، يولد أيديولوجية خاصة به.
هذا الموقف من شرابي، الذي أصدر فيه الحكم على الإصلاح الإسلامي ابتداء، ومستبقاً الوقائع والحقائق، يعد بلا ريب موقفاً أيديولوجيًّا، وحتى حديثه عن أيديولوجية الإصلاح الإسلامي، كان حديثاً أيديولوجيًّا، غلبت عليه الأحكام التقويمية، وتفوقت بصورة واضحة.
خامساً: إذا كانت دراسة شرابي غلب عليها الطابع الأيديولوجي، فإن دراسة جدعان غلب عليها الطابع النصوصي، الطابع الذي من شدة ظهوره حرص جدعان التنبيه عليه في مقدمة الكتاب، معتبراً أنه قد استكثر من النصوص، وهذا الأمر بالنسبة إليه كان مقصوداً لذاته، وذلك لكون أن هذه النصوص في اعتقاده ليست جثثاً هامدة أو ميتة، لا تستحق أكثر من أن تروى أو تحكى أو تشرَّح من بعيد، تشريحاً يجردها من كل واقع حي، فهذه النصوص في نظر جدعان ما تزال محتفظة بقدر كبير من الحياة.
لكن هذا الاستكثار في النصوص، حصل فيه إسهاب واستغراق، أظن أنه غير بعض الشيء من صورة الكتاب، وحوله إلى ما يشبه كتاب في النصوص، بالشكل الذي يجيز القول: إنه كتاب في نصوص التقدم والنهضة عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث.
ويتصل بهذه الملاحظة، أن هذه النصوص التي مثلت البنية الأساسية المكونة لهيئة الكتَّاب، بعضها جاء طويلاً استغرق صفحات عدة، كالنصوص التي نقلها عن الماوردي واستغرقت أكثر من سبع صفحات متتالية، وبعض هذه النصوص جاء طويلاً أيضاً، حول مسائل لا حاجة للتطويل فيها، ولا تعد من صلب قضية الكتاب، كمسألة ذم الدنيا التي جرى التوسع فيها، بنقل نصوص طويلة للماوردي والغزالي والطرطوشي، وهكذا في مسائل أخرى.
سادساً: عندما نظر جدعان لكتاب حوراني، وجد أن هذا الأخير ظل يتحدث باستمرار عن المسيحيين، وبنوع من العناية والاهتمام، متقصداً التنويه بهم، والإشارة إليهم، مُلمِّعاً صورتهم، ومُذكِّراً بإسهاماتهم وإنجازاتهم الفكرية والأدبية والسياسية، وهذا ما أثار حفيظة جدعان ونقده وامتعاضه، وشكَّل دافعاً له نحو العمل على إنجاز كتابه (أسس التقدم)، الذي تقصَّد أن يخصصه لأعمال مفكري الإسلام، مبرزاً هذه الأعمال، وحاصراً عمله بعيداً عن أعمال المسيحيين العرب.
لكن المفارقة الغريبة والمحيرة، أن جدعان الذي بذل جهداً واضحاً في البحث عن أعمال المفكرين المسلمين، وجامعاً نصوصهم التي تتصل بقضية الترقي والتقدم والتمدن والنهضة والإصلاح والفلاح والحضارة والعمران وغيرها، وجمع كمًّا كبيراً من هذه النصوص، التي تنسب إلى أشخاص من مشرق العالم العربي ومغربه، لمثقفين ومفكرين وأدباء ورجال دين، حاصراً هذه الأعمال والنصوص في نطاق المسلمين السنة، ومتغافلاً كليًّا عن أعمال ونصوص المسلمين الشيعة.
لا شك في أن هذه مفارقة غريبة ومحيرة، ما كان جدعان بحاجة إلى الاقتراب منها، والاحتكاك بها، والوقوع فيها، وما كان بحاجة إلى مناقشته والاحتجاج معه بشأنها، وهو الذي تحرك في كتابه بدافع إنصاف مفكري الإسلام، الذين لم ينصفهم حوراني كما ينبغي حسب ظنه، والسؤال: لماذا لا يكون الذي يتحرك بدافع الإنصاف منصفاً مع غيره من المسلمين الآخرين، الذين وضعهم في خانة الخفاء والنسيان، كل ذلك حصل من دون الإشارة إلى تفسيرات بينة وواضحة.
وعند البحث عن تفسير ممكن لهذه الملاحظة الغريبة والمحيرة، وقفت على تفسير فاقم هذه الغرابة والحيرة، وهذا التفسير لم يرد في كتاب (أسس التقدم)، لكنه ورد في كتاب آخر لجدعان، هو كتاب (الماضي في الحاضر)، وتحديداً في الموضوع الذي ناقش قضية (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر)، الذي تتبع فيه جدعان نظريات الدولة عند شريحة من الكتَّاب العرب المسلمين المعاصرين، وقبل أن ينهي البحث اعتبر جدعان في الهامش، أن «لا مكان للخوض في هذا البحث، في نظرية الشيعة في الدولة، لأن المفكرين العرب المسلمين الذين يدور عليهم هذا البحث، ينتمون جميعاً إلى العالم العربي الذي هو عالم سني»[26].
وهذا الرأي كرره جدعان في كتابه (تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات) الصادر سنة 2014م، الذي أعاد فيه نشر مقالة (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر)، بتمامها من دون مراجعة أو فحص.
وبقدر ما تألمت لهذا الكلام الذي صدمني، وصدم النخب الفكرية الشيعية برمتها، بقدر ما تأسفت أن يصدر هذا الكلام من رجل فاضل له وزنه العلمي والأكاديمي كالدكتور جدعان، ولا أدري إن كان جدعان يقدر مدى قسوة كلامه أم لا! فهذا الكلام ليس قاسياً فحسب، وإنما هو كلام ظالم وظالم بشدة، بعيد كل البعد عن موازين الحق والعدالة والإنصاف.
ولا أريد القول: إن جدعان ليست له دراية ومعرفة بالعالم العربي وتركيبته السكانية، ولن يقبل مني ومن غيري مثل هذا الكلام بحقه، لكن من يصرح بهذا الكلام لا شك أنه تنقصه الدراية والمعرفة التامة بالعالم العربي، فأين هذه المعرفة بمجتمعات مثل العراق ولبنان وسوريا والبحرين والكويت والسعودية والإمارات وسلطنة عمان وغيرها.
وأتمنى على الدكتور جدعان بصدق وحرص كبيرين، أن يعيد النظر في هذا الرأي ويتخلى عنه، ويحذفه من كتاباته، لأنه كلام خاطئ بالمطلق، ولأنه كلام جارح ويجرح الكرامة.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن كتاب جدعان جاء ناقصاً في تركيبته البنيوية، لأنه انحصر بفريق واحد من المسلمين المعاصرين، وتغافل وأهمل فريقاً آخر من المسلمين المعاصرين، فريق لا يكتمل أي عمل إلا بهم، بإشراكهم لا بحذفهم أو تغافلهم.
علماً أن الطبعة الرابعة من الكتاب الصادرة سنة 2010م، تحدث فيها جدعان عن السيد محمد باقر الصدر (1353-1400هـ/1935-1980م) في نهاية الكتاب، وهذا لا يغير من جوهر هذه الملاحظة، لأنه تحدث عن السيد الصدر فقط دون غيره، ولم يوضح لماذا أضاف السيد الصدر، ولماذا السيد الصدر وحده دون غيره.
سابعاً: اعتبر الدكتور رضوان السيد أن دراسة جدعان تتفوق على دراستي حوراني وشرابي عمقاً وتفصيلاً، لكنه أخذ عليها أنها جاءت من دون أطروحة حاكمة[27].
وبحسب هذا الرأي، فإن الدكتور السيد يرى أن دراسة جدعان هي دراسة عميقة ومفصلة، لكنها تفتقد إلى أطروحة تقف وراءها، وتنتصر لها، وتكون حاكمة عليها، وتستهدف الدفاع عنها، فهي مجرد دراسة فكرية حالها كحال غيرها من الدراسات الفكرية العميقة والمفصلة في المجال العربي المعاصر.
وبخلاف هذا الرأي تماماً، أرى أن فكرة الأطروحة في دراسة جدعان هي أكثر وضوحاً وتجلياً من دراستي حوراني وشرابي، وأن إدراك جدعان ووعيه بفكرة الأطروحة هو الذي قاده وحفَّزه لإنجاز دراسته بهذا المستوى من الجهد، وبهذا الاتساع الكمي، وبهذا الامتداد الزمني.
ومن دلائل الوعي بفكرة الأطروحة عند جدعان، أن دراسته جاءت بدافع الحس النقدي لتلك الدراسات السابقة، التي غلبت المنحى الليبرالي والعلماني في دراسة عصر النهضة، فقدمت أشخاصاً وأبرزتهم، وأهملت أشخاصاً وغيبتهم، وأعلت أفكاراً وميزتها، بدوافع فكرية وأيديولوجية، وفي مقدمة هذه الدراسات التي كانت في إدراك جدعان دراسة حوراني.
ومن دلائل الوعي أيضاً بفكرة الأطروحة عند جدعان، حين أوضح أن منطلقه في بحث موضوع دراسته، اعتقاده بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلا في دوائر محدودة جدًّا، وأن الطرح الصحيح في نظره لهذا الفكر، يكمن في اعتبار أن الهواجس الحديثة قد ظلت مطلة باستمرار في القطاع الكبير من تجلياته على وجوه الفكر العربي الكلاسيكية المختلفة، أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول، وطرحوا مفهوم النهضة العربية الحديثة على أسس مقطوعة الصلة بالأصول، فإنه لا يرى الأمور من هذه الزاوية، ولا يتجه نحوها، والاعتماد عليها كأساس لمنطلقات عربية شاملة[28].
وليس هناك أوضح من هذا الرأي، ليس في الكشف عن الوعي بفكرة الأطروحة عند جدعان، وإنما في تمثل هذه الأطروحة وتحققها.
ومن دلائل الوعي كذلك بفكرة الأطروحة عند جدعان، أنه أراد من دراسته أن تكون مختلفة ومغايرة تماماً، ومن كل الجهات عن دراسات الآخرين المحسوبة على المنحى الليبرالي والعلماني.
فمن جهة التسمية تقصد جدعان استعمال كلمة التقدم بدل كلمة النهضة، ومن جهة المرحلة حبذ الكلام على أزمنة حديثة عربية، دون الكلام عن عصر حديث، ومن جهة الزمن اعتبر أن الأزمنة الحديثة عربيًّا تبدأ مع ابن خلدون لا مع مدافع نابليون، ومن جهة الأشخاص تقصَّد الحديث عن مفكري الإسلام الذين قدموا إسهاماً قويًّا مستلهماً من الإسلام بوصفه دين حضارة يدعو للتقدم، دون الحديث عن غيرهم من أصحاب التيارات الليبرالية أو العلمانية أو التغريبية التي لاقت صدى لا ينكر لدى بعض المفكرين العرب المحدثين.
لهذه الدلائل وغيرها جاز القول: إن وعي جدعان بفكرة الأطروحة، يفوق غيره من الدارسين السابقين عليه.
[1] رضوان السيد، الصراع على الإسلام.. الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م، ص124.
[2] عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م، ص81.
[3] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، بيروت: دار النهار، 1991م، ص14.
[4] سعيد بن سعيد العلوي، العدالة أولاً.. من وعي التغيير إلى تغيير الوعي، الرباط: كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس، 2014م، ص98.
[5] حوار مع ألبرت حوراني، أجرى الحوار: مصطفى الزين، مجلة المجلة، لندن، العدد 64، 1981م، ص67.
دراسة رئيف خوري التي قصدها حوراني هي كتاب (الفكر العربي الحديث.. أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي)، الصادر في بيروت سنة 1943م.
[6] مجموعة كتاب، عصر النهضة.. مقدمات ليبرالية للحداثة، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص282.
[7] حوار مع ألبرت حوراني، مصدر سابق، ص67.
[8] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة: كريم عزقول، بيروت: دار نوفل، 1997م، ص3.
[9] حوار مع ألبرت حوراني، ص66.
[10] حوار مع ألبرت حوراني، ص67.
[11] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، مصدر سابق، ص11.
[12] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص14.
[13] حوار مع ألبرت حوراني، ص66.
[14] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ص13.
[15] هشام شرابي، المصدر نفسه، 15.
[16] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، مصدر سابق، ص16.
[17] فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص17.
[18] فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص185.
[19] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مصدر سابق، ص221.
[20] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ص22.
[21] فهمي جدعان، أسس التقدم...، ص185.
[22] فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص330.
[23] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص189.
[24] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص181.
[25] عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة، مصدر سابق، ص81.
[26] فهمي جدعان، الماضي في الحاضر.. دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1997م، ص182.
[27] رضوان السيد، الصراع على الإسلام، مصدر سابق، ص124.
[28] فهمي جدعان، أسس التقدم، ص14.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.