تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الجسد كتعبير أصيل عن علاقتنا بالعالم ..

يحياوي عبدالقادر

الجسد كتعبير أصيل عن علاقتنا بالعالم..

من خلال المعنى والدلالة عند موريس ميرلوبونتي

يحياوي عبدالقادر*

* جامعة عبدالحميد بن باديس، قسم الفلسفة،كلية العلوم الاجتماعية، مستغانم، الجزائر. البريد الإلكتروني: yah_aek@yahoo.fr

 

 

ﷺ المولج

عندما تكلم موريس ميرلوبونتي- (Mourice Merleau-ponty) (1908–1961م) وهو فيلسوف فرنسي تأثر بفينومينولوجيا هوسرل، وبالنظرية الجشتالتية التي وجهت اهتمامه نحو البحث في دور المحسوس عن الجسد في «ظواهرية الإدراك»، كان هدفه الوحيد إيجاد مكان طبيعي للإنسان في الحياة، قبل اكتشاف أن العودة إلى الفعل المعرفي أصبح مستحيلاً، وفي الوقت نفسه الهروب إلى المعرفة التكوينية، منذ «بناء السلوك» و«ظواهرية الإدراك».

فالحياة الطبيعية للموضوع كما يراها ميرلوبونتي، هي قوة قصدية وتجريد للأشياء، ومن خلاله الوجود الجسدي، حيث الجسد الأول يحتل موقع استثنائي وغامض، ومن جهة يختلف عن الأشياء المجردة في الحياة، ومن جهة أخرى لا يمكن اعتباره جوهر روحاني فقط. وما هو أكيد أن دراسة المعنى والدلالة لم تكن وليدة فلسفة ميرلوبونتي، ولكن أردنا أن نوضح موقفه من المعنى والدلالة حتى لا نتوسع كثيراً في الموضوع، ونربطه مباشرة بالجسد.

فكيف يتجلي المعنى الجسدي في الواقع؟ وما علاقته باللغة والفكر؟ وكيف تتجلى الدلالة في وسط كل هذه المفاهيم؟

ﷺ المعنى واللا معنى في التعابير الجسدية

يتحدث ميرلوبونتي عن عدم خلوص الأفكار ليرى فيها «فائضاً للمدلول على الدال»[1]، وعن «الظاهرة المركزية للغة التي هي الفعل المشترك للدال والمدلول»[2]، وفي كلتا الحالتين لا يعادل الفكر المُفكَر، والمفكِر، ولا تعادل الدلالات القائمة الدلالات المعبر عنها، ولا تعادل الدلائل التي قال بها اللسانيون الدلائل في سيولة ظاهرة اللغة وفي سيولة المعنى وهو يتسير ويعتكس[3].

وبالتالي لا تعادل الدلالة المعنى، إذ لكلمة معنى بعد أعمق ودلالة أنطولوجية، بينما تحتل الدلالة بعض الالتباس فهي تتماشى مع المعنى، وتعبر في كثير من الأحيان عن الجانب العلمي للأشياء، ولكن من المؤكد أن المعنى يفترض دائماً دلالة يسعى ألا يتجاوزها، فإذا كان للمعنى هذه الأهمية الأنطولوجية وهذا الانغماس في اليومي وهذه القدرة على التماهي فإن تماهيه بالضرورة هو التجربة.

ويلاحظ القارئ لأعمال ميرلوبونتي أن التمييز قد لا يقتصر بين المعنى والدلالة وإنما بين مجالي التصور ولوغوس العالم الحسي، فللدلالة علاقة موضوعية والمعنى هو إدراك للموضوع، لكن إذا كانت الدلالة تحدد بعلاقتها المرجعية فذلك لا يؤدي إلى أن يكون المعنى لغويًّا وحسب، أو متوالداً داخل النسيج الخطابي[4]، فالحركة الجسدية هي معنى آلي أو هي تجربة معنى يتشكل فيها المحسوس والحاس في إيقاع مشترك، فانعطاء المعنى في هذه التلقائية الأولية السابقة على الدلالة المتشكلة لغويًّا كشبكة من الانفصالات كأنما هو إشارة إلى أن المعنى حاضر من حيث هو غياب الدلالة ومع ذلك فإن الدلالة تستحوذ عليه.

وحتى إذا كان ميرلوبونتي لا يميز بوضوح بين هذين اللفظين، فإنه يبدو لو أن مفهوم المعنى يجب أن يحتفظ به للحركات وللتعابير الخرساء للجسد التي تعرض اتجاهاتها، بينما يجب الاحتفاظ بمفهوم الدلالة للغة، وبهذا النظام التعبيري الذي يحل محل كل النظم الأخرى تقريباً في العالم الإنساني، والذي يعبر على طريقته مجال الحواس. هذه القيمة التعبيرية التي يتعلق بها المعنى كأنها تخترق الدلالات، فكأن المعنى أشبه ما يكون بالوجود مقولة من بين المقولات[5]، أي إن المعنى سيد لا يجب الخروج عنه إلى دلالات عشوائية بل ويتوجب علينا أن نحارب من يخرج عن المعنى إلى دلالات فوضوية من كل النواحي النظرية والممارساتية.

هذا في الحقيقة عكس ما يدعو إليه ميرلوبونتي التي تؤكد انفتاح المعنى وتميزه وعدم اكتماله وتوزعه في كل الاتجاهات، بل والتباسه أيضاً. وعليه فإن التمييز الذي يجريه ميرلوبونتي بين المعنى والدلالة ليس تميزاً استبعاديًّا حتى وإن تعلق المعنى بالجانب الإبداعي وتعلقت الدلالات بما استتب من معاني، أي إن هناك لغتين: لغة فات أوانها وتم اكتسابها، والتي تختفي أمام المعنى الذي أصبحت حاملته، واللغة التي تحدث لحظة التعبير وانصياعاً من دلائل المعاني، إنها اللغة المُتكلَّمة واللغة المُتكلِّمة[6].

فالمعنى يتأكد في هذه الجهة حيث «الكلام الفاعل هو الجهة المظلمة التي يأتي منها النور المتكوِّن، كما أن الانعكاس الأصم للجسد على ذاته هو ما نسميه النور الطبيعي»[7]. هذا التمييز بين الدلالات القائمة والمعاني الصائرة أو بين الفكر الجاهز والفكر الحادث، أو بين الكلمة الثانية والكلمة الأصيلة، هو مكتسب من خلاله تصبح الأفعال التمييزية أصيلة، وممكنة هذا الانفتاح بين المعاني والدلالات والذي يُعاد إبداعه دوماً.

من جهة أخرى إذا سلمنا أن الدلالة معناها الذي يتغير وإذا كان للمعنى الدلالة التي تجسده، حتى وإن فاض عليها فإن ما يحتاجه التعاطي مع الدلالة والمعنى هو إذن تعاطٍ لا يليق حتى تكون حياة المعنى في الانزياح، أي هي التحاكي بين هذا التلازم دون مفهوم، وهذه القصدية التي للمعنى قبل تمفصله وتعيينه في دلالات متعددة، وبين هذه الدلالات المحددة، إدراك المعنى هو رؤية معكوسة وهو إدراك للحركة المزدوجة بين القصد اللا محدد وتموقعه في دلالات محددة[8].

وهذا هو الالتباس أو البين بين أو العلاقة غير المشروعة، تلك فكرة جديدة وكل دلالة جديدة هي تثبيت مؤقت للمعنى الذي ينتج عن إعادة انتظام في القصد الشامل للمعنى الذي كأن الأفكار تجسيداته أو بلورته، وليست الدلالات شذرات فكرية منغلقة على مضمونها الإيجابي، والمعنى يتقرر في الفاصل بين الدلالات، فالعلاقة بين المعنى والدلالة إذن ليست علاقة استعبادية أو انتقائية بل هي علاقة تضمنية يعود فيها ميرلوبونتي بالمعنى والدلالة إلى وحدة الكلام الذي تتألق شعلة قدرته الشعرية في المعنى الذي ينتجه كل كلام جديد، وترتد إلى لا شيء في الدلالات التي كانت تحققت من قبل[9].

من خلال فهم علاقة المعنى والدلالة عند ميرلوبونتي تجلياتها في فلسفته بقي أن نضيف ذلك على بقية دراستنا هذه من خلال علاقة المعنى والدلالة في الأشكال التعبيرية للجسد وعلاقته بالعالم.

ﷺ الجسد كتعبير أصيل عن علاقته بالعالم

ميرلوبونتي عندما يتصور الجسد فإنه يحدث حقلاً متميزاً يمكن فيه لكل الإدراكات أن تحدث، بالمعنى العملي لميرلوبونتي الإدراكات تتجسد مرة متعالية ترانسندنتالية ومرة تجريبية (إمبريقية)، أي عندما تدرك شيء ما هي نفس الحالة التي يمكن أن تكون خبرة بالمقابل.

الجسد بما له من سلوكيات معينة، والأشياء الخارجية التي تستعمل جزء مهم منها كمركز للعالم، وكنتيجة لذلك نجد أنه يمكن أن نكرر هذا العالم أو نفهمه ونجد له معنى.

في فينومينولوجيا الإدراك عندما يتصور الجسد شيء ما، لا تحدث معه تجربة مباشرة أمامه، إنه يجمع المعاني، المعاني التي تجعل الشيء تابع لمجموعة الرموز الخالصة للجسد، عندما نتصور شيء ما إننا لا نفكر فيه مباشرة ولا نقصد الشيء المتصور، نحن لا نمثل المفكر، ولكن يمكن القول: إننا ندور حول الشيء، نحن وفي نفس الوقت نحن مختلطين مع جسدنا.

وفي هذا المعنى يظهر جليًّا بأن الجسد بما هو بنية من الرموز، هذه البنية الرمزية التي تسمح باجتماع عدة مختلفات، في هذا المعنى بالتحديد التجربة الحساسة للشيء سوف تكون مختلفة من حيث استعمالات المعنى التي تدركه.

كل معنى لديه حقل مميز وخالص، يمكن أن نستعمله بطريقة معينة لمعرفة الأشياء، مع اختلاف التجارب الحساسة، وبمعاني معينة، تسمح بظهور المعاني والتحاور فيما بينها، ودلالة المعنى بالنسبة للمعاني الأخرى. وبالتالي الجسد يتقابل في مناطق حساسة مع الخطاب حسب كل معنى ويصبح متورطاً فيه، جسدي يدرك شيء معنى، إذن هو قادر على إدراك وإعطاء معنى لهذا الشيء أكثر تعبيراً من الجسد، أي إن معنى شيء معين يسكن في هذا الشيء كما تسكن الروح في الجسد.

إذن نحن نعرف أن التحليلات المتبعثرة للغة، وقد قال ميرلوبونتي: إن مشكل اللغة بشكل واضح هو مشكل خاص يخص الجميع وخاصة الفلسفة. ميرلوبونتي يعتبر اللغة كحجرة عثرة بالنسبة للفينومينولوجيا وهذا ليس سبب وجيه، إذا كان الوضع الفينومينولوجي يستوجب نزع الموقف الطبيعي وكل شيء موجود في ذاته، هل من أجل التفكير في الإجراءات القصدية التي تقصد الشيء، خارج هذا الإجراء للرد الفينومينولوجي، التي تعادل إيجابية وجود العالم، في الأخير هي لا تنكر وجود العالم، ولكن تسأل عن معنى وجود هذا العالم.

ولذلك سيكون من مصلحة ميرلوبونتي إذا فهم إذا كانت اللغة أصلية ويرد ذلك في العالم واللامفكر فيه الذي يدركه جسدي، ويقول: إذا كانت اللغة هو المكان الأصيل الذي يتبلور فيه المعنى في داخل الوعي.

وبهذا هل ما تعطيه لنا الرؤية هو نفس ما يعطيه لنا الجسد؟ هو سؤال طرح من طرف ميرلوبونتي عن اللغة، وينظر إذا كانت اللغة تشارك الإدراك، إذا كان نعم فكيف تولد هذه المشاركة؟

ودراستنا هذه تعتمد أساساً على الفصل السادس من كتاب «ظواهرية الإدراك» «الجسد كتعبير والكلام»، الذي ينتهي إلى أن «الجسد» في فينومينولوجيا الإدراك، هو الذي يجمع الظروف التي تسمح بتدفق الكلام أو الخطاب.

الكلام الذي يظهر في هذا الفصل السادس، يحقق اللغة في خصوصيتها، ولكنه لا يتم إلا عندما نتابع الأفعال التعبيرية التي يجسدها الجسد، ويعكس تتويجاً لها.

بقي أن نفهم كيف لتعبيرية الجسد أن تكون قادرة على تمثل التعبير اللفظي، أي كيف يترجم الجسد الأشكال التعبيرية هذه والصمت الذي كنا نتحدث عنه إلى ألفاظ ولغة في الواقع، إن الكلمة تعتمد في المقام الأول على علامات وقواعد نحوية خاصة بكل لغة، فالكلام يأخذ هذه المعاني المجسدة للجسد نحو اللغة، الذي يقوم بدوره من وراء كل كلمة إلى التكامل مع قواعد النحو الخاصة باللغة، وهو توحيد للمعنى والدلالة، المعنى الذي يعطيه الجسد والدلالة التي تعطيها اللغة.

هل يمكن للمعنى اللغوي أن ينبعث من الفعل الصامت المحفوظ بين الجسد والإحساس؟

يأتي هنا ميرلوبونتي إلى ظاهرة الكلام الأول اللغة تتجاوزنا، ليس فقط لأن استخدام الكلام يعني دائماً مجموعة كبيرة من الأفكار التي ليست دائماً حاضرة، وإلى كل كلمة تعبر بالضرورة عن الأفكار الموجودة.

ولكن لاعتبارات أخرى أعمق يجب أن نعلم أن هذا الأفكار في حاضرها لم تكن أبداً موجودة لأنها ليست أفكاراً خالصة، وهنا نقول: إن الأفكار بالضرورة مرتبطة مع الفعل التعبيري، ميرلوبونتي[10].

أي إن اللغة عاجزة في الكثير من الأحيان عن التعبير عن كل الأفكار الموجودة بداخلنا، وأنه يمكن في حقيقة الأمر أن الأفكار لم تكن بالضرورة موجودة، بل دائماً تكون مرتبطة بما يقوم بهذا جسدنا من أفعال، فهذا الكلام الذي يأتي من هذا الفعل هو الكلام الحقيقي المعبر، أي إنه هناك أفكاراً نحسها ولكن المعنى اللغوي الحقيقي يتأتى من الفعل الجسدي فهو المعبر الحقيقي.

ﷺ العمليات التحليلية للغة

في العمليات التحليلية للغة أتى ميرلوبونتي بتكملة أساسية لهذا الموقف، نقطته الأساسية هي إصراره على أن يؤكد أن الكلام هو شكل من السلوك، وبالتالي فالمعنى اللغوي هو مجرد مثال إضافي على القصدية الجسدية، يكشف عنوان الفصل الذي يعرض فيه موقفه، قضيته الرئيسية «الجسد كتعبير وكلام»، الطريقة التي يفسر بها ميرلوبونتي المعنى اللغوي بعيدة جدًّا، عن أن تكون مختزلة، على عكس قضيته هي أن الكلام هو نوع من النشاط الجسدي، «عمل»[11] يسمح للمتكلم بخلق معانٍ جديدة لمستمعين يفهمون المقاصد المعبر عنها بالعمل، وبالتالي كما يضيف ميرلوبونتي، لا يترجم الكلام فكرة سابقة بنيتها التصورية مستقلة عن الكلام، على العكس «يتممها» الكلام وبشهادته الخاصة، هناك شيء ما شبه عجائبي –طاقة لإعطاء تعبير عن امتيازات جديدة بشكل محتوى بامتيازات أخرى- وما نحصل عليه هو امتداد أساسي للقصدية الجسدية الأبسط التي هي قصديتنا: «يجب بالتالي أن نقر بهذه القدرة المنفتحة وغير المحدودة الدلالة كحدث أخير، هذه القدرة يسمو بواسطتها الإنسان نحو سلوك جديد أو نحو العبر أو نحو فكرة الخاص من خلال جسده وكلامه»[12].

في كتابه «ظواهرية الإدراك» يتكلم ميرلوبونتي بشكل قليل نسبيًّا عن هذا العمل الأخير، إلا أنه يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة له، مادام يفيد كأساس واضح لتحليله لعلاقتنا «تجاه الغير» و «تجاه فكرنا الخاص».

النقطة الأولى واضحة، إنني أسكن بصورة رئيسية بواسطة اللغة «بين العوالم حيث أخلي المكان للغير بقدر ما أخليه لنفسي»[13]، أما النقطة الثانية فهي أهم فلسفيًّا لأنه لدينا انطباع في الإحساس بالذات هناك نوع من الحضور المطلق لأنفسنا وهو حوار أساسي مقام لا يتعلق بجسدانيتنا ولا بأي وضع آخر.

وهذا التراث هو الذي أعلن ميرلوبونتي عن عجزه، بالتشديد على الإحساس بالذات الذي هو بؤرة أساسية وطريق لرغبتنا بالكلام مع أنفسنا «وهكذا فإن امتلاك الذات، التوافق مع الذات ليس تعريفاً للفكر: إنه على العكس نتيجة التعبير، وهو دوماً فكرة وهمية، وفي النطاق الذي فيه وضوح الخبرة، يعتمد على العملية المبهمة للغاية التي خلدت بواسطتها فينا فترة حياة»[14]، يظهر إذاً أن الإحساس بالذات هو مظهر لوجودنا الجسدي.

ﷺ من جسد الوعي إلى الوعي بالجسد

اهتم ميرلوبونتي منذ مؤلفاته الأولى بمسألة علاقة النفس بالجسد، وهي ثنائية عرفت تطورات مختلفة عبر مراحل الفكر الفلسفي، حيث حاول مستفيداً من آراء بعض الفلاسفة، وكذلك من التطورات العلمية المعاصرة، أن يقدم حلًّا نهائيًّا لهذه المسألة حيث يقول: «إن مشكلة علاقة النفس كتدفق أحداث فردية... وعن الوعي كنسيج من المعنى»[15]، حيث لا يمكن الفصل بين النفس والجسد بإعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر وإنما النظر إليهما في اجتماعهما وتكاملهما وهذا ما لم ينتبه إليه ديكارت.

ليس هناك فيلسوف أبرز بشكل واضح ثنائية النفس والجسد مثل ديكارت، ولكن ما يميز هذه الثنائية عنده هو أنها منهجية لأنها ترتبط بقواعد المنهج، فقد نظر ديكارت إلى الإحساس وعلى وجه الخصوص إلى الجسد، نظرة سلبية لأنه حسب رأيه يؤسس لمعرفة خاطئة ولا تتميز بالوضوح، حيث يقول: «إن المعرفة الكامنة في فكرنا هي دائماً سابقة على المعرفة التي تأتينا من الجسد»[16]، وذلك لأن الكوجيتو الديكارتي يقر بحقيقة واحدة ألا وهي الأنا الفكر، وهي الفكرة التي حددت مسار الفلسفة الحديثة فيما بعد، ولذلك فإن من بين أهم التحديات التي واجهتها الفينومينولوجيا الوجودية عند ميرلوبونتي، هي الخروج من وعي الوعي إلى وعي العالم، والعمل على إعادة التواصل معه واليقين به، فكان أن وجد ميرلوبونتي في فكرة الجسد أو الوعي المتجسد حلًّا مناسباً لجملة المشكلات المطروحة.

يقول ميرلوبونتي متحدثا عن الجسد: «إنه يرى نفسه رائياً ويلمس نفسه لامساً، فهو مرئي ومحسوس بالنسبة إلى نفسه، إنه ذات لا عن طريق الشفافية مثل الفكر، وإنما بواسطة الاختلاط وملازمة ما يرى لمن يُرى، ومن يلمس لمن يُلمس، ومن يحس لمن يُحس»[17].

وبالتالي ليس هناك وعي خالص، وإنما وعي متجسد لا تكون فيه الأولية للنفس أو للجسد، لأن فكرة الوعي المتجسد هي مجموعهما هذه الفكرة نجدها عند أغلب الفلاسفة المعاصرين، والمحدثين قبلهم، حيث استعاد الجسد مكانته في فلسفة نيتشه، وهي المكانة التي كانت مفقودة في عهد الكنيسة في العصور الوسطى، التي عملت على تجاوز الجسد بواسطة الروح، يقول نيتشه: «إن الجسد يتبع الكمال ولا شيء غيره، أما النفس فلا تمثل أي شيء بالنسبة إلى الجسد»[18].

إن الإنسان عند نيتشه ليس روحاً خالصة، وإنما هو جمع بين الجسد والروح، وهي الفكرة التي نجدها فيما بعد عند ميرلوبونتي، حيث يبين أنه خلافاً للتصور الكلاسيكي فإن: «علاقة النفس بالجسد لم تعد توازياً... بل يجب أن ندرك أن بينهما ارتباطاً كارتباط المحدب بالمقعر»[19].

وهذا ما يزيل التعارض بين النفس والجسد، ويحاول ميرلوبونتي أن يقدم حلًّا نهائيًّا لهذه المسألة بقوله: «إن النفس مغروزة في الجسد كما الوتد في الأرض»[20]، وبالتالي يقف الوعي المتجسد الذي هو تعبير عن وحدة النفس والجسد من جهة، وعن علاقة الوعي بالعالم من جهة أخرى، ضد أي تفسير مادي أو ميتافيزيقي لعلاقة النفس بالجسد والأهم من كل هذا، أن هذه الوحدة بين النفس والجسد والأهم من كل هذا، أن هذه الوحدة بين النفس والجسد، أصبح لها معنى وجودي، أو هي وجود له معنى؛ لأنهما يترجمان بعضهما البعض، دون أن يقصي أحدهما الطرف الآخر.

ﷺ الجسد وفعل التعبير

يقوم تصور فكرة الجسد لدى ميرلوبونتي، على جانبين أساسيين، أحدهما موضوعي والآخر ذاتي، فهناك «جسد موضوعي»، هو الجسد البيولوجي الذي يكون موضوعاً للعلم، في حين أن هناك جسداً «ذاتيًّا خاصًّا»، هو بالضبط موضوع تأملات الفيلسوف، لأنه يرتبط بالواقع المعيش.

ولهذا فإن سلوك ونشاط هذا الجسد يقوم على المعنى، الذي يرتبط بكل ما يعبر عنه الجسد من مواقف وحركات وإشارات، وقد حاول ميرلوبونتي دراسة الجسد من هذه الناحية في فصل من أهم فصول كتابه «فينومنولوجيا الإدراك الحسي»، وذلك تحت عنوان «الجسد باعتباره تعبيراً وكلاماً»، فكيف يكون للجسد فعلاً القدرة على التعبير؟

لقد أكد ميرلوبونتي أن الجسد الخاص يملك وحدة تختلف عن وحدة الجسد كموضوع للعلم؛ لأنه يملك بداخله، وحتى داخل وظيفته الجنسية، قصدية وقدرة على أداء المعنى، وكما يكون الجسد فكرة مركزية في عملية الإدراك، من خلال وظائف الرؤية والحركة، ومن خلال حضوره مع الآخرين في العالم، فإن لديه كذلك القدرة على التعبير، بل إن الجسد هو قدرة التعبير الطبيعية، لأنه يحقق المعنى في الإيماءة الجسدية والإشارة اللغوية الموجهة إلى الآخرين، إن الجسد ومن خلال الخبرة التعبيرية، هو هذا الشيء الغريب الذي يستخدم أجزاءه الخاصة كرموز عامة، والتي من خلالها يتعامل مع هذا العالم[21].

إن إحدى المسائل الأساسية –التي ينبغي أن نؤكد عليها- هي أن عملية التكلم تخضع لتفسيرات مختلفة، فالنظرية الآلية تجعلها تخضع لآلية المثير والاستجابة مع إهمالها لدور الفكر، وبالمقابل فإن الاتجاه العقلي يعطي الأولوية للفكر والأفكار على حساب الكلمات، فكيف سيحاول ميرلوبونتي من خلال فكرة الجسد أن يتجاوز هذا التعارض القائم؟

تؤكد النظرية الآلية أن الإنسان يمكن أن يتكلم مثلما يمكن للمصباح أن يضيء[22]. فامتلاك اللغة يكون بوجود بسيط للكلمات، وهذه الكلمات معطاة مع حالات الوعي وترتبط، كذلك، بحالة الجسد الواعي وحركته. لكن أحياناً لا يكون للكلمة أو اللفظ أية فعالية في أداء المعنى، فهل يعني هذا أن المعنى يقوم على الفكر؟

إذا عدنا إلى مواقف برغسون، من هذه المسألة فإننا نجده يرى أن الفكر أوسع من اللغة، حتى إنه في بعض الحالات نجد أن أفكاراً تموت دون أن نعبر عنها، ويمكن لكل واحد منا أن يتأكد من هذه الفكرة بالعودة إلى حياته النفسية الداخلية.

وإن خطأ هذه النظرية في رأي ميرلوبونتي، هو أنها لم تدرك أن الفكر يوجد في الكلام، ولهذا فإن الطفل يستطيع أن يتعرف على نفسه، بأنه عضو في مجتمع لغوي، قبل أن يعرف بأنه فكر ينتمي إلى طبيعة ما، وذلك بشرط أن تجهل الذات هنا نفسها كفكر، وتعرف نفسها ككلام، لأن اللغة معبرة عن الأشياء والمعاني، وبالتالي لا يتولى الكلام ترجمة فكر تشكل لدى المتحدث، وإنما يقوم بإكماله[23].

من هنا يقول ميرلوبونتي: إن المعنى المتضمن في إيماءة الجسد وحركته، لأن خاصية الغموض التي تميز الجسد تظهر من خلال الكلام والتعبير مادام هو في حد ذاته معنى، فهو الذي يظهر وهو الذي يتكلم[24]. أي إن الجسد هو الذي يربط اللغة بالإدراك في إطار الخبرة الإدراكية والواقع المعيش.

ما نستنتجه هو أن القدرة التي يمتلكها الجسد على أداء المعنى والتعبير، هي ما يحدد مكانته في العالم، ويميزه من بين الأشياء، لأن الوعي بالجسد الخاص يفترض وجود المعنى، ويرتبط هذا المعنى بالقدرة على التعبير، ويكون الجسد حاضراً في كل مناطق المعنى، باعتباره مصدراً للمعنى

لكن هذا لا يعني أن قدرته على تقديم المعنى تتوقف على مواضيع معينة، وإنما تتعلق بمواضيع طبيعية ومواضيع ثقافية مثل الكلمات، فإذا رأى شاب فتاة وأعجب وافتتن بجمالها، فإنه قد يقول مثلاً بصفة مباشرة: «يا لها من فتاة رائعة»، أو يحاول أن يعبر لها عن شعوره من خلال حركات وإشارات معينة، وفي هذه الحالة نقول: إن جسده تحرك وأصدر تلك الكلمات أو تلك الإشارات، لأن ما شعر به ذلك الشاب تجمع في كامل أعضاء جسده ليعبر عنها الجسد في النهاية[25].

إن المعنى في هذه الحالة، لا هو راجع لفكر مسبق ولا هو ناتج عن الكلمات، وإنما هو الكلمة في حد ذاتها كفكرة، أي إنه مباطن فيها، ومتضمن لها كما تتضمن الإيماءة الجسدية معناها. وقد رأى ميشال فوكو في هذا المجال، وفي دراسته لتطور النظرة الطبية في الغرب، أنه في مرحلة الطب العيادي، يرتبط المرض باللغة، فيكون نوع المرض هو الدال، وتكون أعراضه على الجسد هي المدلول، أي إن الجسد هو اللغة التي تعبر عن نوع المرض.

مما سبق، يمكننا القول: إن الجسد بصفته وعينا الخاص، وكذا أساس انخراطنا ووجودنا في العالم، يكون مصدر ما يوجد في العالم من معنى، بل إن الجسد في حد ذاته هو المعنى، وإذا كان فيلسوف الوجودية سارتر يرى بأننا محكوم علينا بالحرية، بحكم أن الإنسان مشروع دائم التجديد، فإن ميرلوبونتي يقول بصريح العبارة: «نحن محكوم علينا بالمعنى»، فلا نحن مقذوف بنا في هذا الوجود، ولا نحن في قلق وخوف دائم ومستمر من المصير المجهول، وإنما نحن ذوات نحيا مع ذوات أخرى، في إطار وجود واحد، هو الوجود الواعي في العالم.

هذا، وإذا كان هيدغر يرى أننا من خلال الخبرة الداخلية، نستطيع التعبير لتكون هذه الخبرة أساس قراءة وفهم الوجود، وأن اللغة هي وسيلة لتأويل الوجود انطلاقاً من الذات. فإن ميرلوبونتي، بتأكيده على الخاصية التعبيرية للجسد، وأداء المعنى من خلال مختلف وظائفه، يؤكد على دور الذات، في السعي الدائم للوصول إلى المعنى ومحاولة الكشف عنه، ليس معنى الوجود وإنما المعنى الذي يبدعه الجسد من خلال حركته ونظرته[26].

ويظهر لميرلوبونتي أن فعل المعنى قائم بين حركة الجسد والوجود، لذلك فهو يسعى لإعادة تأسيس علاقة الذات، كذات واعية، بالموضوع كوجود واقعي، من خلال فكرة الجسد وما له من قدرة على التعبير. وقد استطاع فعلاً أن يعيد تلك الوحدة المفقودة بين الذات والموضوع منذ ديكارت، كما تجاوز ثنائية المذهبين التجريبي والعقلي والتي لم يستطع هوسرل تجاوزها، لأن فينومنولوجيته بقيت محصورة في الذات المتعالية أو الأنا أفكر.

ﷺ خاتمة

كتب ميرلوبونتي وخاصة ظواهرية الإدراك تصف لنا استحالة إعادة العالم المحسوس مع العالم المثالي، ولكن لا يوجد في حقيقة الأمر توضيح ميلاد العالم المثالي، وسيرورة المدركات في العالم المحسوس، ولم يشرح لنا كيف يمكن للمثالي أن يسمح لنا بأخذ الفعل التعبيري المدرك.

الإدراك في علاقته بالمحسوس يدفع إلى إعطاء سلوكات جسدية، والمعنى الذي تعطيه يدفع هذه السلوكات هو في الحقيقة وبوضوح تام ليست ناجمة عن هذه العلاقة بين الإدراك والإحساس.

بل إن الإدراك والإحساس يذهبان إلى خطر أنهما ليسا سوى مظاهر فقط وذلك عند التجلي أمام الحقيقة وأن العقل هو الوسيلة الوحيدة عندما نريد أن نعرف.

عكس ما يريد أن يذهب إليه ميرلوبونتي في كتبه لمعرفة عن قرب معنى الإحساس وأنه يجب علينا ألَّا نقوم بتحليل العلاقات اللغوية والإحساس للجسد معطى كوسيط حقيقي في خطابنا مع الإحساس، وأنه معني بعلاقة المعرفة بالأشياء، الإحساس في كتبه لا يمكن أن ندرسه في عالم منفصل عن المثالي والعقل ولكنه الأرضية الحقيقية والأصيلة التي ينبثق منها التفكير، أي إنه عند ميرلوبونتي يبين لنا أن المعنى الذي يبين الإحساس ليس هو في أمر منفصل عما يعنيه التفكير، ومنه نعرف أن كل منهما ينتمي إلى نفس العالم، وكل معرفة لا يمكن أن تكون دون انعكاس الأرضية الحقيقية، وأن هذه الأرضية هي التي لا يمكن للمعرفة أن تنشأ في سواها.

الأسئلة التي طرحها ميرلوبونتي والتي من شأنها أن تؤدي به، وخاصة في «المرئي واللامرئي» و«ظواهرية الإدراك»، إلى تأسيس فلسفة تعبيرية لا تخضع إلى الظواهر والإدراك ولا تسمح إلا للخلفية الأنطولوجية لهذه الفلسفة.

 

 

 



[1] موريس ميرلوبونتي، ظواهرية الإدراك، ترجمة: فؤاد شاهين، معهد الإنماء العربي، ص157.

[2] المرجع نفسه،ص161.

[3] Marc Richir. «Merleau-Ponty: un tout nouveau rapport à la psychanalyse». in les Cahiers de Philosophie . n7p 182.

[4] Hottois gilbert, «De l’objet de la phénoménologie ou de la phénoménologie comme style» in Merleau- ponty Lepsychique et le corporel, Aubier, Paris, 1988, P 171. 

[5] Maurice Merleau-Ponty, la phénoménologie de la perception, Gallimard, Paris, 1945,p443.

[6] Nancy Jean-Luc,l’exprérience de la liberté, Galilée, Paris1988,p49. 

[7] المرجع نفسه ، ص51.

[8] Anne- Marie Roviello, «les écarts du sens»,in phénoménologie et expérience, Editions Jérôme Millon GRENOBLE 1992, p179.

[9] المرجع نفسه ص 180.

[10] Maurice Merleau-Ponty, la phénoménologie de la perception, Op-cit, p 447.

[11] Maurice Merleau-Ponty la phénoménologie de la perception,Op-cit, p214

[12] Ibid. p226

[13] Ibid. p409.

[14] Ibid. p446.

[15] Maurice Merleau-Ponty, La structure du comportement, Puf? Paris 6éme édition, 1967, p211.

[16] Descartes, Discoures de la méthode, éd. Gallimard, coll. Folio essais,1991 p36.

[17] موريس ميرلوبونتي ، العين و العقل، ت: حبيب الشاروني، منشأة المعارف، الإسكندرية،ص18.

[18] Merleau-Ponty, Le Visible et L’invisible, Galimard, Paris, 1964, p49.

[19] Ibid.P49.

[20] Ibid.P49.

[21] Mourice in Merleau-ponty, la phénoménologie de la perception، op-cit,p, p414.

[22] ibid, p204.

[23] bid, p207.

[24] bid, p230.

[25] bid, p272.

[26] حبيب الشاروني، فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية، المكتبة الانجلو مصرية، مصر1974، ص141.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة