تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

محمد عابد الجابري .. والقراءة الإبستيمولوجية للتراث

مرزوق العمري

محمد عابد الجابري..

والقراءة الإبستيمولوجية للتراث

الدكتور مرزوق العمري*

*      جامعة باتنة، الجزائر. البريد الإلكتروني: merlamri@yahoo.fr.

 

 

 

 

 

يُعدُّ المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري (1936م/ 2010م) من أبرز المفكرين العرب، من حيث غزارة الإنتـاج، وعمق الطرح، ودقـة التحليل، وأيضاً من أكثرهم إسهاماً في تأسيس رؤية حداثية للنص التراثي. ولذلك فالدكتور الجابري من أصحاب المشاريع الذين ساهموا في صياغة المصطلح الفلسفي في الفضاء المعرفي الإسلامي في الراهن، وأحد المهتمين بإشكالية المنهج، وأحد الذين انخرطوا في الإجابة عن سؤال النهضة.

وأهم ما تميَّز به الجابري إذا ما قُورن عمله الفكري بعمل غيره من أمثال محمد أركون أو نصر حامد أبو زيد؛ أن الجابري اقتصرت قراءته في المجال الإسلامي على النص التراثي دون نص الوحي الذي لم يكن موضوع الدرس عند الجابري إلَّا في آخر حياته[1].

وهذا ما لاحظه عليـه المهتمون بإنتاجه الفكري؛ فعلي حرب مثلاً يقول عنه: «يحلل الخطابات الخاصة بمجالات الثقافة الإسلامية وفروعها العلمية، ولكنه لا يتطرق إلى خطاب الوحي الذي هو أهم مسكوت عنه عند الجابري»[2].

فالجابري ركَّز جهده على النص التراثي، أما النص القرآني أو النص النبوي فلم يتوجَّه إليهما بالدراسة كما هو الأمر مع أركون أو نصر حامد أبو زيد أو غيرهما ممن صار يشتغل بما يعرف بالقراءة المعاصرة للنص الديني.

وإن كان من حق التراث على أبنائه وورثته أن يُنصفوه وأن يهتموا به، إلَّا أن الخطأ في حق النص التراثي ليس كالخطأ في حق النص القرآني أو النص النبوي؛ والتبرير بسيط فهذا تعامل مع جهد بشري هو جهد علماء الإسلام، والآخر تعامل مع كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو مع كلام نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى.

من هنا يمكن التمييز بين الجابري وغيره ممن ينخرطون في القراءة المعاصرة للنص الديني، إذ إن وقوعه في الخطأ ليس كوقوعهم في الخطأ هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبدو الجابري أحياناً في قراءته للنص الديني غير مصرّح بتقليده لغيره سواء في استعارة المفاهيم، أو في المنهج إلى درجة يبدو فيها بالنسبة للقارئ البسيط أنه يقرأ هذا النص بأدوات وآليات أصيلة؛ أي إنه يقرأ التراث من داخله، وذلك مرده اعتداد الجابري بقراءته، إلى أن وصف من طرف بعض الباحثين بأنه صار يشكّل مركزية العقل العربي[3].

وعلى كل فاهتمام الجابري بالنص التراثي يأتي في إطار الإجابة عن سؤال من الأسئلة المحورية في راهن الأمة العربية الإسلامية وهو «سؤال النهضة» الذي اقتضى طرح العلاقة مع التراث، والذي كان الجابري أحد الباحثين الذين قدَّموا إجابة عنه، صارت جديرة بالدرس والتحليل على مستويات مختلفة؛ فالمهتمون بفكره يعترفون بأن: «الجابري استطاع تجديد لغة الخطاب الفلسفي العربي بمفردات ومصطلحات ومفاهيم وأساليب لا يمكن القول عنها إلَّا أنها جديدة، وأنها أصبحت موضع تداول وحتى رواج إعلامي»[4].

أولاً: البدء بتحديد مقولة التراث

وما دامت قراءة الجابري مركزة على النص التراثي، نجد هذه القراءة تنطلق من المبدأ؛ أي مفهوم التراث، حيث ذهب إلى أن «التراث» كمصطلح غير وارد في خطاب الأسلاف، ولا في حقل تفكيرهم؛ وهو يشير بذلك إلى الفترة القديمة، فترة ما قبل النهضة الحديثة، ولكنه من خلال تحليله لتوظيف المصطلح في الخطاب العربي المعاصر وصل إلى تقرير تعريف اصطلاحي لـ«التراث» يمكن القول: إن الجابري كان سبّاقاً إلى صياغته، فيقول: «التراث بمعنى الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، وهو المضمون الذي تحمله هذه الكلمة داخل خطابنا العربي المعاصر»[5].

وبطبيعة الحال الموروث الثقافي في الحضارة العربية الإسلامية هو مجمل المعارف المسماة العلوم العربية الإسلامية وغيرها كالفلسفة مثلاً، ولذلك مضمون التراث عنده هو: «العقيدة، والشريعة، واللغة، والأدب، والعقل، والذهنية، والحنين والتطلعات»[6].

ثانياً: تقسيم الثقافة العربية

هذا هو المعنى الذي يقرره الجابري لـ«التراث»، لكنه في مجال تعاطيه مع النص التراثي نجده يقف موقفاً انتقائيًّا، إذ لا يتعامل مع أي نص تراثي بل ينتقي، فهو يقسّم الثقافة العربية الإسلامية إلى ثقافة «عالمة» وثقافة «عامية»؛ فالثقافة العامية هي الثقافة الشفوية، وأما الثقافة العالمة فهي الثقافة المكتوبة أو النص المدوّن، وهذه الأخيرة تمثلها عدة معارف إسلامية مثل: اللغة، النحو، الفقه، علم الكلام، أو هي ما يصطلح عليه الجابري «العقل البياني»[7]، وهذا ضمن تقسيمه المشهور للعقل العربي في ثلاثية هي: العقل البياني، والعقل العرفاني، والعقل البرهاني.

وهذه الانتقائية في قراءة الجابري أولى تجليات مرجعيات قراءته، فهذا التقسيم لأنماط المعرفة وإبعاد هذه وإبقاء تلك هو من تجليات الممارسة الإبستيمولوجية، فهي التي تقضي بتصنيف المعرفة على هذا النحو، وتعتبر المعرفة غير العالمة لا جدوى منها، ومن ثم إحداث قطيعة معها، وهو منهج المدرسة الفلسفية الفرنسية الحديثة ممثلاً في غاستون باشلار (Gaston bachelard)[8].

وإن كان دارسو الجابري يعتبرونه لا يوظف الأدوات الإبستيمولوجية كما استخدمها أصحابها، بل عمل على تكييفها، وإعادة إنتاجها، ومن ثم فهو يحسن توظيفها في معرض اشتغاله على موضوع بحثه؛ وذلك بتعريبها وتبيئتها بما يتيح له الإسهام في تحديث اللغة وتجديد الفكر[9].

إلَّا أنه انتهى إلى نتائج تكرس هذه الرؤية الانفصالية، وهذا ما يتجلَّى من خلال محاولة الربط بين التراث والمعاصرة التي قام بها؛ فبما أن التراث في نظره مرتبط بلحظة معينة فهو موجود «هناك» ونحن نعيش «هنا»، والمسافة بين «هنا» و«هناك» ليست شيئاً بسيطاً يمكن التغاضي عنه.

ولهذا يقول الجابري: «لا بد أن نشعر، وهذا ما هو حاصل فعلاً، أننا نزداد بُعداً عن تراثناً بازدياد ارتباطنا مع هذه الحضارة، وأن المسافة بين هناك وهنا، تزداد اتساعاً وعمقاً. وهذا الشعور يغذي في فريق منا الحنين الرومانسي إليه، وفي الوقت ذاته ينمي في فريق آخر الرغبة في القطيعة معه والانفصال التام عنه - التراث»[10].

هذا وجه من أوجه معالجة الجابري للنص التراثي، وقد يبدو هذا الكلام من قبيل استعجال إبراز النتيجة، ولذلك سأشير إلى بعض تطبيقات الجابري على النص التراثي، من أجل إبراز النتائج التي توصل إليها.

ثالثاً: تشخيص وضع التراث

قبل ذلك تجدر الإشارة إلى نظرة الدكتور الجابري إلى طبيعة النص التراثي، فهو يراه ملفوفاً في بطانة أيديولوجية ومشحون بشحنة وجدانية، وهذا ما يبدو صراحة من خلال بعض تعريفاته للتراث مثل قوله: «المعرفي، والإيديولوجي وأساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية في الثقافة العربية الإسلامية»[11].

وبناء على هذا كان رهان الجابري تعرية النص التراثي وتجريده من هذه البطانة الأيديولوجية؛ لأن المعرفة العلمية لا تعترف بأن تكون الأيديولوجيا موضوعاً لها، بل تتجاوزها. ولهذا كان الجابري يدعو إلى تجاوز الأيديولوجيا، باعتبار تحرير التراث من الصبغة الأيديولوجية شكّل محور الخطاب عند الجابري. وهذه الخاصية –البطانة الأيديولوجية– التي لازمت النص التراثي في نظر الجابري مردها ثلاثة مبررات أساسية:

1- الفهم التراثي للتراث

وهذا أحد خصائص الخطاب العربي المعاصر في نظر الجابري، فهو خطاب بعيد بمضمونه عن المعاصرة، بما أنها إشكالية من إشكاليات هذا الخطاب. وهذا الفهم يعتبره الجابري تحوير لمفهوم التراث نفسه فبعد ما حلل كلمة «ميراث» كجذر لغوي وعلاقته بكلمة «تراث»، وكيف أن الميراث يدل على اختفاء الأب وحلول الابن محله، وهذه هي الدلالة اللغوية، والتي ينبغي أن تؤسس عليها الدلالة الاصطلاحية.

يرى الجابري أن الأمر قد انعكس بل صار «التراث» في الوعي العربي المعاصر: «عنواناً على حضور الأب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر»[12].

إن توظيف التراث وفهمه على هذا النحو في نظر الجابري هو أحد عوامل تكريس الصبغة الأيديولوجية، وجعل التراث يصطبغ بها، الأمر الذي أبقى عليه كذلك وصار الخطاب العربي المعاصر يتعامل معه كمقوم أيديولوجي.

وفي هذا يشير الجابري إلى سرّ تعامل واستحضار هذا الخطاب للتراث، ففي نظره كان هذا التوظيف ضمن إشكالية النهضة، التي صارت همًّا ملحًّا في الخطاب العربي المعاصر، وما يدل على ذلك المفهوم –التراث- ذاته، فهو كما سبق بيانه مقولة حديثة، لم ترد في كتابات القدامى ولا في دراساتهم المعجمية، بل هي مقولة نهضوية ظهرت في أدبيات الخطاب العربي المعاصر.

أما عن توظيفها في هذا الخطاب بما يدل على الفهم التراثي للتراث، فيقول الجابري بأن ذلك تم على مستويين:

من جهة كانت الدعوة إلى «التراث» والأخذ منه، والرجوع إليه كأصل ومرجعية أحد العوامل والآليات النهضوية التي من خلال توظيفها والاحتكام إليها، والانتظام فيها، ونقد الحاضر من خلالها، واستشراف المستقبل بواسطتها، من خلال هذا التوظيف للتراث يمكن أن تنطلق النهضة المنشودة.

ومن جهة أخرى كان توظيف «التراث» في الخطاب العربي المعاصر ميكانيزما للدفاع عن الذات؛ أي توظيفه كان رد فعل إزاء التحديات الغربية المعاصرة بأنواعها المختلفة[13].

وسواء أكان هذا التصور أم ذاك هو المنتصر إلَّا أن الهدف واحد؛ إنه حماية الذات والدفاع عن الهوية، وكأن «التراث» في الخطاب العربي المعاصر لم يكن مؤسساً على دراسة نقدية أفادت منه كبعد من أبعاد الهوية، وإنما تم الاضطرار إلى الاحتماء به حفاظاً على الوجود ليس إلَّا، وهذا ما جعل المسلم والعربي المعاصر يبقى في مستوى التفكير السائد أيام ابن تيمية أو الغزالي أو الشاطبي وغيرهم، بل لا يزال يردد كلام القدامى، ويعتبر من المتعذر تجاوزهم، بل ويوجب الأخذ بمقولاتهم واجتهاداتهم في هذا العصر الذي ليس هو عصرهم.

وهذا ما أبقى على «الفهم التراثي للتراث» في نظر الجابري، فيقول: «من هنا تلك الشحنة الوجدانية والبطانة الأيديولوجية، وأيضاً النظرة الضبابية والسحرية معاً، التي تلابس مفهوم «التراث» في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، والتي تجعله بالنسبة للذات العربية الراهنة أقرب إليها من حاضرها»[14].

2- الفهم الاستشراقي للتراث

الفهم الذي تأسس في إطار المركزية الأوروبية، ويصنف الجابري هذا الفهم في نزعتين اثنتين إحداهما على اتصال بالظاهرة الاستعمارية، التي تشكّل تجليات لخلفيات دفينة قد تعود إلى تاريخ الحروب الصليبية، ومن أحكام هذا الفهم التشنيع على التراث العربي الإسلامي بإنكار الأصالة عنه واعتباره امتدادا للفكر الأوروبي، كما هو موقفهم من النص الفلسفي الإسلامي بأنه لا يعدّ أن يكون ترجمة للفلسفة اليونانية، على أساس أن السامية تعادي الفلسفة، وأن العقيدة الإسلامية ترفض التفلسف، وهذه المواقف بعضها صار صريحاً في حركة الاستشراق الحديث والمعاصر[15].

أما النزعة الثانية فهي النزعة التي تسعى إلى الانضباط بضوابط الفكر العلمي من موضوعية وغيرها، ولكنهم في الوقت نفسه –هؤلاء المستشرقون– كان هدفهم تشييـد «الوحدة والاستمرارية» للفكر الأوروبي، وجعله مرجعية عامة للفكر الإنساني عموماً[16].

وهكذا نجد هذا الفهم –الفهم الاستشراقي– يريد أن يجعل أنماط الفكر الأخرى روافد له، حتى وإن انتسبت إلى بيئات حضارية أخرى غير البيئة الأوروبية.

ولا شك في أن هذا الفهم خضع للأيديولوجيا هو الآخر، وهو الذي جعل صورة التراث صورة تابعة تعكس مظهراً من مظاهر التبعية الثقافية[17].

ويبدو الجابري في هذا الموقف واصفاً حيناً، وناقداً رافضاً حيناً آخر، خاصة لمّا نجده يطرح إشكالية التواصل مع التراث، وضرورة معالجته داخليًّا بعيداً عن هذا الفهم الخارجي –الاستشراقي– الذي يلغي وجود مسمى تراث عربي إسلامي، ويجعل منه تجليات للثقافة اليونانية حسب ما تقضي به المركزية الأوروبية.

3- التوظيف الأيديولوجي للتراث

الخطاب العربي المعاصر في نظر الجابري موسوم باللاعقلانية، فحينما تحدَّث الجابري عن الخطاب النهضوي الحديث، قال بأنه تحدَّث عن كل شيء ولم يتحدَّث عن العقل لذا لزمت المراجعة؛ مراجعة العقل الناقد[18].

إذاً فالخطاب العربي المعاصر الذي يُوظِّف «التراث» كمفهوم أيديولوجي يفتقر للصبغة العقلانية، وبذلك لا يمكنه التعاطي مع مسائل الحداثة وهو بعيد وخالٍ من روح النقد، ولا يهتم بالنظرة السببية للأشياء، ولذا يرى الجابري أن تحقيق تنمية في الفكر العربي المعاصر تحتاج إلى طرحه طرحا ًعقلانيًّا[19].

وهنا أيضاً يتجلَّى الأخذ بالإبستيمولوجيا وقواعدها في دراسة الجابري للتراث، خاصة الخطاب الإبستيمولوجي للمدرسة الفرنسية كما قال عنه بعض المهتمين بإنتاجه الفكري[20].

وحكم الجابري على الخطاب النهضوي باللاعقلانية؛ لأنه في نظره يشكل امتداداً لعصر ما قبل النهضة، وهو بذلك يكرّس ما أسماه بالفهم التراثي للتراث الذي سبق الحديث عنه في نزعتي الإحياء والاحتماء به. وهذا الفهم مرفوض لأنه من متطلبات الحداثة عنده تجاوز هذا الفهم التراثي إلى فهم حداثي[21]. وبالتالي تصبح العقلانية كشرط إبستيمولوجي لا بد من توظيفه عند الجابري، هذه العقلانية التي تتمثل في الروح النقدية بالنسبة للراهن العربي[22].

وإذا غابت العقلانية تحل محلها الأيديولوجيا، وبالتالي يصبح «التراث» خاضعاً لهذا التصور الأيديولوجي أو ذاك بعيداً عن العقلانية كشرط موضوعي يرتقي بالتراث من الفهم التراثي له، أو التوظيف الأيديولوجي إلى فهم عصري، وإلى توظيف يحرر العربي المسلم من أثقال وتبعات التوظيف الأيديولوجي، ويتيح له الانخراط في الواقع الدولي الجديد.

وحتى يتم ذلك لا بد من تأسيس فهم علمي للتراث، في مقابل هذا الفهم الأيديولوجي الخالي من الموضوعية. وهذه العملية -في نظر الجابري- قوامها مبدأين اثنين هما: الموضوعية والاستمرارية.

أما مبدأ الموضوعية فهو مبدأ ينظر له الجابري من مستويين:

أ- مستوى العلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، وهي العلاقة التي تنسجها العناصر الذاتوية السابقة الذكر: الفهم التراثي، الفهم الاستشراقي، التوظيف الأيديولوجي، والموضوعية على هذا المستوى تعني فصل الموضوع عن الذات.

ب- مستوى العلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وهي على هذا المستوى تعني فصل الذات عن الموضوع.

ولا شك في أن شرط الموضوعية شرط إبستيمولوجي بواسطته يمكن التأكد من: معقولية أو عدم معقولية نص ما، أو معرفة ما، أو مسألة ما، والموضوعية بهذا المعنى تقضي بدراسة الموضوع كشيء متحيّز عن الذات، والجابري بوضعه هذا المبدأ –فصل الذات عن الموضوع- يهدف إلى فصل التراث عن همـوم العصر حتى يمكن جعله معاصراً لنفسه، وحتى يمكن أن تعاد التاريخية له[23].

ومادام هناك تداخل في عملية فصل الذات عن الموضوع، وفصل الموضوع عن الذات، وهما المستويان اللذان ينظر منهما إلى هذه العملية، يضع الجابري ثلاث خطوات للفصل بينهما:

1- المعالجة البنيوية

وذلك بدراسة النصوص أو النص التراثي كما هو معطى للقارئ، وهذا الأمر يقضي بإبعاد أنواع الفهم السابقة الذكر، وذلك بالتركيز على الألفاظ لا على المعاني، وباستنبـاط معنى النص من ذات النص، ومن خلال العلاقة القائمة بين أجزائه.

2- التحليل التاريخي

ويتعلق هذا التحليل بربط فكر صاحب النص بإطاره التاريخي، وهذا الربط في نظر الجابري ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس من جهة، ومن جهة ثانية يجعلنا نقف على الإمكان التاريخي لما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله ولكنه ظل ساكتاً عنه.

3- التحليل الأيديولوجي

أي الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية في أبعادها المختلفة التي أدَّاها هذا النص، أو التي يريد أو يتطلع إلى أدائها، وهذه هي المهمة التي تكشف عن جعله معاصراً لنفسه وتكشف عن تاريخيته أيضاً[24].

إن هذه الخطوات الثلاث التي يقترحها الجابري لتأسيس الموضوعية، تبيّن لنا في النهاية أن هدفها هو الكشف عن تاريخية النص التراثي، ومن ثم عزله عن هموم العصر وجعله معاصراً لنفسه، وهذا أحد الأسباب أو الأدوات التي تُعيننا على إعادة العقلانية إلى تعاملنا مع النص التراثي وتحريره من البطانة الأيديولوجية حسب تعبير الجابري.

أما المبدأ الثاني فهو مبدأ الاستمرارية؛ وهو المبدأ الذي يطرح مسألة الاتصال بعدما طرحت «الموضوعية» مسألة الانفصال، أما عن الهدف من طرح هذا المبدأ والحديث عنه فمن أجل جعل التراث معاصراً لنا على صعيد الفهم والمعقولية، فالجابري هنا لا يستبعد توظيف التراث إذا كان وفق منظور عقلاني ومؤسس على روح نقدية هذا من جهة.

ومن جهة ثانية؛ لأن النهضة عنده لا تتم إلَّا بالانتظام في التراث، والشعوب لا تنهض انطلاقاً من تراث غيرها بل من تراثها هي[25].

وعملية الاتصال هذه أو ما أسماه الجابري بـ«الاستمرارية» تقتضي شروطاً بواسطتها يمكن الحفاظ على استمرارية التراث، فيصبح معاصراً لقضايا الأمة وذلك موقوف على شرطين:

1- تحديث الفكر العربي

وذلك بتجديد أدوات التفكير العربي المعاصر بواسطة التعامل العقلاني مع النص التراثي، مع ضرورة القيام بهذه العملية من داخل الثقافة التي ينتمي إليها هذا النص، وذلك يقتضي أيضاً الحفر في طبقات هذه الثقافة التي ينتسب إليها هذا النص محل الدراسة.

2- الإفادة من تراث الغير

باعتبار هذا الغير صانع الحضارة الحديثة، من هنا يبدو ضروريًّا في نظر الجابري، ولكن ضرورته لنا لا تجعلنا نذوب فيه، بل يمكن توظيفه أو الاستعانة به في عملية الانتظام الواعي العقلاني في تراثنا؛ لأن تراث الغير يشكِّل في الراهن مكتسبات إنسانية علمية ومنهجية متطورة لا يمكن أن يستغنى عنها[26].

بهذين الشرطين يمكن أن يتم التواصل مع التراث، ومن ثم تأسيس استمراريته. وبهذا وضع الجابري لنا رؤية لإحدى إشكاليات الفكر العربي المعاصر، أقصد إشكالية الأصالة والمعاصرة التي شكَّلت جانباً مهمًّا من جوانب الخطاب العربي المعاصر، ورؤيته هذه في هذا المستوى تبدو مستساغة طالما أنها تراعي البعدين معاً -الماضي والحاضر-، يقول الجابري: «إنه بممارسة العقـلانية النقدية في تراثنا وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحاً نقدية جديدة»[27].

وفي هذا الموقف أيضاً الـذي كان همُّ الجابري فيه تجاوز الأيديولوجيا إلى المعرفة، أو تجاوز اللاعقلانية إلى العقلانية تستشف الخلفية المعرفية التي يوظفها وهي الخلفية الإبستيمولوجية لدى المدرسة الفرنسية خاصة، فكثيراً ما يذكرنا هذا التحليل وهذه المقترحات لدراسة النص التراثي عند الجابري بمنهج الفيلسوف الفرنسي أوجيست كونت (Auguste comte) ونظرية التواصل المعرفي المجسدة في قانون الحالات الثلاث: المرحلة اللاهوتية، المرحلة الميتافيزيقية، المرحلة الوضعية.

وكذلك نظرية القطيعة المعرفية عند غاستون باشلار التي تفصل المعرفة العلمية عن المعرفة العامية، وهذا ما يتجلى في قراءة الجابري.

وفي ضوء هذا يتحدَّد معنى الحداثة عند الجابري، إذ يقول: «فالحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي»[28].

رابعاً: تبيئة المفاهيم

ومادام رهان الجابري في دراسته للتراث هو تحريره من البطانة الأيديولوجية، والشحنة الوجدانية، ووجدنا كيف أنه سلك المسلك الإبستيمولوجي معتبراً إياه الكفيل بتحقيق هذه الغاية، نجده أيضاً يستعير مفاهيم من هذا الحقل المعرفي ليجعل منها آليات معالجة وتحليل لنظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية، مستعيناً في ذلك بإيجاد فضاء يمكن أن يحتضن هذه المفاهيم أو تأسيس بيئة لها داخل الحقل الدلالي العربي الإسلامي، وهذا ما يصطلح عليه الجابري عملية «التبيئة».

هذه العملية؛ عملية استعارة المفاهيم وتبيئتها عربيًّا يدافع عنها الجابري ويبررها قائلاً: «هذه العملية عملية نقل من حقل معرفي إلى آخر تكون مشروعة عندما تنجح في ملاءمة المفهوم المنقول مع الحقل المعرفي المنقول إليه، وتبيئته فيه، والتبيئة في اصطلاحنا هنا تعني ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطاً عضويًّا، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة، سلطة المفهوم في آن واحد. وعملية بناء المرجعية للمفهوم في الحقل المنقول إليه تتطلب بطبيعة الحال الاطلاع على مرجعيته الأصلية؛ على ظروف تشكلها، ومراحل تطورها، وبعبارة أخرى استحضار تاريخيتها وذلك حتى يتأتى التعامل مع المعطيات التي وضع لها المفهوم للتعبير عنها في الحقل/ الأصل، والمعطيات التي يراد من ذلك المفهوم للتعبير عنها في الحقل/ الفرع تعاملاً من نوع قياس الأشبـاه والنظـائر، مع الاحتفـاظ دوماً بالفارق، ولكن لا بوصفه جداراً حديديًّا بل بوصفه جسراً ومعبراً»[29].

من هنا نجد الجابري كما استساغ قراءة النص التراثي بأدوات إبستيمولوجية نجده يستعير أيضاً الجهاز المفاهيمي الذي يوظفه في هذه القراءة، وهو بذلك يلتقي مع أركون وغيره ممن يشتغلون بعلم تحليل الخطاب، ونقد الخطاب الديني.

أما دفاعه عن تبيئـة المفاهيـم التي يوظفها فهي عنده من قبيل الأدوات الإجرائية واستعمالها لهدف إجرائي، ينتظر منه الحصول على نتائج كان من المتعذر الوصول إليها دون عملية تبيئة المفاهيم[30]، ودفاعه عن هذه العملية هنا هو صورة تطبيقيـة لما كان يدافع عنه أثناء حديثه عن بند «الاستمرارية» الـذي تم الحديث عنه، والذي رأى أن من شروطه الإفادة من تراث الغير، والاستعانة من جوانبه العلمية المتطورة، ومما صار يملكه تراث الغير، هذه الأجهزة المفاهيمية التي هي بدورها صارت آليات يُستعان بها في عمليات تحليل الخطاب التي تهدف في مشروع الجابري إلى تجـاوز الأيديولوجيا، وتأسيس العقلانية والارتقاء بالتراث إلى المعاصرة.

ومن المفاهيم التي استعارها الجابري وعمل على تبيئتها:

1- الخطاب

تجدر الإشارة إلى أن دلالة «الخطاب» لم توظَّف في الكتابات المعاصرة بالمعنى المتداول في الثقافة العربية الإسلامية، وإن كان المصطلح «خطاب» قد تناولته المعاجم العربية، ومن الذين اعتنوا بتعريف «الخطاب» الدكتور محمد عابد الجابري.

ومادام المصطلح غير وارد في الاستعمال التراثي سعى الجابري إلى تبيئته في الحقل الدلالي العربي بما يفيده في لغاته الأصلية مثل اللغة الفرنسية التي تضمنت كلمة (Discours).

لقد عرّف الجابري الخطاب بأنه: «مجموعة من النصوص»[31]. والخطاب عنده يمكن أن ينظر إليه من جانبين: جانب المتكلم، وجانب المستمع؛ فالمتكلم يقول كلاماً أو ينشئ كلاماً، وكلامه هذا «خطاب»، والمستمع يتلقَّى كلاماً فيفهمه ويتأولـه وبتأويله هو الآخر ينشئ «خطاباً» أيضاً.

وهكذا تصبح دلالة «الخطاب» تنطبق على مقول الكاتب وعلى تأويل القارئ[32]. وبطيعة الحال كلاهما يُسهم في تقديم وجهة نظر، الكاتب والقارئ على السواء. وهذا المعنى الثاني للخطاب –التأويل- هو الذي يأخذ به الجابري في دراسته للنص التراثي وذلك من أجل تحقيق هدفين رئيسيين:

أ- الكشف عن عيوب الخطاب العربي المعاصر: وحينما يقال: الخطاب العربي المعاصر؛ فهذا الأخير ليس بمنأى عن النص التراثي؛ لأنه من إشكاليات هذا الخطاب مسألة الأصالة والمعاصرة كما يقول الجابري، أو سؤال النهضة الذي يطرح كيفيـة التعامل مع التراث، ولذلك توظيف «الخطاب» على هذا المستوى يهدف إلى الكشف عن عيوب هذا الخطاب. يقول الجابري: «عيوب الخطاب وليس إعادة بناء مضمونه... إنها عملية كشف وتشخيص للتناقضات التي يحملها الخطاب سواء على سطحه أو داخل هيكله العام، سواء كانت تلك التناقضات مجرد تعارضات أو جملة نقائض»[33].

ب- معالجة النص كنص: أي بعيداً عن قائـله، وهنا تستحضر مقولة «موت الكاتب» التي صارت مأخوذا بها في القراءات التأويلية المعاصرة. وهذه العملية –التعامل مع النص كنص– تتيح فضاء واسعاً للعملية التأويلية، ومن هنا يكون المتلقي أو القارئ له دور في تأسيس وجهة النظر التي هي أحد طرفي الخطاب كما بيّن ذلك الجابري، ويصبح التركيز في هذه الحال على «المقول» دون أي اعتبار آخر.

يقول الجابري: «إن النماذج التي اخترناها كنصوص وشهادات ليست مقصودة لذاتها، فلا يهمنا منها لا أصحابها ولا الأطروحات التي تعرضها أو تدافع عنها أو تفندها، ولو كان بالإمكان الحصول على نصوص مجهولة المؤلف لفضلناها على غيرها تجنباً لأي سوء تفـاهم، إن ما يهمنا من النماذج التي نستعرضها هو العقل الذي يتحدث فيها... لا بوصفه عقل شخص، أو فئة، أو جيل، بل بوصفه العقل العربي الذي أنتج الخطاب»[34].

من هنا نجد تبيئة الجابري لمقولة «الخطاب» كمقولة حداثية، وتوظيفه لها في قراءته للنص التراثي إلى درجة أننا نجده يزيح بعض المفاهيم التداولية الأصيلة في التراث، ويستبدلها «بالخطاب» مثل استبداله ثنائية: اللفظ والمعنى بنظام الخطاب ونظام العقل[35].

2- الإبستيمية

وهي من المفاهيم المركزية التي يُوظِّفها الجابري في قراءته للتراث، ومن المعلوم لدى القـارئ العربي أن هذا المصطلح مصطلح غير عربي، بل هو مصطلح ظهر في خضم الثورة المعرفية في الغرب، وصار من المفاهيم التداولية عند الغربيين.

والجابري يوظّف هذا المفهوم في قراءته للنص التراثي الإسلامي، فعمل أولاً على استعارته، ثم تبيئته –بتعبير الجابري–، لذلك نجده يقدّم لنا تعريفاً لهذا المفهـوم، فالإبستمية (L’epistème) كما يعرفها الجابري هي: «النظام المعرفي»، وهذا النظام يعني: «جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية»[36].

إن دلالـة البنيـة في هذا التعريف دلالة إبستيمولوجية، ولكن إضافتها إلى «اللاشعور» هو الذي يبدو أمراً لا يتفق مع طبيعة التحليل الذي يقدمه الجابري في قراءته، خاصة وقد وجدناه يقتصر في قراءاته على الثقافة العالمة الواعية، ولذلك نجده لا يهمل دلالة هذا المفهوم –اللاشعور- في هذا المجال فيقول: «اللاشعور المعرفي العربي هو جملة المفاهيم والتصورات والأنشطة الذهنية التي تحدد نظرة الإنسان العربي –أي الفرد البشري المنتمي للثقافة العربية- إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ... إلخ»[37].

كما أنه تجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا المفهـوم –اللاشعور- لا وجود له في الاصطلاح العربي، وإنما استعير من علم النفس الحديث، وهذا ما صرح به الجابري حينما تحدث عن «الإبستمية» كونها ما يُعطي للمعرفـة بنيتها اللاشعورية، فيقـول بأن استعمال مفهوم «اللاشعور المعرفي» من الأمور المفيـدة عند دراسة بنيـة عقل الفرد الواحد من البشر.

والجابري هنا يستعير هذا المفهوم من عند عالم النفس الحديث جان بياجي[38]، فهو الذي كان يوظف «اللاشعور المعرفي» (Lincontient cognitif) في دراستـه لبنية العقل[39].

وقد تجلَّى توظيف الجابري لهذا المفهوم -الإبستمية- من خلال نمط القـراءة الذي كان يركز عليه؛ فهو لا يهتم بالفكر بوصفه إنتاجاً، بل بالفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري[40].

والجابري في هذا يسعى إلى تكييف الأدوات والمضامين التي تقتضيها «الإبستمية» وعمل على إعادة إنتاجها في معرض اشتغاله على موضوع بحثه.

هذه معالم وآليات قراءة الجابري للتراث العربي الإسلامي، وقد تبيّن كيف أن همّه كان مركزاً على كيفية جعل التراث معاصراً لنا، ونحن مؤسسين لفهم عصري للتراث، متجاوزين الفهم التراثي للتراث على حد تعبيره.

ثم يأتي الجابري لينجز قراءات تطبيقية لنصوص التراث، وهو بذلك يريد تجاوز الأيديولوجيا والارتقاء بالموقف إلى مستوى الإبستيمولوجيا؛ ولذلك فالمفاهيم الموظفة في خطاب الجابري تتناسب والطرح الإبستيمولوجي مثل: العقل بدل الفكر، السببية بدل السحرية أو اللاسببية، البنية... إلخ.

وهكذا كان مشروع الجابري مشروع قراءة إبستيمولوجية للتراث، الهدف منها فحص أدوات التفكير وآليات إنتاج المعرفة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية. يقول الجابري: «ما نريد تحليله وفحصه هو الفكر العربي بوصفه أداة للإنتاج النظري، وليس بوصفه هذا الإنتاج نفسه»[41].

وقد اعتبرت قراءة الجابري هذه، وتركيزه على هذه الجوانب –أدوات الإنتاج النظري– بأنها تدشين لمنحى جديد في البحث على الساحـة الفكرية العربية الإسلامية[42]. أما عن تطبيقاته على النص التراثي فإنه انتهى إلى الانفصال كرؤية، وليس ذلك غريباً -في نظري- إذا ما كان المنهج هو المنهج الإبستيمولوجي، وإنما الغريب هو اختفاء أحد المبدأين اللذين اعتمدهما الجابري في قراءته أقصد مبدأ الاستمرارية.

هذا المبدأ الذي اختفى في تطبيقات الجابري الإبستيمولوجية على النص التراثي حيث حكم على هذا النص بالخلو من الخصائص الإبستيمولوجية مثل: السببية، والعقلانية، ولزوم النتيجة... إلخ، وترتب على اختفائه –مبدأ الاستمرارية- حكم الجابري على العقل العربي بأنه: «صارت كل فاعليته أن يحفظ ويتذكر، لا أن يفكر ويستدل وأصبح الثابت البنيوي في حكمه على الأشياء تلك العبارة الشهيرة: «المسألة فيها قولان بل أقوال»[43].

إلى أن نجده يحكم حكماً قاسياً على العقل العربي الإسلامي بعد أن بيَّن أنه صار يُردِّد المسألة فيها قولان بأن ذلك ما يعكس التفكيك وعدم المعرفة والتناقض، ولذلك قال عنه: «إن عقلاً كهذا عقل ميت أو هو بالميت أشبه؛ لأنه يفقد السلطة التي تجعل منه عقلاً حيًّا»[44]. وهكذا آل الأمر إلى الانفصال بدل الاستمرارية.

الأمر الذي جعله محل انتقادات كبيرة، فهو المعني الأول بكلام الدكتور طه عبدالرحمن حينما قال: «وأما نقص عملهم فينبئ عنه اتِّباعهم الشاذ والغريب من الأقوال، فلا يطلب الشاذ إلَّا من يريد الزيغ عن الحق والمروق، ولا يطلب الغريب إلَّا من يريد المخالفة والظهور، ولا أشذ ولا أغرب ممَّا ينقلون عن غير أهل هذا التراث متوسلين به عند النظر في معارف التراث»[45]. وقيل عنه أيضاً بأنه عيِّنة من عيّنات التعاطي التشطيري مع التراث[46].

ويبقى مشروع الجابري من المشاريع الفكرية العربية الكبيرة المفتوحة على القراءة وإعادة القراءة؛ لطبيعة الإشكاليات التي تعاطى معها، ولطبيعة الآليات التي توسَّل بها، ولطبيعة النتائج التي توصَّل إليها، والتي صارت محل اهتمام المشتغلين بالفكر العربي المعاصر.

 



[1] تركز مشروع الجابري الفكري على النص التراثي فقط لعقود عديدة، ولم يتحول الجابري إلى دراسة نص الوحي إلا في آخر عمره حيث كتب عدة كتب حول القرآن الكريم.

[2] علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المملكة المغربية، ط2 (1995)، ص97.

[3] المرجع نفسه، ص115.

[4] الزواوي بغورة، ميشال فوكو في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، ط1 (2001)، ص53.

[5] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان/ الدار البيضاء المملكة، المغربية، ط1 (1991)، ص23.

[6]المرجع نفسه، ص24.

[7] محمد عبد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3 (1990)، ص14.

[8]غاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، ترجمة بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1 (1405هـ/1984م)، ص187 وما بعدها.

[9] علي حرب، نقد النص، ص117.

[10] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص31.

[11] المرجع نفسه، ص24.

[12] المرجع نفسه والصفحة.

[13] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص25.

[14] المرجع نفسه والصفحة.

[15] هي مواقف بعض المستشرقين مثل: دي بور، وإرنست رينان، وإميل برييه... وغيرهم من المستشرقين.

[16] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص26 - 27.

[17] المرجع نفسه، ص29.

[18] المرجع نفسه، ص243.

[19] المرجع نفسه والصفحة.

[20] الزواوي بغورة، ميشال فوكو في الفكر العربي المعاصر، ص43.

[21] محمد عبد الجابري، التراث والحداثة، ص15.

[22] المرجع نفسه، ص243.

[23] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص31 - 32.

[24] المرجع نفسه، ص32.

[25] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص 33.

[26] المرجع نفسه والصفحة.

[27] المرجع نفسه والصفحة.

[28] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص15.

[29] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1 (1995)، ص10.

[30] المرجع نفسه، ص10.

[31] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط6 (1999)، ص10.

[32] المرجع نفسه والصفحة.

[33] المرجع نفسه، ص12.

[34] المرجع نفسه، ص17.

[35] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ط3(1990)، ص75.

[36] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4(1989)، ص37.

[37] المرجع نفسه، ص40.

[38] هو فيلسوف وعالم نفساني سويسري من مؤلفاته: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التحليلية.

[39] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص41.

[40] المرجع نفسه، ص14.

[41] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 14.

[42] علي حرب، نقد النص، ص117.

[43] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص410.

[44] المرجع نفسه، ص411.

[45] طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2 (1996)، ص10.

[46] جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، دار الساقي، بيروت، ط1 (1993)، ص83.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة