تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلام السياسي وضرورات التحول من الأصولية إلى المدنية

محمد محفوظ

الإسلام السياسي

وضرورات التحول من الأصولية إلى المدنية

محمد محفوظ

مقدمة

على المستوى الفكري والمعرفي لم تتوقف الدراسات والأبحاث والمناقشات والحوارات الفكرية والسياسية التي تناقش مسألة العلاقة بين الديني والمدني وبالعكس. إذ شكلت هذه المسألة هاجساً فكريًّا ومعرفيًّا لدى العديد من المفكرين والمثقفين، كما شكلت هاجساً لدى أصحاب المشروعات الإسلامية - السياسية، لكونها تقدم إجابة أو إجابات وفق أدبياتها وأيديولوجيتها الحركية عن هذا السؤال المركزي والحيوي في آن.. ونحسب أن الوصول إلى توافقات فكرية عميقة حول هذه المسألة، يساهم في تفكيك الكثير من العقد الفكرية والأيديولوجية والسياسية في الواقع الإسلامي المعاصر. لكون هذا الواقع يتطلع إلى الانعتاق من ربقة التخلف الحضاري، ويبني أوضاعه السياسية والاجتماعية على أسس جديدة تمكنه من القبض الفعلي على أسباب تقدمه وتطوره الحضاري. وعلى ضوء تجارب العديد من المشروعات الأيديولوجية والفكرية والسياسية التي بدأت في المشهد الإسلامي الحديث والمعاصر، نتمكن من القول: إنه ثمة صعوبات حقيقية وعميقة تحول دون أن تتحقق نهضة المسلمين بعيداً عن الحاضن الديني، كما أنه في الوقت ذاته ثمة قناعة عميقة لدى العديد من الجهات والأطراف أن الكثير من التفسيرات والمشروعات الدينية - السياسية القائمة، غير قادرة على إنهاض الأمة ونيلها استقلالها المعنوي والمادي. لأن هذه المشروعات مليئة بالنواقص والكوابح التي تحول دون إنهاض جميع أطراف الأمة، إما لاعتبارات متعلقة بطبيعة الخيارات المعرفية والفكرية التي تتبناها هذه الجماعات، أو بفعل الرؤية الدينية القاصرة أو الجامدة التي تحول دون إحداث نهضة متكاملة وحقيقية في جسم الأمة.

لذلك ثمة شعور عميق لدى أغلب التوجهات الأيديولوجية والمشروعات السياسية القائمة والفاعلة في المشهد الإسلامي المعاصر، على أنها وصلت إلى طريق مسدودة، وثمة انسدادات ذاتية وموضوعية عديدة ومتنوعة تمنع هذه المشروعات بما فيها مشروعات الإسلام السياسي أن تكون الرافعة الحقيقية لواقع الأمة المعاصر صوب أهدافها الحضارية وقدرتها على معالجة الإشكاليات المعرفية والسياسية المزمنة التي تعاني منها بلدان العالم الإسلامي برمتها على مستويات متفاوتة وبأشكال مناسبة للحظة تطورها التاريخي والاجتماعي.

والبحث الذي بين يديك -عزيزي القارئ- هو محاولة فكرية - سياسية لتقديم معالجة لهذه الإشكالية التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر.

وقبل الدخول في جوهر الموضوع، من الضروري تفكيك وتوضيح المصطلحات المستخدمة في العنوان الرئيسي للدراسة، وذلك لكي تتضح الصورة.

ﷺ الإسلام السياسي

ندرك طبيعة التباين والاختلاف تجاه مقولة الإسلام السياسي، فهو من المقولات المختلف عليها. فبعضهم يعتبر هذه المقولة مقولة قدحيه بحق الجماعات والتيارات الإسلامية، لأن هذه المقولة لا تعكس شمولية الإسلام، وأن أهم الجماعات الإسلامية اليوم تمتلك مشروعاً حضاريًّا، يتجاوز البعد السياسي. والبعض الآخر يعتبر هذه المقولة توصيف دقيق لحال الجماعات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وإنها مقولة توصيفيه - محايدة، وليست ذات حمولة سلبية.

أقول: بعيداً عن هذا التباين وخلفياته الأيديولوجية والسياسية، فإننا نستخدم هذا المصطلح أو هذه المقولة ونقصد بها:

1- كل الجماعات والفعاليات والمؤسسات الإسلامية الفاعلة في الحقل السياسي، وتتبنى رؤية ومشروعاً سياسيًّا لذاتها ولوطنها وبيئتها الاجتماعية والسياسية.

2- الخطابات السياسية التي تنطلق على مستوى مرجعيتها ومعاييرها من الدين الإسلامي. وتؤمن أن الإسلام ليس ديناً منحصراً في زوايا المسجد ودور العبادة، وإنما هو أوسع من ذلك بكثير، حيث يقدم رؤية كونية وحضارية للوجود والإنسان.. والعمل السياسي على قاعدة المرجعية الإسلامية هو أحد الأبعاد الأساسية للمشروع الحضاري الإسلامي.

3- للتفريق المعرفي والاجتماعي الضروري بين غالبية المسلمين الذين يدينون بالدين الإسلامي ويتعبدون وفق هداه وتعاليمه، وبين الإسلاميين الذين يتبنون رؤية ومشروعاً سياسيًّا انطلاقاً من فهمهم لقيم الإسلام وتشريعاته المتعددة.. فليس كل المسلمين إسلاميين، ولكن كل الإسلامين مسلمين.. ومقولة الإسلام السياسي لا تنطبق على عموم المسلمين، وإنما هي فقط تنطبق على الناشطين والحركيين الإسلاميين من المسلمين.

ﷺ الأصولية

من المؤكد أن الكثير من عناصر الحمولة السلبية لمفهوم الأصولية، جاء إلينا من طبيعة التجربة الثقافية والسياسية الغربية، ونظرة وموقف ومضمون هذه التجربة لمفهوم الأصولية. فهو (أي المفهوم) في الرؤية الغربية يساوي الجمود والتوقف عند الأصول الضاربة بجذورها في التاريخ دون القدرة على مواكبة العصر ومكتسباته.

كما يساوي رفض الجديد وعدم القدرة على استيعابه والتعامل معه.

وفي الدائرة العربية هناك من استخدم هذا المفهوم وفق المعايير الغربية، وطبَّقه على كل الجماعات الدينية التي تعمل وفق المرجعية الإسلامية، وتتحرك سياسيًّا واجتماعيًّا على قاعدة الالتزام بتشريعات الإسلام. وأحسب أن عملية الإسقاط المذكورة لم تكن دقيقة ومجانبة للصواب وفق المحددات والمعايير العلمية.

لأنه وببساطة شديدة أغلب الجماعات الإسلامية - الحركية، التي تنعت بالأصولية هي أبعد ما تكون من الانحباس في التاريخ والماضي، وأغلب كوادرها الرئيسة هي ذات تعليم أكاديمي وعلمي متقدم، وتتطلع إلى قيادة بلدانها ومجتمعاتها انطلاقاً من رؤيتها ومشروعها للسلطة وإدارة الشأن العام. وبصرف النظر عن طبيعة تقويمنا لأداء هذه الجماعات وموقفنا من رؤيتها ومشروعها العام، إلا أنها لا تنطبق عليها مقولة (الأصولية) وفق الرؤية والتجربة الغربية. مع أنها كمشروع ورؤية هي محاولة للعودة إلى الأصول للاستهداء والاسترشاد بها وليس الانكفاء حولها ورفض استيعاب حركة العصر ومكاسب الحضارة الحديثة.

و بالتالي فإن مقصودنا من مفهوم الأصولية في هذا السياق هو يتجه إلى:

فك الارتباط والمساوقة بين معنى الأصولية ومفاهيم الجمود والتعصب والعنف والانغلاق. فليس كل الجماعات الإسلامية التي تنعت بالأصولية هي جماعات جامدة ومتعصبة ومنغلقة وتمارس العنف ببعديه المعنوي والمادي. ففي الواقع الاجتماعي والسياسي ثمة جماعات إسلامية عديدة يمكن وصفها بالأصولية إلا أنها لا تعيش الجمود أو الانغلاق.. ونحن نقصد بمصطلح الأصولية تلك الجماعات الفاعلة في الحقل السياسي انطلاقاً من المرجعية الإسلامية إلا أنها متطورة في فهمها للإسلام وذات رؤية وسطية في الدين والسياسة. وبالتالي نستثني من استخدامنا لمفهوم الأصولية تلك الجماعات الراديكالية وذات المنهج العنفي والتكفيري.

وبالتالي فإن توصيف الأصولية في منظورنا، يتجه صوب كل الجماعات والفعاليات والتيارات الدينية التي تنشط في الميدان السياسي، وتمتلك رؤية سياسية، وتتعاطى الشأن العام على قاعدة اكتشاف المفارقة بين المثال والواقع، وتوجه كل جهودها وإمكاناتها عبر وسائل التربية والدعوة والتمكين الاجتماعي والسياسي لردم الهوة بين المثال والواقع.

ﷺ المدنية

التفت الدكتور (عبد الله العروي) إلى أن التصورات الكلامية والفقهية التي تناولت مفهوم الحرية تمحورت حول الموضوعات الأخلاقية والوعظية في سياق علاقة الإنسان مع نفسه وخالقه وأخيه في الإنسانية. في حين تمحورت التصورات الغربية الحديثة في المسألة حول الفرد الاجتماعي، أي بوصفه مشاركاً في مجتمع. فالفرق كما يقرر (العروي) بين حرية نفسانية ميتافيزيقية وحرية سياسية اجتماعية[1].

انطلاقاً وتأسيساً على هذه الملاحظة الواعية والدقيقة ثمة حاجة عميقة لدى الجماعات السياسية الإسلامية للاهتمام بمسألة السياسة والديمقراطية وحقوق الانسان، ليس بوصفها قيماً محمودة ومطلوبة فحسب، وإنما في بناء الأطر والمؤسسات والحياة السياسية والدستورية القادرة على ضمان وجود هذه القيم في الحياة العامة.

فالقيم المدنية في أي بيئة اجتماعية، لا يمكن أن تتحقق دون تطوير نظام التفكير والعطاء المعرفي في سياق الفرد بوصفه جزءاً من مجتمع ودولة ويتأثر بهما سلباً وإيجاباً. بحيث يتجه الخطاب الإسلامي صوب صياغة رؤى وتوجيهات وتعليمات تستهدف معالجة مشاكل الدولة والمجتمع معاً، بعيداً عن النزعة الوعظية التي لا تحلل الأمور، ولا تتعمق في عالم الأسباب والمسببات، وإنما تكتفي ببيان ما ينبغي أن يكون، مع تغافل عن بيان الكيفية وسبل الإنجاز الفعلية.

لذلك فإن مقولة المدنية في سياق هذه الدراسة تعني:

1- إعطاء الأولوية للقيم العامة كالعدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وسبل مأسستها وتبيئتها في الحياة الثقافية والسياسية للعرب والمسلمين.

2- تبني خيار العمل الديمقراطي والمدني السلمي، ونبذ كل نزعات التعصب والعنف والانغلاق الأيديولوجي والسياسي.

3- خلق المسافة الضرورية لدى الجماعات السياسية الإسلامية بين الدعوي ومقتضياته والسياسي ومتطلباته، وتطوير وسائل التدبير العقلاني والحضاري لشؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

4- رفض نزعات التوحش وممارسة العنف العاري في العمل السياسي، وممارسة السياسة بوصفها حقلاً مدنيًّا متاحاً للجميع، أي لجميع المواطنين بصرف النظر عن الدين والمذهب والقومية والعرق. وإن التنافس والصراع في هذا الحقل تنافس أو صراع سلمي مدني بعيد عن مقولات الحق الإلهي والنرجسيات الأيديولوجية العديدة.

بحيث تكون جماعات الإسلام السياسي جماعات سياسية بمرجعية إسلامية، إلا أنها لا تدعي امتلاك الحقيقية الدينية، أو ليس لها الحق في سلب البعد الديني والإسلامي من أي مكون من مكونات شعبها ومجتمعها.

أحسب أن هذه العناصر، هي مضمون وجوهر مقولة المدنية، وضرورة تحول جماعات الإسلام السياسي إليها.

والانتقال هنا بطبيعة الحال، ليس راديكاليًّا أو تكتيكيًّا، وإنما هو نتاج تحولات فكرية وثقافية عميقة، تتجه بهذه الجماعات للانتقال من وصفها جماعة أيديولوجية مغلقة إلى جماعة مدنية، منفتحة وتسعى إلى استيعاب كل شرائح مجتمعها في مشروعها العام القائم على الإيمان العميق بالقانون وسيادته، وبالتعددية ولوازمها ومقتضياتها، وبالتداول السلمي للسلطة بوصفه جوهر العملية الديمقراطية.

ﷺ نقطة البداية

الورقة تنطلق من قناعة فكرية وسياسية مفادها: أن زمن الأصولية من زاوية سياسية في نهاياته، وإن الجماعات الإسلامية التي تبقى منحبسة في الإطار الأصولي، سيخبو تأثيرها ويتراجع موقعها في المشهد السياسي والاجتماعي. أما الجماعات التي تتجاوز معرفيًّا وسياسيًّا تلك الحقبة، فإنها ستواصل تأثيرها، وسيتعاظم موقعها السياسي. والتكيف مع الزمن السياسي الجديد ليس رغبة مجردة من الفعل والتحول، وإنما هو نقطة انطلاق صوب بناء الجماعة السياسية على أسس فكرية وسياسية جديدة. وليس بطبيعة الحال كل الجماعات قادرة على ذلك. ونعتقد أن الحركات الإسلامية التي يتمركز نشاطها وفعلها العام على سؤال الهوية، فإنها ستبقى متشبثة بخياراتها وأولوياتها السابقة، لكونها محافظة على المستويين الفكري والسياسي.

والجماعات المحافظة هي آخر الجماعات قدرة على التحول والانتقال من مرحلة إلى أخرى. أما الحركات الإسلامية التي يتمركز نشاطها وفعلها العام على سؤال التقدم ودورها في إنجازه على المستويين الاجتماعي والوطني، فإن هذه الجماعات وبحكم بنائها الفكري وأولوياتها السياسية، قادرة على اجتراح التحول والانتقال، وستكون قادرة على إدارة صعوبات مرحلة الانتقال والتحول.

وسيكون الحديث في محورين أساسيين وهما:

1- المسار التاريخي الذي عاشته جماعات الإسلام السياسي، وهو مسار سنعمل على وصفه والتعريف به دون تحليله.

2- محور ضرورات تحول جماعات الإسلام السياسي من الزمن الأصولي إلى الزمن المدني – الديمقراطي. وفي هذا المحور سيتركز الحديث حول الرؤية الفكرية والسياسية التي تساهم في عملية التحول والانتقال.

ﷺ المسار التاريخي

إن الظاهرة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، ليست لوناً واحداً وتوجهاً واحداً، وإنما ظاهرة متنوعة ومختلفة وذات أطياف متعددة وتشمل (حركات وأحزاب وتنظيمات وفعاليات دينية دعوية وشخصيات عامة وأنشطة مجتمعية عديدة).. وهذه الورقة ستتحدث عن الجماعات الإسلامية التي تنشط في الحقل السياسي، ويطلق عليها جماعات الإسلام السياسي.

وفي تقديرنا أن جماعات الإسلام السياسي مرت بالمراحل التالية:

1- المرحلة الأولى: مرحلة الإحياء الإسلامي، وهي مرحلة اتسمت بالبناء الفكري والصراعات الأيديولوجية مع الجماعات الأيديولوجية المنافسة، واستندت إلى خطاب دعوي، وعظي يقدم قيم الإسلام وتشريعاته بوصفها هي المنقذ والقادرة، على إخراج المسلمين جميعاً من وهدة التخلف وربقة الانحطاط، والتبعية للنظريات والمشروعات الفكرية والثقافية الوافدة إلى المسلمين من وراء الحدود.

وفي هذه المرحلة تم تقديم الإسلام بوصفه مشروعاً قادراً على إحياء الأمة وإيقاظها من غفلتها، وتم أيضاً فيها صياغة كتابات وآراء فكرية ترتكز على:

•         إمكانية الإسلام الذاتية على تقديم رؤية متكاملة للحياة.

•         تحرير العقائد الإسلامية من الأوهام والخرافات وأشكال البدع والشرك، وبناء تفسير نهضوي لمفاهيم الإسلام وقيمه.

•         العمل على إنهاء حالة الفصام بين الإسلام وعالم السياسة، فكتبت الكثير من الكتب التي تستهدف إثبات أن في الإسلام سياسة.

•         تقديم تفسير لطبيعة الأزمة المستفحلة في الأمة، بوصفها نتاج طبيعي لحالة الابتعاد عن الإسلام، وأن إنهاء هذه الأزمة لن يتأتى إلا بالعودة إلى الإسلام.

•         شيوع ثقافة المقابسة والاقتباس وفق نسق قال الإسلام قبل ذلك.

•         بناء قاعدة شعبية للمشروع الإسلامي المعاصر.

2- المرحلة الثانية: المرحلة الأصولية:

لا شك في أن انتصار الثورة في إيران، وانخراط الكثير من الإسلاميين في مشروع الجهاد في أفغانستان، وطبيعة التأثيرات التي تركتهما هذه التطورات، أدخل الإسلام السياسي في مرحلة جديدة على المستويين الفكري والسياسي.. ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة مرحلة (الإسلام الأصولي) الذي تجاوز في أطروحاته بعض ثوابت مرحلة الإحياء.

وفي تقديرنا أن أهم سمات هذه المرحلة هي:

• دخول جماعات الإسلام السياسي بوصفها أحد اللاعبين الأساسيين على المستويين الوطني والإقليمي.

• تقديم مشروع الإسلام السياسي بوصفه مشروعاً سياسيًّا متكاملاً وشاملاً، وبدا في هذا السياق الاهتمام بفكرة الدولة ورؤية الإسلام لها.

• الانخراط في مشروع المواجهة والصدام بين الكثير من هذه الجماعات وأنظمة بعض الدول العربية والإسلامية.

ونحن نرى لاعتبارات ومتغيرات فكرية وسياسية واجتماعية عديدة، أن المنطقة كفضاء سياسي واجتماعي، دخلت في مرحلة جديدة على أكثر من صعيد، وأن هذه المرحلة تتطلب من كل الفاعلين في الحقل السياسي مراجعة خياراتها وتطوير مشروعها وخطابها السياسي بما ينسجم وطبيعة التحولات القائمة. كما أن جماعات عديدة من الإسلام السياسي دخلت عمليًّا في مرحلة جديدة من جراء تطورات ما سمي بالربيع العربي، وهذه التطورات تفرض عليها مقاربات جديدة لمشروعها ولطبيعة خياراتها الوطنية السياسية والاجتماعية. ومن جراء هذه التطورات الذاتية والموضوعية نستطيع القول: إن جماعات الإسلام السياسي دخلت في مرحلة جديدة، وهذه المرحلة أنهت أو قاربت على الانتهاء من مرحلة الأصولية في تجربة الإسلام السياسي المعاصر.. بحيث نستطيع أن نتحدث عن المرحلة الثالثة في تحولات الإسلام السياسي وهي:

3- المرحلة الثالثة: ما بعد الأصولية: وفي هذه المرحلة سنتحدث عن رأي وليس وصف، حول ضرورة التحول من الأصولية إلى المدنية.

في الزمن الأصولي سادت قيم الصحوة الإسلامية والتغيير الجذري والثورة الشاملة والشعارات الأيديولوجية ذات الطابع الثنائي التي لا تقبل بمنطقة وسطى أو تسويات سياسية واجتماعية. أما في زمن المابعد أصولية، فالقيم المتداولة هي قيم التجديد والإصلاح والشراكة وحقوق الإنسان والتعددية والمنطق التسووي البعيد عن نزعات الانتصار الكاسح أو الهزيمة المطلقة.

وثمة مقدمات فكرية ضرورية لمشروع التحول المدني وهي كالتالي:

1- الدولة والمجال الديني

الدولة بوصفها قطب الرحى في المجال العام وإدارته، لا تنتمي إلى المجال الديني (حتى لو كان المتدينون هم الذين يسيرون شؤون الدولة ويقومون بإدارتها). والذي يعتبر الدولة بوصفها مؤسسات معنية بإدارة المجال العام تنتمي إلى المجال الديني، فهو يؤسس لاستبداد ديني وسياسي معاً. فالدولة بصرف النظر عن أيديولوجيتها، هي نزَّاعة إلى ممارسة السلطة والهيمنة على الحياة والمجال العام، وإذا كانت هذه النزعة مسوغة دينيًّا، فإن النتيجة الفعلية هو تحالف الديني مع السياسي في ممارسة السلطة واحتكار المجال العام. فلا معنى أن تتحول الدولة كمؤسسات إلى دولة دينية تمارس أدوارها ووظائفها بغطاء ديني. فالدولة ينبغي أن تكون مدنية، حتى لو كان القائمون عليها هم حزب إسلامي أو جماعة متدينة؛ لأن الممارسات التدبيرية التي تقوم بها الدولة، ممارسات تتجه إلى مصلحة الناس المسؤولة عنهم، بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، فالأولوية في الدولة دائماً لإعادة إنتاج وطنية – شعبية موحدة، تعيد تشريع دساتيرها انطلاقاً من عقود وعهود المواطنة وسلطة القانون والمجتمع المدني – التعددي كمبادئ ناظمة لدولة عمادها سياسة مدنية، تمنع هيمنة الديني على شؤون البشر باسم السماء.

فالمطلوب من موقع ديني على هذا الصعيد (دولة مدنية ومجتمع مؤمن).. لأن (التمييز بين الدين والسياسة في الدولة ضرورة، وفي المجتمع جريمة)؛ لأنه يعد تدخلاً في خيارات الناس الخاصة.

فالباري عز وجل لا يعبد حق العبادة في بيئة استبدادية؛ إذ إن توفر الحريات يساهم في إنجاز مفهوم العبادة للخالق على أكمل وجه، فعبادات الإنسان إلى الله تتطلب مساحة حرية الاختيار والتفكير، حتى يتسنى للإنسان ممارسة وظيفة العبادة بصورة مخلصة وبعيداً عن الإكراهات بمختلف أنواعها وأشكالها.

وإن نسبة الممارسة السياسية والسلطوية والقناعات الفكرية إلى الإسلام هي نسبة مجازية وليست حقيقية، فليس كل ممارسة يقوم بها (الإسلامي) هي بالضرورة منسجمة والرأي والموقف الإسلامي – المعياري، فهي آراء وأفكار وممارسات المسلمين، ومقتضى الأمانة والصدقية عدم الادعاء بأن ما يقوم به الإنسان حتى ولو كان متديناً هو متناغم مع الإسلام كشريعة وقيم.. أقول هذا حتى لا يتحمل الإسلام وزر أخطاء وغلواء بعض التيارات والجماعات الإسلامية.

فالإسلام أوسع من الإسلاميين وأثرى على الصعد كافة، ولا مسوغ لخلق المطابقة بين الإسلام والإسلاميين؛ لأن التيارات الإسلامية هي على المستوى النظري والمعرفي، قارئة في مدونة الإسلام، وهي كأي قارئ يمارس فعل تأويل النصوص، والتأويل اجتهاد، والاجتهاد رأي، والرأي غير مقدس.. وغير المقدس هنا لا يعني أنه مدنس، وإنما هو محل احترام وتقدير، ولكنه (أي الرأي) ليس مطلقاً وعابراً لكل زمان ومكان.

2- الدين وأنماط التدين

على المستوى المجتمعي ثمة خلط جوهري بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التدين وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فرداً وجماعة لتجسيد قيم الدين العليا، فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها، تتحول هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التدين، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التدين منسجمة ومقتضيات قيم الدين أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الالتزام متفاوتة، كذلك هي أنماط التدين متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى. وبالتالي فإن أنماط التدين ليست خارج سياق التطور الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية، ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تدينها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها[2]؛ لذلك نستطيع القول: إن الإنسان (الفرد والجماعة) وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تدين والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تدينه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوعة أنماط تدين متنوعة ومتعددة، وكلها تشكل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والالتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يفسر لنا وجود أفهام متعددة ونماذج تاريخية متنوعة في إطار الإسلام الواحد.

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد لأنها خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي.

فالإنسان ليس كائناً سلبيًّا فيما يرتبط وعلاقته بقيمة الكبرى وتشريعات دينه. فهو كائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه، وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تحدد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يؤسسه الإنسان لبيئته أو لواقعه.

لأن أنماط التدين هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعالياً على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعاً لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فإن أنماط التدين على العكس من ذلك تماماً. إذاً هي نتاج الظروف والبيئة. ولا يمكن أن تتشكل أنماط التدين بعيداً عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.

وثمة دائماً مفارقة بين الدين وأنماط التدين. وهذه المفارقة تصل في بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التدين هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتدين، ثمة حاجة إنسانية ودينية ملحة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني. والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التدين التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التدين السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين.

ولعل هذه المفارقة هي التي توضح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان – المجتمع، وبين توجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتساع، مما يفضي إلى نتيجة عملية وواقعية وهي أن توجيهات الدين في وادٍ وحركة المجتمع في أغلبه في وادٍ آخر. مما يؤسس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكلت في التجربة العملية.

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين. وإن جوهر الجهد الذي يبذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع.

وإن جوهر المشكلة تتجسد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين والتدين، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التدين. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

ولو تأملنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة لوجدنا أن من أبرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التدين، تتبنى خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتدين. ولكن المحصلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يجسر الفجوة، وإنما يعمقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها.

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية، تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلا أن المحصلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التدين السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلا بنقد وتفكيك أنماط التدين التي تنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر.

لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعددة تزيد من الأزمات والمآزق، وتفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم.

وإن إحباطات الراهن الإسلامي، ينبغي ألَّا تقود إلى تبني بناء مجموعات وتشكيلات أيديولوجية تتبنى خيار العنف والإرهاب سبيلاً لإنجاز رفعة وعزة المسلمين جميعاً. لأن هذا الخيار يعزز من الإحباطات، ويساهم في تدمير ما تبقى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم.

فالوعي الديني الصحيح الذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يؤسس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة، تحرر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تقدم الإسلام بوصفه ديناً للقتل والتفجير والإرهاب.

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: إن نقد أنماط التدين ليس نقداً للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التدين، ليس وقوفاً في مقابل الدين. وإن حرصنا على الدين ينبغي ألَّا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتجه إلى أنماط التدين. لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التدين هو الدين نفسه؛ لأن بعض أشكال التدين، تشكل عبئاً حقيقيًّا على الدين والمجال الاجتماعي للدين.

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين وأنماط التدين. وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعض أنماط التدين. وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلا بتفكيكها ونقدها من جذورها، حتى نتحرر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية بعيداً عن إكراهات بعض أنماط التدين التي لا تقدم حلولاً بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة.

3- بين السلطة والدولة

تتفق جميع التحليلات الاستراتيجية والسياسية على أن ما جرى من تحولات سياسية في بعض البلدان العربية، هي تحولات طالت السلطة السياسية، بوصفها هي الجهاز المؤسسي والبيروقراطي المعني بتسيير شؤون الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية. وإن تفاقم إخفاق هذه السلطة في تلبية طموحات شعبها وتجاوز محنه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو الذي يوفر المناخ لتحرك الشعب بقواه المختلفة لإخراج السلطة من دائرة إدارة الشأن العام.

إلا أن هذه التحليلات تختلف بعضها مع بعض حول مسألة: هل القضاء على السلطة السياسية، يقود إلى القضاء على الدولة. أم أن الدولة بوصفها المؤسسة الثابتة والضاربة بجذورها في عمق المجتمع، هي مؤسسة لا يمكن القضاء عليها بهذه السهولة أو بالطريقة التي جرت في دول الربيع العربي. ومن الضروري في هذا السياق ومن منظور علم الاجتماع السياسي، أن يتم التفريق بين مفهوم وحقيقة السلطة السياسية ومفهوم وحقيقة الدولة.

وإن من الأخطاء الشائعة على الصعيد العربي، التعامل مع هذين المفهومين بوصفهما حقيقة واحد، بينما في المنظور العلمي والواقعي يتم التفريق والتمييز بين السلطة والدولة.

صحيح أن السلطة هي بعض الدولة، بمعنى أنها (أي سلطة) هي الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة إلا أن هذه المساحة الواسعة التي تحتلها السلطة إلا أنها لا تملأ كامل مفهوم الدولة. فالسلطات السياسية هي سلطات متحولة ومتغيرة، إلا أن الدولة بوصفها مؤسسة متكاملة هي مستقرة وثابتة وقادرة على التكيف مع سلطات سياسية مختلفة ومتنوعة في خياراتها وأولوياتها.

السلطة مهمتها إدارة وتسيير الشأن اليومي للمواطنين، إلا أن الدولة هي المعنية بالسياسات الاستراتيجية والخيارات الكبرى وقضايا الأمن القومي وصياغة اتجاهات السلطة سواء على الصعيد الداخلي أو الصعيد الخارجي.

ولعل من الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها النخب السياسية الجديدة في بعض بلدان الربيع العربي أنها اعتبرت حالها حين وصولها إلى السلطة إلى أنها قادرة على التحكم في مسار الدولة. إلا أنها في حقيقة الأمر اصطدمت مبكراً مع القوى الحقيقية التي تعبر عن الدولة، ولم تتمكن هذه النخب السياسية الجديدة من إنهاء تأثير قوى الدولة وتعبيراتها المركزية.

ولعل الكثير من صور الصراع السياسي والشعبي والمؤسسي التي جرت في دول الربيع العربي بعد سقوط النظام السياسي، تعود في جذورها الأساسية وأسبابها البعيدة والحيوية إلى السعي المتبادل من قبل قوى السلطة الجديدة وقوى الدولة الثابتة والمستقرة إلى التحكم في المسار السياسي العام.

ولكل طرف من هذه الأطراف حيثياته ومبرراته في سياق السعي للتحكم وضبط المعادلات المستجدة وفق رؤية هذه القوى أو تلك. فالنخب السياسية الجديدة استندت في مشروع استحواذها إلى إنها صانعة التغيير السياسي الأخير، وهذا الإنجاز يؤهلها إلى التحكم في مسار السلطة والدولة معاً. أما القوى والمؤسسات الفعلية فكانت تعتقد أنه لولاها لما تمكنت هذه النخب من السيطرة على مقدرات السلطة السياسية. لأنها هي القوى التي حيَّدت المؤسسة العسكرية بكل أجهزتها، وهي التي منعت من الاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الناس المتظاهرين، وإنها هي بحكم علاقاتها وتحالفاتها التي وفرت الغطاء الإقليمي والدولي للحظة التغيير السياسي.

لذلك فإن هذه القوى تعتبر نفسها هي الشريك الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإن أية محاولة جديدة للاستغناء ستفضي إلى الفوضى وانهيار مؤسسات السلطة ومؤسسات الدولة معاً.

ومن منظور سياسي واقعي فإن جوهر الارتباط وبعض أشكال الفوضى والانفلاش التي تعيشها بلدان الربيع العربي يعود إلى الاختلاف العميق الذي طرأ على المشهد السياسي والاستراتيجي بين نخب السلطة السياسية الجديدة ونخب الدولة العميقة والثابتة والمتحكمة في الكثير من مفاصل الحياة.

وإنه إذا تمكنت قوى السلطة الجديدة من التحكم في مسار الأحداث والتطورات، فهذا يعني على المستوى الواقعي سيادة الفوضى وبروز التناقضات السياسية والعميقة على المشهد السياسي والاجتماعي.

أما إذا تمكنت قوى الدولة العميقة من إخراج النخب الجديدة من السلطة والتحكم مجدداً بمفردها في مسار الأمور والتحولات، فهذا يعني على المستوى الواقعي إعادة إنتاج الاستبداد السياسي بقفازات جديدة وبخطاب سياسي جديد مقبول من قبل بعض فئات وشرائح الشعب. ولدى هذه الشرائح الاستعداد التام للانخراط المباشر في الوقوف دفاعاً عن قوى الدولة العميقة وبالضد من نخب السلطة السياسية الجديدة.

ويبدو من طبيعة تحولات ما يسمى بالربيع العربي، أنه لا يمكن لأي قوة أن تحقق الانتصار الكاسح على القوة الأخرى.

لأن التحولات السياسية التي جرت في هذه البلدان، ليست تحولات نهائية، وإنما هي في بعض جوانبها شكل من أشكال التسوية، بحيث ترفع قوى الدولة يدها عن السلطة السياسية القديمة مما يوفر الأرضية بشكل سريع إلى انهياراها، وهذا ما حدث في مصر وتونس واليمن. وفي المقابل فإن النخب السياسية الجديدة تلتزم بالحفاظ على المؤسسات الاستراتيجية للدولة، وكذلك خيارات الدولة السياسية والاستراتيجية. لذلك فإن ما جرى ليس انتصاراً كاسحاً لأحد الأطراف، وإنما هي تسوية سياسية بين بعض قوى الشعب التي تحركت ضد السلطة السياسية القديمة وطالبت بسقوطها وبين مؤسسات الدولة العميقة التي لم تقف ضد مشروع خروج النخبة السياسية القديمة من السلطة.

وبالتالي فإنه ثمة شراكة في مشروع التحول السياسي، هذه الشراكة هي التي تحول دون تفرد أي طرف من الأطراف بالمعادلة الجديدة. والنفق الجديد الذي دخلته بعض هذه البلدان هو الصدام المباشر وفض الشراكة أو تبديل بعض أطرافها، مما أدخل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في امتحان جديد، قد يكلف هذه الدولة أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي خلال المرحلة الراهنة.

وعلى ضوء هذه الثنائية العربية العميقة بين السلطة والدولة، لا يمكن أن ينجز مشروع الديمقراطية في العالم العربي دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى جهد مكثف ومؤسسي وعلى مدى زمني حتى تتمكن دول العالم العربي من إنجاز مشروع الدمقرطة والمشاركة الشعبية المؤسسية في إدارة الشأن العام.

ومن يبحث عن إنجاز مشروع الديمقراطية دفعة واحدة وفي ظل هذه الظروف، فإنه على المستوى العملي سيحصد وقائع مناقضة للديمقراطية وستدخل تعبيرات المجتمعات العربية في أتون الصراعات والصدمات التي تزيد من تعويق مشروع الديمقراطية في المنطقة العربية.

وعليه فإن التحولات الإصلاحية السياسية في المنطقة العربية، هي من أسلم الخيارات للمنطقة العربية، التي تعيد صياغة شرعية السلطة السياسية على أسس جديدة، وفي الوقت ذاته تنفس حالة الاحتقان الأمني السياسي التي تشهدها بعض بلدان المنطقة العربية. فالإصلاح السياسي المؤسسي والتدريجي والحيوي هو الذي يجنب دول العالم العربي الكثير من المآزق والتحديات.

4- فك الارتباط

على المستوى العربي والإسلامي من الضروري فك الارتباط بين العلمانية والاستبداد أو الدين والاستبداد، لأن هذا الربط خلق كوارث سياسية واجتماعية، كما أن تجربة الإسلام السياسي خلقت مظاهر تديّن عديدة ضد الدين.. فالاستبداد مرفوض سواء بغطاء علماني أو جلباب ديني.

ونحن نعتقد أن أسهل طريقة لتعميم نموذج العلمانية المتوحشة، هو في إضعاف القدرة المدنية للدين، فالتعاليم الإسلامية لها تأثير على حقول الحياة، وهذا التأثير بطبعه مدني، أي إن نفوذ التعاليم الدينية لا يلغي البعد المدني للمؤسسات والهياكل الإدارية والاجتماعية، وإن العمل على اجتثاث كل قيم الدين سواء الفردية أو الاجتماعية، هو الذي يفضي إلى سيادة النزعة العلمانية المتوحشة في المجال الإسلامي، وهي بالضرورة نزعة ستمارس القهر والاستبداد لتعميم أيديولوجيتها؛ لذلك فنحن في هذا السياق الثقافي والمعرفي نفرق بين المدني والعلماني، ونعتبر أن تجفيف المنابع المدنية من الدين، هو الذي يمكن النزعات العلمانية – الإلغائية من التحكم في المسارات الاجتماعية والسياسية.

بينما تظهير القيم المدنية للدين هو الذي يبقي قيم الدين في الحياة العامة،حتى لو كان النظام السياسي في جوهره معادياً للدين وقيمه.

وعلى المستوى الغربي برزت الدولة العلمانية لتحرير المجتمع من سيطرة الكنيسة، والحيلولة دون تحكم رجال الدين بالقرار السياسي، أو استخدام الدولة لفرض تفسير ديني ضيق على أفراد المجتمع، أو فرض دين ما على مجتمع متعدد الأديان.

ولم يؤدِ ظهور العلمانية في الغرب إلى محاربة المؤسسة الكنسية أو الدينية، بل أدى إلى حمايتها من تسلط الدولة الحديثة ذات الصلاحيات الاجتماعية الواسعة، والحيلولة دون استصدار قوانين تحد من حرية الأديان.

وفي تقديرنا، إن المسار العلماني الذي تأسس في الغرب لا يستهدف تقليص دور ووظيفة الدين، وإنما إضعاف وتفكيك ظاهرة التسلط والاستبداد التي مورست باسم الدين. وبون شاسع بين مقولة إخراج الدين من الحياة العامة، ومقولة تفكيك ظاهرة الاستبداد والتسلط الديني.

ولكون مجتمعات ما قبل الحداثة السياسية تتسم بحالة مزمنة من الصراع الديني والطائفي والتدابر السياسي العنيف بحكم عجزها عن تلمس طرق الوفاق وتوليف المصالح المتضاربة، فإن مجتمعات الحداثة السياسية (وهي من الأطوار التي ننشد الوصول إليها) تتسم بقدرة على السيطرة على معضلة الانقسام الديني والطائفي والسياسي استناداً إلى مبدأ حيادية الدولة، ثم باعتماد آليات وفاقية بين الأفراد والمجموعات بصورة عقلانية خارج حلقة المنازعات الدينية والمذهبية.

وفي هذا السياق من المهم بالنسبة إلى جماعات الإسلام السياسي تصويب علاقتها مع النشاط الدعوي بوصفه يحاكي ما ينبغي أن يكون، وبين النشاط السياسي بوصفه يعنى بإدارة اللحظة الراهنة وفق المعطيات القائمة. وتوضح العديد من التجارب أن الخلط والتداخل المفتوح بين الدعوي والسياسي، يفضي إلى خلق التباسات عديدة، سواء داخل القاعدة الاجتماعية للجماعات الإسلامية وبالذات فيما يتعلق بالأداء وبعض المواقف السياسية، كما أنه يخلق التباسات عند الجماعات السياسية المنافسة، التي لازالت تتأرجح في التعامل مع الجماعات الإسلامية. لذلك فإن الفصل الموضوعي بين الدعوي والسياسي، يعد ضرورة عملانية، لتوفير كل أسباب النجاح للعملين معاً. بحيث يتشكل لكل جماعة أو إطار آليات عمل منسجمة وطبيعة الأهداف المتوخاة منه. وبهذه الآلية يتم حماية العمل الدعوي - التبليغي من أية أعباء سياسية أو ميدانية، كما أنه يوجه الطاقات والكفاءات صوب العمل الرئيسي الذي تقوم به. ووفق هذه الآلية يتم فض الاشتباك بين الدعوي والسياسي في الإطار السياسي الواحد.

5- الإسلام السياسي بين خيارين

تعتبر قمة شرم الشيخ المنعقدة في آذار عام 1996 م والتي شاركت فيها أمريكا والدول الغربية وإسرائيل وبعض الدول العربية، هي اللحظة التأسيسية التي اجتمعت فيها الإرادات الدولية والإقليمية لمحاربة ما سمي آنذاك (الإرهاب)، وهو الاسم المستعار للقوى الأصولية المختلفة. ولعل الإشكالية الحقيقية المترتبة على هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات هو تغليبه للرؤية الأمنية، والبحث عن حلول أمنية لظاهرة اجتماعية - سياسية معقدة وتتداخل فيها الكثير من العوامل والأسباب. لذلك كانت النتائج المترتبة على هذه الاجتماعات والالتزامات الأمنية المتبادلة، هو المزيد من سفك الدم، وإدخال المنطقة في أتون التوتر الدائم، وخلق المناخ الاجتماعي والسياسي المشجع بطريقة غير مباشرة لمشروع الأصوليات الإسلامية المتطرفة والعنيفة في آن. «ولقد تغلب منطق التجريم بشكل قاهر على منطق التقويم والتحليل. ومنذ الحادي عشر من أيلول وهم يكررون على مسامعنا أن الديمقراطيات وسائر المدافعين عن الحرية والتسامح سيواجهون الخطر الإرهابي للإسلام السياسي الأصولي»[3].

ولاشك في أن الرؤية السياسية - الأمنية، التي استندت إليها القوى الدولية وأكثرية الأنظمة السياسية في المجالين العربي والإسلامي، في طريقة التعامل مع ظاهرة الإسلام السياسي، ساهمت في دفع بعض الجماعات دفعاً نحو تبني خيار العنف والمواجهة المفتوحة مع الأنظمة السياسية والمجتمعات العربية معاً. ورفض هذه الجماعات إلى النموذج الغربي لا يعود إلى ديمقراطية هذا النموذج كما تروج بعض الأقلام الغربية، وإنما لشعور هذه الجماعات الراديكالية العميق أن الدول الغربية هي الداعم الأمني والسياسي الأول لأنظمة الاحتكار والاستبداد التي تواجهها هذه الجماعات. فالرفض يعود -في تقديرنا- إلى الخيارات السياسية الغربية في المنطقة، التي تتجه دائماً صوب دعم الأنظمة والحكومات، حتى لو كانت هذه الأنظمة هي صانعة العنف الأول في دولها. وهذا يعود إلى الطبيعة البرغماتية للسياسات الغربية في المنطقة. فهي سياسات تبحث عن مصالحها بعين واحدة لذلك هي المساند الأول لأنظمة الاستبداد في المنطقة، ولا شك في أن دعم الاستبداد المفتوح هو الذي يقود إلى رفض هذه النموذج لثقافة وازدواجية المعايير لديه، فهو ينادي بالديمقراطية ولكنه هو المحارب الأول لكل المحاولات الديمقراطية في المنطقة دفاعاً عن مصالحها ورؤيتها الاستراتيجية للمنطقة. وهذا ليس تبريراً لظاهرة العنف الأصولي، وإنما للقول: إن هذه الظاهرة هي وليدة عوامل وأسباب عديدة ومركبة منها الأداء الغربي والتحالفات الغربية في المنطقة. ونحن هنا لسنا في صدد بيان موقف قيمي من ظاهرة العنف الأصولي، وإنما في سياق تفسير هذه الظاهرة في تحولات المنطقة السياسية والأمنية والثقافية.

وإن بنية المجتمعات العربية والإسلامية لا يمكن أن تستغني عن الدين وقيمه في حياتها المختلفة، ولكن في الوقت ذاته الذي نقر بأنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ومبادئه في حياة العرب والمسلمين، وفي الوقت ذاته نرى أن حضور الجماعات الإسلامية في الدولة انطلاقاً من مشروعها الأيديولوجي والسياسي، أبان عن انقسامات عميقة في واقع الاجتماع العربي والإسلامي. لأن الجماعات الأيديولوجية بصرف النظر عن طبيعة وجوهر هذه الأيديولوجيا، هي نزَّاعة إلى استخدام مقدرات الدولة والسلطة لتعميم أيديولوجيتها وإدخال الآخرين المختلفين والمغايرين فيها.

ولكون هذه الجماعات وصلت إلى السلطة، فإنها استخدمت كل مقدرات الدولة والسلطة لتعميم أيديولوجيتها. وهذا بطبيعة الحال يقتضي الاندفاع باتجاه الهيمنة على كل المواقع والمناصب السيادية والسياسية، حتى يتسنى لها تنفيذ أجندتها الأيديولوجية، ومن جهة أخرى حتى لا يتمكن الخصوم من العودة إلى الدولة والسيطرة عليها مجدداً.

وهذه الاستراتيجية ستفرض على الجماعات الإسلامية تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة في تحمل المسؤوليات الوطنية الكبرى، مما يفضي إلى ارتكاب أخطاء وخطايا تزيد من اللاثقة بين مجموع القوى والمكونات السياسية، وهذا بدوره يفضي إلى المزيد من تشبث أهل السلطة الجديدة بسلطتهم في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي، يتطلب معالجات وحلول سريعة، لا تمتلك هذه الجماعات القدرة على إنجاز هذه الحلول. فتكون النتيجة الطبيعية نخبة أيديولوجية - سياسية جديدة، تتمحور حول السلطة وتسعى إلى إدارتها، دون امتلاك كل مراكز القوى في هذه المؤسسة. ومجتمع بكل فئاته ينتظر حلول سحرية وسريعة لإخراجه من أزماته الأمنية والمعيشية والتنموية والسياسية والاقتصادية، وقوى سياسية شريكة للنخبة السياسية السائدة حديثاً في مرحلة النضال السلبي، إلا أنها مستبعدة من شؤون الحكم والسلطة الجديدة.

ومع كل هذه القوى، ثمة قوى أخرى تنتمي إلى مؤسسات الدولة العميقة، تعمل بخبرتها ودهائها وارتباطاتها وتحالفها الداخلية والخارجية، لإيقاف عجلة التغيير والإصلاح. في ظل هذه الأوضاع المتداخلة والمتشابكة في كل شيء، تأتي خطايا الجماعات الأيديولوجية الحاكمة حديثاً دون امتلاك كل أدوات الحكم الفعلي، لكي توفر الغطاء أو المناسبة للعمل على إعادة وإنتاج الأنظمة الشمولية - الاستبدادية بأسماء جديدة ومسوغات لها ما يؤيدها في الواقع الشعبي، من جراء اندفاع الأمور صوب إما خيار الفوضى والآمال المحطمة والخلافات السياسية والأيديولوجية التي لا تنتهي بين أطراف القوى السياسية الجديدة، أو خيار الأمن وإخراج الدولة ومؤسساتها من الفوضى التي بدأت تبرز في كل هياكلها ومؤسساتها. ولا ريب في أن تقديم الأمن على الحرية يفضي على المستوى العملي إلى عودة النخب السياسية والأمنية السابقة لسدة الحكم بزخم شعبي لاقى الويلات من الفوضى وآثارها المختلفة.

من هنا فإننا نرى وعلى ضوء متغيرات بعض ساحات الربيع العربي والعمل على إخراج النخبة السياسية الجديدة بوسائل غير ديمقراطية بفعل نزعة الاستحواذ والخطايا الكبرى التي ارتكبتها النخبة السياسية الجديدة، أن هذه المتغيرات أنهت إلى حد بعيد إمكانية وصول جماعات إسلامية - أيديولوجية إلى السلطة في العالم العربي مجدداً.

وعلى ضوء كل ما ذكر أعلاه، نستطيع القول: إن المجال العربي وتحولاته الكبرى اليوم، أدخلته في مرحلة جديدة، وإن هذه المرحلة تتطلب تحولات فكرية وسياسية عميقة في جسم وثقافة الفاعلين في الحقل السياسي، ومن ضمن هؤلاء جماعات الإسلام السياسي، إذ إنها معنية بضرورة التحول والانتقال من الأصولية إلى المدنية، وهذا يتطلب منها الآتي:

1- إنها بحاجة أن تقدم نفسها بوصفها جماعة سياسية، تنشط في الحقل السياسي، وتتعاطى مع شؤونه المختلفة على قاعدة برنامجها السياسي. وهذا يقتضي منها خلق مسافة حقيقية بينها كجماعة سياسية وبين النشاط الدعوي – التبليغي؛ لأن عملية الخلط تفضي إلى التباسات في طبيعة التكوين الثقافي والسياسي الداخلي وأولوياتها لدى الجماعات الإسلامية، وطبيعة الأدوار والوظائف التي تقوم بها على المستويين الاجتماعي والسياسي. وهذا مع شروط أخرى، هو الذي يقود الجماعات الإسلامية إلى التحول من جماعات أيديولوجية مغلقة إلى جماعات ديمقراطية – تعددية، تستوعب منجزات العصر الحديث، وتتواصل بحيوية مع شركائها في المشهد السياسي على قاعدة البرنامج السياسي الذي ينشد العدل والحرية والإنصاف للوطن كله من أقصاه إلى أقصاه.

2- تطوير مستوى الاستعداد والقابلية الفكرية والسياسية لنظام الشراكة وبناء التحالفات مع القوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي. ونعتقد أن التخفيف من الأيديولوجيا لصالح البرنامج السياسي في بعديه المرحلي والاستراتيجي، سيؤدي إلى توسيع مساحة التلاقي والتفاهم مع قوى سياسية عديدة على قاعدة البرنامج السياسي وأولويات النضال السياسي.

3- من الضروري في هذا السياق التفريق بين مفهوم الالتزام السياسي بقضايا الوطن والمجتمع، وبين الخضوع لانقساماته وتشظياته. إذ لا يمكن التحول المدني على نحو حقيقي إلا بتعالي الجماعات السياسية عن انقسامات المجتمع الأفقية والعمودية.

فهي -أي الجماعات السياسية- على المستويين الثقافي والسياسي ليست تعبيراً عن انقسامات المجتمع الداخلية، بل رافعة سياسية ومجتمعية لإخراج المجتمع من انشقاقه الداخلي، وذلك عبر تبني مشروع وطني، يتجاوز الانقسامات التاريخية، ويعمل على إيجاد مقاربات ومعالجات جديدة لهذه الانقسامات على قاعدة الوطن والمواطنة الجامعة.

4- إن التحول صوب المدنية والديمقراطية والتعددية، ليس تكتيكاً سياسيًّا، يستهدف تحقيق أغراض سياسية مرحلية، وإنما هو تحول فكري عميق يعيد تفسير قيم الدين على قاعدة التراث العقلاني – الإسلامي، والتواصل والتفاعل مع الأفكار الإنسانية الكبرى، والنقد العميق للتجارب السياسية والفكرية السابقة، وإعادة الاعتبار لكل العطاءات والمحاولات الفكرية التي سعت من أجل التجديد والإصلاح في المجالين العربي والإسلامي، وتظهير الفهم المقاصدي للإسلام، والتعامل مع قناعات الذات والآخر بوصفها قناعات غير نهائية ونسبية وخاضعة لظروف زمانها ومكانها.

أحسب أن هذه الرؤية أو الخريطة الفكرية – السياسية، تساهم في عملية الانتقال والتحول من الأصولية إلى المدنية.

وأدعو جميع الفعاليات الدينية والثقافية والسياسية إلى إثارة النقاش الجاد وإطلاق الحوارات العميقة التي تستهدف إثراء المناخ الاجتماعي والثقافي للمساهمة في بناء حركة إسلامية – ديمقراطية، تعددية، تشاركية، لأنها أحد الشروط الأساسية للقبض على مستقبل المنطقة العربية والإسلامية فكريًّا وسياسيًّا بعيداً عن أنظمة الاستبداد السياسي وغلواء وعنف بعض جماعات الإسلام السياسي ومؤامرات قوى الهيمنة الأجنبية.

 

 

 



[1] عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، بيروت، الدار البيضاء 1993م، ص 17.

[2] للاستزادة يمكن العودة الى كتاب عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الاولى، بيروت 2013م.

[3] فرانسوا بورغا، الإسلام السياسي في زمن القاعدة، ترجمة سحر سعيد، شركة قدس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت 2006م، ص14.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة